الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 417
- بتاريخ: 30 - 06 - 1941
في الزواج
للأستاذ عباس محمود العقاد
بعد القصص الغرامي أو قصص الحوادث الأخاذة، لا أحسب أن الجمهرة الغالبة من القراء يهتمون بموضوع عام كاهتمامهم بالموضوعات الاجتماعية التي لها مساس بالرزق أو مساس بالعلاقات بين الجنسين، وعلى رأس هذه الموضوعات الحب والزواج؛ لأن الأمر في هذه الموضوعات وما إليها لا يقتصر على الأفكار المجردة أو البحوث الأفلاطونية التي يشتغل بها الدارسون وأصحاب النظر والتأمل دون غيرهم، ولكنه يشمل المسائل اليومية التي تعرض لكل إنسان في حياته الخاصة، وينتقل إلى المحسوسات التي لا محيد عنها لمفكر ولا غير مفكر، والتي يعيش المرء مائة سنة وهو خلو من التفكير في شأن من الشؤون المجردة، ولكنه لن يخلو من معاناتها والانغماس فيها بحال
لهذا عرضتني الكتابة في موضوع الزواج لكثير من الطرائف التي تصلح للفكاهة كما تصلح للدرس والعناية. ومنها أنني سئلت لماذا لم أتزوج؟ وسئلت هل من حرج على المصرية المسلمة أن ترضى الزواج بالأجنبي الذي يحبها ويدين بالإسلام لأجلها؟ وسئلت: ما هو الفرق بين المرأة التي يرتضيها الرجل حليلة والمرأة التي يرتضيها خليلة؟ وهل معنى هذا الفرق أن الحليلات مفضلات على الخليلات، أو أن الخليلات مفضلات على الحليلات؟ وأيهما أصعب وأندر: شروط الحليلة أو شروط الخليلة؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة التي خيل إلي وأنا أتلقاها بالتليفون أو بالبريد، أنني أثرت خلية من النحل على غير عمد، وأنني أنا الجاني على نفسي بما أثرت!
أما من سألني لماذا لم أتزوج فكان جوابي له أن الزواج قيد، وأنني عشت حياتي كلها في مخاطرة لا غنى لصاحبها عن الطلاقة والحرية، وأنني بعد هذا وذاك أقول ما قاله الخليل بن أحمد حين سئل في قرض الشعر، فأجاب: إن الذي يرضاه من الشعر لا يجيئه، وأن الذي يجيئه منه لا يرضاه!
وأما المصرية المسلمة التي يبني بها الأجنبي المسلم فلا حرج عليها فيما أعلم. ولست أنا من المتشددين في منع السلالات الإنسانية أن تمتزج على السنة المرضية. بل قد مضى لي زمان كنت أصف فيه لقاح الجنس المصري والأجناس القوية علاجاً من داء الركود
والضوىَ
وأما الفرق بين شروط الحليلة وشروط الخليلة فالتمثيل هنا أجدى من الإفاضة في التحليل: الفرق بينهما كالفرق بين شروط البيت وشروط الفندق، أو كالفرق بين مطالب الإقامة ومطالب السياحة، أو كالفرق بين دوافع الطبيعة وروابط الهيئة الاجتماعية، أو كالفرق بين الواجب والهوى وبين الدرس والقصيدة. . . ومن لم يفهم الفرق بينهما من هذا التمثيل، فما هو بفاهمه من الإفاضة في التحليل
على أنني تلقيت من الأسئلة في موضوع الزواج ما هو أقرب إلى الجديات والشؤون الجوهرية، ومنها السؤال عما يزعمه الزاعمون قسوة من الشريعة أو العرف على المرأة الخائنة، وإجحافاً منها في التمييز بين حقوق الرجال وحقوق النساء
ورأيي أنا أن المرأة أسعد حظاً في مسألة الخيانة من الرجل بحكم الطبيعة التي لا حيلة لأحد فيها. فمن الإنصاف أن يكون الرجل أسعد حظاً في مسألة الخيانة بحكم العرف والشريعة
فالرجل يخون المرأة التي يحبها، ولكنه لا ينسب إليها ولداً من غيرها، ولا يستطيع أن يخدعها في صدق أمومتها لأبنائها، وهذا ضمان عظيم لا يظفر الرجل بنصيب منه بالغاً ما بلغ حرصه واطمئنانه. ولكن المرأة تسلط على الرجل عذاباً لا عذاب مثله، أو غفلة لا غفلة مثلها، كلما خانته وجاءته بولد من غيره وهو منسوب إليه، وكل جور من العرف أو القانون في التمييز بين الجنسين، فإنه لرحمة الرحمات بالقياس إلى هذه المزية التي ضمنتها المرأة ضماناً لا يتطاول إليه عرف ولا قانون
كذلك يحق للمرأة أن تلوم الطبيعة قبل أن تلوم الشريعة في التمييز بين حقوق الرجال والنساء، أو بين حقوق الذكور والإناث.
فالمرأة إذا حملت لم تحمل مرة أخرى في بطن واحد، ولكن الرجل ينسل مئات المرات وهي ولا تنسل إلا هذه المرة الواحدة. فليس من الطبيعي إذن أن يطالب الرجل بالوفاء الجسدي الذي تطالب به المرأة، وليس هذا من مقتضيات حفظ النوع ولا من مقتضيات تركيب البنية الجسدية
ويحق للمرأة أن تلوم الطبيعة قبل أن تلوم الشريعة في ناحية أخرى من نواحي التفرقة بين
الجنسين، وهي شيخوختها وفقدانها المزية الجنسية قبل أن يفقدها الرجل بعشرات السنين، لأن الولادة تجهدها وتضنيها وتجور على محاسنها وقواها
على أن الطبيعة قد عوضتها عن هذا أنها تستغرق في الجنس وتستغرق في الحب وتستغرق في الأمومة، فهي تأخذ في أربعين سنة من نصيب الشواغل الجنسية وشواغل النسل ما ليس يأخذ رجل في ثمانين، لانصرافه إلى ما عدا ذلك من فروض الحياة.
