المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 416 - بتاريخ: 23 - 06 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤١٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 416

- بتاريخ: 23 - 06 - 1941

ص: -1

‌بمناسبة المهاجرين من منكوبي الغارات

الفقراء

قصيدة لفكتور هوجو

(مهداة إلى السادة: يوسف كمال والبدراوي وقوت القلوب)

- 1 -

الليل مُرخي السدول؛ والكوخ ظاهر الإملاق، ولكنه محكم الإغلاق.

كان المسكن يغشاه الظلام، ولكنك تحس شيئاً فيه يضيء خلال هذه العتمة

على حائطه علق الصياد شباكه؛ وفي أحد ركنيه من الداخل تلمع بعض المواعين الحقيرة على صندوق الخبز؛ وفي الركن الآخر يقوم سرير كبير قد انسدلت عليه أستاره الطويلة

وعلى مقربة منه حشية مفروشة على د كتين باليتين، وخمسة أطفال صغار كعش من أعشاش الأرواح قد رقدوا عليها

وكان في الموقد العالي بقية من الضرم تلقي ضوءها الأحمر على السقف القاتم، وبجانب السرير امرأة وضعت جبينها على حافته وهي جاثية تصلي وفي صدرها نجيّة وعلى وجهها شحوب

تلك كانت الأم، وهي وحدها في الكوخ؛ ومن وراء هذا الكوخ المظلم المحروم، زفرات البحر المزبد المشئوم، يرسلها سوداء في السماء والهواء، وفي الضباب والصخور

- 2 -

كان الزوج يعمل في البحر؛ وكان منذ طفولته بحاراً كُتب عليه أن يلقى الحظوظ السود في أهول المعارك. فهو في المطر الواكف، وفي الهواء العاصف، محتوم عليه أن يخرج إلى الصيد لأن أطفاله يتضاغون من الجوع. . .!

يخرج في المساء إذا مد الماء وغمر سلالم الجسر، ثم يقود وحده سفينته ذات الشرع الأربعة، وتبقى الزوجة في البيت تخيط شراعاً، أو ترتق شبكة، أو تهيئ شصاً؛ وتراقب

ص: 1

في غضون ذلك القدر وهي تغلي على الكانون بحساء السمك. حتى إذا طاف الكرى بأطفالها الخمسة اتجهت هي إلى الله تصلي وتضرع!

غاب الرجل وحده في ظلمات الليل، وفي لجج المحيط، والأمواج المتجددة تغالبه وتصرعه، والخطوب المترصدة تجذبه وتدفعه

أيهذا العمل الكادح ما أقساك! الظلام شديد الحلك، والجو قارس البرد، والمكان الصالح للصيد لا يكون إلا في مصادم البحر بين الأمواج الرّعن والهوى السحيقة، فترى على مجاهل المحيط الواسع هذا المكان المتنقل المتدلل على هوى السمك ذي الزعانف الفضية، يضيق فيكون بمقدار النقطة، ثم يتسع فيكون في ضعف الغرفة؛ والصياد مقضي عليه أن يجهد جهده، فيحسب حساب المد والهواء، ويوفق بين أفاعيل السماء والماء، ليهتدي في ظلام الليل وفي ضباب ديسمبر إلى هذه النقطة المتنقلة في هذه الصحراء المتحركة!

الأمواج على طول الشاطئ تنساب انسياب الأفاعي الخضر، والهاوية تدور وتدوّم وتدّوي فتصطك أعضاء السفينة من الرعب، وتئن أدواتها من الهلع، والصياد في أحضان البحر المجنون يفكر في زوجه جاني، وزوجه جاني على البعد تناديه وتناجيه وهي تبكي، فتتلاقى أفكارهما في الظلام، وأفكار العشاق طيور قدسية أبراجها القلوب

- 3 -

كانت جاني تصلي وطير النّورس بصوته الأصحل الساخر يزعجها، وموج البحر بهديره المتكسر الصاخب يرعبها، وأشتات الأطياف تمر بخاطرها فتقلقها. كانت تتمثل ذلك المحيط العجاج والملاح المحمول على ثبجه الغاضب، وترى هذه الساعة الحائطية الباردة تنبض في علبتها كما ينبض الدم في عروقه، فتُساقطُ الأيام والفصول والأعوام في خفاء الغيب قطرة فقطرة؛ وكل نبضة من نبضاتها تفتح لأسراب النفوس: صقورها وحمائمها المهود من جهة، واللحود من جهة أخرى

كانت تفكر في هذا الفقر المدقع الذي قضى على أطفالها أن يمشوا حفاة في القيظ والزمهرير، وأن يعوزهم خبز القمح فيتبلغوا بخبز الشعير!

رباه! إن الهواء يفهق كالكير، والشاطئ يصوت كالسندان، وكأني أرى صور السماء، تتطاير في الزوبعة السوداء، كما تتطاير زوابع الشرر في دخان الموقد

ص: 2

هذا هو الوقت الذي ينتصف فيه الليل على الراقص المرح وهو يقصف هيمان بين ضحكات القلوب ومتع الأعين

وهذا هو الوقت الذي ينتصف فيه الليل على قاطع من قطاع الطرق عجيب، ينتقب بالظلام والمطر، ويتصدى لملاح مسكين يرتعد من البرد فيحطمه على الصخرة الهائلة التي تظهر فجأة؛ فيشعر المسكين - والموت يقطع َزويله وعويله - أن السفينة تنشق لتغوص، وأن اللجة تنفتح لتبلع؛ ثم يلمح في خاطره وهو يهوي في غيابة الفناء ولجة الماء ذكرى الحلقة الحديدية في رصيف المرفأ المشمس!

فزّعت هذه الرؤى العابسة قلب جاني فاضطربت اضطراب ليلها، واستكانت لجزعها وويلها، فلم ينفس عنها غير البكاء

- 4 -

لله ما أشقاكن يا نساء الصيادين! إن مما يروع النفس ويلوع الفؤاد أن تقول كل منكن لنفسها: (إن أبي وحبيبي وأخي وولدي وكل عزيز عليّ هم جميعاً في ذمة هذا المضطرب العظيم؛ وإن القدر قد أباح للبحر الأهوج أن يعبث بهذه الرؤوس منذ كان المرء صبياً يتعلم، إلى أن يصير زوجاً يتزعم؛ وإنهم في هذه الساعة قد يحزبهم الأمر، ويكربهم الهم، فلا يدرون أين يسيرون، وهم لا يملكون لمقارعة هذه البحار اللجية التي لا قاع لها، وهذه اللجج المظلمة التي لا نجم فوقها، إلا قطعة من الخشب ومزقة من النسيج! فإذا ما اعتلج في صدرها الهم، هبت مذعورة تجري خلال الصخور وهي تسأل الأمواج ضارعة: (رديهم عليّ!!. . .)

ولكن وا أسفاه! ماذا عسى أن يرد البحر الذي لا يبرح في تقلب واضطراب، على الفكر الذي لا ينفك في تشتت واكتئاب؟

كانت (جاني) أشد هماً وغماً من ترائبها جميعاً؛ لأن زوجها وحيد في جوف هذا الليل الشديد وتحت هذا الكفن الأسود؛ وأطفاله لا يزالون صغاراً فلا وزر له فيهم ولا عون!

أيتها الأم! إنك تقولين اليوم وأنت ترين أباهم وحيداً: ليتهم كانوا كباراً! ولكنك ستقولين غداّ عندما ترينهم يذهبون مع الأب: ليتهم كانوا صغاراً!)

- 5 -

ص: 3

أخذت (جاني) مصباحها ورداءها وذهبت ترى: هل عاد الزوج، وهل سكن البحر، وهل أشرق الصبح، وهل ومض النور في سارية الإشارة؟

هاهي ذي تسرع الخطى في الطريق، ولكن هواء الصبح لم يهب، وضياء الفجر لم يلح. وكانت السماء تمطر؛ ولا تجد أشد ظلاماً من مطر الصباح! كأنما كان النهار يضطرب مخافة أن يوجد، وكأنما كان الفجر يبكي كالطفل ساعة يولد!

وعلى حين فجأة لاح لعينيها وهما تتحسسان الطريق كوخ واهي الدعائم قاتم الأعماق فلا نور ولا نار. له باب لا يستقر من الريح، وعليه سقف لا يسكن من القلق، ومن فوقه تعبث الريح الصرصر بهشيم من القش الأصفر الكريه المنظر؛ فقالت (جاني):(عجيب! ما لي لم أفكر في هذه الأرملة الفقيرة التي عثر عليها زوجي ذات يوم وهي وحدها تكابد غصص المرض؟! لا بد أن أعود لأنظر ما حالها!)

قرعت جاني الباب وتسمعت فلم يجبها أحد. فقالت لنفسها وهي تنتفض من البرد: (لا تزال مريضة؛ وأولادها، لا ريب، يقاسون سوء التغذية! لم يبق للمسكينة غير طفلين!) ثم طرقت الباب ثانية ونادت: يا جارتي! يا جارتي! فلم يرد عليها أحد.

فقالت جاني: لقد أثقلها النوم فلا لابد من تكرار الطرق ومعاودة النداء. ولكن الباب في هذه اللحظة أدركته نفحة من عناية الله فانفتح من ذات نفسه!

- 6 -

دخلت جاني الكوخ المظلم الصامت ونور مصباحها يسعى بين يديها، فوجدت سقفه كالغربال لا يمسك المطر، ورأت في صدره امرأة هامدة لا نبض بها ولا حس! قدماها عاريتان، وعيناها مظلمتان، وهيئتها فظيعة. كانت هذه هي الأم المرحة التي قضت حياتها الأولى في بهجة وقوة، فلم تزل الأيام والآلام تعُركها وتريحها وتيريها حتى لم يبق منها غير هذا الهيكل. كانت إحدى ذراعيها قد تدلت على جانب الفراش الخشن، وكان فمها المغفور ينبعث منه الرعب بعد أن لفظ الروح وهي تصيح صيحة الموت إذا سمع نداء الأبد

وعلى مقربة من سرير الميتة كان طفلان ذكر وأنثى ينامان باسمين في مهد واحد. وكانت

ص: 4

الأم حين أحست دبيب المنية قد وضعت معطفها على قدميهما، وثوبها على جسميهما، حتى يحسا الدفء في الساعة التي تسري في جثمانها برودة الموت!

- 7 -

كان الطفلان ينامان ملء الجفون في مهدهما النابي القلق؛ وكان المطر يهدر خارج الكوخ هدير السيل، والسقف العتيق يُساقط الحين بعد الحين على جبين الميتة قطرة، فتسيل على خدها الشاحب فتكون عَبرة؛ وكان الموج يصلصل كناقوس الخطر، والميتة تتسمع في الظلام والسكون في هيئة الأبله؛ لأن الجسم متى فارقته الروح بدت عليه حال الباحث عنها. وكأنك تسمع هذا الحوار بين الفم الذابل والعين الحزينة:

تقول العين للفم: ماذا صنعت بزفراتك؟

ويقول الفم للعين: وماذا صنعتِ أنتِ بنظراتك؟

وا أسفاه! عيشوا أيها الناس وأحبوا، وارقصوا، واضحكوا، واقطفوا الزهور، وارشفوا الغور، واحرقوا القلوب، وأفرغوا الكؤوس، فإن الله قد جعل مآل كل لذة إلى القبر، كما جعل مآل كل نهر إلى البحر!

- 8 -

ماذا صنعت جاني عند الأرملة الميتة؟ ماذا تحمل تحت ردائها الضافي وهي تمشي؟ لماذا يخفق قلبها وتسرع خطاها؟ لماذا تعدو في الطريق ولا تجرؤ أن تلتفت؟ أي شيء في الظلام خفية على السرير؟ ليت شعري ماذا سرقت جاني؟

- 9 -

عادت جاني بما تحمل إلى بيتها، ثم وضعت كرسياً بجانب السرير وجلست عليه ساهمة الوجه كأنما تعاني وخز الضمير. ثم ضاق ذرعها بما تجد فألقت جبينها على حافة السرير وأخذت تغمغم بهذه الكلمات المتقطعة:

وا حسرتاه عليك يا زوجي المسكين! رباه! ماذا عسى أن يقول؟ ألا يكفيه ما يحمل من الهم؟ وهل فضل كدحه المرهق عن قوت أطفاله الصغار حتى أثقل كاهله بهذا العبء الجديد؟ أهو هذا؟ كلا! لا شيء. لئن ضربني زوجي لأقولن له: حسناً فعلت

ص: 5

أهو هذا؟ كلا! حسن! إن الباب يتحرك كأن إنساناً دخل، ولكن لا

رباه! مالي أصبحت الآن أخشى عودة زوجي؟

ثم اعتراها الوجوم فظلت ساهمة تغوص في الهم كما يغوص الغريق في اللجة؛ ثم فقدت الشعور بالدنيا فلم تسمع في الخارج حركة ولا ضجة

انفتح الباب فجأة فانسكب في الكوخ شعاع أبيض، ثم لاح الصياد على العتبة يجر شبكته وهي تقطر من البلل ويقول بلهجة المبتهج: تلك مهنة البحر!

- 10 -

رأت جاني زوجها فهتفت به وعانقته عناق الحبيب. وكان الزوج في أثناء ذلك جذلان يقول: هأنذا يا امرأتي! ثم ينعكس على جبينه الذي يضيئه نور الكانون، قلبه المسرور الطيب الذي يضيئه حب جاني

- كيف كان الجو؟ - كان قاسياً. وكيف كان الصيد؟

- كان سيئاً! ومع ذلك أجدني قد وجدت السرور والراحة حين قبلتك!

لقد خرقت شباكي ولم أصد شيئاً! ما كان أهول ذلك الجو! لقد كان يخيل إليّ أن الشيطان ينفخ في الهواء، وأن السفينة المضطربة توشك أن ترقد في الماء!

- وأنت ماذا صنعت في هذا الجو القاسي؟

فاستقلت الرعدة جاني وقالت:

- أنا؟ لا شيء. لقد كنت أخيط كالعادة؛ وكنت أسمع البحر يزمجر كالرعد فتدركني روعة شديدة

- أجل إن الشتاء شديد؛ ولكن الزمن كله في حياتنا سواء! ثم قالت جاني وهي تضطرب اضطراب من فعل شرا:

- إن جارتنا الأرملة قد ماتت. ولعل موتها كان في عشية الأمس بعد أن خرجت أنت. لقد تركت طفلين صغيرين: غليوم ومادلين. ذاك يحبو ولا يمشي، وتلك تغمغم ولا تبين. لشد ما كابدت هذه المرأة الصالحة برحاء الهم والفقر!

فلما سمع الرجل هذا الخبر اتخذ هيئة الجد ورمى بقبعته المبللة في كسر الكوخ ثم قال وهو يحك بأظفاره جلدة رأسه:

ص: 6

- يا للشيطان! إن لنا خمسة أطفال فهل يصبحون سبعة؟ إننا في هذا الفصل الشديد نقضي بعض أيامنا على الحساء فماذا نصنع؟ ليس الذنب ذنبي؛ إنما هي مشيئة الله. إن من الحوادث ما يحار في تعليله الفكر. لماذا حرم الله هذين الطفلين أمهما وهما في هذه السن وهذه الحاجة؟ لا جَرَم أن أعمال الله لحكمة، ولكنها كثيراً ما تخفى على غير البصير

اذهبي يا جاني فأتي بهما. إني لأخشى أن يستيقظا فيستشعرا الخوف من وجودهما وحيدين مع الميتة

أبقي بهما يا جاني نخلطهما بأبنائنا، ونشركهما في سرائنا، وأنا واثق أن الله سبحانه وتعالى سيرزقنا من حيث لا نحتسب، ويبارك صيدنا فنكتسب أكثر مما كنا نكتسب

ماذا بك يا جاني! أهذا يغضبك؟ ما لك لا تسرعين إلى تنفيذ رغبتي كالعادة!

