الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 420
- بتاريخ: 21 - 07 - 1941
الشيخ محمد عبده
بمناسبة ذكراه السادسة والثلاثين
للأمام الأكبر الأستاذ محمد مصطفى المراغي
عبد من عباد الله الذين اختصهم بمزيد فضله، ومنحهم من صفات الإنسانية الفاضلة ما امتازوا به عن أقرانهم في عصرهم وأمثالهم في عصور أخرى، واشرفوا على الناس يألمون لما عليه الناس من انحطاط علمي وخلقي وأدبي، ويحاولون استبدال أمم أخرى بهم؛ ورجل ممن رزقوا لذة المعرفة، وأفيض عليهم نور العلم الإلهي ففهموا أسرار الدين، وعرفوا السعادة الحق على وجهها، منحه الله قوة في الجسم والحواس، وبسطة في العلم، وعقلاً قوياًّ نفاذاً، وفطرة سليمة، وإلهاماً صادقاً، وشجاعة في الحق، وزراية على الباطل، وقلباً رحيما بالضعفاء والفقراء، وحباً للبذل والإحسان
نشأ الشيخ في عصر من العصور القاتمة، كل شيء فيه ممض مؤلم للنفس الحرة والفطرة الصادقة. فالأمم الإسلامية تنحدر علمياً وسياسياً واجتماعياً إلى أحط الدركات، وليس لطالب الحرية العقلية بينها متنفس، والدين يفهمه الناس على غير وجهه، واللغة العربية اختلطت بغيرها من لغات العجم، والزلفى إلى الله لها طرق لم يشرعها الله، والزلفى إلى الحكام لها طرق لا يرضاها ذو مروءة ذهب ريح المسلمين، وتفلَّت من أيديهم زمام الحياة العامة، وتداعت عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة على القصاع، وليسوا قلة بين الأمم، ولكنهم كغثاء السيل
ذهب يتعلم فتعلم كما يتعلم غيره: قواعد جافة ليس لها حياة تصلها بمنابعها من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، ولا بأصولها من لغة العرب وأساليبهم وأدبهم. وتعلم القواعد في مختصرات رضيها ذلك العصر المظلم لا تفهم إلا بشروح وحواش وصناعة خاصة، فلا اللغة العربية بمسعدة على إجادة النظم والنثر والكتابة والخطابة، ولا على فهم القرآن الكريم وفق الأساليب العربية؛ ولا الفقه بساد حاجة المجتمع وحاجة الحكومات والدول في التشريع والتنظيم؛ ولا دراسة الكلام والمنطق بموصلة إلى الاستدلال الصحيح الذي يطمئن إليه العقل ويقنع الخصم. المتحدث في الاجتهاد وتخير الأحكام لتطابق الأحكام حاجة العصر، ولتلائم أحوال الأمم وأحوال الأزمنة، مبتدع مخالف لما أجمع عليه المحققون. والداعي إلى
سيرة السلف الصالح داع إلى مخالفة سيرة العلماء المبرزين. والداعي إلى كتب الأولين مقصر عن فهم كتب المحققين من المتأخرين. والمنادي بأن كتب الفقه وكتب التفسير وكتب الحديث ملئت بمعلومات خاطئة وبأوهام وقصص لفّقها من قبل علماءُ الإسرائيليات مخالف لما درج عليه صالحوا هذه الأمة وجهابذتها
عاش الشيخ في هذه البيئة العلمية ضيق الصدر مرير العيش. فمن من أصحاب الفطر الصادقة والنظر السليم يؤمن بالقرآن ويعتقد أن فيه هدياً وفيه شفاء، وأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للأمم كلها وللعصور كلها، يؤمن بأن هذه الدراسة الدينية والعربية تخرج للناس إماماً يهتدون بهديه، ويشفي أمراض المجتمع في علمه وخلقه ونظامه، ويضع له القوانين الصالحة والنظم اللائقة
عاش الشيخ في هذه البيئة يلتمس الوسيلة، وتطلب نفسه مخرجاً منه، وتتطلع إلى رجل يشفي صدره ويزيل قلق نفسه، ويشد أزره، ويبصره بالدين وبالحياة، وينضم رأيه إلى رأيه في أن هذا الذي يراه ليس هو الدين؛ وهذا الذي يعيش فيه الناس ليس هو الحياة؛ وهذا الذي يدرسه من الكتب ليس موصلاً إلى العلم الصحيح بل مبعداً عنه؛ وهذا الذي يتعارفه الناس في طرق الدراسة هو غير طرق الدراسة الصحيحة النافعة
مر بهذا الطور ثم أعطاه الله ما كانت تصبو إليه نفسه، فهبط إلى مصر جمال الدين الأفغاني، وهو رجل ثائر على النظم الموجودة جميعها: نظم الدراسة ونظم الحكومات؛ خبير بأحوال الدنيا وأحوال الأمم، عليم بأدوار التاريخ وما تقلبت عليه الأمم الإسلامية من أطوار، خبير بالتاريخ العلمي الإسلامي وبغيره من التواريخ، عالم بمذاهب الأمم ونحلها، عالم بالاستدلال وطرقه، بصير بالدعوة إلى الله سبحانه وبالدعوة إلى ما يريده من الآراء والمذاهب؛ يفقه أغراض الدين العامة، ويحترم العقل ويعرف له قدره، ويضع الرجال مواضعهم لا يعطيهم أكثر مما يستحقون
رجل يمت بصلة نسبية إلى صاحب الرسالة ويرى أن عليه ديناً لجده لا بد أن يؤديه. ذلك الدين هو وقف مواهبه جميعها على تبيين هذا الدين وإصلاح حال المسلمين. وجد الشيخ في السيد جمال الدين بغيته، ووجد ما يشبع نهمه ويشفي صدره ويزيل صدأ عقله ويشحذه، ويرد ذلك الجوهر صافياً نقياً لامعاً كما فطره الله، ثم يملؤه علماً ويقيناً وإيماناً ومعرفة
ويعدهّ للإصلاح
أتم الشيخ دراسته، ولأمر ما أراد الله به كماله، هجر مصر لأسباب سياسية وطوّف في بعض بلاد الإسلام وبعض البلاد الغربية فأكتمل نضجه. ثم عاد واشتغل بالقضاء الأهلي وعرف أساليب القضاء الحديثة من منابعها فصار قديراً على الإصلاح في القضاء الشرعي كما هو قدير على الإصلاح العلمي وإصلاح نظم الدراسة
هيأت له الأسباب جميعها تولي إفتاء الديار المصرية وصار له شأن في إصلاح الأزهر بعضوية الإدارة فيه، وكانت مواهبه وجاهه وخبرته بالدولة ورجال الدولة مما جعله المسيطر على الإصلاح في الأزهر وصاحب النفوذ به
عرف الشيخ أن النفوذ والجاه ووضع النظم وما إلى ذلك لا يكوّن الرجال العاملين ولا العلماء المجددين، وأنه لا بد لهذا كله من أن يضاف إليه التعليم الصحيح وأن يتولاه بنفسه، فقرأ في الأزهر كتاباً قيما من كتب المنطق، وقرأ رسالة في التوحيد، وقرأ كتب الشيخ عبد القاهر في البلاغة وشرع يفسر كتاب الله.
