المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 418 - بتاريخ: 07 - 07 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤١٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 418

- بتاريخ: 07 - 07 - 1941

ص: -1

‌من طرائف الأزهر القديم

من البكاء إلى الضحك!

لا تزال طوائر المنون تحلق في سماء الإسكندرية فترسل الصواعق

والشهب على أهلها الغافين في أكناف الأمان، فتدك المنازل، وتطحن

الأجساد، وتخسف الطرق، وتقذف الرعب في قلوب الناجين فيخرجون

من دورهم هائمين على وجوههم، في مدارج السهول ومسالك الحقول

وأزقة القرى، حتى إذا ارفض عنهم الهلع واستقر بهم الفرار، نظروا

في أنفسهم، فإذا هم على أرصفة المحطات، أو على حواشي الطرقات،

أو تحت أفياء الجدُر، في ملابس النوم، أو في مباذل البيت، لا يملكون

ما يمسك الرمق ولا ما يستر الجسم، ثم نظروا إلى من معهم، فإذا

زوجة تصحب غريباً وهي تظنه بعلها، وأم تحمل مخدة وهي تحسبها

طفلها، وولد ينادي أمه فلا يجاب، ووالد ينشد أسرته فلا يجد. وحينئذ

ينجلي الذهول، ويتضح الخطب، وتعيد الذاكرة إلى المشاعر تهاويل

المنايا السود في هوادي الليل المقمر، فيذكرون انقضاض القنابل على

المدينة، وانهيار المنازل على الناس، فيعاودهم الفرق فيذهلون، ثم

يساورهم القلق فيرحلون، وهم لا يدرون أين ينزلون، ولا من أين

يأكلون، والناعمون على سرر الذهب وحشايا الديباج ينظرون إليهم

كما ينظرون إلى أسرى الطليان في طريقهم إلى المعتقل، أو يسمعون

بهم كما يسمعون بجرحى الألمان في طريقهم إلى الموت!

أربعمائة ألف أو يزيدون أخرجهم القدر القاهر من ديارهم وأموالهم، ثم تركهم عاجزين في ذمة الوطنية والإنسانية. وإذا علمت أن الوطنية في عرفنا لفظ لا يذكر إلا في دعاية لحزب

ص: 1

يريد أن يحكم أو لنائب يريد أن يُنتخب، وأن الإنسانية في رأينا معنى لا يفهم إلا في عمل تحته شهرة أو وراءه لقب، أدركت السبب في وقوف بني قارون من المنكوبين موقف تماثيل المسرح من المأساة!

إذن لم يبق للمهاجرين إلا أكواخ الفقراء، وعتبات الأولياء، وهبات الحكومة. فأما مواساة الفقراء لهم فحق وأما معونة الحكومة إياهم فيقين، وأما ضيافة الأولياء فبقيت كضيافة الأغنياء موضع الشك!

كتب إلينا مهاجر أديب بطنطا يقول: (أيأسني الأمراء والأغنياء من رزق الله، فلجأت بعيالي إلى مقام سيدي أحمد البدوي في الغربية، فلم ألق منه ما لقي اللاجئون إلى مزارع جناكليس في البحيرة، فهل التوسل بالأولياء عبث، والالتجاء إليهم في الخطوب باطل؟. . .)

أنا يا سيدي المهاجر أعلم الدين، والحمد لله، علم الفقيه المجتهد، ولكني لا أزعم لنفسي درجة الإفتاء، على أن بين يدي الآن شيئاً يشبه الفتوى صدر عن أحد مفتي الديار المصرية في عهد مضى، أقدمه إليك لعل فيه بعض الغناء، في موضوع هذا الاستفتاء!

وقع في نفس المفتي أن شيخ الأزهر إذ ذاك سمى هو وحزبه بين الخديو وبينه حتى أفسدوا حاله عنده، فاستعدى عليهم سيدي أحمد البدوي بقصيدة رفعها إلى مقصورته الشريفة، بعد أن قدم لها هذه المقدمة الطريفة. ودونك المقدمة والقصيدة: (التجاء واستنجاد، برجل الفتوة طويل النجاد، وإمام الأولياء، وسراج الأصفياء، الغوث الأوحد، سيدي وولي نعمتي البدوي أحمد، دامت إمداداته، وعمت في الدارين بركاته

آمين آمين لا أَرضي بواحدةٍ

حتى أضم إليها ألف آمينا)

أيرضيك يا غَوث الورى وإمامهم

غَبينة أهل الحق والحق ظاهر

تعدى لئيم القوم واشتد بغيه

وجاء بكل الحقد وهو يجاهر

أتى بالمعاصي مُعْلناً وهو يدعي

مكانة دين قيم، وهو فاجر

وساعده حزب على شكله سعوا

بكل فساد أوضحته الكبائر

فَضّلوا جميعاً عن طريق رشادنا

وأزهرنا منهم غَدا وهو صاغر

فجئنا حماكم نرفع الأمر سيدي

ونطلب دينَ الله والله ناصِر

ص: 2

وأنتم إمام الأولياء ولا مِرَا

وأنت غياث الملتجى وهو حائر

إذا كان يا مولاي أزهر ديننا

تدور عليه في الضلال الدوائر

فأين يكون الدين يا سيد الورى

وأين يكون العدل والعدل عاطر

فها قد بسطنا بعض شأن يزيده

وثم أمور قد حوتها الضمائر

فمنها دخول في البقا وهداية

لأقوم طرق الله وهي المفاخر

وصحة جسم للذين أحبهم

كذلك لي في العز والعمر وافر

ونصر على الأعدا وجاه مؤبد

وفوز مبين دائماً يتقاطر

وتيسير ما أرجوه من كل مطلب

وسُكنى جنانِ الخلد حيث الأكابر

ورؤية خير الخلق جهراً بسرعة

فها قد مضى عمري وقل التناصر

فقل يا طويل الباع هاقد أجبتكم

لكل الذي ترجون والله جابر

وصلَّ على المختار ربي مسلماً

كذا آله ما قام بالذكر ذاكر

كتبه عبد الإحسان الواقف بالباب،

الراجي سرعة الجواب:

. . . . . . . . . . . .

مفتي الديار المصرية

فأنت ترى أن فضيلة المفتي غفر الله له لم يقنع باستعداء السيد البدوي (سيد الورى) على خصومة، وإنما دفعه الطمع في فضله إلى أن يسأله الهداية، وطول العمر، وصحة الجسم له ولمن يحب، والنصر على الأعداء، والجاه المؤبد، وتيسير كل مطلب، ودخول الجنة، ورؤية النبي جهرة. . . فإذا كان سيدي أحمد البدوي قد استطاع أن يستجيب هذه الرّغاب، فليس أسهل عليه من أن يمن عليك برغيف وجلباب. ولكني أفهم من أسلوب استفتائك أنك ستقول: سبحانك ربي! هذا شرك عظيم. ولعلك تمعن في إنكارك فتزعم أن ما أصاب الإسلام من قبح القالة، وما حل بالمسلمين من سوء الحالة، إنما يرجع إلى ما ران على القلوب والعقول من أمثال الرسالة العليشية، والقصيدة الصدفية. ولكني أعيذك بالله أن تسرع في الحكم فتخطيء الصواب. والخير لي ولك أن تعلن سؤالك إلى العلماء وتنتظر

ص: 3

الجواب

أحمد حسن الزيات

ص: 4

‌أبو المظفر الأبيوردي

شاعر العرب

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

ذكرت من قبل كاتباً من كتّاب اللغتين العربية والفارسية اسمه رشيد الدين الوطواط، وبينت أنه عربي قرشي من ذرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجعلته مثلاً لاختلاط الأمم الإسلامية بعضها ببعض، كما جعلته مثلاً لامتزاج الأدبين العربي والفارسي في نفوس كثير من الفرس والعرب الذين استوطنوا بلاد فارس

وهذا موضوع واسع؛ فما زالت بلاد الفرس تعد من مواطن الأدب العربي منذ جمعت أخوة الإسلام العرب والفرس وإن اختلفت الأحوال على مر الزمان

ومن الشعراء الذين نبغوا بتلك الديار وهم ينتمون إلى بيوت الخلافة، الشاعران: المأموني والواثقي، وهما من ذرية المأمون بن الرشيد والواثق بالله بن المعتصم. ومنهم أبو المظفر محمد بن أبي العباس الأبيوردي

فأما نسبته فإلى أبيورد، وهي بلدة بخراسان في شماليهّا الشرقي، وتعد اليوم في التركستان الروسية. وهو من قرية من قرى أبيورد اسمها كوقن على ستة فراسخ منها، بناها عبد الله ابن طاهر في خلافة المأمون؛ وقد ذكرها في شعره فهو يقول عن الشام:

وتلك دار ورثناها معاويةٌ

لكن كوقن ألقانا بها الزمن

وأما نسبه فينتهي إلى أبي سفيان بن حرب، بينهما ستة عشر أباً. وكان يتلقب المعاويّ انتساباً إلى معاوية الأصغر وهو الجد التاسع من أجداده. وقد تلقب في شعره بالأمويّ والمعاويّ، وأكثر من الافتخار بهذه النسبة في شعره كقوله:

خذي قصبات السبق عني فما لها

من الحيّ غيرَ ابن المعاويّ حائز

وروى ابن خلكان أن الأبيوردي كتب رقعة إلى الخليفة المستظهر بالله وعلى رأسها (الخادم المعاوي) فكره الخليفة مكاتبته بذلك فكشط الميم من المعاوي فصار (الخادم العاوي)

- 2 -

ص: 5

والأبيوردي من شعراء القرن الخامس الهجري توفي سنة 507 ولكن ابن خلكان يقول: وكانت وفاة الأبيوردي المذكور بين الظهر والعصر يوم الخميس لعشرين من ربيع الأول سنة سبع وخمسين وخمسمائة بأصبهان مسموماً وصُلى عليه في الجامع العتيق بها رحمه الله تعالى

وهذا التاريخ الذي ذكره ابن خلكان والذي يظهر فيه التدقيق بذكر اليوم والساعة أدى إلى تضليل كثير من الناس في تاريخ الأبيودري. وقد وقع الغلط في كلمة خمسين. فوفاته كانت سنة سبع وخمسمائة لا سبع وخمسين وخمسمائة

وفي حوادث سنة 507 ذكر ابن الأثير وأبو الفداء وفاته. وكذلك أرخها بهذه السنة ياقوت الحموي في معجم البلدان

ثم له مدائح كثيرة في الخليفة المقتدي بالله المتوفى سنة 487 وما أحسبه مدح المقتدي إلا بعد أن أمضى شطراً من شبابه في خراسان ثم رحل إلى العراق. فبعيد جداً أن يعيش بعد المقتدي أكثر من سبعين سنة. وقد مدح أيضاً الوزير نظام الملك المتوفى سنة 486

- 3 -

لم يقتصر فضل الأبيوردي على إجادة الشعر؛ فقد كان واسع العلم بفنون كثيرة. روى ابن خلكان عن أبي زكريا بن قغده صاحب تاريخ أصبهان قوله في الأبيوردي:

(فخر الرؤساء، أفضل الدولة، حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، يتصرف في فنون جمة من العلوم، عارف بأنساب العرب، فصيح الكلام، حاذق في تصنيف الكتب، وافر العقل، كامل الفضل، فريد دهره، وحيد عصره)

وروى ابن خلكان كذلك أن المقدس صاحب كتاب الأنساب ذكره في ترجمة المعاويّ وقال: (إنه كان أوحد زمانه في علوم عديدة؛ وقد أوردنا عنه في غير موضع من هذا الكتاب أشياء)

وقد نبه إلى هذا الغلط من قبل الصديق الأديب عباس إقبال في كلمة أرسلها إلىّ حينما دعا الأستاذ علي الطنطاوي إلى الاحتفال بمرور ثمانمائة عام على وفاة الشاعر ونشرتها في الرسالة

ص: 6

وكان يكتب في نسبة المعاويّ. وأليق ما وصف به بيت أبي العلاء المعري:

وإني وإن كنت الأخير زمانه

لآت بما لم تستطعه الأوائل

وقال ابن خلكان: (وكان من أخبر الناس بعلم الأنساب نقل عنه الحفّاظ الإثبات الثقات) ثم قال في آخر ترجمته:

(وله تصانيف كثيرة مفيدة منها تاريخ أبيورد، وكتاب المختلف والمؤتلف، وطبقات كل فن، وما اختلف وائتلف في أنساب العرب. وله في اللغة مصنفات كثيرة لم يسبق إلى مثلها. وكان حسن السيرة جميل الأثر له معاملة صحيحة)

هذا ما ذكره ابن خلكان وليس بين أيدينا اليوم مؤلف من هذه المؤلفات

- 4 -

ولسنا نعرف من أخبار الشاعر وأسرته إلا نبذاً متفرقة في الديوان. نجد في الديوان مِدَحاً في أبيه تدل على أنه من الكتاب وأنه ذو مكانة وجاه. ومدحة في عمه تدل على أنه من الخطباء. ولعله كان خطيب الجمعة في بعض البلاد، وهو منصب له مكانة في التاريخ الإسلامي. ونجده يمدح بعض الوزراء من أسرته ويمدح بعض بني عمه وهكذا. ونجد في الديوان قصائد في مدح بعض أخواله من سروات العجم. ويدل الديوان على رحلات الأبيوردي في أرجاء فارس وفي العراق والبلاد العربية. وكان الرجل طموحاً عيوفاً فلم يسكن إلى جانب من الأرض، وهو يقول في قصيدته التي هجا فيها فريبرز ملك شروان:

فقلت أين المحصلون ومن

ينشر قوماً طوتهم الحقب؟

وقد أخلق الفضل بالعراق وفي

فارس لما اضمحلت الرتب

والشام أقوى وطالما عهدت

لفارس النظم حلبةً حلبُ

فكيف يشتد صلب قاصدها

مادام للكفر حولها صُلب

وأي سوق تسوق فائدة

قيامها يوم تعرض الخطب

وقد عرض عليه بعض الوزراء الكتابة فأبى وقال:

خليلي إن العمر ودعت شرخه

وما في مشيبي تلاف لفارط

ألم تعلما أني أنست لعطلة

مخافة أن أبلى بخدمة ساقط

فلا تدعواني للكتابة إنها

طماعة راج في مخيلة قانط

ص: 7

ينافسني فيها رعاع تهادنوا

على دَخن ما بين راض وساخط

وأنكرت الأقلام منهم أناملاً

مهيأة أطرافها للمشارط

لئن قدمتهم عصبة خانها النهي

فهل ساقط لم يحظ يوماً بلاقط؟

وأي فتى ما بين بُرْدى قابض

عن الشر كفيه وللخير باسط

وينبئنا الديوان بما كان بينه وبين الخلفاء العباسيين من مودة، فله مدائح كثيرة في الخليفتين المقتدي والمستظهر يشيد فيها بمجد العباسيين، ويبالغ في مدحهم، ويذكر قرابته إليهم، يقول في مدح المقتدي:

أسير وأسرى للمعالي وما بها

لطالبها إلا لديك لحوق

وقد ولدتني عصبة ضم جدهم

وجد بي ساقي الحجيج عروق

ونجده في قصيدة يطلب من المستظهر داراً تقيه برد الشتاء يقول:

فهذه شتوة ألقت كلاكلها

حتى استبد بصفو العيشة الكدر

ومنزلي أبلت الأيام جدَّته

فشفني المبليان الهم والسهر

وللفؤاد وجيب في جوانبه

كما يهز الجناح الطائر الحذِر

تحكي عناق محب من يَهيم به

إذا تعانقن في أرجائه الجدُر

ولن تقيم به نفس فتألفه

إذ ليس للعين في أقطاره سفر

والسقف يبكي بأجفان المشوق إذا

أرسي به هَزِمُ الأطباء منهمر

وما سرى البرق والظلماء عاكفة

إلا وفي القلب من نيرانه شرر

وابن المعاويّ يهوى أن يكون له

مغنى ببغداد لا تخشى به الغِيِر

مثوى يدافع عن كتبي - وأكثرها

فيه مديحك - أن يغتالها المطر

كذلك نعرف من الديوان أنه فارق العراق كارهاً، وأن جماعة هنالك منهم وزير للخليفة قد أساءوا إليه. فلما أرسل إليه الخليفة يعاتبه على مفارقة بغداد أجاب بقصيدة فيها هذه الأبيات:

بغداد أيتها المطى فواصلي

عَنَقاً تئن له القلاص الضمّر

إني وحق المستجَن بطَيبة

كلف بها، وإلى ذَراها أصوَر

وكأنني مما تسوّله المنى،

والدار نازحة، إليها أنظر

ص: 8

إلى أن يقول:

فصددت عنها إذنبابي معشري

وبغى علي من الأراذل معشر

من كل ملتحف بما يصم الفتى

يؤذي فيظلم أو يخون ويغدر

فنفضت منه يدي مخافة كيده

إن الكريم على الأذى لا يصبر

ثم يكتب من أصبهان إلى بعض أصدقائه بمدينة السلام يعرب عن حنينه إليها:

تحن إلى ماء الصراة ركائبي

وصحبي بشطي زنَّروذ حلول

أشواقا وأجوازُ المهامه بيننا

يطيح وجيف دونها وذميل

ألا ليت شعري هل أراني بغبطة

أبيت على أرجائها وأقيل

هواء كأيام الهوى لا يغبَّه

نسيم كلحظ الغانيات عليل

إلى أن يقول:

فقل لأخلائي ببغداد هل بكم

سُلوّ فعندي رنة وعويل

يرنحني ذكراكم فكأنما

تميل بي الصهباء حيث أميل

لئن قصُرت أيام أنسى بقربكم

فلَيلى على نأي المزار طويل

- 5 -

ويبين في شعر الأبيوردي اعتداده بنفسه واعتزازه بنسبه، وإباؤه وكبرياؤه وعفته، مع طموحه وبعد آماله. وقد قال عنه ابن منده الذي ذكرناه آنفاً:(وكان فيه تيه وكبر وعزة نفس. وكان إذا صلى يقول: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها) أقول وهي دعوة عجيبة لا أحسب صاحبها يقنع بملك بني أمية الذي امتد من السند إلى المحيط وجبال البرانس

وفخر الأبيوردي بعربيته وأمويته يلقاه قارئ الديوان تصريحاً وكناية في مواضع كثيرة يقول:

أنا ابن الأكرمين أباً وأماً

وهم خير الورى عماً وخالاً

إلى أن يقول:

وهم فتحوا البلاد بباترات

كأن على أغرنَّها نمالا

ولولاهم لما درت بفَيء

ولا أرعى بها العرب الفصالا

وقد علم القبائل أن قومي

أعزهم وأكرمهم فعالا

ص: 9

وأصرحهم إذا انتسبوا أصولاً

وأعظمهم إذا وهبوا سجالا

مضوا وأزال ملكهم الليالي

وأيَّةُ دولة أمِنت زوالا؟

وقال أيضا:

وقالت سليمى إذ رأتني لتربها

وراقهما وجه أغر مهيب:

أظن الفتى من عبد شمس فإن يكن

أبوه أبا سفيان فهو نجيب

أرى وجهه طلقاً يضيء جبينه

وأحسب أن الصدر منه رحيب

سليه يكلّمنا فإن اختياله

على ما به من خَلةّ لعجيب

فقلت: غلام من أمية شاحب

بأرضكما نائي المزار غريب

وقال في شعر الصبى:

قالت لصحبي سراً إذرأت فرسي

من الذي يتعدي مهره خببا؟

فقال أعلَمهم بي: إن والده

من كان يجهد أخلاف العلى حلبا

وذا غلام بعيد صيته وله

فصاحة وفَعال زيَّن الحسبا

وظل ينشدها شعري ويطربها

حتى رأته بذيل الليل منتقبا

فودعته وقالت يا أخا مضر

هذا لعمري غلام يعجب العربا

(البقية في العدد القادم)

عبد الوهاب عزام

ص: 10

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

أثواب الخطباء - لفتة أندلسية - تأثير البيئة - الوزراء

الأدباء - الدكتور طه حسين - النزعة الكلبية - صديقي فلان

- كيف نحب الريف - برج بابل - بريد العراق - العقد

الفريد - هل تصلح هذه الأيام لأغاريد الوجد والحنين؟

أثواب الخطباء

صح عندي بعد الاستئناس بمصادر كثيرة أن مسوح الرهبان كان لها تأثير في الوضع الذي صارت إليه أثواب الصوفية، لأن الترهب والتصوف قريبان جداً من الناحية الروحية، بغض النظر عن اختلاف الدين

ثم بقي النظر في اللون المختار لأثواب الرهبان وهو السواد، فهل تأثر به أحد من المسلمين؟ وهل كان السواد من علائم الرزانة في أوقات الاهتمام بعظائم الشؤون؟

وجدت شاهداً صريحاً في إيثار الخطباء للثياب السود، وهو ما أنشد المقدسي على لسان غراب البين، أبعده الله:

أنوح على ذهاب العمر مني

وحقٌ أن أنوح وأن أنادي

وأندب كلما عاينت راكباً

حدا بهمُ لوشْك البين حادي

يعنفني الجهول إذا رآني

وقد ألبست أثواب الحداد

فقلت له اتعظ بلسان حالي

فإني قد نصحتك باجتهاد

وهاأنا كالخطيب وليس بدعاً

على الخطباء أثواب السواد

ومعنى هذا أن الغراب لبس السواد لأنه وقف وقفة الخطيب، فهل يكون هذا التقليد رجعة إلى الأثواب الرهبانية، وكانت تحاك من الشعر الأسود؟

وعمن أخذ الرهبان لون السواد؟

أخذوه من رهبة الليل، فسواد الظلام يشيع في النفس معاني الانقباض والاستيحاش. ومن

ص: 11

أجل ذلك كان السواد شعار المحزونين

لفتة أندلسية

وبهذه المناسبة أذكر بيتين يشهدان بأن أهل الأندلس كانوا في الحداد يلبسون البياض لا السواد، فقد قال أحد الشعراء:

يقولون البياضُ لباسُ حزنٍ

بأندلسٍ وذاك من الصواب

ألم ترني لبست بياض شيبي

لأني قد حزنت على شبابي

تأثير البيئة

وأذكر بهذه المناسبة أيضاً أن الذين زاروا الأندلس من أهل المشرق كان فيهم من دهش حين رأى بعض القضاة يجلسون للحكم بين الناس ورءوسهم عارية، ولم يفهم أن هذا من تأثير البيئة، فأهل أوربا ينزعون أغطية الرءوس في المواقف الجدية، وبهم تأثر العرب في الأندلس، فكان من قضاتهم من ينزع عمامته عند الجلوس للحكم بين الناس

ولكن عمن أخذ الشيخ (فلان) خلع العمامة والاكتفاء بالطاقية في إحدى المحاكم الشرعية؟

أبق عمامتك على رأسك، يا شيخ فلان، فقد حدثني من أثق بروايته أن المحتكمات إليك من الملاح لا يرين ما تراه من ذلك التظرف (المقبول) وفيهن من ترى أن الطاقية لا تصلح غطاء لرءوس رجال الشرع الشريف!

وغفل المقَّري صاحب نفح الطيب عن تأثير البيئة حين نص على أن أهل الأندلس تفردوا بشرب الخمر على قارعة الطريق، وأقول إن هذا من تأثير البيئة الأوربية، وليس شاهداً على استخفاف أهل الأندلس بواجب التستر عند اقتراف المحرَّمات

الوزراء الأدباء

يظهر أني رجلٌ متعب، كما يقول الدكتور طه حسين، فلي في كل يوم مشكلات مع أصحاب الرأي والبيان، ولن يكون للمتاعب التي أسوقها إليهم وإلى نفسي حدود

وكلمة اليوم أوحاها تعيين معالي الأستاذ دسوقي أباظة وزيراً للشئون الاجتماعية، وهو أديب كبير كانت له صولات في جرائد الحزب الوطني، فما الذي ينتظر الأدب من معاليه وقد صار قوة تنفيذية تقدم وتؤخر في شؤون الدولة والمجتمع؟ تولّى المناصب الوزارية في

ص: 12

الأعوام الأخيرة رجال من كبار الأدباء، من أمثال مصطفى عبد الرزاق ومحمد حسين هيكل ومحمد علي علوبة وأحمد نجيب الهلالي وإبراهيم عبد الهادي وعبد القوي أحمد ومحمود فهمي النقراشي، فماذا استفاد الأدب من هؤلاء الوزراء الأدباء؟

سيجيبون بأنهم لم يقدموا إساءة لأي أديب

وأجيب بأن سكوتهم عن تشجيع الأدب ليس إلا صورة من صور الإيذاء

هل تصدّقون أن بعض هؤلاء الوزراء لم يكن يلقى أحداً من الأدباء إلا وعلى جبينه عبارة تقول: ابعدوا عني!!

وهل تصدقون أن معالي لأديب العظيم هيكل باشا لم يتلقّ كتاب التصوف الإسلامي يوم أهديته إليه إلا بعبارة: كل كتاب وأنت طيب!

كل كتاب وأنا طيب، يا معالي الوزير المؤلف؟

ومتى يتسع العُمر ويسمح الزمان بأن أؤلف كتاباً مثل كتاب التصوف الإسلامي؟

وإذا لم يظفر المؤلفون بتشجيع الوزراء الذين يعرفون متاعب التأليف، ففي أيّ عهد تنتظر كلمة اللطف وقد أقذينا عيوننا تحت أضواء المصابيح؟

لقد بُحَّ صوتي في الدعوة إلى اعتراف الدولة بالقيم الأدبية فلم يسمع سامع ولم يستجب مجيب، وظل الأدباء مشرَّدين لا يعرفهم غير الحظ الضائع في بلاد لم يرها شاعرنا حافظ (دار الأديب) مع أنها فيما نحب أن يقال أول مهد للعلوم والآداب والفنون.

إن هؤلاء الوزراء نفعهم الأدب أجزل النفع، فمتى ينتفع بهم الأدب؟ ومتى يظهر أنهم لم ينسوا التفكير في أن يدنوه كما دانهم؟ ومتى نسمع أن الحياة الأدبية تنتعش وتزدهر بفضل الوزراء الأدباء، كما كانت الحال في عهود أسلافنا الاماجد بالمشرق والمغرب؟

الدكتور طه حسين

في أخبار الجرائد أن الدكتور طه حسين بك لم يذهب إلى مكتبة بوزارة المعارف منذ أيام. ويظهر من الخطاب الذي نشره في جريدة البلاغ أن ناساً كانوا يحبون أن يواجه الأمور بمداورة وتلبيس!

وأقول إن كفاية الدكتور طه لا تحتاج إلى برهان، ولكنه سيندم طويلاً (وطويلاً جداً) على الفرصة التي أضاعها على نفسه قبل أن تستفحل أزمة الورق، فقد نبهته مرات كثيرة إلى

ص: 13

أن مراقبة الثقافة العامة لن يكون لها وجود ملحوظ إلا إذا أُسندت بطائفة من المطبوعات الجياد، وأشرت عليه بأن يسارع فيقتني لمراقبة الثقافة ذخيرة من ورق الطبع قبل أن يرتفع ثمنه وقبل أن ينفد من الأسواق

وهو اليوم يترك مراقبة الثقافة العامة بلا أثر ظاهر يذكره الناس، فإن رجع إليها فليغير من مسلكه في تناول الأشياء، فقد كان يفهم أن الاقتراحات والفروض هي كل شيء في الدلالة على مواهب الرجال

والأمل كبير في أن يرجع الدكتور طه لعمله بوزارة المعارف وأن يتدارك ما فاته من تحقيق المشروعات الجدية في الترجمة والتأليف، فظهور كتاب أو كتابين أنفع من ألف اقتراح واقتراح؟

النزعة الكلبية

يلقاك بعض المعارف في الطريق فيسألك عن وجهتك، ولا يستريح إلا حين يعرف أين تريد وماذا تريد، كأنه من الأوصياء عليك!

ويدخل أحد الأصدقاء بيتك فيبالغ في التعرف إلى ما فيه من حجرات وغرفات، ولا يهدأ إلا بعد أن يعرف من دخائل بيتك كل شيء، كأنه مسئول أمام بعض الجهات عن تقديم تقرير مفصَّل عن حياتك المنزلية!!

ويرى بعض الناس أن من حقه أن يعرف مرتبك بالقرش والمليم، وأن يعرف كيف تنفق ذلك المرتب، وماذا تدّخر من بواقيه الطفيفة، ولأي غرض تدّخر ما ادخرت!!

ومن الأصدقاء من يسأل عن أثاث بيتك ليعرف الأثمان، ثم يناقشك في الجزئيات كأنه ابن نجّار أو حدّاد أو سمسار، والعياذ بالأدب والذوق!

ومنهم من يسألك عن أملاكك في الريف ليعرف ما تملك من قراريط أو فدادين، وكأنه (خاطبة) ستجلب خاطباً لأختك أو ابنتك!

وفي هؤلاء من يسألك عن الربح الذي تجنيه من مقالاتك ومؤلفاتك. وفيهم من يسألك عن أثمان أثوابك ونعالك، كأنه ابن بزاَّز أو حذَّاء!!

فكيف تقع هذه المزعجات من بعض الناس وأكثرهم على شيء من الذكاء؟

الجواب سهل، وهو أن في بعض الناس نزعة كلبية، والكلب حين يدخل بيتاً لا يترك فيه

ص: 14

بقعة بدون أن يشمها بشرهٍ فظيع ممقوت!

فيا بني آدم، إياكم ثم إياكم من التخلق بأخلاق الكلاب!