فلم يكن جواب جاني إلا أن كشفت الستار وقالت متهللة:

(هاهما ذان!!)

أحمد حسن الزيات

ص: 7

‌الإسلام والعلاقات الدولية

للأستاذ الشيخ محمود شلتوت

وكيل كلية الشريعة

(تتمة)

(جـ) - وسائل إنهاء الحرب

إن الإسلام شديد الحرص على تحقيق السلم والطمأنينة للعالم فهو يطلب إلى المسلمين أن يدخلوا في السلم كافة ولا يتبعوا خطوات الشيطان؛ ويقول لرسوله الكريم: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)

(ا) وهو يصل إلى ذلك من طريق المفاوضات كما هي العادة الطبيعية فيتقبل فيه وساطة الرسل وسفارة السفراء من غير أن يتكلف لذلك رسوماً خاصة تؤدي إلى التعقيد أو تثير الإشكال.

(ب) ولا تختص المعاهدات في نظر الإسلام بإنهاء حالة الحرب. ولكنه يقرر أنواعاً من المعاهدات على حسب ما تقضي به الظروف التي يترك للمسلمين تقديرها والعمل بما توحي به في حالتي السلم والحرب

1 -

فهو ينشئ المعاهدات إبقاء على حالة السلم الأصلي وحفظاً له من أن يخدش

ومن ذلك ما عاهد عليه النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب لأول عهده بالمدينة وقد كانت هذه المعاهدة أول حجر في بناء الدولة الإسلامية، كما كانت أول علاقة سياسية ينشئها الإسلام ويعترف فيها بحرية العقيدة وحرية الرأي، ويحفظ بها على المسلمين أمنهم وسلامتهم وحرمة حياتهم ومدينتهم

2 -

وينشئ المعاهدات للتحالف الحربي بينه وبين غير المسلمين، ويرشد إلى هذا النوع من المعاهدات قول النبي صلى الله عليه وسلم:(ستصالحون الروم صلحاً تغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم). وقد وقع للمسلمين كثير من هذا النوع من المعاهدات في ذكرياتهم الماضية، وقد حارب النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً وفاء بعهد خزاعة الذي حصل يوم الحديبية.

ص: 8

3 -

وينشئ المعاهدات لإنهاء الحرب إنهاء مؤقتاً، وهي المعروفة باسم الهدنة أو الموادعة، وذلك كما حصل في معاهدة الحديبية ولإنهائها إنهاء دائماً، وذلك كما حصل مع أهل نجران على أن يكونوا تحت حماية المسلمين في مقابلة ارتضوها

4 -

وهناك نوع آخر من المعاهدات يترك فيه للدولة المعاهدة استقلالها الداخلي تحت ظل من السيادة كما فعل معاوية رضي الله عنه في عهده للأرمن. فقد ترك لهم حريتهم في بلادهم وأن يعينوا أمراءهم وقضاتهم ورؤساءهم، ويحتفظوا بتقاليدهم الدينية والعسكرية

(جـ) والإسلام يترك للمسلمين تقدير المصلحة في كل نوع من هذه المعاهدات ولا يقيدهم في ذلك بشيء إلا بشرط واحد: هو ألا تمس المعاهدة قانونه الأساسي ولا تتعارض مع شريعته العامة.

والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، وشبيه بهذا ما تقوله الدول من أن المعاهدات التي لا تتفق مع الدستور باطله

ولا يستخدم الإسلام ذلك الشرط لمصلحة المسلمين فقط. وإنما يطبقه لمصلحة أهل العهد أنفسهم، ومن هنا يقول الفقهاء:(لو طلب ملك عهد الذمة على أن يترك وما يحكم به أهل مملكته من القتل والظلم والفساد، فلا يصح في الإسلام أن يجاب إلى ذلك، لأن التقرير على الظلم مع قدرة المنع منه حرام)

(د) والإسلام يبيح للمسلمين عند الضرورة أن ينزلوا عن بعض حقوقهم، أو يصالحوا غيرهم على أن يبذلوا له مالاً طلباً لخير يرونه فيما بعد، واتقاء لشر يخافونه على أنفسهم. ولنا في صلح الحديبية أوضح مثال على سماحة الإسلام ومرونته في سبيل الحصول على السلام

(هـ) ومما يتصل بمعاهدات الصلح تقرير الإسلام لمبدأ الجزية وليست الجزية - كما يتصورها بعض الناس - بدلاً عن إسلامهم أو عن دمائهم، وإنما هي علامة على خضوعهم، وكفهم عن الفتنة واعتراض سبيل الدعوة، ومعونة تهيئ لهم الاشتراك في مصالح الدولة، والارتفاق بما يرتفق به المسلمون. يقابلها من جانب المسلمين فوق ذلك حمايتهم من الاعتداء عليهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم

وقد جاء في كتاب الخراج للإمام أبي يوسف أن أبا عبيدة بعدما صالح أهل الشام وجبى

ص: 9

منهم الجزية والخراج بلغه أن الروم قد جمعوا للمسلمين جموعاً لا قبل لهم بها. فكتب إلى أمراء المدن المصالحة: (أن ردوا على أهل الذمة ما جبيتم منهم من جزية وقولوا لهم إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وأنكم قد شرطتم علينا أن نمنعكم؛ إنا لا نقدر على ذلك وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن على الشرط وما كتب بيننا وبينكم إن نصرنا الله)

ولهذا لم ينس الإسلام فيها واجب المروءة والرحمة. فهو لا يجيز أن توضع على امرأة ولا صبي ولا ضعيف عاجز عن الكسب، ولا على الرهبان الذين لا يخالطون الناس

(و) هذا والإسلام يحتم على المسلمين أن تكون سياستهم في العهود على وجه عام مبنية على التراضي وحب السلام وإقرار الأمن والعدالة. وهو يمقت العهود التي يكون أساسها القهر والغلبة وتحكيم القوة ويمقت الخداع والخيانة في العهود. ويصف الناقضين للعهد بأنهم شر الدواب عند الله. ويأمر بالاشتداد على الخائنين الذين لا يرقبون إلاً ولا ذمة. ويوجب أن يكون نبذ العهد إذا جد ما يقتضيه على سواء بينه وبين الخصوم. بل يوجب تمكين العدو من إيصال خبر النبذ إلى أطراف بلده وأنحاء مملكته

وفي ذلك يقول الكمال بن الهمام، وهو بصدد قوله تعالى:(وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين)

(إنه لا يكفي مجرد إعلانهم بل لابد من مضي مدة يتمكن فيها ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته. ولا يجوز للمسلمين أن يغيروا على شيء من أطرافهم قبل مضي تلك المدة)

ويجمل بنا في هذا المقام أن نسوق آية من الكتاب الكريم هي بحق دستور الإسلام في الوفاء بالعهود. قال تعالى:

وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون، ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة)

(ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم)

ص: 10

وقد بلغ من حرص الإسلام على الوفاء بالعهود أنه لم يبح للمسلمين أن ينصروا إخوانهم المقيمين في بلاد أعدائهم. الذين لم يهاجروا منها - على المعاهدين وفي ذلك يقول القرآن الكريم في سورة الأنفال

والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق)

هذه صورة مصغرة لأهم القواعد التي نظم بها الإسلام علاقة المسلمين بغيرهم من الدول

معاملة الدولة الإسلامية لمن يعيش في بلادها من غير

المسلمين

كما نظم الإسلام العلاقات الدولية العامة على الأسس التي أوضحنا. وضع أساساً صالحاً لتنظيم معاملة غير المسلمين الذين يقيمون في بلاد الإسلام

يقوم ذلك الأساس على ما يأتي:

1 -

اشتراكهم مع المسلمين في الحقوق والواجبات العامة

2 -

تركهم وما يدينون من غير تحكم في عقائدهم ولا في كنائسهم ولا في رسومهم وطقوس عباداتهم ما دامت على وجه لا يفتن المسلمين في دينهم

3 -

جواز الرجوع بهم في مسائلهم الخاصة إلى حاكم منهم، وأن يحكم الحاكم المسلم بينهم بمقتضى ما يدينون به

4 -

الإحسان إليهم في الروابط الاجتماعية العامة على حدود ما بين المسلمين بعضهم مع بعض

وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصايا كثيرة في حسن معاملتهم والتوصية بهم

موازنة

هذه هي القواعد التي ينظم بها الإسلام العلاقات الدولية عامة كانت أم خاصة

وضع أساسها القرآن وبينتها السنة. وشرحها عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده. ثم تناولها التابعون وفقهاء المسلمين فأعملوا فيها الرأي والتخريج شأنهم في الشريعة كلها حتى اتسع نطاقها لتنظيم كل ما يجد من مظاهر العلاقات على وجه يحقق

ص: 11

النفع العام والسلام الشامل

وضع الإسلام هذه القواعد وعرفها علماؤه وفقهاؤه في وقت كانت فيه دول الحضارة الغابرة تتعثر في عادات جافة لا تعرف للإنسانية حقاً ولا تقيم للعدالة والسلام وزناً. ثم تلتها دول الحضارة الناشئة فأخذت تخطو في آثار الحضارة الغابرة حتى أسس فقيه هولندي في القرن السابع عشر ما سماه القانون الدولي الحديث ووضعه على مبادئ القانون الطبيعي الذي يرفض القانونيون الآن الاعتماد عليه كقانون له احترام القوانين. ولقد حاول العالم أن يضمن السلام في عصرنا الحاضر بالرجوع إلى هيئات دولية محكمة ولكن المجازر البشرية الدائرة الآن في أقاليم الأرض تنطق بالفشل الذريع الذي أصاب العالم في الوصول إلى غايته

فأين هذا من قواعد الإسلام الصريحة العادلة. وأين لهم ضمان كضمان الإسلام إذ يجعل هذه القوانين أحكاماً تكليفية دينية لا يسع المسلمين بمقتضى تدينهم إلا أن يرعوها حق رعايتها ويعملوا على تنفيذها وتحقيقها سواء فيما يختص بهم أم بغيرهم. فهذا وذاك شرع الله الذي لا مناص من النزول عليه والعمل بمقتضاه من غير تفرقة بين مسلم وغير مسلم. ويقول فيه (ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم)(أن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وأن كثيراً من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)

اقتراح

يذكرني مؤتمر رابطة الإصلاح الاجتماعي في عرضه هذه الموضوعات على بساط البحث - بمؤتمر القانون الدولي المقارن الذي عقد في سنة 1937 بمدينة لاهاي وقد مثلت فيه الشريعة الإسلامية بموضوعين عظيمين: علاقة الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني. والمسئولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية

وقد ظفرت الشريعة في هذا المؤتمر الأوربي بقرارات أهمها: أن الشريعة الإسلامية شريعة مستقلة وأنها صالحة لمجاراة التطور الحديث. وقد أوصى المؤتمرون هيئة المؤتمر بأن تعني في أدواره المقبلة أشد العناية بمسائل التشريع الإسلامي. وأن تدعو إلى الاشتراك

ص: 12

في أعماله ودراساته أكبر عدد ممكن من أقطار المسلمين

وأني لأنتهز هذه الفرصة فأقترح على مؤتمر رابطة الإصلاح الاجتماعي المصري المسلم أن يعمل منذ الآن على إعداد العدة لإقامة مؤتمر عالمي تكون مهمته استخراج القواعد الشرعية التي تتخذ أساساً لتقنين شرعي - يظهر به جلال هذه الشريعة وحسن ضمانها لمصالح الناس مهما تقدمت حياتهم وتطورت حضارتهم.

هذا هو اقتراحي أتوجه به من هذا المنبر إلى جميع رجال الفكر في مصر والشرق - أتوجه به إلى ملوك الإسلام وفي مقدمتهم حضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم الغيور على دينه الحريص على شريعته.

أتوجه به إلى علماء الشريعة وعلى رأسهم عالمان عظيمان من أفذاذ علماء الإسلام لهما تاريخ مشهود في التخريج الفقهي والتطور التشريعي الإسلامي: الأستاذ الأكبر والمفتي الأكبر

أتوجه به إلى رجال الحقوق ومن خرجت من رجال القانون الحريصين على خدمة شريعتهم وإعلاء شأنها بين القوانين الحديثة أتوجه به إلى هؤلاء جميعاً واحملهم إياه أمانة يسألون عنها أمام الأبناء والأحفاد ويسألون عنها أمام الله والرسول (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون. . .)

محمود شلتوت

ص: 13

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

امتحان جديد - فلان وفلان - محصول (الرسالة) - أقسمت

بالخمر والنساء - الإفراج عن ديوان (سبط ابن التعاويذي -

الصلات الأدبية بين مصر والسودان - الأستاذ محمد فريد أبو

حديد - لا تنسوا أندية السودان

امتحان جديد

ومن المحنة جاء الامتحان، كما جاء الابتلاء من البلاء!

وقد امتُحِنت مصر في هذه الأيام بضروب من الخوف والجوع بسبب الغارات الجوية، فما الذي أعددناه لنخرج من هذه المحنة بسلام؟

السياسة الرسمية للسياسيين الرسميين، أما السياسة القومية فمُلقاة على عواتقنا، إن كنا أهلاً للظفر بثقة الوطن الغالي، فما واجبنا اليوم وقد وجدت شؤون لا يباح معها لعب ولا مزاح؟

قيل إن الذين هاجروا من الإسكندرية سبعون ألفاً أو يزيدون، فإلى أين تتوجه تلك الألوف؟

ندع الحكومة تدبر من هذه الشؤون ما تستطيع، ثم نلتفت إلى أغنيائنا فنقول:

هذه فرصة سنحت لشكر الله على نعمة الغنى والعافية، والأمان، فماذا عندكم من فنون الشكر والحمد والثناء على واهب الغنى والعافية والأمان؟

إن كان الله ابتلى فريقاً من الفقراء بتعريضهم للخوف والجوع فقد ابتلى جماعات الأغنياء بتعريضهم للشح والبخل في أوقات لا يبخل فيها غنيُ بماله إلا وقد عرض نفسه لغضب صاحب العزة والجبروت

قلت خمسين مرة: (إن الأمم بأغنيائها) ولمثل هذه الأيام الفواجع أعددنا أغنيائنا، ليزدادوا قوة إلى قوة، فما ينمي الخيرات والثمرات غير الجود بها في أوقات البلاء

هذا يوم الامتحان، وهو امتحان يؤديه أغنياؤنا طائعين لا كارهين، فما نحب أن يكون عليهم رقيب غير ضمائرهم، ولا نقبل أن تتدخل الحكومة لحملهم على البر والإفضال

ص: 14

فيضيع المعنى الشعري الجميل، الذي يمثل رفق الأغنياء بالمهاجرين الفقراء، عن طيب نفس وبلا انتظار لأمرٍ يصدر من هنا أو هناك!