كانت دروس الشيخ كالغيث. أما البلد الطيب فقد خرج نباته بإذن ربه؛ وأما البلد الخبيث فقد خرج نباته نكداً. وكانت دروسه مثلاً عالياً في طريقة الإلقاء والتفهيم وفي العبارات الفصيحة المتخيرة النافذة إلى القلوب. وكانت دائرة معارف يجد اللغوي فيها حاجته والفقيه رغبته والمتكلم بغيته. ويجد علماء الاجتماع فيها تطبيق آي القرآن على معارفهم، وكانت صرخاته المدوية منبهة للغافل ومحركة للجامد. وكانت عاصفة قوية هزت الأشجار الباسقة القوية فسقطت أوراقها الذابلة ثم أورقت. أما الشجيرات الضعيفة والحشائش الدنيئة فأفلتت منها ولم تنتفع بها
عاملان من أقوى العوامل وقفا في طريق الشيخ. عامل الحسد، وعامل البيئة. ومن المحال أن يوجد رجل كالشيخ في صفاته وعلمه لا يحسد. ولو أنه لم يحسد ولو أنه لم يرم بالكفر والضلال ولو أنه لم يشتد حسده ولم يقاوم أشد المقاومة بسبب الحسد لما كان شيئاً يتحدث عنه ولما كان رجلاً من رجال التاريخ وقديماً قال الإمام الغزالي:(استصغر من علماء الدين كل من بالكفر لا يعرف، وكل من بالضلال لا يوصف). والسلاح القاتل الذي يرمي به علماء الدين هو الكفر والزندقة، والمقتل الوحيد الذي يقصد بالسهام في علماء الدين هو
العقيدة.
وأما البيئة فقد أشرت إليها من قبل ولا أبيح لنفسي أن أضرب الأمثال وأقيم الأدلة على أنها بيئة لم يكن من العدل أن ينتظر منها مناصرة الشيخ وقبول آرائه وطرائقه في الإصلاح الديني واللغوي وغير ذلك. ولم يكن من الحق أن يطمع الشيخ في مناصرتها إياه. وبخاصة أنه هاجمها هجوماً عنيفاً لا هوادة فيه وسفّه آراءها في أعز شيء لديها وهو العقيدة. وسبب ثالث له خطره وهو أن جهة ذات نفوذ أظهرت عدم الرضا عن الشيخ وساعدت خصومه. وان جهة ذات نفوذ آخر ساعدته وشدت أزره فظن القوم أنه رجل يريد إفساد الدين وإفساد العلم وإفساد الأزهر. ومن أشد مظاهر الحسد إذ ذاك أن عالماً من كبار العلماء كتب سلسلة مقالات في جريدة المؤيد يحرم فيها تعليم الحساب والجبر والهندسة والتاريخ في الأزهر لأن الشيخ كان أول المشيرين بتعليم هذه العلوم في الأزهر وكاد العناد يكون كفراً.
ذهب الشيخ إلى جوار ربه منذ ست وثلاثين سنة، وكان فضله مجحوداً، وكان يرمي بالكفر والزندقة. لكنه كلما ابتعد الناس عنه بالزمان اقتربوا من معرفته، وزاد المقرون له بالعلم والتقوى والإيمان والغيرة على الدين. والمقرون له بالإصلاح وبالذود عن الإسلام والمسلمين
مات الشيخ وبقيت طريقته في الإصلاح لم تمت، وبقيت آراؤه مدونة في الكتب ومرسومة في صدور تلاميذه المخلصين يورثونها الأبناء والأحفاد. إن ذلك المصباح لا يزال يسطع نوره ولا يزل نوره يمتد في آفاق البلاد الإسلامية وغيرها وسيتجلى للناس جميعهم عندما ينصفه التاريخ ويتقادم العهد أنه علم من أعلام الأمة ومجدد من مجددي الإسلام؛ وأنه أحد رجال السلف الصالح. تأخر ميلاده عن خير القرون لحكمة أرادها الله، فولد في القرن الثالث الهجري
ترك بذور الإصلاح للتعليم الديني وتعليم علوم العربية وبذور إصلاح القضاء الشرعي، وبذور إصلاح المجتمع الإسلامي والأمم الإسلامية. وليس في رجال تفسير كتاب الله من يضارع الشيخ أو يقاربه في تطبيق آي القرآن على سنن الاجتماع، وفي تصوير هدى القرآن، وفي فهم أغراض الدين العامة
ودعته ليلة سفري إلى السودان لتولي قضاء مديرية دنقلة في نوفمبر سنة 1904، فسألني: هل معك رفقاء السفر؟ فقلت: نعم، بعض كتب آنس إليها وأستديم بها اتصالي بالعلم؛ فقال: أو معك كتاب الأحياء؟ فقلت: نعم؛ قال: الحمد لله، هذا كتاب لا يجوز لمسلم أن يسافر سفراً طويلاً دون أن يكون رفيقه؛ ثم قال لي: أنصحك أن تكون للناس مرشداً أكثر من أن تكون قاضياً، وإذا استطعت أن تحسم النزاع بين الناس بصلح فلا تعدل عنه إلى الحكم، فإن الأحكام سلاح يقطع العلاقات بين الأسر، والصلح دواء تلتئم به النفوس وتداوي به الجراح.
