الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 415
- بتاريخ: 16 - 06 - 1941
الزوجة المثلى
للأستاذ عباس محمود العقاد
وصلت إليَّ محاضرة العالم الفاضل الدكتور عبد المعطي خيال عميد كلية الحقوق بالإسكندرية في موضوع (الزوجة المثلى)، وهي المحاضرة التي اقترحتها عليه وزارة الشئون الاجتماعية، وأذاعها الأستاذ في منتصف الشهر الماضي، وفيها يقول ما فحواه أن الآفة كلها هي:(حرص الشباب على المادة، وجريه وراء الكسب، وحطه من القيم التي خلفها السلف الصالح ومن قواعد الأخلاق التي كانت مقررة عندهم، واكتفاؤه بالعجل من اللذات)
وظهر العدد الماضي من (الرسالة) وفيه مقال صديقنا الأستاذ الزيات الذي يعقب به على خطاب السيدة (ليلى)، وما رأته من أن السبب المباشر والمصدر الأول لمشكلة الزواج هو المادة، وكان ختام مقالة:(إن المال إذا جعل غاية للزواج كان شقاء لمن وجدته ولمن فقدته على السواء. . .)
وعندي أن المادة هي آفة العصر الحديث كله، وفي عداد مشاكله للكبرى مشكلة الزواج. فالناس لا يتهالكون على المادة ولا على اللذة العاجلة إلا إذا قل إيمانهم بالحياة. ومن ثم يغلب الشح على الشيخ والضعفاء، كما يغلب على الشعوب التي ضاعت من أيديها السيادة وقيم الحياة العليا. فكل تهالك على المادة إنما هو بديل من الحياة الصحيحة، أومن الثقة بنفاسة الحياة، وكأنما يقول الإنسان لنفسه: علام الصبر والانتظار والإرجاء وأي ضمان لك من الأخلاق والعواطف وهى هباء؟ إنما ضمانك الوحيد المادة التي في يديك، والمنفعة التي تسوق غيرك إليك، وكل ما عدا ذلك لا يجدي شيئاً عليك
لكن الزواج مشكلة كبرى، ولو خلص الناس من آفات العصر ومشكلاته، ومن ولع الشباب بمآربه ولذاته
الزواج مشكلة لأنه يحاول التفوق بين نقائض كثيرة في الطبيعة الإنسانية، ولا يقتصر أمره على التوفيق بين فردين فمن الناس من يضن أن الزوجة المثلى هي المرأة المثلى؛ وهذا في اعتقادنا خطأ ظاهر يكتشف بقليل من الروية
لأن المرأة المثلى من شأن الطبيعة
أما الزوجة المثلى فمن شأن المجتمع والآداب الإنسانية حسبما تتعاقب بها الأزمان
وقد تكون المرأة أنثى طبيعية من الطراز الأول في تكوين الأنوثة؛ وليس من الملازم بعد هذا أن تكون زوجة من الطراز الأول في معاشرتها لزوجها وفي أمومتها أو في رعايتها للآداب وقيودها
وقد تكون المرأة زوجة مثلى في البيت والأمة، ومع الزوج والولد، ولا يلزم من ذلك أن تبلغ فيها الأنوثة الطبيعية تمامها
وتنجلي هذه الحقيقة بعض الجلاء إذا تذكرنا أن الحيوان فيه إناث مثليات في عرف الطبيعة، وليس فيه زوجات مثليات على النحو الذي يتطلبه الإنسان
وهنا مشكلة ليست بالهينة من مشكلات الزوج، لأنها مشكلة التفوق بين ما توحيه طبيعة الأنثى، وبين ما تمليه آداب
المجتمعات، وهما شيئان لا يتفقان كل الاتفاق
ويفهم بعض الناس أن الزوجة المثلى هي التي ترضي الرجل، وان الزوج الأمثل هو الذي يرضي المرأة
وهذا خطأ آخر من أخطاء الآراء في هذا الموضوع، ويكفي أن نسأل: ما هو غرض الزواج، ليكون الجواب تصحيحاً سريعاً لهذا الخطاء المشهور
الزواج مقصود لأنه وظيفة اجتماعية ونزعة إنسانية، ويصح أن يتم أداء هذه الوظيفة بمضايقة الزوجين معاً أو بمضايقة
زوج واحد منهما، كما يصح أن يتم أداؤها بما يرضي أحدهما أو كليهما، فلا غرابة من أجل هذا أن تبر الزوجة المثلى بعهد الزواج وهى لا ترضي الرجل كل الإرضاء في كل حين، وأن يبر الزوج الأمثل بذلك العهد وهو مكره على إغضاب حليلته التي يتوخى لها الإرضاء والإيناس
وهنا مشكلة ليست بالهينة كذلك من مشكلات الزواج، لأنها مشكلة التوفيق بين الهوى والواجب، أو بين النظر القريب والنظر البعيد، وهي المشكلة الخالدة في حياة الإنسان
ومن المشكلات في هذا الباب أن الزوج الأمثل لامرأة لا يلزم أن يصبح زوجاً أمثل لامرأة أخرى. فالرجل في الأربعين زوج أمثل لامرأة في حدود الثلاثين، والرجل الذي فيه صلابة
زوج أمثل للمرأة التي فيها شكاسة، والرجل الحليم المئتد زوج أمثل للمرأة المتعجلة الرعناء، ولكنهم يختلفون ولا يتوافقون هذا التوافق، فإذا هم أسوأ الأمثلة للأزواج وأقلهم أملاً في الرفاء والوفاء
والبيت مشكلة المشاكل في العصر الحديث
ففي العصور الماضية كانت المسافة قريبة جداً بين العالم البيتي والعالم الخارجي، وكانت الملاهي الخارجية أشبه شيء بملاهي المنادر في البيوت مع قليل من التوسع والتعميم. فلم يكن من العسير أن تتفق معيشة الأسرة ومعيشة المحافل الساهرة، ولو كانت محافل لهو وانطلاق
أما اليوم، فالمسافة بعيدة جداً بين عالم البيت والعالم الخارج، لان المناظر التي يراها الساهر في العالم الخارج لا يراها في
بيته ولو كان من أهل السعة واليسار، وإنما نشأ هذا عن اختراع الآلات التي تعمل للألوف وألوف الألوف ولا تقصر
عملها على جماعات من الناس يعدون بالعشرات كما كانت محافل اللهو في العصر القديم. وليس من المعقول أن تنفق الشركات مليون ريال على منظر سينما يدار في مندرة أو بهو أو قصر كبير بضع ساعات؛ ولا نعرف اختراعاً من هذه الاختراعات يوافق الحياة البيتية غير المذياع الذي يسهل اقتناؤه في الصغير والكبير في البيوت، وهو وحده لا يغني عن سائر ألا فانين التي تتنوع في محافل السهرات
فالبيت في العصر الحديث مهدد الأساس، ولا وقاية له من هذا التهديد إلا الإقلال من العواصم الكبرى وتشجيع الإقامة في الريف، وإلا تربية الذوق المستقل الذي يصعب انغماسه في غمرة الجماهير، وتربية الإرادة الفردية التي يهمها أن تنطوي على نفسها حيناً بعد حين، ويعجبها أن تنعم بالعشرة الأخوية بين الصحب المتفاهمين والأقارب المتعاونين، فوق إعجابها بضجة السواد وزحام القطيع
وليس ما نذكره هنا حلولاً لمشكلة الزواج ولا علاجاً حاسماً لآفات العصر الحديث، ولكنه محاولة لفهم المشاكل على حقيقتها لاغني عنها وعن أمثالها قبل الرجاء في علاج ناجح؛ إذ كل علاج لا يسبقه الفهم الصحيح يقع على غير الداء، وقد يضاعف الأذى من الشفاء
إلا أننا نعتقد أن الحلول جميعاً لن تخلي الزواج من عقدة مؤرَّبة باقية على الزمن كله، لأنها قائمة على طبيعة في النفس الإنسانية لا يرجى لها تبديل كبير
تلك العقدة هي غرابة الأسرار الجنسية التي تدفع بالرجل إلى اختيار المرأة، وتدفع بالمرأة إلى اختيار الرجل. فليس لزماً أن يحب الرجل امرأة تستحق حبه، أو تصلحه وتصلح أبناءه، أو تجد فيه مزية كالمزية التي يجدها فيها؛ بل يتفق كثيراً أن يترك المرأة التي تسعده ويتعلق بالمرأة التي تشقيه، ويتفق كثيراً أن يهواها للأسباب التي توجب عليه احتواءها والإعراض عنها. وشأن المرأة في هذه الخليقة أعجب من شأن الرجل وأنأى عن الرشد ودواعي الاختيار المميز البصير؛ فإن إخلاصها لمن يستحق منها الإخلاص اندر من إخلاصها لمن يفسدونها ويسيئون إليها، وهي خليقة لها أسرار اعمق من عرف المجتمع وآداب الزواج وأواصر الأهل والأسر، وليس بالميسور مع بقائها في الطباع خلو الزواج من المشكلات
ولكن الطبيعة تهدينا إلى بعض الأسرار كما تخفى عنا كثيراً من الأسرار، وحسبنا أن نقتدي بها في أساليبها لننتهي إلى شيء في هذا الباب خير من لاشيء. فإن أساليبها في علاقة الجنسين تجري في نهجين مطردين لا يختلفان بين الإنسان وسائر الحيوان وإن اختلفت في الحيوان بعض المظاهر والغايات
أول هذين النهجين هو مزج الواجب بالسرور، فلا يخدم الإنسان النوع بإدامة النسل أو بالإصلاح والإرشاد إلا وفي خدمته سرور له يقويه على واجبه ويغريه باحتماله
وثاني هذين النهجين (التوريط) الذي يقيد الإنسان حين يربد الإفلات فلا يقدر على الإفلات، لأن مصاعب النجاة من الحالة التي يعانيها أكبر من مصاعب الصبر عليها بعد وقوعه فيها. وخير الأمثلة على ذلك كفالة الأبناء ومتابعة السعي في سبيل المجد من مرحلة إلى مرحلة، وقد كان الساعي فيه يحسب أنه مستريح بعد المرحلة الأولى
وتلك هداية لا يعدم الفائدة من يتوخاها في علاج جميع المشكلات
عباس محمود العقاد
الإسلام والعلاقات الدولية
للأستاذ الشيخ محمود شلتوت
وكيل كلية الشريعة
- 2 -
(1)
النظام الذي يسبق الحرب
يقرر الإسلام أنه لا يصح بدء الحرب إلا بعد أن تتحقق روح العداء للمسلمين، وأنه يجب على المسلمين إذا تحققوا من ذلك أن يبلغوهم الدعوة
وشبيه بهذا ما يسمى في العرف الدولي الحاضر بالإنذار النهائي.
وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأحد قواده: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث)
وقد قال الفقهاء: (إننا بهذه الدعوة نعلمهم أننا لا نقاتلهم على اخذ أموالهم وسبي عيالهم، فربما يجيبون إلى المقصود من غير قتال، وقتالهم قبل الدعوة إثم يستوجب غضب الله
(ب) النظام الذي يكون في أثناء الحرب
لا يريد الإسلام من الحرب تنكيلاً ولا تخريباً، ولا يرضى للناس أن ينسوا فيها واجب الإنسانية من الرفق والرحمة ورعاية العدل والخوف من الله
وإنه ليأخذ المسلمين في أثناء الحرب بآداب لو رعتها الأمم لخففت من ويلات البشرية وضمدت من جراحها
وقد يكون من الملائم لنا في هذه الظروف التي جنّ فيها جنون العالم، وانفتحت فيها على الناس أبواب من الجحيم الذي صنعه الناس لأنفسهم، وأنفقوا فيه جهودهم وأموالهم وأفلاذ أكبادهم؛ قد يكون من الملائم أن نذكر شيئاً من تلك الآداب الإسلامية للحرب، ليعلم الناس أن هذا الدين دين الرحمة والرفق والعدل والصلاح:
1 -
فالإسلام لا يجيز قتل المرأة ولا الصبي ولا الشيخ الفاني ولا المقعد ولا الأعمى ولا المعتوه؛ ولا يجيز قتل أصحاب الصوامع ولا الزراع ولا الصناع الذين لا يقاتلون
2 -
ولا يجيز المثلة ولا التحريق ولا قطع الأشجار ولا هدم البنيان إلا إذا بدأ بذلك العدو
نزولاً على مبدأ المعاملة بالمثل (وجزاء سيئة سيئة مثلها)
3 -
ولا يجوز الإجهاز على الجرحى ولا التحريق بالنار
وفي وصايا صلى الله عليه وسلم لأحد قواده: (لا تقتل امرأة ولا صبيا ولا كبيراً هرماً، ولا تقطع شجراً مثمراً، ولا تخرب عامراً، ولا تعقرن شاة إلا لمأكله، ولا تفرقن نخلاً ولا تحرقه (وإن النار لا يعذب بها إلا الله)
ومن المأثور عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقتلوا الذرية في الحرب. فقالوا: يا رسول الله: أليسوا أولاد المشركين؟ فقال: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟)
4 -
ويقرر الإسلام - تمشياً مع مبدئه من محاربة غير المحاربين من النساء والأطفال والشيوخ والعجزة والمدنيين - أنه لا يجوز تجويع الأمة المحاربة ولا منع المواد الضرورية للحياة عنها، وإن كان يبيح ذلك بالنسبة للجيش المحارب
5 -
ومن نظم الإسلام في أثناء الحرب الدالة على السماحة انه يبيح لأفراد وجماعات من الدولة أن تتصل بالمسلمين وتدخل في ديارهم، وتقيم فيها بعض الزمن وتزاول بها أنواعاً من المعاملات التجارية وغيرها في عصمة شيء يعرف في التشريح الإسلامي باسم الأمان
ويقرر به عصمة المستأمنين، ويوجب على المسلمين حمايتهم في أنفسهم وفي أموالهم ما داموا في ديار الإسلام. بل يذهب في التسهيل عليهم إلى حد بعيد: ذلك أنه يمنحهم أنواعاً من الامتيازات، ويعفيهم من بعض ما ينفذه على المسلمين من أحكام، ولا يؤاخذهم إلا على الجرائم التي تهدد أمن الدولة وسلامتها، أو يكون فيها اعتداء على المسلمين ومن في حكمهم
وقد توسع الإسلام في هذا الباب توسعاً عظيما: فجعل لأفراد المسلمين حق إعطاء ذلك الأمان يسعى بذمتهم أدناهم، ولم يشترط في ذلك إلا ما يضمن على المسلمين سلامتهم كالتأكد من أنه ليس للمستأمنين قوة ولا متعة، ولا يبدو عليهم مظاهر الركون إلى الفتنة أو التجسس على المسلمين. وليس معنى هذا أن الإسلام ينسى حق الإمام المهيمن على شئون المسلمين، بل جعل له بمقتضى هيمنته العامة وتقديره لوجود المصلحة إبطال أي آمان لم يصادف محله، أو لم يستوف شروطه، كما له أن يقيد آمان الأفراد ويمنع إقدامهم عليه
والأصل في هذا المبدأ الذي فيه روح السماحة على نحو لا يعرف له مثال حتى في الأمم المتحضرة الآن قوله تعالى:
(وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه)
والإسلام يبيح بهذا الأمان تبادل التجارة بين المسلمين والمحاربين، وتبادل المنافع الأخرى والثقافة وسائر الأعمال
وهو لا يقيد المسلمين في ذلك إلا بان يحتاطوا لأنفسهم ودينهم ودولتهم، ولذلك يحرم عليهم أن يبيعوا السلاح والذخيرة والخيل والعتاد الحربي إلى أعدائهم
وهو في الوقت نفسه يهيئ بهذا الأمان فرصة للمستأمنين تمكنهم من تفهم حقيقة الإسلام وإدراك أغراضه عن كثب. ولقد كان للإسلام من ذلك وسيلة قوية لنشر دعوته وإيصال كلمة الله إلى كثير من الأقاليم النائية من غير حرب ولا قتال
ويقرر الفقهاء (انه يجيب على الإمام - إذا وقت للمستأمن مدة - إلا يجعل المدة قليلة كالشهر والشهرين، فإن في ذلك إلحاق العسر به خصوصاً إذا كان له معاملات يحتاج في اقتضائها إلى زمان طويل)
6 -
ومن تقاليد الإسلام في أثناء الحرب رعاية الرسل الذين يقومون بالسفارة بينه وبين المحاربين وشدة الحرص على سلامتهم وتكريمهم والمحافظة عليهم حتى يعودوا إلى مأمنهم، ورفض الاحتفاظ بهم ولو خلعوا أنفسهم من قومهم، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم شواهد كثيرة على ذلك من أروعها ما يرويه أبو رافع إذ يقول:
بعثتني قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته فوقع الإسلام في قلبي فرأيت إلا أعود إليهم. فقلت يا رسول الله: لا أرجع إليهم. فقال: إنني لا أخيس بالعهد ولا أحتبس البرد. ارجع إليهم، فأن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع إلينا
7 -
ومن تشريع الإسلام في أثناء الحرب قاعدة معاملة الأسرى. أمر بالإحسان إليهم، وعدم مسهم بأذى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسير: احسنوا إساره. وقال اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا به إليه
وقد حث القرآن الكريم على تكريم الأسرى عامة، وجعل ذلك من البر الذي هو علامة الإيمان فقال جل شأنه في التمدح بصفات المؤمنين:
(ويطعمون الطعام عل حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً)
وخير الإمام بين إطلاقهم من غير مقابل، وفدائهم على حسب ما يرى من المصلحة. وقد من النبي صلى الله عليه وسلم وفادى بالمال وبتعليم الأسارى أبناء المسلمين الكتابة. أما استرقاقه صلى الله عليه وسلم أو إباحته للاسترقاق فقد كان مجاراة لحالة اجتماعية سائدة في الأمم إذ ذاك. ولم يكن على وجه التشريع العام. وإنما التشريع العام في ذلك هو قوله تعالى:(فإما مَنًّا بعدُ وإما فداء)
وأن في التشريع القرآني للأسرى على هذا النحو مع تصرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يرشد إلى أن الإسلام يمنح الحاكم من الحقوق في ظروف خاصة ما يستطيع به علاج المشكلات الواقعة من غير أن يكون ذلك تشريعاً عاماً يسري حكمه على جميع الأزمان
8 -
وكما شرع الإسلام معاملة الأسرى على أساس من الرأفة والرحمة شرّع للغنائم على أساس من العدل والمساواة فقرر حق تملكها لمن حازها من المتحاربين المسلمين وغيرهم في ذلك سواء
(البقية في العدد القادم)
محمود شلتوت
عبد القادر حمزة باشا
للدكتور زكي مبارك
منذ عامين مات الشاعر محمد الهراوي فغلبني الدمع بقوة وعنف، على قلة ما تدمع العين لفراق الراحلين من المعارف والأصحاب، وإنما كان ذلك لإيماني بأن الهراوي صديق لا تغيره الأيام ولا الليالي، فهو ثروة ضاعت من يدي إلى آخر الزمان
وفي هذه الأيام مات الكاتب عبد القادر حمزة فعرفت من جديد كيف تكون غزارة الدمع حين يموت الصديق، وكان عبد القادر صديقاً لا نظير له ولا مثيل، كان أخُّا نقي القلب، عذب الروح؛ وكان مثالاً نادراً في حفظ الوداد بالمحضر والمغيب. كان دنيا باسمة من الاخوَّة الروحية. كان كنزاً نزعتْه الأقدار من يدي، فأنا لفراقه مخزون إلى آخر الزمان
لم أفكر مرة واحدة في الانتفاع بجاه عبد القادر حمزة باشا، وكان رجلاً مسموع الكلمة عند من يملكون تصريف الأمور، وإنما زهدت في الانتفاع بجاهه لأصون ما بيني وبينه من الوداد عن شوائب المنافع الدنيوية، وإن كان انتفاع الصديق بجاه الصديق أمراً لا يغض من أقدار الرجال
كانت صداقة عبد القادر حمزة جوهراً من أكرم الجواهر. كانت ذخيرة يدّخرها الحر لزمانه، فما يبالي أين تقع الحوادث، ما دام عبد القادر بخير وعافية. وهل أنسى أنى لم أكن أبالي حوادث الأيام لأني كنت أعرف محفوظ في جريدة البلاغ لأرجع إليه حين أشاء؟
هل أنسى أنى أملك نحو عشرين خطاباً دَّبجها بيده صديقُ كريم يعزُّ القلم والبيان؟
هل أنسى أن الصداقة التي جمعت بيني وبينه لم تكن إلا نتيجة لعداوة أثرتها في وجهه بصدق وإخلاص، وكان رحمه الله من أهل الصدق والإخلاص؟
لاحظتُ مرة انه لا يستريح لبعض ما أكتب في جريدة البلاغ وكانت تناصر الوفد المصري وأنا أناصر الحزب الوطني، فكتبت إليه أستعفيه من الاشتراك في تحرير البلاغ، بحجة أنى لا استبيح الانتفاع بخزينة ليس مبدؤها من مبدئي ولا هواها من هواي، فكتب إليّ رحمة الله يقول:
(أكتب ما تشاء، وخزينة البلاغ تحت تصرفك)
فإن راجعتم (البلاغ) لذلك العهد ورأيتم فيه أشياء لا تنسجم مع سياسة (البلاغ) فاعرفوا أنها
من قلمي، القلم الذي تمرد على صاحب (البلاغ) ليظفر بمودة صاحب (البلاغ) وكان الصدق أعظم وسيلة لغزو ذلك القلب الأمين
لن ينقضي خزني لفراق عبد القادر، ولن أنسى جميلة أبداً
ولو أن قلمي استطاع الاستشهاد بجميع ما قال الشعراء في الرثاء، لما كان في ذلك ما يصور فجيعتي في (الصديق الذي وصل جناحي، وراش سهى) على حد التعبير الذي قدمت به إليه كتاب (ذكريات باريس)
صحبت عبد القادر نحو خمسة عشر عاماً، فلم أره إلا جذوةً من الأقباس الروحية. ولو أني قضيت هذه المدة مع عدو لتحول إلى صديق، فكيف تروننا صرنا - وقد قضينا هذه المدة في إخاء وصفاء؟ كيف تروننا صرنا وقد كان التعاون الصادق أساساً لما بيني من وداد؟
كان عبد القادر في أعوامه الخيرة يعتب على أشد العتب، لأني لا أمر بداره للسؤال عنه وهو مريض، وكنت اعرف كيف أٌعتِبُه فأقول: سألت عنك في (البلاغ)، وأنا لا اعرف لك داراً غير دار (البلاغ)
فمن يعزّ بني وقد ضاع حظي في عيادة ذلك العليل النبيل؟
من يعزيني ولم اسمع بموت عبد القادر إلا بعد أن فضَّ مأتمه فلم اشترك في حمل نعشه ولم أٌقبّل أن يوارَى التراب؟
من يعزيني في أخٍ كان لي وكنت له عوناً على الشدائد والخطوب؟
التفتٌّ مرة، فلم أر غيره في سنة 1928؛ والتفتَ مرة، فلم ير غيري في سنة 1931، فإلي من التفتُ إذا دجت الخطوب وبيني وبين عبد القادرُ بعدُ ما بين الأحياء والأموات؟!
مات عبد القادر، مات أخي، فمن يعزيني؟
مات الرجل الذي لا يكذب ولا يغدر ولا يخون
مات الرجل الذي شهد خصومه بأن موته كان نكبة وطنية مات عبد القادر، مات أخي، فمن يعزيني؟
لو كان شق الجيوب من شمائل هذا العصر لشققت جيوبي، فلم يبق إلا أن اشق قلبي حزناً على عبد القادر، وإنه بذلك لخليق. وهل من الكثير أن يصر عني الحزن وقد فقدت صديقاً كان أعظم الذخائر في دنياي؟
وهل فقد الناس مثل من فقدت في قديمٍ أو حديث؟
دلوني على صديق في مثل أخلاق عبد القادر، ليخلفّ عتبي على الأقدار التي أطفأت نوره الوهاج ولم يعد الثالثة والستين؟
دلوني على صديق لا يثور عليَّ ولا أثور عليه، وأن أسرفت الحوادث في إفساد ما بين الأصفياء
أمِثلك يموت، يا عبد القادر، وكان روحك بشير الخلود؟
نعاك الناعون وبكاك الباكون، يا عبد القادر، وأنا وحدي أحمل من رزئك الأثقال، لأني أول وآخر من ظفر بثقتك الغالية ولأنك أول وآخر من وثقت بهم بلا تحفظ ولا احتراس
ما أحرّ وجدي لفراقك، يا أخي وصديقي
وما أشقاني لبُعدك، يا أصدق من عرفت بين أحرار الرجال
أخي وصديقي:
أظلم نفسي وأظلم الحق إذا قلت بأن الدنيا لم تعرف رجلاً في مثل شمائلك، ولكني أظلم نفسي وأظلم الحق إذا قلت بأني عرفت في حياتي صديقاً أنفع منك، وكنت وحدك الرجل الذي أقنعني بأن للصداقة مكاناً بين أطايب الوجود
أنا حزين لفراقك، يا عبد القادر، حزين، حزين،
وإن امتد الأجل، فسوف أجزيك وفاءً بوفاء، وإخلاصاً بإخلاص.
أما بعد فما أحب أن يشغلني بكاء هذا الصديق عن شرح بعض الشمائل التي صار بها رجلاً يضر وينفع، ففي ذلك توجيه يستفيد به الناشئون من أبناء هذا الجيل
عرفت عبد القادر أول مرة - معرفة أدبية لا شخصية - عن طريق ما كان يكتب في (الأهالي) سنة 1919 وكانت جريدة صغيرة الحجم، ولكن أسلوبه في تحريرها كان يجعل منها جريدة قوية لا يستغني عنها من يحص على غذاء العقل والوجدان
ثم كانت (الأهالي) سميري وأنيسي في وحشة الاعتقال، لأنها كانت تساير جريدة (الأمة) لسان الحزب الوطني في ذلك الوقت، ومن لم ير كفاح (الأهالي) و (الأمة) في محاربة (مشروع ملنر) فليس من حقه أن يتوهم أنه شهد صيال الأقلام في خدمة القضية المصرية
كانت هاتان الجريدتان تصدران في الإسكندرية، وكان المعتقل الذي صرنا إليه بعد معتقل
قصر النيل يقع بضاحية (سيدي بشر) وكان قبل وصولنا إليه معموراً بجماعة من أسرى الألمان في الحرب الماضية
في تلك المدة فُتِنْتُ فتنة شديدة بالمحصول الذي يصدُر عن (الأمة) و (الأهالي)؛ فكان الجدل لا ينقطع بيني وبين إخواني من المعتقلين حول ذلك المحصول الجزيل، لأن المعتقلين كانوا ينقسمون إلى معسكرين: معسكر الحزب الوطني ومعسكر الوفد المصري
فلما قضى الله بانتهاء كرب الاعتقال كان أول همي أن ازور الأستاذ محمد الههياوي رئيس تحرير (الأمة) والأستاذ عبد القادر حمزة رئيس تحرير (الأهالي)
وفي جريدة الأمة لقيت فقيد الوطنية عبد اللطيف الصوفاني بك فحّياني والدمع في عينيه، وقدّم إليّ خمسة جنيهات لأقضي بها في الإسكندرية أياماً أنسى بها متاعب الاعتقال، فما دخلت الإسكندرية أول مرة إلا في سيارة مقفلة من سيارات الجيش الإنجليزي وفي ظلمات الليل
ومضت إلى جريدة الأهالي فرأيت فيها الأستاذ عبد القادر حمزة، ورأيت في صحبته رجلاً بساماً هو الأستاذ محمد أبو العزّ، وفتّىً عبوساً هو الأستاذ أحمد سعيد
وفي أوائل سنة 1921 دعاني الصوفاني بك لرياسة تحرير جريدة (الأفكار) وكنت من محرريها قبل الاعتقال، فبذلت ما بذلت من الجهود في تأييد الحزب الوطني ومقاومة الوفد المصري؛ ولكن الأقدار لم تمهلني في رياسة تحرير الأفكار
غير عام وبعض عام. فقد اتفق الصوفاني بك مع الأستاذ عبد القادر حمزة اتفاقاً بأن تصبح الجريدة (وطنية وفدية) واشترط الأستاذ عبد القادر شروطاً كان أهمها أن يكون حرّ التصرف في اختيار المحررين. واشترط الصوفاني بك أن يكون للحزب الوطني محرر يعتمد في رعاية ما يهم الحزب من دقائق الشؤون، وكان ذلك المحرر هو زكي مبارك. وَقبِل عبد القادر هذا الشرط وفي نفسه أشياء، ومن اجل هذا لم يسمح بأن أنشر في الأفكار غير مباحث أدبية لا تقدِّم ولا تؤخر في السياسة الحزبية!!
ثم فوجئ عبد القادر بأن لي نشاطاً صحفياً يغيب عن عينه الواعية، وهو مقالات كنت أرسلها إلى جريدة (الأمة) بإمضاءات مختلفات؛ فأدرك أن لا أمل في أن أسير كما يسير، وأني لو وجدت مسدساً لصوبته بلا ترفق إلى سعد زغلول!