أغنياؤنا اليوم مدعوّون لوليمة روحية لا تتاح في كل يوم، فأمامهم فرصة للشعور بمعاني جديدة لم يشعروا بمثلها من قبلُ، الشعور بمعاني الكرم والإيثار والإفضال، وهي معانِ أشهى وأطيب من الأنس بالمال المكنوز في أوثق الحصون

فالبائس الذي يكرمونه اليوم، ليس صُعلوكاً يتسول حتى يملكوا كف أيديهم عن الإحسان إليه، وإنما هو أخُ مواطن صدته الظروف القواهر عم مواصلة عمله في مدينة معرضة لعدوان الباغين على الحق وعلى الإنسانية

وهذا المواطن المصدود عن طلب الرزق يستطيع أن يؤدي خدمة تنفعه وتنفعكم إذا أردتم أن يدفع ثمن القوت والإيواء.

نحن لا ندعوكم إلى تدليل المهاجرين حتى ينسوا أن الدنيا دار كفاح ونضال، وإنما ندعوكم إلى تيسير وسائل الرزق الحلال لمن يستطيعون أن يعملوا بلا إجهاد ولا إرهاق

أما الذين لا يصلحون للعمل من الأطفال والعجائز، فهم غيوث تساق إليكم، وما أسعد من تواتيه الظروف على تربية طفل يتيم، أو إسعاد عجوز فقد من يعوله من أهل وأبناء!

جربوا هذه الألوان من طعوم الحياة، يا أبناء هذه البلاد جربوها ثم حدثوني عما وجدتم من شهي المذاق

سبعون ألفاً يبدَّدون كما يبدَّد العِقد المنظوم؛ ثم لا يلتفت إليهم أحد من الأغنياء التفاتة الرفق والعطف والإشفاق؟

فلأي يوم ادخرنا أغنياءنا، إن لم نكن ادخرناهم لمثل هذا اليوم؟

الرفق باليتامى لا يمر بلا جزاء، والإشفاق على المنكوبين لا يفوت بلا ثواب، وإن الله لينظر إلى ما تعاملون به أولئك وهؤلاء، فما أنتم صانعون؟

سيخرج المحاربون بمغانم جديدة أقلُها القدرة على تعديل صحائف التاريخ

فما غنائمنا في هذه الحرب؟

ما غنائمنا إن لم نفز بفتح جديد هو تفجير ينابيع العطف والتآخي في الصدور المصرية؟

وما قيمة الحياة إن لم نذق فيها من طعوم الرغد غير الشبع والريّ في عزلة عن بلايا

ص: 15

المجتمع؟

ما قيمة الحياة إن لم نثق بأننا أهل لإغاثة الملهوفين حين يعتسف البلاء؟

رحمة الله على أيامنا السوالف، ثم رحمة الله على ليالينا الخوالي!!

كنا أجود من الغيث حين نسمع بنكبة حلت بشعب من الشعوب، ولو ضَعُفت بيننا وبينه الأواصر والصلات، ألم يتوجع شعراؤنا الكبار للزلازل التي وقعت في بلاد الطليان وبلاد اليابان؟

ألم نؤلف اللجان لمنكوبي الحرب الفلندية؟

فما سكوتنا اليوم والنكبة حلت بسكان الإسكندرية وطن الفتوة والجمال؟

كان مصطفى كامل يقول: الإسكندرية معقل الحزب الوطني

وكان سعد زغلول يقول: الإسكندرية معقل الوفد المصري.

وكذلك كانت الإسكندرية مدينة مدّللة يتودد إليها جميع الأحزاب، فما حالها اليوم في أنفس الزعماء؟

الإسكندرية - مدينتنا البحرية الجميلة - تعاني عذاب التشريد ونحن صامتون صمت الأموات!

الإسكندرية - عروس الماء - التي دانت جميع شعرائنا وكتابنا تنظر اليوم إلى من يواسيها بكلمة رثاء، وإلى من ينظر إلى أبنائها نظرة إشفاق

وإلى من يتوجه أبناؤها المشرَّدون؟ إلى أين؟

أيتوجهون إلى الريف وأهل الريف في أغلب أحوالهم فقراء؟

دعوا هذا الحل، فهو لا ينفع بشيء، واسمعوا كلمة الحق:

يجب أن يكتتب القادرون من الأمة بمبالغ تتفاوت بتفاوت القدرة المالية، ثم يكون ما يُجمع من الاكتتاب ذخيرة تُدبر بها وسائل العيش المقبول لأولئك المنكوبين، على شرط أن يعيشوا من كسب أيديهم في الحدود التي تسمح لهم بالتسبب والارتزاق، وليس ذلك بالأمر المستحيل

وما سبعون ألفاً حين توزّع همومهم على ستة عشر مليوناً؟

أتريدون أن أقول مرة ثانية إنه عدد بلا محصول؟

ص: 16

أغنياءنا، أغنياءنا، أين انتم، أين أنتم؟

إنكم تهربون من منازل التكريم والتشريف، وإلا فكيف جاز ألا يزيد بركم بمنكوبي الغارات عن بضعة آلاف؟

أخرجوا من دنياكم في سبيل المنكوبين من مواطنيكم، لتظفروا بزاد نفيس من رضا الله الذي تفضل فأسبغ عليكم أثواب الغنى والعافية والأمان

أخرجوا من دنياكم، لتعودوا إليها أعزاء، فالله لا ينسى ولن ينسى من يخرج من دنياه لمواساة المكروبين

الله عز شأنه يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)

فهل علمتم أن هنالك وعداً أرحب من هذا الوعد؟

هو قول الله عز شأنه: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء)

وما عسى أن يكون الإنفاق في سبيل الله إن لم يكن في مواساة من دعوناهم لحفظ الحياة في أجمل المدائن، ثم نكبهم الدهر اللئيم بما أراد؟

أليس من الكرب الماحق أن تدعونا الكوارث إلى استدرار العطف على المنكوبين من أهل الإسكندرية وكانوا أشجع الناس وأسعد الناس؟

لو كنا نملك من أمورنا ما نريد لأقمنا قبوراً من الياقوت لمن عدا عليهم الموت من أهل الإسكندرية، فما كانوا إلا ذخيرة من أكرم ذخائر الوطن الغالي، فكيف نضن بالعطف على أحيائهم المنكوبين بالغارات، وكان آباؤهم وأجدادهم أمل الوطن في حماية ذلك الثغر الجميل؟

إسكندرية!! إسكندرية!!

إليك أقدم تحيتي وعزائي!

فلان وفلان

من عادتي أن أنوه بما يقوله فيَّ أعدائي، وأن أسكت عما يقوله في أصدقائي، رغبة في السلامة من آصار التكبر والازدهاء

ولو أني أطعت الأستاذ الزيات لكان لي مع أصدقائي حال غير هذه الحال، فهو يدعوني من

ص: 17

وقت إلى وقت لتلخيص رسائل قرائي، ولكن أعتذر لتحقيق المعنى الذي أشرت أليه، وهو السلامة من التكبر والازدهاء

فهل أستطيع اليوم أن أقول إني شعرت بالرهبة حين قرأت خطاب الأديب (رضوان العوادلي)؟ وهل أملك التصريح بأن خطاب الأديب (أحمد العجمي) أوقعني في زلزال، وكأنه خطاب الأديب (شلتوت) أو خطاب الأديب (أنور الحلبي)؟

إن لقرائي فضلاً لن أنساه، فهم يحببون إلي الدنيا والوجود، وهم يسوقونني سوقاً إلى الاعتزاز بسنان القلم وسلطان البيان

ولكن لي عليهم حقاً يفوق حقوقهم عليّ، وهو دعوتهم إلى أن تكون لهم غاية وطنية وروحية فإني أرى لهم قدرة على التعبير الجميل، وتلك موهبة يعز علينا أن تضيع

هل يذكرون أني حدثتهم مرة بأني لم أشرب فنجان قهوة في غير داري قبل أن أظفر بإجازة الدكتوراه وقبل أن أبلغ الثلاثين؟

شبابكم، شبابكم، يا قرائي، من أبناء الجيل الجديد

إحذروا، ثم إحذروا، أن تضيع من دمائكم قطرة في غير الواجب

وتذكروا، ثم تذكروا، أنكم خلفاؤنا في الحياة الأدبية والفلسفية

واعرفوا، ثم اعرفوا، أن المجد الأدبي لا يُنال بالأماني، وإنما يُنال بالجهاد الشاقّ، فكونوا عندما نريد لكم من كرائم الآمال، ثم تيقنوا أن الدنيا لكم إذا واجهتموها بعزائم المجاهدين الصادقين

كتب الله لكم عافية البدن، وطهارة القلب، وسلامة الروح

محصول (الرسالة)

بين الموظفين برياسة مجلس الوزراء أديب يتخير الأطايب من محصول (الرسالة) ثم يدونه في دفتر خاص، وقد لاحظت أنه لا يتخير إلا الفقرات الموسومة بالرصانة والرنين، وفي هذه الكلمة أوجه نظره إلى أن الكلام قد يصل إلى أوج القوة وإن لم يظهر أن صاحبه قد احتفل بالأسلوب

ومن أمثلة ذلك قول الأستاذ محمود الشرقاوي في وصف شمائل صاحب البلاغ:

(كان محرر السينما والمسرح بالبلاغ في إحدى السنين شاَّباً قليل الخبرة، ولو أنه طاهر

ص: 18

النفس، فكتب عن إحدى الممثلات المصريات كلمة ذات وجهين أحدهما قبيح، وتحدثت هي في ذلك بالتليفون إلى عبد القادر باشا، وبعد لحظة دعا ذلك المحرر عنده وعنّفه أشد التعنيف، وأمر بفصله من (البلاغ) وكان كثيراً ما يفعل ذلك معه ومع غيره ثم يعفو، ولكنه في هذه المرة لم يقبل فيه شفاعة شافع، ولم يرى العاملون مع عبد القادر حمزة أنه غضب من شيء بمثل ما غضب في ذاك)

فهذه الفقرة بسيطة جدا، ولكنها قوية جداً، بفضل قوة المعنى الذي انطوت عليه إظهار الغضب على من يستبيحون غمز الأعراض

ولم يتسع وقت الأستاذ الزيات لرثاء عبد القادر حمزة في إحدى افتتاحياته التي يحتفل بتجويدها كل الاحتفال، فكتب في البريد الأدبي كلمة قصيرة، ولكن تلك الكلمة على قِصرها أدت الواجب في توديع صاحب البلاغ أجمل أداء، وأكاد أحسبها لخصت تاريخ صاحب البلاغ أبرع تلخيص

والمهم هو تذكير أصدقاء الرسالة بواجب فكرت فيه مرات كثيرة ثم صرفتني عنه الشواغل، وهو تعقّب كل عدد بالنص على ما فيه من دقائق تفوت بعض القراء

لو قام بهذا الواجب أحد أصدقاء الرسالة لنص على العذوبة في قول الشاعر محمود حسن إسماعيل

الليلُ ناداني

من عالمٍ ثانِ

وقال: يا فاني

هيّجت أحزاني

فهذا والله من نفيس الكلام، كما كان يعبّر محمد بن داوود طيّب الله ثرَاه!

أقسمت بالخمر والنساء

كان الأستاذ (محمد لطفي جمعة) قال في كلمة نشرها بجريدة الدستور: إن الشاعر علي محمود طه أول من أقسم بالخمر والنساء حين يقول:

أقسمت بالخمر والنساءِ

ومجلس الشعر والغناءِ

وهذا حق، ولكن فات الأستاذ لطفي جمعة أن ينص على أسماء بعض الشعراء الذين سرقوا هذا المعنى من شاعرنا المهندس ليبيّن فضله في إذاعة المبتكرات من المعاني الشعرية

ولو أنه وفىّ هذا البحث بعض حقه لأشار إلى أن سبط ابن التعاويذي المتوفى سنة 584

ص: 19

في بغداد كان من بين الذين سرقوا معنى الشاعر علي محمود طه، فقد رأيته يقول:

أما وحقِّ المُدام صِرفاً

يخجلُ من لونها الشقيقُ

وكلِّ هيفاَء ذاتِ دَلٍ

يقتُلني قدُّها الرَّشيقُ

يشكو إلى رِدفها المعبَّا

من جورِه خصرُها الدقيق

للصبِّ من وردِ وجنتيها

وِرْدٌ ومن ثغرها رحيق

إلى آخر ذلك القسم الطريف

وهذه خدمة أكرِم بها صديقي شاعر (الجندول) أعزَّه الحبُّ ورعاه!

الإفراج عن ديوان السبط

وبهذه المناسبة أقول: إن الظروف سمحت بالإفراج عن ديوان (سبط ابن التعاويذي)، فقد كان معتقلاً في (مكتبة هندية) ثم اشترته (المكتبة التجارية) فهو اليوم في متناول من يشتاق إليه من عشاق الشعر البليغ

ولكن كيف وقع ذلك الاعتقال؟

كان الديوان قد نشر بعناية المستشرق مَرجُليوث؛ ثم مرَّت عليه أعوام وهو محبوس، لأسباب لا نعرف سرها الصحيح!

فإلى مرجليوث في قبره نوجِّه صادق الثناء على ذلك الجهد المحمود.