صديقي فلان

أما صديقي فلان فهو غاية في الأدب والذوق: يدخل بيتك فيجلس حيث تحب أن يجلس، ولا يمتد بصره إلى اختبار ما في البيت من أثاث ورياش، ولا يسأل أبداً عن ربة البيت إلا أن يتلطف زوجها فيدعوها للتسليم عليه، مع أنها قد تكون من بنات الأعمام أو الأخوال؛ وإذا قُدَّم إليه طعام أقبل عليه بشهية، كأنه أطيب ما رأى من ألوان الطعام، ولو كان ممعوداً لا يأكل إلا بمقدار وفي وقت محدود، وإذا حضر الأطفال لتحيته تلقّاهم بما تحبّون، ولا يسألهم عن دروسهم إلا بأسلوب يمكّنهم دائماً من الجواب، ليأنسوا به وليُدخل على قلوبهم قبساً من نور التشجيع. وإذا عُرِض عليه خلاف سوَّاه بلطف ورفق، لتكون زيارته مرحلة من مراحل التاريخ السعيد. وإذا دخلت عليه صبية دعا لها بالخير وتحدّث عن صاحبتها بأدب ولطف. وإذا رأى أن الذرية أكثرها بنات كان من واجبه أن يصرّح بأن لله حكمة في ذلك، فمن الخير للإنسانية أن تكثر البنات في المغرس الشريف. وإذا رأى عجوزاً واساه وأعلن أن الرجل لا يصل إلى الشيخوخة إلا وهو بذرة قوية لا تهددها عواصف المشيب. وإذا رأى مريضاً بشّره بقرب العافية، وأعلن أن مرضه من العوارض الوقتية، وأنه يعرف مئات كانوا في مثل حاله ثم صاروا في مثل عافية الفرس الجموح. وإذا اعتذر أهل البيت عن مظاهر البساطة في تكوين الأثاث كان عليه أن يقول إن هذا من أدب المعاش، وإن الإفراط في الزخرف ليس من أدب العقلاء. وإذا رأى البيت على جانب من الزينة والبهجة والنضرة كان عليه أن يعلن إعجابه بما ترى عيناه، وأن يصرح بأن أهل البيت لم يريدوا إلا إعلان الحمد والثناء على المنعم الوهاب

فما رأيكم في أخلاق هذا الصديق؟؟

لقد عرفت أنه ما دخل بيتاً ورأى فيه شيئاً غير جميل، ولا صحب صديقاً وسأل عن أخباره المطوية، ولا سمع في صديق كلمة سوء، ولا استباح التعقب لمسالك المعارف والأصحاب، ولا كان من همه أن يتخذ الأصدقاء دريئة يدفع بها عاديات الكوارث والخطوب

صديقي هذا يرى للصداقة قدسية منزهة عن شوائب المنافع، وإن كان لا يضيع فرصة

ص: 15

يملك فيها القدرة على نفع الصديق!!

ما رأيكم في أخلاق هذا الصديق؟؟

أنا أرى هذه الشمائل غاية في الكمال والجمال، وأرى التحلي بها واجباً على من يهمه الظفر بثقة المجتمع. ولو شئت لقلت إن الإكثار من الصلاة والصيام لا يغني عن التحلي بهذه الصفات، لأنها أصدق في الدلالة على صفاء القلب وطهارة الروح، ولأن التحلي بها لا يكون إلا بعد رياضات عنيفة تُقهر فيها نزعات النفوس والأهواء

كيف نحب الريف

تفضل الدكتور عبد الرحمن عمر فدعاني لتناول الغداء في داره بالريف، فعرفت كيف يطيب له أن يهجر مصر الجديدة أياماً وأسابيع، وعرفت كيف استطاع الأستاذ الجليل عبد العزيز فهمي باشا أن يجعل مقامه المختار في الريف

الدار الجميلة هي التي تجعل القرية أحب إلينا من المدينة، فجمّلوا بيوتكم في الريف لتشتاقوا إليه، ولتذيعوا بين أهليكم ذوق الأناقة في بناء البيوت، فأكبر عيوب مصر هو حرمان ريفها الجميل من التأنق في بناء البيوت

وبعض الناس يتوهمون أنه لا يجوز للرجل أن يقيم داراً جميلة في الريف إلا إذا كان له أملاك واسعة في الريف، وأقول إن الدار الجميلة هي في ذاتها ملك نفيس، فلا تنسوا هذا المعنى، ولا يفتكم أن تكونوا من أصحاب المنازل في الريف وإن لم تكن لكم فيع أملاك

برج بابل

كان في مقال (برج بابل) الذي نشرته (الرسالة) منذ أسابيع إشارات إلى ما قد يحلّ بالإسكندرية، فهتف الأستاذ عبد اللطيف النشار يقول:

كذَبتْ (بابل) فيما زعمتْ

لن يصيبَ (الثغر) شٌّر أبداً

ثم عاد فأبدى أسفه لتحقق النبوءة البابلية

وأقول: ليت تلك النبوءة كانت من كواذب الأوهام والظنون، فما رأينا من تحققها غير الكرب والويل!

ثم يخاطبني النشار فيقول:

ص: 16

عهدتُك لا يخيفك ما يُخيفُ

فهل يحظَى برؤيتك المصيفُ

وأقول: إني لا أملك الصدوف عن هوى الإسكندرية، وسألقاكم بها في هذا الصيف، ولو بَغَى العدو واستطال، فأنا لم أشبع من الإسكندرية أيام الأمن، وهي أقل طيباً من أيام الخوف

ثم يقول النشار: علمت أنك نقلت كتبك إلى سنتريس، فأنت الجدير إذن برثاء مكتبة الإسكندرية الثالثة، فهل تجيز:

لا تذكر اليوم (يوليوساً) ولا (عُمَرا)

عِلمُ القرون الخوالي مر واندثرا

وانظر لمكتبة الثغر التي صُعقت

فلا كتاباً ترى فيها ولا حجرا

وأقول: إني لم أكن أعرف أن مكتبة الإسكندرية أصابتها الغارات الأخيرة، فإن كان ذلك فمن حقي أن أسجل أن أعداء الإسكندرية يعرفون في كل عصر أن ثروتها الصحيحة في تراث الأفكار والعقول، فهم يجعلون (المكتبة) أعظم الأهداف وما شأن (عمر) في هذه القضية، وقد قامت البراهين على أن اتهامه بإحراق مكتبة الإسكندرية لم يكن إلا إشاعة روجها أعداء العرب والمسلمين؟

بريد العراق

تلقيت اليوم رسالة من العراق، ونظرت في التاريخ فرأيتها قطعت الطريق في شهرين وثلاثة أيام، فمتى يرجع العهد الذي كان يسمح بأن يصل بريد العراق في أقل من يومين؟

كان بريد العراق كله جوياً وبخمسة عشر مليما، فمتى يعود ذلك العهد؟ متى يعود؟

وكان محصول المجلات المصرية حديث الناس في جميع الأندية العراقية، فأين حديثهم اليوم وقد جدت خطوب تبلبل الأرواح والقلوب؟

ليتني أعرف ما صار إليه أصدقائي في تلك البلاد. فما أظلمَ ليلٌ ولا أشرق صباح إلا وأنا بأخبارهم مشغول. وهل كانت لوعة الشريف الرضي أقسى من لوعتي حيث قال:

ومن حَذَرٍ لا أسأل الركب عنكمُ

وأعلاقُ وجدي باقياتٌ كما هيا

ومن يسأل الركبان عن كل غائبٍ

فلا يدّ أن يَلقَى بشيراً وناعيا

فهل يتفضل أصدقائي هناك فيعفوني من كرب هذا السؤال؟

أجيبوا، يا أصدقائي، أجيبوا، فلي عليكم لهفة لا يطفئها غير اليقين بأنكم في سلام وأمان

ص: 17

العقد الفريد

ظهرت الطبعة الجديدة من (العقد الفريد) بتحقيق الأستاذ محمد سعيد العريان، وفي الرونق لطيف تُهنَّأ عليه (المكتبة التجارية) التي لم يَعُقها غلاء الورق عن الإنفاق على طبعه بسخاء

ومن القليل جداً أن ننوّه بمجهود الأستاذ العريان في تحقيق هذا الكتاب، فله مجهودات كثيرة لم تأخذ حقها من الثناء، فنوجّه إلى هذه الطبعة نظر (الأستاذ الليل) والأستاذ (ا. ع) فعندهما من الوقت ما يسمح بالنظر في نصوص هذا الكتاب بأسلوبهما الجيد في التحقيق

كنت نسيت

في الحِوار الذي دار بين الأستاذ محمود البشبيشي وابنه النجيب حسين إشارة إلى أني كنت أكتب في الوجدانيات، فمتى كان ذلك؟ ذكَّروني فقد نسيت!

أنا أكتب في الوجدانيات؟ أنا؟

لعل ذلك كان قبل أن تصير الدنيا إلى ما صارت إليه من الرعب والخوف والانزعاج

إن البشبيشي وابنه يقيمان في بلدٍ أمين هو المنصورة العصماء، وأنا أقيم في بلدٍ مهدَّد بالغارات الجوية، إلا أن يلطُف الله بما فيه من كنوز السحر والفتون

والحق أني لم انس واجبي في التشوف إلى مطالع الأقمار ومشاوق الشموس، ولكن أين من يسمع في هذه الأيام أغاريد الوجد والحنين؟!

زكي مبارك

ص: 18

‌أنّة وزفير

للسيدة الفاضلة (ليلى)

(إلى أرواح الشهداء والضحايا، وإلى المنكوبين، وإلى أولي

الرحمة من أغنيائنا الموسرين، كلمة من قلب حزين، بل إني

أخاطب الشعب كله، لنساهم في الأجر العظيم. لنمسح على

رؤوس اليتامى، ولنضمد جروح الثكالى والأيامي، ولنساعد

المهاجرين المشردين، والله من ورائنا رزاق معين)

(ليلى)

إن كارثة الإسكندرية من الحوادث الدامية التي تمس شغاف القلب وتغلغل آلامها في النفس. هي فاجعة الجميع وحسرة الوطن وصرخة الإنسانية. هي العذاب المر والظلم المبين والصاعقة بغير موعد ولا إنذار. هي الخوف والفزع، والرعب والهلع. هي النار تندلع والهوة تبتلع. هي النحيب والعويل، ودماء الأبرياء تسيل. هي الهول والوحشية. هي أَنات وجراح، وبكاء ونواح. هي ثكل ويتم وفقر وعُدم. هي ذل وتشتيت وضياع وتبديد. هي قسوة ما فوقها قسوة، ونكبة ما بعدها نكبة. ولئن بكينا فما جدوى البكاء؟ ولئن أشفقنا فما ثمرة الإشفاق؟ من ذا الذي لم يشفق ولم يتألم؟ كلنا واله متحسر؛ ولكن ليست المساهمة في الرثاء والبكاء، وإنما هي مساعدة فعلية لهؤلاء الضحايا الأبرياء. أشعروهم بالرحمة، وليعاونهم كل امرئ بما يستطيع. كم من بيوت كبيرة تسع العشرات! وكم نساء شريدات حائرات! أطفال في نعيم، وأطفال في جحيم. بطون مكتظة بألوان الطعام، وأخرى خاوية من الجوع لا تنام. ذل فوق ذل وحسرات تتبعها حسرات. . . آه لليتيم: فقد الأب الحاني الرحيم. وا حسرتاه للأرملة تنوح من قلب حزين: فقدت الموئل والعائل، واستقبلت الشقاء والهوان، في كنفها أطفال يطالبونها بالقوت والحنان، ستواجه حاجة العيش الملحة. ستريق ماء الوجه وتستنفد كل إحساسها في سبيلهم. وا رحمة للعجوز الثكلى، ادخرت ولدها للأيام وكان كل أملها وسند شيخوختها، فذهب من يدها وغدا حلماً من الأحلامً! ولو كان هماً

ص: 19

واحداً لاحتُمل، ولكن الكارثة عامة، والفاجعة طامة: أنه ولد وأولاد وآباء وأمهات، بيوت وأموال طغى عليها الدمار، فهرع أهلها فزِعين لاجئين يطلبون رحمة المحسنين المتصدقين

أيها السادة الأغنياء، رحمة بالتعساء الأشقياء! إنهم إخوانكم في الدين والوطن. حمّ القضاء، فما استطاعوا له رداً. فوجئوا بالدويّ والزئير، فإذا هم أشلاء تطير. صرخوا يسترحمون القضاء، فنفذ فيمن نفذ فيهم القضاء، وهوت الدور بساكنيها وهم في غمرة الذعر والذهول، وتطايرت الشظايا تهرأ اللحم وتنزف الدم، والآلام القاسية تتجاوب أصداؤها من حنايا الأجسام. ومن قدر له النجاة انطوى على نفسه لوعة وحسرة: فقد فقدَ العزيز والنفيس والتالد والطريف، هي في الحق كارثة يعجز القلم عن وصفها

فهل تقر أعيننا وتهدأ مضاجعنا؟ وهل نشعر بالطمأنينة والسعادة، وتتوفر لنا الغبطة والهناءة، وصراخ المنكوبين واصلٌ آذاننا، وبكاء الحيارى المشردين ماثل أمامنا؟! كيف نرقد على وثير الفراش ومِن إخواننا من يفترش الأرض؟ كيف ننعم بأطايب الأكل والشراب، وغيرنا يشقى بالجوع والخراب!

أيتها القلوب تفجري بالرحمة، أيتها الأيادي الكريمة فيضي بالإحسان!

لقد تمنوا الموت على حياة رخيصة عليهم بعد الأحباء، لقد تمنوه خشية البؤس والإملاق. مَن أحق بالرحمة من مجروح الجسم والفؤاد لا يجد آسيا لجسمه ولا مواسيا لقلبه؟ ما احرنا وقد وقانا الله شر ما ناله بألا نتوانى في مساعدته ولا نجحم عن إعانته! أنه القرض الحسن يضاعفه لنا الله ويدرأ عنا به الشرور.

إن البر هو الطائر الميمون إلى الجنة، به تغفر الذنوب وتمحى السيئات. رب لماذا قدرت على هذا البلد الآمن أن يحل به هذا الشقاء؟ إن شعبه قانع يملك هذه القطعة الصغيرة من أرضك. إنه بلد مضياف تنزله كافة الشعوب على الرحب والسعة يقاسمون أهله أرزاقه، ويستحلون نطاقه، بل يقاسمونه قسمة ضيزى: لهم الغنم وعليه الغرم

رباه! إلى متى يحلم الخالق ويطغى المخلوق؟

ألست أنت سبحانك جبار الأرض والسماء؟ أتترك من يعبث في الأرض فساداً، ويقول تكبراً وعناداً: أنا القهار الأعلى. رب رحمة بالبلاد والعباد، فأنت مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء. لتكن رحمتك أو يحل الميعاد، فقد ذهب السلام من الأرض وتناحرت وحوش

ص: 20

الإنسانية وتكالبت على المال والعتاد. وهذا جبار طاغية وآخرون طغاة يريدون أن يرثوا الأرض ومن عليها، وللأرض وارث واحد بالمرصاد. اللهم ارحم الفقير والأجير واليتيم والأسير، وادفع عنا شر هذه الحرب الضروس. اللهم اهد الخلق لما فيه الخير والسلام. اللهم خفف عن الحزانى حزنهم، وعن المهاجرين بؤسهم، وعوضهم خيراً عن يتمهم وثكلهم وبيوتهم ومالهم، إنك أنت الرحمن الرحيم، كتبت على نفسك الرحمة، ووعدت بالخير عبادك المتصدقين، والله ولي الجميع

(ليلى)

ص: 21

‌في الاجتماع اللغوي

اللهجات العامية الحديثة

طوائفها ومبلغ بعد كل منها عن الفصحى

للدكتور علي عبد الواحد وافي

أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول

- 5 -

لم يصل إلينا عن هذه اللهجات قبل القرن التاسع عشر إلا معلومات ضئيلة، بعضها مستقى من إشارات جاءت في ثنايا كتب القواعد والأدب، وبعضها من أغانيّ شعبية وردت في مقدمة ابن خلدون وتاريخه، وبعضها من كتب ألفت بلغة بين العامية والعربية الفصحى، ككتاب (ألف ليلة وليلة)

ولم يعن العلماء بدراسة هذه اللهجات دراسة جدية إلا منذ القرن التاسع عشر. وقد قسموها إلى خمس مجموعات تشتمل كل مجموعة منها على لهجات متقاربة في أصواتها ومفرداتها وأساليبها وقواعدها، ومتفقة في المؤثرات التي خضعت لها في تطورها: إحداها مجموعة اللهجات الحجازية - النجدية (وتشمل لهجات الحجاز ونجد واليمن)؛ وثانيتها مجموعة اللهجات السورية (وتشمل جميع اللهجات العربية المستخدمة في سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن)؛ وثالثتها مجموعة اللهجات العراقية (وتشمل جميع اللهجات العربية المستخدمة في بلاد العراق)؛ ورابعتها مجموعة اللهجات المصرية؛ وخامسها مجموعة اللهجات المغربية (وتشمل جميع اللهجات العربية المستخدمة في شمال أفريقيا)

وتشتمل كل مجموعة من هذه المجوعات على طائفة كبيرة من اللهجات؛ وتنقسم كل لهجة إلى عدة فروع؛ وينشعب كل فرع إلى شعب كثيرة تختلف باختلاف البلاد التي تستخدمه. وإليك مثلاً مجموعة اللهجات المصرية: فهي تنقسم إلى مئات من اللهجات، وكل لهجة من هذه اللهجات تنقسم إلى عدة فروع وشعب، تختلف باختلاف البلاد الناطقة بها؛ حتى أنك لتجد بين القريتين المتجاورتين المنتميتين إلى لهجة واحدة خلافًا واضحاً في كثير من مظاهر الصوت والمفردات والتراكيب والأساليب

ص: 22

ومع كثرة وجوه الخلاف بين هذه المجموعات الخمس، فإن المتكلمين بإحداها يستطيعون، مع شيء من الانتباه، أن يفهموا كثيراً من حديث أهل المجموعات الأخرى، لاتفاقها في معظم أصول المفردات وفي القواعد الأساسية ومنحي الأساليب.