وداعبني مرة إثر خروجي من امتحان شهادة العالمية هل تعرف تعريف العلم؟ فقلت له نعم وكنت أحفظ إذ ذاك أكثر تعاريف العلم فسردت بعضها. فقال اسمع مني تعريفاً مفيداً العلم هو ما ينفعك وينفع الناس. ثم سأل: هل انتفع الناس بعلمك؟ قلت له لا. قال: إذاً أنت لست بعالم. فانفع الناس بعلمك لتكون عالماً
ولم يكن يفوته أن يذكر بالقرآن وأن يعتبر بالقرآن كلما ذكرت الحوادث وكلما جدت العبر، ولم يكن يفوته أن يشهر بالظالمين، وأن يثني على المخلصين العادلين. فقد كان يحب الحق أكثر مما يحب نفسه. عاش للعلم وعاش للدين وعاش للإسلام والمسلمين
رحمة الله ورضوانه عليه وعلى إخوانه الأئمة المهتدين
محمد مصطفى المراغي
استقلال مصر
من الجهة التاريخية
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
روى مصريون أن زعيمين من ساستنا باحثا اللورد اللنبي وتدهيا له حتى ألان لمصر جناحه وتطوع لنصرة قضيتها. وزعم آخرون أن مصرياً غيرهما هو الذي حج اللورد حتى سلم بحق المصريين في الاستقلال، ووعد بان يقدم إلى حكومته اقتراحات إذا هي رفضتها استقال، وقد وفى بوعده الذي كان أشبه بحلم منه بالحقيقة الواقعة
وإذا كان في معرفة الحقيقة التاريخية فائدة فإنه يحسن بكل مصري وقف على شيء يتعلق باستقلال بلاده أن ينشر ما عرف، لكي تتضح تلك الحقيقة بأجمعها. ومن هذه القبيل ما يلي ذكره في سبيل المصلحة العامة
في أذيال الحرب الكبيرة الماضية - التي أتلفت الملايين من الأنفس والأموال وانتصر فيها الإنجليز وحلفاؤهم - اضطرت الجيوش البريطانية إلى الجلاء عن تفليس، وباطوم، وعشق آباد، وبخاري، وشمال إيران. ولما حلت الجنود الفرنسية في سورية محل القوات البريطانية لن تفي هذه القوات بحاجة الجيوش التي كان حشدها ضرورياً لقمع الثورات في تركيا،
وإيران، وكردستان والعراق، ولحماية المصالح البريطانية المتعلقة بمناطق البترول القوقازية والعراقية والإيرانية. وكان اللورد كتشنر يصرح بأنه لا يستطيع في أية حال أن يحمي بجيش الهند وحده منطقة في إيران أكبر من منطقة النفوذ التي عينها لإنجلترا الاتفاق الإنجليزي الروسي المعقود سنة 1907. أما المستر لويد جورج، رئيس الوزارة، فقد رأى أن اليونان تستطيع حراسة المصالح البريطانية في آسيا الصغرى، وأراد أن يكلف جيش الهند حفظ المصالح البريطانية الجديدة في الشرق. لذلك شكلت لجنة خاصة تحت رياسة اللورد اشر مهمتها أن تحل مسألة تعديل نظام الجيش الهندي وتكبيره، فأهملت هذه اللجنة قانوناً صدر سنة 1858 وفيه نص صريح على أن الجيش الهندي يجب أن يبقي في الهند، إذ ختمت أعمالها بقرار مضمونه أن هذا الجيش لم يبق في الإمكان اعتباره قوة محلية دائرة أعمالها محصورة داخل حدود الهند، بل يجب عده قسماً من جنود
الإمبراطورية، مستعداً للخدمة في أية جهة من العالم
كانت الحرب العالمية قد وسعت دائرة أعمال ذلك الجيش فأكسبت سكان الهند - ولا سيما المسلمين الذين منهم صفوة الجنود الأهلية - حق إبداء رأيهم في تسوية السلم في الشرق. فلما نشر تقرير اللورد أشر، بعد أن أمضيت معاهدة سيفر، قامت في الهند ضجة غضب؛ ونشرت التيمس يومئذ في عددي 5 و6 من نوفمبر سنة 1920 كتاباً مطولاً من أغا خان نبه فيه أصدقاءه من البريطانيين إلى أن هذه السياسة لا تلائم العلاقات بين بريطانيا العظمى والهند، ونصح بالعدول عن احتلال مناطق البترول وبمساعدة القبائل العربية، مساعدة مالية، لتقوم هي في مقابل هذه المساعدة بحماية معامل البترول وأنابيبه. وقد وقع هذا الكتاب أحسن وقع لدى الرأي العام البريطاني، إذ كان في قلق من كثرة الخسارة في الرجال والمال للجيش القائم باحتلال كردستان والعراق وإيران، البالغ قرابة ألف جندي
هذا، وقد كانت المسألة العربية من جهة أخرى تستوقف نظر البريطانيين لأسباب منها: خلع الفرنسيين للملك فيصل، والحركة الوطنية في مصر، واستئناف المنافسة بين الحجاز ونجد. وقد تبين من تقريري اللجنة التي أرسلت إلى الهند ولجنة ملنر أنه يصعب تكبير الجيش الهندي بعيد الحرب، وأن من الحكمة أن تعدل حكومة لندن سياستها الشرقية. ثم لوحظ أن لكل من بريطانيا وأمريكا مصلحة في مسألة البترول، وأن الدولتين متجهتان إلى زيادة التسلح البحري - الذي يستلزم زيادة الإنفاق - وأن الحكومة البريطانية كانت قد وعدت العرب بمساعدتهم في طلب الاستقلال وصرَحت بموافقتها على مبادئ ولسن المشترطة للصلح
من أجل ذلك كله عقد بالقاهرة في آخر مارس سنة 1921 مؤتمر كبير تحت رياسة المستر ونستن تشرشل وزير المستعمرات يومئذ، حضره الكولونيل لورنس (وكان المستر تشرشل قد جعله وكيل وزارته لشؤون الشرق) وجميع البارزين في السياسة الشرقية الإنجليزية: المس جرترود بل، والمارشال اللنبي، والسير برسي كوكس، والسير هربرت صمويل، والسير جلبرت كلايتون، والكولونيل كورنواليس، وغيرهم، وكان الغرض من عقد هذا المؤتمر أن يحل مسألة إنقاص قوات الاحتلال في إيران، وكردستان، والعراق، ويحل مسألة مصر وبلاد العرب؛ وقد ختم أعماله بالقرارات التالي بيانها:
1 -
التسليم بضرورة تعديل تام للسياسة الإمبراطورية في البلاد العربية والشرق الأوسط.
2 -
إهمال مبدأ الضم والحمايات.
3 -
الاعتراف باستقلال الشعوب الشرقية، ومعاقدتها بمعاهدات تحالف.
4 -
أن يجلس على عرش مصر ملك
5 -
وضع دستور الهند.
6 -
إجلاس الأمير فيصل على عرش العراق، وتولية الأمير عبد الله إمارة شرق الأردن.
7 -
إيجاد طريق إمبراطوري جديد يعبر الصحراء بين فلسطين والعراق ويصل بور سعيد وحيفا ببغداد والبصرة؛ وتنشأ في مواضع مختارة منه محطات للطيارات والسيارات المصفحة تضمن حماية جميع المصالح
أفكانت حجج أولئك الساسة المصرين - التي سلَم اللورد اللنبي بصحتها - هي سبب مؤتمر القاهرة أم سبقت قرارات المؤتمر تلك الحجج فهيأت البريطانيين لذلك التسليم الذي أشبه الأحلام عندنا؟ وهل كفى تصريح 28 فبراير سنة 1922 ومعاهدة سنة 1936 لتحقيق استقلالنا، ولضمان المصالح البريطانية كلها، أم ضحت بريطانيا بشيء لتوثيق الصداقة بينها وبيننا؟
لست أدري، بل لعلي زدت المسألة غموضاً من حيث حاولت المشاركة في إيضاحها فذكرت بعض ما أعرف، وقد يوفق غيري لبيان أدق وأكمل
وحسبنا الآن ما ظهر من أننا حقاً مستقلون للأسباب التي حملت الإنجليز على تعديل سياستهم الإمبراطورية، وعلى الاعتراف باستقلال الشعوب الشرقية، في مؤتمرهم الذي عقدوه في عاصمتنا وما زال أمره خافياً - فيما أظن - على الأكثرين منا، والله أعلم
محمد توحيد السلحدار
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
خطر السياسة على مصاير العلماء - الحياد الأدبي - آداب
بعض الوعاظ - إلى فضيلة الشيخ المراغي - الشيخ عبد ربه
مفتاح - فجيعة لم يستعد لحملها القلب - لا ذنب لي قد قلت
للقوم استقوا - إلى فلان - إلى العلامة وحيد
خطر السياسة على مصاير العلماء
كان ابن خلدون يرى أن الاشتغال بالسياسة لا يليق بالعلماء، وأثر عن الشيخ محمد عبده أنه قال: لعن الله السياسة ومادة ساس يسوس!
فهل تكون السياسة عملاً تنكره الأخلاق أو يأباه الدين؟ وكيف والسياسي الرشيد يؤدي واجباً هو في بعض صوره من أشرف ما يدعو إليه الدين والأخلاق؟
إنما يكره اشتغال العلماء بالسياسة لأنها قد تصرف عنهم بعض القلوب، فلا يملكون الأبوة الروحية لجميع من يصلحون للانتفاع بما عندهم من ذخائر الحكم والآداب، والرجل العالم، هو بطبيعته مركزه أخو الجميع وأبو الجميع، والسياسة قد تجره إلى التحيز لفريق دون فريق، وإن بالغ في التحرز من شوائب الأهواء.