وبحث آخر قد حركته الأسئلة التي أثارتها كتابتي عن موضوع الزواج، وهو تشجيع الزواج بالقوانين أو بفرض الضرائب على العزاب
وعندي أنه رأى خاطئ من شتى الوجوه، لأنه يستبقي عيوب الزواج التي ينبغي أن تزول، ولعلها لا تزول إلا بالإعراض عن الزواج في بعض الأحوال
مثال ذلك عيب المغالاة بالمهور، فلو أن القوانين أكرهت الناس على الزواج لبقى هذا العيب ولم يشعر أحد بضرورة العدول عنه كما شعر الأكثرون في مصر من جراء الإعراض عن مرهقات الزواج وفي مقدمتها المهور. ولقد بلغ من شعورهم به أن بعض الموسرين جعلوا من أنفسهم قدوة للفقراء بالإقلال من قيمة المهر حتى نزلوا به إلى دراهم لا تتم الدينار
ومثال ذلك عيب الإغراق في الحجاب والتهاون في تزويد الشابات بمحاسن التعليم والتجميل التي ترّغب فيهن الشبان. فلولا الإعراض عن الزواج حيناً لما التفت أحد إلى هذا العيب، ولوجب على الشاب أن يتزوج بحكم القانون لا بحكم التفضيل والاستحسان. وهل يجيء التفضيل والاستحسان إلا من التنافس في الفضائل والحسنات؟ وهل يجيء التنافس في الفضائل والحسنات إذا أكره الناس على الزواج وكان الباعث لهم إليه أنهم يفرون من وطأة الضرائب وفرائض الإلزام؟
ومثال العيوب التي يبقيها التشجيع على الزواج بالدوافع المصطنعة والزواجر القانونية عيب العرف الذي تتبعه الفتيات في تفضيل شاب على شاب وصناعة على صناعة
فالقانون يفرض الضريبة على الشاب الذي لم يتزوج ولا يفرض مثلها على الفتاة التي ترفض هذا الفتى لأنه تاجر وليس بموظف، أو ترفض فتى غيره لأنه موظف وليس بضابط، أو ترفض فتى آخر لأنه سيقيم في الأقاليم ولا ينوي الإقامة في العواصم، وليس
هذا من العدل في التشريع، ولا هو من مصلحة الفتيات أو مصلحة الزواج.
والأولى بالشرائع أن تعني بأمرين هما خير من العناية بالإكراه على الزواج، إذا كان الغرض من الإكراه على الزواج زيادة النسل وقلة الفساد:
الأولى بالشرائع أن تعني (أولاً) بتصحيح أجسام المولودين وتصحيح أجسام الآباء والأمهات قبل الزواج
فلو أن ألفاً من المرضى والعجزة والفاشلين تزوجوا ورزقوا البنين والبنات لما كان هذا مانعاً أن يموت معظم المولودين في سن الطفولة، وأن يعيش من يعيش بعد ذلك أفشل مما عاش الآباء والأمهات
وخير من هذا أن تُتَحرى الصحة في طلاب الزواج، وأن تتحرى التربية التي تصون حياة الأطفال من عبث الجهل والإهمال والأولى بالشرائع أن تعنى (ثانياً) بتبغيض الناس في الفساد لا بمجرد الحجر عليهم وهم يشتهونه ويقبلون عليه
ٍوإنما يصبح الفساد بغيضاً إذا كانت الاستقامة أطيب منه وأمتع وأدنى إلى الأنفس والأيدي، ولن يكون الأمر على هذه الصفة إذا كانت الأخلاق المفروضة على الناس أخلاقاً غير معقولة ولا مستندة إلى سند غير التقليد والاستمرار، ولن يكون الأمر على هذه الصفة إذا كانت بطالة الأغنياء وعوز الفقراء دافعين ملحين إلى الترف وبيع الأعراض، ولن يكون الأمر على هذه الصفة إذا كان فساد الأزواج كفساد العزاب، ولم يكن الزواج وحده عصمة لذويه على اختيار أو على اضطرار
وبعد فقد كتبنا عن الزواج مقالاً بعد مقال؛ فهل نستطيع أن نكتب في هذه المسألة الاجتماعية الإنسانية على الأسلوب الذي كتب به برتراند رسل الإنجليزي، وليون بلوم الفرنسي، وغيرهما من كتاب أوربا الوسطى؟
أما أنا فأستطيع!
وأما الشك كل الشك فهو في استطاعة كثير من القراء الشرقيين أن يستمعوا لآراء كتلك الآراء، ولو ليخالفوها أو يتبينوا ما فيها من الأخطاء!
عباس محمود العقاد
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
كلام ينفع! - فائدة تاريخية - أساطير الأولين - اختراع
الأحاديث - محاربة الوثنية - الحصار الفني في الإسلام -
إلى معالي وزير الأوقاف - أجيبوا، يا أصدقاء الرسالة -
الأجاج - بلد الأستاذ أحمد أمين - بين الرسالة والثقافة - أيام
وأيام - يوم البعث
كلام ينفع!
لقيني بعض الأصدقاء وهو منزعج أشد الانزعاج، فقلت: ماذا بك؟ فأجاب: صديقي فلان كان يلقاني في كل يوم؛ ثم انقطعت عني أخباره منذ أيام، وأنا أخشى عليه كوارث هذه الأوقات السود
فقلت: هل كان يحاول الانتفاع بجاهك في شأن من الشؤون؟
فقال: وما الموجب لهذا السؤال؟
فقلت: إن كان ذلك فلا تضجر ولا تنزعج، ولا تتوهم أن سيارة داسته، أو أن قنبلة سقطت عليه، وإنما يجب أن تسر وتفرح، لأن انقطاعه عنك ليس إلا أمارة على أن تعبك في خدمته قد وصل به إلى ما يريد، فاستغنى عن التودد إليك!
فقال: أكذلك يكون إخوان هذا الزمان؟
فقلت: كذلك كان الإخوان من قديم الزمان، وسيكونون كذلك إلى آخر الزمان!
فقال: ولكني مع ذلك مشتاق إليه أشد الاشتياق
فقلت: صبراً ثم صبراً، فستشبع من رؤيته يوم يحتاج إليك، وسيحتاج ثم يحتاج، لأن الله كتب الفقر على من ينكرون الجميل
فائدة تاريخية
كان العرب يؤرخون بواقعة الفيل، قبل أن يؤرَخوا بهجرة الرسول، فكيف كانوا يؤرخون قبل هلاك أصحاب الفيل؟
أرَّخ الدميري هجوم أبرهة على الكعبة بأنه كان في أول المحرم سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين
فهل يتفضل أحد كتاب (الرسالة) بتحقيق هذا التاريخ؟
المعروف جيداً أن العرب قبل الإسلام قد اختلفوا في التوقيت، وذلك يشهد بتأثرهم للحركة العلمية عند المصريين والكلدانيين، فهل يمكن الوصول إلى معرفة ما كانوا عليه في التأريخ قبل أن ترج أذهانهم واقعة الفيل؟
والمعروف أيضاً أن العرب قبل الإسلام كانت لهم صلات قوية أو ضعيفة بأمم ذلك العهد، وجرتهم تلك الصلات إلى وقائع لا تمر بدون ضجيج تتناقله الأجيال، وإن مرت بدون تدوين يحدد مواقعها من التأريخ
على أنه ليس من المستغرب أن يكون العرب أرَّخوا بموت ذي القرنين، فقد كان له في أذهانهم صورة صخَّابة ضجَّاجة، ولولا ذلك لسكت عنه القرآن، لأن القرآن لم يذكر من حوادث التاريخ إلا ما كان له في أذهان العرب وجود برَّاق، ليتم الغرض من الاعتبار المنشود.