وأدنى هذه المجموعات إلى العربية الفصحى مجموعتا اللهجات الحجازية والمصرية. أما اللهجات فلنشأتها في المواطن الأصلية للعربية الفصحى، ولأن معظم أهل الحجاز ونجد ينتمون إلى عناصر عربية خالصة. وأما اللهجات المصرية فلأن صراع العربية مع اللسان القطبي الذي كان يتكلم به أهل مصر قبل الفتح العربي لم يكن عنيفاً ولم تلق في أثنائه اللغة العربية مقاومة ذات بال؛ ومن المقرر أن اللغة التي يتم لها الغلب بدون كبير مقاومة تخرج من صراعها أقرب ما يكون إلى حالتها التي كانت عليها من قبل. هذا إلى أن معظم أهل مصر منحدر من عشائر عربية الأصل.

وأبعد هذه المجموعات عن العربية الفصحى المجموعتان العراقية المغربية. أما العراقية فلشدة تأثرها بالآرامية والفارسية والتركية والكردية، حتى إن قسما كبيراً من مفرداتها وبعض قواعدها غير عربي الأصل؛ ولذلك يجد المصري مثلاً صعوبة كبيرة في فهم حديث العراقي. وأما المغربية فهي أبعد اللهجات العامية جميعاً عن العربية الفصحى. ويرجع السبب في ذلك إلى شدة تأثرها باللهجات البربرية التي كان يتكلم بها معظم السكان قبل الفتح العربي. فقد انحرفت من جرَّاء ذلك انحرافاً كبيراً عن أصولها الأولى في الأصوات والمفردات وأساليب النطق وفي قواعد نفسها

ولهجات البدو في جميع هذه البلاد أفصح كثيراً من لهجات الحضر، وأقل منها في الكلمات الدخيلة، وأدنى منها إلى العربية الفصحى. ولذلك نرى أن لهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر وخاصة العشائر التي لم تبعد كثيراً عن حالتها البدوية القديمة، أفصح كثيراً من لهجات المصريين، وأكثر منها احتفاظاً بالأصوات العربية، وأدق منها في إخراج الحروف من مخارجها. فهي لا تزال محتفظة بأصوات الذال والثاء والظاء التي انقرضت من اللهجات المصرية؛ وأوزان كلماتها أقرب ما يكون إلى الأوزان العربية الصحيحة، ويندر أن نعثر فيها على مفرد غير عربي الأصل

ولهجات القرى في جميع هذه المناطق أفصح من لهجات المدن وأقل منها في الكلمات

ص: 23

الدخيلة، وأدنى منها إلى العربية الفصحى. ويرجع السبب في ذلك إلى ميل سكان القرى إلى المحافظة وقلة احتكاكهم بالأجانب

وعلى الرغم من تعدد لهجات المحادثة في هذه الأمم على الصورة التي وصفناها، فإن لغة الآداب والكتابة فيها واحدة؛ وهي تمثل في جملتها اللغة القرشية التي نزل بها القرآن. ولكنها قد تطورت في تفاصيلها تطوراً كبيراً تحت تأثير عوامل كثيرة من أهمها ما يلي:

1 -

اقتباس مفردات إفرنجية بعد تعريبها للتعبير عن مخترعات أو آلات حديثة، أو مصطلحات علمية، أو نظريات، أو مبادئ اجتماعية، أو أحزاب سياسية. . . وهلم جرا

2 -

ترجمة كثير من المفردات الإفرنجية الدالة على معان خاصة تتصل بمصطلحات العلوم والفلسفة والآداب. . . وما إلى ذلك؛ إلى مفردات عربية كانت تستعمل من قبل في معان عامة. فتجردت هذه المفردات من معانيها العامة القديمة وأصبحت مقصورة على هذه المدلولات الاصطلاحية

3 -

التأثر بأساليب اللغات الإفرنجية ومناهج تعبيرها وطرق استدلالها في المؤلفات العلمية والقصصية والأدبية وفي الصحف والمجلات. . .

4 -

اقتباس كثير من أخيلة هذه اللغات وتشبيهاتها وحكمها وأمثالها. . . وما إلى ذلك

5 -

إحياء الأدباء والعلماء لبعض المفردات القديمة المهجورة. فكثيراً ما لجأ الكتاب في البلاد العربية إلى هذه الوسيلة للتعبير عن معان لا يجدون في المفردات المستعملة ما يعبر عنها تعبيراً دقيقاً، أو لمجرد الرغبة في الإغراب أوفي الترفع عن المفردات التي لاكتها الألسنة كثيراً. وبكثرة الاستعمال بعثت هذه المفردات خلقاً جديداً، وزال ما كان فيها من غرابة، واندمجت في المتداول المألوف

اللهجة المالطية

تكلمت مالطة في العصور القديمة وفاتحة العصور الوسطى لغات كثيرة من أشهرها الفينيقية والبونية (القرطاجية). وهكذا شأن جميع البلاد الصغيرة المستضعفة التي ينتمي أهلها إلى عدة شعوب وتقع أرضها في طريق الغزاة والفاتحين، فتصبح دولة بينهم، ويحول ذلك كله دون أن يكون لها كيان وطني مستقر، أو قومية واضحة. فجميع البلاد التي من هذا القبيل لا تستقر على لغة واحدة، بل تتغير في الغالب لهجتها مع تغير الدولة المسيطرة

ص: 24

عليها، وينال ألسنتها كثير من مظاهر التبلبل لكثرة ما ينتقل إليها من لهجات، وما يعتور نطقها من أساليب

وآخر لغة انتقلت إلى مالطة كانت اللغة العربية متمثلة في لهجة من اللهجات العامية المغربية السائدة في شمال أفريقيا. غير أن هذه اللهجة قد أحيطت بظروف تختلف كل الاختلاف عن الظروف التي أحاطت بسائر اللهجات العربية الأخرى؛ فسلكت في تطورها منهجاً يختلف كذلك كل الاختلاف عن منهج أخواتها، وذلك أن انعزالها عن العالم العربي وانتشارها في بلد مسيحي، وكثرة احتكاكها باللغة الإيطالية المجاورة لها، وخضوع مالطة لحكم الإنجليز، وكثرة من يفد إليها ويمّر بها من الأجانب، وانتماء هؤلاء الأجانب إلى شعوب مختلفة وتكلمهم شتى اللغات. . . كل ذلك قد وسّع من هوة الخلاف بينها وبين اللهجات العربية الأخرى، فبعدت عنها بعداً كبيراً، وفقدت كثيراً من مقوماتها، وتأثرت بطائفة كبيرة من اللغات الأوربية وخاصة الإيطالية والفرنسية والألمانية والإنجليزية، وانتقلت إليها مجموعة كبيرة من مفردات هذه اللغات، وامتزجت هذه العناصر الدخيلة بالعناصر الأصيلة كل الامتزاج، فتألف من مجموع ذلك كله مخلوق عجيب في عالم اللغات، حتى أن الكلمة الواحدة فيها لتتألف أحياناً من أصلين أحدهما عربي والآخر أعجمي ((ليبيرانا) أي نجّنا أو خلصنا، فهي مؤلفة من الفعل الفرنسي بمعنى حرر أو خلص، والضمير العربي لجماعة المتكلمين)؛ ويندر أن تعثر على مثل هذا الخلط في أية لغة أخرى من لغات العالم

ولا يزال اللسان المالطي، على الرغم من هذا كله، محتفظاً بكثير من خصائص اللهجات المغربية التي انشعبت عنها. ومن أظهر ما بقي فيه من هذه الخصائص طريقة إمالة الألف المتوسطة في معظم الكلمات (فكلمة (باب) مثلاً ينطق بها في مالطة بإمالة الألف على طريقة اللهجات المغربية

واللهجة المالطية هي اللهجة العربية الفذة التي ارتقت إلى مصاف لغات الكتابة. وقد تم لها ذلك في القرن التاسع عشر. فمنذ ذلك العهد تطبع بها الكتب والصحف والمجلات وتدون بها الرسائل، وبالجملة تستخدم في جميع الأغراض التي تستخدم فيها لغات الكتابة وهي كذلك اللهجة العربية الفذة التي تدون بحروف لاتينية.

ص: 25

ولا تكاد تستخدم هذه اللهجة إلا في القرى؛ أما المدن المالطية فمعظم الحديث يجري فيها بالإيطالية أو الإنجليزية

علي عبد الواحد وافي

ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون

ص: 26

‌من وحي الحرب

جيل وجيل

للأستاذ محمود البشبيشي

- 4 -

فساد منطق الحياة اليوم - في الاستقرار يقظة للقلم - دوافع

الحرب وأسرارها - الغرائز والحرب - جهل الإنسان الأول

بحقيقة الغرائز - فساد الغرائز اليوم - أثر الطمع والحقد

والأثرة في فسادها

. . . اللهم إن الإنسانية قد ضلت وهي لضلالها تخبط في تيهاء، وتخفق اكثر ما تفوز، وكأنما فاضت حيوانيتها الكامنة فجفأت ما فيها من صفات كلها ضلال وكلها شرور!!

اللهم إن حقيقة الأشياء تقاس اليوم بالكمية لا بالكيفية؛ وقد انعكس منطق الحياة فأصبح مسيخاً قائماً على أسس من الشهوات والأغراض

اللهم إن الأطماع قدغلبت، والجحدود قد طغى، والظلم قد أسفر، والضلال قد اختال واضطربت موازين الحياة!!

لعمري لو أمكن أن تمسخ صورة مشوهة بطبيعتها لما أمكن أن تكون أقبح مما صارت إليه صور الإنسانية في هذه الأيام العجاف!!

متى يتجلى على الإنسانية بدر الإخاء، ويسطع في كل قلب شعاع الصفاء، ويعم الشرقي والغربي جوّ من الرحمة يصل القوي بالضعيف، والضعيف بالقوي، صلةً لا تُشعر هذا بقوته ولا ذاك بضعفه!!

فما يُطرب الكاتب الإنساني شيء ما يُطربه انتشار مبادئ السلام الروحي، لا السلام المقيد برموز وألفاظ، السلام المسطور في القلوب، لا السلام المحفوظ في أوراق! وكما يُحب أن يصول ويجول في ميادين الاضطراب الاجتماعي ليستشعر لذة واجب المصلح السديد الرأي، يُحب أن يخبر الناس عن كثب ومخالطة في ظل السلام والاستقرار لتغزر تجاريبه

ص: 27

وتصدق أغراضه. . .

أما بعد فحديثنا يتصل كل الاتصال بالحرب وجو الحرب، ويساير أحوالها ويلابسها أصدق ملابسة، وواجب الكاتب الحق أن يكون لسان الحياة الناطق بما يضطرب فيها. وخير الأفكار ما كان في جوهره وليد الحوادث. وحقيق بمن يحمل القلم وهو أشرف سلاح أن يشرعه في وجه المدلهمات يحللها، وينشر لقومه ما يبصرهم بما في الاتجاهات المختلفة من الضّرِ والشّين، ويقفهم على ما فيها من النفع والزّين

. . . كنت قلت في أول نقاشي مع ولدنا الأديب (حسين) إن الناس لم يفرطوا في أمور دنياهم والإنسانية والروابط الدينية، إلا منذ أن فرطوا في شخصيتهم وأخلاقهم، فأصبحوا لا يحكمهم شعور حي، ولا يقيد شرورهم رحمة. . . ورأى هو أن السبب فساد التأمل واختلاطه بحب الذات، فأصبح الإنسان لا يرى الشيء حسناً إلا إذا كان له نصيب من حسنة!

وقادنا الحديث إلى ذكر الحرب ولكنا لم نتناول يومئذ منبهم أسرارها بالتشريح، وكأنما تركنا الأمر إلى عودة، وقد عدنا له فما حديث الحرب بيني وبينه؟

قلت: ما السر في الحرب وما الدافع إليها؟ وكيف تظل قيودها تطوق الإنسان إلى اليوم، وقد سار به الزمن وسار معه من طفرة إلى طفرات في الرقي العملي والنظري؟ وكيف يعجز اليوم عن حل مشكلاته فلا يجد سبيلاً غير التدمير والتخريب؟

لقد قيل إن المعرفة تكفل السلام بسمو الفكر، والترفع عن الدنيا، والتطهر من أدناس الوحشية والهمجية، وانتشار مبدأ الإنسانية. . . فهل تحقق كل هذا؟ وما ينفض العالم يده من غبار حرب ضروس، إلا ليخوض في أوعاث وأوعار حرب عاصفة، تغمر السماء بالموت الطائر، وتكتسح الأرض بالموت الزاحف!!