أكتب هذا وقد قرأت في جريدة (الكرخ) أن الجنسية العراقية نزعت من الأستاذ ساطع الحصري وأنه أمسى خارج الحدود!! وهو خبر جزعت له أشد الجزع، وإن لم يكن بيني وبين هذا الرجل من الصلات ما يوجب الانزعاج لما صار إليه من نفي وتشريد، إذا صح أن أهل العلماء يتعافون إلا إذا قامت بينهم روابط من الصداقة والوداد. . . ومن سياق ذلك الخبر عرفت كيف صار الأستاذ ساطع الحصري إلى هذا المصير المزعج فقد عد من المنحرفين عن الصواب في أيام الانقلاب. ومعنى ذلك أنه اشتغل بالسياسة فتعرض لما يتعرض له العلماء السياسيون في بعض الأحيان
إن أهل العراق قد يرون في الأستاذ ساطع الحصري غير ما أراه، وهم أدرى بما تتعرض
له ديارهم من عواصف الخلاف، ولكن الأخوة الأدبية توجب أن نواسي هذا الباحث المتعمق بكلمة عطف، وهي أقل ما نملك في التوجع لمصيره الحزين
لو كان الغيب مما يطلع عليه الناس لرأى قوم أن يسجن الأستاذ ساطع الحصري في مكتبته فلا يشترك في السياسة من قرب أو من بعد، لينقطع لأداء رسالته السامية في التربية والأدب والتاريخ، فله في هذه النواحي أبحاث تضعه في الصف الأول بين كبار المفكرين في هذا الجيل
ولكن الانقلابات العنيفة قد تخرج العلماء من وقارهم المنشود، وتسوقهم إلى معاطب لا يسلم معها أديم، ولا ينفع في دفعها علاج
هذه عبرة جديدة تسوقها الأيام لمن ألقى السمع وهو شهيد
وإن رأسي ليدور كلما فكرت في مصاير العلماء الذين تبلبلهم الحوادث فلا يعرفون إلى أين يتوجهون، وقد أحاطت بهم القواصف والأنواء
كان أسلافنا يدعون إلى الاعتكاف عند هبوب الفتنة، وما كان أسلافنا جبناء، ولكنهم كانوا يعرفون أن الفتنة تخبط خبط العشواء فلا تفرق بين العاصي والمطيع، ولا تدري أين تقع أخفافها الهوج الثقال
وأنا مع هذا قوي الأمل في رجعة الحياة الطبيعية إلى ربوع العراق، ويومئذ يكون من السهل على الحكومة العراقية أن تسمح للأستاذ ساطع الحصري بالعودة إلى البلد الذي خدمه بصدق وأمانة وإخلاص، فلن تكون جنايته السياسية أعظم من كفايته العلمية، ولن يكون في أشنع أحواله مجتهداً أخطأه الصواب
الحياد الأدبي
كانت الجرائد الإنجليزية شغلت بالتنفير من الحياد، فكانت تدعو جميع الأمم إلى إعلان الحرب على الألمان، وكانت هذه الدعوة تقع من بعض الناس موقع الاستخفاف، لأنها في نظرهم لم تكن إلا وسيلة من وسائل التحريض على الأمة الألمانية، والتحريض لا يقبل في كل حين
ثم دارت الأيام بالنحس على المحايدين، فهم كل يوم في بلاء جديد، ولو أنهم خرجوا على الحياد منذ اليوم الذي سمعوا فيه النذير الأول، لقهروا الألمان على الانسحاب من أكثر
الميادين وأذاقوهم الاستهانة بأقدار الشعوب
وفي دنيا المعارك القلمية مذهب دميم هو مذهب (الحياد الأدبي) ولهذا الحياد عواقب سود، لأنه قد ينتهي بأهل الفكر والرأي إلى إيثار السلامة من أراجيف العوام وأشباه الخواص، وإذا آثر المصلح السلامة فعلى الإصلاح العفاء
أقول هذا مناسبة خطاب وصل من أعالي النيل بقلم الأديب إبراهيم محمد إبراهيم، وهو يراني أحجمت عن المضي في شرح أسباب الفقر، مع أن الفقر علة تستحق الدرس والتشريح، وتستوجب التفاف جميع الأطباء
وأجيب بأن الذي يصدني هو (الحياد الأدبي) حياد الأدباء الذين يرون ما أراه في مشكلة الفقر والفقراء، ثم يعتصمون بالسكوت، طلباً للسلامة من أوضار التزيد والافتراء
أستطيع أن أسمي عشرين رجلاً من أصحاب المواهب، وقد هنئوني على القول بالمسئولية الفردية قبل المسئولية الاجتماعية، ومع ذلك لم يتقدم منهم رجل واحد بمقال يشعر الجمهور بأن الرأي الذي أعلنته يصلح للأخذ والرد، ويستحق عناية أهل الرأي والبيان
وفي مقابل ذلك وقف أنصار (الرياء الاجتماعي) متعاونين متساندين ليقولوا فيَّ ما يشاءون على صفحات بعض الجرائد والمجلات، حتى صح للأستاذ صالح جودت أن يتوجع لمصاير أهل الرأي في هذه البلاد
أنا أنظر فأرى أعدائي يزدادون من يوم إلى يوم، الأعداء المجاهرين، أما العداء المكاتمون، فهم أهل للصفح والغفران ولكن أين أنصاري؟
أنصاري هم قرائي، لا زملائي، وآه ثم آه من تخاذل الزملاء!
وأولئك القراء هم الجيش الذي نعتمد عليه بعد الله في نصر قضية الرأي الحر والقول الصريح، ولن يستطيع أحد أن يفسد ما بيني وبين قرائي، لأني اللسان الناطق بما يشتجر في صدورهم من أراء وأهواء، ولأنهم يؤمنون بأن الأدب لن يرتفع إلا إذا تحرر أهله من أغلال الأوهام والأضاليل
وما الموجب للرياء، وما ظفر المراءون بغير الخيبة والإخفاق؟
وما قيمة الدنيا حتى نطلب نعيمها بالتزلف إلى أبنائها الفانين؟
آداب بعض الوعاظ
يجب أن يعرف من لا يعرف أن مجلة (الرسالة) مقررة لمكتبات المدارس الأميرية ومكتبات المعاهد الدينية، ومعنى ذلك أن الأستاذ الزيات ليس له مصلحة أدبية أو مادية في نشر شيء يخالف مبادئ الدين الحنيف، بغض النظر عن مكانته من الوجهة الدينية، فهو موضع الثقة من أكابر رجال الدين، وله أبحاث كريمة في لغة القرآن المجيد
إذا صح هذا - وهو صحيح صحيح - فكيف يستبيح جماعة من الوعاظ أن يسيئوا الظن بكل ما أكتب في مجلة الرسالة عن الدين الإسلامي؟ ومن أين يعرف هؤلاء الناس أن إيمانهم أقوى من إيماني، وتلك علاقة روحية لا يعلم سرها غير علام الغيوب؟
مجلة (الرسالة) تصدر في كل عام عدداً ممتازاً عن الهجرة النبوية، ويشاء الحظ (السيئ) أن أحرص - حين أكتب مقالة لأحد تلك الأعداد - على البعد من الأبحاث التي ابتذلتها الأقلام منذ أجيال وأجيال، لأن روح الإسلام نفسه تنهانا عن الأنس بالحديث المعاد، ثم تكون النتيجة أن تشغل المجلات الدينية بشتمي وتجريحي سنة كاملة بلا ترفق ولا استبقاء
ساقني إلى هذه الزفرة الأليمة ما كتبه أحد الوعاظ في مجلة دينية لا أسميها ولا أسميه، لئلا يغضب عليها وعليه أهل الفكر والرأي والوجدان
وما ذنبي عند هذا الواعظ حتى يشتمني بألفاظ لا يصح صدورها عن رجل يتصدر للدعوة إلى الدين؟.