أساطير الأولين
و (أساطير الأولين) كلمة قرآنية يحكمها القرآن عن العرب الذين يطيب لهم أن يشككوا فيما رواه من أخبار القدماء
وهذه الكلمة تشهد بأن جمهور العرب في تلك الأيام كان يملك ملامح من صور النقد الأدبي، فقد كانوا بشهادة القرآن يقسمون الأخبار إلى قسمين: صحيح ومدخول، وكان من سياستهم في مقاومة الدعوة الإسلامية أن يضيفوا أخبار القرآن إلى القسم المدخول فيجعلوها من أساطير الأولين. وما صدَق من عاندوا القرآن، ولكن إصرارهم على مقاومته بهذا الأسلوب يشهد بما كانوا عليه من مكر ودهاء، وهما من صور الذكاء
اختراع الأحاديث
والذي يراجع كتب التفسير وكتب الأخبار يعجب للثروة الأدبية التي سايرت قَصَص القرآن، وهي ثروة لم تورث كلها عن عرب الجاهلية، وإنما ابتدعها فريق من الجاهليين وفريق من الإسلاميين، وهي في جملتها شاهد على براعة العرب في ابتداع الأسمار والأحاديث
ولو اهتمّ كاتب بتلفيق ما اخترع العرب من الأقاصيص المتصلة بالسور القرآنية لكان لنا من ذلك (إلياذة) عربية تفوق الإلياذة اليونانية، وتشهد بأن العرب لا يقلون عن اليونان في سعة التصور وقوة الخيال
فمتى يوجد ذلك الكتاب، ومتى نرجع لماضينا فنعرف ما كان فيه من تصاوير وتهاويل، ليضعف الوهم القائل بأن نصيب العرب من التخيّل قليل؟
محاربة الوثنية
ولكن ما الذي دعا العرب إلى وقف تلك الحركة الفنية، بحيث يُظَنَّ أنهم أقل الأمم عنايةً بزخرفة الأخبار المتصلة بالدين؟
يرجع ذلك إلى تأثرهم بالقرآن في محاربة الوثنية، وهذه الدعوة السليمة في جوهرها كانت السبب في صرف كثير من الأمم الإسلامية عن الزخارف الأدبية والفنية، لأن الزخرف الأدبي والفني لا يقوم إلا على التلوين والتزيين، وذلك ممنوع في نظر رجال الدين، لأنهم يرون الافتنان في زخرفة الأخبار الدينية أمراً لا يليق، فقد يسوق الناس إلى الوثنية من حيث لا يشعرون
الحصار الفني في الإسلام
ما معنى هذا التعبير الغريب؟
أنا مُقبل على عرض مسألة فنية كان لها تأثير في تضييق نطاق الدعوة الإسلامية، وما أحب أن يتهمني أحد بسوء النية، فلي غرض شريف أرجو به من الله الثواب
ماذا أريد أن أقول؟
أقول بصراحة إن الإصرار على تجريد المبادئ الإسلامية من الزخارف الفنية كان له تأثير في عرقلة الدعوة الإسلامية، لأن الذين حَّرموا التصوير وقاوموا الأساطير نسوا أن في
الدنيا ملايين لا تقاد لأية فكرة دينية إلا إن كانت موشَّاة بالزخرف والخيال!
ولهذا السبب ضاعت الفرصة في إسلام الأمة الروسية، حين فكرت في اعتناق إحدى الديانات السماوية، منذ بضع مئات السنين
ظلت روسيا على عقائدها الوثنية إلى ما بعد ظهور الإسلام بأزمان طوال، ثم بدا لها أن توازن بين المسجد والكنيسة، فها لها أن ترى المسجد محروما من البريق والرّواء، وراعها أن ترى الكنيسة تحفة من الفن المرصّع بغرائب الخيال
وسألت روسيا بعض علماء المسلمين عن قواعد الإسلام فكان أول ما سمعت هو القول بتحريم الخمر، مع أن نبيّ الإسلام لم يحرم الخمر إلا بتلطف واستدراج
وكذلك كانت غفلة الدعاة عن سياسة القول سبباً في منع الإسلام من دخول البلاد الروسية، كما كانت خشونة المساجد من أسباب الانصراف عن هذا الدين الحنيف
وأقول أيضاً: إن الحكمة في تجريد المساجد من الزخرف كان لها مكان في بداية الدعوة الإسلامية، فما مكانها اليوم ولم يبق أثر للخوف من رجعة الوثنية؟
يجب أن يكون لمساجدنا نصيب وافِ من الزخارف الفنية، ويجب أن تكون على جانب عظيم من الرونق والبهاء، ويجب أن نشعر بأن جمالها يذكّر بجمال الفردوس، لتكون الواحة التي نأنس إليها عند الفرار من هجير الشقاء في طلب المعاش
ما هذا الأزهر القفر الموحش؟
ألا تمتد إليه يد فتنقله من حال إلى أحوال؟
وما جامع عمرو في بلائه بالدنيا والزمان، وهو أول مسجد أقيم في هذه البلاد؟
وما هذه الخرائب المنثورة في الحواضر والدساكر على أنها مساجد؟
أفيقوا من غفلتكم، يا دعاة التقشف المدسوس على الدين، وتذكروا مرة واحدة أن تجميل المساجد من أبواب الاقتصاد، لأنه يغني الناس عن تبديد أموالهم في المشارب والقهوات، وبأي حق تكون بيوتكم أجمل من بيوت الله، إلا أن تكون نياتكم أقيمت فوق خرائب وأطلال؟
إلى معالي وزير الأوقاف
وهو اليوم رجل بارع الأدب، وافر الذوق، متين الدين، وكأنه صورة من محمد عبده أو
عبد العزيز جاويش، إلى الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا أوجه القول:
في هذه الأيام - ولعل هذا من وحي خاطرك - أخذت وزارة الأوقاف تتأنق في بناية العمارات المرصدة للاستغلال، فلم يَعُد (بيت الوقف) كالذي كان في ذهن حافظ إبراهيم وهو يداعب صديقه حفني ناصف، وإنما صار (بيت الوقف) بِنيَّة تنافس بِنيّة (الجراند أوتيل) في باريس، وصار طلاب المنافع عن طريق العمارات الشواهق يخشون منافسة وزارة الأوقاف
فهل ترى من الخروج على عنجهية بعض المشايخ أن يكون في كل حاضرة مسجد أو مسجدان أو مساجد على أحدث طراز من التأنق في الزخارف الفنية؟
أنت فرصة من فرص السوانح، يا مصطفى باشا، فلن تكون وزارة الأوقاف إلى رجل مثلك في كل وقت، فبادر إلى تجميل بيوت الله، ليزيدك الله جمالاً إلى جمال، وكمالاً إلى كمال، وليكون أسلوبك في الإصلاح، شبيهاً بأسلوبك في الإفصاح
أجيبوا، يا أصدقاء الرسالة
لنا صديق من رجال الأدب يحاول أن يحتكم الى العقل في جميع المشكلات، فما مشكلة اليوم عند هذا الصديق؟
هو يوازن بين الاحتلال والاستقلال، ومن رأيه أن الاستقلال وسيلة لا غاية، فإذا تمت نعمة الرخاء مع الاحتلال فلا موجب لوجع الدماغ في طلب الاستقلال
وأنا أنتظر آراء أصدقاء الرسالة في هذا الرأي الطريف لأنه بالتأكيد من الآراء التي تساور مَنْ مناهم الألمان بنعمة العافية في ظلال الاحتلال!