الصلات الأدبية بين مصر والسودان

أنست القاهرة بوجوه الأساتذة الاماجد حسن مأمون، وعبد العزيز عبد المجيد ومحي الدين عبد الحميد، وهم يلهجون بالثناء على ما رأوا عند عرب السودان من أريحية ومروءة وإخلاص. وقد عرفنا أن إقامتهم هناك من أطيب الفرص في حياتهم العلمية والأدبية؛ فأهل السودان أهل جِد، ولا يلقى بينهم أهل العلم إلا أكرم الرعاية والترحيب. وقد شعرتُ بالسرور يغمر قلبي حين حدثوني أن الحياة الأدبية هناك تفوق ما نتصوره بمراحل طوال، ولا غرابة في ذلك: فالصلات الأدبية بين شطرَي الوادي تعين على تحقيق ما نرجوه لأهل السودان من التفوق في الأدب والبيان

وقد انتفعت بمعارف الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد عن الحياة في السودان، وهي معارف

ص: 20

صدرت عن قلبٍ يحب أولئك الرجال حب الشقيق للشقيق

محمد فريد أبو حديد

وفي هذه الأيام ترد الأخبار بأن الأستاذ محمد فريد أبو حديد استُقبِلَ بحفاوةٍ عظيمة في الأندية الأدبية بالخرطوم، وأنه دُعِي لإلقاء طائفة من المحاضرات، ومن المؤكد أنه ظفر من إخواننا هنالك بالإعجاب، بفضل ما يملك من صفاء الفكر وجمال الأداء، وإنه لأهل لما لَقِيَ من جميل الترحيب

ومن طريف ما وفق إليه أنه حمل خمس مجموعات من مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر وأهداها إلى الأندية الأدبية في الخرطوم. والذي يعرف مطبوعات هذه اللجنة يدرك قيمة الفرح الذي قوبلت به تلك النفائس

فهل أستطيع أن أرجو أستاذنا مدير دار الكتب المصرية أن يتذكر أندية السودان حين يُهدي مطبوعات دار الكتب إلى الأندية الأدبية والعلمية؟

وهل يتفضل معالي وزير المعارف فيشير بإهداء أندية السودان طائفة من مطبوعات المجمع اللغوي ومطبوعات كلية الآداب؟

زكي مبارك

ص: 21

‌في الاجتماع اللغوي

اللهجات العامية الحديثة

ضيق متنها وقلة مترادفاتها

للدكتور علي عبد الواحد وافي

أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول

- 4 -

من أهم ما تمتاز به العربية أنها أوسع أخواتها السامية ثروة في أصول الكلمات والمفردات. فهي تشتمل على جميع الأصول التي تشتمل عليها أخواتها السامية أو على معظمها، وتزيد عنها بأصول كثيرة احتفظت بها من اللسان السامي الأول، ولا يوجد لها نظير في أية أخت من أخواتها. هذا إلى أنه قد تجمع فيها من المفردات في مختلف أنواع الكلمة اسمها وفعلها وحرفها، ومن المترادفات في الأسماء والصفات والأفعال. . . ما لم يتجمع مثله للغة سامية أخرى، بل ما يندر وجود مثله في لغة من لغات العام. فقد جمع للأسد خمسمائة اسم، وللثعبان مائتا اسم؛ وكتب الفيروزابادي صاحب القاموس المحيط كتاب في أسماء العسل؛ فذكر له أكثر من ثمانين اسماً، وقرر مع ذلك أنه لم يستوعبها جميعاً. ويرى الفيروزابادي أنه يوجد للسيف في العربية ألف اسم على الأقل؛ ويقرر آخرون أنه يوجد أكثر من أربعمائة اسم للداهية؛ ويوجد لكل من المطر والريح والنور والظلام والناقة والحجر والماء والبئر أسماء كثيرة تبلغ عشرين في بعضها وتصل إلى ثلثمائة في بعضها الآخر. وقد جمع الأستاذ دو هامر المفردات العربية المتصلة بالجمل وشئونه، فوصلت إلى أكثر من خمسة آلاف وستمائة وأربعة وأربعين. وكذلك الشأن في الأوصاف: فلكل من الطويل والقصير والكريم والبخيل والشجاع والجبان. . . في اللغة العربية عشرات من الألفاظ

وفي ذلك تختلف العربية الفصحى اختلافاً كبيراً عن اللهجات العامية الحديثة المتشعبة عنها. فمتون هذه اللهجات ضيقة كل الضيق لا تكاد تشتمل على أكثر من الكلمات الضرورية للحديث العادي، وتكاد تكون مجردة من المترادفات، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في إحدى مقالاتنا السابقة

ص: 22

وقد كان هذا أحد الأسباب التي حملت بعض الباحثين على أن يقف حيال مفردات اللغة العربية موقف الشك الذي وقفه آخرون حيال قواعدها. فزعم أنه لا يبعد أن يكون جامعو المعاجم قد خلقوا كثيراً من هذه المفردات خلقاً لحاجات في نفوسهم

وفساد هذا الرأي لا يكاد يحتاج إلى بيان

فلهجات المحادثة في جميع الأمم تقتصر في العادة على الضروري وتنفر من الكمالي، وتنأى عن مظاهر الترف في المترادفات وما إلى ذلك. ولذلك تتسع دائماً هوة الخلاف بينها وبين اللغة الفصحى في هذه الناحية فليست العربية فذة في هذا الباب، بل تشترك معها فيه جميع (لغات الآداب) أو (اللغات الفصحى) وإليك مثلاً اللغة الفرنسية الفصحى، أو لغة الكتابة، واللغة الفرنسية المستحدثة في التخاطب العادي، فالفرق بينهما في المفردات لا يكاد يقل عن الفرق بين العربية الفصحى واللهجات العامية الحديثة المتفرعة منها

أما جامعو المعاجم فيدلنا التاريخ وتدلنا آثارهم على شدة حرصهم على تحري الحق. فقد استخلصوا معظم ما اشتملت عليه معاجمهم من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن أحاديث الرسول عليه السلام، والآثار العربية في العصر الجاهلي والعصور الإسلامية الأولى، واستخلصوا بعضه من العرب المعاصرين لهم. وكانوا شديدي الحيطة في هذه الناحية إلى حد الإفراط. فكانوا يتحاشون الأخذ عمن تشوب عربيته أية شائبة. ولذلك كانوا لا يكادون يأخذون إلا عن عرب البادية لفصاحة ألسنتهم، وبعد لهجاتهم عن التأثر باللغات الأعجمية، وعزلتهم وقلة احتكاكهم بغيرهم. فكانوا يترقبون مجيء أعراب البادية إلى المدن في التجارة أو غيرها. . . فيستمعون إلى حديثهم ويناقشونهم في مختلف شئون اللغة، ويدونون من فورهم كل ما يهديهم إليه هذا الحديث وترشدهم إليه هذه المناقشة بصدد مفردات اللغة ودلالتها ووجوه استخدامها. وكانوا يتبعون أحياناً ما يسميه علماء اللغة بطريقة (الملاحظة السلبية) فيرحلون إلى البادية ويقضون فيها بين ظهراني الأعراب الأشهر بل السنين، يعاشرونهم ويستمعون إليهم في أحاديثهم الطبيعية، ويدونون ما يقفون عليه في هذا السبيل، وفي ذلك يقول أبو نصر الفارابي في كتابه:(الألفاظ والحروف): والذين عنهم نقلت اللغة العربية من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه

ص: 23

لم يؤخذ عن حضري قط، ولا من لخم وجذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرءون العبرية، ولا من تغلب لمجاورتهم للروم، ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزدعمان لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين لأهل فارس والهند، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم لأهل الحبشة والهند، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة وثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن من المعنيين وغيرهم وقربهم من الجاليات اليمنية، ولا من حواضر الحجاز لأن ألسنة أهلها كانت قد فسدت حينئذ لإمتزاجهم بأمم كثيرة، ويقول ابن خلدون (وكانت لغة قريش أفصح اللغات وأحرصها لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتها، ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزامة وبني كناية وغطفان وبني أسد وبني تميم. فأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة لمخالطة الأعاجم. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية)

وما اتخذوه من وسائل الحيطة حيال القبائل والأمكنة اتخذوه حيال الأزمنة والعصور. فلم يأخذوا إلا عن العصور التي كان فيها اللسان العربي سليماً لم يصبه بعد تبلبل أعجمي ولا انحراف عن أوضاع اللغة الفصحى. ولذلك لم يأخذوا إلا عن عرب الجاهلية والإسلام إلى أواسط القرن الثاني الهجري بالنسبة إلى فصحاء الإحضار، وإلى أوائل الرابع بالنسبة إلى فصحاء البادية؛ وسموا هذه العصور (عصور الاحتجاج). وأهملوا ما عداها مبالغة في الدقة وحرصاً على تحري وجوه الصدق واليقين.

أما الأسباب الحقيقية لكثرة المفردات والمترادفات إلى الحد الذي وصفناه فيرجع أهمها إلى الأمور الآتية:

1 -

أن طول احتكاك لغة قريش باللهجات العربية الأخرى قد نقل إليها طائفة كبيرة من مفردات هذه اللهجات. ولم تقف لغة قريش في اقتباسها هذا عند الأمور التي كانت تعوزها، بل انتقل إليها كذلك من هذه اللهجات كثير من المفردات والصيغ التي لم تكن في حاجة إليها لوجود نظائرها في متنها الأصلي؛ فغزرت من جراء ذلك مفرداتها وكثرت فيها المترادفات في الأسماء والأوصاف والصيغ، وأصبحت الحالة التي انتهت إليها أشبه شيء

ص: 24

ببحيرة امتزج بمياهها الأصلية مياه أخرى انحدرت إليها من جداول كثيرة. وإلى هذا يشير ابن جني في كتابه الخصائص إذ يقول: (وكما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن يكون لغات لجماعات اجتمعت لإنسان واحد من هنا وهناك)، ويشير إليه كذلك ابن فارس في كتابه الصاحبي إذ يقول:(فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها؛ فإذا أتتهم الوفود من العرب يتخيرون من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائفهم التي طبعوا عليها).

2 -

إن جامعي المعاجم لم يأخذوا عن قريش وحدها، بل أخذوا كذلك عن قبائل أخرى كثيرة؛ ومن المقرر أن لهجات المحادثة كانت تختلف في بعض مظاهر المفردات باختلاف القبائل حتى بعد تغلب لغة قريش على سائر ألسنة العرب. وكان من جراء ذلك أن اشتملت المعاجم على مفردات لم تكن مستخدمة في لغة قريش ويوجد لمعظمها مترادفات في متن هذه اللغة الأصلي وفيما انتقل إليها من غيرها، فزاد هذا من نطاق المفردات والمترادفات في المعاجم سعة على سعة

3 -

إن جامعي المعاجم، لشدة حرصهم على تقييد كل شيء دونوا كلمات كثيرة كانت مهجورة في الاستعمال ومستبدلاً بها مفردات أخرى. فكثرت من جراء ذلك في المعاجم مفردات اللغة ومترادفاتها

4 -

إن كثيراً من الكلمات التي تذكرها المعاجم على أنها مرادفة في معانيها لكلمات أخرى غير موضوعة في الأصل لهذه المعاني، بل مستخدمة فيها استخداماً مجازياً

5 -

إن الأسماء الكثيرة التي يذكرونها للشيء الواحد ليست جميعها في الواقع أسماء، بل معظمها صفات مستخدمة استخدام الأسماء. فكثير من الأسماء المترادفة كانت في الأصل نعوتاً لأحوال المسمى الواحد، ثم تنوسيت هذه الأحوال بالتدريج وتجردت مدلولات هذه النعوت مما كان بينها من فوارق وغلبت عليها الاسمية. فالخطار والحطام والباسل والأصيد. . . من أسماء الأسد يدل كل منها في الأصل على وصف خاص مغاير لما يدل عليه الآخر، وكذلك ما يعد من أسماء السيف: كالمصمم والهندي والحسام والعضب والقاطع. . . وهلم جرا

ص: 25

6 -

إن كثيراً من الألفاظ التي تبدو مترادفة هي في الواقع غير مترادفة، بل يدل كل منها على حالة خاصة تختلف بعض الاختلاف عن الحالة التي يدل عليها غيره؛ وإليك مثلاً: رمق ولحظ ولمح وحدج وشفن ورنا. . . وما إلى ذلك من الألفاظ التي تدل على النظر؛ فإن كل منها يعبر عن حالة خاصة للنظر تختلف عن الحالات التي تدل عليها الألفاظ الأخرى. فرمق يدل على النظر بمجامع العين؛ ولحظ عن النظر من جانب الأذن؛ وحدجه معناه رماه ببصره مع حدة؛ وشفن يدل على نظر المتعجب أو الكاره؛ ورنا يفيد إدامة النظر في سكون. . . وهلم جرا

هذا، ومع ما كان يتخذه جامعوا المعاجم من وسائل الحيطة والحرص على تحري الصواب، فقد اندس في معاجمهم كثير من المفردات المولدة والمشكوك في عربيتها، وحرفت فيها كلمات كثيرة عن أوضاعها الصحيحة. ويرجع ذلك إلى أسباب كثيرة أهمها سببان:

(أحدهما) أن بعض الأشعار التي أخذوا عنها قد ثبت فيما بعد أنها موضوعة. فلا يبعد أن يكون بعض مفرداتها من اختراع الواضعين

(وثانيهما) أنهم كانوا أحياناً يأخذون عن الكتب والصحف. فحدث من جراء ذلك تحريف في كثير من الكلمات التي نقلوها. لأن الرسم في عصورهم كان مجرداً من الإعجام والشكل. فكان من الممكن أحياناً قراءة الكلمة الواحدة على عدة وجوه

علي عبد الواحد وافي

ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون

ص: 26

‌رسالة.

. .

(للناقد الأزهري)

في أوائل القرن الهجري الحاضر كان يقيم في باريس جماعة من التلاميذ المسلمين الذين نزحوا من بلادهم لأجل العلم والتثقف، وكان يقيم بها أيضاً عالم مسلم من أهل الجزائر اسمه (سليمان بن علي)

توجه هؤلاء التلاميذ المسلمون إلى هذا العالم الجزائري المسلم يسألونه عن حكم لبس قلنسوة النصارى (البرنيطة) ويذكرون أن أحوال باريس تضطرهم إلى لبسها، لأنهم كلما مروا في شوارع باريس بلباسهم، توقف الناس عن يمين وشمال، وصاروا ينظرون إليهم متعجبين، ولأنهم يريدون أن يمنعوا عيونهم من ضرر البرد القارس في هذه البلاد. . . الخ

درس الشيخ هذا السؤال، ووضع في الجواب عنه رسالة مفصلة سماها (أجوبة الحيارى، عن حكم قلنسوة النصارى) أباح فيها لبس البرنيطة وأيد بما وسعه أن يؤيده به على طريقة فقهية سائغة

أفزع ذلك عالماً كبيراً من علماء الأزهر في ذلك الحين هو المرحوم الشيخ محمد عليش مفتي السادة المالكية فكتب رسالة في الرد على هذا العالم الجزائري تناوله فيها بألوان من الإقذاع والتسفيه، ووصمه بالجهل، والقصور، والتهجم على الشريعة، والخروج على إجماع المسلمين. . . الخ

وهذه نصوص من الرسالة (العليشية) نضعها أمام القراء،

قال الشيخ بعد الديباجة:

1 -

(أقول: يأهل الذكاء تعجبوا ممن كان عيبه مستوراً، ففضح نفسه، ونادى به عليها بين الناس وصير عيبه مشهوراً، وبيان ذلك أنه تقرر في شريعة الإسلام أن السفر لأرض العدو للتجارة جرُحة في الشهادة، ومخل بالعدالة، فضلاً عن توطنها وطول الإقامة بها، وهذا الرجل (يقصد الشيخ الجزائري) كان مجهولاً مستوراً فعرف بنفسه بأنه من علماء المسلمين خرج عن حد الشريعة وتهتك، ولم يبال بالجرحة في شهادته، ولا باختلال عدالته، واختر مساكنة الكافرين في ديارهم، وزهد في مساكنة المسلمين وفسيح بلادهم. فيالها من فضيحة، وما أفظعها من وقيحة! ولم يشعر بها من شدة حماقته وكثافة جهله، وشدة غباوته. . .)

ص: 27

2 -

(يأهل الذكاء تعجبوا ممن كان عيبه مستوراً فأبى إلا إشاعته وصيرورته مشهوراً، وبيان ذلك أن قوله (أتوا من بلادهم لأجل التعلم) فيه اعتراف بالجهل بما يطلب تعلمه وما لا يطلب، وذلك أنه قد تقرر في شريعة المسلمين أن المطلوب تعلمه من أقسام العلم العلوم الشرعية وآلاتها وهي علوم العربية، وما زاد على ذلك لا يطلب تعلمه، بل ينهى عنه. ومن المعلوم أن النصارى لا يعلمون شيئاً من العلوم الشرعية، ولا من آلاتها بالكلية، وأن غالب علومهم راجع إلى الحياكة والقبانة والحجامة وهي من أخس الحرف بين المسلمين. وقد تقرر في شريعتهم أنها تخل بالعدالة. وهل كذب الرب جل جلاله في قوله:(ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهراً من الحياة وهم عن الآخرة هم غافلون) وصدقت أنت في زعمك يا مفتون؟ فما أقبح حالك! وما أفظع مقالك)

3 -

(إن قوله: امتداد القلنسوة يمنع عيونهم من ضرر البرد فيه فضيحة عظيمة، ومثقبة وخيمة، إذ لم يلتفت لمنع الامتداد المذكور من السجود للملك المعبود!)