أيراني كفرت حين أشرت بزخرفة المساجد لنرتاح إليها بعد قضاء النهار في طلب المعاش؟
أيراني كفرت حين قلت بأن الخوف من الوثنية لم يبق له مكان في هذا الزمان، حتى نراعي بعض ما راعاه الأسلاف القدماء؟
وبأي حق يصد رجل مسلم عن إعلان ما يراه في شئون الإسلام؟
ومتى جاز أن يكون في الإسلام صور جديدة لحيوات الأحبار والرهبان؟ سوف ترون مصايركم، يا جماعة الجانين على العقل باسم الدين
إلى فضيلة الشيخ المراغي
إليك - أيها الأستاذ الأكبر - أوجه الحديث فأقول:
ما رأيك في الوعظ والواعظين؟
ما رأيك في جماعة لا يحدثون الناس إلا بغطرسة واستعلاء كأنهم ملكوا مفاتيح الجنة، وكأن رحمة الله لا تساق إلى مؤمن إلا بوحي من هواهم المطاع؟
ما رأيك في بعض هؤلاء وهم يعجزون عن كسب القوت إن رفعت عنهم رعاية الأزهر الشريف؟
إن الدين المسيحي يروض أبناءه على الإيمان بأن في القسيسين نفحة ربانية، ومع ذلك يتأدب القسيسون فيخاطبون أتباعهم خطاب الصديق للصديق، فما عجرفة الواعظ المسلم، والإسلام يدعو جميع أبنائه إلى مناجاة الله بلا وسيط؟
ومن هؤلاء الذين يوهمون الأمة بأن فيها طبقة من الملحدين مع أن محصول الفكر في مصر من الوجه الدينية لهذا العهد، لا يقاس إلى ما وصلت إليه أصغر الممالك في عهد ازدهار الحضارة الإسلامية؟
ومن المسلم الملحد في هذه الأيام حتى يجوز الإغضاء عن إفك بعض المعتدين؟
أنت المسئول - أيها الأستاذ الأكبر - عن تأديب هؤلاء فجرب فيهم سيفك أو عصاك، لينزجروا عن التحرش بالمفكرين من أهل الإيمان
كان يجوز في عهد غير عهدك أن تكون البهلوانية من شمائل بعض المنتسبين إلى الدين، فما عذرهم في التسلح بالبهلوانية وأنت هناك، وفيك من القوة الذاتية والدينية ما يقلم أظافر المرائين والمداجين؟
لا تبق على هؤلاء - أيها الأستاذ الأكبر - فهم حجة الأعداء على أن شمس الإسلام في كسوف. وسيبقى الإسلام على ضيائه برغم أولئك وهؤلاء
إن المخابيل من أعداء الحرية الفكرية هم الذين آذوا سلفك الشيخ محمد عبده، فلا تسمح لقرونهم بالنجوم، ولا تدعهم يحكمون على المؤمنين بالزور والبهتان
الإسلام ديننا نحن، لا دين هؤلاء، فنحن دعاته الأمناء في الشرق والغرب، وعنا يأخذ من يريدون الوصول إلى فهم أغراضه الصحاح، فمن طاب له أن يزعم أن الإسلام في مصر أصبح نزعة طائفية ينتسب إليها فريق ويصد عنها فريق، فهو مارق من القومية المصرية، وخليق بأن ينظر إليه الأستاذ الأكبر نظرة تأديب، لأن أمثال هؤلاء يستمدون قوتهم
المعنوية من الأزهر، وهو من انحرافهم في عناء
الشيخ عبد ربه مفتاح
فجعت مصر منذ أعوام بوفاة رجل من أصحاب المروءات، هو الشيخ عبد ربه مفتاح، وكان شيخ الوعاظ، وإليه يرجع الفضل في تنظيم الوعظ الديني بالأقاليم، وكان له في ثورة سنة 1919 مجال
فماذا خلف هذا الرجل من الآراء؟
الجواب عند الذين دربهم على الوعظ والإرشاد، ولكني أذكر رأيا واحداً يصور حصافته العقلية، فقد كان يرى أن ينتفع الأزهر بمواهب المثقفين المتهمين برقة الدين، لأنه كان يعرف أن التهمة بالإلحاد لا تقوم في أغلب الأحوال على أساس، وإنما تكون فرية يذيعها أصحاب الأغراض، أو تأويلاً خاطئاً لكلام يحتمل التأويل، وكان من حججه أن الأزهر حين ينتفع بمواهب أولئك المثقفين قد يغرس فيهم الجاذبية الدينية، على فرض انهم ينفرون من الدين، أو يحولهم إلى أصدقاء يصعب عليهم التحامل على الأزهر الشريف
والحق أن الأزهريين الشبان يتمنون أن يرفع الحجاب المسدول بينهم وبين أقطاب الفكر الحديث، ليروا دنيا العقل في ثوبها الجديد، وليصح القول بأنهم عرفوا ما عند أشهر المثقفين من مذاهب وآراء
وهنا فكاهة مؤذية ولكنها طريفة: فقد اقترح فريق من طلبة كلية اللغة على فضيلة الأستاذ الشيخ المراغي أن يقوي كليتهم بأصحاب المواهب، ولو كانوا في جموح زكي مبارك وشطط طه حسين!!
أنا والدكتور طه من أصحاب المواهب، بشهادة كلية اللغة العربية؟
هو ذلك، فما يرفض الكرامة إلا لئيم!
أما القول بأننا من أهل الشطط والجموح فهو قول مردود فما عرفوا عنا فيما قرءوا وما سمعوا غير القول بحرية العقل وقدسية الدين
فجيعة لم يستعد لحملها القلب
هي فجيعتي في الشيخ (عبد الوهاب النجار)، أستاذي وصاحب الفضل علي في كثير من
المواقف، والصديق الذي لم أر منه ما يسوء على كثرة ما عانيت من تغير الأصدقاء
كان الشيخ النجار يتأدب بالأثر الذي يقول: (أطلب العلم من المهد إلى اللحد) فلما دعي لتدريس التاريخ الإسلامي بالجامعة المصرية سنة 1918 أخذ يواظب مع الطلبة على دروس اللغة العبرية، وقد عرف منها اكثر مما عرفت، مع أنه لن يُسأل معي أمام لجنة الامتحان!