الأجاج
أشرت في أحد الأحاديث إلى الأجاج، فما الأجاج؟
هو نوع من السمك الجيد، وكان يوجد بالبحيرات المصرية ثم انقرض، ولكن كيف انقرض؟
كان الصيادون لجشعهم، لا لجهلهم، يضيقون عيون الشباك ليجترفوه بالمئات، فكان من أثر هذا الجشع أن انقرض ذلك النوع من السمك النفيس
حدثني بهذا الأستاذ عبده حسن الزيات تأييداً لما كنت أقول من أن الفقر سبَبَهُ الخيانة لا الجهل. وهل يجهل أحد أوجه الضر والنفع حتى نقول إن الفقراء يُعذَرون لأنهم جهلاء؟ وهل كان جميع الأغنياء من المزوِّدين بعلم الاقتصاد وعلم تدبير المعاش؟
مازلت أذكر ضحكة الشيخ عبد الباقي سرور، رحمه الله، وقد تلقينا في جريدة الأفكار سنة 1919 شكاية للصيادين من إصرار الحكومة على تضييق عيون شباك الصيد!
كنا نظن عمل الحكومة تعسفاً في تعسف، ولم نكن ندري أن الثروة المصرية تحتاج إلى حرّاس أمناء، ولو كانت مصادر تلك الثروة في أعماق البحيرات
واستطرد الأستاذ عبده حسن الزيات فقال: حضر أحد النواب المقربين إلى سعادة الأستاذ الجليل محمود فهمي النقراشي باشا ومعه وفد من الصيادين المطالبين بتضييق عيون الشباك، وكان النقراشي باشا يومئذ وزير الداخلية، فغضب وقال:(ألا يعرف حضرة النائب المحترم أن هؤلاء الصيادين يريدون أن نعينهم على قطع ما منّ الله به عليهم من مصادر الرزق؟ إن منفعة الصياد في أن تكبر الأسماك، ليبيع بالواحدة لا بالقُفة، وليصبح الصيد من أنواع الفروسية، فما موجب الجشع في تضييق عيون الشباك)
مصر أمة بحرية، ومع ذلك لا توجد عند أهلها النزعة البحرية في الأدب والبيان، إذا استثنينا القصائد والرسائل التي أوحتها الشواطئ منذ أعوام قِلال
أفلا يكون من أسباب انعدام الأدب البحري عند أهل مصر حرمانهم من السمك الجيد في النيل والبحرين والبحيرات؟
بأي حق يجوز أن يقضي المصري سنة بدون أن يرى وفرة الأسماك في الأسواق؟ أليس ذلك برهاناً على أننا لا نجيد الصيانة لثروتنا الأهلية؟
كانت أسماك مصر حديث القدماء من المؤرخين فأين هي اليوم؟
إن أبناء مصر أبادوا التماسيح من مياه النيل، فكيف يبقون على الأسماك؟!
بلد أحمد أمين
جاء في (المنصورة) - وهي المجلة التي تصدرها مدرسة المنصورة الثانوية - أن الأستاذ أحمد أمين منصوريُّ المنبت، وأقول إن الأستاذ أحمد أمين نفسه حدثني أن آباءه من المنوفية، وإن تحلى بالتواضع فلم يدّع أنه من سنتريس
ولم يكن يهمني أن يُزيف نسب أحمد أمين إلى المنوفية، ولكن مقاله عن (غاية العالم) أقنعني بأنه موهوب، ولا بأس بإضافته إلى المنوفية، وإن كان في مقاله عبارات سمعت مثلها في تمهيد الدكتور إبراهيم ناجي لبحثه عن (نفسية المرأة) مع فارق بسيط: هو أن الدكتور ناجي أشار إلى المصدر الذي نقل عنه وأن الأستاذ أحمد أمين لم ير موجباً لذلك، فدلنا من جديد على حسن هضمه لما يقرأ من آراء الباحثين، بحيث ينسى أنه ينقل عن هذا المفكر أو ذاك
بين الرسالة والثقافة
تلطف الأستاذ محمد فريد أبو حديد فنقل تحية أدباء السودان إلى مبارك والزيات، وحدثنا أن الخطباء الذين أثنوا على جهوده الأدبية كانوا يقولون إنه من كتًاب (الرسالة) وأن ذلك وقع من نفسه موقع الارتياح، فقد سره أن تكون (الرسالة) على ألسنة جميع الناس في ذلك القطر الشقيق
وأقول إن مجلة الثقافة أخلفت الظن الجميل بعض الإخلاف، فقد كنا نرجو أن تكون أقوى من مجلة الرسالة، وأن تفتح باباً من المنافسة تنتعش به الحياة الأدبية، ويتسع به المجال أمام الشادين من أبناء الجيل الجديد
والحق أن طغيان (الرسالة) على (الثقافة) يسر المتطلعين إلى تقدم العلوم والآداب والفنون، لأنه يشهد بأن القراء في البلاد العربية قد وصلوا إلى غاية من النضج يصعب معها الأمل في إرضائهم بالجهد القليل، و (الرسالة) تبذل جهداً لا تبذله (الثقافة) وإن استندت (الثقافة) إلى علماء من (كل صنف) كما نوه بذلك الأستاذ أحمد أمين
أنا أرجو أن تهتم (الثقافة) اهتماماً جدياً بتخيّر موضوعاتها، وأن تعنَى عناية خاصة بتخير الشعر الذي تنشره؛ فقد يتوهم الناس في بعض الأقطار العربية أن الشعر في مصر لم تبق له موازين يُعرف بها الراجح من المرجوح
والحرص على منفعة (الثقافة) هو الذي أباح أن نوجه إليها هذا النقد الرفيق، مع الاعتراف بما تقدم من الوَقود الجزل لنار الأفكار والعقول
متى يجيء اليوم الذي نرى فيه خمسين مجلة من أمثال (الرسالة) و (الثقافة) بالخصائص التي عُرفت عن هاتين المجلتين، في التسامي إلى أدب القول وإعزاز البيان؟
الله عز شأنه هو المرجو لتحقيق هذا الأمل الجميل
أيام وأيام
وقعت غارتان على الإسكندرية في ليلة واحدة، ومع ذلك لم يُصب غير بضعة أشخاص، فكيف وقعت هذه المعجزة بعد انقضاء عهد المعجزات؟
يرجع السبب إلى أن الغارتين وقعتا في أحياء هجرها أهلوها فراراً من شراسة الخطوب، فما أقسى الدهر الذي يحكم بأن يرى أهل الإسكندرية أن الحياة أفضل من الموت؟
لو كان بيننا وبين الألمان حرب، لكان من المستحيل أن يترك أهل الإسكندرية بلدهم الجميل قبل أن يجعلوه مقابر للباغين والمعتدين، ولكن الظروف الدميمة قضت بأن يعيش الإسكندريون مجردين من السلاح، وما أشقى من يعيش بلا سلاح في أيام لا يأتمر أهلها بغير البغي والعدوان!