4 -

(وقد بقيت عليك وعليهم ورطة الإقامة في بلاد الكفار بالاختيار حيث لا جمعة ولا جماعة ولا أذان ولا إقامة ولا شعيرة من شعائر الإسلام، ومحل عبادة الأصنام والأوثان والصلبان؛ كيف يرضي بذلك من في قلبه إيمان؟ لا سيما وهو معرض للموت في كل نَفَس وأوان، وقبورهم حفر من النار، فكيف يختار المؤمن دفنه بها؟ فاخلعوا فوراً زي الكافرين، وهاجروا لبلاد المسلمين إن كنتم مؤمنين)

5 -

(وقوله لم يرد تحريمها لا في كتاب ولا في السنة ولا في أقوال الأئمة فيه نداء على نفسه بالجهل والقصور، إذ قد دل الكتاب على تحريمها بقوله: (واسجدوا)، وبقوله:(خذوا زينتكم عند كل مسجد) وبغير ذلك من الآيات؛ ومعلوم أنها مانعة من السجود، ودلت السنة على ذلك في قوله:(أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء. الحديث؛ وانعقد الإجماع على تحريمها ولا بد من استناده لكتاب أو سنة، وهو معصوم عن الخطأ كما هو معلوم؟ كيف يجوّز أحد من المسلمين لبسها وهو كفر إجماعاً أو على قول؟!)

6 -

وقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبس جبة رومية ضيقة الكمين، فضيحة فاضحة، لأن الجبة الذكورة لم يختص بها الكفار ولم تصر شعاراً لهم. . . وكيف تتجاسر يا أحمق يا مفتون يا غبي على نسبة لبس ملبوس النصارى الذي صار زياً لهم وعلامة

ص: 28

على ذلهم وإهانتهم وكفرهم، إلا أشرف الخلق ومنبع الدين الحق، فأي فضيحة أفضح من هذه الفضيحة، وأي شنيعة أشنع من هذه الشنيعة، يا أعمى البصيرة، ويا خبيث السريرة؟ شقيت شقاوة لا تسعد بعدها أبداً، وصار دمك مهدوراً، والسعي في سفكه واجباً مشكوراً)

7 -

وختم الشيخ رده بهذه النتيجة بعد كلام طويل:

(إنه تقرر في شريعة المسلمين أن حكم هؤلاء أمرهم بالتوبة والرجوع إلى دينهم، والتزيي بزي المسلمين. وإمهالهم لذلك ثلاثة أيام، فإن فعلوا ذلك قبلت توبتهم، وخلى سبيلهم؛ وإن تمت الأيام الثلاثة ولم يتوبوا، قطعت رقابهم بالسيف، ولا يغسلون، ولا يصلى عليهم لموتهم على الكفر. . . والسلام على من اتبع الهدى حامداً لمن نور قلب المؤمنين بالإيمان. . .)

هذه هي الرسالة العليشية، ولكل قارئ أن يحكم عليها بما يشاء، وأن ينقد أسلوبها في البحث، ولغتها في الحوار، وأدبها في المناظرة، على أن يقدر ظروف العصر الذي كتبت فيه، ونوع الثقافة التي كانت تسيطر على أهل العلم يومئذ؛ فإن كثيراً من تلك الأحوال، قد هذبه الزمان، وأصلحته الأيام

وأهم ما في الرسالة في نظري مما ينبغي أن تستخلص منه العبرة، هو محاولة المؤلف في جد واهتمام تكفير بعض المؤمنين أو تفسيقهم لأنهم أخذوا برأي لا يوافق رأيه، ولا يتمشى فيما يحسب مع رأي جمهور المسلمين!

وهذه النزعة إلى التكفير أو التفسيق بما لا كفر فيه ولا فسوق ما تزال سائدة في جو الأزهر، وقد انبثت عدواها على يديه في كثير من أنحاء مصر والشرق، فمنكر الوسيلة والتوسل كافر عند فلان، ومنكر سحر النبي صلى الله عليه وسلم كافر عند فلان، والذي لا يتلقى بالقبول كل ما يروون من المعجزات والكرامات شاك مكذب، والذي يدعو إلى تهذيب العقائد مما ألم بها من خرافات وأوهام لا يعرفها الإسلام ضال مضل، والذي ينهى عن الإحداث في الدين والابتداع في العبادات متهجم على الشريعة، منكر لما تلقته الأمة بالقبول!

تجد هذا كله إلى الآن، وتجد العامة في أقاليم مصر وأقطار الشرق يتعاركون فيه ويختصمون عليه، ثم يتجهون إلى علماء الأزهر بأسئلتهم: ما قولكم دام فضلكم في رجل

ص: 29

أنكر كذا أو حكم بكذا؟ أهو مؤمن أم كافر، أتطلق عليه امرأته أم تبقى في عصمته؟ فإذا جاءهم ما أرادوا من فتوى شهروه في أيديهم سلاحاً ماضياً فتاكا في وجوه خصومهم ومجادليهم، وأثاروا به حولهم من أسباب الشغب والفتنة ما الله به عليم وليس هذا فقط! بل إن العلماء الكبار ليتجهون أحياناً إلى جماعتهم الموقرة، فيسألونها في عناية واهتمام: ما قول سادتنا أعلام الأمة جماعة كبار العلماء فيمن قال. . . كذا وكذا أو ناصر كتاباً فيه كذا وكذا من الأحاديث الموهمة خلاف ما يرى جمهور المسلمين بأن أشرف على طبعه وقدم له: هل يكفر أو يغسق أو لا ولا؟

يرد مثل هذا السؤال على (الجماعة) من أحد أعضائها، فتهتم به، وتجتمع له، وتؤلف له اللجان، وتبحثه المرة بعد المرة، وتعكف عليه كثر من عام: كل ذلك من أجل كتاب قديم نشره رجل من العلماء مع اعتراف الجميع بأن ما ورد فيه من الروايات والأحاديث قد ورد في غيره من كتب التفسير والحديث!

ففيم كل هذا؟ وأي مصلحة للإسلام والمسلمين ترجى من ورائه؟ ولماذا؟ ولماذا لم يُحكم فيما مضى، ولم تحكموا أنتم، بكفر المؤلف أو فسقه، حتى تأتوا اليوم فتتساءلوا: هل كفر الناشر أو فسق؟ تعقدون لذلك الجلسات، وترجعون فيه إلى المراجع، وتؤلفون من أجله اللجان!

اللهم إن هذه نزعة لا يسرنا أن تسود الأزهر، ولا أن تشجعها جماعة كبار علمائه. فإذا كان القديم في زمن (عليش) قد احتمل ذلك أو شرح به صدراً، فإن الجديد في زمن (المراغي) قد مله واجتواه وضاق به ذرعاً!

(الناقد الأزهري)

ص: 30

‌الحياة الزوجية

في نظر الإسلام

للأستاذ عبد اللطيف محمد السبكي

- 3 -

خطبة الزواج

إذا كان الزوج كفئاً لائقاً ورضيته الفتاة، فليس للولي أن يعضُلها (يمنعها من التزوج به)، وإن فعل ذلك سقط حقه في الولاية عليها، وانتقل الحق إلى من يليه من عَصَبتِها، (ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) أي لا تمنعوهن ذلك؟ فهاتان حالتان لا يملك الولي أن يقهر المخطوبة فيهما على غير ما تريد:

1 -

غير كفء يخطبها وهي ترفضه

2 -

كفء يخطبها وهي فيه راغبة

وهناك حالة ثالثة، للاجتهاد فيها مجال، وللعلماء فيها مقال ومقال؛ هي: خاطب كفء لائق، ولكن المخطوبة ترفضه وتأباه؛ ففريق يرى قولها مسموعاً، وحقها ناهضاً، ما دامت رشيدة تعرف ما يطيب ويخبث من شئونها، وتدرك خيرها من شرها؛ وفريق يذهب إلى هذا الرأي كذلك إن كانت المخطوبة ثَيباً، أما إن كانت بكراً فليس لها أن ترفض من يراه الأب صالحاً وكفئاً، وإنما تستأذن فيه، عملاً بظاهر حديث الرسول:(تستأذن البكر، وتستأمر الشيب)، ويرون أن أباها أعرف منها بصالحها، فمن حقه إجبارها

وعلى الإجمال الذي يعفينا من التطويل، فإن الإسلام ينشد لكل من الزوجين رفيقاً ساراً، ويبتغي لكل منهما حياة مأمونة المكاره، ويلتمس من وراء ذلك نسلاً كريماً، وأمة ماجدة عريقة في الطهر والعفاف ومكارم الأخلاق

ويجمع هذه الأغراض كلها قول النبي (ص): (إياكم وخضراء الدِّمن): يحذرنا من المرأة الجميلة الشكل، القبيحة الأصل والأخلاق، ويشبهها بالدوحة الخضراء الندية تنبت في الدِّمن - وهي القاذورات ومطارح الزبالة - فإن يكن لها نصيب من حسن الرواء، وفرط البهاء، فبئس ما وراء هذا المنظر من شناعة المخبر

ص: 31

ويجمعها كذلك قول النبي (ص): (تخيروا لنُطفكم فإن العِرق دساس) فهذه حكمته البالغة في نصيحة الزوجين والأولياء في حسن الاختيار قبل التوثيق والارتباط - وعلى المرء أن يسعى إلى الخير جهده - غير أن الناس في شأن الخطبة على أمور متناقضة؛ أكثرهم بأهل الجاهلية أشبه، وقليل منهم الراشدون؛ ففريق يتوسعون إلى الاختلاط، والخلوة، وما يدنو من هذين أو يعظم، ثم قد تكون النتيجة إفلات الأمل من أيديهم من حيث بالغوا في الحرص عليه، فلا يبقى لهم سوى الندم على ما فرطوا والخزي اللاصق بهم مما جنوا ما عاشوا.

وفريق يتحجر رأيهم وتجمد عقولهم فلا يمكنون الخاطب والمخطوبة من حقهما المشروع، وقد يتم الأمر ويكون أحد العشيرين على غير ما يرضى صاحبه، فتكون الحياة بينهما شقاء لا نعرف له نهاية، وسجناً لا يدريان له غاية

وفريق ثالث يسوقون الفتاة سوقاً إلى شخص ماجن أو رجل متهدم البنية يخطو إلى مقره الأخير، فيبدون لها من المحاسن ما ترجو هي بعضه، ولا يكون الأمر كذلك، وإنما هي رغبتهم في ماله، أو طمعهم في جاهه؛ وهذا نوع فاحش من التضليل، وشر لون من ألوان الغش؛ والنبي (ص) يقول:(من غشنا فليس منا)

فحسب هؤلاء أن النبي أبعدهم عن الإسلام، وإن الإسلام منهم بريء

أدب العشرة بين الزوجين

ما كان الإسلام ليُغفل علاقة الزوجين أن يدعمها ويدرأ عنها عوادي الخلف والجفوة، بعد أن دعاهما إلى الانضمام وهيأ لكل منهما سبيل اختيار صاحبه للمرافقة الدائمة في اجتياز هذه الحياة

بل وضع الإسلام منهاجاً مزدوجاً من أدب العشرة، وحتم على كل منهما أن يأخذ بالجانب الذي يتصل به من هذا المنهاج نحو صاحبه

وبعد أن حمّلهما الإسلام تلك الأمانة، أهاب بهما - مع مَن أهاب به من كل طرفين بينهما صلة - أن يرعاياها حق رعايتها؛ فهو يقف بهما أمام الحديث المقدس:(أنا ثالث الشريكين إذا لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خان أحدهما صاحبه نزعت البركة من بينهما)

وعلى ضوء هذا الحديث تكون الحياة الزوجية لكل منهما طيبة مريئة، وتكون الشركة بينهما مثمرة مباركة، وإلا كانت صلتهما في الدنيا هماَّ ناصباً، وشقاء متعباً؛ ثم هي في

ص: 32

الآخرة مأثم مأخوذ به من يقترفه، وعهد مسؤول عنه من خان فيه

(ا) أدب الزوج

يقول الله سبحانه للأزواج في شأن زوجاتهم: (وعاشروهن بمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)، فالقرآن يعطف قلب الرجل على زوجه، ويعلمه أن العشرة بالمعروف أمر يحتمه الدين إن لم تنهض به مروءة ولم تدفع إليه عاطفة

حتى إذا ما فترت جذوة الحب، وهدأت وقدة الاشتياق، وبدأ يلتوي عنها زهادة فيها أو طموحاً إلى سواها؛ فمن الحزم ألا يغلو في الصدود عنها، وألا يسرف في متابعة هواه، وأن يلتمس الخير من جانبها، فربما كانت - على سلوته عنها - مصدر نعمائه، وملتقى أمله ورجائه، وكثيراً ما تعزف النفس عن شيء ويجعل الله فيه خيراً كثيراً

كذلك يأمر الله أن يبسط الزوج كفه بالإنفاق على الزوجة غير مسرف ولا مجهود، بل على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، (لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله)، فليس جائزاً للواجد أن يبخل، ولا مطلوباً من المعسر أن يتكلف، وإلا تصدع البناء بجموح المرأة إذا استفزها الزوج بشحه وتقتيره؛ وكم ترامي إلى الأسماع من سوء القالة بسبب شح الزوج، وعدم قيامه على رعاية الزوجة فيما تقتضيه العشرة. . .