عندئذٍ بدا لعبد القادر أنه يصاحب شابّاً له أهداف، فوثق بي، وأخذ يحاول تبديد ما بيني وبين الوفد من بغضاء، وتلطف فدعاني إلى الاشتراك في تحرير البلاغ عند ظهوره في أوائل سنة 1923. ولكن رفضت بحجة أن هواي لن يزال مع الحزب الوطني
ولكن عبد القادر لم ينسى؛ فكان يدعوني من وقت إلى وقت لتحرير بعض المباحث الأدبية والاجتماعية. ثم دعاني إلى الاشتراك في تحرير (البلاغ الأسبوعي)؛ ثم رأى أن أكون مراسل البلاغ في باريس حين مضيت لطلب العلم في السوربون، ثم وصلت به الثقة إلى أبعد الحدود، فدعاني لرياسة تحرير البلاغ في سنة 1931
فمن أراد أن يعرف بعض الشمائل التي رفعت عبد القادر حمزة فليذكر أنه كان يحترم أصحاب المبادئ ولو كانوا من خصومه الألداء، فالعنف الذي وقع بيني وبينه كان سبب تآخينا وتصافينا، ومن أجل هذا كان ينشر مقالاتي بلا مراجعة ولو عارضت سياسة (البلاغ)
وهنا نادرة تستحق التسجيل، لما فيها من الدلالة على قوته الخلقية!
في سنة 1937 تعرّض البلاغ لأزمة مالية قضت بتخفيض مرتبات المحررين وإعفاء من يجوز عنهم الاستغناء، ونظرت فرأيت أن مرتبي لم يخصم منه شيء، فكنت أتغافل عن طلبه، ولكن إدارة البلاغ كانت تلاحقني فترسله إليّ بدون تسويف
وقدّرتُ في نفسي أن عبد القادر يستبقيني بالرغم من تلك الأزمة المالية، فأطعت أصدقائي من الوفديين ونقلت صحيفتي الأدبية إلى جريدة (المصري) وكان بينها وبين (البلاغ) ضغائن وحُقود. ولما سألني عبد القادر عن السبب أجبت بأني لا أرى رأيه في نشر ما كان ينشر من (فضائح الوثائق) ولم أذكر السبب الصحيح وهو رغبتي في إعفاء البلاغ من مرتبي فقد كنت أخشى أن أجرح عزة نفسي لو اقترحت العمل بالمجان، وكذلك ظلمت نفسي لأكرم صديقي بدون أن ادله على حقيقة ما أريد
وتحدث الناس بأن زكي مبارك عق صاحب البلاغ. فهل التفت صاحب البلاغ إلى أحاديث الناس؟
هيهات. فما تغيّر عبد القادر ولا تبدَّل، وإنما ظل أخاً وفياً إلى أبعد حدود الأخوة والوفاء
من يعزيني فيك يا عبد القادر، ومن يواسيني وقد غاب عني وجهك الجميل؟
ثم ماذا؟
ثم كان عبد القادر رجلاً يستعد للدهر والأيام اكمل استعداد. كان يدرك أن الرجل لا ينجح إلا إذا تسلح بقوة العزيمة وقوة النفس. فكان يقضى ليله ونهاره في تدبير وسائل الحياة لجريدة البلاغ. وقد حدثني مرة انه يحب أن يعيش صحفياً ويموت صحفياً، وأنه يشتهي أن ينقل لأبنائه هذا الميراث، ولم يحس أحد مدلول كلمة (المستقبل) بقدر إحساس هذا الفقيد النبيل.
عاش عبد القادر في متاعب جسام ثقال. فقد كان يعادي بعنف، ويصادق بعنف، ومن أجل هذا كانت حياته سلسلة من الآلام والآمال، والعواطف العنيفة تزلزل بنيان الجسد فتسوق إليه الموت قبل أٌوان الموت
وكان عبد القادر على قوته الصحفية يحترم حياة التأليف، لأنه أبقى على الزمان، فكان يقضي أوقات فراغه وهي قليلة في استقصاء حوادث التاريخ، ولو قال قائل بان عبد القادر هو أصدق مؤرخي مصر في القديم والحديث لما اتهمه أحد بالمبالغة والإغراق
وكان عبد القادر يحب أن تكون جريدته مَعرِضاً لجميع الآراء، فعلى صفحات البلاغ أثيرت مشكلات ومعضلات هي أقوى وأصدق ما صدر عن العقول والقلوب، وفي ميدان البلاغ تصاول المئات من أقطاب الفكر والبيان
وكان عبد القادر حر العقل، فلم يتذوق في حياته طعم البهلوانات لشعبية، ولم يفهم إلا أنه مسؤول أمام العقل، ومن هنا كانت جريدته أصدق صحيفة صانت النضال السياسي من أوضار التبذل والإسفاف
قالت جريدة المصري وهي خصم شريف:
(فقدنا زميلاً نصاوله إذا اختلفنا، ونناضله إذا احتدم النزاع)
وأقول إن النضال العف النزيه سوف يستوحش لغياب عبد القادر، وسوف يذكر خصومه أنهم فقدوا رجلاً كانت خصومته من علائم التشريف
أن جريدة المصري تكافح كفاح الأبطال في إعزاز الصحافة المصرية، فهل يدري صاحبها ومحرروها أن صاحب البلاغ كان السابق إلى رفع قواعد هذا البناء؟
ذهبت جريدة المؤيد، وبقى (بار المؤيد)
وذهبت جريدة اللواء، وبقى (بار اللواء)
فهل نضمن بعد اليوم أن يبقى (المصري) و (البلاغ) شاهديْن على قوة العقلية المصرية في البلاد المفطورة على حب الخلود؟
ثم أما بعد فأنا اشعر بأني لم أوفْ عبد القادر بعض ما يستحق من صادق الرثاء، لأني واجهت الموضوع وأنا في حزن يبلبل الروح، ويقلقل البيان
ولن يكون هذا آخر العهد يا عبد القادر، فسوف أشغل نفسي بتأريخ مواهبك السامية. بعد أن تذهب كروب الحرب ويلتفت الناس عن أكابر الرجال
زكي مبارك
عهد. . . وعهد
مقارنة وتعليل
للأستاذ محمد محمد المدني
لا أقارن بين عهد الأستاذ الأكبر المراغي، وعهد الأستاذ الأكبر الظواهري، فإني امرؤ مراغي بروحه وقلبه وقلمه، أخشى أن يؤثر ذلك في حكمي فأحيد عن الإنصاف!
ولكني أقارن بين عهد وعهد كلاهما للأستاذ الأكبر المراغي، وتلك مقارنة مأمونة النتيجة على كل حال، فسيرجع إليه فضل أحد العهدين مهما اخذ على الآخر
العهد الأول
إني أعود بذاكرتي إلى العهد الأول للأستاذ الأكبر المراغي فأرى روحاً طيبة ترفرف في أجواء الأزهر: هي روح المصلح الأمين الذي وضعت فيه الأمة ثقتها، وعلق عليه المفكرون آمالهم. هي روح المصلح الجريء الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا يصرفه عما يرى من الإصلاح اعتبار من الاعتبارات، هي روح المصلح الغيور على دعوته، المدافع عنها دفاع الأسد الهصور يكتسح العقبات، ويقتلع العراقيل، ولا يفري فرية أحد! هي روح قوية غلابة متوثبة إلى الإصلاح، غيورة عليه، صريحة في أمره؛ تقهر العقبات ولا تقهرها العقبات، وتتحكم في العيوب ولا تتحكم فها العيوب!
هي روح جريئة تثير في الأزهر معركة إصلاحية جامعة حامية الوطيس هي أشبه بثورة عنيفة على الفساد في أي لون من ألوانه: على الجمود والكسل، على الجهل والتقليد، على الجحود والكفران، على الرجعية البالية العتيقة التي تتعصب على الحق، وتنفر من حكم العقل، وتعيش في ظل الأوهام
تولى الأستاذ الأكبر المراغي مشيخة الأزهر للمرة الأولى ولم قد داخل الأزهرين، ولا عاش في جوهم، ولا ابتلى بأساليبهم؛ ولكنه كان مع ذلك بصيراً بعيوب الأزهر وطرق إصلاحه كالطبيب الحاذق يعرف الداء ويصف الدواء
فما هو إلا أن ألقيت إليه مقاليده حتى مضى قدماً في طريق الإصلاح، لا يلوي على أحد، ولا يبطئ به شيء، بل كان له في ذلك نشاط عظيم، جعله يسبق القوانين أحياناً فينفذ
مشروعاته قبل أن تصدر
ولقد رج الأزهر يومئذ رجة عنيفة هي الرجة التي تصاحب دائماً عهود الثورة، وتغري المصلحين بالمضي في طريقها غير ناكصين، ومن يتتبع خطواته في الإصلاح يجدها خطوات واسعة وموفقة يرجع إليها الفضل من غير شك في كثير مما يتمتع به الأزهر الآن من خير؛ فقد أعد قانون الأزهر الذي يسير عليه الآن، وأعد مشروع بناء كلياته ومعاهده ومكتبته ومساكن طلابه على نمط سيكون به للأزهر أن شاء الله مدينة جامعية محترمة، وأنشأ قسم الوعظ والإرشاد ففتح بذلك للأزهر وللأمة وللدين ألواناً من الخير والصلاح ليس ينكرها أحد، ووضع أساساً جيداً لمجلة راقية - فيما كان يرجو - تصدر باسم الأزهر، فتنشر بين الناس ثقافته، وتعلن في مشكلات الحياة رأيه، وتهدي الأمة إلى أقوم السبل في دينها ودنياها، وأدخل في مناهج التعليم في الأزهر علوماً وكتباً ما كان الأزهريون من قبل يعرفونها، ورسم في كل ناحية من نواحي الإصلاح خطة جامعة جريئة؛ ونجح إلى حد ما في إصلاح نفوس الأزهريين، وفي كبح جماح العناصر الفاسدة المقاومة لفكرة الإصلاح، وفي توجيه المستعدين إلى العمل نحو النشاط والإنتاج!
وابتدأ الحظ السعيد يبسم للأزهر، وشهد التاريخ كيف أخذت هذه الجامعة الكبرى بأسباب النهوض والتقدم، ودلفت إلى طريق المجد والعظمة وآمن الناس بان للأزهر وجوداً، وبأن في الأزهر حياة!
ولكن الزمان لم يلبث أن استدار وتجهم، كأنما نَفِس هذه السعادةَ أن ترف على الأزهر ضلالها، فإذا الشيخ الأكبر يترك منصبه ولما يزل غرسه محتاجاً إلى التعهد والرعاية: خرج يومئذ من الأزهر خروجاً مفاجئاً لم يكن الناس يتوقعونه ولكنهم عرفوا فيما بعد أسبابه. وليس صحيحاً ما ذكره (عالم) في الرسالة من أن كثرة الأزهريين هي التي وقفت في سبيله وألجأته إلى ترك منصبه؛ فكلنا يعرف الأسباب الحقيقية التي من اجلها ترك الأستاذ الأكبر منصبه العظيم؛ وكلنا يعرف أن الأزهريين كبارهم وصغارهم ضلت أعناقهم له خاضعين ما دام في الأزهر، حتى إذا اعتزل منصبه نعب عليه قوم وتصايحوا، وأفحشوا من بعد في القول وجاءوا بإفك عظيم!
العهد الثاني
عاد الأستاذ الأكبر المراغي إلى منصبه بعد الثورة الأزهرية المعروفة، وترقب الناس جميعاً أن يتم من آيات الإصلاح ما بدأ، وان تعود إلى الأزهر روح (المراغية) القوية التي كانوا يعهدونها من قبل، وان تتلاحق في كتاب الأزهر الخالد - بعد مقدمته التي كتبها في عهده الأول - فصول مشرقة الصفحات، واضحة الأغراض، سليمة الأساليب والمعاني، ولكن الأيام توالت، والشهور تتابعت، والأعوام تلاحقت، ولو شئت لقلت أن حالة من الانتكاس قد أصابت الأزهر، وأن ريحاً من رياح الفناء توشك أن تهب عليه فتعصف به، ولكني لا أحب أن أقول ذلك، وإنما احب أن التزم القصد في التعبير فأقول: أن الناس لم يروا من الإمام ما كانوا يرقبون
هذه هي الحركة الفكرية في الأزهر قد سكنت ريحها، وخبت جذوتها، وما زال الأزهر عاكفاً على كتبه يدور بها حول نفسه، ويفني فبها زهرة شبابه، وينقطع بها عن الناس، فليس له اشتراك ذو قيمة في التشريع العملي للبلاد، وليس له صلة محترمة بأوساط العلم والثقافة، وليس له نشاط في إخراج كتب علمية أو أدبية كما يخرج الناس، وليس لمجلته أي اثر في توجيه العقول والأفكار، وإن كان لها في تشجيع الخرافات والأوهام!
وهذه هي الحركة الدراسية في الأزهر، تشكو من تهاون الرؤساء وطغيان الطلاب، وعدم قراءة المقررات، وضعف المستوى العلمي ضعفاً يشغل البال، ويغلق الأفكار
فما هو السر في ذلك كله؟
إن الذي يلي شئون الأزهر رجل مؤمن بفكرته إيماناً يداخل قلبه ويخالط نفسه، ويملك عليه جميع مشاعره: فهو حين يخطب يدعو إلى الإصلاح، وحين يكتب يدعو إلى الإصلاح، وحين يدرس يدعو إلى الإصلاح، وحين يجلس إلى الناس يدعو إلى الإصلاح، أليس في كل هذا دليل على أن فكرة الإصلاح قد تغلغلت في نفسه وأثرت في تفكيره، ونطقت لسانه، وجرت قلمه، وانه حينما يدعو لها، ويحض عليها، إنما يلبي هُتافاً من نفسه، ووحياً من قلبه
ثم هو رجل لا يوزن وزانه في العلم والفقه وجودة النظر، له في ذلك بحث ومذكرات وآراء وقوانين وتوجيهات حقيق على تاريخ اعلم أن يخلدها، فليس كهؤلاء الدعاة الخلاة، أفئدتهم هواء وصيحاتهم أصوات طبول جوفاء!
ثم هو رجل في يده سلطان الأزهر، وتحت أمرته كل شيء فيه، وللأزهر استقلال يغبط
عليه لم تصل إلى مثله جامعة حديثة. وليس في الأزهريين بحمد الله من يستطيع إذا جد الجد أن يقف على قدميه ليناوئ حركة الإصلاح!
وهو بعد هذا كله رجل ذو جاه ومنزلة بين الناس، يتمتع بين أولي الأمر وأصحاب السلطان بما لن يتمتع به أحد سواء من رجال الإصلاح: فالحكومة تحترمه، والشعب يقدره، ورجال العلم والفكر يحبونه، وولى الأمر - حفظه الله - يتوج هذا كله بعطفه ورعايته وتكريمه، ويفد إليه في دروسه يحيط به رجال دولته وأفذاذ أمته!
فماذا بقى بعد ذلك ليعطل الإصلاح، ويحول بين هذا الرجل العظيم وبين مُتَبوَّ إفي التاريخ عظيم؟!
