المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 419 - بتاريخ: 14 - 07 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤١٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 419

- بتاريخ: 14 - 07 - 1941

ص: -1

‌عبر من سيرة

للأستاذ عباس محمود العقاد

(بدرفسكي) موسيقي عظيم وإنسان عظيم، وليس الموسيقى ببالغ أوج العظمة في فنه حتى أوج العظمة الإنسانية في أفق من آفاقها العليا، وإن خيل إلى الأكثرين منا أن الموسيقى طرب، وأن الطرب لهو، وأن اللهو والعظمة لا يتفقان

كان (بدرفسكي) عظيماً لأنه كان أكبر من جميع تلك الأشياء التي يتصاغر لها الناس: كان أكبر من المال ومن المنصب ومن الأثرة ومن المتعة الرخيصة، وكاد أن يكبر على غواية الفن لولا أنه من الفن قد استمد الكبرياء والعظمة، فلا يهجره فترة يسيرة إلا بقوة منه، كما يهجر المرء حياته أحياناً بقوة من دوافع تلك الحياة

وللعظمة مقاييس شتى

وبدرفسكي عظيم بأكثر من مقياس واحد: عظيم بهذا الذي ذكرناه، وعظيم بإعطائه كل شيء حقه على قدر لا يستطيعه أوساط الناس، وعظيم لأنه قادر على العمل العظيم في غير ناحية واحدة. فلم ينحصر في موسيقاه ولا في دعوته الوطنية ولا في غزواته السياسية، ولم يجاوز في كل عمل من هذه الأعمال الكبار حده المقدور

أبلغ العالم شكاة أمته بصوت الموسيقى، فكان داعية فن وداعية وطن. ثم ترك المناصب ليثوب إلى فنه بعد أن صنع ما كان في وسعه أن يصنع، ولم يبق من سب لبقائه في مناصب الدولة إلا التعلق بها والاستخذاء لغوايتها، وليس هو بالذي يتعلق بهذه الفتنة أو يستخذى لهذه الغواية

وجمع الذهب: أكداس الذهب، ثم فرق في خدمة القضية البولونية ما لو احتفظ به لكان أغنى من ملوك المال وأقدر من حكام الأمم

واشتدت به العصبية الوطنية غاية اشتدادها، ولكنه حين وهي الجوائز للنابغين في ضروب الموسيقى وهبها عالمية لكل مجيد وكل مأمول من أبناء القارة الجديدة

ففيه لكل من الوطن والعالم والغنى نصيب بمقدار، وبين يديه هو ميزان ذلك المقدار

ومقياس آخر من مقاييس العظمة فيه أنه جند جيشاً وساس دولة ووجه الدول الأخريات توجيهاً لم يحلم به حالم من أبناء وطنه، ولكنه لم يكن من الحالمين وهو أجدر أبناء بولونيا

ص: 1

بالإمامة في عالم الأحلام

ومن يدري ماذا كان يجري في القارة الأوربية لو استمع أبناء قومه لنصحه واتبعوا هداه في العلاقة بينهم وبين جيرتهم من الروس. . . فلعل الذي كان يجري يومئذ غير الذي جرى الآن، وخير مما جرى أو سيجري بعد الآن!

بدرفسكي رجل عظيم لأنه موسيقي عظيم

وهذا شيء ينبغي أن نفهمه نحن الشرقيين خاصة لأننا أحوج إلى فهمه من جملة العالمين

نحن الشرقيين لا نفهم ما الدنيا وما الحياة في الدنيا حتى نفهم ما التعبير عن الحياة، ونفهم أن الفنون أرفع وأجمل ما وهب الإنسان من وسائل التعبير عن حياته بل عن حياتيه: الحياة الظاهرة التي لا خفاء بها، والحياة الباطنة التي ما خلت قط ولن تخلو يوماً من خفاء

فليست الأصداء الموسيقية لغواً من لغو البطالة، ولا هي بذيل من ذيول الفراش أو ذيول السرير، ولا هي بتسلية للأذن تستطيبها كما يستطاب السجع الموزون والرنين المنغوم

كلا. ليست الأصداء الموسيقية كذلك، وليست الحياة شيئاً إن كانت الأصداء الموسيقية كذلك

نعم ليست الحياة شيئاً إن لم يكن لها تعبير، وليست هي شيئاً إن كان كل التعبير عنها لغواً أو تسلية أو متعة فراش

ومن السهل أن تزدري الرجل الذي يبتذل فنه لشهوة غيره، وليس من السهل أن تزدري الرجل الذي يعبر لك عن حياتك ويفتح لك من مغالقها ما عسى أن يحتجب عنك؛ فإنما هو واهب حياة وليس بواهب شهوة أو تسلية أو فضول

لهذا يلتقي الموسيقي العظيم والرجل العظيم في إنسان واحد. ولهذا نحسب بدرفسكي آية من آيات عصره، لأنه استرعى النظرة الجدية منهم حين أسندوا إليه رياسة الوزارة في قومه. وما كانت رياسة الوزارة علواً يرتفع إليه بعد أن رفعته العبقرية، ولا صوتاً مسموعاً في جانب من جوانب الأرض بعد أن سمع صوته في كل جانب منها، وإنما كانت ولاية الموسيقى لرياسة الوزارة دليلاً على النظرة الجدية التي ينظرون بها إلى فنه، أو ينظرون بها إلى الحياة والتعبير عن الحياة

ولو سئل أحد لم يكن بدرفسكي رجلاً عظيماً لما خطر له أن يقول: إنه كان عظيما لأنه تولى رياسة الوزارة البولونية في عهد من العهود، ولكنه يقول إنه كان عظيما لأنه كان

ص: 2

أهلاً للجد وأهلاً للاضطلاع بالأمانة. ولا تناقض بين هذا وبين عزفه على البيان، واختراعه الجديد من الألحان، بل هذا حجة له على صدق العظمة فيه، واقتداره على كل ما يقتدر عليه العظيم

الحياة تأثير وتعبير. وماذا بعد هذين؟ بل ماذا في التأثير نفسه إن لم يتممه التعبير؟

فالعبقرية التي تتمم الحياة وتعطيها معناها ليست بالمنزلة الهينة بين منازل الإنسانية، وليست بالنافلة بين النوافل ولا باللغو الذي يكون أو لا يكون على حد سواء

قلت في ذكرى من ذكريات الموسيقار المصري النابغة سيد درويش إن (الأمة الكاملة عجزت مع هذا عن قضاء حق الرجل الفرد فمات بينها وهي تتعلم أنها أصيبت من فقده بمصيبة قومية، ولم تبال حكومتها أن تشترك في تشييع جنازته وإحياء ذكره كما تبالي بتشييع جنازات الموتى الذين ماتوا يوم ولدوا والمشيعين الذين شيعتهم بطون أمهاتهم إلى قبر واسع من هذه الدنيا يفسدون من أجوائها ما ليست تفسده العظام النخرات والجثث الباليات. . . أنقول مع هذا؟ بل ما لنا لا نقول إن الرجل قد أهمل في حياته وبعد مماته ذلك الإهمال القبيح لأجل هذا؟ أو ليست آدابنا هي تلك آداب هذا الشرق الجامد الذليل الذي تعاورته الرزايا وران عليه الطغيان؟ أو ليست آداب هذا الشرق المسكين تعلمنا أن العزيز العظيم من يسيء إلى الناس، وأن المهين الحقير من يتوخى لهم الرضى ويوطئ لهم أسباب السرور؟ أو ليس من شرع الاستبداد وسنن آدابه أن يكون الرجل عظيما لأنه يطغى ويكسر النفوس ويحنى الظهور ويعفر الوجوه؟ أو ليس هذا أعظم ما رأينا من العظمة في هذا الشرق الآفل منذ علم أبناؤه أنهم صغراء حقراء، فلن يكون الذي يتقدم إليهم بالرضى والسرور إلا أصغر منهم صغراً وأحقر منهم حقارة؟ بلى، وا أسفاه! إن دغائن الاستبداد ما برحت عالقة فينا بدخيلة السرائر، ننفضها فلا تنتفض إلا ذرة بعد ذرة، ونزن المنفوض منها فإذا هو لا يزيد في الهباء ولا ينقص راكد ذلك التراث. . .)

وقد مضت قرابة عشرين سنة بعد وفاة سيد درويش ونحن لم نتقدم خطوة في هذا المضمار. فلا تزال الأصداء الموسيقية ذيلاً من ذيول الفراش عند جمهرة السامعين. . . أتشك في ذلك؟ استمع إليهم وهم يصرخون ويزعقون بين لمحة وأخرى، ثم حاول أن توفق بين هذا النشوز الصادع وبين شعور السامع بانسجام الأنغام وائتلاف المعاني والأوزان. إن

ص: 3

التوفيق بينهما لمستحيل، ولكن لا صعوبة في التوفيق بين هياج الحس المستثار بتصور الشهرة وبين هذه الثورة الناشزة في الحناجر والأيدي والأقدام. فهم على مقربة من الفراش في صورته الحيوانية المريضة؛ ثم هم لا يستمعون ما يبعدهم عنه أو يحولهم إلى فكرة غير التفكير فيه. وعليهم بعض الوزر على الموسيقيين والمطربين وعلى الماضي الذي خلف لهم ذلك التراث بقية الوزر التي لا ندري متى يدركها النفاد!

وبيننا وبين الخلاص من هذه البلية عقبتان: أولاهما أننا نحسب الفنون لهو بطالة. وثانيتهما أن اللهو في عرفنا إسفاف وضيع يعيره الإنسان فضول وقته، ولعل وقته كله فضول

من يصدقني من هؤلاء إذ أقول له إن الموسيقى جد رفيع وشاغل مقدس وليس به ظل ولا مجانة؟

لا أحد

فلنقل لهم إذن أن بدرفسكي الموسيقي تولى رياسة الوزارة في وطنه وتولى قبل ذلك زعامة قومه باعترافهم واعتراف الغرب كله، فإنهم ليصدقون إذن وهم حائرون أن الموسيقى جد والأمر لله!

ثم إنهم ليصرخون بعد ذلك ويزعقون كلما رجعوا إلى (التخت) الذي هو عندهم دهليز الفراش، ولا فضل له عليه!

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌أبو المظفر الأبيوردي

شاعر العرب في القرن الخامس

للدكتور عبد الوهاب عزام

(تتمة)

- 6 -

فخر الأبيوردي بأمويته واعتز بها، ولكن عصبيته لبني أمية لم تورطه في العداوة التي أثارتها الفتن بين الأمويين والهاشميين، فهو يفخر ببني عبد مناف جميعاً لا يفرق بين هاشم وأمية كما يفخر بقرشيته وعربيته ويمدح العباسيين وبذكر مآثرهم، وإذا تحدث عن الصحابة وفى الخلفاء حقهم من الثناء والإجلال كما يتحدث المسلم الذي لم تخالط نفسه أهواء العصبية

يقول في مدح المستظهر بالله:

يا خير من بشرت بعد النبي به

عدنانُ وادَّرعت عِزَّا به مضر

أحيا بك بالله ما كانت تُدلُّ به

عُلى قريش ومنها السادة الغرر

لك الوقار من الصدِّيق تكنفه

مهابةٌ كان محبَّوا بها عمر

وجود عثمان والآفاق شاحبة

ونجدة من علىَّ والقنا كِسر

وعِلمُ جدك عبد الله شِيب به

دهاؤه أعيا الوارد الصدر

ثم يذكر الخلفاء العباسيين إلى المعتصم

ويقول في قصيدة يمدح فيها الرسول والخلفاء الراشدين:

وكلّ صحبك أهوى فالهدى معهم

وغَرب من أبغض الأخيار مفلول

وأقتدى بضجيعيك اقتداء أبي

كلاهما دَمُ مَن عاداه مطلول

ومن كعثمان جوداً والسماح له

عبء على كاهل العلياء محمول

وأين مثل عليّ في بسالته

بمأزق من يّردْه فهو مقتول

إني لأعذل من لم يُصِفهم مِقة

والناس صنفان: معذور ومعذول

ونجده في قصيدة أخرى يفخر بالأمويين والعباسيين والعرب كلهم

ص: 5

- 7 -

كان الأبيوردي شاعر العرب في القرن الخامس كما كان المتنبي شاعرهم في القرن الرابع؛ فشعره ينطق بإباء العرب وعزتهم، ويعرب عن طباعهم وأخلاقهم، ويتحدث بمآثرهم ومفاخرهم، ويمدح كثيراً من رؤسائهم، ويرثى لحالهم في عصره ويأنف ألاً ينالوا حقهم. وهو كثير الحنين إلى بلاد العرب، نزاع إلى البداوة تشبها بهم

والفرق بين أبي الطيب المتنبي وأبي المظفر الأبيوردي أن الأبيوردي أكثر قصداً في فخره وثورته وتحدثه عن مطامعه؛ على أن له أصلاً في الملك يجعل كلامه أقرب إلى القبول وأدنى إلى التصديق

وكذلك يتشابه الشاعران العظيمان في العزوف عن الدنايا، والترفع عما فخر به الشعراء من معاقرة الخمر والاسترسال في الشهوات

ولا يعوز قارئ ديوان الأبيوردي الدليل على هذه الأخلاق والنزعات؛ يقول في اعتداده بنفسه:

وإني إذا أنكرتني البلاد

وشِيبَ رضا أهلها بالغضب

لكالضيغم الورد كاد الهوان

يَدبّ إلى غابه فاغْترَبَ

فشيدتُ مجداً رسا أصله

أمتَّ إليه بأمْ وأب

ولم أنظم الشِّعر عجباً به

ولم أمتدح أحداً عن أرب

ولا هزني طمعٌ للقريض

ولكنه ترجمان الأدب

ويقول:

وما أنا ممنْ يملأ الهول صدرَه

وإن عضه ريب الزمان فأوجعا

إذا غسلت العار عني لم أُبَل

نداء زعيم الحي أو نعى

والأبيوردي لا يرضى بعيشته، ولا يسكن إلى حاله، ولكنه يأنف أن يسف إلى المطمع الدون، ويستكبر أن تضرعه الحاجة إلى الذل، بل يرى الدنيا كلها أصغر من أن تذل لها نفوس الأحرار. يقول:

قضت وطراً مّني الليالي فلم أبح

بشكوى ولم يدنس عليّ قميص

أغالي بعرضي والنوائب تعتري

وغيري يبيع العرض وهو رخيص

ص: 6

وقد علمتْ عليا كنانة أنني

على ما يزين الأكرمين حريص

فظهري بأعباء الخصاصة مثقل

وبطني من زاد اللئام خميص

ويقول:

وإني لأقري النائبات عزائماً

تروض بالدهر شامس

وأحقر دنيا تسترقُّ لها الطلى

مطامع لحظي دونها متشاوس

تجافيت عنها وهي خود غريرة

فهل أبتغيها وهي شمطاء عانس؟

أغالي بعرضي في الخصاصة، والمنى

تراودني عن بيعه، وأماكس

وأصدى إذا ما أعقب الريَّ ذلة

وأزجر عيسى وهي هِيم خوامس

ولي مقلة وحشية لا تروقها

نفائس تحويها خسائس

ويمثل في أبيات أخرى ما يتنازع نفس الأبي الذي بدلت أحواله غير الزمان:

ولما انتهت أيامنا علقت بنا

شدائد أيام قليل رخاؤها

وكان إلينا في السرور ابتسامها

فصار في الهموم بكاؤها

أصيبت بنا فاستعبرت وضلوعها

على مثل وخز السمهري انطواؤها

ولو علمت ماذا تعانيه بعدنا

لما شمنت جهلاً بنا سفهاؤها

إلى أن يقول:

ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت

لنا رغبة أو رهبة عظماؤها

وجاست بنا الجرد العتاق خلالها

سواكبَ من لباتهن دماؤها

فصرنا نلاقي النائبات بأوجه

رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها

إذا ما أردنا نبوح بما جنت

علينا الليالي لم يدعنا حياؤها

وأنفة الأبيوردي وعفته لا ترضيانه بأدنى العيش، فهو طماح إلى العلى، ساع لها، مغامر من أجلها:

رأت أميمة أطماري وناظرُها

يعوم في الدمع منهلاً بوادره

وما درت أن في أثنائها رجلاً

ترخى على الأسد الضاري غدائره

أغرَّ في ملتقى أوداجه صيَد

حمر مناصله، بيض عشائره

إن رث بردي فليس السيف محتفلا

بالغمد وهو وميض الغرب باتره

ص: 7

وهو يرى نفسه كفء المعالي التي يطمح إليها، وأهلاً لها بنسبه وهمته:

الله درى فكم أسمو إلى أمد

والدهر في ناظريه دونه شَوَس

أبغي عُلًى رامها جدي فأدركها

وكان في غمرة الهيجاء ينغمس

فأي أروعَ مني نبهت هممي

وأي شأو من العلياء ألتمس

ويقول:

سأحمل أعباء الخطوب فطالما

تماشت على ألاين الجمال القناعس

وأنتظر العقبى وإن بعُد المدى

وأرقب ضوء الفجر والليل دامس

فلله دري حين توقظ همتي

مساورة الأشجان والنجم ناعس

هذه الأنفة وهذا الإباء وهذا الطموح وهذه الكبرياء التي أوحت إليه أنه دون مكانته، وأن عليه أن يطلب مكانة تليق به وبآبائه، أكثرت حديثه عن مباشرة الخطوب وركوب الأهوال في سبيلها والمحاربة من أجلها، يقول:

تقول ابنة السعدي وهي تلومني

أمالك عن الدار الهوان رحيل؟

فإن عناء المستنيم إلى الأذى

بحيث يذل الأكرمون طويل

وعندك محبوك السراة مطهم

وفي الكف مطرور الشباة صقيل

فثب وثبة فيها المنايا أو المنى

فكل محب للحياة ذليل

وقال:

سواي يجرَّ هفوته التظَّني

ويرخى عَقد حبْوته التمني

ويُلبس جيدَه أطواقَ نعمى

تشف وراءها أغلال مَنّ

إذا ما سامه اللؤماء ضيماً

تمرَّغ في الأذى ظهراً لبطن

وظل نديم عاطية وروض

وبات صريع باطية ودن

وأشعر قلبه فَرَق المنايا

وأودع سمعه نغم المغنى

وصلصلةُ اللجام لدىّ أحرى

بعز في مباءته مُبِنْ

إلى أن يقول:

وهاأنا أوسع الثقلين صدراً

ولكن الزمان يضيق عنَّي

ويقول:

ص: 8

يا صاحبي خذا للسير أهبته

فغيرنا بمناخ السوء يحتبس

أترقدان وفرع الصبح منتشر

عليكما وذَماء الليل مختلَس

إن تجهلا ما يناجيني الحِفاظ به

فالرمح يعلم ما أبغيه والفرس

سخط البيوردي وتحدثه بالثورة كانا نتيجة إبائه وطموحه وإنكاره المنزلة التي نشأ فيها كما كانا من سخطه للعرب واستنكافه أن تنزع المقاليد من أيديهم، وتوكل الأمور إلى غيرهم. فالنعرة العربية بينه في شعره، والأنفة للعرب مكررة في قصائده. قال في قصيدة يمدح فيها أبا الغمر المرواني أحد أقاربه:

دهر تذَأبّ من أبنائه نقَد

وأُوطئت عربٌ أعقاب أعلاج

وأينع الهام لكن نام قاطفها

فمن لها بزياد أو بحجاج؟

وكم أهبنا إليها بالملوك فلم

نظفر بأروع للغماء فراج

وأنت يا ابن أبي الغمر الأغر لها

فقل لذود أضاعوا رعيها: عاج

وألقح الرأي ينتج حادثاً جللاً

إن الحوامل قد همت بإخداج

وإن كويت فأنضج غير متئد

لا نفع للكي إلا بعد إنضاج

إلى أن يقول:

متى أراها تثير النقع عابسة

تردِى بكل طليق الوجه مبلاج

ولاَّج بابٍ أناخ الخطب كلكله

به ومن غمرات الموت خرَّاج

في غلمة كضواري الأسد أحنقها

زأر العدى دون غابات وأحراج. الخ

وله قصيدة يمدح بها بعض الوزراء من أسرته أولها:

من رام عزا بغير السيف لم ينل

فاركب شبا الهندوانيات والأسل

ويقول فيها:

وخالفت هاشماً في ملكها عُصَب

صاروا ملوكا وكانوا أرذل الخول

حنِّت إليهم ظبي الأسياف ظامئة

حتى أبت صحبةَ الأجفان والخلل. . . الخ

ويقول في مدح أبي الشداد العقيلي يشكو حال العرب ويحرضه على أن يطلب لهم المكانة الجديرة بهم:

فإيه أبا الشداد إن وراءنا

أحاديث تروى بعدنا في المعاشر

ص: 9

فمن بخِرْق ثائر فوق سابح

تردَّى بإعصار من النقع ثائر

إذا حفزته هزة الروع خلته

على الطِّرف صقراً فوق فتخاء كاسر

أترضى وما للعُرب غيرَك ملجأٌ

توسدّهم رملىّ زرود وحاجر؟

بهم ظمأ أدمى الجوانج بَرحُه

وذموا إلى الشعري احتدام الهواجر

وأما إعجابه بأخرق العرب وحنينه إلى ديارهم في مدحه وغزله فيذكران بأبي الطيب المتنبي. فهو يحن إلى البداوة ويتغزل بالبدويات، وإذا تحدث عن أمانيه وأعوانه فالمثل الأعلى عنده فتيان العرب

يقول في قصيدة يمدح بها المستظهر بالله:

معي كل فضاض الرداء سَمَيْدع

أصاحب منه في الوقائع أروعا

غذته رُبَى نجد فشبَّ كأنه

شبَا مشرفيّ يقطر السم منقعا

يُريح، إذا ارتج الندىّ بمنطق،

كلاماً كأن الشيح منه تضوعا

ويُروى أنابيب الرماح بمأزق

يظل غداةَ الروع بالدمُ مترَعا. . . الخ

ويقول في قصيدة يمدح بها أحد رؤساء العرب:

وترويك في قبس حياض تُظلها

ذوابل في أيدي ليوث خوادر

بنو عربيات تحوط ذمارها

كماة كأنضاء السيوف البواتر

ويقول في مدح سيف الدولة صدقة دبيس:

له عمة لوثاء تفتر عن نهى

علمنا بها أن العمائم تيجان

وحنينه إلى البداوة وعاداتها يتبين في مثل قوله:

وأسرى بعيس كالأهلة فوقها

وجوه من الأقمار أبهى وأبهر

ويعجبني نفح العَرار ورّبما

شمخت بعريني وقد فاح عنبر

ويخدش غمدي بالحمى صفحة الثرى

إذا جرَّ من أذياله المتحضر

فما العيش إلا الضب يحرشه الفتى

وورد بمستن اليرابيع أكدر

بحيث يلف المرءُ أطنابَ بيته

على العز والكومُ المراسيل تنحر

ويغشى ذراه حين يعتم للقرى

ويسمو إليه الطارق المتنوّر

هذا طرف من أخبار هذا الشاعر العربي الأموي العظيم. ولعل المتأدبين من شباب العرب

ص: 10

يجدون في شعره متعة النفوس الكريمة، وشحذ الهمم الطامحة، ونمطاً من الكلم البليغ، اتفق على تجويده اللفظ والمعنى. ولعل الفرصة تتاح لبحث مفصل جامع في أدب هذا الشاعر

عبد الوهاب عزام

ص: 11

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

أحزان الإسكندريين توجه الفكر إلى نظرة فلسفية - بين

الاحتلال والاستقلال - الاحتقلال - الألعبان - عمود ونصف

- غرائب التعابير - الكاتب العمومي - شيطنة أدبية - هل

في الأدب ديكتاتورية؟ - بعض ما يجهل الشبان - صيد

الحوت في بحر الشمال! - كلمة صريحة - إلى الأستاذ (فريد

أبو حديد).

أحزان الإسكندريين

وهذا خطاب جديد من الأستاذ عبد الطيف النشار، وهو يدعوني إلى أداء دين الإسكندرية شعراً، كما أديته نثرا؛ ثم يهتف:

نبكي لغِرناطةٍ حزناً ولم نرها

فكيف بالثغر يذوي تحت أعيننا

يزول يوماً فيوماً من محاسنه

ما كان ملء الليالي بهجة وسنا

وأجيب بأن من العسير علي أن أوجه خيالي إلى فواجع الإسكندرية، فما أدمت التفكير في نكبتها لحظات إلا شعرت بدوار عنيف يزلزل إحساسي بالوجود

والأستاذ النشار يروي في خطابه حديث اليوناني الذي رأى بعيني رأسه رجلاً في جبة خضراء يخرج من قبر (أبي الدرداء) ويعتنق الطوربيد؛ ثم يضعه في فناء المحافظة، ويأمره بان لا ينفجر. (وهو الطوربيد الذي لم ينفجر في دار المحافظة على بعد ثلاثة أمتار من قبر أبي الدرداء، وقد وجد الطوربيد ملفوفاً في باراشوت أخضر اللون)

ثم يقول الأستاذ النشار في هامش الخطاب:

(فاتني أن أؤكد لك أن شعور العامة أنه يوم ديني من كبار المواسم لظهور كرامة فيه لأبي الدرداء الذي قتله البرد كراهية منه للنار، هو يحمي الإسكندرية من الاحتراق) وأقول: إني

ص: 12

لا أعرف بالضبط أين دُفن أبو الدرداء، ولا أعرف المكان الذي تحتله هذه (الرواية) بين الجد والمزاح، ولكني مع هذا لا أستبعد أن يكون للأموات أياد في مصاير الأحياء؛ فقد حبرت أكثر من سبعين صفحة من صفحات (التصوف الإسلامي) في تأييد نظرية (وحدة الوجود). ولم يبق عندي شك في أن الوجود كله مربوط برباط وثيق من الكهرباء، بحيث لا تنتقل ورقة من الخضرة إلى الذبول، ولا يتحول جسد من الحياة إلى الموت، بدون أثير في الوحدة الوجودية، وإن غفل عن ذلك من يكتفون بما تقع عليه الحواس

وإذن فمن حق الإسكندرية أن تستنجد بأرواح أبنائها البررة والفجرة من أقدم عهودها إلى اليوم. ومن حقها أن تثق بأن كريها لن يطول، لأنه ليس إلا مرحلة قصيرة من مراحل الوحدة الوجودية وهي تنتقل باستمرار من وضع إلى وضع بدون أن يظهر أنها تفرق بين السعود والنحوس

ثم ماذا؟ ثم أقول لا موت في هذا الوجود، فليس فيه موجود غير حي، ولو كان هباء تذروه الرياح، فما كانت الحياة إلا عرضاً من أعراض الوجود، لنه في ذاته آصل من الحياة ومن الموت

ولهذه الفكرة الفلسفية تفاصيل لا يتسع لها هذا الحديث

بين الاحتلال والاستقلال

دعونا أصدقاء الرسالة إلى الموازنة بين حالتين من أحوال الشعوب: هما حال الاحتلال وحال الاستقلال، فكيف أجابوا؟ كان جواب الأديب (م. ف. م) أن عهد الاحتلال في مصر كان أفضل من عهد الاستقلال، ولكن كيف؟

كانت جداول (المناوبات) تنفذ بدقة في عهد الاحتلال، وكان التلاميذ أكثر التفاتاً إلى الدروس، وكان الزعماء أقوى وأقدر على النضال الشريف

وأقول إن هذه الشواهد لم تقنعني بأن الاحتلال أفضل من الاستقلال؛ فجداول المناوبات لا تحتاج في مراعاتها إلى عناء، وأنا مستعد لنقل جميع شكاياته إلى وزير الأشغال

أما انصراف بعض التلاميذ عن الدروس فله أسباب غير الاستقلال. وأما قوة الزعماء في عهد الاحتلال فلا ترجع لمزية أساسية من مزايا الاحتلال، وإنما هي فورة طبيعية يؤرثها الشوق إلى الاستقلال

ص: 13

ويقول هذا الأديب: (الاستقلال حلو ولذيذ، ولكن. . .)

وأقول إن الاستقلال لا يوصف بأنه حلو ولذيذ أيها الفلاح الأديب، وإنما يوصف الاستقلال بأنه متعب وشاق، لأنه يفرض على جميع أبناء الأمة أن يكونوا رجالاً أقوياء، وأمناء، والتسلح بالقوة والأمانة لا ينال بغير جهاد عنيف

أما الأديب أحمد فيقول: إن صورة العبد الآمن في حمى سيده هي صورة الشعب الذي ينعم بالرغد تحت ظل الاحتلال، ثم يقول إن الاستقلال ليس وسيلة وإنما هو غاية من أبعد الغايات في الحياة

وأنا أنتظر آراء أصدقاء (الرسالة) في هذا الموضوع الدقيق على شرط أن يتركوا العبارات الخطابية، لأني أحب أن يتضح هذا الأمر بأساليب تغرس الإيمان الوثيق، مع الترحيب بالآراء التي أيدها (فلاح التوفيقية) لأن أمثال هذه الآراء تتيح فرصاً كثيرة لتبديد الشبهات التي توجه إلى عهد الاستقلال

الاحتقلال

ليست هذه كلمة الأستاذ إسعاف النشاشيبي ولا كلمة المرحوم أحمد زكي باشا، وإنما هي كلمة اللغوي المحقق الأستاذ محمد وحيد الأيوبي

الألعبان

وما دام الحديث ذو شجون فأنا أذكر نادرة تمثل أخطار الأقلام في هذه البلاد، وتبين أن عداوة الشعراء في العصر القديم ليست أخطر من عداوة الكتاب في العصر الحديث. . . والكاتب في زماننا أقدر من الشاعر على الإيذاء: لأن حرية التعبير تخلق له آفاقاً لا يصل إليها الشاعر المحبوس في قفص القوافي والأوزان، ولأن للكاتب مجالات لا يجري فيها الشاعر، وإن بالغ في التلطف والاحتيال

وكان الأستاذ وحيد الأيوبي يعادي الزعيم سعد زغلول، وكان يكتب في قدحه عبارات لذاعة تحت عنوان (الأُلعبان) أشهرها العبارة الآتية:

(ألآن، وبعد فوات الأوان، يتكلم عن السودان؟ أما أُلعبان!!!) وقد رأت (دار الهلال) أن تصدر مجلة فكاهية باسم (الألعبان) فرفضت وزارة الداخلية بحجة أن في هذا الاسم

ص: 14

تعريضاً بالزعيم سعد زغلول، وسمحت بأن يحول الاسم من وضع إلى وضع فيصير (الفكاهة) لا (الألعبان)

أليس هذا دليلاً على أن الكاتب خلف الشاعر في إيذاء الرجال؟

اتقوا شر الكتاب ولا تخاطبوهم إلا باحتراس، فهم شعراء هذا الزمان!

عمود ونصف!

كانت أطول مقالة للأستاذ عبد القادر حمزة لا تزيد عن عمود ونصف، إلا أن ظرف قاهر يوجب الترسل الفياض

أكتب هذا بمناسبة خطاب أرسله إلى الأستاذ حافظ محمود سكرتير لجنة الاحتفال بتأبين صاحب البلاغ؛ ومنه علمت أن الوقت لا يتسع لكلمتي في رثاء ذلك الصديق الغالي

ولو كانت لجنة الاحتفال تعلم الغيب لعرفت أن كلمتي في رثاء عبد القادر حمزة لم تكن تزيد عن عمود ونصف، اقتداء بصاحب البلاغ في اكتفائه بعمود ونصف، وتوجيهاً لمن يفوتهم أن بعض المقامات تجعل الإيجاز أبلغ من الإطناب انظروا، ثم انظروا، أن عواقب المخلصين؟

كنت وحدي الصديق لصاحب البلاغ في كثير من العهود، وأنا اليوم لا أجد فرصة أتحدث فيها عنه بما أشاء، لأن الموت صرف عنه العداوات الوقتية؛ فأصبح أصدقاؤه يعدون بالألوف وألوف الألوف، بحيث يتعذر علي أصدق محبيه أن يودعه بكلمة رثاء في حفل مشهود

ما أسعدني بما صرت إليه يا أخي وصديقي!