هل تنتفع مصر بهذا الدرس؟ ومتى؟ وكيف؟
إن بلاء مصر بزعمائها سيطول، ويطول، ويطول، فمتى يَعقِلون؟
يوم البعث
وأنا مع هذا لا أيأس، ولن أيأس ما دام دم الفتوّة المصرية والفتوة العربية والفتوة الإسلامية، يجري في عروق الفتيان من أهل مصر والشرق
يجب أن نفهم جيداً أن القوات الأوربية صائرة إلى الفناء، لأنها تجاوزت حدود الله، ولأنها تستبيح قتل الأبرياء، ليتم لها ما تريد من إعزاز شرائع الشياطين
(ألمانيا فوق الجميع)!
ذلك مطلع النشيد الألماني، وهو نذير بما سيصير إليه الألمان، فما تغطرست أمة إلا ابتلاها الله بالذل وسلَّط عليها الضعفاء
اعتقد فراعين مصر أنهم سلالة الشمس وأبناء السماء، فأدال الله منهم وعرَّض أحفادهم وأسباطهم لعوادي الاستعمار والاحتلال.
واعتقد الرومان أنهم سادة الناس، فأباد ملكهم بلا إمهال.
واعتقد العرب أن أُرومتهم أشرف من جميع الأرومات، فكتب الله عليهم التخلف، وجعل
نصر الإسلام بأيد غير أيديهم لأنهم خانوا عهد زعيمهم الأكبر، ولم يفهموا أن الإسلام دين مبادئ لا دين أجناس
فما مصير ألمانيا وهي تعتقد أنها فوق الجميع؟
إن هذه العقيدة ستأنى على بنيان ألمانيا من الأساس، فستؤلب عليها الشعوب، وستخلق لها أعداءً لا يعرف عددهم غير من تفرد بالعزة والجبروت
(ألمانيا فوق الجميع) و (ألمانيا فوق الجميع) ثم (ألمانيا فوق الجميع)!
ولهذا المعنى وحده ستصير (ألمانيا تحت الجميع)؛ وإن عشنا فسنرى، وإن عشتم فسترون، فما أذل الأفراد والشعوب غير الاعتصام بالسيطرة والاستعلاء
لو كان (لهتلر) مستشار أمين لدله على أن الرجولة ليست في البطش الأحمق، وإنما الرجولة أن تحارب من تسلَّح بمثل سلاحك، أما إيذاء مدينة مجردة من السلاح، فهو عمل لا يقوم به رجل يتوهم أن أمته فوق الجميع
أما بعد، فهذا يوم البعث، وسأعيش بإذن الله إلى أن أرى الأنوار تنتصف من الظلمات، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون)، وعند الله جزاء المخلصين الأمناء
زكي مبارك
جيل وجيل
للأستاذ محمود البشبيشي
- 2 -
(كان هذا المقال قد فقد بيننا وبين البريد فنشرنا الثالث قبله؛
فلما وجدناه نشرناه وسننشر المقال الرابع بعده)
التأمل فن الفنون - فلسفة التأمل - هل يكون الحب رائد
ضلال؟ - صلة الروح بين سائر الأشياء - الرذائل تضعف
التأمل، والمغالاة في الفضائل تفسده - مسلك الشكوى وبكاء
الآمال في أدب الشباب - غلبة الغزل في شعرهم وهل من
المستطاع توازنها مع سائر الأغراض؟.
. . . ومن الأفكار أفكار تنفخ في الألفاظ أرواحاً، فتخلقها آراء حية، لا تعترف بقيود الفناء، لأنها من جوهر الروح، ولا يعتريها الضعف في التعبير عن وجودها، لأن كل كلمة فيها قوة روحية، ومن هذه الأفكار والآراء ما دار بيني وبين ولدنا الأديب (حسين) في المقال السابق، حيث انتهينا إلى أن التأمل أساس الحياة تصلح بصلاحه وتفسد بفساده، وإن قوة الأجيال بقوة الروح والفكر فيها، وقادنا الحديث إلى أدب الآباء وأدب الأبناء. بدأنا بشيء من الفلسفة، وخلصنا من أوعارها وأوعاثها إلى رياض الأدب، وسنبدأ اليوم كما بدأنا، وسننتهي كما انتهينا. . .!
- أنا معك يا بني في أن التأمل أساس الحياة، ولا يسعني إلا أن أدعو القوم إلى سبيله الصحيح، وأهيب بهم أن تأملوا في الحياة وأحوالها، تبسم لكم زهورها، وتتساقط تحت أقدامكم ثمراتها، وتسمعوا أنشودة السعادة والنصر في بسمة الصبح وجلوة المساء! ويحس كل فرد نعمتها فيعمل على زيادتها وتعمل هي أيضاً، لأن الحياة ككل شيء تعطي بمقدار ما تأخذ! وحقيق بالعاقل أن يتأمل مشكلاته ويقلبها على رأى يعقد عليه القلب، ويسن عليه
الأمر، فلا يرمي إلا عن قوس عقيدة راسخة، والرجل الصادق في تأمله من كان الإيمان أعلق بقلبه من الشك، والطفرة آثر عنده من التردد، والحقيقة أشهى إليه من الظواهر الكواذب، والمغالبة في سبيل الحق آنس له من الاستكانة في أرض الهجود!