ترجع العوامل التي تحول بين الأستاذ الأكبر وبين تنفيذُ برنامج الإصلاح الذي وضعه إلى نواح ثلاث:
1 -
طبيعة الأزهر
2 -
أحوال الطلاب
3 -
السياسة العامة في الإدارة
وليس من الخير أن نفصل كل هذه العوامل عل هذا المنبر العام، ولكننا نكتفي بالإجمال رعاية لمقتضيات الأحوال
1 -
طبيعة الأزهر
هناك نوع من الأعمال يكفي لكي ينجح المراء فيه أن يرجع إلى نفسه، ويعتمد على ما يبذله شخصياً من جهود، فالمؤلف
يستطيع أن يعكف على مراجعه، وينقطع إلى بحوثه وتأملاته، ويبذل من فكره وعقله ما يستطيع أن يبذل، فينتهي به الأمر إلى أن ينتج، أو يسير في طريق الإنتاج شوطاً يتناسب مع عمله وجهوده.
وهناك من الأعمال ما لابد فيه من تعاون، ولا تكفي فيه عبقرية العبقري، ولا جهد المجتهد، فالمعلم لا يستطيع أن يفيد بعلمه كل تلميذ، وإنما يفيد التلميذ القابل للتعلم، المستعد للفهم، الآخذ بالأسباب!
ومهمة المصلح كمهمة القائد من النوع الثاني، فكما أن القائد مهما كان شجاعاً عبقرياً
محنكا، لا ينجح في خططه إلا إذا أسعفه جيش له صفات ممتازة واستعداد حسن يكفلان تنفيذ خطته على الوجه الأكمل. كذلك لا ينجح المصلح في إصلاحه إلا إذا كانت البيئة التي يعمل في دائرتها مستعدة لتلقي تعاليمه، غير متأبية بطبعها عليها.
والأستاذ الأكبر المراغي مصلح قد وضع خطط الإصلاح فأحسن وضعها، ولكن طبيعة الأزهر تحتاج في علاجها إلى الصبر ومثابرة وحسن تأت وسعة حيلة، كما تحتاج إلى انتهاز الفرص، وبث الدعاوة للأفكار الصالحة، وخلق القدوة وضرب المثل وتشجيع العاملين ومكافئة المنتجين. وكل ذلك يفعله الأستاذ الأكبر إلا تشجيع العاملين ومكافئة المنتجين: فهو حين يدرس يضرب للأزهريين بدراسته أحسن الامثال، ويعلمهم كيف يكون الإخلاص للعلم والاعتماد على الدليل والبرهان، ووزن النظريات العلمية بقيمتها الذاتية، لا بمنزلة أصحابها والقائلين بها؛ وهو يحسن الدعوة إلى مبادئ الإصلاح وينتهز لها الفرص؛ وهو يصابر الأزهريين ويحتال لهم، ولكنه لا يعمل شيئاً يشعر به العامل أنه راض عنه، يشعر به المهمل أنه راض عنه، ويشعر به أنه غاضب عليه. فالأزهري الذي يعمل ليله ونهاره ويقوم بواجبه خير قيام، كالأزهري النائم الغافل الذي يعمل لإرضاء الرسميات وحفظ المظاهر فقط، بل ربما كان للثاني من سنه أو من وسائله الخاصة ما يدفعه إلى الأمام دفعاً يسبق به العاملين. وقد كان من نتائج ذلك أن خيم الكسل في كثير من النواحي وقتل النشاط، وفترت حياة الأزهر العملية فتوراً صار مضرب الأمثال!
2 -
أحوال الطلاب
عاد الأستاذ الأكبر إلى منصبه في ظروف يعرفها الذيِن يتابعون حركة الأزهر؛ وقد أوحت هذه الظروف إلى طلاب الأزهر والمعاهد الدينية أن لهم يداً في عودة الأستاذ الأكبر إلى منصبه، لأنهم نادوا به، وأضربوا من أجله، وشردوا في سبيل ذلك وأوذوا، فهم إذن جديرون بأن يصيبوا حظهم من المكافأة، وجديرون بأن تغمض العين عنهم إذ يتخففون من وطأة النظام ويحاولون الإفلات من هيمنة الرؤساء والأساتذة؛ وقد سارت سياسة الأزهر بالنسبة إليهم فعلاً في طريق من شأنها أن تشجعهم على هذا الفهم وتؤكدهُ لهم، فقد ألغوا أن يطلبوا فيجابوا إلى ما يطلبون، وأن يذنبوا فيغفر لهم ما يذنبون، وأن يعاقبوا ثمَ تقبل فيهم شفاعةُ الشافعينَ، واستباحوا أن يذهبوا إلى الإدارة العامة في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ متخطينَ
رؤسائهم المباشرينَ، فتراهم يقتحمونَ مكاتبها، ويشغلونَ موظفيها، ويدخلونَ عليهم من أقطارها، ويتنادون في أبهائها صاخبين لهم ضجيجٌ وعجيجٌ!
ومن الأنصاف أن نذكر أن هذه الحالة ليست خاصة بالأزهر وحده، وإنما هيَ حالة تصطلي بنيرانها المدارس المصرية جميعاً. فكلنا يعرف كيفَ تدخلت السياسة الحزبيةَ في نظمِ التربيةِ والتعليمِ والامتحانات تدخلاً يراد به التقرب إلى الطلاب وكسب تأييدهم، وكيفَ انبثت الفوضى في كلِ شيءٍ، وطغت على كلِ شيءٍ، فليسَ الأزهر وحدهُ هوِ المسؤول عن هذا العامل، ولا ينبغي أن يحمل عبؤه عليه من دون معاهد التعليم جميعاً، ولكننا فيما يظهر قد سبقنا غيرنا في هذهِ الناحيةِ وبرزنا فيها تبريزاً حتى أصبنا منها بطعنات في الصميمِ أساءت إلى النظامِ، والإدارةِ والعلمِ والكتبِ والمقرراتِ والامتحانات، وإلى المستوى العلمي والخلقي إساءة فظيعة، تحتاجُ إلى العمل السريع، وإلى الحزم الصادق، والعزائم المتكاتفة، إن كان لنا في بقاء الأزهر حاجةً!
3 -
السياسة العامة
أرجو أن يسمح لي فضيلة الأستاذ الأكبر بأن أتوجه إليه في هذهِ الناحيةِ بشيءٍ منَ الصراحةِ، فأن فضيلتهُ يريدُ أن يسوسَ الأزهر سياسة قوامها إرضاء العناصر المختلفةِ فيهِ، وإرضاء العناصر المختلفة في الأزهر أمرٌ بعيد المنال أن لم يكن مستحيلاً، فإن المرء لا يجد بيئةً منَ البيئاتِ قد تفاوتت في التفكيرِ حظاً ولوناً وطابعاً كالبيئةِ الأزهريةِ، والمصلح لا بد أن يكون جريئاً في إصلاحه، صريحاً في مداواةِ العللِ والأمراض، وكلنا يعرف أن في الأزهر قوماً مؤمنينَ بالإصلاحِ، وقوماً به كافرين، وعنهُ معوقينَ، كما أن فيه قوماً لم يتعودوا أن يأمنوا بشيءٍ أو يكفروا بشيء، فإذا كانَ من سياسة المصلح أن يستعين بخصومِ الإصلاحِ، أو بالذينَ لا يدركونَ أغراضهُ، ولا ينبعثونَ بطبيعةِ نفوسهم في طريقه، أو لا تمكنهم أحوالهم وسنهم وتربيتهم من تطبيقهِ، فإن الإصلاح من غير شكٍ فاشل، وأن الجهود التي تبذل في سبيله، والأموال التي تنفق عليه، ضائعة!
لا ينبغي أن تسيطر ظروف السن والأقدمية والأمر الواقع على كلِ شيء في الأزهر، فيظل التعيين في المناصبِ الكبرى وقفاً على الذين كلوا من شدةِ الإعياءِ، عن حملِ الأعباءِ
لا ينبغي أن يغفل عند تعيينِ جماعةِ كبارِ العلماء ما بقى مغفلاً حتى الآن من رعايةِ النشاطِ
العلمي والقدرة على الإنتاجِ والعملِ وإقناعِ الناسِ بوجودِ الأزهر؛ فقد كانَ، الناس يعتقدونَ، وحق لهم أن يعتقدوا، أن عضوية هذهِ الجماعةِ مكافأةً على طول العمرِ، وتعويض للقعدة والضعفاءِ، لا على الإنتاج والتأثير في حياة الأمة
لا ينبغي أن نستعين بالذين لا يؤمنون بإصلاح ولا يبدون بمبادئ ولا يحفلون بمثل عليا، وليس لهم في الأزهر رسالة إلا التخزيل عن النهوض، والتعويق عن التقدم، بينما المتشبعون بالأفكار الإصلاحية القادرون على تحقيق مبادئها مبعدون عن تولي الأعمال الهامة لاعتبارات لا يصح أن يقام لها وزن في نظر المصلح.
لا ينبغي أن يدخل في توزيع الأعمال أن يندب فلان من اجل فلان، وأن يقصى فلان من اجل فلان، وأن يجتهد في تمثيل البلاد والأقاليم في كل عمل من الأعمال كأنها لجان عصبة الأمم!
لا ينبغي أن نرضى في الواقع المخجل في مجلة كمجلة الأزهر اجمع الناس على فساد إدارتها، وضعف مستواها، وانحرافها عن الطريق القويم الذي تقتضيه طبيعة رسالتها، وأنها أصبحت طريقاً من طرق التكسب والتعيش وفتح البيوت، وهي مع ذلك محمية من أن تقع على عيوبها عين فضيلة الأستاذ الأكبر، ومن أن تصل الشكوى منها إلى مسامعه بوسائل يعتقد الناس أنها لا ترضيه!
لا ينبغي أن يكون في الأزهر أمرؤ يضع الأستاذ الأكبر فيه ثقته، ثم يعبث معتمداً على هذه الثقه بأمانة العلم أو العمل أو الإدارة أو النظام؛ فإنه لا يسيء بذلك إلى نفسه فقط ولكنه يسيء أيضاً إلى من ائتمنه ووضع فيه ثقته!
سيدي الأستاذ الأكبر:
معذرة فقد استرسل القلم، يملي عليه قلب لك مخلص وعلى عهدك غيور. فغض الطرف عما عسى أن يكون من الإسراف، لما تنطوي عليه النفس من الإخلاص، ولا تسمع فيّ وشاية الواشين ولا كيد الكائدين!
وفقك الله إلى ما يحبه لك اخلص محبيك
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
ألقاب الشرف والتعظيم عند العرب
للأب أنستاس ماري الكرملي
- 5 -
13 -
الدقس وهو الدِحْيةَ
الدقس وهو أيضاً: الدقوس والقدوس والعطوس والدعوس والدوقس. وكلها تعريب ، قال الصاغاني: الدقس: الملك؛ وقال الأزهري: الدقوس، كصبور: الذي يستقدم في الحروب والغمرات كالقدوس (التاج)
وعندنا أن العرب كتبوها في أول الأمر: دقس كقفل ودُوقس بضم فواو وقاف ساكنتين فسين لتحقيق اللفظ الرومي أو الروماني الأصل. ثم وقع فيها القلب والإبدال، كما وقعا في كثير من الألفاظ المعربة، بل في العربية نفسها، فصارت: دقوس وقدوس. ولما كان بعضهم يقلب القاف عيناً، صيّروا قاف دقوس عيناً، فقالوا: دعوس كما قالوا القرناس والعرناس والقسوس والعسوس والنقل والنمل، وفرق بين القوم وفرَّع، أي حجز إلى نظائرها
وإما عطوس، فهو مقلوب دعوس، بجعل الدال طاءً من باب تفخيم الحروف كما قالوا: مد الحرف ومطه، ترياق ودرياق وطرياق (عن الجمهرة لابن دريد). اختدفة واختطفه (التاج) والدقس باللاتينية دليل القوم ورئيس الجيش وقائده ومقدم القوم والأمير والملك على حد ما قاله العرب. وكل ذلك من باب التوسع
وجاء في التاج في مادة (د ع س): (في النواد: رجل دعوس، عطوس، قدوس، دقوس: أي مقدام في الغمرات والحروب؛ وحرفه الصاغاني فقال: (في العمل) بدل (في الغمرات) آه
قلنا: لا تخريف عند الصاغاني، لأن الدقوس على ما نقلناه لك عن كلام الرومان هو دليل القوم في أي شيء كان في الغمرات والحروب، كما في الإهمال والمبرات. فاحفظه
والظاهر أن كتبة عهد الخلفاء لم يعرفوا أن سلفهم عربوا الكلمة بالأوجه التي ذكرناها، كما جهلها حملة الأقلام في عصرنا هذا. إما سَفَرة عهدنا فانهم سموه (دوق) أي بقاف في الآخر. وأما العرب الخلص فقد سموه (الثنيان)، كما مر الكلام عليه في (البدء)
وأما أرباب اليراع في عصر الخلفاء، فعرفوه بالدوك بكاف في الآخر. قال أبو شامة في
كتاب الروضتين، في صفحة 183 من طبعة باريس:(وكان فيهم مائة كند، وثمانمائة من الخيالة المعروفين وملك عكاء، والدوك، (وهو يريد به يومئذ دوك النمسة)، واللوكات، نائب الباب، ومن الرّجالة ما لا يحصى) آه. أما دوك البندقية، المسمى عند الإفرنج دوج فسماه العرب (دوك) أو (دوج)؛ كما فرق الإفرنج بين الواحد والاخر، مخصصين (الدوج)، بمن يكون للبندقية، إلا أن القلقشندي كتب الدوج بالكاف وصرح بأنها بالجيم كجيم الفرنسية المعروفة بالكاف المشوبة بالجيم، أو الكاف المعقودة، أو الجيم المعقودة. وهذه عبارته (صبح الأعشى 5: 485): (كل ملك منهم (من ملوك البندقية) يسمونه دوك، بالكاف المشوبة بالجيم، فيقال (دوك البندقية)، وهذا اللقب جارٍ على ملوكهم إلى آخر الوقت) آه.
فانظر - حرسك الله - إلى كم صورة من الصور انتقلت كلمة اللاتينية، فإنها بَدَتْ لك بأثواب مختلفة؛ منها: دُقس، ودَوْقس. ودُقوس. وقَدُوس. ودَعُوس. وعَطُوس. ودوق. ودوك. ودوج. ولعل ثم غيرها ونحن نجهلها إذ رأينا بعض المعربين عن الإنكليزية في عهدنا هذا يقولون (ديوك)، و (ديوق) لأن الإنكليز ينطقون بها كذلك. فهذه إذاً إحدى عشرة لغة، فتدبر!
على أن أبناء مُضر، لو كانوا واقفين على كلام من تقدمهم من اللغويين البصراء، لما احتاجوا إلى كل ذلك، لأن عربيتها الصحيحة والقديمة هي - ما عدى (الثنيان) - (الدِّحيَة) بكسر الأول وأصلها (دحي)، فعل بمعنى فاعل وفي الآخر تاء المبالغة وهو من دحي الإبل وغيرها أي ساقها. وهب تشبه في نجارها الكلمة المشتقة من بمعنى ساق، فالحرف والحرف وإن كان في مواطن أخر= (ق) أو (ك)؛ إنما هنا=ح. كما قالوا في حْيفا وفي حران أو وفي حرْتك (أي صغير) وفي حليم إلى نظائرها. ولا يعلم هل (دحي) أو (دحا) سبقت اللاتينية، أم الرومية سبقت الضادية. وفعل هنا بمعنى فاعل: كندّ وتبْع؛ وخلف بمعنى نادّ وتابع وخالف.