لقد كنت أخشى أن تلاحقك العداوات فلا يقوم بتأبينك رجل غيري

ولكن نحن في مصر، يا أخي وصديقي، مصر التي تحفظ الجميل لأبنائها الأوفياء وإن تظاهرت حيناً بالتنكر لمجدهم الأصيل

غرائب التعابير

إن قلت: (كان المرحوم مصطفى يطالب بالجلاء، كانت (المرحوم) كلمة خفيفة في الترحم على رجل من نوادر الزعماء، وإنما ينبغي أن تقول:(كان المغفور له مصطفى كامل. . .)

ص: 15

وإن قلت: (كان مصطفى رحمه الله يرى. . .) كانت عبارة رحمه الله عبارة جميلة. وإن قلت: (كان مصطفى كامل غفر الله له يرى. . .) كان في عبارة (غفر الله له) تعريض! فالوصف يخالف العبارة المأخوذ عنها في القيمة الأدبية، بلا موجب معقول، وإنما كان ذلك لأن التعابير لا تأخذ قوتها من المنطق في جميع الأحيان، وإنما تخضع للعرف وهو الذي يكون الإحساس

الكاتب العمومي

وحين دعى السنيور ميكلانج جويدي للتدريس في الجامعة المصرية سنة 1927 كان عليه ذوقياً أن يقول في المحاضرة الافتتاحية كلمة ثناء على مدير الجامعة والسكرتير العام، ولم يلتفت إلى اللقب الأخير من الوجهة الاصطلاحية، وإنما ترجمه عن الفرنسية فجعله (الكاتب العمومي) فضحك الجمهور، وخرج علي بك عمر رحمه الله، وهو ساخط على (ذوق) المستشرقين!

وكان علي بك عمر هو السكرتير العام للجامعة المصرية في ذلك الحين

شيطنة أدبية!

كنت قلت: إن مجلة الثقافة لا تدقق في اختيار ما تنشر من الأشعار؛ فاعترض أديب لا أسميه بأن مجلة الرسالة تقع في مثل هذا الخطأ بنشر أشعار محمود حسن إسماعيل!! والاعتراض غير مقبول، مع الاعتراف بما فيه من طرافة الشيطنة الأدبية

هل في الأدب ديكتاتورية؟

يصر الأديب عزت حماد منصور على القول بأن في مصر ديكتاتورية أدبية، وبأن الأدباء الشباب يعانون عداء من الأدباء الكهول، ثم يعجب من أن تتاح الفرصة لظهور بعض الشبان دون بعض، كالذي تصنع (الرسالة) في نشر مقالات هذا الأديب، وإغفال مقالات ذلك الأديب، بلا حدود واضحة تبين سبب النشر وسبب الإغفال

وأجيب بأن من الصعب أن أصدق أن لمجلة الرسالة نية في تقديم فريق على فريق، وإنما يرجع الأمر كله إلى (سياسة القول) فالأديب الشاب قد يتوهم أن له أن يقول ما شاء، متى شاء، بدون أن يلاحظ أن للكلام مقامات لا يدركها غير كبار العقول، وهذا هو السر في

ص: 16

إغفال أكثر مقالات الشبان

وأنا أعرض الموضوعات الآتية:

1 -

النص على غلطة جوهرية فيما تنشر (الرسالة) لكتابها المعروفين

2 -

قديم اقتراح مبتكر لم نشره الجرائد فيما يجب لإغاثة المهاجرين

3 -

إعداد بحث في تاريخ المدائن التي تعاني أهوال الحرب

4 -

كلمة وجيزة عن الألفاظ التي حرفتها الجرائد أيام الثورة العراقية، مثل (باكوبا) و (فالوجا) في مكان:(بعقوبة) و (الفلوجة)

5 -

كلمة في نقد أسئلة امتحان المسابقة لترقية التعليم الثانوي

6 -

كلمة في التعقيب على أحاديث رئيس الوزراء بأسلوب بريء من التحامل والإسفاف

7 -

مقال موجز (عن خط ستالين)

8 -

كلمة عن الأماكن التي سميت باسم (ماجينو) في القاهرة قبل أن يستولي عليه الألمان

9 -

قصيدة في الترحم على (قطار البحر) وأيامه البيض

10 -

قصيدة في التوجع للمكاره التي تعانيها سورية ولبنان وقد أصبحتا ميادين حروب لثلاثة جيوش

11 -

خبر أدبي لا تعرفه اللجنة التي ألفت لتأبين صاحب (البلاغ)

12 -

أقصوصة تصور سخرية الإسكندرية من غرور المعتدين

13 -

كلمة عن نوادر المخطوطات في مكتبة الإسكندرية لنسارع بنقلها إلى مكان أمين

14 -

مقال وجيز تحدد به الأغراض الصحيحة لوزارة الشؤون الاجتماعية

15 -

كلمة صريحة في الأسباب التي دعت إلى انصراف فريق من الشبان عن الزواج

16 -

دعوة الجامعة إلى إنشاء قاعة للمحاضرات فيقلب مدينة القاهرة

أما بعد فأنا أقرر للمرة الأولى بعد الألف أن الأدب من صور الحياة، فافهموا عصركم وتأثروه، يا أبناء هذا الجيل، ليكون في أدبكم قوة وروح، ولا تصنعوا ما صنع الأديب الذي سخر منه صاحب مجلة (منبر الشرق) وقد توهم ذلك الأديب أن الكلام في اليأس والترحيب بالموت يقبل من جميع الناس وفي جميع الأحايين

بعض ما يجهل الشبان

ص: 17

والشبان يتوهمون أن الكتاب المشاهير لا يرد لهم قول، وهذا خطأ فظيع، فلأولئك المشاهير مقالات يطوونها آسفين، إلى أن تسمح بنشرها الظروف

قضيت عامين كاملين في تعقب (إسكندرية أبي الفتح) ولم أر فرصة لنشر هذا البحث، لأن الأستاذ إسعاف النشاشيبي سكت عنه بعد أن تعرض له في مجلة (الرسالة) منذ ثلاث سنين

الشبان وصيد الحوت

حدثنا الأستاذ أنطون بك الجميل قال:

(كان لأحد الأدباء مقال مؤجل في جريدة الأهرام، واشتط هذا الأديب في السؤال عن مصير ذلك المقال، فقلت إن الجريدة مشغولة بقضية المؤامرات، فقال: إن موضوع مقالة أهم من تلك القضية، فقلت وما الموضوع؟ فأجاب: صيد الحوت في بحر الشمال!)

ومن المؤكد ن هذه قصة خيالية من مبتكرات رئيس تحرير الأهرام، وإن أقسم على صحتها بأغلظ الإيمان

ولكن لهذه القصة أشباه ونظائر تقع في كل يوم، فأكثر أدباء الشباب يصيدون الحوت في بحر الشمال، ولو صادوه في أيام الهجوم على النرويج لكان كلامهم فيه من ألطف ما تنشر الجرائد والمجلات

ولكنهم مع الأسف يصيدون في غير أوقات الصيد

إلى الأستاذ فريد أبو حديد

صديقي العزيز

قراء (الرسالة) يذكرون - إن كنت نسيت - أني وجهت إليك تحية خالصة بمناسبة سفرك إلى السودان، وهي تحية لم أرد بها التودد إليك، وإنما أردت بها إكرامك وإعزازك، على نحو ما أصنع في التنويه بمواطني الفضلاء حين يمضون لأداء بعض الواجبات في أحد البلاد العربية أو الإسلامية

فما الواجب للكلمة الجافية التي ندت عن قلمك في مخاطبتي؟ وكيف تصنع بنفسك هذا الصنيع فتنفر أحد محبيك بدون أن تفكر في عواقب ذلك، وقد أصلحت الأيام ما كان بيني وبينك؟ هل يؤذيك أن أثير المنافسة بين (الرسالة) والثقافة، وأنت تعرف أن المنافسة من

ص: 18

أقوى الأسباب في إذكاء العزائم والعقول؟ وهل تنسى أن المنافسة بي هاتين المجلتين واقعة بالفعل وأن زملاءك في مجلة الثقافة يحسبون لها ألف حساب، ويتقون نارها بالصبر الجميل؟ وهل تنكر فضل هذه المنافسة عليك وقد أخرجتك من وقارك فقلت ما قلت في صديق لك يكن يسرك أن يثور بينك وبينه خلاف؟

ثم تنكر علي أن أوجه نصيحة إلى كتاب (الثقافة) مع أنكم استفتيتم قراءكم سنة كاملة ليدلوكم على سنن الصواب في الترجمة والإنشاء!

وشاء لك الذوق أن تدعوني إلى الحرص على جمال الأسلوب فكانت هذه الدعوة دليل الوهم بأنك صرت كاتباً له أسلوب؛ والوهم يصنع بأصحابه ما يشاء

وتلطفت فقلت: (لفت نظري أحد الأصدقاء إلى أن الدكتور زكي مبارك ذكر اسمي في شجون حديثه) فهل يكون معنى ذلك أنك لا تقرأ بنفسك، وإنما ترفع الأخبار إليك في جذاذات، كما ترفع إلى بعض المقامات؟ تواضع قليلاً، يا أستاذ فريد، ليفتح الله عليك!

وتقول إني لقيتك عفواً فحملتني تحية أهل السودان إلى الأستاذ الزيات، وأقول إني لقيتك عمداً لا عفواً لأهنئك بسلامة العودة، ولأقبس بعض ما طبعت تلك الزيارة على وجهك من نور وصفاء!

أما بعد فأنا غير نادم على التحية التي وجهتها إليك، لأني لم أكن أنتظر منك أي جزاء، ولأني أرجو أن أتحفك بمثلها في مناسبة ثانية، إن أراد الله أن يجعلك أهلاً لكرائم التحيات، ولعله يريد!

زكي مبارك

ص: 19

‌دمشق.

. .

لأستاذ علي الطنطاوي

(دمشق!). . . وهل توصف دمشق؟ هل تصور الجنة لمن لم يرها؟ من يصفها وهي دنيا من أحلام الحب وأمجاد البطولة وروائع الخلود؟ من يكتب عنها (وهي من جنات الخلد الباقية) بقلم من أقلام الأرض فان؟

دمشق: التي يحضنها الجبل الأشم الرابض بين الصخر والشجر، المترفع عن الأرض ترفع البطولة العبقرية، الخاضع أمام السماء خضوع الإيمان الصادق. . . دمشق التي تعانقها الغوطة، الأم الرؤوم الساهرة أبداً، تصغي إلى مناجاة السواقي الهائمة في مرابع الفتنة، وقهقة الجداول المنتشية من رحيق بردى، الراكضة دائماً نحو مطلع الشمس، تخوض الليل إليها لتسبقها في طلوعها؛ وهمس الزيتون الشيخ الذي شيبته أحداث الدهر فطفق يفكر فيما رأى في حياته الطويلة وما سمع، ويتلو على نفسه آيات حكمته؛ وأغاني الحور الطروب الذي ألهاه عبث الشباب ولهو الفتوة عن التأمل والتبصر، فقضى العمر ساحباً ذيل المجون مائساً عجبا وتيها، خاطراً على أكتاف السواقي وعلى جنبات المسارب ليغازل الغيد الحسان من نبات المشمش والرمان، ويميل عليها ليقطف في الربيع وردة من خدها، أو ثمرة من قلائد نحرها، ثم يرتد عنها يخاف أن تلمحه عيون الجوز الشواخص، والجوز ملك الغوطة جالس هناك بجلاله وكبريائه، ولا جلال ملك تحت تاجه، وعاهل فوق عرشه

دمشق: التي تحرسها (الربوة) ذات (الشاذروان)، وهي خاشعة في محرابها الصخري تسبح الله وتحمده على أن أعطاها نصف الجمال حين قسم في بقاع الأرض كلها النصف الثاني. . . وما الربوة إلا حلم ممتع غامض يغمر قلب رائيه بأجمل العواطف التي عرفها قلب بشري فيذكر كل إنسان بليالي حبه وساعات سعادته، ثم يتصرم الحلم ويستحيل إلى ذكرى حلوة لا تمحوها الأحداث ولا تطغى عليها سيول الذكريات. . . الربوة: لحن من ألحان السماء ألقته مرة واحدة في أذن الأرض. . . الربوة هي الربوة لمن يعرفها وكفى! دمشق من أقدم مدن الأرض وأكبرها سناً وأرسخها في الحضارة قدماً. كانت مدينة عامرة قبل أن تولد بغداد والقاهرة وباريس ولندن، وقبل أن تنشأ الأهرام وينحت من الصخر وجه أبي

ص: 20

الهول، وبقيت مدينة عامرة بعد ما مات أترابها واندثرت منهن الآثار، وفيها تراكم تراث الأعصار، وإلى أهلها اليوم انتقلت مزايا كل من سكنها في سالف الدهر، ففي نفوسهم من السجايا مثل ما في أرضها من آثار التمدن وبقايا الماضي طبقات بعضها فوق بعض. . . فالحضارة تجري في عروقهم مع الدماء، وهم ورثتها وحاملو رايتها، وهي فيهم طبع وسجية؛ ولقد تكون في غيرهم تطبعاً وتكلفاً، فأي مدينة جمع الله لها من جمال الفتوة وجلال الشيخوخة كالذي جمع لدمشق؟

وأصعد جبل دمشق حتى تبلغ قبة النصر (التي بناها برقوق سنة 877 للهجرة ذكرى انتصاره على سوار بك). ثم انظر وخبرني هل تعرف مدينة يجتمع منها في منظر واحد مثل ما يجتمع من دمشق للواقف عند قبة النصر؟ أنظر تر البلد كله ما يغيب عنك منه شيء: هاهنا قلب المدينة وفيه الجامع الذي لا نظير له على وجه الأرض - لا أستثني ولا أبالغ - وقبة النسر تعلو هامته كتاج الملك، بل كعمامة الشيخ، وهاهي ذي مناراتها التي تعد مائة وسبعين منارة، منها عشرون من أعظم منارات العالم الإسلامي، قد افتن بناتها في هندستها ونقشها، فاختلفت منها الأشكال واتفقت في العظمة والجلال، لا كمآذن بغداد التي لا يختلف شيء منها عن شيء، فإذا أبصرت منها واحدة، فكأنما أبصرتها جميعاً. . . يحف بذلك كله الغوطة الواسعة التي تبدو للناظر كأنها بحر من الخضرة قد نثرت فيها القرى التي تنيف على الأربعين عدا، أكبرها (دوما) ذات الكروم، (وداريا) التي تفاخر بعينها كل أرض فيها عنب، (وحرستا) بلد الزيتون ومنبت الإمام محمد صاحب أبي حنيفة، (وجرمانا) وهي حديقة ورد، وكفرسوسية، وكفربطنا، والأشرفية، وصحنايا، والمآذن وهي ماثلة خلال الأشجار، ووراء الغوطة سهول المزة عن اليمين، وسهل القابون عن الشمال، وبطاح من الأمام، وسهول تمتد إلى الأفق، حيث تغيب الجبال البعيدة في ضباب الصباح، ووهج الظهيرة، وصفرة الطفل، وسواد الليل. . .