فلإسلام حينما يطلب إلى الأزواج أن تسخو أيديهم على الزوجات، لا يرمي إلى شهوة الطعام والشراب وحدها، وإنما يتجه إلى شيء لا يعدله شيء، وإلى الاحتفاظ بنفيس دونه كل نفيس؛ ذلك هو العفاف مصوناً مما يشوبه، مضنوناً به أن تنال منه المساومات وتستغل فيه الحاجة

وفوق هذا الحض على كفاية الزوجة، يحظر علينا الإسلام أن يطمع الرجل في مال زوجته، أو يحتال في استرداد ما أعطاها من صداق؛ ويقول القرآن في ذلك:(يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) ويقول: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) ففي هاتين الآيتين يمنع الإسلام أن يقتنص الرجل مال المرأة كرهاً، على نحو ما كان شائعاً في الجاهلية، ويمنع أن يعضلها الرجل - يضايقها بنوع من أنواع الإساءة - ليستدرجها إلى ترضيته بشيء من مالها، أو لترد إليه بعض ما أعطاها. ويأمر الإسلام أن يدفع الزوج إلى الزوجة ما تستحقه من الصداقة نحلة:

ص: 33

- خالصاً من شوائب النقص والتلكؤ في الوفاء - وليس يحل للرجل إلا ما رضيت به نفسها طائعة سمحة، فقد يطيب لها أن تجامله أو ترغب في معونته (فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً). ونحن إذ نرى الإسلام يتحرى الاحتفاظ بحقوق الزوجة في مثل هذه الآيات، لا يعزب عن خواطرنا أنه كذلك يستبقي للرجل كرامته، ويؤيد ماله على الزوجة من الهيمنة، وأن زوجاً يتَناسى مكانة الرجولة، ويبتاع بها شيئاً من حطام الزوجة، لهادم بيده بناء الأسرة، وواضع نفسه حيث لا ترضى طبيعة الرجولة ولا تطمئن الكرامة إلى حراسته لأنوثة الزوجة

وإلى جانب ما ذكر القرآن من أدب الزوج، جاءت سنة النبي (ص) بالكثير من وصايا الأزواج، فيقول (ص):(استوصوا بالنساء خيراً، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتموهن بكلمة الله). ويقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). ويقول: (أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها)

فالزوجة في اعتبار الإسلام أمانة عند الرجل، وهو مسئول عن الأمانة في غير هوادة أمام الله، والمرأة مخلوقة من ضلع، وهو أعوج بطبعه، فلا بد أن يكون بالزوجة بعض القصور، فمن شاءها تامة المواهب، وطمع في كمال النضج منها، فإنما يطمع في محال لم تتهيأ له طبيعة المرأة

وإن حاول الرجل تقويم المعوج منها كسَرها، وكسرها هو الطلاق، فليرتفق بها ما استطاع، لئلا يذهب تعديلها إلى كسرها بالطلاق، والطلاق مكروه عند الله، وإن كان جائزاً شرعاً

والنبي (ص) يصرفنا عن التعرض لذلك بقوله: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)

فالمرأة على أي حال بحاجة إلى الصبر على ما يمكن احتماله منها؛ ومن شرف الرجولة أن يكون الزوج سمحاً لا غضوباً، وبساماً لا قطوباً، وأن يكون محسناً معها في كل آن، وصاحب اليد عليها في كل شيء؛ واليد العليا خير من اليد السفلى كما يقول الرسول

(ب) أدب الزوجة

أما أدب الزوجة مع الزوج فيتمثل واضحاً في قول النبي (ص): (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها). . . فانظر إلى هذا البيان الجامع الحق، تر

ص: 34

أن فضل الرجل على زوجته يقتضيها في نظر الإسلام أن تتأدب معه إلى غاية من الأدب هي أقرب منزلة إلى العبادة؛ ولو كان السجود مشروعاً لغير الله سبحانه لكان لزاماً على الزوجة لزوجها، فإن لم يكن هذا فليكن ما يدنو منه من الأدب المشروع، حتى ليخبرنا النبي (ص) بأن من لم تتسم بهذه السمة لا حظ لها فيما تأتي به من القربى إلى الله، وإن كدّت في العمل وضاعفت في المسعى والجهود، فيقول (ص):(ثلاثة لا تقبل لهم صلاة، ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة: العبد الآبق حتى يرجع، والسكران حتى يصحو، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى) فليس لمن سخطها الزوج سبيل إلى الله سوى عدولها عن مغاضبة زوجها والتماسها مرضاته، وإلا فعذاب الآخرة يترصدها، ونعيمها غير ممدود إليها إلا بعد لأي وهوان

وفي هذا يقول الرسول (ص)(. . . ورأيت النار، فلم أر منظراً - يعني لم ير ما يسر - ورأيت أكثر أهلها النساء. قال الصحابة: ولمَ يا رسول الله؟ قال (ص): بكفرهن! قالوا: أيكفرن بالله؟ قال (ص): بكفرهن العشير - الزوج - وبكفرهن الإحسان: لو أحسنت إلى إحداهن الهدر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط!)

وفي هذا تنبيه للنساء إلى عيب شائع في الكثرة منهن، هو عدم اعترافها بفضل الزوج، حتى لو أنه غمرها بفضله، ومكن لها من عطائه وبره، ثم صادفت منه أمراً هيناً لا يعجبها، أنكرت ماله من حسنات سابقات؛ وإن القرآن ليعطف قلوب النساء على الرجال كما عطف قلوب الرجال عليهن، فهو يرجع بالمرأة إلى القناعة والرضا عما يستطيعه الزوج من النفقة، ويعدها بتفريج ما قد تحس به من ضيق، فيقول تعالى:(. . . ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عسر يسراً)، ففي هذا مواساة لمن قدر عليه رزقه كما أسلفنا، وفيه توجيه للمرأة: ألا ترهق الرجل بما لا يطيقه، مخافة أن يثقله العبء، وتعجزه الحيلة، فضيق بالحياة الزوجية، ويتصدع البناء

والقرآن يصارح الزوجة أكثر من ذلك بما للرجل من فضل، وبالسبب الذي كان من أجله ذلك الفضل عليها، فيقول:(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)

فالرجل هو القوام - المهيمن - على زوجته، وصاحب الأمر معها في حدود ما شرع الله،

ص: 35

لما امتاز به غالباً من حصافة ونضج، ولما ينفق من ماله ويلتزم لها من الحاجيات والمصالح، وكذلك يقول القرآن:(وللرجال عليهن درجة)، يعني للأزواج سلطة ورياسة، ولهم الأمر والنهي بمقتضى ذلك، فما ينبغي أن تأبى الخضوع له، وتتخطى حدودها معه، وعليها أن تمد إليه يد الطاعة، وتستمد الرأي من جانبه، ما دام غير متحيف ولا متجانف، لئلا تُعرّض الحياة بينهما لطوارئ الفساد والانحلال

وخلاصة ما يرجى من الزوجة تحدث بها النبي في إيجاز، إذ قال له سائل: أي النساء خير يا رسول الله؟ فأجابه: (التي تسره إن نظر، وتطيعه إن أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها - أو وماله - بما يكره)

ومن هذا الذي تحدثنا به ورويناه، يتبين للناس ما ينبغي أن يراعوه من نظام الحياة الزوجية، من آداب العشرة بين الزوجين، ولو أن الأمر هنا على ما يقتضيه النظام الإسلامي، لما سمعنا تلك الشكايات الصارخة تتردد على ألسنة الرجال من بعض النساء، وتنحدر بها مدامع النساء من قسوة بعض الرجال، والله يعلم المفسد من المصلح، ويعلم المنصف وغير المنصف

وسيجزي الله الذين أساءوا بما عملوا، وسيجزي الذين أحسنوا بالحسنى

(لها بقية)

عبد اللطيف محمد السبكي

المدرس بكلية الشريعة

ص: 36

‌للحق والتاريخ

عبد القادر حمزة باشا

وقفة قصيرة بهامش أدبه الحي

كيف كان ينقل كنوز اللغات المختلفة إلى العربية

للأستاذ محمد السوادي

تحدثت إلى قرائي في جريدة (البلاغ) بعددها الصادر في اليوم الثامن من يونية الحالي عن بعض ما عرفت في (عبد القادر حمزة بين محرريه، وعبد القادر حمزة بين ذويه، وعبد القادر حمزة بين الجلال والحنان والدمع الغزير)

وأوثر أن يكون حديثي إلى قراء (الرسالة) حديثاً أدبياً يلائم أمزجتهم، ويوائم بينها وبين شعوري بالرغبة في حديث لا نهاية له في سيرة الرجل الذي تعلمت منه قارئاً ناشئاً، وأخذت عنه كاتباً شاباً، وقويت صلتي به في أثناء اشتغاله بطبع كتابه التاريخي الأخير، وعلى حين غفلة استرد هذه اليد مني ليتوارى عني، صاعداً بالروح إلى السماوات العلا حيث الحقيقة الكبرى التي ظل يبحث عنها طوال نصف قرن قضاه ضيفاً على الأرض.

وليس في نيتي أن أرسم لك صورة من أدبه - وإن كنت لا أنكر أن في نيتي العودة إلى رسم هذه الصورة على صفحات (الرسالة) نفسها - وإنما أريد اليوم أن أقف على (هامش أدب عبد القادر حمزة)، كما وقف هو على (هامش تاريخ مصر القديم)، فأسوق إليك لوناً من الروح الذي كان يحدوه وهو يفكر تفكيراً أدبياً، ثم يهديه وهو يسجل ثمار هذا التفكير:

على هامش ترجمته

ولكي تعرف كيف كان عبد القادر حمزة يترجم إلى العربية بعض كنوز اللغات المختلفة، فيبدع إبداعاً وفق فيه بين الأمانة الممكنة والسلاسة التي عرف بها، ثم ينفرد أخيراً بخاصة إخضاع الكلمات للمعاني التي يريدها، وخاصة صوغ العبارات التي تؤدي بقوة تماسكها وبساطة مفرداتها نفس المعاني. . . لكي تعرف بعض سر هذه الحقيقة، ينبغي أن تعرف رأي الفقيد في الترجمة، فإذا عرفت مدى تهيبه ضخامة المهمة الملقاة على عاتق المترجم،

ص: 37

فإنك قادر مدى الجهود التي كان يحرص على بذلها وهو يترجم، وكاشف سر القوة التي جعلت منه مترجماً لا يجارَى ولا يقلد!

وهذا الرأي - رأيه في الترجمة - مثبت في أحد فصول المجلد الثاني الذي كان يشتغل بطبعه في الشهور الأخيرة وقضى قبل أن يفرغ منه، وشفيعي في إثبات هذا الرأي أو استعارته من كتاب تحت الطبع بغير إذن من أبناء الفقيد، ثقتي بأن هؤلاء الأبناء لا يغلَبون (شكلية) كهذه على وفاء أريد أداءه لتاريخ الفقيد الأديب، ولتاريخ الأدب في ذاته، وشعوري بأن روح الفقيد راضية في عليائها عن صنيعي هذا

رأيه في الترجمة

عرض الفقيد في أحد فصول كتابه للأدب في مصر القديمة فأثبت وجوده وأثبت له الجودة، ثم أسف على (أن المثقفين منا يعرفون إلى جانب الأدب العربي: الأدب الإنجليزي، والأدب الفرنسي، والأدب الألماني، والأدب الإيطالي، ومنا من يعرفون حتى الأدب الفارسي، وحتى الأدب اليوناني القديم؛ ولكننا لم نُعن إلى الآن بمعرفة أدبنا المصري القديم)

وبعد أن دلل على ضرورة هذا الأدب لنا قال:

(ولا يطمع القراء في أن أنقل إليهم ما أنقله من هذا الأدب في بلاغته الأصلية، فإن المترجمين يعرفون أن شعر شكسبير الإنجليزي، أو راسين الفرنسي، أو جيته الألماني، تُفقدَه الترجمة كثيراً من بلاغته؛ ومثل ذلك شعر امرئ القيس أو أي شعر عربي آخر إذا نقل إلى لغة أوروبية؛ وهذا لأن الشعر أو النثر الفني الذي يسمى أدباً يتكونان من عنصرين: أحدهما الفكرة، والثاني الصياغة؛ واجتماع هذين العنصرين هو الذي يبعث في النفس أثراً خاصاً وموسيقى خاصة، والترجمة تنقل الفكرة ولا تنقل الصياغة، فكأنها تنقل الهيكل العظمي دون اللحم والدم. وهذا يقال في أدب عصري، أو في أدب لم يمض عليه غير بضع مئات من السنين؛ أما الأدب الذي مضت عليه خمسة آلاف سنة، أو ثلاثة آلاف على الأقل، فيجب أن يقال فيه إلى جانب ذلك إنه ابن بيئة تختلف عن البيئات التي يعرفها العالم الآن، وقد وجد في ظل عقلية واعتقادات وتقاليد وعادات لم يبق لها وجود وقل من يعرفها ومن المسلم به أن الأدب يكتسب كثيراً من العقلية والاعتقادات والتقاليد والعادات

ص: 38

التي يعيش فيها، بل هو لا يكون أدباً حياً إلا إذا امتزج بها وكان وحياً منها؛ ولهذا السبب يكون نقل الأدب المصري القديم الآن الى اللغة العربية تجريداً له من هذه العناصر كلها فوق تجريده من الصياغة وموسيقاها؛ ولهذا السبب نفسه سترانا محتاجين في كثير من الأحيان الى إعطاء بيانات وتعليقات ننقل بها القارئ - على قدر استطاعتنا وفي حدود دراستنا - الى العصور التي قيل فيها ما نعربه لهم من القطع الأدبية)

جلال المهمة

هذا هو رأي عبد القادر حمزة في الترجمة؛ فما الذي نخرج به من هذا الرأي لنلتقي بعبد القادر حمزة المترجم؟

نخرج من هذا الرأي بالنتائج الآتية:

أولاً - يرى الفقيد أن الترجمة تنقل الفكرة ولا تنقل الصياغة

ثانياً - إن الفكرة أشبه بالهيكل العظمي، وإن الصياغة أشبه باللحم والدم؛ فالترجمة ليست إلا تجريداً للنتاج من اللحم والدم

ثالثاً - إن الترجمة تتطلب فهماً للنتاج المنقول، والفهم يتطلب دراسة الزمن الذي قيل فيه هذا النتاج، والبيئة التي وجد فيها القائل، والعقلية التي أصدر عنها، والتقاليد والعادات والاعتقادات التي أثرت فيه فتأثر بها

رابعاً - إن الأدب لا يكون حياً إلا إذا امتزج بهذه العوامل وكان وحياً منها

وضع الفقيد هذه القوانين الأربعة أمامه حين هم بالنقل عن الأدب المصري القديم، ثم رأى فيها سبباً يجعل هذا النقل بمثابة تجريد للمنقول من هذه العناصر، أو من اللحم والدم. . . فلماذا إذاً أقدم على النقل، وهل نقل إلينا هياكل عظيمة تحقق النذير الذي أنذرنا به وخوفنا منه؟

كلا. . . وإنما أعطانا (بيانات وتعليقات) نقلنا بها إلى العصور التي قيل فيها ما عربه لنا؛ وتواضع فقال إن هذه البيانات والتعليقات هي على قدر ما في استطاعته وفي حدود دراسته

وشيء أجل قدراً قام به ولم يشر إليه، هو توفره قبل النقل على دراسة العقلية والعادات والتقاليد والاعتقادات التي كانت سائدة في تلك العصور، والتي سبق أن أشار إليها، ثم لم يدر مدى التوفيق الذي أحرزه، وخشي أن يكون هذا التوفر غير كاف، وهذا التعمق غير

ص: 39

بالغ به الأعماق، فقال إنه محتاج الى إعطائنا بيانات وتعليقات، في حين أن هذه البيانات والتعليقات إنما أفادت في تهيئتنا لاستقبال نتاج هذه الآباد، وأطلقت حولنا من بخور القدم ما خالط أنفاسنا، فعشنا في الجو الفرعوني ونحن نطالع نتاج تلك العصور؛ أما الترجمة - ترجمة النصوص أو الأصول - فقد جرى في هيكلها كثير من الدم القديم، ورأينا بعين المخيلة لحمها مقروناً بهذا الدم الغزير، وشعرنا بالحياة تدب في الهيكل، وبالمنقول أدباً حياً نقله الفقيد فأحسن نقله. وهذه النتيجة التي تكاد تكون لوناً من الإعجاز لم تكن بسبب البيانات والتعليقات وحدها، بل كانت وحياً من فهم الفقيد عقلية تلك العصور، وإدراكه الكثير من عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم

نماذج وأمثلة وأسانيد

ولكي ترسخ هذه الحقائق في أذهان القراء الذين يبحثون وراء الأسانيد لكل حقيقة يتصدون لها، أرى لزاماً علي أن أقدم إليهم أمثلة للبيانات والتعليقات، ونماذج من القطع الأدبية التي ترجمها الفقيد في مجلده الثاني الذي أرقب صدوره في القريب بكثير من التشوق والمصابرة

أراد الفقيد أن يترجم بعض القصائد والأغاني، فعرضت له كلمة (أخت) وكلمة (أخ)، فرأى أن يقدم بياناً لهذه التسمية، فلما قدم البيان وجده منطوياً على ما يتصل بالفكرة الخاطئة التي أرساها المؤرخون في الأذهان، فنمت واستقرت بفعل التكرار وعلى الأزمان، فكرة أن الأخت كانت تتزوج من أخيها، فرأى الفقيد أن يكون له تعليق على البيان يجلو غامض الفكرة الخاطئة؛ ومن هنا جاءت عنايته بالبيانات والتعليقات، وجاء دور التعليق على الفكرة الشائعة؛ فقال رحمه الله:

(وهنا استطرد قليلاً فأقول: إن إباحة زواج الأخت بأخيها كانت معروفة في الأسر المالكة لسببين: أولهما الحرص على الدم الشمسي، أي الدم الملكي، والثاني: أن حق البنت المولودة من أب هو ملك وأم هي ملكة في وراثة العرش، كان أقوى من حق الابن المولود من أب هو ملك وأم ليست ملكة، بحيث كانت الأخت في حالة كهذه هي التي تعتبر وريثة شرعية للعرش دون أخيها، ولهذا كان يقترن بها ليكون حقه في العرش شرعياً

(كان هذا هو المعروف في الأسر المالكة، أما في غيرها من عامة الشعب فلم تكن الحاجة

ص: 40

ماسة الى الحرص على دم شمسي، ولا إلى وراثة عرش، ولذلك يرى بعض العلماء أن القول بإباحة زواج الأخت من أخيها بين أفراد الشعب يجب أن يبقى محل تحفظ إلى أن تقوم عليه أدلة كافية، لأن جميع الحالات التي عرف إلى الآن أن أختاً تزوجت فيها بأخيها، هي حالات خاصة بالأسر المالكة)

أما وقد عرفت الآن مبعث تسمية (الحبيبة) و (الحبيب) بكلمتي (الأخت) و (الأخ) فالفقيد يقدم إليك صورة من غزل أحد الشعراء يشكوا إعراض أخته عنه وصدها له، ثم يفكر في ألوان من الحيل عسى أن يظفر برؤيتها، فيقول:

(سأرقد في سريري متمارضاً

(فيعودني جيراني

(وتعودني أختي معهم

(وتضحك أختي من أطبائي

(لأنها تعرف دخيلة مرضي!)

ويطيب للفقيد أن يقف بعد كل بضعة سطور ليقارن أو ليفاضل بين الأدب فيما قبل خمسة آلاف سنة والأدب الحديث في مختلف اللغات، بل الأدب العربي الذي درسناه، فليفتك إلى أن تمني الحبيب أن تزوره حبيبته إذا رقد في سريره مريضاً أو متمارضاً شائع في عز الشعر العربي، كقول الشاعر:

ماذا عليكِ إذا خُبِّرْتِني دِنفا

رهن المنية يوماً أن تزوريني

. . . وإلى أن جهل الأطباء بمرض الحب شائع أيضاً كقول

قيس بن ذريح:

عيدَ قيس من حب لبنى ولبنى

داء قيس والحب داء شديد

وإذا عادني العوائد يوماً

قالت العين: لا أرى من أريد!

ليت لبنى تعودني ثم أَقضي

إنها لا تعود فيمن يعود

ويمضي فقيدنا بشاعرنا المصري وتمنياته أن يكون الخاتم الذي تلبسه الحبيبة (الأخت) في إصبعها، أو إكليل الزهر الذي يطوق عنقها ويداعب صدرها، وهو لا يتردد في أن يسقيها - لو استطاع - شراب الحب ليحملها على أن تفتح بابها قليلاً وتسمح له برؤيتها، وحين لا

ص: 41

يجد فائدة من كل هذا يتجه وجهة أخرى ليركب النيل إلى حيث الإله بتاح صاحب (الوجه الجميل) في ممفيس، ليتضرع إليه أن يهيئ له رؤية أخته. وقبل أن يشرع الفقيد في الترجمة يهيئ لك جوها ويعقد الصلة بينك وبين هذا المحب، ويعرفك أنه من أهل طيبة؛ فهو إذاً ركب النيل إلى ممفيس يكون (نازلاً) من مصر العليا، ويكون في نزوله سائراً مع التيار، وهذا أدعى إلى الإسراع، لأن السفن لم تكن تعتمد في ذلك الوقت إلا على الشراع أو المجذاف

وبعد أن يضنى الفقيد نفسه فيعقد أواصر هذه الصداقة بينك وبين ذلك الجو القديم، يمضي بك إلى سطور أخرى ينقلها إليك على هذا كله، لتقرأ منها قول الشاعر:

(سأركب النيل نازلاً مع التيار

(وسأمضي مسرعاً

(وباقة من الريحان على كتفي

(وسأصل إلى مدينة عنخ تاوى (أي ممفيس)

(وهناك أقول للإله بتاح رب العدل:

(هيئ لي أن أرى الليلة أختي!

(أن النهر لخمر

(وأن بتاح لَنَابه

(وأن سخمت (هي آلهة الانتقام أو الحرب) لبرديه

(وأن إنريت (معبود كان في سمنود الحالية) لبرعومه

(وأن نفرتوم (ابن الإله بتاح) لأزهاره

(وفتحت ذراعيها لي

(شعرت كأن أزكى روائح بلاد العرب تغمرني

(ثم إذا افترت شفتا أختي

(وأدنتهما مني وقبلتني

(فذلك لي هو السكر من غير مسكر)

هذا نموذج من أدق النماذج، لأن العقائد فيه خالطت العرف وتصاعدت روائحها إلى أنف

ص: 42

القارئ المعاصر.

وإلى هنا أقف راجياً أن أواصل هذا الحديث في القريب، بل راجياً أن أصل بينه وبين مواجهة (عبد القادر حمزة الأديب) في بضع حلقات تتألف منها سلسلة دراسات (مركزة)، فما أردت بهذا المقال (تركيزاً)، وإنما أردت أن أثير اهتمام الأدباء برجل مجده الناس كاتباً سياسياً لا ند له في مصر ولا نظير، وجلوه أديباً من طراز معين، أديباً مثرياً طائل الثراء في طرائقه الخاصة، في التفكير وفي الأسلوب، وفي الترجمة وفي الإنشاء

نعم، هي وقفة بهامش أدبه، فإلى اللقاء عند هذا الأدب

وليرحم الله عبد القادر حمزة، فلسوف يسمو ويزداد سمواً كلما تقادم العهد ومضت الأيام على وفاته

لقد كان تاريخاً، فمن حق الجيل دراسة هذا التاريخ

محمد السوادي

ص: 43

‌الإسكندرية بعد الفاجعة

للأستاذ عبد اللطيف النشار

يا كُنتَ مصطاف ريفيٍ ومربعه

يا ثغرُ في جنبات الريف تصطاف؟!

مهاجرون على الأنصار قد نزلوا

كِلَا الفريقين رحبُ الساح مِضْياف

يا ضاحك السن ما للعين دامعة

في الصبر أجر وللرحمن أَلطاف

أم القرى حمدت من قَبلُ هجرتَها

واستنَّ للخَلَفِ الباقين أسلاف

لعلَّ في تاركي دور محطمة

ملاذ أمن لمن ضلوا ومن خافوا

لعل في الصبية الباكين أهْلَهمُ

نصلاً له من خطوب اليُتم إرهاف

لعل في دَمِنا الزاكي زكاة مُنىً

عِرقُ الأمانيِّ في الأوداج نزَّاف

ما حزَّ في مهجتي خطب ألم بها

كالعجز عن صد من ضلوا ومن حافوا

كأنني مفرد في الثغر مرتهن

بتُربِه ولصوت الموت إِرجاف

ما راعني فيه ما انقضَّتْ صواعقه

بل راعني أن خلا في الصيف مصطاف

هذى الديار فأين الواعدون بها

لم يبق إلا سَمادِيرٌ وأطياف

(أضحت خلاء وأضحي أهلها احتملوا)

قف يا لساني فبعض القول إسفاف

لم يُخنِ دهر عليها - لا ولا أبداً

ما مثل اكنافها في الدهر اكناف

ألْفان تُملى على الدنيا محاسنها

وسوف تشهد آلافٌ وآلاف

عبد اللطيف النشار

ص: 44

‌أغنية البلبل.

. .

للأديب محمود السيد شعبان

طاَفَ في قَلْبي نَشِيدٌ

بالمُنَى يَمْلأُ نَفْسِي!

وَأَنَا اليَائِسُ يَا بُلبُلُ

مَا يَهدَأُ يَأسِي

هَذِهِ كأسِي!. . . فَهَلْ=يُرْضِيكَ أنْ تَفْرَغَ كأسِي؟

لَا غَدي يَضْحَكُ لي فِيهَا

وَلَا يَرْجِعُ أَمْسِي!

أَيُّهَا البُلبُلُ!. . . إنّي

ظاَمئٌ فَارْوِ لهاتِي

هَاتِ لِي مَا شِئْتَ

يَا سَاحِرُ مِنْ لَحنِكَ هَاتِ

وَأدِرْ كأسَكَ بالحُبِّ

لِتَحيَا فِيهِ ذَاتي

سَوفَ يَفَني الجَسَدُ

البَالِي وَتبَقَى صَبَوَاتي!

أَيُّها البُلبُلُ. . . خُذْ أُغْ

رُودَةَ العُشَّاقِ عَنِّي!

وَتَعَلَّم كَيفَ تَحيَا

لِلهَوَى العُذْريِّ منِّي

عُشهَا في القَلبِ مَهجور

رٌ. . . وَلَكِنِّي أُغَنِّي!

وَأَنَا الشاعِرُ يَا

بُلبُل دُنْيَاه التَّمَنِّي!

في مَغَانِي الحُسْنِ يَا

بُلبُلُ هانَحْنُ التَقَيْناَ!

مَا عَلَيْنَا إِنْ مَلأناَ

الكَوْنَ سِحْراً مَا عَلَيْناَ؟

الهْوَى مِلكُ صِبَاناَ

والصِّبَى مِلءُ يَدَيْناَ!

فَدَعِ الألْحَانَ يَا

بُلبُلُ تَرْوِى شَفَتَيْناَ!

الهَوي ياَ عَابِدَ الالْ

حَانِ كأسِي وَشَرَابي!

وَالمُنَي يَا عَاشِقَ الأوْ

هَامِ هَمِّي وَعَذَابي!

وَأنَا. . . في مَوْكِبِ الحِرْ

مَانِ وَدَّعْتُ رِغَابي!

المُنَى حُلمُ فُؤَاَدِي

وَالأسَى لَحنُ شَبَابي!

كُلُّ صَداَّحٍ عَلَى الأيْ

كِ ِيُحَيِّيِهِ حَبِيبُ!

وَأنَا بَينَ الوَرَى في

هَذِهِ الدُّنيَا غَرِيبُ

لَيْتَهَا يَا بُلبُلي يَوْ

ماً لِنَجْوَايَ تُجِيبُ!

ص: 45

ذَهَبَ العُمرُ. . . وَمَالِي

مِنْ لَيَالِيها نَصِيبُ!

أَنَا يا بُلبُلُ في دُنْـ

يايَ أحْلَامُ شَرِيدِ

أَنَا لَحنٌ حَائرٌ بَيْ

نَ سَمَاواتٍ وَبِيِد!

أَنَا مِعْنيً مِنْ شَقَا

ءِ الرُّوحِ فِي قَلْبٍ سعِيِدِ!

اللَّظَى مَهدُ فُؤَادِي

وَالصَّدَى وَحيُ نَشِيِدي!

غُرْبَتي طاَلَتْ عَنِ الرُّو

حِ. . . فَرُدِّيني لِنَفسِي!

لَمْ يَعُدْ يُنْشِدُ قِيثَا

رِي وَلَا تَضْحَكُ كأسي

أَنَا مِنْ بَعْدكَ ضَيَّعـ

تُ سُدًى يَوْمي وَأَمْسِي

وَغَدِى؟. . . ضَلَّتْ إِليْ

هِ النَّفسُ في ظُلمَةِ يَأسي

قُبلَةٌ حَيْرَى عَلَى ثَغْ

رِي تُناَدي شَفَتَيْهَا!

مِلؤُهَا شَوقٌ وَلكنْ

أَيْنَ مَنْ يَحْنُو عَليَها؟؟

وَيَدٌ كلُّ مُنَاهَا

رَقدَةٌ بَينَ يَدَيهَا!

أَنَا يَا بُلبُلُ مِنها

قَبَسٌ حَنَّ إِليها!

نَحنُ يَا بُلبُلُ كأَسَا

نِ مِنَ الحُبِّ مُلِئنَا!

نَحنُ سِرَّانِ جَرِيحاَ

نِ التقَيْنَا فَهَنِئْنَا!

نَحنُ لحناَنِ حَبِيبا

نِ إِلى مَهدِكَ جئْنَا!

الغَرَامُ العَفُّ مَا

شِئْتَ مِنَ الدُّنَيا وَشِئنَا!

بَارِكِي وَحْدَةَ صَدَّاحٍ

أَمَانِيهِ شَقَاءُ!

كلّما أَضْنَاهُ يَأسٌ

عَادَهُ مِنكِ رَجَاءُ!

وَخُذِيِهِ مِلَء دُنياكِ

نَشِيداً يَا سَمَاءُ!

هُوَ في الحبِّ فَنَاءٌ

وَمِنَ الحبِّ بَقَاءُ!

هَاهُنَا مَعبَدُ حُسْن

لَمْ يُفَارِقَهُ سَنَاهُ

التَقَتْ فِيهِ صُدُورٌ

وَارْتَوَتْ فِيهِ شِفَاهُ!

وَتَلَاقَى عِندَهُ العُشَّا

قُ. . . كلُّ وَهَوَهُ!

فَتَعَالَىْ يَا هُدَى رُو

حِي نَكُنْ نَحنُ حُلَاهُ!

ص: 46

هَاهُنَا أَيْكُ أَغَا

رِيدٍ وَأَعْشَاشُ قُلُوبِ!

ما أَرَى فِيها سِوَى إِل

فَينِ كالَّلحِنِ الطّرُوبِ

هَاتِ لِي زاَدِي مِنَ

الحُسنِ وَقيِثاَرِي وَكُوبي

إِنْ يَكُنْ حُبُّكِ ذَنْباً

فأنَا أَهْوَى ذُنُوبي!

هَاهُنَا هَيكَلُ حَبٍ

للِمُصَلِّينَ مُبَاحُ!

سَجَدَتْ فِيهِ جِبَاهٌ

وَالتَقَتْ فِيهِ جِرَاحُ!

إِن أَلحانَكَ يَا بُلبُلُ

للِعُشَّاقِ رَاحُ!