إما أن الداحية هو بمعنى الدوق اللاتينية فواضح من كلام الشارح. قال في تركيب (د. ح. ي): الدحية بالكسر: رئيس الجند ومقدمهم، أو الرئيس مطلقاً في لغة اليمن (كذا) كما في الروض للسهيلي. وقال أبو عمرو: اصل هذه الكلمة السيد بالفارسية (كذا)، وكأنه من دحا يدحوه: إذا بسطه ومهده لأن الرئيس له البسط والتمهيد. وقلب الواو فيه ياءً نضير قلبها في
فتية وصبية. قلت (أي الشارح): فإذاً صواب ذكره في دحا دحواً. وفي الحديث يدخل البيت المعمور كل يوم سبعون ألف دحية، مع كل دحية سبعون ألف ملك) آه كلام الشارح
قلنا: وكل ذلك موافق لما ذكره اللغويون اللاتين للكلمة فليست الدِحْيَة إذن من لغة اليمن، ولا من الفارسية فهي عربية محضة، وهي تشبه مقلوبها (حدا يَحدو) يقال: حدا الإبل ساقها، وحدت الريح السحاب: ساقته. ولاشك في أن (حدا) مقلوب (دحا) أو (دحي). لأن (دحا) موجودة في العبرية والإرَمية، بخلاف (حَدا). ووجود (دحا) في اللغات الثلاث الساميات القديمات: العبرية، والعربية، والإرمية، أدل دليل على أن اللاتين هم الذين اخذوا لفضتهم من الساميين، منذ اقدم الأزمنة، لو جاز لنا هذا القول
14 -
المركيس
15 -
الَمْرزُبَان
لم تعرب المركيس في قديم الزمن، إنما عربت في عهد العباسيين، لأنها نشأت في عهدهم؛ وكثيراً ما وردت في كتب المؤرخين، كقول ابن الأثير في سنة 83 هـ:(واتفق أن إنساناً من الفرنج الذين داخل البحرية يقال له (المركيس) آه.
وفي أغلب النسخ ورد: المركيش بالشين المعجمة. وقد كثر ورود هذا اللقب في جميع كتب التاريخ في عهد الصليبيين؛ حتى أننا لا نرى حاجة إلى الاستشهاد بها. على أن بعض المعربين النقلة في عصرنا هذا يذكرونها بصورة مركيز، وماركيز، وماركيس (راجع المعاجم الفرنسية العربية). وفي معجم نجاري بك الفرنسي العربي:(ماركي) وهو لفظها الفرنسي: وسمى مؤنثها (ماركيزة)؛ وكان عليه أن يقول: (ماركيز) جرياً على لفظها الفرنسي أيضاً. أو كان يحسن به أن يقول في المذكر: (ماركيز) ليصح له أن يقول في المؤنث (ما ركيزة). والذين نقلوا الكلمة عن الإنكليزية قالوا: ماركويس ومركيز (راجع معجم بادجر الإنكليزي العربي). فهذه سبع لغات لحف واحد أعجمي. وأحسنها مركيس بسين مهملة في الآخر، لقدمها وقربها من اصلها وخفة لفظها
والمركيس مشتقة من ومعناها التخم، والحط، والثغر، والفرجة. فكان لمركيس رجلاً عسكرياً قائماً على حفظ الثغر، ثم نقل إلى لقب شرف. وهذا اللقب الإفرنجي، يقابل اللقب
الفارسي (مَرْزُبان)، بفتح الميم، وإسكان الراء وضم الزاي وفتح الباء الموحدة التحتية، يليها ألف فنون.
والكلمة مركبة من (مرْزَ) وهو حد المملكة وثغرها. ومن (بان) أي حافظ. ومحصلها (حافظ الثغر) كالمركيس سواء بسواء
ومن الغريب أن القاموس والتاج يذكرانها في (رزب)، وكان الأفضل أن تذكر فيه (مرز) أو في (م رزب أن) لأنها تعتبر مركبة من صدر وعجز، أي من (مرز) و (بان) أو تعتبر كلمة واحدة وجميع أحرفها أصولاً، لأنها أعجمية، وقد صرحوا مراراً لا تحصى أن أحرف الأعجمي كلها أصول. قال القاموس والتاج في (رزب):
(المرزبة كمرحلة رياسة الفرس). تقول: فلان على مرزبة كذا. وله مرزبة كذا كما تقول: له دهقنة كذا. (وهو مرزبانهم بضم الزاي): رئيسهم، تكلموا به قديماً. كذا في شفاء الغليل. وفي الحديث: أتيت الحيرة فرايتهم يسجدون لمرزبانِ لهم. هو بضم الزاي وهو الفرس الشجاع المقدم على القوم دون الملك، وهو معرَّب (ج مرازبة) وفي لسان العرب: وأما المرازب من الفرس، فمعرب. وقال ابن بري: حُكى عن الأصمعي أنه يقال: الرئيس من العجم: مَرْزُبان ومَرْزُبان بالراء والزاي وانشد في المعجم لبعض الشعراء:
الدارُ دَارَانِ: إيوان وغمدان
…
والملكُ ملكان: ساسان وقحطان
والأرض فارس والإقليم بابل والْ
…
إسلام مكة والدنيا خراسان
إلى أن قال:
قد رتب الناس جمُّ في مراتبهم
…
فمرزبانٌ وبطريق وظرخانُ
وقال المسعودي في التنبيه والإشراف (ص 103 من طبعة الإفرنج): (فإما المرزبان، فهو صاحب الثغر، لان (المرْز) هو الثغر بلغتهم، و (بان): القيم. وكانت المرازبة أربعة: للمشرق والمغرب والشمال والجنوب كل واحد على ربع المملكة)
وأما اللغويون المحدثون، فذكروا المرزبان في (مرز) أيضاً فهم كالشاء، وقد قيل في المثل يا شاة أين تذهبين؟ قالت: أُجَزْ مع المجزوزين؛ أو كالقرار وقد قيل فيها: نزْو الفرار استجهل الفُرار
(له صلة)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع الأول للغة العربية
ذكريات السنين الخمس
عبد القادر حمزة باشا
للأستاذ محمود الشرقاوي
في قرب الساعة الحادية عشر من صباح يوم الاثنين 4 يونيو لسنة 1934 قدم إلى حيث كنا نشتغل بتحرير صحيفة أدبية أحد السعاة في جريدة (البلاغ) وطلب إلي أن أتوجه لملاقاة الأستاذ عبد القادر حمزة؛ وفي مساء ذلك اليوم لقيت لأول مرة ذلك الرجل الذي أحببته وأكبرته. وبدأت
عملي محرراً في (البلاغ) خمس سنين
كنت قبل هذا التاريخ لا يفوتني شيء مما يكتبة عبد القادر حمزة. وكنت أجد في قرأته مثل ما يجد الشارب الذوَّاق من كأس خمر معتق؛ فلما اتصلت بيني وبينه الأسباب وخالطته بالعمل والعشرة زاد حبي له وزدت إعجاباً بشخصه
إما عبد القادر حمزة الكاتب والسياسي والمؤرخ، وعبد القادر حمزة المجاهد الصادق الجهاد في سبيل مصر والحركة الوطنية والدستور، وعبد القادر حمزة الخصم السياسي، فذلك كله ليس من شأني أن اكتب عنه اليوم لقراء (الرسالة)؛ فقد كتب فيه وسيكتب كثيرون غيري. وسيكب التاريخ عن هذا كله كلمة الحق
إما أنا فساكتب شيئاُ من ذكريات تلك السنين الخمس التي قضيتها في صحبة عبد القادر حمزة باشا صاحب (البلاغ)
كان أستاذنا عبد القادر رجلاً أمْيز ما ينفرد به من الخلق: الطيبة والتواضع وبساطة النفس والعناد ثم الانكفاف عن الناس وعفة القلم واللسان
في صبّاح يوم من صيف إحدى السنوات القريبة أراد المرحوم عبد القادر باشا أن يزور رجلاً من كبار رجال الدولة في ذلك العهد. وكان عملي في (البلاغ) يجعلني من ألصق الناس بذلك الرجل، فناداني الأستاذ عبد القادر وطلب أن أرافقه في زيارة ذلك العظيم ليشكره على أمر ما
فلما أخذنا أماكن جلوسنا في سيارة الأستاذ بدأت أحدثه عن ذلك العظيم، فقال إنه لا يعرفه إلا أقل المعرفة، وأنه لم يجتمع به سوى مرات قليلة في مناسبات مكتفياً بالتحية من بعيد، فتعجبت مما قال! كيف لا يعرف الأستاذ عبد القادر حمزة وهو من ابرز رجال المجتمع
المصري ذلك الرجل الكبير من رجال الدولة. . .!؟ وكان له في ذلك الحين شأن عظيم حتى في الأمور السياسية التي يشتغل بها صاحب البلاغ؛ ولكن هكذا كان عبد القادر حمزة قليل الأصدقاء قليل الخلطة بالناس منكفاً عنهم بما يستطيع
وفي ذلك الوقت نفسه كانت الخصومة السياسية عل اشد عنفوانها بين البلاغ وبين حكومة يؤيدها صاحب المقام الرفيع النحاس باشا. وكانت صحف الوفد في ذلك الحين تذكر اسم عبد القادر حمزة مقترناً باسم ذلك العظيم الذي كنا نقصد زيارته، وأنهما يجتمعان في قصر عظيم آخر كان اسمه في ذلك الوقت ابرز الأسماء في ميدان السياسة المصرية المعارضة للنحاس باشا، وكان من كبار رجال القصر. فقلت للأستاذ عبد القادر: ولكن صحف الوفد تقول انك تجتمع مع هلك العظيم في قصر فلان لتدبير المؤامرات لحكومة النحاس باشا. فأجاب الأستاذ بهدوئه العظيم: دعهم يقولون
ثم عرفت بعد ذلك أنه كان صادقاً حين قال إنه لا يعرف ذلك العظيم ولم يجلس إليه قبل تلك الزيارة
وكان الأستاذ عبد القادر حمزة رجل كفاح وجلد، عظيم الثقة بنفسه إلى حد عجيب
بعد هذا التاريخ بسنتين كان ذلك الصراع الهائل الجبار الذي سيبقى خالداً في تاريخ الصحافة المصرية، وخالداً في تاريخ السياسة المصرية كلها، ذلك الصراع الذي قام به عبد القادر حمزة وحده مواجهاً به ومتحدياً أقوى حكومة استندت إلى قوة الرأي العام المصري والى قوة البرلمان وإلى عزة النجاح في مفاوضة الإنكليز وتوقيع معاهدة معهم، والى إلغاء الامتيازات الأجنبية وأنها سيطرتها. وكان عبد القادر حمزة يبدو لنا في ذلك الحين - وأنا أحد الذين عملوا معه في ذلك الصراع - كان يبدو لنا كمن يريد أن يمسك بأصابعه الخمس جبلاً شامخاً راسخاً صلداً فيفتته ويجعل منه تراباً منهلاً
ولكن عبد القادر حمزة ظل يكافح في كل يوم وحدهُ حتى نخر الجبل الشامخ الراسخ، ولم تهنْ عزيمتهُ يوماً، ولم يفقد ثقتهُ بنفسه على الرغم ما لقي في ذلك من موئسات كانت تهد عزمُ الجليد في أيام ذلك الصراع العجيب، كان يهيئ حملاتهُ الصحفية ويرقبها بفكر منظمْ لا يستطيع أن يهيئهُ سواه
وكانت إحدى حملاته تلك تقوم على وثائق تثبت سوء اختيار الوزارة القائمة إذ ذاك لتوزيع
الرتب والألقاب الملكية؛ وكلفني الحصول الحصول على وثيقة تثبت أن واحداً من الذين نالوا رتب التشريف إذ ذاك من أصحاب السلوك السيئ. واستطعت أن أنقل إليه الصيغة الرسمية لتلك الوثيقة من حفظي وقدمتها إليه وهو لا يكاد يصدقْ. ومرت الأيام والأسابيع ولمْ يبدأ حملته تلكْ ولم ينشر وثيقتي أو يشر إليها، حتى ظننتُ أنهُ لمْ يعتمد على ثقتي
ولكنهُ بعد وقت طويل بدأ بنشر وثائق تلكَ الحملة بعدَ أن هيأها فكرة المنظم العجيب؛ وكانت وثيقتي واحدة من نظريات كثيرات جعل منها عبد القادر حمزة من أعظم ما قام به صحفي في مصر: براعة وقوة وتوفيقاً
وهو في كل هذا الصراع القاتل لمْ ينس مرة واحدة عفة قلمه ولسانه في الخصومة. لا أذكر أني سمعتُ منه في ألد خصومه أعنف من هذهِ الكمة: (هؤلاءِ ناس مضللون!)
كان محرر (السينما والمسرح) في (البلاغ) في إحدى تلك السنين شاباً قليل الخبرة، ولو أنهُ طاهر النفس. فكتب عن إحدى الممثلات المصريات كلمة ذات وجهين أحدهما قبيح؛ وتحدثت هي في ذلك بالتلفون إلى عبد القادر باشا، وبعد لحظة دعا ذلكَ المحرر عندهُ، وعنفهُ أشد التعنيف، وأمر بفصله من (البلاغ) وكان كثيراً ما يفعل ذلك معهُ ومع غيره ثمْ يعفو، ولكنهُ في هذهِ المرة لم يقبل فيه شفاعة شافع. ولم ير العاملون مع عبد القادر حمزة أنه غضب من شئ بمثل ما غضب في ذاك.
وكان من صفات عبد القادر حمزة أنهُ عنيف في حبه عنيف في بغضه، وذلك شأن صاحب القلب العظيم
ذلك الصراع الذي أشرت إليه بينه وبين خصومه في السياسة والحكم دام سنتين لقي فيها عبد القادر حمزة من العنت والجبروت ما يوهن عزائمْ جيش من الرجال الصامدين؛ وكان هو من بين تلك الزعازع كالأشم الراسخ، لا تنال منهُ الرياح ولا الأعاصير، ولا يزيده العنت إلا عناداً. كنا نراه في (البلاغ) يزلزلُ أقدامَ خصومه في كلِ يومٍ. ثم هو يسير إلى حجرته صامتاً ويجلس إلى مكتبه صامتاً، ويكتب ويراجع ويصحح صامتاً، ويعود للعمل في المساء معنا صامتاً، كأن هذهِ القيامة القائمة في مصر ليست منه ولا بسببه؛ وكان في أشد الأيام حلوكة وسواداً لا بني يقول: نحن قريبون من النصر. ولست أنسى ضحى ذلك اليوم وقد انتهى فيه صراع عبد القادر حمزة إلى نجاح فريد، وقد صعد ذلك الرجل الوقور
على درج (البلاغ) متهلل الوجه غير صامت. بل كان يعلن إلى كل من يلاقيه في صوت قوى: لقد اقبل (. . . .). . .!