إنك تشمل هذا كله بنظرة منك واحدة وأنت قائم مكانك، فأين يا صديقي القارئ ترى مثل هذا؟

وبردى؟ لما قدم شاعر العرب عاصمة العرب ومر على بردى وهو يمشي بين قصر أمية ودار البلدية مشية العاجز الهرم، قال له صاحبه مستقلاً بردى مستخفاً به: أهذا الذي ملأت

ص: 21

الدنيا مدحاً له؟ يظن صاحب شوقي أن النهر بكثرة مائة وبعد ضفتيه. ما درى أن بردى هو الذي يجري في الوادي زاخراً متوثباً نشيطاً لا الذي يجري في (المرجة) متهافتاً كليلاً، وأنه هو الذي أطعم دمشق الخبز، وهو الذي زرع بساتين الغوطة، وهو الذي أنار دمشق بالكهرباء وسير فيها وفي غوطتها (الترام)، وهو الذي لا تضيع قطرة منه واحدة على حين تمر دجلة على بغداد مر الكرام، تقرأ عليها السلام. . . ثم تحمل خيرها كله لتلقيه في البحر، لا تمنح بغداد منه إلا ما تأخذه بالمضخات والنواعير التي لا تسير إلا بمال. فمن رأى مثل بردى (في بره بأرضه وكثرة خيراته) نهراً؟ من ذاق أطيب من مائه؟ من أبصر أجمل من واديه؟. . .

لقد علم أبناءه الولع بالخضرة والظلال، وحبب إليهم أفانين الجمال، فصارت (السيران) من مقومات الحياة في دمشق لا تحيى أسرة إلا بها، ولا تستغني عنها، فهي لهم كالغذاء، فهل يستغنى عن الغذاء؟ هل يمكن أن يجيء يوم صائف من أيام الشتاء فتبقى دمشقية أو يبقى دمشقي في بيته لا يؤم (المهاجرين)، حيث يجتمع الشعاف والصخور وفي ظلال الآس الرجال والنساء على طهر وعفاف، وتدور أكواب الشاي (الأخضر) خمر المسلمين، وتنطلق بالغناء الساحر أوتار الحناجر وتجري خيول السبق في ساحة الجريد؛ ثم جاء وقت الصلاة قاموا إليها فلا ترى إلا جماعات وأئمة، ثم ينفض اجتماعهم عن طرب وفروسية وعبادة، وتلك هي المثل العليا لأهل الشام

وهل تمر أمسية من أمسيات الصيف على دمشقي قاعد في دكانه أو قابع في بيته؟ تعال انظر جماعاتهم في قهوات (شارع بغداد) وفي كل قهوة مؤذنها (إي والله) وإمامها. وعلى ضفاف بردى عند (صدر الباز) وفي (الميزان) أجمل موضع في دمشق، وأمامهم سماورات الشاي الصفر الرشيقة، وفي كل حلقة مغنيها، وليس مثل الشاميين في الولع بالغناء، فلا ينفرد الرجل بنفسه إلا غنى لها؛ فالفلاح وهو نازل من قريته مع الفجر يغني، والحوذي وهو يسوق عربته إلى (جسر تورا) أو إلى (كيوان) يغني، وأجير الخباز وهو يحمل المعجن على رأسه يغني، ونداء الباعة كله غناء وشعر. . .

قف ساعة على ظهر الطريق واسمع ما ينادي به الباعة تر عجباً لا شبيه له في البلاد؛ قصائد من الشعر غير أنها مرسلة القوافي، وطرائف من الغناء غير أنها محلولة القيود،

ص: 22

تمشي إلى القلوب طليقة حرة لا تسمى شيئاً باسمه؛ وإنما هي مجازات وكنايات، عجب منها بعض من كتب عن دمشق من سياح الإفرنج فتساءل في كتاب له عما نظم للباعة هذه الأشعار الرقاق! وتعال استمع هذا البائع وهو يتغنى بصوت يقطر عذوبة وحناناً (يا غزل البنات، يا ما غزلوك في الليالي، يا غزل البنات) ويضغط على (الليالي) ويمد (البنات)، هل يستطيع قارئ أن يؤشر يحرز ماذا يبيع هذا المنادي! لا لن أقول فتعالوا إلى دمشق لتأكلوا غزل البنات. . . وهذا بائع يهتف بكلمة واحدة لا يزيد عليها (الله الدايم) هل يقنع في حسابك أنه يبيع (الخس)، وأن (يا مهون يا كريم) نداء بائع (الكعك) عند الصباح، وأن من الباعة من ينادي بالحكم الغوالي كهذا الذي ينادي:(ويل لك يا ابن الزنا يا خاين) فيفهم الناس أنه بائع (الترخون)

أولا يشجيك ويثير سواكن أشجانك بائع العنب حين تدنو أواخره فينادي بصوت حزين (هدوا خيامك وراحت أيامك. ما بقى في الكرم غير الحطب يا عنب، ودع والوداع لسنة يا عنب) ألا تحس كأنه يودع حبيباً له عزيزاً عليه؟ وبائع العسل (أي الشمندر) وقد أوقد ناره في الصباح البارد، ووضع (حلته) وصفف رؤوس الشمندار الأحمر ونادى في أيام الشتاء (بردان! تعال صوبي بردان. . . أنا بياع العسل) ألا يجيب إليك أكل العسل؛ واسمع العجائب في نداء بائع الملفوف (اليخنا):(يخنا واطبخ، والجارية بتنفخ، والعبد عَ الباب، بِقلْع الكلاب) وبائع الحمص المسلوق (البليلة): (بليلة بلبلوك، وسبع جوار خدموك، يا بليلة)، وبائع الزعرور (أبيض أحمر يا زعبوب؛ تمر محنى يا زعبوب، البزر يا زعبوب)، واستمع إلى الشعر والخيال في نداء بائع الجرادق (يا ما رماك الهوا، وقلبي انكوى، يا ناعم). وبائع التين (دابل وعلى دبالك يا عيون الحبيب، ومن دباله يمشي لحله)؛ وبائع الباذنجان (أسود ومن سواده هرب الناطور) ألا تعجبك صورة الناطورة وقد هرب من سواد الباذنجان؟

وهذا كله كان من ولع الشاميين بالغناء وإقبالهم عليه حتى انعقد إجماع فقهاء الذوق فيهم على أنه يصيح اجتماع أو سمر إلا بالغناء؛ وإذا سها عنه ساه، فكفارته إطعام عشرة أصدقاء صدر كنافة شامية، أو صدر (كل واشكر) أو غير ذلك من الحلويات التي لا يخالف أحد في أن دمشق أبرع مدينة في صنعها. واسألوا محل (أسدية) في القاهرة، ومطعم

ص: 23

الفردوس في بغداد، واذكروني بالخير، فإن الدال على الخير كفاعله

والدمشقيون أكرم الناس، وأشدهم عطفاً على الغريب، وحباً له، فهم يؤثرونه على الأهل والولد؛ ومدينتهم من أنظف المدن لتدفق مائها وكثرة أنهارها، ووصولها إلى الأحياء كلها ودخولها البرك في الدور، حتى لا يخلو حي من نهر. فنهر (يزيد) يسقى الصالحية، و (تورا) يسقى العقيبة وسوق صاروجا، و (باناس) يسقى، القيمرية، و (قنوات) يسقى حي القنوات، وقد أخذت مياه عين الفيجة (وهي أصفى العيون وأعذبها تنبع من جبل على عشرين كيلاً من دمشق) فسيرت مياهها في بطون حتى أبلغت دمشق فأدخلت دورها، فشرب منها الناس أعذب ماء وأبرده. والشاميون مولعون بالنظافة والطهارة، حتى أنه ليعد من أكبر عيوب المرأة ألا تغسل أرض دارها كل يوم مرة أو مرتين بالماء غسلاً وتمسح جدرانه وزجاجه، على رحب الدور الشامية، واتساع صحونها، وكثرة مرمرها ورخامها. وادخل المساجد تر بلاطها يلمع كالمريا، ويحبب الصلاة إلى من ليس من أهلها. وعرج على المطاعم تبصر الأطعمة مصفوفة أمامك في القدور الصغار النظاف بأناقة تجيع الشبعان، ونظافة تطمئن إليها نفس الموسوس. أما ألوان الطعام في الشام فلا يضاهيها شيء في غيرها، وما أكل الغريب في دمشق حلواً ولا حامضاً ولا حاراً ولا بارداً إلا استطابة على طعام بلده، وما استطاب الشامي في غير بلده طعاماً قط. ومن خير مطاعم مصر والعراق، وألذها طعاماً وأحسنها نظاماً، ما كان صاحبه شامياً أو كان على مذهب أهل الشام. ثم إن خدم المطاعم والقائمين عليها طيعون أذكياء، وهم يدركون باللمحة السريعة، ويفهم بالإشارة الخفية.

ودمشق أرخص بلاد الله وفيها النعيم المقيم ولا تخلو من ثمر قط لا في الصيف ولا في الشتاء. أما جودة ثمارها فأشهر من أن تذكر؛ وفيها من العنب ما يزيد على خمسين نوعاً، ومن المشمش تسعة أنواع، ومن التين قريب من ذلك، ومن الدراق والكمثرى والتوت الشامي والجوز واللوز ما لا يوجد مثله في غيرها

والدمشقيون أهل براعة في الصناعة وعندهم من المعامل الكبيرة معمل للإسمنت عظيم (في دمر ظاهر دمشق) ومعمل للأقمار (الكونسروه) لا نظير لما يصنعه. ومعمل للدباغة كبير، ومعمل للجوخ، ومعامل كثيرة لا تحصى للمنسوجات القطنية والصوفية والحريرية

ص: 24

والجوارب (والكرافات)، ومعمل للزجاج، ومعامل صنعت أكثر من أنواع الأدوية وحكم الأطباء بجودة ما تصنعه، ومعامل لأنواع السكاكر والمربيات (والشوكولاته). وفي دمشق مدرستان للعلم الديني فيهما أكثر من خمسمائة طالب متعمم فضلاً عن الصغار، ومدرسة للطب تدرس العلوم كلها بالعربية؛ ولأساتذتها فضل كبير على ما وضع من المصطلحات العلمية في لغة العرب. وفيها مدرسة للحقوق العربية. وفيها أنشئ أول مجمع علمي عربي صحيح. وفي الشام كثير من الآثار الباقية من القرون الخالية: كالقلعة والسور، والمدارس، والمارستانات، والمساجد القديمة، والربط والخانات، ولكل من ذلك حديث طويل وتاريخ حافل، ولكن الإدلاء الجاهلين لا يعرفونها ولا يدلون السياح عليها. وفيها مدافن كثيرين من أعلام الإسلام في السياسة والعلم والأدب والتصوف. وفي مكتبتها الظاهرية نوادر المخطوطات، حتى أنها لتعد أغنى الخزائن الإسلامية فريدة. ودمشق ذاخرة بالعلماء في كل فن وعلم

وليس للعروبة مثل دمشق موئلاً وملاذاً، وليس في المسلمين مثل أهلها تمسكاً بالدين وإقامة لشعائره، فمساجدها ممتلئة أبداً؛ فيها كل شاب متأنق تراه فتحسبه من شراب مياه التايمس أو السين، وهو مسلم حقاً، مؤمن صدقاً، ناشئ في طاعة الله؛ ومساجد بلاد العرب إن امتلأت فبالشيوخ والشيب!

والمنكرات في دمشق مقموعة وأهلها الأذلاء. وللعلماء العقلاء المخلصين منزلة عند أهل دمشق ليس لأحد من أبناء الدنيا مثلها. والسفور في نساء الشام قليل نادر، والاحتشام والستر عام شامل. وأهل الشام كالماء لهم في الرضا رقته وسيلانه، وفي الغضب شدته وطغيانه، بل كان لهم من البركان فوراته وثوراته

وبعد فأي مزاياك يا دمشق أذكر، وإلى أي معاهدك أشتاق، وأيها أحن إلى حسنه وأهيم بجماله، وفيك الدين وأنت الدنيا، وعندك الجمال وعندك الجلال، وأنت ديار المجد وأنت ديار الوجد، جمعت عظمة الماضي وروعة الحاضر، وسيكون لك المستقبل. . . المستقبل لك يا دمشق، عشت وعاش بنوك والسلام عليك ممن غربته عنك وأنكرته، وأشقيته بالوفاء حين أسعدت بالغدر الغادرين

علي الطنطاوي

ص: 25

‌من دموع عذراء

العبير النائح

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

إِنَّي أَرَاكِ كَزَهْرَةٍ

في الْغابِ نَائحَةِ الْعَبِيرْ

مَذْعُورَةِ الأكمامِ بَيْ

نَ خُطَا السَّمائِمِ والهجيِرْ

عَذراءُ يَتَّمَهَا الْخَري

فُ فلا ظِلالَ ولا غَديرْ

سَكَنَتْ كَطَيْفَ مُعَذَّبٍ

وَهَفَتْ كآهَةِ مُسْتَجِيرْ

وَدَنَا الظَّلَامُ فَلَفَّهَا

في ثَوْبِ مَحْزُونٍ كَسِيرْ

فَكأَنَّهَا في لْيلهِ

سِرٌّ يُغَلِّفُهُ الضمِيرْ

وَكَأَنَّهَا في فَجْرِهِ

حُلمٌ يَطِيرُ وَلا يَطِيرْ. . .

ياَ لْيتَني كُنْتُ الظِّلَالْ

أَوْ كُنْتُ يَنْبُوعَ التِّلَالْ

لَسَكَبْتُ عُمْرِيَ في الرِّمالْ

رُوحًا يُرَفْرِفُ كالْخَيَالْ

يَسْقيكِ مِنْ شَفَةِ الرَّبي

ع رَحِيقَ فِتْنَتِكِ النضِيرْ

وَيُحيِلُ مَهْدَكِ جَنَّةً

لِلْحُبِّ وَالهة الأَثِيرْ

أَنَا في رُباَهَا نَسْمَةٌ

بِسِوَى ضِفَافِكِ لا تَسِيرْ!

أَنَا في ثَرَاَها جَدْوَلٌ

لِصِبَاكِ رَقْرَاقٌ نَميرْ!

أَنَا في شَذَاهَا نَفْحَةٌ

عِطْرُ الْخُلودِ بها أَسِيرْ!

أَنَا في سَماها كَوْكَبٌ

في بُرْجِهِ بكِ يَسْتَنِيرْ!

أَنَا في هَوَاهَا قُبْلَةٌ

حَرَّى مُخَلَّدَةُ السَّعيرْ

سَتَظَلُّ في شَفَتَيْكِ لا

تَرْوَي إلى اليَوْم الأخيرْ

محمود حسن إسماعيل

ص: 27

‌من حديث الثغر الحزين

للأستاذ عماد الدين عبد الحميد

في مثل هذه الأيام من كل صيف مضى، كان الناس - أو قل كان من الناس من تسمح لهم مقدرتهم وأوقاتهم بقضاء اشهر أو أسابيع أو أيام مع عروس البحر الأبيض كما يدعونه - يرون الإسكندرية، وقد بدت عروسا سعيدة في اكمل زينة أبهى منظر

كان هؤلاء يلجئون أليها، هاربين من حرارة الصيف لا يطيقونها، يرجون عندها معاني الراحة والاطمئنان، وينشدون فيها الهناءة والسعادة. فتتلقاهم الإسكندرية مرحبة بهم، مكرمة لهم، باذلة كل جهد لتكون عند حسن ظنهم بها، غير مترددة في أن تظهر أمامهم - أو بهم - في صورة من الحرية المرحة أو السرور المطلق، نازعة عنها قيود التقاليد الموروثة، متحملة كثيرا من أنواع النقد اللاذع، يتقاذفها كخظم هائج لا كموجها الهادئ. . . حين تسرف في إكرامهم، ولكن في ألوان المتعة الساخرة الساحرة!