لقد قيل إن المدينة تصلح فساد الحياة، وتثقف أودها، وتصل أطراف الإنسانية فتقوم! فهل عرفنا سوى أن المدنية تقدم في تقويض البناء، وتقطيع الأواصر؟ فما السر في هذا الاضطراب؟ وما مدى أثر المدنية والتقدم فيه؟

قال: لعل السر من قديم هو طبيعة المغالبة في سبيل البقاء، فالإنسان بما اجتمع فيه من غرائز تقربه من الحيوان مسوق إلى استغلالها فيما جُعلت له، وخاصة حين تفرض عليه

ص: 28

قيود الحياة استعمالها، وعندما تتهيأ له أسباب يقظتها؛ فهناك غريزة المقاتلة قد تغلغلت في نفسه كما تغلغلت في الحيوان، وهو في حاجة إليها لمدافعة الشرور والخوض في مَرابط الهَلَكَة والسعي وراء ما يحفظ نوعه، وهو في كل ذلك مدفوع بدافع حب البقاء، والكفاح في سبيله، تُسيره غريزة فيطيعها - إذن هو يحارب يا بني، أو يميل إلى الحرب بدافع (غريزة المقاتلة) حباً في البقاء والذود عن حقوقه، ورغبة في الاعتزاز بوجوده في الحياة وشعوره بهذا الوجود، فهل يكون ذلك مبرراً للحروب وأهوالها؟ نقف أمامه موقف الاقتناع بأنه أمر غريزي فطرت عليه النفوس، فلا سبيل للخلاص من قيوده! وهل إذا وضح أنها لون من ألوان البقاء يجوز أن نتغاضى عن أهوالها وشرورها، ولا نحاول تشريح أسبابها والنظر إليها كمرض اجتماعي له علل ونتائج؟

- ذلك أمر آخر، فهي كغريزة جدير بنا أن نتأمل حقيقتها بين سائر الغرائز التي تتصل بها، فليس من شك عندي أن غريزة المقاتلة وجدت لحكمة جديرة بالاعتبار، وليس من شك في أن الحياة وما بها من هلكات وما يحف بها من مخوفات جديرة بان تتحصن لها الأحياء بمثل هذه الغريزة. . . وإنما يكون ذلك بقدر محدود يجيء من بعده الخير المنتظر، الخير الذي يصيب المجموع ولا يقتصر على الفرد، الخير الذي تطهر من أدناس الأنانية والأغراض، وخلص منها خلوص الحقيقة من شباك الباطل. وقياساً على هذه الصورة الكاملة لها، أرى أن حرب اليوم قد خرجت عن النطاق المعقول لغريزة المقاتلة، وأصبحت فناً فريداً من فنون الفساد الذي لحق أسس الحياة باضطراب العقل وضلال التأمل، وما تولد منهما من نظم تقود إلى الدمار وتدفع إلى الأثرة القبيحة

إذن وضح أن الحرب في صورتها الفطرية التي تدفع إلى حب البقاء وحفظ النوع من غير اعتداء على الحقوق وليدة غريزة المقاتلة. . . ولكن حرب اليوم صورة لفساد تلك الغريزة

وقد يكون من أسباب الحرب ودوافعها غريزة (حب الاقتناء)، وليس بعجيب أن تكون سبباً من أسبابها، فمن الواضح الجلي أن الإنسان قد درج منذ نشأته على السعي وراء الرغبة الجامحة في اقتناء كل ما يرى؛ يدفعه إلى ذلك حبه لنفسه وطمعه في الانفراد بالمنفعة. ويظهر أثر تلك الغريزة قوياً عنيفاً في عهود الطفولة أيضاً كما كان في عهود الإنسان المظلمة، وكما هو في بعض المجتمعات التي بقيت على فطرتها وظلام غرائزها؛ ولكن أثر

ص: 29

الغريزة يكون أكثر وضوحاً في عهد الطفولة حيث ينظر الطفل إلى كل شيء نظرة الطامع فيه. ولعل ذلك يرجع إلى ضيق مدى تأمله وبصره بالأمور، أو تجرده من معنى الخير العام الذي لا يشتد أثره إلا بعد طول رياضة وعظيم دراية وبلوغ لتمام العقلية العامة!. . .

- ومن عجب يا ولدي أن الإنسان مع معرفته اليوم للخير العام وتشدقه بجليل منافعه، تراه منساقاً إلى طاعة هذه الغريزة بل الخضوع لها خضوعاً غلب على قلبه وعقله فأفسد معنى الخير فيها كما أفسد معنى الخير في غريزة المقاتلة، فما السر في ذلك؟ وكيف يصبح حاله وقد أدرك سرها؟

السر عندي. . . أن هناك بعض صفات كامنة في النفس، تغلف هذه الغريزة بغلاف يفسدها، فهناك الطمع والحسد والحقد والغيرة العمياء، تجعل من هذه الغريزة قوة قاهرة، وتفرض سلطانها على كل تصرفات الإنسان، فيندفع في سبيل رغباتها، وقد يخرج عن حدود الخلق ويتخطى الخير العام، ولكنه لا يستطيع سوى إرضاء تلك الغريزة الجامحة. . .

ومن هنا يكون الاعتداء على حقوق غيره، وابتزاز ما ليس من حقه، واختراع الأسباب والعلل لهذا الاعتداء وذلك الابتزاز!

- وثمة غريزة أخرى يا بني قد يكون لها الأثر الكبير في الحروب والميل إليها؛ وهي غريزة الهدم والتدمير، فإن الإنسان مشدود إلى مظاهر هذه الغريزة من يوم ميلاده، ولكنها أكثر وضوحاً عن الطفل لأنه لا يميز بين العمل ونتائجه، فهو فاقد للقياس السليم، لأن الحقائق لا توزن عنده إلا بميزان عاطفة الطفولة التي لا يهمها سوى إرضاء صاحبها على أية صورة كانت بالهدم أو البناء!!

وهي أيضاً موجودة في المجتمعات التي ظلت على فطرتها العمياء، وقد كانت من قبل في العهود المظلمة؛ ولكن إذا جاز أن يتصف بها الطفل لضيق تأمله أو انعدامه، فما يجوز أن تعلق بالرجل الكامل، فما السر في سيطرتها اليوم على العقل البشري؟

السر هو أن بجوار هذه الغريزة غريزة أخرى تشعلها كلما أصابها خمود، هي غريزة السيطرة، فصاحب هذه الغريزة يميل إلى فرض سلطانه على غيره، بل إلى فرض ميوله ومعتقداته. ولعل تضارب المذاهب المختلفة من ديمقراطية ونازية وفاشية وشيوعية

ص: 30

وصورة صادقة لهذه الغريزة؛ وصاحب غريزة السيطرة يفعل كل شيء في سبيلها؛ فإذا وجد من يعترضه تنمر وظهرت فيه غريزة الهدم والتدمير في أشد صورها، رغبة في قهر هذا المعترض! وإذا وجد من استكان له وخضع، لم يقنع بذلك بل دفعه هذا إلى التمادي في بسط سيطرته. . . وإن الحرب لمشتعلة حتما حيثما ظهرت هذه الغريزة وما يلابسها

ظهر إذن أن الحرب قد تكون وليدة غريزة المقاتلة كما بينا ووليدة غريزة الاقتناء والامتلاك كما أسلفنا، وأن من أسبابها غريزة الهدم والتدمير كما وضح أن حقيقة المقاتلة والاقتناء حقيقة تقتضيها أسباب الحياة ولكن في حدود الخير العام، كما ظهر أن فسادها واختلاطهما بالأثرة والحسد والطمع والغيرة جعلهما صورة فاسدة من صور الحرب اليوم!

- بقي شيء واحد يا والدي وهو كيف نفسر أسباب الحرب في العهود المظلمة وفي عهدنا الحاضر؟ وهل هناك اختلاف كبير بينهما؟

أما السبب فهو يرجع كما بينا إلى الغرائز السابقة في العهدين، ولكني أعتقد أن الحرب كانت في العهود المظلمة وليدة جهل العقول بحقيقة الخير في الغرائز الفطرية، وأنها اليوم وليدة فساد هذه الغرائز!!

وجماع القول في ذلك أن تصرفات الإنسان في عهوده المظلمة بقيت كما هي في بعض المجتمعات التي تعيش على الفطرة

ثم إن جهله بغرائزه في تلك الأحوال يشبه كثيراً ضلالة الغريب في فهمها أيام الطفولة! فقد أعشت الأبصار في العهود الأولى ظلمة الغريزة، حيث لم يكن في وسع الإنسان الانتفاع باّللمح الباِصِر من التجاريب، وكذلك الأمر في عهد الطفولة والمجتمعات المتأخرة! ولم يك همه في أيامه المظلمة غير ابتزاز ما اختزن دونه، والنظر إلى الأشياء بعين الفرد، وعين الطمع، فقد كان يومئذ أغلَف القلب لا تنفذ إليه أسرار معاني الخير من غريزة المقاتلة، وحب الاقتناء، وكذلك الأمر في الطفولة والمجتمعات المتأخرة. . .

هذا مكانه من غرائزه أيام جهالته وتأخره وطفولته! فأين هو منها اليوم؟ وقد رقى سلماً أطلعه مطالع النور والمعرفة، وذهب في التقدم مذاهب الجن. . .! لا يبالي ولا يستوحش، يزعم أنه على بصيرة من نفسه، ويقين من أمره، وإنه إلى بلوغ أعظم المثل العليا لمنتظر راج. . .

ص: 31

أين هو اليوم من غرائزه؟ هل أدرك مُنبهمها؟ أم ظل على حيرته الأولى؟!

إنه اليوم عليم بأسرارها خبير! ولكن علمه قد أضله، وخبرته قد أعمته! لأنه جعل الأطماع مقصداً، والأغراض هدفاً، ووزن الأمور بميزان الفرد فضل السبيل، وهو من ضلاله يضرب في تيهاء مظلمة

أجل، لقد صاول وداور وناوص حتى فك قيود استغلاق غرائزه، ولكنه قد بذل ويبذل وسعه في إفسادها!. وهكذا انقلب الأمر من جهل إلى معرفة أفسدتها الأطماع والأغراض الشخصية. . .

وهكذا أستطيع الآن أن أقرر أن الحرب كانت قديماً وليدة الجهل بأسرار الخير الكامنة في الغرائز، وأنها اليوم قد أصبحت وليدة فساد هذه الغرائز!

أما بعد فهذا حديث الحرب صُب في قوالب من فنون الحديث بيني وبين ولدنا الأديب (حسين) أول ما يبْدَهك منه أقباس الفكر الفلسفي القائم على قوة التصوير والحِجاج، وأشهد أني، وإن كنت لا أميل دائماً إلى خوض أوعار الفلسفة وأوعاثها إلا في خلواتي الفكرية الخاصة، قد اضطررت اضطراراً إلى مكابدة صعابها على صفحات الرسالة إرضاء لميول ولدي الفلسفية، ونزعاته الفكرية العميقة الطيبة الغراس، المأمونة الغاية.

محمود البشبيشي

ص: 32

‌مدن الحضارات في القديم والحديث

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

- 3 -

ولقد زار بغداد في القرن الثامن الهجري الرحالة ابن بطوطة ووصف ما كانت عليه في وقته فذكر الجسرين ومرور الناس عليهما في نزهة متصلة، وذكر عدة مساجدها التي يخطب فيها وتقام فيها الجمعة، وعدتها أحد عشر مسجداً. أما المساجد الأخرى فكانت كثيرة. ووصف حماماتها المطلوة بالقار فيخيل إلى الناظر أنها مرصوفة بالرخام الأسود. وذكر جانبي بغداد الشرقي والغربي، وقبور الخلفاء العباسيين بالرصافة وعلى كل قبر منها اسم صاحبه

وزارها قبل سقوطها في يد التتار الرحالة المشهور ابن جبير الأندلسي، إلا أنه رآها على أسوأ حال وأقبح مصير، وكانت لا تزال كما يقول بنص عبارته:(حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الأمامية القرشية). فرآها (كالطلل الدارس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر، إلا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين)

وفي القوت الذي كانت تزدهر فيه بغداد بحضارة عربية واسعة، وثقافة إسلامية كبيرة، كانت تزدهر حاضرة إسلامية أخرى بألوان من الحضارات، وتتجه إليها الأنظار من كل صوب، ويفد إليها الشعراء والأدباء والعلماء حتى لتكاد تنافس بغداد في المحل، وتزاحمها في الموضع والقدر. . . تلك الحاضرة هي (القاهرة)

والقاهرة مدينة الفواطم، وضع أساسها جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله في 17 شعبان سنة 358 هـ. بعد أن تم استيلاؤه على الفسطاط. وكان في القاهرة في ذلك الحين طريق عام يختط وسطها من باب زويلة جنوباً. وبنى حولها السور المشهور. وكانت تقع المقس إلى الغرب وتمتد إلى النيل، وظلت ميناء القاهرة إلى أن تحول مجرى النهر في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، فانتقلت إلى بولاق

ومن القاهرة أخذت الدعوة الفاطمية تزداد وتكثر وتتخذ مدى واسعاً. وسُكت النقود باسم الخليفة الفاطمي، ونقش عليها (باسم مولاي المعز). وفي مسجد عمرو دعي للمذهب

ص: 33

الفاطمي من على منبر الجامع. وخطب في يوم 19 شعبان سنة 358 هـ هبة الله بن أحمد خليفة إمام مسجد عمرو. ودعي أيضاً في جامع ابن طولون للخليفة الفاطمي في يوم جمعة من ربيع الآخر سنة 359 هـ؛ ثم دعي في الجامع الأزهر بعد بنائه، وكان الدعاء فيه في السابع من رمضان سنة 361 هـ، وبعد ذلك دعي في مسجد الحاكم

وكان في القاهرة (مكتبة القصر) التي ذكرها المقريزي وأبو شامة وغيرهما. وقد قال فيها أبو شامة (يقال إنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت في القاهرة في القصر). وكانت هذه المكتبة تحوي النادر من الكتب. وذكر المقريزي صاحب الخطط أنها كانت في المارستان العتيق وفيها أكثر من مائتي ألف مجلد

ولم تكن تلك هي المكتبة الوحيدة في القاهرة، فقد عرف عن الفاطميين حبهم للعلم وتشجيعهم للأدب وإكثارهم من إنشاء المكتبات. ولقد أنشأ الحاكم بأمر الله (دار الحكمة) وهي أشبه بجماعة علمية، وألحق بها مكتبة تسمى (دار العلم)

وكان هناك مكتبات خاصة للأفراد، تتسع وتعظم تبعاً لمقدرتهم؛ ومكتبة ابن كلس الوزير المشهور أحق ما يذكر في هذا المقام. وكان ابن كلس هذا مجدوداً في النعمة، واسعاً في الثروة، وكان له دار يجتمع فيها عنده القراء والأئمة، والغلمان والحاشية، وفيها ميضأة منظمة وثماني غرف للنوم، وديوانه الخاص الذي أسماه (العزيزية) تيمنا باسم العزيز الفاطمي. ولما كان ابن كلس يهودياً وأسلم، كان لليهود دالةٌ في عهده، بل كان لهم شأن كما يذكر المؤرخون. ولقد أثارت محاباتهم شعور الاستياء عند المسلمين؛ فقد رأوا لهم الكلمة والنفوذ، والمنزلة والجاه، والقربى والشفاعة (لأسباب صهرية) ورأوا المسلمين بعيدين من كل خير، مُنأيْن عن كل منزلة، فحرك هذا بعض الشعراء بالكلام؛ فقال الرضى بن البواب:

يهود هذا الزمان قد بلغوا

غاية آمالهم وقد ملكوا

العز فيهم والمال عندهُم

ومنهم المستشار والملك

يأهل مصر إني نصحت لكم

تهودَّوا، قد تهود الفلك!!