ولا يزال في وعي صوت عبد القادر حمزة إذ ذاك أحس فيهِ قوى الغلب والنصر بعد كفاح طويل وبعد صبر طويل. ذلك قلب الرجل الذي قوي في بغضه قوي في حبه، وذلك هو كان في بغضه!
أما عبد القادر حمزة في حبه، فذلك شئ عجيب
في صيف سنة 1938 وكانَ المرحوم عبد القادر باشا مسافراً إلى أوربا، وكنتُ إذ ذاك في الإسكندرية؛ فذهبت لوداعه على الباخرة محمد علي الكبير. وبقيت معهُ على ظهرها حتى أوشكت على الرحيل. ونظرت إلى وجه أستاذنا العظيم في تلك اللحظة القاسية - لحظة الوداع - وكان إلى جانبه أحد أولاده وقد وقف ينظر وكأنه يبكي، إلى أولاده الآخَر ومودعيه على الميناء. فلما أوشكت الباخرة أن تسير، سمعته يميل على ولده يقول:(انزل يا محمود وروَّح مع اخوتك من الشمس)
وبعد قليل نزل ولده ونزلت. وقد أحسست في ذلك الوقت أنهُ ما كان مشفقاً على ولده من حرقة الشمس وحدها؛ بل كان مشفقاً عليهم وعلى نفسه حرقة تلك اللحظة القاسية - لحظة الوداع - فقد كان عبد القادر حمزة حين تحركت محمد علي الكبير منحرفة إلى البحر وقد أخرج الركب أيديهم ومناديلهم يشيرون بها إلى مودعيهم وأحبائهم. كان عبد القادر حمزة أسرعهم جميعاً إلى التواري وأقلهم إشارة وحركة
لقد كان يشفق على نفسه أن يطيل ساعة الوداع، وقد كان قبل ذلك بقليل يسلّم على ولده ويدهُ ترتعش ولا يكاد يبين من لفظه صوت
أما ذلك اليوم الذي ماتتْ فيه ابنته سعاد؛ وأما تلك الساعة التي ذهبنا فيها معه فيها نواريها التراب، حين نزل معها إلى فجوة القبر وانحاز إلى ركن منه مظلم رطيب، وأما حينَ هو يبكي كطفل ورأسهُ بين يديه لا يريد أن يترك ابنتهُ، على رغم أنه يغالب حزنه العظيم ونحن معهُ فلا يستطيع. أما ذلك اليوم وهذهِ الساعة من حزن عبد القادر حمزة وعصيانهُ أن يصعد من قبر فتاته وقد وسدت في الترابْ.
أما هذا وذاك فشئ لا أنساه ولا أستطيع أن أكتب فيه
وفي شتاء سنة 1938 - 1939 - انسللت من تحرير البلاغ مخاصماً وفارقت أستاذي عبد القادر لأسباب ليست من العمل ولا من المال، ولكنها أجلًّ عندي من العمل والمال.
وقد ظللت وسأظل أذكر عبد القادر حمزة فقد أحببته على الغيب والشهادة
رحمه الله وأجمل أعزاءنا فيه وصبر جميل
محمود الشرقاوي
الفقيد العزيز
للأستاذ علي شوقي
خلعتُ رداَء الشباب الْجَديدْ
…
وأُلبِستُ تاجَ المشيب النضيدْ
وأصبحتُ نضواً مهيض الجناح
…
وقد كنت آوى لركن شديد
وما شاب رأسي ولكنه
…
ضَحَى ظلُّ الشباب المديد
فقل لعذولي مضت وانقضت
…
ليالي التصابي وتلك العهود
وإني فقدت الشباب العزيز
…
ألا رحم الله ذاك الفقيد
وعدتُ من الحب خلو الفؤاد
…
ما كنت أحسب إني أعود
وحطمتّ كأسي وأُنسِيت أُنسي
…
فلا اللهو لهو ولا الغيد غيد
وقطّعتُ باليأس حبل الرجاء
…
وألقيت عنيَ تلك القيود
فما يستبينيَ سحرُ العيون
…
ولا يطّبينيَ وردُ الخدود
وقلت لجفني هَناك المنامُ
…
فيا طالما كنت تشكو الهجود
وقلت لقلبي اغتبط بالسلوِّ
…
فهذا الذي كنت منه تحيد
وجنًّبت نفسي خداع المنى
…
وتغرير شيطانهن الْمَريد
وكنتُ امرأ مولعاً بالجمال
…
إذا ما انقضت صبوة أستعيد
على أنني كنت ذاك الوفيَّ
…
الشريفَ الأبيَّ الأليفِ الودود
ولم آت بائقةً في الغرام
…
تسلُّ علىًّ لسان الحسود
وذلك أني صحبت الليالي
…
فأوحين لي سر هذا الوجود
وعلمننَي كل ما ينبغي
…
لمن يبتغي طول عيش رغيد
كما أنني قد خبرت الأنام
…
وما رست إيعادهم والوعود
فما راقني العهد من صاحب
…
ولا راعني من عدّو وعيد
وبتُّ من الناس في راحة
…
سواء قريبهم والبعيد
أعيشُ كما عاش ليثُ الشَّري
…
وحيداً وهل ذلّ ليثٌ وحيد
يروح ويغدو على قُوته
…
ويكفيه من قوته ما يصيد
أسيرَ الحياة طريدَ الممات
…
ألا فأعجبوا للأسير الطريد
وما لامرئ لذة في حياة
…
إذا آذنت ناره بالخمود
فلا يستخفن عبَء الحياة
…
فعبء الحياة ثقيل يؤود
وإن قد زيد في عمره
…
فآية نقصانه أن يزيد
ولولا تكاليف هذى الحياة
…
لما سئم العيشَ فيها لبيد
علي شوقي
نيابة بعض حروف الجر عن بعض
للأستاذ الكبير (ا. ع)
كان لكلمة الشاعر الكبير الأستاذ محمد محمد عبد الغني حسن (بالعدد 409 من الرسالة) أثر بالغ في نفسي، لأدبها الجم، وإنصافها للحق
ولقد حمدت هذه الكلمة التعقيبية على أن أتاحت لي موضوعاً تمنيت أن أكتب فيه، موضوعاً كثرت فيه وقفاتي في مجالس التعليم، لما كنت أرى من إهماله وسوء فهمه وتشويه الغرض منه
هذا الموضوع هو (نيابة بعض حروف الجر عن بعض).
قال الأستاذ:
(أما قول الأستاذ الفاضل: أن الفعل (تفيأ) يتعدّى بالباء، أو بنفسه كما صنع أبو تمام، ولا يتعدّى باللام، كما جاء في قصيدة (ميلاد نبيَّ)، فهو قول نقبله على العين والرأس ولكني أضيف إليه أن تعدية هذا الفعل باللام ليست خطأ؛ فحروف الجر ينوب بعضها عن البعض.)
هكذا أطلق الأستاذ هذا الحكم من كل قيد، فيتوهم من هذا الإطلاق أن كل حرف من حروف الجر يجوز أن ينوب عن أي حرف آخر منها. وهو ما لم يقل به أحد من النحويين القدماء أو المحدثين. ولا يمكن أن يعتقده الأستاذ أو يقول به. وإنما هي عبارة شاعت على الألسنة، وتناقلها الناس منذ بعيد من غير تأمل أو بحث
فلهذا أردت أن أوضح المقام بعض التوضيح، وأن أكشف عن أسسه العامة وقواعده. ولستُ أدعي أني أُضيف إليه جديداً؛ فقد بسطه العلماء بسطاً، وأفاضوا فيه إفاضة ليس وراءها من مزيد، وإن كانوا قد أثاروا في خلافهم ومناقشاتهم عجاجاً استبهم وراءه بعض الحقائق أو أشكل
لما تدارس العلماء كتاب الله والشعر القديم، منذ فجر النهضة العلمية الإسلامية، فطنوا لأن بعض الأفعال والمشتقات التي تتعدى ببعض حروف الجر، تؤدي معنى غير معناها الوضعي فعكفوا على تعليل ذلك، انقسموا جماعات وأشهرهم البصريون والكوفيون فالبصريون يقولونَ:(1) إما يتضمن العامل معنى عامل آخر يتعدى بذلك الحرف، كما في
قوله تعالى: (وأحسن بي إذ أخرجني من السجن). فالفعل (أحسن) لا يتعدى بالباء، فضَّمن معنى (لطف)؛ (2) وإما بأن الحرف الذي تعّدى به العامل قد استعير لمعنى الحرف الذي كان ينبغي أن يتعدى به - استعارة تبعية - وذلك كقول طرفة:
وإن يلتق الحي الجميع تُلاقني
…
إلى ذروة البيت الكريم المصَّمد
فقد استعيرت (إلى) لمعنى (في)، إذ أن (تلاقني) لا يتعدى بالي؛ (3) وإما بالشذوذ، إن لم يأت التضمين في العامل بشروطه أو الاستعارة في الحرف بشروطها. فليرجع القارئ إلى هذه الشروط في كتب البلاغة إن شاء
فأنت قد رأيت أنه لا نيابة لحرف أنه عن حرف عند البصريين، فليس للحرف معنى وضعي عندهم إلا معنى واحد
وللتضمين قياسي على المختار من أقوال العلماء وعلى ما قرره (مجمع فؤاد الأول للغة العربية) - وكذا الاستعارة في الحرف. فلنا إذا أن نترخص فيهما، وأن نراعي منهما في كلامنا من نظم أو نثر ما نشاء
وأما الكوفيون فيقولون: إن بعض حروف الجر ينوب عن بعض بطريق الوضع: أي إن الحرف موضوع لأكثر من معنى واحد، فهو مشترك وضعاً بين جميع ما ورد له من المعاني؛ فبعضها يكثر استعماله، وبعضها يقل. . فيوهم وضع ذي المعنى القليل الاستعمال موضع الكثير أن هناك معنيين اشتمل عليهما العامل: فلا تجوز عندهم في الحرف. وإنما هي نيابة محضة
وهاك مثالاً موضحاً: فقد عدّ ابن هشام للباء أربعة عشر معنى، منها الاستعلاء، قال:(نحو: (منْ إن تأمَنْه بِقنطار)، بدليل:(هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل.))
فالعرب - على رأي الكوفيين - قد وضعوا (على) والباء لمعنى الاستعلاء. غير أنه في (على) أكثر دوراناً منه في الباء.
فاعتبرت (على) أصلاً في هذا المعنى، واعتبرت الباء نائبة عنها، وإن كانت أصيلة فيه. فتأمنه بقنطار، أي عليه.
ولكن من يتتبع الكتب التي توسعت في الكلام على (نيابة بعض حروف الجر عن بعض)، - ولا سيما المغني - يجد فيها عراكاً عنيفاً حول الشواهد التي جئ بها لذلك؛ فهو بين آخذ
ورد، وجذب ودفع. فهذا يسلم بنيابة الحرف في مثال، وهذا يتأوله فيخرجه عنها بضروب من الحجاج والفلسفة النحوية. فسقطت بذلك في هذا المعترك طائفة ليست بالقليلة من الشواهد، كانت - لو أنها ظلت سالمة - تكون قوة لقياسية هذا الباب.
ولو أني أنشأت أضرب الأمثلة لذلك من هذه الكتب، لخرجت عما أنا بسبيله. ومن طريف مما يقال هنا أن سيبويه لم يعترف للباء إلا بمعنى واحد هو الإلصاق، وخرَّج عليه كل ما عدَّدوه من المعاني. وقال ابن عصفور: لو صحْ مجيء (إلى) بمعنى (في) لجاز: زيد إلى الكوفة
فأنت ترى كيف ضاقت بذلك دائرة النيابة في حروف الجر حتى كانت من النوادر. وقد عبر ابن هشام عن هذا المعنى في (مغني اللبيب)، في باب (التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين، والصواب خلافها). قال: (منها) قولهم: ينوب بعض حروف الجر عن بعض؛ وهذا أيضاً مما يتداولونه ويستدلون به. وتصحيحه بإدخال (قد) على قولهم: (ينوب). وحينئذ فيتعذر استدلالهم به؛ إذ كل موضع ادعوا فيه ذلك، يقال لهم فيه: لا نسلم أن هذا مما وقعت فيه النيابة. ولو صح قولهم لجاز أن يقال: مررت في زيد، ودخلت من عمرو، وكتبت إلى القلم
فنيابة حرف من حروف الجر عن آخر عند الكوفيين ليست معبدة السبل، كما قد يُظَنَّ بادئ الرأي فإنه؛ يجب لقياسيتها ألا تَنْبو عن الذوق العربي وأساليبه في التعبير، وأن يكون الحرف النائب قد جاء بمعنى الحرف المنوب عنه وضعاً كما قد فهمت مما مر بك.
والآن فلنعد إلى بيت الأستاذ الذي كان مبعث هذا النقاش وقد رأيت أنه أجاب عن اعتراض على تعدية (يتفيئوا) باللام بأنه ليس خطأ. . . الخ. ويظهر انه اعتبر اللام نائبة عن الباء ولم أر فيما لديَّ من المراجع أن اللام تنوب عن الباء ولكنهم قالوا بنيابتها عن (في) كما في قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)، وكقوله:(لا يجلبها لوقتها إلا هو) وكما في قولهم: (مضى لسبيله)
فعلى اعتبار أن اللام في البيت نائب عن (في) لم يخطئ الأستاذ في تعبيره مهتدياً بسليقته السليمة، وإن لم يَقصد هذه النيابة عند إنشاء البيت
هذا ما أمكن إيجازه من هذا الموضوع الذي ارجوا أن أكون قد وفقت للكشف عن وجه
الصواب فيه
(ا. ع)
رسَالَة الشِّعر
مُوسيقَى تائهة. . .!
(نانا. . .)
(مهداة إلى الروح المتمرد الحزين الذي حملت أليَّ الريح
نجواه منذ ليال،. . . ولا ادري متى يعود!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
الَّليلُ يَا (نَانَا)
…
وَالرِّيحُ يا (نَانَا)
سِرَّانِ مِن قَلبِي. . .
أَقْبَلْتُ حَيْرَانَا
…
وَعُدْتُ حَيْرَانَا
مِنْ شَاطئِ الْغَيْبِ
الَّلْيلُ نَادَانِي
…
مِنْ عَالَمٍ ثَانِ
وَقَال: يَا فَاني
…
هَيَّجْتَ أَحْزَاني. . .
إِن كُنْتَ ظَمْآنَا
أَقبِلْ لِدُنْيَانَا
وَاتْبَعْ خُطا (نَانَا)
وَاسْمَعْ صَدَى (نَانَا)
فَاللهُ سَوِّانَا
…
لِلشِّعرِ وَاُلْحبِّ. . .
واللهُ غَنَّانَا
…
أُنْشُودَةَ اُلْحبِّ. . .