كانوا يلجئون إليها في مثل هذه الأيام من كل صيف، يقاسمونها ما وهبها الله من نعمة الطبيعة، ويشاركونها فيما منحتها الطبيعة من سحر، ولا أنكر انهم كانوا يعطونها شيئا ما مما أعطتهم الأيام، ولكنهم كانوا أخيرا يتركونها إلى حيث يعودون جميعا، وقد بقيت وحدها حتى الصيف التالي رمزا للعبث كما يراها بعض من الناس، أو صورة لأمنية سعيدة في خيال بعض آخر لم تحقق له الأيام رجاءه من القدرة على أن يكون من روادها السعداء

يعودون، لتستقبل جماعة منهم العمل، ولتستقبل جماعة أخرى أنواعا جديدة من لذة الشتاء، وتبقى أذهان هؤلاء وأولئك ثملة برحلة الصيف، سكرى بذكرياتها، تستمد من تلك الذكريات الجميلة عونا على قضاء الأيام حتى تستقبلهم الإسكندرية مرة أخرى، طروبا ساخرة

اشهدوا الإسكندرية كرقصة مرحة صاخبة يأخذ كل قادر منها بنصيب، ثم لا يهدأ إلا ليأخذ منها بنصيب جديد. . . واسمعوها كأغنية عذبة طويلة من مطرب موهوب محبوب، لا تكاد تنتهي حتى يرجو السامعون لو أعيدت من جديد. . . وحتى بعد أن قضى على أنوارها الباهرة بان تلبث ثوبا من الزرقة القاتمة منذ سنين. اسمعوها في الليل كقطعة موسيقية صامتة تلعبها أنامل عازف ماهر على أوتار القلوب!

ص: 28

اشهدوها واسمعوها كذلك، ثم انظروها وقد لبست في هذا الصيف ثوب الحداد على شهداء أعزاء. . . واسمعوها، اسمعوا منها تلك الأغنية العذبة، وقد تبدلت فجأة، فإذا هي عويل وبكاء. . . وأنصتوا لموسيقاها الصاخبة، وقد أضحت لحنا حزينا خافتا بين الأطلال. . .

اسألوا هؤلاء الذين كانوا بالأمس يسعون إليها هربا من حرارة الجو. . . ماذا قدم لها اليوم حين سعت إليهم هربا من جحيم الشيطان!

اسألوا هؤلاء ماذا قدموا من خير - وهم قادرون - للأمهات الحزينات فقدن العائل وفقدن الأبناء!

اسألوهم ماذا قدموا من عون لليتامى، وقد هاموا على وجوههم حائرين، ضلوا سبيل الحياة!

اسألوهم ماذا قدموا من مالهم لمن صار محروما!

اسألوهم ماذا قدموا من مقدرتهم لمن اصبح عاجزا!

اسألوهم ماذا قدموا من قوتهم وصحتهم لمن صار ضعيفا عليلا!

اسألوهم ماذا قدموا من خبزهم للجياع، وماذا قدموا من كسائهم للعرايا. . . وماذا قدموا من دورهم للمشردين!

بل سلوهم ماذا قدموا من كلمة مواساة لهؤلاء، علها أن تخفف شيئا من وقع المصاب!

ترى هل يجيبون. . .؟ يقينا انهم لا يجدون الجواب!

فكم منهم ذكر الإسكندرية في محنتها بشيء؟ بأي شيء ذكروها هذا البعض القليل الذي ذكر. . .؟!

أيتها الدنيا: انك لغادرة خادعة!

فليست هذه مقدرتهم التي عرفناها في ميادين اللهو واللذة والمتعة الفاجرة. . . وليست هذه وجاهتهم التي عرفناها في قصورهم وحيث يحيون!

وأنت أيتها الإسكندرية: انهم لم يحبوك في يوم من الأيام. . . ولكنهم احبوا لذتهم ولهوهم، واحبوا عندك الظهور والكبرياء!

انهم لم يعطوك، حين كانوا يعطونك كل صيف مما وهبتهم الأيام، لرغبتهم في أن ينالك شيء من خيرهم، ولكنهم لو استطاعوا لأخذوا كل ما لديك لأنفسهم. واذهبي أنت مع الريح!

ص: 29

أيتها الإسكندرية، اغضبي من اليوم عليهم. اغضبي غضبة لا تعرف الهوادة ولا تعرف اللين، فليسوا جديرين بعطف منك ولا وفاء! ولتغضب مصر جميعا لغضبة الإسكندرية، لتغضب. . . فأنا نحب الخير ونحترم مثلهم، ولسنا عبيد الألقاب، ولسنا قطيعا في مزرعة الوجهاء.

إن للفقراء حقا مشروعا في رقاب الأغنياء. طلبوه اليوم منهم فأنكره هؤلاء. . . فليذهب كل ما كان لهم في نفوسنا من حب، وليذهب كل ما كان لهم فيها من تقدير. . .

ولتبق نكبة الإسكندرية ماثلة في أذهاننا دائما، لتذكرنا بأن للإنسان حقوقا طبيعية في المجموع الذي يعيش فيه.

تتمثل هذه الحقوق - أول ما تتمثل - في أننا يجب أن نسعى إلى حياة معتدلة، فيها رخاء لنا جميعا، وتحصين لنا جميعا. فلا تعيش طائفة جاحدة منا عيشة فائقة الثراء. . . وتحيا أخرى حياة الأغنام!

أيها العاجزون المحتاجون المنكوبون، لا تفكر طويلاً في عطف القادرين. . . أيها الفقراء، لا تثقوا كثيرا في قلوب الأغنياء. . . فلا يعرف الألم إلا من قاساه في يوم من الأيام. . .

(حلوان)

عماد الدين عبد الحميد

ص: 30

‌الله!.

. .

لشاعر الحب والجمال لامرتين

بقلم الأستاذ محمد أسعد ولاية

(لما وجه لامرتين هذه الأبيات إلى (لامنيه) كان يومذاك على اتصال به منذ أمد قريب حيث استهواه الباب الأول من بحث ديني في (النكران) عام (1817)، فأنشأها خلال رحلة قام بها علي جواد بين باريس وديجون في الأيام الأولى من مايو عام (1819). وهذه القصيدة التي ترتبط بنوع تعليمي تكاد تشتمل على أروع أبيات تحدد وتصف القدرة الإلهية، وينذر أن يستند الشعر الفلسفي إلى إلهام متقد إلى هذا الحد)

(إلى الراهب ف. د. لامنيه)

نعم، إن روحي لتبتهج بالتحلل من قيودها:

طارحة عِبْء البؤس البشري،

تاركةً حواسي تهيم في هذا العالم، عالم الأشباح،

حيث أصعد إلى عالم الأرواح بدون عناء.

هنالك أطأ تحت أقدامي هذا العالم المنظور،

وأرتع حراً في ساحات الخفاء.

إنَّ روحي لتضيق في سجنها الرحب،

إنني في حاجة إلى مقر لا أُفٌقَ له

كقطرة ماءُ صُبَّتْ في المحيط،

يستغرق الخُلدُ في كنفه تفكيري،

هنالك ملكة الفضاء والخلود

وهي تجرؤ على استكناه الزمن والعام اللانهائي

تقترب من العدم، وتطوف في الوجود

وتعرف من الله الجوهر الغامض.

ص: 31

بيد أنني حينما أريد تصوير ما أشهر به

تتلاشى جميع العبارات كمجهودات فاشلة،

تعتقد روحي أنها تتحدث ولساني متلعثم،

يصفع الهواء عشرين صفعة خيال تفكيري.

لقد خلق الله للأرواح لغتين مختلفتين:

في نبرتين تاريخيتين إحداهما في الهواء،

وهذه اللغة المحدودة معروفة للناس

وهي تفي باحتياجات المنفي الذي نحن فيه

وتتكيف طبقاً للضربات القاتلة من تقلبات القدر،

فتبدل مع الأجواء أو تذهب مع الزمن.

أما اللغة الخالدة الأخرى النبيلة الجامعة اللانهائية؟

فهي اللغة الموهوبة بجماع الذكاء:

ولم تكن قط نبرة مائتة تذهب هباءً مع الهواء

إنها تعبير حي يُسمعُ في القلب:

فهي تُسمعُ وتُشرحُ وُيتحدثُ بها مع النفس،

وهذه اللغة الشعورية تخلب وتضيء وتلهب

وليس للنفس لكي تُعبِّر عن خَطَراتها الملتهبة

سوى تنفس الصعداء والحماس والوثوب.

هذه هي لغة السماء التي تنطق به الصلاة،

ولغة المحبة المفعمة بالحنان في الحياة الدنيا

في المناطق الطاهرة حيث أحب أن أطير،

يبعثني الحماس أيضاً على كشف أسرارها.

هو وحده سراجي في هذه الليلة الظلماء،

وهو الذي يفسر لي العالم أحسن ما يفسره العقل.

تعال إذن! إنه دليلي، وأريد أن أخدمك.

ص: 32

على أجنحتها النارية تعال واختطف!

هاهو ظل العالم قد أمحى عن أعيننا.

إننا نهجر الزمن ونجول في الفضاء:

وفي نظام الحقيقة الأبدي، هانحن أولاء وجهاً لوجه أمام الحقيقة!

وهذا الكوكب الفرد، الذي لا زوال له ولا فجر،

إنه الله، هو رب كل شئ، الذي يقدس نفسه!

كل شيء من فضله: الكون والزمن،

ومن وجوده الخالد، جميع العناصر الصافية.

اللانهاية مداه، والأبدية عمره،

النهار نظرته، والعالم ظله.

جميع الوجود يبقى تحت ظل يده

فالكائنات الطافية على أمواج الأبدية التي تجري من فيضه،

كنهر يتغذى من هذا المنبع الذي لا ينضب له معين،

يختفي في ويؤول إلى الفناء، بينما كل شيء يبتدئ.

إن صنعه الكامل إلي لا حد له مثله،

يمجد حين يوجد، اليد التي صنعته:

يحشد الخلق في الخلد بين زفرة وأخرى،

فهو إذا شاء قال: كن فيكون.

كل شيء منه وإليه

إرادته المقدسة هي شريعته الإلهية

ولكن هذه الإرادة التي لا ظلَّ لها ولا خوَر،

هي في وقت واحد: القدرة والإرادة والعدل والحكمة.

كل ما عساه أن يكون يجري فق إرادته

وكذلك العدم ينهض بمقدار:

الذكاء والحب والقوة والجمال والشباب،

ص: 33

هو قادر على منحها بلا انقطاع دون أن ينضب له معين.

وهو يغمر العدم بنعمة القيمة

وأقرب علامات وجوده أنه يستطيع أن يخلق آلهة!

ولكن هؤلاء الآلهة من صنع يده، والأبناء من قدرته،

من شأنهم أن يبرهنوا على وجوده الخالد،

وهم يميلون بطبعهم إلى الإقرار بوجود خالقهم.

إليه مرجعهم جميعاً وهو وحده الكافي!

هذا هو الله الذي تعبده جميع النفوس،

والذي دان له (إبراهيم)، واهتدت إليه بصيرة (فيثاغورس)

وأشاد بذكره (سقراط)، ولمس وجوده (أفلاطون).

هذا الإله الذي أظهر الكون للعقل حقيقة،

والذي تنتظره العدالة، ويرجو لطفه الشقاء،

والذي دعا إليه عيسى فوق الأرض!

ولم يعد من أثر للإله الذي تصنعه يد الإنسان،

ذلك الإله الذي عبر عنه النفاق الخاطئ،

ذلك الإله الذي شوهت حقيقته يد الكهنة الزائفين،

والذي كان يعبده أسلافنا السذَّج وهم يرتعدون

إنه وحيد. إنه واحد، إنه عادل، إنه حميد

ترى الأرض صنعه، وتعرف السماء اسمه!

سعيد من يعرفه، وأسعد منه من يعبده!

هو الذي، بينما الناس في جحود أو إنكار،

يظل وحده في مصاف مصابيح الليل القانتة،

ينهض في المحراب حيث يجتذبه الإيمان؛

ويلهج بالمحبة والشكران،

ويحرق روحه كالبخور في حضرته!

ص: 34

ولكن لكي تصعد إليه أنفسنا المحطمة

يجب أن تمنح أعلى قوتها وفضيلتها.

ينبغي أن نطير إلى السماء على أجنحة من اللهب،

فالرغبة والحب هما جناح الروح

آه لِمَ لَمْ أولد في مستهل الخليقة البشرية؟

حين لم تكد تنتشر من بين يديه،

قريباً من الله قرباً زمنياً، وأكثر قرباً بالطهر،

حيث تناجيه الخلائق، وتسير في حضرته!

لِمَ لمْ أر العالَم منذ بزوغ شمسه الأولى!

لقد كان كل شيء يحدثه عنك، وكنت أنت نفسك تناجيه،

وقد كان الوجود يلهج بجلالك المقدس،

وكانت الطبيعة الخارجة من أيدي الخالق،

تنشر بكل المعاني اسم منشئها:

هذا الاسم الذي حجب منذ أجيال سحيقة،

فإذا به يتلألأ في روعة أكثر بريقاً فوق مبتدعاتك:

ولم يَتَطّلعْ الإنسان فيما مضى إلا إليك،

فكان يدعو ربه، وكنت تقول:(أنا هو)

لقد تفضلت فتعهدت بمناجاتك تعليمه زمناً طويلاً كما يتعبَّد الطفل،

وبعد زمن طويل اقتضت مشيئتك أن تهديه سواء السبيل

وقد تجّلت له عظمتك مرة،

في أودية سِنّار،

في حرج عُرَيْب بصحراء سينا،

أو على قمة الجبل المقدس

حيث أملي موسى على العبريين شرعيته الجليلة!

وهؤلاء أبناء يعقوب أول مواليد البشر،

ص: 35

ظلوا يتلقون المن من يديك أربعين عاماً،

وكنت توقظ نفوسهم بآيتك الحية،

وكنت توحي أمام أعينهم بلغة المعجزات،

وعندما نسوك، تنزلت ملائكتك

وأعادت إلى قلوبهم الحائرة ذكراك.

ولكن أخيراً، كنهر بُعد عن منبعه،

ذهبت هذه الذكرى الصافية في سبيلها،

ومن هذا الكوكب القديم أخبا ليل الزمان المظلم المناطقَِ المضيئة تدريجياً.

لقد أمسكت عن المناجاة، فالنسيان ويد الأجيال

غفلا عن هذا الاسم العظيم الذي تتسم به بدائعك،

ولقد أضعف مرور الأجيال الإيمان،

ووضع الإنسان الشك بين العام وبينك.

نعم، هذا العالم يا مولاي قد أصابه الهرم بالنسبة لعظمتك،

لقد نسىَ اسمك وأثرك وذكراك

ولكي نستعيدها يجب علينا أن نمتطي من جديد نهر الأيام موجة فموجة.

أيتها الطبيعة، أيها الفلك! عبثاً تراكما العين.

وا أسفاه بدون أن يرى الإنسان الله يمجد المعبد،

إنه يرى وعبثاً يتتبع آلاف الشموس،

التي تجري في صحاري السماوات جرياناً عجيباً،

إنه لم بعد يعترف باليد التي تحركها.

معجزة أبدية لم تعد معجزة.

إنها تسطع في الغد كما كانت تسطع بالأمس!

من يدري أين تبتدئ طريقها الجليل؟

من يدري إذا كان هذا السراج (الإيمان) الذي يتلألأ ويثمر قام للمرة الأولى في العالم؟

إن آباءنا لم يشهدوا قط سطوع دورته الأولى،

ص: 36

والأيام الخالية لا يعرف لها أول قط.

عبثاً توحي عنايتك الإلهية

تجليك في هذه التطورات العظيمة على العالم المعنوي،

إن من تدابيرك أن ينتقل صولجان الملك عبثاً

بين البشر من يد إلى أخرى،

إن أعيننا التي ألفت تقلبها،

قد جعلت من العظمة عادة فاترة،

وكم شهدت الأجيال

كثيراً من تقلبات القدر الذكرى!

لقد قَدُمَ الدورُ، والإنسان الجامد في غفلة

أيقظنا أيها الإله العظيم، أوْح وبدَّل العالم،

أسمع العدَم كلمتك المثمرة

لقد آن الأوان، فانهض وتجاوز هذا الهدوء الطويل

اخلق عالماً آخر من هذا الفضاء الآخر.