وكان الغنى في أيام الفاطميين شاملاً، والثروة واسعة، وأغلب هذه الثروة بالطبع في أيدي الخلفاء وأبنائهم. وكان للمعز لدين الله وبنتيه ثروة تحتاج إلى أربعين رطلاً من الشمع

ص: 34

لختمها

ولقد زار مصر في عهد المستنصر الفاطمي سائح فارسي مشهور هو ناصر خسرو، وكان ذلك في عام سنة 439 هـ. فوصف ما شاهده ورآه في كتابه (سفرنامه)، وقد أضفى على مشاهده ألواناً من الخيال الذي أوتي منه حظاً كبيراً فقد كان الرجل شاعراً وأديباً، وهو يذكر أن القصر الفاطمي كان فيه ثلاثون ألف جارية، واثنا عشر بهواً، وعشرة أبواب، وألف حارس. ويصف دور القاهرة في ذلك الزمان بأنها (محكمة البناء مبنية بالحجر لا باللبن، يفصل بعضها عن بعض حدائق بهيجة)

كانت القاهرة طيلة حكم الفاطميين مصونة محفوظة لهم ولأولادهم وحرمهم وخواصهم والمقدمين من جنودهم؛ ولكنها في عهد الأيوبيين تغيرت حالها من الصيانة إلى الابتذال، وتدلت أمورها من الخواص إلى العوام، يسكنها الجمهور، وأصبحت دور الفواطم ذوات الحدائق الغُنّ حارات وشوارع ومسالك وأزقة؛ وعمر حَّي القلعة، وحافتا الخليج الكبير، وما دار على الحسينية. وظلت مصر والقاهرة تتسعان حتى صارتا بلداً واحداً يشتمل على:(البساتين، المناظر، القصور، الدور، الرباع، القياسر، الأسواق، الفنادق، الخانات، الحمامات، الشوارع، الأزقة، الدروب، الخطط، الحارات، الأحكار، المساجد، الجوامع، الزوايا، الربط، المشاهد، المدارس، الترب، الحوانيت، المطابخ، الشون، البرك، الخلجان، الجزائر، الرياض، المتنزهات). المقريزي ج2

وظلت القاهرة كذلك إلى أن حدث الفناء الكبير في سنة تسع وأربعين وسبعمائة فخرب كثير من هذه المواضع، وتبع ذلك خراب صعيد مصر وجلاء أهله عنه. وقد أدرك هذه الخرائب والأطلال المقريزي وأشار إليها في خططه

ويظهر أن بعضاً من المؤرخين كانوا يتحاملون على القاهرة لحاجة في نفوسهم، فلا ينصفونها إذا وصفوا، ولا يقدرونها إذا تكلموا. وقد يجسَّمون في المعايب، ويهوَّلون فيها المثالب. ومن هؤلاء أبو الحسن علي بن رضوان الطبيب، فقد نقدها نقداً مراً؛ وذكر كثرة الأوساخ والأقذار فيها، وكثرة العفونة في مياهها؛ ثم ذكر نظام (المجاري العامة) فيها وما يجره على السكان من عفونة ووباء. والحق أن ابن رضوان نظر إلى القاهرة نظرة الطبيب الصحي أو (مفتش الصحة)، فغلا في نقدها وأسرف في ذمها.

ص: 35

ومن الذين لم تعجبهم القاهرة ابن سعيد صاحب كتاب: (المعرب في حلى المغرب)، فقد سمع عنها كثيراً، فلما رآها استكثر الأخبار عنها وقال بنص عبارته:(هذه المدينة اسمها أعظم منها. وكان ينبغي أن تكون في ترتيبها ومبانيها على خلاف ما عاينته لأنها مدينة بناها المعز أعظم خلفاء العبيديين)

وما أشبه هؤلاء المتحاملين من العرب المتجنين على مصر بالمتحاملين اليوم من الفرنجة عليها! فهم ينكرون منها كل منظر حسن ومشهد جميل، ويسجلون عليها غير ذلك

استمع إلى ابن سعيد هذا وهو يصف القاهرة في تحامله وتجنيه: (ولقد عاينت يوماً وزير الدولة وبين يديه أمراء الدولة وهو في موكب جليل، وقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل حجارة وقد سدت جميع الطرق بين يدي الدكاكين، ووقف الوزير، وعظم الازدحام، وكان في موضع طباخين، والدخان في وجه الوزير وعلى ثيابه، وقد كاد يهلك المشاة وكدت أهلك في جملتهم. وأكثر دروب القاهرة ضيقة مظلمة كثيرة التراب والأزبال، والمباني عليها من قصب وطين) انتهى. على أن شيئاً واحداً لا تنساه القاهرة للفاطميين، وهو الحفلات الكثيرة المختلفة التي كانوا يقيمونها في الجمعة والأعياد والولائم والمناظر وليالي الوقود التي تسبق أول ومنتصف رجب وشعبان وحفلات توديع الحملات الحربية التي سجلها كثير من شعراء ذلك العصر وخاصة عمارة اليمنى شاعر الفواطم المشهور.

(الحديث موصول)

محمد عبد الغني حسن

ص: 36

‌الوضع الصحيح للإصلاح الاجتماعي في مصر

للأستاذ محمد عبد الرحيم عنبر

اطلعت باهتمام على المناقشات المختلفة العنيفة التي دارت رحاها في الصحف، وبخاصة مجلة (الرسالة) الغراء، حول الإصلاح الاجتماعي في مصر والوضع الصحيح له. ولست أبالغ إذا قلت إن معظم الكتاب النابهين الذين أداروا تلك المناقشات - مع احترامي الشديد لهم، وتقديري العميق لنبل مشاعرهم وسمو أهدافهم - كانوا ينظرون إلى مشاكلنا الاجتماعية من زواياها الأدبية والوجدانية والمثالية الحالمة، مما يجعل كلامهم وأفكارهم أدنى إلى الفلسفة والأدب منه إلى الاجتماع أو (الطب الاجتماعي). وفي اعتقادي أن تناول المشاكل الاجتماعية بهذه الطريقة غير موصل حتماً إلى الغرض المطلوب، وهو تبرئة المجتمع المريض من علله وأسقامه. بل لست أبالغ - أيضا - إذا قررت أن تلك الطريقة تبلبل أفكار الشعب، وتشوش أمانيه، وتهيج خواطره، لأنها لا تضع إصبعها على مكمن الداء الحقيقي ولا تصف الدواء. وما سمعنا يوماً، ولا أظننا سنسمع أن مريضاً - والمعضلات الاجتماعية أمراض نفسية حقيقية - شفي بقصيدة عصماء، أو بمقال بليغ!

وبهذه المناسبة أذكر أن (الطب الاجتماعي) فن حديث له أصول وقواعد ودراسات فنية منظمة كسائر الفنون

ومشاكلنا الاجتماعية قديمة ومعقدة إلى حد محزن. ويخطئ الذين يظنون أن (الفقر) وحده هو أساس كل هذه المشاكل فيخصّونه بالمقالات الطويلة المسهبة، والأبحاث المستفيضة الدسمة؛ فالفقر نتيجة لعلل اجتماعية أخرى وليس سبباً. وعليه يجب أن نوجّه أنظارنا وجهودنا إلى جذور هذه المعضلة الاجتماعية لا أن نكتفي بقصقصة أطرافها، وتشذيب حوافها المدببة. وقيل إن مشاكلنا الاجتماعية الكبيرة تكوَّن مثلثاً متساوي الاضلاع، مؤلفاً من الفقر، والجهل، والمرض. وتفاعل هذه المشاكل الثلاث الحية ينتج عصير الشقاء الذي تتجرعه الأغلبية الساحقة من سكان هذه البلاد. وفي يقيني أن مشاكلنا الحقيقة أربع وليست ثلاثاً، إذ يجب أن تضاف إليها مشكلة الانحلال الخلقي المتفاقمة يوماً بعد يوم. فإذا نظرنا إلى هذه المشاكل الاجتماعية الأربع مجتمعة كنا أقرب إلى الصواب

وإذا كنت قد ذكرت أن الفقر نتيجة لا سبباً فهو ليس كذلك في كل الأحوال؛ فكما أن الجهل

ص: 37

يورث الفقر والمرض، فإن الفقر يمنع التعلم والصحة. ولهذا يجمل بنا أن نقول إن تلك المشاكل متفاعلة تفاعلاً مستمراً كالمواد الكيميائية، وليست قريبة من بعضها فحسب

ولنتحدث الآن بإيجاز عن صلة بعض هذه المشاكل ببعض، ونبين مدى تفاعلها المستمر الفوار

الفقر

جاء في الإحصائيات الرسمية لسنة 1938 أن عدد ملاك الأراضي الزراعية من المصريين هو 2. 438. 3. 3 شخصاً يملكون 5. 403. 534 فداناً بالتفصيل الآتي:

1 -

1. 673. 576 شخصاً يملك كل منهم فداناً فأقل. ويبلغ مجموع المساحات التي يملكونها 688. 600 فداناً

2 -

564. 700 شخصاً يملك الواحد منهم من فدان إلى خمسة. ويبلغ مجموع المساحات التي يملكونها 1. 148. 019 فداناً

3 -

84. 617 شخصاً يملك كل منهم خمسة فدانين إلى عشرة أفدنة. ويملكون جميعاً 561. 348 فداناً

4 -

61. 442 شخصاً يملك الواحد منهم من عشرة فدادين إلى خمسين. ويملكون جميعاً 1. 185. 362 فداناً

5 -

وكبار الملاك، وهم من يملكون أكثر من خمسين فداناً وعددهم لا يتجاوز 12. 420 شخصاً يبلغ مجموع المساحات التي يملكونها 2. 253. 853 فداناً!!

وإذا تدبرنا هذه الأرقام وجدنا:

أولاً: أن صغار الملاك ونسبتهم العددية 93. 5 % يملكون 18 % فقط من الأراضي المزروعة في مصر

ثانياً: إن كبار الملاك ونسبتهم العددية 12 % يملكون حوالي

45 % منها

ولا نظن أن بلداً من بلاد العالم المتمدين اختل فيه توازن الملكية إلى هذا الحد!

ولو أردنا معرفة نوع الأعمال والحرف التي يزاولها مواطنونا المساكين المحرومون من

ص: 38

نعمة (الطين)، وعددهم حوالي ال 13 مليوناً من الأنفس فلنعلم أن 3 يشتغلون أجراء في أراضي كبار الملاك (أي عبيداً وأرقاء!). وهناك 569000 شخص في حرف غير منتجة

ومن المعلوم أن العامل الزراعي الذي لا يتجاوز متوسط أجره اليومي الثلاثة قروش، له أسرة تتألف من زوج وأولاد. وقد تضم عدا هؤلاء زوجة أخرى، أو أباً، أو أماً، أو أختاً صغيرة، أو أرملاً. . . أو أولئك جميعا!!

ويخطئ من يعتقدون أن أغنياءنا الذين نشكو مّر الشكوى من تضخم ثرواتهم على حساب الفلاح المسكين. . . ينتجون في البلاد من الرخاء ما يساوي هذا الاختلال الاقتصادي، والجرم الاجتماعي، فإن هؤلاء الأثرياء قد كفر معظمهم بنعمة الله فغرقوا في بحر من الترف والميوعة والتبذل والسفه ليس له من قرار، حتى أوسعوا أملاكهم ديوناً ورهوناً، وسلّطوا عليها بنوكاً أجنبية لا ترحم

ومصر لم تستفد كثيراً من النهضة الصناعية التي قامت بين ربوعها. فهذه الشركات الأجنبية المنبثة في طول البلاد وعرضها تحتكر مرافقنا العامة التي هي شرايين الحياة، احتكارا قانونياً أو فعلياً. فقد بلغت رؤوس أموال الشركات الموجودة في مصر حوالي 88 مليوناً من الجنيهات ليس فيها أكثر من خمسة ملايين لمصريين حقيقيين!!

وليس من المنتظر أن تتحسن هذه الحالة المحزنة كثيراً ما دام الشعب المصري شعباً غير صناعي، وتظل الثروة العقارية الزراعية - وهي حجر الزاوية في ثروتنا القومية - لا تنمو بنسبة نمو عدد السكان، فإن هذه النسبة كانت في القرن الماضي 45: 5 %

ولعل هذه العجالة تعطي صورة واضحة لما عليه الشعب المصري من فقر تجري به الأمثال

والفقر بوجه عام هو نقص الكفاية الضرورية من الطعام والملبس والمسكن وما إلى ذلك من حاجات معيشية لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها: أي الهبوط عن الحد الأدنى لهذه الضرورات. وكلما أمعن الشعب في الحضارة ارتفع مستوى المعيشة فيه، وزادت تلك المطالب والضرورات الحيوية. ومعنى ذلك أن للفقر - ككل شيء معلوم بالتجربة والبديهية - حداً يجب ألا يجاوزه حتى لا تجني الدولة على نفسها، وتتفكك عرى شعبها. فالفقر غير المألوف إذن هو مظهر من مظاهر سوء التنظيم الاجتماعي. والتنظيم الاجتماعي من شأن

ص: 39

الدولة وحدها. فهي التي تكفل سريان نواميس العمران، وتضمن تنسيق نشاط الأفراد بحيث لا يعتدي نشاط أحدهم أو رزقه على نشاط الآخر أو رزقه. ويمكن أن نشبّه مهمة الدولة في هذا الصدد بمهمة (البوليس الاجتماعي)!! وتقصير الدولة في تأدية هذه المهمة جريمة لا تغتفر؛ جريمة خالدة لا ينساها الجيل الحاضر ولا الأجيال القادمة التي نترك لها تركة مثقلة بأكثر من نصيبها من عبء العمران والحضارة!

وسوء التنظيم الاجتماعي الذي يتمخض عنه الفقر له صور متعددة؛ فللفقر أسباب علمية أدلى بها علماء الاجتماع على مر العصور

فإلى ما قُبل القرن التاسع عشر أيام كانت الأمم تعتمد في معاشها على الزراعة وحدها جهر (مالتوس) بنظريته المشهورة في السكان، منذراً بقرب وقوع مجاعة عالمية، لأن زيادة السكان أسرع من زيادة الثروة الزراعية. أي أن الأرض سوف لا تكفي غلتها جميع سكانها

وقد فقدت هذه النظرية قيمتها في القرن التاسع عشر عند ما تقدمت الصناعة، وتغلب الإنسان على كثير من عقبات الطبيعة مما أدى إلى استنباط موارد جمة للرزق

على أن الفقر ظل مع ذلك طابع الحياة الاجتماعية الرئيسي في معظم الأمم - ولو إلى حد ما - مما أدى إلى ثورات فكرية لا نهاية لها. وقد وضع له علماء الاجتماع نوعين رئيسيين من الأسباب:

أولاً: الأسباب الشخصية:

أي الأسباب التي تتعلق بشخص بعينه، وسواء أكان في مكنته التغلب عليها أم لم يكن، وهي:

(المرض، الشيخوخة، الترمل، الحداثة، الطيش وضعف العقلية، قلة الحيلة، الكسل، الإسراف، الجهل، البطالة، موت العائل. . . الخ)

وقيل: إن هذه الأسباب تعادل 30 % من جملة أسباب الفقر

ثانياً: الأسباب الخارجية:

أي الأسباب العامة التي تخرج عن طوق الشخص وإرادته المحدودة، وهي:

(زيادة السكان بنسبة أكبر من زيادة الثروة الرئيسية في البلاد، البطالة العامة بسبب زيادة الإنتاج على الاستهلاك، عدم استغلال الموارد الطبيعية، انحطاط المستوى الفكري للشعب،

ص: 40

تدهور المستوى الصحي، فساد الأخلاق الشعبية، الاستهتار العام، عدم تنظيم وسائل الإحسان، اختلال توازن الملكية الزراعية العقارية. اتساع هوة التفاوت بين الثروات.

ولعله يبدو من ذلك كله للأستاذ الكبير الدكتور زكي مبارك أن (الفقر المصري) علة اجتماعية لا فردية ولا أخلاقية فطرية في الشعب المصري، كما أراد حضرته أن يصورها

وفي مقال قادم سنتناول إن شاء الله علاقة الفقر بالجهل والمرض والانحلال الخلقي العام

محمد عبد الرحيم عنبر

بوزارة الشئون الاجتماعية

ص: 41

‌أغنية روسية

للأستاذ علي محمود طه

لا نجمَ، لا مصباحْ

يلمعُ في السهلِ

قد نامتْ الأرواحْ

مقرورةَ الظلَّ

مطمورةَ الأشباحْ

في مهدِها الثلجي

إلا شعاعاً لاحْ

يخفُق في وهْجِ

الحارسُ السهرانْ

قد فتَّح البُرجا

سيُنشدُ النّيرانْ

أغنية الفلجا

واللهبُ السكرانْ

يرقصُ في نارِهْ

والنغمُ الفرحانْ

يلهو بقيثارِهْ

أطلقتَ إنشادي

يا من تغنَيّني

قيثارُك الشادي

حُلو الأرانينِ

يدعو لميعادي

الليلَ والأحلامْ

يا حارسَ الوادي

قد باحت الأنغامْ

. . . . . . . . .