. . . الَّليْلُ يا (نانَا)
…
وَالرَّيحُ يا (نَانَا)
سِرَّانِ مِنْ قَلْبي. . .
وَالرَّيحُ فِي السَّفْحِ
…
هَبَّتْ عَلَى جُرْحِي. . .
وَرَقْرَقَتْ نَوحِي
…
شِعْراً عَلَى الدَّوْحِ. . .
كالرُّوحِ وَلْهانَا
كاَلْخمْرِ سَكْرَانَا
كالطَّيْرِ غَنَّانَا
وَقَالَ: يا (نَانَا)
إِنْي مِنَ الْغَيْبِ
…
حُمِّلْتُ مِنْ رَبِّي
لِلُمدْنِفِ الصَّبِّ=أُنْشُودَةَ اُلحبِّ
الَّليْلُ يَا (نَانَا)
…
وَالرِّيحُ يا (نَانَا)
سِرَّانِ من قَلبِي
أَقْبَلْتُ حَيْرَاَنا كاْلجُرحِ أسْيَانَا
كالَّليلِ دَجْوَاَنا
…
كالرِّيحِ إِرْنانَا
وَعُدْتُ يَا (نانا)
هَيْمانَ. . . حَيْرَاَنا
لِشَاطِئِ الحُبِّ!!
محمود حسن إسماعيل
رسالة العلم
حول أبعاد الحيز
كون رباعي الأبعاد
(إلى أستاذي جوداق أهدي هذهِ الفصول)
للأستاذ خليل سالم
- 3 -
أبَّنا في المقال السابق بعض الخصائص التي يلتقي عندها الزمان والمكان، والتي سمحت لنا أن نعتبر الأول بعداً رابعاً، وسنحاول هنا أن نذكر أهم خصائص كون ذي أربعة أبعاد، سواء كان هذا البعد الرابع زماناً أو مكاناً. ورب من يستغرب كيف يمكن أن يكون المكان ذا أربعة أو خمسة أبعاد إلى ما لا نهاية من الأبعاد. فنحن لا ننتهي من بدعة الزمان كبعد رابع، تلك البدعة التي لا يقبلها الحس والتصور، حتى تأتينا بدعة أكبر هجنة وغرابة، هي أن يكون المكان كثير الأبعاد. على أنني لا أقصد أن أتحول عن خطتي لأشرح هذهِ الفكرة الجديدة، فربما نحاول في فرصة قريبة تبسيطها وعرضها على القراء إلا أنني أُعطي المثال البسيط التالي لأزيل قليلاً من حيرة القارئ. فهو يتعلم مهما بلغ ضآلة ثقافته الرياضية أن النقطة الهندسية إذا تحركت رسمت خطاً هندسياً طوله المسافة التي تحركتها تلك النقطة، وهذا الخط المستقيم ذو بعدٍ واحد، لأن للنقطة مجال حرية الحركة في اتجاهٍ واحد فقط، وإذا تحرك هذا الخط الهندسي في اتجاه علوي على طوله بعداً يساوي طوله نتج المربع، وهو مستواً ذو بعدين، لأن النقطة تجد مجال الحركة واسعاً أمامها في اتجاهين، أو لأن مكان النقطة يتعين ببعدين اثنين عن أضلاع مربع، وإذا تحرك المربع في اتجاه علوي لمستوى مسافة تعادل طول ضلعه نتج المكعب، وهو حجم ذو ثلاثة أبعاد. يقف تصورنا عند هذا الحد. أما التحليل الرياضي، فلا يقف هنا، فبنفس الطريقة المنطقية السالفة، نتصور المكعب متحركاً في اتجاه عمودي على متعامداته الثلاثة مسافة تساوي ضلعه فينتج فوق المكعب ذو أربعة أبعاد، وإذا تحرك هذا نتج فوق المكعب ذو خمسة
أبعاد، والعملية تتسع لعدد لا متناه من التكرار
ولعل القارئ يذكر إننا نحول القوة الأولى (س) إلى خط مستقيم، والقوة الثانية (س 2) إلى مربع، والقوة الثالثة (س 3) إلى مكعب، فيجب أن يستمر القياس إلى (س 4) فنحولها إلى جسمٍ في أربعة أبعاد وإلى (س ن) فنحولها إلى جسم عدد أبعاده (ن). ولا أرى من الضروري أن أعيد ما ذكرت في البحث السابق من أن تصور مثل هذهِ الأجسام مستحيل.
على أن الدكتور كايزر وهو علم من أعلام فلسفة الرياضيات يقول: إذا لم يكن لهذه الأجسام وجود في البصيرة فلها وجود في التفكير، وإذا لم يكن في الحس فهو قي العقل، وإذا لم يكن في المادة فهو في الفكر، وهو لا يكتفي بهذا فيقول في كتابه لقد أقنعني التأمل بأن حيزاً أبعاده أربعة أو أكثر له من خصائص الوجود مثل ما للفضاء الهندسي العادي
وقبل أن نعرض لتلك الخصائص نود ذكر بعض الظواهر الطبيعية التي أستخدم في تفسيرها البعد الرابع وكان أسهل مما تبناه العلماء من تعاليل وفرضوه من فروض. ولا أراني في حاجة للقول بأن نظرية النسبية التي فسرت أكثر الظواهر الطبيعية المعقدة العويصة لا تدخل ضمن نطاق هذا الشرح
هناك نوعان من حامض الطرطريك (ك 14 يد 10 أ9) يشبه أحدهما الآخر كأنه صورته في المرآة ويتحول أحد هذين النوعين إلى نوع الآخر دون حدوث تفاعل كيماوي يفسر هذا التحول بأنه تحرك نوع واحد في البعد الرابع في اتجاهين متضادين
ونجد نفس الظاهرة في سكر العنب (دكسترو ك6 يد 12 أ6) وسكر الفواكه (ليفيلوز ك6 يد 12 أ6) وهما نوعان من السكر موجودان في العسل متشابهان في التركيب الكيماوي ولكن أحدهما معكوس الآخر إذا ما فحص تحت الضوء المستقطب وإذا تصورنا تحرك ذراتهما في البعد الرابع أمكننا أن نعلل سبب اختلافهما
ومن العجب حقاً أن نجد نفس الظاهرة في نوع من الحلازين فبضعها ملتو إلى اليمين والبعض الآخر ملتو إلى اليسار كأن أحد النوعين صورة في المرآة للنوع الآخر. ليس هذا فحسب وإنما تبدي عصارة كل منها ما يبديه نوعاً من السكر من أن أحد العصارتين تظهر تحت الضوء المستقطب عكس الصورة الأخرى وقد أشار هنتون وهو من المشتغلين بمثل
هذه الأبحاث أن التيار الكهربائي يمكن شرحه كتموجات في البعد الرابع
والآن ما هي أهم خصائص كون ذي أربعة أبعاد؟
هناك ثلاث خصائص رئيسية:
1 -
إذا تحرك جسم ذو أربعة أبعاد فإن قطعه الذي يبدو لعالم ثلاثي الأبعاد يتغير في الجسم والشكل وهذه ظاهرة (انكماش فتزجيرلد)، وقد عمد العلماء إلى تعليل هذهِ الظاهرة بأنها كهارب المادة إذا تحركت بسرعة كبيرة في الفضاء تتمغنط فيجذب بعض بعضاً، وينتج عن هذا الجذب التقلص والانكماش طبقاً لقانون فتزجيرلد الذي ذكرناه في البحث الماضي
2 -
يجب أن يتسنى لجسم أن يدخل مكاناً مغلقاً عن طريق البعد الرابع دون أن يمس أضلاعه المكان الثلاثة كما يتسنى أن تضع نقطة في مربع دون أن تمس أضلاعه. ومن هذا يتبين أنه لو استطاع اللصوص مثلاً أن يتحركوا في البعد الرابع لما غنت الصناديق الحديدية فتيلاً، لأنه يمكن سحب الأموال والجواهر المخزونة دون فتح الصناديق. وكذلك يستطيع شرب زجاجة الكازوزة دون فتحها، وتأكل البيضة دون كسر قشرتها، ويمكن لنقطة في مركز الكرة أن تتركها دون أن تمس سطح الكرة. ولا تزيد العقد في البعد الرابع عن نشطات. وتسقط حلقات سلسلة فولاذية منفصلة عن بعضها من تلقاء نفسها. والأحجام المتشابهة يمكن توجيهها بحيث ينطبق بعضها على بعض تمام الانطباق في البعد الرابع: فالجانب الأيمن يصبح الجانب الأيسر، كأنه صورة في المرآة، نستطيع في البعد الرابع أن نجد خمس نقاط متساوية الأبعاد عن بعضها. الدوران في مستوى حول نقطة، وفي الفضاء حول خط، وفي كون رباعي الأبعاد حول مستوى
كما يمكن أن يحصل هذا في عالمنا لولا قانون حفظ الطاقة والكتلة؛ على أننا نستطيع أن نقول أن هذا يمكن أن يحدث في عالمنا ولكنه لا يحدث
3 -
يجب أن نستطيع رؤية داخل الأشياء مهما بلغت سماكتها وكثافتها عن طريق البعد الرابع، كما نستطيع رؤية داخل مربع بالأشراف عليه من أعلى، على أن هذا لا يحدث في عالمنا، ويقدم أدنغتون تعليلاً بسيطاً لعدم الحدوث. لما كان عالمنا رباعي الأبعاد - لا حاجة بي إلى القول أن أدنغتون من أنصار ناموس النسبية - فلكي يصح القياس يجب أن
نشرف على الجسم الجامد من كون خماسي الأبعاد حتى نستطيع أن نراه؛ لأن أبعاد الجسم المرئي يجب أن تكون أقل يبعد واحد من أبعاد الكون الذي نراه فيه
لا أُحب أن أترك البحث دون أن أشير إلى ناحية طريفة في الموضوع تتعلق بإيمان بعضهم بالخلود والأبدية كانغماس في البعد الرابع، فنحن نسير مع الزمن حتى إذا ألم بنا عارض وقف سيرنا هذا وتأخرنا في الماضي؛ وتأخرنا هذا هو الموت؛ ولا يعني هذا الموت أننا نسير إلى العدم وإنما نبقى في البعد الرابع أحياء أحراراً، ولذا كان البعد الرابع الطريق الذي تظهر به الأرواح لعالمنا، وكان البعد الرابع التفسير الذي تمسك فيه المشتغلون بالروحانيات وانتقال الأفكار وعلم الغيب والتصوف. وإذا كان هناك رجل يجب أن يلام على انتشار مثل هذه الأفكار فهو زولنر وكان أستاذ علم الفلك الطبيعي في ليبنرج. ففي السنتين 1877، 1878 نزل الوسيط الأمريكي سيلد إنكلترا وتنقل في أنحاء القارة الأوربية يعرض أعماله السحرية العجيبة، يدخل الأجسام بعضها ببعض ويعقد ويحل عقداً في سلسلة ليس لها من نهاية. والخلاصة أنه كان يسحر الجمهور ويدهشه بألاعيبه. وقد قدر لزولنر هذا أن يجلس مع ستيد نحو ثلاثين جلسة خرج منها معتقداً أقوى الاعتقاد أننا نعيش في عالم مغمور في كون رباعي الأبعاد، وأن البعد الرابع مسكن الأرواح التي تظهر بين حين وآخر وتؤثر في حياة سكان الأرض
وقد بلغ من زولنر الوهم حتى صرح أنه في إحدى الجلسات (صافح صديقاً من ذلك العالم الآخر)
على أن السلطات لم تترك ستيد حراً فقد أُلقي عليه القبض في إنكلترا وحكم عليه بالإعدام، إلا أن زولنر أبى إلا أن يرى ستيد بريئاً (وقد قضى ضحية جهل القضاة والمتهمين) ولقد كان زولنر كاتباً بليغاً، فلا عجب أن وجدت آراؤه انتشاراً واسعاً، ولا عجب أن آمن به الكثيرون.
(الجامعة الأمريكية - بيروت)
خليل السالم
البريد الأدبي
عبد القادر حمزة باشا في ذمة الله
في الساعة السادسة من يوم الجمعة السادس من شهر يونيه سنة 1941 خلا مكان عميد الصحافة وفقيد الأدب الأستاذ عبد القادر حمزة باشا وهو في الثالثة والستين من عمره الحافل الخصب. (وخلا مكانه) تعبير صادق عن وفاة صاحب البلاغ؛ فأن الأخلاق والمواهب التي كونته قلما تجتمع إلا للأحد بن الذين يتعاقبون في الحياة على فترات بعيدة. ولقد بلغ ما بلغ من رفيع المنزلة وبُعد الصوت بحسن استعداده وطول اجتهاده فلم يتكئ في جهاده المادي أو الأدبي على سند من أُسرة أو ثروة أو وظيفة؛ وهو في ذلك أحد الأفذاذ الذين شقوا طريقهم الوعر بسن القلم؛ وقلمه في يده كان كالمبضع في يد الجراح الماهر: لا يشق إلا بتقدير، ولا يقطع إلا بقدر. ولم يتميز من الأساليب الصحفية غير أسلوبه وأسلوب لطفي السيد باشا من قبل: تميزا بالإيجاز والإشراق والطلاوة والمنطق، وبرئاً مما تجره الصحافة على كاتبها من ضرورة الثرثرة واللغو
عالج المرحوم عبد القادر باشا المحاماة في مقتبل عمره، ثم دفعته الظروف بطبيعة ميله الفطري إلى الصحافة فبرز فيها، تبريزاً لا يتهيأ إلا لأصحاب الملكات القوية؛ وكان مما ساعد على هذا التبريز طريقته الواضحة في الجدل، ومذهبه العفيف في النقد، ونظرته الثاقبة في الأدب، ورجولته العنيدة في الخصومة. وكان للفقيد الكريم مشاركة في أنواع الأدب ولا سيما في التاريخ والترجمة. ولسنا اليوم بصدد الكلام عن مكانته في الأدب وأثره في السياسة؛ إنما هي إشارة تدل على عظم المصاب فيه وصعوبة العزاء عنه. برد الله أثره بالرحمة، وعوض منه أسرته وأمته خير العوض
لقد نفذ الأستاذ المراغي الإصلاح
تعرض (عالم) في (الرسالة) الغراء لما حسب أنه (الحوائل) التي اعترضت سبيل الإصلاح الأزهري على النحو الذي وضحه الأستاذ الإمام المراغي في مذكرته القيمة الجليلة القدر التي أنتجها في عهد ولايته الأولى على الأزهر
وما من شك في أن (الحوائل) التي سجلها صاحب الفضيلة (العالم) في كلمته حقيقة أن تثير الدهش والعجب، لأنه فهم من منهاج الأستاذ الأكبر في الإصلاح أنه قضاء مبرم على كتب
الأزهر وتراثه الثقافي جميعاً، على حين يفهم كل أحد أن فكرة (الاجتهاد) التي يدعوا إليها الأكبر ليست هي القضاء على (جميع) ما تضمه كتب الأزهر بين دفتيها، وإنما هي ترمى إلى (تنقية) هذه الكتب وتصفيتها وتجويد عرضها من ناحية الأسلوب ومن نواح أخرى لا ينكرها المتدين المتعمق متى أخذها بالتفكير الدقيق. ولقد فعل الأستاذ الأمام المراغي في ذلك كثيراً فلم ينكر عليه أحد ما فعل، وإنما أيده الأزهريون القدامى والمحدثون فيما اضطلع به من التجديد الذي استمد مادته من كتاب الله وسنة نبيه الكريم، في موضوع الطلاق، وفي موضوع الهبة والتوريث؛ وإنما أيده أُولئك وأُولئك في منهاجه الحكيم المحكم الدقيق الذي عرفه له العالم الإسلامي في تفسيره لطائفة من سور القرآن الكريم
والأستاذ الأكبر حين ظفر بكل هذا التأييد في إنتاجه الذي هو إصلاح بالغ، إنما وضع الأساس لأمثال صاحب الفضيلة (العالم) الكاتب حتى ينهجوا نهجه، وحتى ينفقوا أوقاتهم كلها في السير على منواله، فإصلاحه من هذه الناحية حقيقة لقيت وجودها تحت الشمس وهو في عهده الآن في الأزهر لم يلان كثرة الأزهريون ولا قلتهم، لسبب بسيط، هو أن إصلاحه ماض في طريقة بالخطوة الوئيدة، ماض إلى هدفه بالرمية السديدة، أما العناية الأزهرية بالوظائف وما إليها، فهذه حكاية أقحمها العالم الجليل على موضوع لا صلة له بالبحث الذي نحن بصدده، لا من قريب ولا من بعيد، ونحسب أن الرد يكون طريفاً حقاً لو تفضل العالم الكاتب وقال لنا من يكون؟
(القاهرة)
كمال عبد الآخر
رسالة الأزهر
للأزهر رسالة واضحة كل الوضوح، كما أنها ثقيلة لا ينهض بها إلا رجال أكفاء قد وهبوا أنفسهم لله ووقفوا حياتهم على أمتهم.