وحين شبت الثورة المصرية في سنة 1919 تفضل فدعاني ليحدثني أنه يريد أن يؤرخ أيام الثورة على طريقة (الجبرتي) بكتاب يسميه (الأيام الحمراء). ورجاني أن أقدم إليه أخبار الأزهر يوماً بيوم، وكان الأزهر ملتقى الوفود في تلك الأيام والذين نعوا الشيخ النجار في الجرائد اليومية وتحدثوا عن مؤلفاته نسوا الحديث عنها الكتاب، لأنه غير مطبوع، فليعرفوا أني أشرت إليه مرة في جريدة البلاغ، فاهتم الأستاذ عبد القادر حمزة بأمره وطلبه من الشيخ لنشره مسلسلاً على صفحات البلاغ. وقد نشر بالفعل منذ بضع سنين، فأكبر خدمة يؤديها أصدقاء الشيخ النجار لذكراه هي جمع تلك الصفحات في كتاب، لأنها أعظم وثيقة كتبها مؤرخ شاهد الحوادث في سنة 1919
لا ذنب لي. . .
لم تصلح الأيام ما في ذاكرتي من الشذوذ الفظيع: فهي ضعيفة كل الضعف فيما يتصل بالأرقام والأعلام، وهي قوية كل القوة فيما يتصل بالحوادث والمعاني؛ فأنا قد أتمثل حادثة بظروفها وأحوالها في غاية من التدقيق، كأني شهدتها بالأمس، ولكني أنسى اليوم الذي وقعت فيه، وقد أنسي العام والعهد؛ ففي أي يوم أو أي عام أو أي عهد وقع الحادث الذي أروى خبره في العبارات الآتية:
أنكر وزير المعارف في عهد سلف - وذاكرتي تزعم أنه مصطفى ماهر باشا - أنكر ذلك الوزير أن تكون (دار العلوم) مدرسة عالية، لأن طلابها لا يدرسون إحدى اللغات الأجنبية ولأنهم لا يجيدون غير تصريف افعوعل وافعنلل؛ وأنبني على ذلك أن ينكر حقوقهم في (تعديل الدرجات)
فماذا صنع الشيخ النجار في دفع ذلك التحامل البغيض؟
كتب سلسلة من المقالات في جريدة الأهرام تحت عنوان:
(لا ذنب لي قد قلت للقوم استقوا) كتبها بإمضاء مستعار ليسلم من بطش الوزير، في أوقات لم يكن يجوز فيها لأحد الموظفين أن ينشر مقالاً في معارضة أحد الوزراء
وتحققت الغاية المنشودة من تلك المقالات، فتساوى أبناء (دار العلوم) مع أبناء (المعلمين العليا) في (تعديل الدرجات) بعد أن طال العهد بالتفريق بين هاتين الطبقتين من رجال التعليم
فأين من يذكر وفاء الشيخ النجار للمعهد الذي تخرج فيه، يوم تخلى عن نصرته أبناؤه الأوفياء؟
إلى فلان
قرأت خطابك فاستروحت نسائم الحرية حين شهدت غيرتك على الاستقلال، أنت تراه غاية معنوية، لا غاية نفعية، كما يتوهم بعض الناس
وليس المهم أن تستريح الأمم من الكفاح، لأن الكفاح هو أيضاً من الغايات، فما كانت الراحة إلا نذير الموت والفناء
إلى العلامة وحيد الأيوبي
قرأت جوابك، أيها السيد في مجلة الرسالة، وأنت ترى انه يقال للشيخ عجوز وللشيخة عجوز وعجوزة. وأقول إن الشيخة عجوزة فقط، ولا يجوز وصفها بعجوز في لغة هذا العهد، لأن اللغة صائرة إلى التقعيد وهو استنادها إلى قواعد وأصول في جميع الشؤون، بحيث ينقرض الشذوذ الذي يأخذ قوته من السماع
فأنا أقول: زوج وزوجة، وخادم وخادمة، وصبور وصبورة، وقتيل وقتيلة، وجريح وجريحة، وعجوز وعجوزة، لتوكيد التفريق بين المذكر والمؤنث، وهو غرض يقصده البلغاء
فإن احتججت بلغة القرآن فسألقاك بأدلة جديدة توهن ذلك الاحتجاج، بدون أن أخرج عن الأدب في الحديث عن لغة القرآن. وإن آزرك الأستاذ الكبير (ا. ع) فسيكون للأقلام مجال في تحرير مشكلة طال عليها الخلاف، وسنمد لغة العرب بزاد هي إليه في اشتياق، لأنه باب من الحرية في الأداء، ولأنه عون على التحديد والتعيين حين تختلف المعاني
والأغراض، والسلام.
زكي مبارك
في الاجتماع اللغوي
اللهجات العامية الحديثة
الرسم العربي: أثر اللهجات العامية في صعوبته
مظاهر نقصه ووسائل إصلاحه
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
- 6 -
لا ترمز حروف الهجاء في الرسم العربي إلا إلى الأصوات الساكنة (ونعني بها ما يقابل أصوات المد) وأصوات المد الطويلة (الألف والياء والواو). أما أصوات المد القصيرة فيرمز إليها بحركات يوضع بعضها فوق الحرف وبعضها تحته (كُتِبَ كَتَبَ. . .)
ولا تكاد تدون هذه الحركات في عصرنا الحاضر إلا في الكتب الأولية التي تستخدم في تعليم النشء مبادئ القراءة والكتابة. أما فيما عدا ذلك فقد جرت العادة غالباً أن تدون الكلمات في الكتابة والطبع عارية عن الشكل. ومن أجل ذلك أخذ بعض الباحثين على الرسم العربي بعض مآخذ من أهمها ما يلي:
1 -
أنه لا يستطيع أحد أن يقرأ نصاً عربياً قراءة صحيحة ويشكل جميع حروفه شكلا صحيحاً إلا إذا كان ملماً بقواعد اللغة العربية وأوزان مفرداتها إلماماً تاماً، وفاهماً معنى ما يقرؤه. ويردد من يأخذ هذا المأخذ على الرسم العربي ما قاله قاسم أمين من أنه في معظم اللغات الأوربية يقرأ الناس قراءة صحيحة ما تقع عليه أبصارهم وتتخذ القراءة وسيلة للفهم: أما نحن فلا نستطيع أن نقرأ قراءة صحيحة إلا إذا فهمنا أولا ما نريد قراءته
2 -
أن النص العربي الواحد عرضة لأن يقرأ قراءات متعددة بعيدة عن اللغة الفصحى. وذلك أنه قد حدث تناوب واسع النطاق في أصوات المد القصيرة (التي يرمز إليها بالفتحة والكسرة والضمة) في اللهجات العامية كما تقدم بيان ذلك في إحدى مقالاتنا السابقة؛ حتى أنا لا نكاد نجد كلمة باقية في هذه اللهجات على وزنها العربي الصحيح. وتختلف هذه
الأوزان باختلاف اللهجات (خِسِر، خُسُر، يِعمِل، يِعمَل. . . الخ). فالنص العربي المجرد من الشكل عرضة لأن يقرأه أهل كل لهجة حسب منهج لهجتهم في وزن الكلمات
3 -
أنه من المتعذر مع هذا الرسم قراءة أسماء الأعلام (أسماء الأمكنة والبلاد والبحار والجبال والأناس. . . الخ) قراءة صحيحة. ولذلك تضطر بعض المعاجم والمؤلفات إلى تهجي حروف الكلمات التي من هذا القبيل، والنص على حركة كل حرف منها؛ فتقول مثلاُ (صفين بكسر وتشديد الفاء المكسور)، (الغفاري بكسر الغين وتخفيف الفاء) وهلم جرا