. . . . . . . . .

إنّ الفتى الممِراحْ

قد أغلقَ البابا

واللهبُ الوَضّاحْ

من خلفِهِ غابا

لا نجمَ، لا مصباحَ

يلمعُ من بُعدِ

لا صوت، لا أشباح

إني هنا وحدي

يا أملَ العُمرِ

يا حُلُمَ العذراءْ

يا توأم الفجرِ

يا ابن الصبا الوضّاءْ

يا مَلكَ الحُلْبّ

إني لكَ الليلهْ

ص: 42

فاطبع على قلبي

أو شَفتيِ قُبلهْ

علي محمود طه

ص: 43

‌دوحة الحب.

. .

للأديب مصطفى علي عبد الرحمن

يا حبيبي! هلَّل البلبلُ للنورِ وغنَّى

أي معنى من معاني الحسن غنى، أي معنى

أيقظَ الأزهارَ في الروضِ فراحت تتثنى

تنهلُ الأقداحَ من خمرِ الندى

في ظلالٍ من صفاءٍ ونعيم

وترى الدنيا ضلالاً وهُدى

يُسكر الألباب مرآها الوسيمْ

هاهي الشمسُ رنت للكونِ من عرش السماءِ

فبدا الكون كما نهوى غريقاً في الضياءِ

فاض بالفتنةِ والسحر وأنوار الرجاء

ردَّد الجدولُ أنغامَ الهوى

لغناءِ الطير في هام الغصون

آه يا هاجرُ لو ذقت الجوى

شدَّ ما ألقاهُ من نارِ الحنين!

ذلك الروض وهذا الجدولُ الحالم يدري

يا أخا الروحِ ويا دنيايَ مَن أعنى بشعري

ناءَ بالهم الذي يلقاه لو تعلم صدري

ما ابتسامُ الكونِ إلا لمحةٌ

من سنا عينيك فاضت بالحياهْ

فتنة أنت لعمري فتنة

فُتِنَ العقلُ بدنياها وتاه

دوحةُ الحب تنادينا لقد حنتْ إلينا

ما علينا لو جنينا الصفو فيها؟ وما علينا

في يدينا فرحة العمر فعجلْ في يدينا

كل ما يرجوه قلبٌ آمل

في نعيم العيش من صفو حبيب

إنما دنياك ظلٌّ زائل

سوف يَذوَي ثم يمضي عن قريب

(الإسكندرية)

مصطفى علي عبد الرحمن

ص: 44

‌أحياء الإسكندرية

للأستاذ عبد اللطيف النشار

شوارعَ الثغر ما الزحامُ

طيفٌ تولَّى به منامُ

أو أملٌ الغيوب يُرْجى

إذا يرجع الأمن والسلام

لا شيء لا شيء في ذُراها

ِللِهِ سبحانَهُ الدوام

يا قلبُ كم فيك من معانٍ

ترُوعُ لو أمكن الكلام

عبد اللطيف النشار

ص: 46

‌حلم.

. .!

للأديب عمر أبو قوس

الشهب من قدم

ترنو إلى البحر

تسبح عن بعدٍ

في مائه الغَمر

والبحر إذ يصبو

يصبو إلى البدر

أمواجه تُرغى

من لوعة الهجر

حتى إذا أعيت

نامت على الصخر

والريح كم راحت

تبحث عن وكر

أنفاسها الحرَّى

يلهثنَ في القفر

والفجر إذا يصحو

من سِنة الغمض

لا يفتح العين

إلاّ على روض

يملؤه شوقاً

بالطول والعرض

من أحمر يبدو

في أثر مُبْيض

ووردة هامت

بالزنبق الغض

أبعدها منه

رفض على رفض

ما ضرَّ لو يدنو

بعضيَ من بعضي

(حلب)

عمر أبو قوس

ص: 47

‌البريد الأدبي

تعقيب على خبر

لفت أحد الأصدقاء نظري إلى أن الدكتور زكي مبارك قد ذكر اسمي

في فقرة من تلك الفقرات التي يكتبها كل أسبوع مما يسميه (الحديث ذو

شجون)، فقرأت ما كتب الدكتور فإذا به قد أقحم في مقاله ذكر الثقافة

والرسالة كأنه يغري بينهما، أو كأنه يريد أن يفهم قراءه أن هاتين

الصحيفتين الأدبيتين تتنازعان وتتخاصمان. ولقد كنت من قبل أكتب

في الرسالة، وأنا اليوم أكتب في الثقافة، ولا أعرف بينهما غير ما

يكون بين صحيفتين تحاول كل منهما أن تؤدي واجبها نحو الأدب على

طريقتها

وعجبت أن يكون للدكتور زكي مبارك مثل هذه القدرة على الابتكار في مثل حديثه هذه المرة؛ فإن الأمر لم يزد على أني سمعت من بعض الأصدقاء في السودان أن الأستاذ الزيات قد اعتزم زيارة ذلك القطر الشقيق وأنهم يرحبون بزيارته، فأثنيت على الأستاذ بما علمت، وأردت أن أحمل إليه هذه التحية فلم أجده بالقاهرة، ولقيني الدكتور زكي مبارك عفواً فحملته هذه التحية إليه فإذا به ينسج من هذه القصة القصيرة حديثه العجيب.

رد الدكتور تحيتي بما تهيأ له من القول في أسلوبه الصاخب فكان أسوأ رد على التحية

وأما الموازنة بين الثقافة والرسالة فما ينبغي لنا معشر الكتاب فيهما أن نتحدث عنها، والحكم فيما يكتب الكتاب إنما يرجع إلى القراء في أقطار الأرض. وإذا كان الدكتور يريد أن يسدي نصحا فليجعل كل همه في خدمة الرسالة الغراء، فهذا دين في عنقه للصحيفة التي توسع صدرها لما يكتب دون غيرها ممن لا يوليه مثل هذه الثقة. وإذا كان لنا أن نبيح لنفسنا ما أباح لنفسه من حق إسداء النصيحة فإنا نرجو أن يعني بأسلوبه في الكتابة، وأن يتخير الموضوعات الجديرة بوقت قرائه، وأن يرفع مستوى كتابته إلى ما يتطلبه العصر الحاضر من أدب القول وجمال الأسلوب والبناء الإنشائي والتعمق في التفكير، وأن يحاول

ص: 48

أن يخفض من صوته ويقصد إلى معناه

ونحن إذ نسدي إليه هذه النصيحة لا تقصد إلا خيره وخير الأدب إذا كان يعني حقاً برأي العالم العربي في أدب مصر

مصر

محمود فريد أبو حديد

محصول (الرسالة)

إلى صديقي الدكتور مبارك:

من النافع للمتأدب أن يتخير الأطايب في محصول (الرسالة) ويدونه في دفتر خاص، كما يفعل صاحبك الموظف برياسة مجلس الوزراء.

ونافعة أيضاً إهابتك بأصدقاء (الرسالة) أن يتعقبوا كل عدد بالنص على ما فيه من دقائق تفوت بعض القراء

والأنفع من هذا وذاك - في رأيي - أن يتناول الناقد مواضيع (الرسالة) كلها فيميز بين الغث والسمين، ويشير إلى الفج والناضج، ويدل على النافع والحسن، كما تفعل المجلات الأوربية الراقية، ولأن القارئ في حاجة ماسة إلى من يدله ويهديه ويجرعه أطايب (المحصول) الأدبي تجريعاً

وأزعم أن لا كبير فرق بين صحيفة دورية يشترك في تحريرها طائفة من الكتاب، وبين كتاب ينفرد في تأليفه وتصنيفه كاتب واحد، وقد جرت العادة عند النقاد أن يتناولوا الكتاب ومؤلفه ويسكتوا عن الصحيفة الدورية

فطنت لهذا التقصير من جانبنا، فاقترحت على صديقنا الزيات أن أتناول بالنقد مجلاتنا المحترمة: المقتطف والهلال، والثقافة (والرسالة)، لأنها أخلق بالنقد من كثير من مؤلفات ما نكاد نقرأ بضع صفحات منها حتى نطرحها جانباً

أتعرف يا مبارك بماذا أجاب صديقنا الزيات وقد استحسن الفكرة ورحب بها؟

قال: كاتبان لا يصلحان لهذا الضرب من النقد: أنت والدكتور مبارك، لأنكما لا ترفقان في النقد ولا ترحمان. وهل من دليل أسطع من أنكما غير محبوبين من المؤلفين؟؟!!

ص: 49

ولست بناقل إليك تتمة حديث صديقنا الزيات عن النقد والنقاد، لأني اعرف أنك لا ترضى مثلي عن الليونة وما تحتها من معان تشل الروح الأدبي ولا تسمو به إلى الأوج

ولا أخالك إلا معتقداً مثلي بأن مجابهة التيارات الأدبية واقتحامها خير من مجاراتها والتحايل عليها، ولكن. . .

أجل، ولكن العبرة بالنشر والناشر، لا بالتمرد والثورة!

حبيب الزحلاوي

من جديد

من التعبيرات التي ترسبت حديثاً إلى لغتنا، فتداولها الكتاب من غير تمحيص، ولا وزْن لصحتها اللغوية، ولا لصلاحيتها لأن تندمج في الأساليب الفصيحة وتغدو جزءاً منها

ولم تكن هذه العبارة شائعة بيننا قبل نحو عشر سنين، على ما اذكر؛ وكنت أراها أولاً في بعض القصص والمجلات والجرائد. ثم سرت في أحاديث الناس واستظرفوها وتملحوا بها

وما كنت قط أتوهم أن تصل يوماً إلى أقلام البلغاء، حتى رأيتها في قصيدة لشاعر معاصر من شعرائنا البارزين الذين يحتفلون في جزالة الأسلوب أيما احتفال، وحتى استعملها العلامة الدكتور زكي مبارك في مقاله في العدد 417 من (الرسالة)، حيث قال:(. . . مع فارق بسيط هو أن الدكتور أشار إلى المصدر الذي نقل عنه، وأن الأستاذ. . . لم ير موجباَ لذلك، فدلنا (من جديد) على حسن هضمه لما يقرأ من آراء الباحثين)

ولقد جهدت في أن أخرِّج هذا التركيب - في مختلف أوضاعه - تخريجاً سائغاً، فلم أوفق. ذلك أن (جديد) ملحوظ فيها أن تكون صفة موصوف محذوف. فما هو هذا الموصوف؟ قد يكون التقدير - في عبارة الدكتور -:(من وقت جديد)، أو (من شيء جديد)، أو (من أمر جديد) مثلاً. ولكن كيفما قدرنا هذا الموصوف ألفينا الكلام - كما ترى - غثاً لا معنى له

والواقع أن هذا التعبير ترجمة الكلمة الإنجليزية أو - على ما أعلم - ترجمها من لا يتحرون الصحة، أو من ليس لهم من علمهم ما به يتحرونها. فاقتبسه الناس وأغرموا به - كغيره من التراكيب الإفرنجية الكثيرة التي شوهتها الترجمة السقيمة - على غير رؤية أو إنعام نظر

ص: 50

أفلا يرى معي حضرة الدكتور أنه يجدر بنا أن نحارب هذه الطفيليات في لغتنا وأن نقضي عليها قبل أن يستشري فيها شرها؟

(ا. ع)

فتوى واستفتاء

1 -

في حاشية فجر الإسلام ما نصه (وجرينا هنا على ما قاله ابن القيم الجوزية) وهذا خطأ بين يقع فيه كثير من المؤلفين والناشرين، وبخاصة ناشرو كتب شمس الدين محمد أبي بكر. وإنما هو ابن القيِّم أو ابن قيِّم الجوزية؛ وشتان ما بين الوصف والإضافة. والجوزية مدرسة للحنابلة بدمشق أنشأها محي الدين ابن جمال الدين بن الجوزي وإليه نسبت. وذكر الأستاذ محمد كرد علي في كتابه خطط الشام أن الجوزية كانت إحدى مدارس عشر للحنابلة، وأنها كانت في عهده محكمة شرعية، ثم جعلتها جمعية الإسعاف الخيري مدرسة للأيتام، ثم حرقت في الثورة

وابن قيم الجوزية هذا - قد توفي سنة 751 هـ - غير شيخ الوعاظ غير مدافع، جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ. قيل أن شجرة جوز كانت في بيت جده جعفر فنسب إليها. وقيل إنه منسوب إلى محلّة بالبصرة تسمي محلة الجوز

2 -

وقريب من هذا الخطأ - وإن تكلف بعض الكتاب تصحيحه - قولهم: (القصر العيني) وإنما هو قصر العيني بالإضافة إلى الأمير الشهابي أحمد بن عبد الرحيم بن البدر العيني نسبة إلى (عين تاب) على ثلاثة مراحل من (حلب)

3 -

جاء في الوسيط في ترجمة ابن خِلِّكان - ما نصه: (وتوفي والده وهو ابن سنتين) الخ وجاء في ترجمته في المفصل ما نصه: (وكان أبوه مدرساً بالمدرسة المظفرية بإربل، فأخذ عليه مبادئ العلم) الخ وبدهي ما بين الروايتين من التناقض. اللهم إلا أن يكون صاحب الترجمة من أرباب الخوارق!

ولا يفوتنا - مقرين الحق في نصابه - أن نذكر أن الذي نبهنا إلى هذا الخلاف هو تلميذنا الأديب محمد حرب، وأننا لم نجد جواباً إلا أن نرجح رواية المفصل ريثما نستفتي الرسالة.

ص: 51

4 -

تقرر في كتب النحو أنه لا يجمع من الصفات جمع مذكر سالماً ما استوى فيه المذكر والمؤنث كوقور، وصبور، وجريح. فمن الخطأ البين إِذاً ما ذاع وشاع من جمع الخاصة فضلاً عن العامة - غيوراً على غيورين. وإلى القراء فتوى المصباح والقاموس في جمع هذا الوصف، لكثرة دورانه على الألسنة

غار يغار غيراً وغيْرة وغاراً فهو غيور وغيران والمرأة غيور أيضاً وغيرى، وجمع غيور غير كرسول ورسل، وجمع غيران وغيري وغيارى بالضم والفتح وأجدر بنا أن نكون غيرا على لغة القرآن الكريم

5 -

النحويون قاطبة - عدا الفراء وابن مالك - على أنه إذا اجتمع شرط وقسم ولم يتقدمها ما يحتاج إلى خبر - كان الجواب للسابق منهما، وأجابوا عن قول الشاعر:

لئن كان ما حدثته اليوم صادقاً

أصمْ في نهار القيظ للشمس بادياً

بأنه ضرورة أو اللام زائدة لا موطئة للقسم. وقد اجتمع الرأي على أنه يسوغ للشاعر ما لا يجوز للناثر

ولقد بحثت جاهداً عن شاهد واحد من لا نثر فأعياني البحث. أفليس من أخطاء الخاصة إذاً - بله العامة - ما نقرؤه وما نسمعه من قولهم: لئن كان كذا فإن الأمر كذا وكذا؟ وإن تعجب فعجب أن يخطئوا الصواب ويذيعوا الخطأ. وبعد فهل يتفضل الباحثون باستنباط مثال واحد من منثور العرب نعتمد عليه في تصحيح مثل هذا التركيب الذائع لئن فعلوا إني لهم شاكر

طه محمد الساكت

المدرس بمعهد القاهرة

عجوز وعجوزة

قال الأستاذ وحيد في (أهرام) 16641 يقال للشيخ عجوز

وللشيخة عجوز وعجوزة.