- هذا حق يا ولدي، فإن التأمل فن للفنون، تترعرع في ظلاله كل فنون الحياة من سرور وحزن وحب وتقدير، وهل يجيء السرور إلا بعد الشعور باللذة والنشوة التي يكتشفها الإحساس بعد قليل من التأمل في نتائج العمل الذي نشعر نحوه بالسرور؟ وفن الحزن أيضاً. فنحن لا نشعر بالحزن والألم من شيء إلا بعد التأمل في مداه وسبر غوره وما يخلفه من أثر، ثم ما هو أكثر من ذلك. فنحن قد نستمر في الحزن ونسايره ولو ذهب المؤثر، لأننا نتأمل ونطيل التأمل؛ وفن التقدير والاعتراف بالفضل، لا شك أن التأمل أساسهما إذ كيف نحكم على شيء بالجودة إذا لم نتأمله! وفن الحب، وهل هناك حب لم يلهبه التأمل؟ إن الإنسان في حبه يتأمل بكل حواسه، بعينه وشعوره وقلبه
- قد بينت يا بني خطر التأمل، فهل نسيت أن التأمل كأساس للحياة بتأثر بالميول والعواطف كالحب والكراهية والطمع والغيرة، تلك العواطف العمياء الضاربة في الضلال
- ماذا أسمع؟ كيف يكون الحب رائد ضلال؟ كيف يكون أيها الوالد الكريم، وهو العاطفة الروحية السماوية التي تربط الإنسان بخالقه، والتي تولد مع الوليد فيميل إلى والده وأقاربه بطبيعة الحب الروحي فيه، والتي نلمسها في الحيوان قوية واضحة، وهو الذي لا يدرك ولا يفكر تفكيراً يصح أن ينطبق عليه حقيقة التفكير بكل معانيه. وكيف تكون الروح عمياء! إننا إذا نظرنا إلى حيوانين من فصيلتين مختلفتين، ورأينا
كان على يوسف يدعو لرأي سياسي؛ وكذلك كان عبد القادر حمزة، فعمدا كلاهما إلى أن يصلا إلى قلوب الجماهير في يُسر لا تكلف فيه، فتوخيا سهولة العبارة، وجانبا النابي من الألفاظ، والمستصعب من التراكيب، كما جانبا الزخرف والتعمل والتفصح، فجاء الأسلوبان من السهل الممتنع حقاً.
على أن الرجلين نبتا في عصرين مختلفين كل الاختلاف: فلم تكن الكتابة - كما أشرنا آنفاً - قد نهضت بعد في عصر علي يوسف، بل كانت تحبو إلى النهوض. فليس غريباً إذاً ألا تخلو مقالاته - على ما فيها من حياة وقوة - من زلاًت لغوية وتركيبية، وأن يتداخلها
أحياناً شيء من ضعف التأليف، نلحظه دائماً في كتابات ذلك العصر.
ولا كذلك عبد القادر حمزة: فقد نشأ في بيئة غير تلك، وعصر نُبهت فيه العربية، ونضجت الأقلام، حتى إن مصر لتُباهي فيه بكتاب هم بلا شك من مفاخر العربية.
هذه إلمامة عامة مجملة. وتفصيلها يقتضي بحثاً طويلاً، ودراسة مسهبة لهؤلاء الرجال وأزمانهم وثقافتهم، ثم كتاباتهم، وكيف كانت أولاً، وكيف تطورت، وعوامل كل أولئك ونتاجه. ولا شك أن تاريخ الأدب الحديث سيقول في ذلك كله قوله الفصل.
(ا. ع)
إلى الأستاذ محمود شلتوت
ورد في مقالكم القيم (الإسلام والعلاقات الدولية) العدد 415 من الرسالة الغراء عن أسرى الحرب في الإسلام ما يلي: وخير الإمام بين إطلاقهم من غير مقابل وفدائهم على حسب ما يرى من المصلحة. وقد منَّ صلى الله عليه وسلم وفادى بالمال وبتعليم الأسارى أبناء المسلمين الكتابة. أما استرقاقه صلى الله عليه وسلم أو إباحته للاسترقاق فقد كان مجاراة لحالة اجتماعية سائدة في الأمم إذ ذاك ولم يكن على وجه التشريع العام، وإنما التشريع العام في ذلك قوله تعالى:(فإما مَنَّا بعد وإما فداء)
فهل لنا يا سيدي الأستاذ أن نفهم من ذلك أن الرق في الإسلام من قبيل الأحكام التي تزول بزوال أسبابها ومقتضياتها كتركه صلى الله عليه وسلم صلاة التراويح بالناس معللاً هذا الترك بقوله: إني خشيت أن تفرض عليكم. حتى إذا ما أكملت الشريعة وفصلت الأحكام وانتقل النبي الكريم إلى الرفيق الأعلى وزالت خشية فرضيتها جمع عمر بن الخطاب الناس عليها وقال: نعم البدعة هذه؟
وكذلك ما ذهب إليه كثير من فقهاء السلف والخلف من إسقاط المؤلفة قلوبهم من سهم الزكاة مع أن الآية بظاهرها قد جعلت لهم نصيباً مفروضاً منها؛ قال تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم) الآية 60 من سورة التوبة، وقالوا إن إعطاءهم هذا السهم إنما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام إذ ذاك في قلة وضعف. وقد زال ذلك بظهور الإسلام وإعزازه واستغنائه عن تأليف القلوب لدخولها فيه
أو كف أذيتها عنه. ولهذا فإن الخلفاء الراشدين لم يعطوهم شيئاً. وقال عمر إنا لا نعطي على الإسلام شيئاً فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وقد اشتد في رده للأقرع ابن حابس المجاشي وعيينة بن حصن الفزازي في خلافة الصديق رضي الله عنه وقال لهما: اذهبا واجهدا جهدكما، لأرعى الله لكما إن رعيتما. لقد تألفكما رسول الله والإسلام قليل
وقد تغيرت اليوم الأوضاع الاجتماعية للأمم وأصبح الرق السائد في الأمس يكاد أن يتواضع الناس اليوم على أنه إضرار وجريرة كبرى. فهل لنا يا سيدي الأستاذ في مجاراة هذه الحالة السائدة اليوم أن نمنع الرق في الشريعة الإسلامية كما منعنا سهم المؤلفة لزوال المقتضيات والأسباب؟
وتقبلوا فائق التحية والاحترام
محمد كامل الحمامي
نزيل القاهرة
تصحيح مثل
قرأ البلاغيون في بعض الكتب من ضمن الأمثال قول القائل: (النحو في الكلام كالملح في الطعام) وهو قول كما ترى فاسد خاطىء، فأتعبوا أنفسكم في نقده وتشريحه، وإيراد التأويلات المختلفة لتصحيحه وتسويغه؛ فقال الخطيب القزويني في كتابه (الإيضاح) ما نصه:(وإذا علم أن وجه الشبه هو ما يشترك فيه الطرفان - يعني المشبه والمشبه به - علم فساد جعله في القول القائل: (النحو في الكلام كالملح في الطعام) كون القليل مصلحاً والكثير مفسداً، لأن القلة والكثرة إنما يتصور جريانهما في الملح، وذلك بأن يجعل منه في الطعام القدر المصلح أو أكثر منه دون النحو، فإنه إذا كان من حكمه رفع الفاعل ونصب المفعول مثلاً، فإن وجد ذلك في الكلام فقد حصل النحو فيه، وانتفى الفساد عنه، وصار منتفعا ًبه في فهم المراد منه، وإلا لم يحصل وكان فاسداً لا ينتفع به. فالوجه فيه هو كون الاستعمال مصلحاً والإهمال مفسداً لاشتراكهما في ذلك. . .)