إن أعيننا الغافلة لتفتقر إلى مشاهد أخرى

وإنَّ نفوسنا الشاردة لتحتاج إلى معجزات أخرى

بدل نظام السماوات التي لم تعد تحدثنا!

واقذف بشمس أخرى لأعيننا الحائرة

حطم هذا القصر القديم غير الجدير بعظمتك،

أقبل، وتجل أنت - أنت سبحانك - واحملنا على أن نؤمن

ولكن ربما قبل الأوان حيث في صحاري السماوات

ستكف الشمس عن إنارة الوجود

ومن هذه الشمس المعنوية (الأيمان) قد انكسف الضوء.

وسيكف رويداً رويداً عن إنارة التفكير،

واليوم الذي سيغدو فيه هذا الصباح محطما

ص: 37

سيُغمس العالم في ليل أبدي!

إذن أنت ستحطم ما خلقت.

وهذا الحطام المنهار سيردد عنك جيلا بعد جيل:

(إنني الوحيد! وكل ما عداني لا يستطيع الدوام! فالإنسان الذي ينقطع عن الإيمان، ينقطع

عن البقاء!)

(الإسكندرية)

محمد أسعد ولاية

ص: 38

‌للحق والتاريخ

2 -

عبد القادر حمزة باشا

وما ذكره عنه الذاكرون في حفلة التأبين

((قومية) بحثه وراء (الحقيقة) في التاريخ المصري القديم. .)

للأستاذ محمد السوادي

احتفل أهل الرأي وذوو المكانة وأبناء الفكر في عاصمة مصر بتأبين الفقيد من أيام، فرددت جنبات القاعة الثقافية التذكارية في الجامعة الأمريكية مواهب الراحل ومناقبه، جرت نثراُ على ألسنة هيكل ومنصور فهمي وأباظة وآخرين، وجرت شعراً على ألسنة العقاد ومطران ومحرم وآخرين

ومن الرابع عشر من هذا الشهر تحتفل أسرة الفقيد بإحياء ليلة الأربعين، فيذكر الذاكرون أن أربعين يوماً مرت على آخر عهد لمصر بابنها (الممتاز) الذي وقف عليها ما أوتي من جهود، وسخر في سبيلها ما آتاه الله من فضل وفن ومميزات رقت به إلى مستوى فريد ومقام ملحوظ وأحب بدوري أن أختار هاتين الملائمتين - التأبين والأربعين - لأثير ناحية من أدب الفقيد تمشي وما ذكره الذاكرون من الشعراء والناثرين، فقد ذكروا الخدمات التي أداها عبد القادر حمزة التي أحبها فعاش لها، مصر الحديثة في جهاده السياسي والصحفي والأدبي، ومصر القديمة التي بعثها بعثاً رائعاً في كتابه (على هامش التاريخ المصري القديم). هذه الناحية التي احب اليوم أن أغزوها أو أجلوها هي (قومية البحث عند عبد القادر حمزة وراء الحقيقة في التاريخ المصري القديم)

وأحب أيضاً أن أسجل أسفي على فقر مصر الحديثة من ناحية المؤسسات العلمية التي تفزع إليها الأمم النهضة لقدر القيم العلمية لجهود الأفراد قدرها الحق؛ ولو أن مصر كانت مثرية في هذه الناحية ثراء الأمريكيين والأوربيين، لهبت هذه المؤسسات إثر وفاة العظيم تتناول مخلفاته بالبحث ولرأينا الجمعيات التاريخية تتوفر على الجانب التاريخي منها فتجلوه. المحاضرون من أعضاء المؤسسة بمحاضراتهم، والباحثون بالكتب التي يصدرونها بسطاً لهذه الجهود وتأييداً أو تفنيداً، أما وقصارى جهدنا أن يجتمع بعض الناهضين -

ص: 39

واجتماعهم مشكور لهم ومحمود - لتأبين العظيم الراحل، فقصور من ناحية النهضة العلمية خاصة والفكرية عامة يثير الأسف، ويبيح للناقد أن يلقي المسؤولية على الدولة ورجال الفكر أنفسهم

وهذه الناحية التي وقع عليها اختياري لتكون موضوع مقالي، هي الناحية التي كنت أود لو كانت من نصيب أساتذة النقد والتاريخ في إحدى المؤسسات العلمية، لأنها ناحية لها من الجلال والقيم ما ينوء به كاهلي وتنوء به جهودي

ولكني سأحاول:

و (القومية) في البحث، نقص من ناحية وكمال من ناحية: نقص من ناحية (الحقيقة) العلمية والتاريخية، لأنها - أي القومية - لون من ألوان التعصب يجافي أهداف الباحث وراء (الحقيقة) في ذاتها ولذاتها، وكمال من ناحية (الوطنية) التي تطالبنا بتغليب الصالح الوطني في الغاية والشعور العاطفي في التحليل على إدراك هذه الغاية

وإذن (القومية) ليست لها قيمة ثابتة، وإنما تختلف قيمتها باختلاف وجهة النظر إليها

و (الحقيقة) نفسها لها ميزاتها ولها مساوئها، أما الميزات تنحصر في القداسة التي تحوط الباحث، وفي الجمال الذي يحيط اللثام عنه يوم يدرك هذه (الحقيقة)، وفي الجلال الذي يشعر به يوم يرى نفسه وقد تجرد من كل تأثر شخصي أو عائلي أو قومي فأخذ مكانه فوق المستوى العادي وتطلعت الإنسانية المشوقة إلى الحقائق إلى حيث يقيم هذا الباحث داخل برجه العاجي. وأما مساوئ هذه الحقيقة فتنحصر في مرارتها وأثر هذه المرارة في الجماعة التي ينتمي إليها الباحث، وضرر هذه المرارة بالوطن أو بالأفراد أو الباحث نفسه. وحسبك أن تتصور نفسك الآن وقد جابهت أمتك حكومة وشعباً بالحقائق العارية فنشرت كتاباً ضمنته نقائصهم أفراداً وجماعة كما تعرفها أنت وكما أعرفها أنا، ثم تتصور نفسك وقد استاقك الجند إلى المحقق وزج بك المحقق في السجن، واستنكر تصرفك الرأي العام، واتهمك بالمروق من دين الوطنية كل وطني

من هذا ترى أن (القومية) نقص من بعض النواحي، و (الحقيقة) نفسها مريرة ولا أقول (نقص) من بعض النواحي، فإذا وجد الرجل إلي يجد في البحث وراء (الحقيقة) خالصة ليربح جلالها وليبرز جمالها وليساهم بهذا الجهد في الترقي الإنساني، ثم استطاع هذا

ص: 40

الرجل أن يخرج بنتيجة (نظيفة سليمة) من الناحية العلمية ومؤدية إلى خدمة بلاده، ثم تبين أن (القومية) هي التي دفعت به من البداية إلى هذا ابحث الذي التزم فيه جادة الحق وصادق النهج، فمن حقه على بلاده أولاً وعلى الإنسانية ثانياً أن يأخذ مكانه بين الخالدين

وأنا مؤمن بأن عبد القادر حمزة كان (هذا الرجل). . . في كتابه الأخير

ويحضرني الآن لإيضاح الفكرة مثل أضربه لها من (القومية) في (الفلسفة الوطنية الاشتراكية) في (ألمانيا النازية) فقد وضع (روزنبرج) وغيره من فلاسفة العنصرية الآرية مجلدات ضخمة سخروا فيها العلم لإثبات أن الجنس الآري سيد هذه الدنيا، وأعداد (الرسالة) الفائتة تتضمن بحوثاً طلية في فلسفة هذه (الوطنية الاشتراكية) وكلها توهم بأن أصحابها إنما يبحثون وراء (الحقيقة) فهل يمكن القول بأن هذه البحوث من النوع الذي نعنيه بـ (قومية البحث وراء الحقيقة)؟

كلا. . . إنما حشد هؤلاء الفلاسفة (معلوماتهم) وجندوا (مواهبهم) لإخفاء وجه (الحقيقة) لا لاجتلائه، ولتسخير هذه (المواهب والمعلومات) في إلباس الباطل ثوب الحق، وفي استخدام الحد الثاني من سلاح المنطق، وفي ارتداء أزياء الفلاسفة وهم في حقيقتهم دعاة سياسيون، ولتضليل (الفكر) بإقناع (المفكرين) بصواب ما تذهب إليه (العنصرية الآرية)

هؤلاء هم أعداء (الحقيقة) وأعداء المعنى الذي نعنيه ونحن نقصد إلى أصدقاء (الحقيقة) ونرمي إلى التدليل على أن (عبد القادر حمزة) المصري أحد هؤلاء الأصدقاء

نريد أن ندلل الآن على ثلاثة أمور:

أولها: أن عبد القادر حمزة إنما أتجه إلى دراسة (التاريخ المصري القديم) بحثاً وراء (الحقيقة) في ذاتها ولذاتها كما اتجه (أبناء هذه الحقيقة) في مختلف العصور

ثانيهما: إن هذه الدراسة ملأنه - كمصري - زهوا بمصريته فكان هذا الشعور منه إيذاناً بالقومية التي حالفته في بحثه

ثالثها: أن عبد القادر حمزة (مؤلف كتاب على هامش التاريخ المصري القديم) قرن بين الحقيقة والقومية فجمع بينهما جمعاً عادلاً ولم يغلب القومية على الحقيقة وإنما وجد في إبراز هذه الحقيقة إثباتاً لهذه القومية ففعل

هذه هي الأمور الثلاثة التي أريد أن ادلل على صحتها لأخرج منها بنتيجة تعزز موضوع

ص: 41

هذا البحث

ولأعد بالقاري إلى الكلمة التي قدم بها الفقيد للجزء الأول من كتابه لنستمع إليه وهو يقص علينا بداية شغفه بدراسة التاريخ المصري القديم فنرى أنه زار الأقصر في سنة 1924 ليشاهد قبر الملك (توت عنخ آمون) فزار قبور وادي الملوك والملكات والدير البحري ومعبد الكرنك ووقع في يده كتاب (طيبه للأستاذ كابار مدير معهد الآثار المصرية في بروكسل فقرأه فخيل إليه أن الآثار التي مر بها مرور الطير أخذت تتجسم وأن الحياة أخذت تدب فيها فحفزها إلى زيارة الأقصر مرة أخرى زيارة مشوق إلى الحقيقة وأصبح (يهمه أن يدرس ما فيها من الآثار وعدت من هذه الزيارة وقد ازددت شغفاً بمصر القديمة فأحسست رغبة قوية في زيارة المتحف المصري، مع أنني كنت قد زرته من قبل مرتين فجعلت أزوره من جديد زيارات كان لها في نفسي معنى جديد)

هكذا كانت البداية، بداية رجل شغفته آثار مصر القديمة حباً فرغب في دراستها، والبحث عن وجه (الحقيقة) فيها فمتى إذن انتقل به البحث إلى (القومية)، أو متى تسلطت على دراساته (قومية البحث)؟

يجيبك هو على هذا السؤال فيقول:

(وتكررت زيارتي للآثار وانكببت على المؤلفات التي وصفها علماء المصرولوجيا، فكنت كلما أوغلت فيها شعرت كأن مصر تكبر في عيني وكأني بذلك زهواً)

من هنا بدأت بذور القومية تنمو في نفس الرجل، ولكن هذا النمو في (البذور) يحتاج إلى كثير من (الماء) و (السماد) ليستقيم العمود ويبسق فارعاً في الفضاء. . . فما كان ماؤه وما كان سماده؟ كان لابد للرجل من (الغضب) ليكون (تعصب) ولتكون (حماسة) وليكون (إصرار) على إبراز فضائل مصر. . . وقد (غضب) الرجل الذي لا يغضب غضباً ظاهراً، واستبنا منه هذا الغضب من خلال قوله:

(وأخذتني الدهشة من أننا ونحن أبناء مصر هذه لا نعرف عنها هذا الذي يعرفه الأجانب، ولا نعجب بها هذا الإعجاب الذي يبذله لها الأجانب، ولا نغرم بمجدها وتقصى خفاياه هذا الإغرام الذي يقبل عليه ويرتاح له الأجانب)

من العبارات السابقة وضحت القومية؛ ولكن العبارة الأخيرة توضح حالة الاقتران بين

ص: 42

(القومية) و (الحقيقة) أو مطالع هذا الاقتران، لأنه لم يقل أنه عجب - أو غضب - فحسب، ولكنه اعتزم البحث وراء هذا المجد و (تقصى خفاياه) والتقصي - علمياً - هو لباب البحث وراء (الحقيقة)

وبدأ الرجال يقرأ مختلف المؤلفات مرات ومرات، فكان يفهم في المرة الثانية ما يبهم عليه في الأولى، وينفذ في الثالثة إلى ما يغيب عنه في الثانية. وانقضت سنوات حتى اختمرت الدراسات في ذهن هذا (الباحث المنطقي المرتب)، وبدأت (النتائج) تطل من (المقدمات) على الصور الني انحاز بها ذهنه في استخلاص الحقائق. . . هذه الصور التي رددتها إلى عناصرها في بحث لي نشرته (الثقافة) الغراء

وبدأ الرجل تجربته الأولى بنشر فصول في (البلاغ) في سنة 1934، وتجربته الثانية بنشر فصول أخرى في سنة 1938 وأخيراً رأى أن يخرج كتابه الأخير

وهو لم يقل أنه أدى لتاريخ مصر القديم كل حقه، بل اعترف بأن هذا التاريخ بحر خضم ولم يسعه هذا الوصف إنشاء أو إسرافاً في الإنشاء كم ألفنا نحن الكتاب، بل عقب على الوصف بما يثبته فقال:(لأنه تاريخ أربعة آلاف سنة أو أكثر فليس يوفي حقه في كتاب ولا في كتب، وقد كتب فيه العلماء الأجانب بعد كشف اللغة المصرية في سنة 1822 م مئات من الكتب، وهم إلى اليوم كلما كتب واحد منهم وجد جديداً، وكلما ضربت فأسه في أديم مصر خرجت بجديد، فلا مناص من أن أكتفي في كتابي هذا بأطراف، وإذا أراد الله فسأتبع هذه الأطراف بأطراف وأطراف). ولكن الله لم يرد، فلا حول ولا قوة إلا بالله

وأدع الآن مهمة (التطبيق) إلى المقال الآتي إن شاء الله وأختم مقال اليوم بكلمة تثبت لك دافع الفقيد إلى الأخذ بالقومية في البحث بعد أن دفعته الآثار عن الحقيقة فيها

لاحظ الفقيد حقائق مريرة حفزته إلى البحث وراء الحقيقة أولاً وحملته على أن يقرن بينها وبين القومية أخيراً. . . ومن هذه الحقائق ما يأتي:

أولاً: لاحظ أن جميع المصريين يجهلون تاريخهم مع الأسف

ثانياً: أنهم لم يقرءوا منه وقت تحصيلهم العلم غير أشياء ضئيلة مبهمة

ثالثاً: أنهم لا يجدون بعد وقت التحصيل مؤلفات عربية في هذا التاريخ تجذبهم إليه

رابعاً: إنهم يعرفون عن اليابان في آسيا وكندا في أمريكا وعن إنجلترا أو عن فرنسا في

ص: 43

ماضيها وحاضرها أكثر ما يعرفونه عن مصر (وبهذا تنقطع الصلة بين مصر القديمة ومصر الحديثة ويمتنع علينا أن نأخذ من أمسنا ليومنا وغدنا والإنسان الذي يعيش مقطوع الصلة بأمسه كالنبات ينمو ثم يموت، وكأنه لم يوجد)

خامساً: إن الناشئ في إنجلترا أو فرنسا أو في ألمانيا (ينشأ وتاريخ بلاده يسايره في كل سنة من سني تعليمه فلا يكاد يغادر مقاعد الدرس حتى تكون نفسه انطبعت بطابع ما في هذا التاريخ من عظمة وجمال. ومن هذا الانطباع يتولد حب خاص للوطن وتتولد رغبة في محاكاة أبطاله وينمو تبعاً لذلك الشعور بالقومية. . . الخ)

سادساً: إن الكتاب اليونانيين والرومانيين الذين زاروا مصر وكتبوا عنها في ما بين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الثاني بعد الميلاد شحنوا كتاباتهم بأشياء لم يفهموها فألبسوها لباس الغرابة والخرافة. مثلهم في ذلك كمثل الذين يزورون مصر الآن من الأجانب فيدعون عليها دعاوي لا وجود لها، وإن هذه الكتابات التي كتبها أمثال هيكاتي دي ميل وهيرودوت وسترابون وديودور الصقلي وكليمان الإسكندري وبلوتارك، كانت المرجع الوحيد لمعرفة مصر القديمة منذ ضاع سر اللغة المصرية إلى أن كشفه شامبوليون الشاب

وضع الفقيد أمامه هذه الملحوظات الست وخرج منها بأن (الحقيقة) ضائعة فيجب إيجادها، و (القومية) ضعيفة فيجب إنماؤها، أما (الحقيقة) فهي أن مدينة مصر لم تقم كما اعتقد المؤرخون الأجانب (على أساس من الخرافات والعقائد الفاسدة) بل قامت كما دلل هو (على أساس علمي وخلقي صحيح).