وقد قدمت عدة اقتراحات لسد مواطن النقص السابق ذكرها
فتقدم بعضهم باقتراحات ساذجة هدامة لا تكاد تستحق عناء المناقشة. فمن ذلك استبدال الحروف اللاتينية ومنهج الرسم اللاتيني بالحروف العربية ومنهج الرسم العربي. ولا يقوم هذا الاقتراح إلا على مجرد الرغبة الآثمة في تقليد الغربيين؛ إذ ليس ثمة ما يدعو إلى اصطناع الحروف اللاتينية. وإن كان لا بد من السير على طريقة الرسم اللاتيني بصدد أصوات المد القصيرة، فلا يقتضينا ذلك أكثر من اختراع ثلاثة أحرف ترسم في صلب الكلمة بدل الفتحة والكسرة والضمة كما سنذكر ذلك في بعض الاقتراحات الآتية. وأكثر من هذا هدماً لكيان اللغة العربية ما ذهبت إليه طائفة في علاج الرسم، إذ اقترحت إلغاء الإعراب وإلزام السكون أواخر الكلمات، حتى تضيق مسافة الخلف بين رسم الكلمة ونطقها في اللهجات العامية المستخدمة في المحادثة، فتسهل على الناس القراءة، ويتخلص الرسم العربي من بعض عيوبه. وقد كفانا أستاذنا الجليل أحمد لطفي السيد باشا مئونة الرد على هذا الاقتراح بما عقب عليه في الشئون الاجتماعية إذ يقول:(وهذا الرأي مطعون فيه من وجهين: أما الأول فإنه لا يحل من المسألة إلا بعضها دون البعض الآخر؛ لأن ضبط حركات الحروف ليس ضرورياً في الإعراب فحسب، بل هو أشد ضرورة في بنية الكلمة. وهذا الضبط من جواهر اللغة؛ فإذا أهملنا الإعراب وأهملنا الشكل ولم نأت بطريقة تقوم مقامه ظل الناس يلفظون الكلمات على غير وجهها الصحيح كما هم الآن يفعلون. وأما الوجه الثاني فإن هذا في الرأي إهدار لصورة اللغة العربية وقضاء على أهم مميزاتها. وذلك مالا نظن أحداً يرضاه، خصوصاً متى أمكن تسهيل تعليم اللغة وشيوعها من غير الالتجاء إلى العبث بسلامتها ومميزاتها)
واقترح بعضهم إدخال الشكل في بنية الكلمة حتى لا يتخطاه نظر القارئ؛ وذلك بان تخترع حروف للرمز إلى أصوات المد القصيرة (التي يرمز إليها الآن بالفتحة والكسرة والضمة)، وتدون هذه الحروف في صلب الكلمة في مواضعها. فلتدوين كلمة (كتب) مثلاً يرسم بعد كل من الكاف والتاء والباء الحرف الذي سيخترع للإشارة إلى ما تشير إليه الفتحة في رسمنا الحاضر. وهذا هو المنهج الذي يسير عليه الرسم الأوربي وينتصر لهذا الاقتراح عدد كبير من الباحثين على رأسهم أستاذنا الجليل أحمد لطفي السيد باشا.
واقترح آخرون أن يكون لكل حرف من حروف الهجاء العربي أربع صور مختلفة: صورة في حالة تحركه بالفتح؛ وأخرى في حالة تحركه بالكسر؛ وثالثة في حالة تحركه بالضم؛ ورابعة في حالة تسكينه. وهذا في مجمله هو المنهج الذي يسير عليه الرسم الحبشي.
وترى جماعة بالاكتفاء بالتزام الشكل في المطبوع والمكتوب حتى يستطيع كل فرد أن يقرأ ما يقع عليه نظره قراءة صحيحة
والذي أراه أن الصعوبة التي يشتمل عليها الرسم العربي لا يكاد يخلو من مثلها، بل مما هو أشد منها، أي نوع من أنواع الرسم. فاللبس الذي يحدثه أحياناً الرسم العربي ليس شيئاً مذكوراً بجانب اللبس الذي يحدثه الرسم الإنجليزي مثلاً، وخاصة في النطق بأصوات المد ، ، ، ، ، ، ، ، ، ،. . فكثيراً ما يختلف النطق بالصوت الواحد من هذا النوع وغيره تبعاً لاختلاف الكلمات التي يرد فيها؛ حتى أنه يستطيع قراءة معظم الكلمات الإنجليزية قراءة صحيحة بمجرد النظر إلى حروفها؛ بل لا بد في ذلك أن يكون القارئ قد عرف نطق الكلمة من قبل عن طريق سماعها من إنجليزي. كما أنه لا يستطيع كتابتها كتابة صحيحة بمجرد سماعها؛ بل لا بد في ذلك أن يكون قد حفظ حروفها - من قبل عن ظهر قلب -. وفي الحق أن الرسم العربي ليعد من أكثر أنواع الرسم سهولة ودقة وضبطاً في القواعد ومطابقة للنطق
أما وجوه الإصلاح التي أشرنا إلى بعضها فيما تقدم فيظهر لنا أن ضررها أكبر من نفعها، فمعظمها يطيل رسم الكلمة أو يزيد من حروفها، وفي هذا إسراف في الوقت والمجهود والنفقات المادية وشؤون الطبع. . . وما إلى ذلك. هذا إلى أن كل تغيير جوهري يدخل على الرسم من شأنه أن يحول - عاجلاً أو آجلاً - بين الأجيال القادمة والانتفاع بالتراث
العربي. حقاً إنه يمكن اتقاء ذلك بالالتجاء إلي إحدى محاولتين؛ ولكن كلتيهما توقع في صعوبة تزيد كثيراً عن الصعوبة التي تعمل على إزالتها. أما إحداهما فأن يتعلم كل فرد نوعين من الرسم العربي: الرسم القديم الذي يتيح له الانتفاع بنتاج الفكر العربي من النشأة إلى العصر الحاضر؛ والرسم الحديث الذي يقرأ به ما يدون بعد هذا الإصلاح ويستخدمه في كتابته، ولا يخفي ما يترتب على ذلك من الارتباك، وإطالة الزمن الذي تعلم فيه القراءة والكتابة، وانفرادنا من بين سائر الأمم بأعجوبة في ميادين الرسم والتعليم. وأما الأخرى فأن يعمد إلى جميع ما كتب أو طبع بالرسم العربي القديم فيعاد تدوينه وفق هذا الرسم الحديث، ولا يخفى أن مشروعاً هذا شأنه تنوء به الجهود الإنسانية وتعجز الخزائن عن تموينه على أن من اليسير اتقاء وجوه اللبس التي أشرنا إليها بدون الالتجاء إلى أي إصلاح من الإصلاحات الآنفة الذكر. فمن الممكن التغلب على هذه الصعوبة بالتزام شكل الكلمة التي من شأنها أن تثير اللبس عند أواسط المتعلمين إذا نزلت من غير شكل، أما الكلمات التي يدل السياق على شكلها، أو يكفي إلمام بمبادئ القواعد العربية للنطق بها على وجهها الصحيح، أو لا يمكن أن ينطق بها في صورة أخرى، فمن العبث الالتجاء فيها إلى الشكل