وفي القرآن الكريم قال الله تعالى: (قالت يا وَيْلَتي أألد وأنا عجوز، وهذا بعلي شيخاً) سورة

ص: 52

هود

وقال أيضاً: (فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم) سورة الذاريات. وفي القاموس: (والعجوز الشيخ والشيخة، ولا تقل عجوزة أو هي لُغيةٌ رديئة)

وفي مختار الصحاح: (والعجوز المرأة الكبيرة، ولا تقل عجوزة، والعامة تقوله اهـ.

محمد حنفي الآقدمي

جماعة الأدب الحر

تألفت بالمنصورة جمعية أدبية باسم (جماعة الأدب الحر) من أهم أغراضها خدمة الأدب ورفع مستوى الإقليم الثقافي، وإبراز الشخصية المصرية واضحة في الأدب، وذلك بإقامة المحاضرات والمناظرات ونشر الأبحاث، والعناية بنواحي النشاط الفني والأدبي، وهي تدعو كل المشتغلين بنواحي الأدب من أبناء هذا الإقليم إلى المساهمة معها في أداء رسالتها هذه

تصويب:

جاء في ص (852) من العدد (417) من (الرسالة): والصواب

وجاء في الصفحة نفسها: فإنما ذلك لإجازتها. والصواب: فإنما ذلك لو جازتها

(ا. ع)

ص: 53

‌القصص

القيء. . .

للأستاذ نجيب محفوظ

كان سعادة سعيد باشا كامل يقول كثيراً لخاصته إن رجلاً مثله ألفت نفسه العمل والنشاط، لأحرى أن تقعده حياة المعاش مقاعد المرضى المنهوكين. وصدقت نبوءته، فما كاد يحال على المعاش حتى سارع إليه ذبول الشيخوخة واعتوره الإعياء والخمول، ولذلك فإنه حين أصيب بالأنفلونزا لم يعمد كعادته إلى قهرها بالعناد والإيحاء الطيب والمثابرة، ولكنه رقد على فراش المرض عشرين يوماً قانعاً من لذيذ المأكل والمشرب بعصير البرتقال وماء الليمون. على أنه في فترة النقه اعتاض عن تصبره لذة لم يكن له عهد بها؛ كان الصيام قد صفى بطنه وطهر قلبه وأسكت نوازع جسده الصارخة، وطرد أشباح نفسه المفزعة، فأضاء عقله بسنا نور بهيج، واستنارت بصيرته بالصفاء والتجلي، وتبدت له الأمور على غير ما كان يرى، تراءت له الدنيا كومة من تراب، وكأنه يعتلي قمة السماء التي تظلها، وانكشفت له الحقيقة بغير قناع، فكأنما انجلت غشاوة الغرور عن ناظريه، فأحس أن بنفسه كنزاً يغنيه عن الدنيا وما فيها، وشعر بالسلام والطمأنينة يتدفقان من ينابيع صدره فذاق سعادة الجنان، وما كان ليفيق منهما لولا أن كرّ به الخيال إلى الوراء يتيه في غياهب الماضي وينبش قبور المنطوي من الزمان وينشر الرمم والعظام من الذكريات. . . كيف اختار أن يدعو الماضي ليتطفل على سعادته الراهنة؟ كيف رضي أن يغفل عن لذة الصفاء ليعاني ضراوة الأفكار؟ في الحق أنه لم يرغب في ذلك مختاراً، ولا راضياً ولكنه وجد الذكريات تطرق باب قلبه بإلحاح وعناد وعنف فلم يملك إلا أن يفتح لها كارهاً وأن يستقبلها ساخطاً متبرماً وأن يجترها بتقزز ونفور. ولم تكن المرة الأولى التي تزوره فيها ولكنها لم تكن تبدو له مخيفة ولا محزنة، أما في ساعة الصفو والتجلي فقد آلمته وأحزنته لأنه استقبلها بقلبه الجديد

رجع به الخيال إلى عهد كان سعيد أفندي كامل كاتباً بالأرشيف في الدرجة الثامنة المخفضة؛ وكان يقيم في منزل قديم بعطفة الجلاد بباب الشعرية، يعاني الأمرين من بساطة حاله وكثرة تبعاته وطموح قلبه وتعالي همته. وكان يقول لنفسه دائماً إن الله وهبه ذكاء

ص: 54

عالياً ولكن حظه السيئ ران عليه فصد أو خبا؛ ولكنه كان معروفاً بين الجيران لجمال زوجته الحسناء، وكانت أمينة من أصل تركي عاجية البشرة سوداء الشعر والعينين فاتنة القسمات فكان يدعوها أهل الحي بالأميرة وكانوا يضربون بجمالها المثل

وفي يوم من الأيام صدر قرار وزاري بنقله إلى أسيوط؛ فأسقط في يده، لأنه كان يعول والديه وأخوة صغاراً ولا يقوم مرتبه بالإنفاق على بيتين؛ وبدا له - في يأسه - أن يوجه زوجه إلى قصر (سليمان باشا سليمان) السكرتير العام لوزارته لتستعطف أمه أو زوجه لكي يبقيه الباشا في الإدارة العامة بالقاهرة؛ وراقت الفكرة لأميرة عطفة الجلاد بباب الشعرية فذهبت إلى قصر الباشا وسألت عن أم الباشا فقيل لها إنها ماتت من عهد طويل معه، فسألت عن زوجه فقيل لها إن الباشا أعزب، فأوشك أن يلحقها القنوط وأن تهم بالعودة من حيث أتت، ولكن صادف ذلك خروج الباشا من قصره، فاستوقف بصره منظر السيدة الجميلة التي تحادث البواب، فسأله عنها، فاستجمعت الشابة شجاعتها الموزعة وحدثت الباشا عما جاءت من اجله؛ ورق الباشا لجمالها فدعاها إلى صالون الاستقبال واستمع إلى شكاتها باهتمام وشغف. كانت تنظر عيناه أكثر مما تسمع أذناه، وكان كلفاً بالحسان ينسى في مجلسهن دينه ودنياه، فتحلب ريقه واحترق صدره، وابتسم لها ابتسامة حلوة وربت على منكبها بحنو وقال لها

- سأنظر في طلبك بعين العطف يا حسناء

وكانت أمينة قادرة على قراءة العيون فتولتها الدهشة ونظرت للباشا نظرة ملؤها الشك والارتياب ففتنته النظرة؛ فمد يده - كما تعود وكما ألف - فعبث بذقنها الصغيرة فقطبت جبينها وجفلت منه. فلم يدركه اليأس وما كان يدركه اليأس أبداً وقال لها برقة

- كلانا له رجاء عند صاحبه فاقضي رجائي أقض رجاءك

وعادت المرأة إلى زوجها وقصت عليه ما لقيت من الباشا فانزعج الشاب انزعاجاً كبيراً، وأرادت أمينة أن تشاركه عواطفه فبكت وإن لم تخل من زهو وفخار، وأزمع الشاب يأساً وقال لنفسه:(ليكن سفر، والأمر لله). ولكن في صباح اليوم الثاني استدعاه مدير الأرشيف فذهب إليه مبلبل النفس مضطرب القلب يظن أنه مبلغه أمر النقل لينفذه، ولكن الرجل قال له:(مبارك يا سعيد أفندي لقد ألغي أمر نقلك). فشكره الرجل متحيراً وهم بالرجوع، ولكن

ص: 55

المدير قال له: (ومبارك أيضاً فقد رشحت لوظيفة من الدرجة السابعة بمكتب السكرتير العام)

آه كم رنت الدرجة السابعة في أذنيه رنيناً بديعاً. . . لقد اضطرب وغضب وسخط وتحير وتردد وقارن ووازن، ولكن رنين الدرجة ابتلع كل صوت حتى صوت ضميره وعفته، وتيقظت أطماعه وجمح طموحه فاستسلم. وكانت أمينة التركية الجميلة ذات غرور وطموح أيضاً فاتفقا على أن السوأة شيء يدارى، أما الفرصة المؤتية فشيء لا يعوض. . . وهويا معاً. . .

وعزم على ألا تكون تضحيته عبثاً، فدرس في بيته حتى حصل على ليسانس الحقوق ورقى سكرتيراً للسكرتير العام؛ وما زال يصعد مدارج الرقي مستعيناً بهمته وذكائه وجمال زوجه. فلما اختير سليمان باشا سليمان وزيراً جعله مدير مكتبه، وقامت زوجه بنشر الدعوة له في الأوساط العالية وقدمته إلى كبار الرجال، فتبوأ بفضلها مركز السكرتير العام، وصار سعيد باشا كامل، وصارت هي حرم الباشا المصون. . . وكان قد تعود المهانة كما يتعود الأنف الرائحة النتنة. . . وفي يوم من الأيام أعلن الباشا أنه مسافر إلى بور سعيد في رحلة تفتيشية تستغرق عشرة أيام. وبلغ المدينة وشرع في العمل بما عرف عنه من النشاط وعلو الهمة ولكن اعتوره تعب فجائي اضطر معه إلى قطع رحلته والعودة إلى القاهرة، وانتهى إلى قصره مع المساء، وكانت عودة غير متوقعة، فاستقبله البواب بدهشة لم تخف عن عينيه على ندرة اندهاش النوبيين، والتقى الباشا بالسفرجي في الردهة التحتانية، فتولى الرجل الانزعاج ولم يستطع أن يخفي تأثره، فغضب الباشا وسأله:(أين الهانم؟) ولم يجب الرجل كأنه لم يسمع، فقال له بحدة:(أين الهانم يا أحمق؟)، فارتعب الخادم وقال بتلعثم:(فوق يا سعادة الباشا. . . فوق)، فصعد السلم الخشبي المفروش بالبساط الأحمر المخملي وهو يتساءل: ماذا هنالك!؟ وبلغ الصالة في ثوان، فرأى وصيفة زوجه تنسق باقة زهر ناضرة. . . فلما رأته حملقت في وجهه بذهول وجمدت عن الحركة لحظة كأنها فارة جذبت عيناها إلى عينيي هرْ. . . ثم هرعت إلى حجرة النوم ونقرت على بابها المغلق وهي تقول: سيدتي. . . الباشا هنا. . . فساوره القلق والاضطراب ودنا من الباب ووضع يده على الأكرة وهو يعجب كيف لم تسارع الهانم إلى فتح الباب واستقباله، ثم أدارها فلم

ص: 56

ينفتح الباب، فالتفت ناحية الوصيفة فلم ير لها أثراً، فنقر الباب وهو يقول بصوت متهدج:

- يا هانم. . . لماذا تغلقين الباب؟

فلم ترد جواباً، فأدنى رأسه من الباب فسمع حركة وصوت اصطدام شيء صلب بالأرض. . . فاهتاجه الغضب. . . فضرب الباب بعصاه وصاح بحدة قائلاً:

- يا هانم. . . ألا تسمعينني. . . أمينة هانم. . .

ثم مضى يدفع الباب بعنف، فسمع صوت الهانم تقول:

- انتظر من فضلك في المكتبة حتى ألحق بك!

فقال بحدة: افتحي الباب

فردت عليه بهدوء وإصرار: انتظرني في المكتبة من فضلك

- هذا سلوك غريب. . . ما هذه الحركة بداخل الحجرة؟

- اذهب إلى المكتبة من فضلك

- لن أتنحى عن الباب حتى يفتح لي

فسكتت المرأة هنيهة ثم قالت بحدة وغضب:

- معي شخص ينبغي أن يخرج بسلام

وخذلته أعضاؤه المنهوكة فأحس خوراً، وذهولاً، وجموداً ثقيلاً ران على قلبه وتنفسه، ولبث دقائق لا يبدي حراكاً، ثم مضى بخطى ثقيلة إلى المكتبة وارتمى على مقعد ترتعش يداه من الانفعال والحنق، وقال بصوت كالمختنق:(يا عجبا. . . إنها لا تكلف نفسها مؤونة التستر على فضيحتها فالخدم يعلمون بغير ريب. . .)، واهتاجه الغضب ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئاً، وما كانت إرادته تقدر على أن تصطدم بإرادتها بحال، فتصاعد غضبه دخاناً كتم على أنفاسه وسد مسالك صدره. . . وقال بلهجة هسترية:(هل يكون هذا المنتهك حرمة فراشي إلا تلميذاً شريراً أو متعطلاً متسكعاً؟!) وانتظر أن تلحق به فلم تفعل؛ فقام مرة أخرى وقصد إلى حجرة النوم يسير بخطى مضطربة فوجدها جالسة على الشيزلنج منكسة الرأس، فلما أحست به بادرته قائلة:

- إني أغادر البيت في الحال إذا كان هذا يروقك

فلوح بعصاه غاضباً وقال بحنق:

ص: 57

- ما هذه الفضائح. . . ما هذه القذارة؟

وأصابت العصا ساقها دون قصد منه. فرفعت إليه بصرها وحدجته بنظرة باردة قاسية كان لها في نفسه وقع شديد وقالت له:

- أتضرب الساق التي رفعتك إلى أعلى المناصب؟!

لقد كانت تلك الكلمة أليمة موجعة، ولكن ذكراها التي تعاوده الآن أنكى وأمرّ

وشعر عند ذلك بغمز موجع في صدره، فاتكأ على يديه الضعيفتين وهمَّ جالساً في الفراش وكسر مخدة واستند عليها متنهداً من الأعماق، وبدأ كالمستغيث من أفكاره، ولكن ذاكرته لم ترحمه ولم ترق لحاله فاستحضرت أمام ناظريه حادثة أخرى ليست دون سابقتها بشاعة وقبحاً. . . وكان ذلك وهو في أوج مجده الحكومي وكان يترأس حفلة بمدرسة الجيزة الثانوية فألقى كلمة استقبلت بالتصفيق والتقدير ووزع الجوائز على المتفوقين وغادر المنصة مودعاً من كبار الموظفين إلى سيارته وانطلقت به السيارة، وقد أخذ الظلام يغشى الطرق والحقول؛ وعند منعطف الطريق انبرى له شاب - ولعله كان تلميذاً - وصاح بأعلى صوته:(كيف تضرب الساق التي رفعتك إلى أعلى المناصب) وعرته رجفة شديدة، وتشنج جسمه فلم يلتفت نحو القاذف الخبيث وشعر بانهيار وتفكك، فتفصد جبينه عرقاً بارداً ثم إلى دمه، وعجب كيف ذاعت هذه الجملة الآثمة حتى بلغت هذا الشاب. لقد غدا قصره مورداً لفضائح غير مستورة ينهل منها المتطوعون لإذاعة المخازي. على أنه كان في تلك الأيام قوياً مستهتراً يهضم ضميره القتيل الفضائح بغير مبالاة فهدأ روعه وقال باستهانة وحنق: (قولوا ما يحلو لكم قوله - فسأظل - وأنوفكم في الرغام، السيد المطاع والرئيس المرتجى. أما الآن في ظل النقه والطهارة فقد امتعض وحزن وشعر بالذكريات تصليه لهباً جهنمياً. . .

ودخلت عند ذاك أمينة فسألته برقة: (كيف حالك يا باشا)؛ ثم جلست على مقعد وثير، فنظر إليها بعينيه الذابلتين نظرة غريبة لم تفهم معناها الحقيقي؛ وعجب الرجل كيف تحافظ على حسنها وشبابها حتى ليخال الناظر إليها أنها في منتصف عمرها، مع أنه لا يكبرها بأكثر من ثمانية أعوام. . . ثم قال لنفسه دهشاً:(رباه. . . كأني كلما زدت عاماً نقصت عاماً. . . فمتى تذبل وتذوي وتجفل من النظر إلى المرآة؟؟)

ص: 58

نجيب محفوظ

ص: 59