وإلى اللقاء حيث ندرس معاً (بالتطبيق) الطريق التي سلكها في البحث والنتائج التي خرج بها و (النظافة) العلمية التي حالفته في أثناء هذا البحث.

محمد السوادي

ص: 44

‌على شاطئ الحياة

شاعر غريب. . .

للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا

رَائِدُ الليل خلْفَ وَهْم بَعيدِ

وخيالٍ من الأماني عنيدٍ

وغريبٌ يرى الصباحَ غريباً

في حياةٍ كلْيلهِ المعقودِ

وَلْوَلَ القيْدُ في يديه وصاحتْ

في شَرَايينِهِ دِماءُ الشهيدِ

قلمٌ كان بسمةً في فمِ الدُّن

ياَ فماتت على فمِ الغِرِّيدِ

أقفرتْ روحُه وغاصتْ معاني

هِ وأمسى على الثَّرى فضلَ عُودِ

وبقايا حشاشةٍ تتلوَّى

تحتَ حَرِّ الجوى وَبَرْدِ الوعودِ

جَفَّ حتى أنكرتُهُ وهو مِنِّي

شَبَحُ الأمِّ من خيالِ الوليدِ

جَفَّ حتى أنكرتُهُ وهو مني

صورةُ القُرب من فؤاد العَميدِ

آهِ من آهةٍ بقلب شريدٍ

ضلَّ في ذلك المَتَاهِ الشريدِ

نحن في عاَلمٍ حُماداه أنا

قد نسينا به معاني الوجودِ

أتكون القبور أضيق أم تِلْ

كَ الفيافي لساهدٍ يَرْقُودِ؟

وارتقابُ الجحيم أم ذلك الرُّعْ

بُ بحرٍ مُسَمَّمٍ محدود؟!

وعواءٌ الضِّباع بالليل أم جَرْ

سُ الأفاعي مُصَلْصِلاً من بعيد

وجماهير من عقاربَ رُعْنٍ

شائلاتٍ أذنابها كالبُنُودِ؟!

تَلسبُ الحيَّ والجمادَ كما اسْتَل

هَمَ أعمى عصاه فوق الصَّعِيدِ

كل يومٍ لنا فنونُ دفاعٍ

في نزاعٍ على البقاءِ الكسيدِ

تتبارى مع الطبيعة والأو

هامِ والخوفِ والدجى والبيد

ظلماتٌ يَجْثُمْنَ خلفَ دَياج

ورعودٌ يَجْأَرْنَ إثْرَ رُعُودِ

أين حربُ الأعصاب من هذه الحر

بِ تلظَّتْ في ليلها الموعود

أعُواء المدافِع الشُّكْسِ أم زَأْ

رُ غَضُوبٍ على الرُّبى شُحْدُودِ؟

يوقظُ الليلَ كله ويكاد الْ

فَجْرُ يَنْشَقُّ في النُّجُودِ

وَسِمَامُ الغازات أم ذلك الصِّ

لُّ بِقَرْنَيْهِ لابداً في الْحَريدِ

ص: 45

آهِ من آهةٍ بقلب شريدٍ

ضلَّ في ذلك المتاهِ الشريد

من أباح الشذا وكان حراماً

وحشة الرَّوض أم بكاءُ الورودِ

والذي أَسْلَم العنادلَ للذلِّ

هواها. . . أم كبرياءُ النشيد

لهف نفسي على ورود القوافي

يذبل الوردُ في القِفار ويودى

خطراتٌ يَلمعْنَ في ذلك القَفْ

رِ كماءِ في الصَّخرةِ الصَّيْخُودِ

حرَّ قلبي عليك يا مصر يا مَه

بِطَ وَحْيِ ويا مَرادَ قصيدي

يا لياليَّ (بالْحُسَينِ) أعيدي

بسمة الدهر واخطري من جديد

قد بكى النايُ في يد العازف النَّا

ئي، وَأَنَّتْ أوتاره من بعيد

نحن في شاطئ الحياة حيارى

قد أقمنا على ضِفافِ الوجودِ!

عنيبة (الدر)

طاهر محمد أبو فاشا

ص: 46

‌حينما تغمضين عينيك

للأستاذ العوضي الوكيل

حينما تغمضين عينيك هاتي

نِ على فتنةٍ وروعةِ سحرِ

ما الذي تشهدينَ في صفحةِ الآ

فاقِ مما أدري وما لستُ أدري؟

هل تشيمين في الخيال فرادي

س نشيدٍ معطَّرٍ بكِ نَضْرِ

هل تشيمين مهجتي تَتلقّا

كِ وتهفو إلى سناكِ وتَسْري

أنا وحدي الذي يراك من الغي

ب بِفكْرٍ يدقْ عن كل فِكر

فاشهدي هناك أنتهل الح

ب وآوي مع المساء لوكْرِي

حينما تغمضين عينيك هاتي

ن على فتنة وروعة سحر

تستجيبُ الشفاهُ جفنيك لثماً

فكأني لثمتُ روحاً بِثغري

وأرى الحسنَ كيف يأسر نفسي

ثم يُلْقِى الفَنَّ الجميلَ بِشِعْرِي

يا فتاةَ الأحلام لو لم أعاصِرْ

كِ لأحسست باليبابِ بعَصْري

ولآنستُ في خيالي وجوداً

لك يا بهجة الخيال لعمري!

ولأغمضت مقلتيَّ وشاهد

تُ بعينيَّ ما يجنُّ ويُغْرى

العوضي الوكيل

ص: 47

‌البريد الأدبي

جواب

يا سيدي الفاضل، قلتُ يقال للشيخ عجوز وللشيخة عجوز وعجوزة

يا سيدي قال الإمام ابن الأنباري: يقال عجوزة بالهاء لتحقيق التأنيث، وروى عن يونس أنه قال سمعت قول العرب عجوزة بالهاء.

(وحيد)

تعليم القراءة والكتابة

كان معالي وزير المعارف قد أصدر قراراً بتأليف لجنة لبحث كتب التهجي والمطالعة التي بأيدي المبتدئين في المعاهد المختلفة لمعرفة مدى فائدتها في تعليمهم مبادئ القراءة والكتابة، ونقدها من جميع نواحيها، ووضع طريقة لتعليم التهجي والمطالعة تكون سهلة جذابة خالية من العيوب التي قد تنطوي عليها الطرق المتبعة الآن، ووضع كتب للتهجي والمطالعة العربية تفي بالغرض المقصود

وقد انتهت هذه اللجنة من وضع تفريرها، ورفعته إلى معالي وزير المعارف. وكان مما جاء في هذا التقرير أن كتب التهجي والمطالعة المستعملة الآن فيها بعض العيوب التي قد تعوق الطفل عن التقدم في القراءة والكتابة، وتحول بينه وبين الوصول إلى النتيجة المرغوبة في زمن وجيز

وقد اقترحت اللجنة اعتماد الأسس الآتية:

أولاً: تربية الحواس عند التلميذ وتقوية ملاحظته اللغوية، وذلك بالبدء بدروس المحادثة الشفوية على أن تدور حول ما يقع تحت حسه، مع ملاحظة أن يكون المنطق سليما قدر المستطاع

ثانياً: متى مرن الأطفال على نطق الكلمات وأصوات الحروف انتقل المعلم بهم إلى تعليم التهجي والكتابة والمطالعة بواسطة الطريقة الصوتية فيبدأ بأصوات الحروف التي تقسم إلى طوائف ومجموعات متشابهة، ولا تعطى دفعة واحدة، ويبدأ بالحروف التي لا تتصل بما بعدها، أو بالحروف المتجانسة في كتابتها

ص: 48

ثالثاً: بعد تعليم الأطفال مجموعة من هذه الحروف تؤلف لهم منها كلمات سهلة واضحة، ثم جمل قصيرة

واقترحت اللجنة أيضاً تجريب الطريقة (الكلية) التي أجمع على استحسانها علماء النفس في الوقت الحاضر وأساسها أن العقل يدرك الأشياء على هيئة وحدات كلية ذات معنى، وأما إدراك تفاصيل هذه الوحدات فإنه يأتي متأخراً. وأوصت بأن يكون تجريب هذه الطريقة مبدئياً في روضة واحدة من رياض الأطفال

التأريخ عند العرب

طُلب الدكتور زكي مبارك أن يحقق أحد كتاب (الرسالة) تأريخ العرب قبل هلاك أصحاب الفيل، وقال: هل يمكن الوصول إلى معرفة ما كانوا عليه (أي العرب) في التأريخ قبل أن ترج أذهانهم واقعة الفيل؟

وقد بسط القول فيها المبحث العلامة المؤرخ شمس الدين السخاوي في كتابه (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) المطبوع بدمشق الشام سنة 1349 فنجتزئ بما يأتي منه:

أما التأريخ الجاهلي فقد روى ابن الجوزي من طريق عامر الشعبي قال لما كثر بنو آدم في الأرض وانتشروا وأرخوا من هبوط آدم فكان التاريخ إلى الطوفان، ثم إلى نار الخليل، ثم إلى زمان يوسف، ثم إلى خروج موسى من مصر ببني إسرائيل، ثم إلى زمان داود، ثم إلى زمان سليمان، ثم إلى زمان عيسى عليهم السلام وقد رواه محمد بن إسحاق ابن عباس

وفيه أقوال أخر: منها أنه كان من آدم إلى الطوفان، ثم إلى زمان نار الخليل، ثم أرخ بنو إسماعيل من بناء البيت، ثم إلى معد بن عدنان، ثم إلى كعب بن لؤي، ثم من كعب إلى عام الفيل. قال الواقدي

وعن بعضهم: كان بنو إبراهيم يؤرخون من نار إبراهيم إلى بنيان البيت حين بناه إبراهيم وإسماعيل، ثم أرخ بنو إسماعيل من بنيان البيت حتى تفرقوا فكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بمخرجهم، ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون من خروج سعد وفهد وجهينة بني زيد من تهامة، حتى مات كعب بن لؤي فأرخوا من موته إلى الفيل، ثم كان التأريخ من الفيل حتى أرخ عمر من الهجرة، وذلك في سنة ست عشرة أو سبع عشرة أو ثمان عشرة

ص: 49

ومنها: أن حمير كانت تؤرخ بالتبابعة وغسان بالسند، وأهل صنعاء بظهور الحبشة على اليمن، ثم بغلبة الفرس. ثم أرخت بالأيام المشهورة: كحرب البسوس وداحس والغبراء وبيوم ذي قار والفجار ونحوه، وبين حرب البسوس ومبعث محمد صلى الله عليه وسلم ستون سنة

أحمد صفوان

1 -

لابن المقفع لا للخليل

ورد في مقال الزواج للأستاذ الكبير العقاد أن الخليل ابن أحمد أجاب وقد سئل في قرض الشعر: أن الذي يرضاه لا يجيئه، وأن الذي يجيئه منه لا يرضاه!

وقد قال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين (الجزء الأول ص 151) في سياق الحديث عن السر في تبريز الأديب في فن من فنون الأدب وتأخره في فن آخر: وكان عبد الحميد الأكبر وابن المقفع مع بلاغة أقلامهما وألسنتهما لا يستطيعان من الشعر إلا ما لا يذكر مثله. وقيل لابن المقفع في ذلك فقال: (الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيئني لا أرضاه). وإني لأحس أن أستاذنا العقاد تطمئن نفسه إلى موافقة الجاحظ، ولأن يصدر هذا الكلام من أديب كبير وكاتب عظيم كابن المقفع أقرب إلى الذوق الأدبي من أن يصدر من إمام لغوي نحوي كالخليل

2 -

شاعر وناقد

فيما دار بين الأستاذين الشاعرين من نقاش حول موضوع الرحلات العربية مسألتان نحويتان أرى الحق في جانب الأستاذ رضوان في الأولى، كما أراه في جانب الأستاذ عبد الغني في الأخرى، وإلى القارئ البيان:

1 -

قال الأستاذ عبد الغني في مقاله الرحلات عن البيروتي (. . . ويعد كتابه الثاني - تاريخ الهند - أوفى مرجع عن بلاد الهند وأملأ كتب الأسفار تعريفاً بها)

وهذا تعبير شاذ لأن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه ولا تصح العبارة إذ صيغت (أملأ) إما من الخماسي، وإما من الثلاثي المبني للمجهول، لأن الكتاب مملوء لا ماليء، والمصوغ منهما شاذ كما هو معلوم من القواعد النحوية التي يجب العمل بها لأنها تستقر إلا بعد

ص: 50

البحث واستقراء الكلام الصحيح. فالصواب ما قاله الأخ رضوان وهو: وبعد المؤلف أملا المؤلفين لكتابه تعريفاً بالأسفار. . .

2 -

قال الأستاذ عبد الغني أيضاً: (وإذا كانت هذه الرحلات الفردية وكثير غيرها قد أضافت بعض الثروة إلى الأدب إلا أنها لم تكن منتجة بالنسبة للرحلات والأسفار). وقد طالبه زميله بإعرابها وبيان جواب إذا وتخريج الاستثناء. وإني أقول للزميل الفاضل: إن هذا التعبير صحيح وارد في كلام العرب، فجواب إذا الذي يبحث عنه ويشتاق إليه محذوف أغنت عنه جملة الاستثناء، وجملة أضافت. . . خبر كان، وأما جملة الاستثناء ففي محل نصب كما وضح ذلك ابن هشام في المغنى. ثم اسمع ما قال الخضري على ابن عقيل عند الكلام على قول ابن مالك (ومفرداً يأتي ويأتي جملة) - ص 93 - وتأمله يطمئن قلبك:(استشكل وقوع الاستدراك خبراً نحو: زيد وإن كثر ماله، لكنه بخيل، مع وروده في كلامهم، خرجه بعضهم على أنه خبر عن المبتدأ مقيداً بالغاية، وبعضهم قال الخبر محذوف والاستدراك منه).

وإلى الأستاذين الفاضلين تحيتي وتقديري.

3 -

النحو في الكلام كالملح في الطعام

غمض على حضرة الأديب احمد الشرباصي هذا المثل المشهور رغم وجه الشبه واشكل عليه ما كتبه الخطيب القزويني في كتابه الإيضاح، فنسب الأديب المثل الى الخطأ والفساد ولم يرى المخرج من الحيرة إلا تحريفه عن الحكمة القائلة: الهزل في الكلام كالملح في الطعام. وأقول إن هذا المثل صحيح لا غبار على صحته لأن مراعاة قواعد النحو مصلحة للكلام لاشك في هذا، كما ان وضع الملح في الطعام مصلح له. فوجه الشبه - وهو الإصلاح بغض النظر عن القلة والكثرة - جلي واضح، وهذا هو نفسه قول الخطيب (فالوجه كون الاستعمال مصلحا والإهمال مفسدا) وهو وجه الشبه إلا المعنى الذي قصد اشتراك الطرفين فيه.