فَعَلى رِسْلِكَ. . . قَدْ طَا

شَ بِهِمْ مِنكَ مِرَاحُ

هَاهُنَا. . . كم نَعِمَ القل

بُ بأَحْلَامِ اللِّقَاءِ!

يَا لَياَلِيِهاَ!. . . لَقَد طَا

لَ عَلَى الدُّنْيَا شقَائي!

أَنَا مَنْ خَلَّفْتُ لِلْحِرْ

مَانِ أَوهَامِي وَرائي

وَذَوَتْ في نَفْسِيَ

الحيْرى أَغارِيدُ هَنَائي!

يَا فَتَاتي!. . . كَيفَ يُرْض

يكِ شَقَائي ياَ فَتَاتي؟

في دَمِي شَوقٌ يُناَدِ

يكِ: تَعاَلَيْ يا حَياتي

أناَ فِي مِحْرَابِكِ الطاّ

هِرِ طَالتْ بي صَلَاتي

فَدَعِيني سَاعَةً فِيهِ

أُبَارِك صَبَوَاتي!

هَذِهِ قيثَارَةُ الحُبِّ

تُغنِّي في يَمِيني!

فَدَعيني أُطرِبْ الدُّن

يَا بِنَجْواكِ. . . دَعيني

وَأَنا النَّاسكُ يَا رُو

حِي وَنُسكِي فِيكِ دِيني

صَلَوَاتِي بَعضُ أَشْوَا

قي وَأَوْرَادِي حَنِينِي

أَنا أُغرودَةُ أَيَّا

مِي وَقيثارَةُ عَصرِي

أَنا وَحْدِي شَاعرُ الحبِّ

وَمَنْ للِحُبِّ غَيرِي؟

تَنفِدُ الدُّنيِا وَلا يَنْ

فَدُ يَا حَسْناءُ شِعْري

وَيَجفُّ الزّهرُ إنْ عَا

شَ وَلا يَذُبلُ زَهْري

أَناَ لِلأَشوَاقِ يا

أُنشُودَةَ الرُّوحِ وَقُودُ!

ص: 47

شاعِرٌ أَحْيتْهُ في

دُنيَا الأمَانيِّ وُعُودُ!

أَبَداً نَحْوَاهُ أَلحانٌ

وَدَعْوَاهُ سُجُودُ

هُوَ إنْ غِبتِ فَنَاءٌ

وَإذَا عُدتِ وُجُودُ!

يَا حَيَاةَ القَلْبِ!. . . قَدْ طاَ

لَ إلى سَعْدِي حَنِينِي

وَأَناَ وَحْدِي!. . . فَإنْ شِئْ

تِ إلى حُبِّي خُذِيني

هَذِهِ دُنْيايَ! مَالي

في الأسَى ضَاعَتْ سِنِيني؟

سَئِمَتْ رُوحِي مُنَاهَا

فَإذا مِتُّ اذكُرِيني!

(القاهرة)

محمود السيد شعبان

ص: 48

‌البريد الأدبي

حول إصلاح الأزهر

ظهر في العدد (415) من مجلة (الرسالة) الغراء كلمتان في إصلاح الأزهر: إحداهما لفضيلة الأستاذ المدني، والثانية لفضيلة الأستاذ عبد الآخر. فأما الكلمة الثانية، فيرى كاتبها أن فضيلة الأستاذ المراغي نفذ الإصلاح الذي وضعه، وذلك بتنقية الكتب الأزهرية وتهذيبها وتحسين طريقة عرضها والكتب الأزهرية لا تزال على حالها، وكلنا يعرف أن الفساد متغلغل فيها بحيث لا يفيد في علاجه تنقية ولا تحسين عرض. وأما مسألة انصرافنا إلى الوظائف وما إليها، ففضيلة الأستاذ عبد الآخر أدرى الناس بها، وفضيلته يعرف (مسألة العرائض) التي كادت تقضي على عهد الإصلاح لولا لطف الله تعالى

وأما كلمة الأستاذ المدني، فهي متفقة مع كلمتي الأولى كل الاتفاق، وإن حاول الأستاذ المدني أن يهون من أمر الرجعيين المعارضين للإصلاح. وعجيب أن يهون من أمرهم ولهم في كل وقت ثورات عنيفة على كل من يحاول تجديداً في بعض الأحكام، أو يريد فتح ذلك الباب المغلق على الاجتهاد من قريب أو بعيد، وهم إذا قاموا بتلك الثورات يقوم وراءهم جنود مجندة من العامة وأشباه العامة، ويقف طالب الإصلاح وحده لا معين ولا نصير. ولو كان أولئك الرجعيون يعتمدون في ثورتهم على الدليل لهان الأمر، ولكنهم لا يعتمدون في ذلك إلا على التكفير ولا يفكرون إلا في محاربة ما يعتمد عليه طالب الإصلاح من وسائل العيش، وقد رأى الأستاذ المدني كل هذا ببصره، وسمعه بأذنه، ولمسه بيده، فكيف يهون بعد هذا من أمره؟

(عالم)

بين عبد القادر حمزة والعقاد

قرأت في العدد الفائت من (الرسالة) كلمة للأستاذ محمود الشرقاوي عن المغفور له الأستاذ عبد القادر حمزة باشا

وأنا موافقة على كل ما ذكر للفقيد الكبير من خلال طيبات لمستها كما لمسها في أثناء اشتغالي معه في البلاغ من سنة 1928 إلى سنة 1931؛ وفي خلال السنوات السابقة

ص: 49

واللاحقة لهذا العهد وكنت فيها جميعاً على صلة طيبة بالراحل الكريم. . .

وقد بعثتني هذه الصلة العزيزة إلى رثائه شعراً على صفحات البلاغ وأنا في سرير المريض ممنوع من الجهد والتفكير؛ إلا أن ذكر حقوق الراحلين لا يجوز أن يحملها على غمط حقوق الأحياء وطمسها أمام التاريخ، فالظلم ظلم للموتى وللأحياء سواء. . .

يقول الأستاذ الشرقاوي في موضع من كلمته القيمة: (ذلك الصراع الذي قام به عبد القادر حمزة وحده مواجهاً به ومتحدياً أقوى حكومة. . .). ثم يقول في موضع آخر: (ولكن عبد القادر حمزة ظل يكافح في كل يوم وحده حتى نخر الجبل الشامخ الراسخ. . .)

وكلمة (وحده) هي الكلمة التي تجاوزت حد الحق، فالراحل الكريم قد صنع في هذا الكفاح الذي يشير إليه الأستاذ ما يصنع أصحاب الرأي الأبطال، وقد كلل جهاده بنجاح سيخلده تاريخ مصر السياسي وتاريخ الرأي والعقيدة؛ ولكن يجب أن نذكر أن هناك قلماً آخر صنع الأعاجيب في هذا النضال وعلى صفحات البلاغ أيضاً وفي نفس هذه الأيام ذلك هو قلم العقاد الجبار

بل لقد كان ذلك القلم هو أول قلم حمله صاحبه في وجه (ديكتاتورية الرأي) قبل أن يأخذ البلاغ موقفه في جانب المعارضة الصريحة أيام وزارة نسيم باشا، وفي وقت لم يكن أحد - غير العقاد - يجرؤ على اتخاذ هذا الموقف المخيف في جريدة روز اليوسف اليومية.

أما اجتماع القلمين على صفحات البلاغ بعد هذا بعام فقد وضع النهاية التي انتهت إليها المأساة. ولست أدري: أن كنت اليوم بعد انقضاء هذه الأيام بخيرها وشرها في حل من نشر شيء من أسباب التمهيد لاجتماعهما لم يعلم به كلاهما

كان العقاد قد ترك البلاغ وفي نفسه شيء زادته حوادث وقعت بعد خروجه، كما جعلت شيئاً في نفس صاحب البلاغ.

وكنت أرى أن المعارضة لا تجتمع لها قوتها كاملة حتى يجتمع هذان القلمان في ميدان: هذا قلم يحطم ويزلزل كالصواعق والأعاصير، وذلك يجادل ويحاور ويجمع الحجج الدامغة والأسانيد المفحمة ويسدد الضربة في الصميم.

وفي يوم كنت عند العقاد فقلت:. . . (ولم لا ترجع الآن إلى البلاغ؟) قال بكبريائه الشامخة المعهودة: (وهل أنا الذي تُطلب مني العودة؟) قلت: (إن صلتي بصاحب البلاغ تسمح لي

ص: 50

أن أصنع شيئاً) فقال بحدة وكان قد لان عند السؤال الأول: لا. لا تصنع. فمهما كانت صلتك بصاحب البلاغ فإن صلتك بي أقوى. وسيقال: إن العَرض جاء من جانب أحد أصدقائه)!

وانصرفت وفي نفسي أن الموقف يحتم اجتماع القلمين وأن لا بد لهما من الاجتماع؛ وبقى أن أتفادى غضب العقاد

فتركت أياماً قليلة تنقضي وزرت الراحل الكبير في جريدة البلاغ في المساء حيث تكون في مأمن من مشاغل العمل

ودار الحديث عن المعارضة ووجوب تنظيمها وتوجيهها، وانسللت من هذا إلى أن أقول:(ولكن هناك قوة معطلة عن العمل وهذا وقتها) فقال: (تعني الأستاذ العقاد؟) قلت: (نعم) قال: (ولماذا لا يعود؟ أن البلاغ وكره القديم!) قلت: ولكنك يا سيدي تعرف العقاد وتعرف أنه مغضب من البلاغ ولا بد من شيء من جانب البلاغ) قال رحمه الله (إنك صديقه وأنت واحد كذلك من أسرة البلاغ وأنت مفوض مني في قول ما تقول للأستاذ وفي صنع ما تراه باسمي).

وتذكرت - حينئذ ما سيلقاني به العقاد وما سيظنه بي من الظنون، وخفت أن تفسد الحيلة وأبديت هذه المخاوف للرجل العظيم، فابتسم وقال:(وهو كذلك، دعني أتصرف) وتصرف بالفعل، واجتمع القلم الجبار والقلم الرصين على صفحات البلاغ.

ذلك طرف من التاريخ أذكره، وصورة ذلك العهد حية ماثلة في نفسي وفي نفس كل من تتبعوا ذلك الصراع العجيب في تلك الأيام

سيد قطب

نيابة بعض الحروف عن بعض

جاء في ختام الكلمة القيمة الموجزة للباحث المتمكن الأستاذ (أ. ع) ما يأتي:

(ولم أر فيما لدي من المراجع أن اللام تنوب عن الباء، ولكنهم قالوا بنيابتها عن (في). . .)

وأقول: إنها جاءت نائبة عن الباء في قول أبي تمام من قصيدته السينية المشهورة بمدح

ص: 51

أحمد بن المعتصم:

إن الذي خلق الخلائق قاتها

أقواتها لتصرف الأحراس

قال الشراح: اللام بمعنى الباء، والأحراس جمع حرس كدهر وزناً ومعنى

نعم إن أبا تمام من الشعراء المحدثين الذين لا يحتج بشعرهم، ولكنه كان عالماً ضليعاً، وراوية غزير المحفوظ؛ فلا أقل من أن نستأنس بقوله كما استأنس به الأستاذ الكبير (ا. ع) في تعدية الفعل (تفيأ) بنفسه. وأبو تمام أهل لهذه الثقة.

علي الجندي

خطأ فقهي في مجلة الأزهر

في الجزء الأخير من مجلة الأزهر مقال بتوقيع مديرها الأستاذ محمد فريد وجدي، يقول في السطر الأول منه ما نصه:

(في السنة السادسة من الهجرة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنه يريد العمرة، والعمرة هي الطواف بالبيت في غير وقت الحج. . . الخ)

والخطأ في الجملة الأخيرة ظاهر، فإن العمرة ليست هي الطواف بالبيت فقط. وليست في غير وقت الحج فقط، والأستاذ المدير وإن يكن غير أزهري أجل من أن يقع في مثل هذا الخطأ، ولعل مجلة الأزهر تعني في عددها المقبل بتصحيحه

(م. . .)

حول مكتبة الحرم النبوي الشريف

بالعدد 415 نشرتم كلمة شاملة عن مكتبة الحرم النبوي الشريف بقلم مديرها الأستاذ أحمد يس الخياري. وقد ذكرتني كلمته برسالة بُلغتها وأمانة حملتها ولما أؤدها فألفيت في تفضلكم بالنشر أنسب فرصة لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة. وأكبر الظن أنكم مشاطريّ فضل الأداء. والمساعد في الخير شريك فيه.

كنت في هذا العام 1359هـ مشرفاً على البعثة الأزهرية للحج والزيارة، وكانت لي عناية خاصة بالبحث عن مدى الثقافة العامة في الحجاز ممثلة في مكتباته ولا سيما الحرمين الشريفين، فلم يرعني إلا أنها مكتبات ينقصها كثير من الكتب المختلفة، وكثير من النظم

ص: 52

المتنوعة في حسن العرض وتيسير النفع وجمال الموقع؛ ولذا لا يعرفها إلا قليل من الخاصة ولا ينتفع بها إلا أقل من القليل.

هذه مكتبة الحرم المكي لا تزيد فيما أظن على ألف مجلد في علوم محدودة. وهذه مكتبة الحرم النبوي لا تزيد على ثلاثة آلاف مجلد، وهي على قلتها خير مكتبات الحجاز نظاماً وأكثرها نفعاً وذلك بفضل جلالة ملك الحجاز وحكومته وبهمة مديرها العامل النشيط. وقد كلفني أن أناشد أهل الغيرة على الحرمين وبخاصة فضيلة الأستاذ الأكبر، وحضرة صاحب العزة مدير (دار الكتب الملكية) أن يساعدوا في تكوينها وتغذيتها بمختلف العلوم والمعارف ولا سيما كتب التاريخ والأدب والعلوم الحديثة والمجلات الدينية والأدبية والفهارس المتنوعة.

وعلى مقربة من الحرم النبوي الشريف مكتبة هادئة؛ ظريفة في بنائها ونظامها أسسها شيخ الإسلام عارف حكمت سنة 1270هـ في عهد السلطان عبد المجيد وتحتوي على عشرة آلاف مجلد تقريباً أكثرها مخطوط وكثير منها نادر؛ وقد رأيت فيها كتاب الأوائل للعسكري وقد نسخ سنة 395هـ وكتاب المسافات وصور الأقاليم لابن سهل البلخي ونسخ سنة 309هـ وهو من خزانة العباسيين

وفي الحجاز مكتبات مدرسية وفردية لا بأس بها نذكر منها مكتبة دار العلوم الشرعية بالمدينة المنورة وهي مدرسة ناهضة تقوم على تبرعات الهند وتدرس القرآن الكريم وقسطاً من العلوم العربية والشرعية وتجمع إلى دراسة العلوم تعليم الصناعات المختلفة، ومكتبة دار الحديث لمديرها شيخ الحرم المكي، ومكتبة يشرف عليها قاضي القضاة وكلتاهما بالحرم المكي الشريف، ومكتبة السيد نصيف بجُدّة ومنزله مثابة العلماء والباحثين. وقد تفضل أصحابها فأهدوا إليّ طائفة من الكتب القيمة

ومجمل القول أن مكتبات الحجاز العامة في أشد الحاجة الى معونة الغير والمخلصين. وفي هذا بلاغ.

طه محمد الساكت

المدرس بمعهد القاهرة

ص: 53