والحق أنني لم أسترح إلى قبول هذا التوجيه الذي ذكره الخطيب لتصحيح المثل، وبقيت منه على علة؛ وبينما كنت أقرأ في كتاب (نفائس المجالس السلطانية) الذي نشره الدكتور
عبد الوهاب عزام ضمن كتابه الأخير (مجالس السلطان الغوري)؛ إذا بي أقف على تحريف في المثل السابق، وأعلم أن صحته كما جاء في الصفحة الثامنة والستين من كتاب النفائس المذكور إذ وردت فيه هذه العبارة:
قال بعض الحكماء: الهزل في الكلام كالملح في الطعام!
ومن اليسير على القارئ أن يدرك جمال المعنى في قول ذلك الحكيم: (الهزل في الكلام كالملح في الطعام) فإن الكلام إذا خلا من الهزل المباح المحمول كان جافاً ثقيلاً، وكانت النفوس أسرع إلى النفور منه والعزوف عنه، وقد كان النبي صلوات الله عليه يمزح أحياناً؛ وإن كان لبلاغته وتمكنه وعصمته لا يقول في مزاحه إلا حقاً. وإذا زاد الهزل في الكلام كان ذلك أدعى إلى الإفحاش فيه، والخروج به إلى المجانة والهذر. ولعل مما يستأنس به لذلك قول الرسول الكريم:(كثرة الضحك تميت القلوب) وقوله ما معناه: (كثرة المزاح تسقط الهيبة). وبذلك يتضح أن التشبيه - بعد التصحيح السابق - قد استكمل شرائطه، وصار له من الجمال والدقة ما له.
فليُرح البلاغيون أنفسهم، وليستبدلوا كلمة (النحو) بكلمة (الهزل) فيستقيم لهم المثل، وفوق كل ذي علم عليم.
(البجلات)
أحمد الشرباصي
القصص
سمبرايدم
عن الإنجليزية
للأستاذ فوزي الشتوي
كان الجراح (بكتل) رحيماً على غير عادته، برغم حادثة بسيطة، أو بعبارة أدق برغم إهمال بسيط حدث في الليلة الماضية، فأدى إلى وفاة رجل كان ينتظر له الشفاء. وكان الرجل من أولئك البحارة الكثيرين، إلا أن وفاته أقلقت كبير الممرضين منذ الصباح. ولم يكن سبب قلقه وفاة الرجل، فهو يعرف الجراح (بكتل) في مثل هذه المسائل، ولكن جزعه كان يرجع إلى نجاح العملية الجراحية برغم دقتها وخطورتها، وبهذا انتقل أمر شفاء المريض من يد الجراح إلى يد الممرض وإلى العناية بأمر العلاج؛ ولكن الرجل مات، بدون سبب سوى إهمال بسيط، ولكنه سبب كاف لإثارة سخط الجراح (بكتل) وسبب كاف لإسماع كبير الممرضين قوارص الكلام، ثم إرسال موجة من الاضطراب بين صفوف جميع الممرضين والممرضات لمدة 24 ساعة كاملة
وعلى رغم هذا كله كان الجراح (بكتل) رحيماً على غير عادته، فعند ما أخطره كبير الممرضين وهو يرتجف رعباً بوفاة الرجل الفجائية لم تنفرج شفتاه عن كلمة تقريع أو لوم، وظلتا مضمومتين فانسابت منهما علامات الغضب بسكون لم يقطعه إلا سؤاله المستبشر عن صحة الرجل الآخر. ولم يصدق الممرض ما سمع فمن المستحيل أن يكون الدكتور سمع الموضوع فأعاد شرحه
ففقد الدكتور (بكتل) صبره وقال: فهمت. فهمت، وماذا جرى لسمبرايدم، هل هو مستعد لمغادرة المستشفى؟
- نعم يا سيدي وهم يساعدونه الآن على ارتداء ملابسه. قال كبير الممرضين مكملاً تقريره مسروراً لأن السلام يستقر بين جدران المستشفى:
فلم يكن للأرواح عند الدكتور (بكتل) من قيمة، وكان فقدها أحد حوادث المهنة التي لا مفر منها؛ أما الحالات وخصوصاً الحالات الغريبة، فقد كانت كل شيء لديه. ولهذا عوضه شفاء
سمبر ايدم عن وفاة البحار
أطلق الناس على الدكتور (بكتل) اسم الجزار. أما زملاءه فكانوا يعتقدون أنه لم يقبض على مبضع الجراح رجل أجراً ولا أكفأ منه. لم يكن رجلاً خيالياً ولا عاطفياً، بل كانت طبيعته علمية مضبوطة وصادقة. لم يكن الرجال في عرفه سوى ودائع لا شخصية لها ولا قيمة، إلا أن أمره كان يختلف في الحالات الغريبة، فكلما كان الرجل محطماً، وكلما قل الأمل في شفائه زادت أهميته في عيني الدكتور بكتل، فهو يتخلى عن شاعر الملك إذا كانت حادثته عادية ليعني بأمر متشرد تحدى جميع قوانين الحياة ورفض أن يموت
وهكذا كانت الحال في حالة سمبر ايدم. لم تجذب الدكتور بكتل غرابة أطوار سمبر ايدم ولا صمته، ولم يحاول إزاحة الستار عن مأساة غرابه كما حاول الصحافيون إثارة الناس دون جدوى في صحف الأحد. لم يثر شيء من هذا اهتمام الدكتور بكتل، وإنما أثار اهتمامه أن رقبة سمبر ايدم قطعت، وفي هذه النقطة وحدها تركزت كل لذته، فقد قطعت من الأذن إلى الأذن، وما كان جراح واحد من ألف ليرى بارقة أمل في شفائه، ولكنه بفضل عربات الإسعاف السريعة وبفضل الدكتور بكتل عاد مرة أخرى إلى الحياة التي حاول أن يتركها
وعندما عرضت الحالة على مساعدي الجراح بكتل هزوا رؤوسهم وقالوا محال، فقد أصيبت الحنجرة والقصبة الهوائية والعنق بأضرار بالغة فضلاً عن كمية الدماء الكبيرة التي نزفت. وبناء على هذه النتيجة جرب الجراح بكتل عدة وسائل، وأجرى عدة عمليات جعلت زملاءه برغم تضلعهم في الفن يقفون مشدوهين وأكثر من هذا أن الرجل شفى
وهكذا مر اليوم في المستشفى بسلام دون أن يسوده الاضطراب والذعر نتيجة لتقرير كبير الممرضين. فقد كان من الأمور السارة أن يغادره في ذلك اليوم سمبر ايدم صحيحاً معافى، بل إن جثة الطفل الذي صدمه الترام فعجنتها لم تؤثر على المرح السائد ولم ترسل موجه الأسف العادية