وحسبنا لنعرف هذه الرسالة أن ننظر إلى رجال الدين المسيحي وتوازن بينما يعملون وما يعمله رجال الدين الإسلامي لنرجع من هذه الموازنة والكرب يكاد يقتلنا على تقصير رجال الدين الإسلامي وإهمالهم وضعفهم ونقصهم
إعداد رجال الدين المسيحي
لأجل أن يصير الشاب المسيحي قسيساً لابد له أن يدرس دراسة طويلة شاقة، وان يزود بألوان من المعارف لا يضفر بها غيره ممن يعدون أنفسهم لأي نوع من الحرف الدقيقة الخطيرة، كالطب والقضاء والهندسة وغير ذلك - ويؤخذ بضروب من الرياضة البدنية والروحية، ويصقل صقلاً يجعله بعد ذلك متميزاً عن غيره صالحاً لأداء مهمته الشاقة احسن أداء. تقضي مدة دراسته تحت حراسة يقظة ورقابة دقيقة ورعاية كريمة وإرشاد متواصل وتوجيه سامي وتدريب شاق ورياضة طويلة، حتى يصير رجلاً نموذجياً في جسمه وعقله وخلقه وذوقه وعاداته وأكله وشربه ونومه وغير ذلك من كل ما يدخل تحت النقد والتكوين فأين هذا مما يلقى طلاب الأزهر من الإهمال والتضييع
1 -
مناهج قد ازدحمت بكل معاد ثقيل لا فائدة منه
2 -
سنة دراسية يضيع اكثر من نصفها في العطلات
3 -
يترك الطلبة يسكنون في مساكن غير صحية وفي أحياء قذرة ويتعرضون إلى أفأت خلقية وجسمية ومتاعب معاشية وأضرار لا يجهلها أحد ممن عرف الأزهر والأزهريين
4 -
نقص كبير في المناهج
رسالة المتخرجين في الأزهر
والآن فلنوازن بين ما يعمله رجال الدين المسيحي وبينما يعمله التخرج في الأزهر: رجل الدين المسيحي يتخرج فيجد أمامه عملاً جليلاً ثقيلاً يحتاج إلى مثل أعمار النسور وهمة الجن ودأب النمل: يشتغل راعياً في الكنيسة، فيدرس الحي الذي يعمل فيه دراسة دقيقة شاملة، ويتصل بكل ما فيه من أبناء ملته، ويكون وسيلة التعارف والتأليف بينهم، وهو في كل ذلك محتفظ بكرامته مكانته، وذلك لما توفر عنده من اللباقة والإخلاص، ويعمل على تأسيس جمعيات عملية لا قولية تقوم بجمع الصدقات وتأسيس المدارس وإقامة المشافي والصلح بين المتخاصمين والتأليف بين الزوجين، وهو في كل ذلك الرأس المدبر واليد العاملة والقلب الخافق الحي، ولن يفشل في أي مشروع يحاوله أبداً لان الإخلاص سائقه والعزم حليفه والله رائده؛ فنجد الكنيسة إذا ما استقرت في مكان ما صارت مركز هداية
وإرشاد وعمران ووفاق ويسر لأبنائها الملتفين حولها جميعاً، والفضل في كل ذلك لرجل الدين الذي اعد لهذا العمل إعداداً حسناً، تجده حركة دائبة لا يستقر ولا يهدأ؛ إذا رأيته أشفقت عليه من كثرة العمل وطول الإجهاد فهو آناً عند مريض يعوده، أو عند فقير يحمل له صدقة أخذها في السر من غنى، أو عند غنى يعظه برفق ويغريه على نفع أبناء ملته، أو عند أسرة يوفق بين أفرادها. يؤسسون المدارس الكبرى والمعاهد العليا والكليات العظمى، ويجمعون لها التبرعات غير يائسين ولا متضجرين، ويقيمونها صروحاً شاهقة، ويعدون أبناء ملتهم لحياة ناجحة، فيزودونهم بالثقافات المختلفة الدينية والعمرانية التي تؤهلهم للنجاح في الحياة؛ وطف بمصر لترى معاهدهم لم تجذب إليها أبناء المسيحيين فقط، بل جذبت أيضاً أبناء المسلمين، لما شوهد على متخرجيها من دلائل النجح والتهذيب والتميُّز، وهذه معاهد الآباء اليسوعيين (الجزويت) والاخوة المسيحيين (الفرير)، والراهبات وغيرها مما لا تخلو منه مدينة في مصر والشرق فأين هذا من مسجدنا وعالمنا وإمامنا. لا داعي للموازنة بعد ذلك فسنخرج بنتيجة محزنة
لقد قضى أستاذنا الزيات صدر شبابه أستاذاً بالمدارس الدينية المسيحية، وحبذا لو تناول وصفها بقلمه الساحر وناشد الأزهريين أن يتعلموا من هؤلاء الرجال المخلصين خدمة دينهم ومعرفة رسالتهم في الحياة؛ وعلى ضوء هذه الرسالة توضع المناهج ويؤسس الأزهر من جديد
زكي غانم
ليس هذا هو الطريق إلى الإصلاح
أضنانا السير والسرى ولم نقطع أرضاً ولم نقض مأربا. أردنا أن نصل إلى نقطة ما فجعلناها مركز الدائرة ودرنا حولها في محيط ثابت. لنا الله فقد جاهدنا فأجهدنا أنفسنا ولم نتقدم من غايتنا باعاً أو ذراعاً، وأغلب الضن أننا سنعاود الكرة مرات إن طوعاً وإن كرهاً. سنمشي على أرجلنا أو على أيدينا أو على أربع، وسنزحف على بطوننا، وسنطير في الهواء أو نغوص في الماء؛ ولكننا لن ننحرف عن محيط الدائرة، ولن تتغير النتيجة أبداً
تعبنا وأضعنا الجهد هباء، لأن هذا ليس هو الطريق، ولأن هذه ليست هي الوسيلة
أردتم فيما أردتم تعليم الفلاح وتحسين صحته وتنظيم حياته ورفع مستواه، ووددتم منع البطالة والقضاء على الجرائم والاستجداء والخمر والميسر والإعراض عن الزواج والطلاق وتخنث الشبان وتهتك النساء وتبرجهن، وحاولتم مكافحة الأمراض السرية والعلنية، وبنيتم مطاعم وحمامات ومغاسل للشعب؛ ثم شرعتم في كسوة أقدام الفقراء بالأحذية، وستشرعون في إقامة منشأة لهم
أردتم ما لا حصر له من الإصلاح ولم توفقوا التوفيق المرتجى في أحدها، وذا أنكرتم ذلك فهاتوا برهانكم وإذا كنتم تقرون قولي فتعالوا نبحث العلة ونفهم المسببات.
إنكم مسلمون لأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام. وإنكم تعلمون أن القران من عند الله ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإنه لم يحرف، وإنه صالح لكل الأزمنة ولم ينزل كتاب بعده.
ثم إنكم تسلمون أنه مهما سمى تفكير الإنسان وتدبيره، ومهما صح حكمه على الأشياء فلن يصل إلى درجة خالقه ولم يرقى لمرتبته في العلم
إذاً فالقوانين التي نسنها لا يمكن بأية حال أن تكون اصلح من تلك التي وضعها لنا الله، فإذا أسلمتم بهذا أيضاً ولا أخالكم إلا مسلمين، أفليس من حسن التميز أن نجرب السير على قوانين الله ولو لمدة محدودة كما سرنا على غيرها أعواماً من غير طائل؟
أن هذا لا يكلفنا كثيراً، ولا يتطلب إلا أن تجند وزارة الشؤون الاجتماعية ذلك الجيش من علماء الأزهر الشريف والمعاهد الدينية ليقوموا بما فرض الله عليهم. ليعلموا الناس دينهم وليفهموهم مثلاً أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر وأنها افضل أنواع الرياضة البدنية، وليبينوا لهم الحكمة في نظامها وكيفية أدائها وعدد ركعاتها وتحديد أوقاتها ليعرفوهم أخلاق الرسول صلوات الله عليه وأخلاق الصحابة والتابعين، وليفهموهم حقوق الرجل على زوجه والمرأة على بعلها، وأن اكره الحلال عند الله الطلاق، وليشرحوا لهم أن بعض الذنوب لا يكفرها إلا السعي على الرزق، وجزاء المستجدي في الدنيا والآخرة، وما يلاقيه السكران في يومه وغده.
ثم نفذوا فيهم أحكام الدين بعد ذلك ولا تأخذكم بهم رحمة. ولا تعتقدوا أن أحكام الله قاسية فهو ارحم بكم منكم، فقطع يد السارق في حقيقتها أخف بكثير من سرقة يعقبها سجن،
فسرقة يتبعها سجن، فسرقة يتلوها سجن، فسرقة في أثرها سجن؛ وهكذا دواليك. إنكم بعد ذلك لن تجدوا مجرماً ولا شارب خمر ولا لاعب ميسر ولا داعياً لفجور، ثم إنكم لن تلقوا مستجدياً ولا عاطلاً ثم إنكم بعد ذلك ستجدون الجميع في صحة تامة وهناء متصل وتآخ أكيد.
(جزيرة ميت عتبة - امبابة)
مصطفى إسماعيل جوهر
مكتبة الحرم الشريف النبوي العامة
أسست حكومة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز الأول مكتبة عظيمة في الحرم الشريف أسمتها (مكتبة الحرم الشريف النبوي العامة بالمدينة المنورة): جمعت فيها شتات الكتب المفرقة في مستودعات الحرم النبوي والمحكمة الشرعية الكبرى وكتب طوسون احمد باشا وغيرها. وقدم لها جلالة الملك عبد العزيز الأول جميع مطبوعاته النفيسة، كما تفضل فأمر بصنع عشر خزائن للكتب. وقدم لها الشيخ عبد الكريم المصري الأزهري ستة صناديق تحتوي على ثمان مائة مجلد. وساهم في تأسيسها بإهداء الكتب إليها سعادة السيد محمد بدوي بك المنصوري الأزهري
وسعادة الشيخ محمد سرور صبان وغيرهم.
وأعفت الحكومة السنية بريد المكتبة من الرسوم في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية كلها. وفي المكتبة الآن كتب في التفسير والحديث والتوحيد والتجويد والقراءات العشر والفقه الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والأدب والتاريخ والشعر وعلم الأصول والمصطلح وغير ذلك باللغات العربية والفارسية والهندية والتركية
وقد بلغ عدد المجلدات الموجودة الآن زهاء ثلاثة آلاف مجلد. وفي المكتبة قسم الصحافة للمجلات والجرائد العامة التي تهدي إليها
وفي المكتبة قسم مكتبة التلميذ لإعارة بعض الكتب العلمية للتلاميذ الفقراء على نظام مكتبة الأزهر الشريف في مصر وقد وردت لهذا القسم بعض المؤلفات المدرسية من مؤلفيها
وغيرهم. وقد سر من هذا القسم الدكتور محمد عبد الغني عزام مفتش صحة مركز المنصورة بالديار المصرية فقدم لإدارة المكتبة مقداراً من النقود لشراء بعض الكتب العلمية النافعة المفيدة لهذا القسم. وفي المكتبة ورشة تجليد فنية لتجليد كتبها المحتاجة للتجليد. وقد أهدى بعض أهل الخير لهذه الورشة بعض الآلات والأدوات
وقد عينت الحكومة السنية العربية السعودية الأستاذ أحمد يس الخياري الأزهري من علماء الحرم الشريف النبوي وقراءه ومدير مدرسة التجويد والقراءات بالمدينة المنورة مديراً لهذه المكتبة العلمية العامة مستقلاً في جميع أعمالها الداخلية والخارجية
والمكتبة الآن في حاجة إلى التشجيع مادياً بالنقود وأدبياً بالكتب والرسائل والمجلات والجرائد والخزائن والآلات والأدوات والأثاث من أفراد العالم الإسلامي. لأنها في داخل الحرم النبوي ومنسوبة إليه وعائدة أليه. والمخابرة في كل ما يخصها تكون باسم مديرها. والله يتولى التوفيق
مدير مكتبة الحرم النبوي الشريف العامة
تحذير ورجاء
يعلن كمال مصطفى مؤلف كتاب (الصحافة والأدب في مائة يوم)، أن بعض الأشخاص قد اختلسوا كثيراً من نسخ الكتاب وبددوها وعمد أحدهم إلى تغيير الاسم ووضع بدله اسم (علي ماهر باشا المثل الأعلى للوطنية والصحافة والأدب) واتخذ هذا سبيلاً للنصب والاحتيال، وتتولى النيابة التحقيق الآن
فيرجو المؤلف كل من يقدم إليه الكتاب بالاسم المنتحل (علي ماهر باشا المثل الأعلى. . .) أو بأي اسم آخر، أو بالاسم الأصلي:(الصحافة والأدب في مائة يوم)، وغير مختوم بخاتم المؤلف أن يتفضل بالاتصال به في وزارة الداخلية وأن يمتنع عن دفع الثمن وله عظيم الشكر