وأما الحكمة القائلة: الهزل في الكلام. . . فالوجه فيها هو التحسين والتمليح ولا يراد فيها الإصلاح (وإن كان ذلك من ضرورات التحسين) لأنه لا يشترط التشبيه ان يشترك طرفاه في كل أمر من أمورهما، فإذا شبهنا شخصا بالأسد لا نريد إلا الجراءة بصرف النظر عن

ص: 51

غيرها من الصفات، وقس على ذلك مثلنا الذائع الصيت بين علماء البلاغ القدامى والسلام على سيدي الأخ ورحمه الله.

بداري علي بداري

مدرس اللغة العربية باسيوط الصناعية

تصويب:

ختم الدكتور زكي مبارك مقاله المنشور بالعدد (417) من (الرسالة) بقول الله تعالى: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون). والصواب: (ينقلبون) من غير سين

حول إبعاد الحيز:

تضمنت الفصول التي نشرتها لي (الرسالة) الغراء بعض الأخطاء التي لا يحسن السكوت عليها، ولذا نصلحها دفعا للبس ومحافظة على دقة العلم وأمانته:

أهديت الفصول إلى الأستاذ الفاضل منصور جرداق: (لا جردان ولا جوداق كما وردت خطا)

(ص 737 ع 1 س 18) سقطت كلمة (مصهورة من العبارة: وهذه الروايات تتميز اول ما تتميز بالفكرة العلمية (مصهورة) في بوتقة الأدب الحي. . .

(ص 741 ع 2 س 6) وردت كلمة (جعفر) وصوابها (جلفر) إشارة إلى: '

(ص767 ع 2 س 25) تصلح العبارة هكذا: أما حقيقتها فهي الاندماج في وحدة (الزمكان) كاندماج الماء والملح في الماء الملح

(ص 768 ع 2 س 2) وردت كلمتا السبب النسبي والصواب (النسبية) الناموس المشهور.

(ص 768 ع2 س 9) سقطت إشارات تفقد العبارة التالية معناها: المسافة=الزمن السرعة=الجذر التربيعي لمجموع مربعات الأبعاد الثلاثة.

(ص 768 ع2 س25) مسرعة خطأ وصوابها سرعتها

(ص 769 ع 1 س 3) تبدل علامة السلب (-) في قانون فتزجيرلد بعلامة المساواة (=)

(ص 769 ع 2 س2) وحدة (الزمكان) وليس الزمان

(ص795 ع1 س 17) وردت كلمة علوي وصوابها عمودي

ص: 52

(ص 795 ع 2 س 16) اسم الكتاب هو:

(ص 795 ع 2 س 29) الصواب (دكستروز

(ص796 ع 1 س 2) ترجمة الضوء المستقطب هي:

(ص 797 ع 1) وردت كلمة ستيد مرتين ولا حاجة بي للقول إن صوابها (سليد) كما جاءت في مرة سابقة

هذا عدا بعض أخطاء بسيطة نغلفها لأنها ليست في صلب الموضوع والسلام.

خليل السالم

ص: 53

‌القصص

الشارب

للقصصي الفرنسي جي دي موبسان

عزيزتي لوسيا:

لا جديد عندنا. نحن نقضي أوقاتنا في غرفة الاستقبال، نتلهى بالنظر إلى المطر وهو يتساقط، وحيث أنه يتعذر الخروج في هذه الأيام العابسة، فإننا نتسلى بتمثيل رواية هزلية، ولكن. . . ما أسخف الروايات التي أعدت لتمثل في الدور، كما وردت في القائمة الحالية!؟

إن كل ما فيها سمج، متكلف، غليظ!. . . ولا يقل فعل النكات التي تشتمل عليها عن فعل القنابل. إنها تحطم كل شيء مع إنه ليس فيها أدنى أثر لا للذكاء ولا للدعاية ولا للباقة!

حقاً إن رجال الأدب لا يعرفون شيئاً عن العالم! إنهم ليجهلون كل الجهل كيف نفكر وكيف نتكلم! فإذا أجزنا لهم أن يمقتوا عاداتنا ومواضعاتنا فلا يسعنا أن نجيز لهم أن يجهلوها. وهم إذا أرادوا التدليل على براعتهم وحذقهم لعبوا بالكلمات لعباً غريباً من شأنه أن يزيل غضون ثكنة بأسرها! وإذا أرادوا بعث السرور لجئوا إلى طائفة من النكات. . . لا أشك لحظة أنهم إنما جمعوها من الشارع. . . من تلك الحانات التي يدعونها (حانات الفنانين)، حيث تتكرر منذ خمسين عاماً ذات النكات، فتناقلها الطلاب ويتوارثونها. . .

اذن نحن نتسلى بتمثيل رواية هزلية، ولما كان تمثيلها يقتضي وجود سيدتين، فقد قبل زوجي أن يقوم بدور الخادم، ولذلك اضطر أن يحلق شاربه. وليس في استطاعتك يا عزيزتي (لوسيا) أن تتصوري مقدار التغير الذي طرأ على زوجي بعد حلق شاربه. . . إنني لا أكاد أعرف. . . لا ليلاً ولا نهاراً!

وإذا لم يترك شاربه ينمو من جديد، فالمرجح أنني لا أتردد في خيانته لشدة ما يبدو لي دميما بدون شارب!

والحقيقة أن الرجل لا يعد رجلاً بدون شارب! أنا لا أحب اللحية كثيراً لأنها تكاد تدل على الإهمال دائماً، أما الشارب. . . أوه الشارب! فإن وجه الرجل لا يستطيع الاستغناء عنه أبداً!

كلا! لا يمكنك أن تتصوري قط إلى أي درجة تبدو هذه الفرشاة الصغيرة من الشعر

ص: 54

ضرورية للنظر. . . ولاسيما للعلاقات الزوجية!

ولقد عرضت لي في هذا الموضوع طائفة من الخواطر لا أجرؤ على التعبير عنها كتابة، برغم استعدادي التام لاطلاعك عليه شفاهياً بصوت خافض وبسرور وافر

إلا أنه قد يتعذر أحياناً العثور على كلمات تصلح للتعبير عن بعض الأشياء؛ وأكثر هذه الكلمات التي لا يمكن الاستعاضة عنها بغيرها تتخذ على القرطاس صوراً فضيةً لا أقوى معها على أن أخط شيئاً منها. . . ثم إن الموضوع نفسه من الدقة والصعوبة بحيث يتطلب لباقة شديدة لمعالجته بدون التعرض لخطر

وأخيراً ماذا يمكنني أن أفعل إذا كنت لا أقدر أن أجعلك تفهمينني جيداً؟

ولكن اجتهدي يا عزيزتي أن تقرئي السطور!

أجل. عندما أبصرت زوجي بدون شارب أيقنت للحال أنه يتعذر علي أن أحب ممثلاً أو مبشراً. . . حتى وإن كان الأب (ديدون) نفسه أوفر المبشرين جمالاً وأشدهم إغراء إذا كان حليق الشارب!

وعندما خلوت بزوجي كانت المصيبة أعظم!. . . أوه يا عزيزتي لوسيا لا تسمحي قط لرجل حليق الشارب أن يقبلك إذ لا يكون لقبلاته أدنى طعم!. . . مطلقاً!. . . مطلقاً!. . . فليس في قبلاته ذلك الفلفل. . . نعم إن الشارب هو فلفل القبلات وبهارها!

تخيلي رقاً جافاً أو رطباً يلامس خدك: هذه هي قبلة الرجل الذي يحلق شاربه. . . إنها بدون شك لا تساوي شيئاً!

وقد يخطر لك أن تسألينني: من أين يستمد الشارب إغراءه إذن؟ وهل تحسبينني أعرف ذلك؟

أول كل شيء الشارب دغدغة لذيذة جداً. . . تحسينه قبل الثغر، فيبعث في جسمك كله من قمة رأسك إلى أخمص قدميك رعشات سحرية تجتاحك كالتيار الكهربائي. . . فالشارب هو الذي يداعب البشرة، وهو الذي يجعلها ترتعش وتختلج، وهو الذي يبعث في الأعصاب ذلك التنميل العذب الذي يجعلك تتنهدين (آه)، كما تفعلين حين يهز جسمك برد قارس!

وعلى النحر! هل اتفق لك أن أحسست بالشارب يدغدغ نحرك؟ إن دغدغته هذه لتسكرك وتشنج أعصابك، وإنما لتنساب في ظهرك إلى أن تبلغ أطرافك، فتتلوين وتحركين أكتافك

ص: 55

حركة خاصة، وتلقين رأسك إلقاءة خاصة أيضاً، وترغبين رغبة قوية في الفرار والبقاء معاً. . . إن قبلة كهذه لتستحق العبادة لشدة ما تبعثه من اللذة وما تحدثه من إثارة وتهيج

وعدا ذلك. . . حقاً إني لا أجرؤ على. . . إن الرجل الذي يحب زوجه يعرف كيف وأين يجد مواضع مختبئة ليدفن فيها قبلاته، مواضع لا تخطر للمرأة حتى عندما تخلو بنفسها. . . وهذه القبلات إذا لم يتقدمها شارب لا يبقى لها طعم، بل أنها لتغدو مخالفة للذوق والأدب!

ولك أن تفسري ذلك بما تشائين؛ أما أنا فأفسره هكذا: الثغر بدون شارب كالجسم بدون ثياب!. . . نعم، لا بد من الثياب، القليل منها إذا شئت، ولكن لا بد من بعضها

والخالق قد ستر بالشعر جميع مواضع الجسد التي يدفن الحب فيها؛ فالثغر الحليق إنما يبدو كينبوع عذب وسط غابة اقتلعت أشجارها

وهذا يذكرني بجملة لأحد رجال السياسة ما زالت تترد في ذاكرتي منذ ثلاثة أشهر؛ فقد قرأ على زوجي ذات مساء في إحدى الجرائد خطبة غريبة لوزير الزراعة السيد (ميلين)؛ ولست أدري إذا كان لا يزال إلى الآن في وظيفته أم حل غيره محله

لم أكن أستمع لزوجي، ولكن هذا الاسم (ميلين) لفت انتباهي؛ قد ذكرني - ولست أدري لماذا - بالحياة في يوهيميا، وخيل إلي أن الحديث يدور على إحدى العاملات المتأنقات؛ فأصخت بسمعي، وهكذا استطاعت بعض الكلمات أن تجد سبيلاً إلى رأسي

والسيد (ميلين) أدلى إلى أهالي إميان - فيما أظن - بالتصريح التالي الذي ما فتئت أبحث عن معناه: لا وطنية بدون زراعة! ولم أهتد إلى معنى هذه الجملة إلا في هذه اللحظة. . . وأنا كذلك أصرح بدوري: لا حب بدون شارب!

وقد يبدو ذلك مضحكا، حين يقال على هذه الصورة، أليس كذلك؟ لا حب بدون شارب!. . . لا وطنية بدون زراعة. . .! لقد كان السيد (ميلين) مصيباً في قوله هذا الذي لم أدرك معناه قبل هذه اللحظة. . .

والشارب ضروري من جهة أخرى، فهو الذي يحدد صورة الوجه فيجعله لطيفاً أو رقيقاً أو قاسياً أو مضحكا أو جريئاً

إن الرجل الذي يرخي لحيته إرخاءً تاماً، ويترك جميع شعره (يا لها من كلمة قبيحة!) على خديه، لا يمكن أن يكون في وجهه شيء من الرقة، لأن الشعر يخفي الملامح، وشكل الذقن

ص: 56

والفكين يدل على أشياء كثيرة، ولكن قل من يفهمها

أما الرجل الذي يترك شاربه، فإنه يحتفظ بهيئته الحقيقية وبرقته في وقت واحد، وللشوارب أشكال متعددة تختلف عن بعضها اختلافاً عظيما، فهي تارة: معقصة، معقوفة، أنيقة. وهذا يبدو عليها أنها تحب النساء فوق وقبل كل شيء آخر!

وهي طوراً: مسننة، مهددة، حادة كالإبر. . . وهذه تميل للخمر والخيل والحرب!

وأخرى هي: غليظة، مترهلة، مفزعة. . . وهذه تخفي عادة طبعاً حسناً وطيبة عظيمة إلى درجة الضعف، ولطفاً لا يكاد يفرق عن الحياء والخجل

ثم أن ما أحبه أكثر من كل شيء في الشارب، إنه فرنسي وفرنسي بحت، فقد تحدر إلينا من أسلافنا الغالين وما انفك يتوارث حتى غدا سمة فارقة من سماتنا الوطنية

والشارب مهذار، شجاع، أنيق. . . فهو يرقص برشاقة في كأس النبيذ، ويعرف كيف يبتسم بظرف، بينا الفك الذي تستطيل لحيته، يبدو فظاً سمجاً في كل ما يأتيه من حركات!

وإليك حادثاً استنفذ جميع دموعي وجعلني أفتن بالشوارب على ثغور الرجال: حدث ذلك خلال الحرب الماضية، وكنت إذ ذاك فتاة صغيرة، واتفق ذات يوم أن جرت معركة شديدة على مقربة من قصر والدي، فأز الرصاص، وقصفت المدافع منذ الصباح، فلما هبط المساء دخل علينا قائد ألماني وأتخذ له مجلساً بيننا، ولم يلبث في اليوم التالي أن غادرنا. . . ثم جاء من أخبر والدي أن في الحقول كثيراُ من القتلى، فأمر بجمعهم وجلبهم للقيام بدفنهم

فجمعوهم ومددوهم على طرفي شارع الصنوبر من أوله لآخره، ولما بدأت تنبعث منها روائح كريهة أخذ الجنود يهيلون عليهم التراب في انتظار الانتهاء من تهيئة الحفرة الكبرى التي تتسع لهم جميعاً، وهكذا لم يعد في الإمكان رؤية شيء من جثثهم، ما عدى رؤوسهم التي كانت تبدو للناظر كأنها تنبت من الأرض صفراء مثلها بعيونها المقفلة و. . . .

فقد تملكتني رغبة قوية في أن أراهم، ولكني عندما أبصرت هذين الخطين الطويلين من الوجوه الفظيعة، شعرت كأنما أغمى علي. . . ثم رحت استعرض هذه الوجوه وأنا أحاول معرفة أصحابها

كانت بذلاتهم الرسمية مطمورة تحت أطباق الثرى، ومع ذلك فقد استطعت فجأة يا عزيزتي أن أعرف الفرنسيين من شواربهم!

ص: 57

كان كثير منهم قد حلقوا لحاهم يوم المعركة كأنما أرادوا أن يكونوا أنيقين لآخر لحظة من حياتهم. . .! ولكن لحاهم قد عادت فنمت قليلاً، لأن اللحى تنمو - كما تعلمين - بعد الموت أيضاً. . . وكان يلوح على الآخرين إنهم لم يحلقوها منذ ثمانية أيام. . . ولكن كلهم كانوا يتميزون بوضوح تام بالشوارب الفرنسية الفخورة التي خيل إلي أنها تقول لي: أيتها الفتاة! احذري أن تخلطي بيني وبين صديقي: إني من مواطنيك!

وقد بكيت يا عزيزتي، أوه بكيت كثيراً، أكثر بكثير مما لو لم أعرف هؤلاء القتلى بهذه الطريقة. . .

لماذا قصصت عليك ذلك. . . لا شك أنني مخطئة. . . فقد بعثت هذه الذكرى في نفسي كآبة شديدة، جعلتني عاجزة عن الثرثرة أكثر مما فعلت؛ فإلى اللقاء يا عزيزتي لوسيا، إني أقبلك قبلات حارة، وليحيى الشارب!!!

(القدس)

إيزاك شموس

ص: 58