وأثارت قضية سمبر ايدم إعجاب كثيرين، وأثارت كثيراً من اللغط؛ فقد وجد في أحد منازل الإحسان مقطوع الرقبة والدم ينزف منها فتساقطت نقطة على الغرفة السفلي فدب الذعر في صفوف سكانها؛ وكان من الواضح أنه فعل فعلته وهو واقف ورأسه منحنِ إلى الأمام
حتى يظل نظره موجهاً إلى صورة موضوعة على طاولة، ومسندة إلى شمعدان، فأتاح هذا الوضع للجراح بكتل أن يتم معجزته. فلو تغير الوضع وكان انحناء الرأس إلى الخلف، لتمددت الأوعية العنقية وتم الانتحار على خير ما يرام، ولفقد الجراح بكتل لذة تنفيذ أعجوبته
ومضى سمبر ايدم طول مدة عودته إلى الحياة في المستشفى دون أن ينبس بكلمة؛ حتى ضابط البوليس لم يظفر من شفتيه بأية معلومات أو تفاصيل. ولم يعثر على إنسان واحد عرفه أو تحدث إليه؛ فقد كان ظاهرة غريبة شاذة. دلت ملابسه على أنه من أحط طبقات العمال، ولكن يديه دلتا على يدي رجل مهذب. وفحصت ملابسه قطعة قطعة فلم يعثروا فيها على ورقة واحدة أو دليل واحد يدل على ماضيه أو مركزه الاجتماعي، فلم يكن لديهم إلا الصورة الفوتغرافية
أما المرأة التي كانت تنظر من خلال الصورة فكانت بديعة صافية الجمال تلتقي عيناها بعيني المحدق فيها. وعبثاً بحث المخبرون السريون عن اسم مصورها؛ فقد كانت من تصوير أحد الهواة. وفي أحد الزوايا ظهر خط نسائي دقيق كتب (سمبر ايدم، سمبر الأمين) باللاتينية؛ وكما يذكر كثيرون كان وجهها من الوجوه التي لا ينساها الإنسان أبداً. نشرت صورتها في عدة جرائد رئيسية؛ ولكن مثل هذا الإجراء لم يظهر دليلاً جديداً وإن أثار فضول الجمهور ووفر المجال أمام الصحفيين للفروض والتخمينات
واشتهر المنتحر المنقَذ باسم سمبر ايدم لزوار المستشفى وفي العالم أجمع؛ فهو لم يحاول تغيير هذا الاسم. وتعب الصحفيون ورجال البوليس والممرضون في استطلاع أمره، ولكن شفتاه لم تنفرجا عن كلمة واحدة رغم بريق عينيه الذي كان يدل على أن أذنيه سمعتا وأن عقله أدرك ما وجه إليه من أسئلة. وأخيراً أهملوه وبقى له اسم سمبر ايدم
إلا أن الغموض الهائل والغرام العنيف لم يكن له معنى عند الجراح بكتل عندما استدعى مريضه إلى مكتبه، فهذا الرجل في عرفه هو الأعجوبة التي تمت على يديه فعمل فيه ما اعتبره فن الجراحة مستحيلاً، دون أن يهتم باسم الرجل أو ماضيه، بل كان من المحتمل ألا يطلب رؤيته مرة ثانية، ولكنه في هذه اللحظة كان كفنان يحدق في المخلوق الذي أوجده. فقد أراد أن يرى صنع يديه وعقله للمرة الأخيرة
واحتفظ سمبر ايدم بصمته؛ وكان يبدو عليه السرور لمبارحته المستشفى دون أن يفوز منه الجراح بكلمة، وإن كان في الواقع لم يهتم بصمته أو بكلامه، وكل ما عمل أن اختبر رقبة المريض بدقة، فتحسس أثر التحام الجرح البشع الطويل متمهلاً كأنه أب يحنو على ولده. ولم يكن المنظر مريحاً، إذ كان يمثل خطاً يلف حول الرقبة ويختفي تحت الأذنين كما لو كان صاحب هذه الرقبة خارجاً من تحت حبل المشنقة
وصبر سمبر ايدم على هذا الاختبار كأنه أسد سجين، فكل رغبته أن يختفي عن أعين الناس. وأخيراً قال الجراح بكتل وهو يضع يده على كتف الرجل ويختلس نظرة أخيرة إلى صنع يديه:
- حسن! لن أحجزك. ولكن دعني أقدم إليك نصيحة صغيرة: عندما تحاول قطع رقبتك مرة ثانية ارفع ذقنك ولا تلقها إلى الأمام ثم اذبح نفسك كبقرة
ولمعت عينا سمبر ايدم علامة على أنه سمع وفهم؛ وبعد لحظة كان باب المستشفى يغلق خلفه
كان ذلك اليوم أحد أيام الجراح بكتل المليئة بالعمل، فلم يتح له أن يشعل سيجاره الكبير إلا بعد أن أوشك العصر أن ينتهي. وكان آخر حادث عرض عليه حادث رجل يجمع الخرق كسرت إحدى عظام كتفه. تخلص منه بسرعة وجذب نفساً طويلاً من سيجاره وأوشك أن يغادر طاولته، وما كادت رائحة الدخان وأشكاله البيضاء تنتشر في جو الغرفة حتى سمع صوت جرس إحدى سيارات الإسعاف السريعة يطن في أذنيه منبعثاً من نافذة الغرفة المطلة على الشارع، وتبعها دخول نقالة تحمل إنساناً جديداً
ووضع الجراح بكتل سيجاره في مكان أمين وقال: (ضعه على المشرحة. ماذا حدث؟)
فقال أحد حاملي النقالة: (حادث انتحار بقطع الرقبة في زقاق مورجان، وأعتقد أن الأمل ضعيف وأنه مات تقريباً)
(حسن سأراه على أية حال)
ومال الطبيب الجراح على الرجل في اللحظة التي اهتز فيها جسمه هزته الأخيرة وأسلم الروح. وما كاد كبير الممرضين يراه حتى قال: (إنه سمبر ايدم! عاد مرة ثانية)
فقال الجراح: (نعم ولكنه رحل. ولا فائدة هذه المرة فقد أتقن التنفيذ. نفذ نصيحتي حرفياً.
خذه إلى معرض الموتى)
ووضع سيجاره بين شفتيه ثم أعاد إشعاله وقال لكبير الممرضين من ثنايا الدخان المتصاعد: (هذا يعادل الرجل الذي فقدته أنت في الليلة الماضية، فنحن متساويان الآن
فوزي الشتوي