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة باريس
القيم الأخلاقية في الآداب الإنجليزية المعاصرة
للدكتور توماس جرينوود
أستاذ الفلسفة بجامعة لندن
لأجل أن نقف على وجهة النظر الأخلاقية في كتاب الإنجليز الحديثين يجب أن نعرف تلك الميول العامة التي دفعتهم إلى تلك الاتجاهات الجديدة وجعلتهم يثورون على نظم وتقاليد العصر الفكتوري. فإن عظمة الحكم الفكتوري قد انعكست في ذلك الإلهام الذي ألهم كتاب العصر ما كتبوا عن الفكرة العامة عن النظام والوجهة المنظمة للعالم، واحترام التقاليد، والخضوع للقانون الأخلاقي، واحترام الفضيلة والتسامي بها، وعدم ذكر الرذيلة إلا للتشهير بها، اللهم إلا بعض الكتاب الثائرين (كسوينبرن) الذي كان أوسع حرية في الأخذ بتلك الآراء. إن رسوخ الأخلاق في الآداب الفكتورية قد اختفى تماماً في الكتاب المعاصرين لأسباب منها الحرب العظمى، والنزعات العلمية والاجتماعية والاقتصادية الحديثة، وتدهور القيم الأخلاقية العامة، واتخاذ كل شيء شكلا جديداً
فكان (شو) و (ولز) كبار الرواد الذين سخروا من العصر الفكتوري وهدموا أسسه الأخلاقية. أن الضرر الذي لحق ذلك العصر من جراء هذين الكاتبين لا يوازن بتلك الأفكار الخيالية المثالية التي جاء بها ولز. وكان من آثار هذا الهدم العنيف أن ترك الجيل الجديد بدون مرشد، وأصبح يتعثر في سيره ويتخبط في عمائه واضطرابه. وهذا أوضح ما يكون في القصة. فعندنا نماذج خمسة من القصة: المخاطرات، ثم المواقف الغربية الشاذة (مع التناقض القوي بين الحوادث الحقيقية والمتخيلة)، ثم الاجتماعية والنفسية، ثم السير (وهنا يذكر الكاتب مثالاً لكل منها ليظهر كيف أن المؤلفين قد تأثروا بتلك الأسباب التي ذكرناها، وكيف أن القيم الأخلاقية قد أصبحت في عماء وفوضى). وهذا يظهر جلياً في قصص أولئك المؤلفين الذين كانوا أشد تأثراً بالنظريات النفسية الحديثة
وعندما يشير الكاتب باختصار إلى كتابات باري وولبول وبيريسفورد وبلا كوود وسنكلير وفيرجينا وولف وغيرهم يعرض لثلاثة من أشهر كتاب القصص وأبعدهم أثراً في الأدب الحديث وهم: جيمس جويس ولورنس وألدس هكسلي
ففي جويس نجد المسائل النفسية مشروحة على الطرق الحديثة، فهو يصف لنا بدقة فائقة
التطورات النفسية لأبطاله. وهو لا يقيم وزناً كبيراً للحوادث فهي متساوية الأثر لديه. فالحياة في نظره ليست أكثر أهمية في مكان منها في مكان آخر؛ وهو يكشف لنا في قصته (أهالي دبلن) و (صورة الفنان كشاب) عن مقدرة فائقة واستعداد أدبي ممتاز. ولكن (يوليسيس) أعظم قصصه التي تظهر لنا بوضوح فوضى أخلاق أبطاله. ومع أنه يدعى أن حوادث قصته تصل بأبطاله الذين أوجدهم في هذه القصة، إلا أن الناس أميل إلى الاعتقاد أن مستر بلوم مثلاً شخصية مألوفة في الحياة الإنجليزية. وليس هناك فن أوضح لوصف كل الأفكار المريضة للرجل العربيد من أن يصف حوادث حدثت في حجرة الاستقبال أو على مائدة العمل. فالإنسان في نظره ليس فاضلاً، وهو من أجل هذا يجب أن يكبح أهواءه الدنيئة مستعيناً بذكائه وعقله
وجويس مع ذلك لا يدافع عن أخلاق أبطاله، فإن معالجته لفن القصة وأسلوبه القوي النشيط ومادته الغريزة، كل أولئك يساعد على إظهار أبطاله كما يريد أن يبرزهم لا أن تخفيهم أو تستر بعض عيوبهم. وهذا ما عمله لورنس، فإن كل كتاباته لا تدور حول الجنس فحسب (مع استثناء بعض قصصه الوصفية الجميلة) ولكنه يدافع عن آرائه في حرية الحب وغياب الروحية وازدراء القيم الأخلاقية والثورة على النظم الثابتة والتقاليد القديمة في العلاقات الجنسية والاجتماعية
وهنا ذكر الكاتب بعض مقتطفات من قصته (قوس قزح) مدللاً على صحة هذه الآراء
أما هكسلي فإن دفاعه عن آراء لورنس في حرية الأخلاق قد اتخذ شكلاً فلسفياً، فهو يحاول (قصداً) أن يظهر أن هذه الفوضى الأخلاقية هي النتيجة العقلية لتحليل النفس الحقيقية.
لقد تعرضنا في هذه الإلمامة النقدية للقيمة الدبية لكتابات أولئك المؤلفين؛ وهذه القيمة نفسها تعرض أخلاقهم إلى خطر عظيم، فقد وقع الكتاب الثلاثة في أزمات نفسية خاصة وليست شائعة عامة بين الناس. وعلى هذا فمن الخطأ أن نعتقد أن هؤلاء الكتاب على أي حال أو في أي صورة المظهر الأخلاقي الحقيقي للعقل الإنجليزي
وأخيراً أظهر الكاتب أنه بالرغم من تأثير أولئك الثائرين فإن الأدب الإنجليزي المعاصر لديه مؤلفون عديدون يدينون بالآراء القديمة؛ فهم محافظون على تقاليدهم الموروثة؛ أمثال: ميروث وجولزورث وبنت وكونراد وجيروم وتشسترتن؛ حتى هاردي يمكن أن يعتبر أنه
أميل، أو أكثر إخلاصاً وأمانة إلى الأخلاق والتقاليد القديمة، التي هي من الأسباب الجوهرية في عظمة الشعب الإنجليزي.
نظمي خليل
جيل وجيل
إلى أين يسير الإنسان!
للأستاذ محمود البشبيشي
- 5 -
التعليل الروحي قيد الشخصية - التعليل العملي مطلق للمجموع - الميول والعواطف العامة تعمم التعليل الروحي - والتأمل الخاص يخصصه - الحيوان والتجربة! - التعليل الروحي والعملي والفكر الأدبي
. . . نصل نقاشنا اليوم بصورة من اتجاهات ولدنا الأديب (حسين) الفلسفية، فلا سبيل إلى إرضاء هذه الفورة الفكرية إلا بتشريح خواطرها المتدفقة، تشريحاً لا تنزل صوره إلا بمنزلة اليقظات الحسية، والأقباس الفكرية اللماحة
وحديث اليوم نسيج وحده، وجدت في مسايرته نشوة الفكر الحر إذا انكشفت أمامه مخبآت الفكر الإنسانية. . . ورأيت من الخير أن أتابعه إلى أقصى حدود المتابعة، وأتنقل معه من شاطئ فكر إلى شاطئ فكر، لأسبر غور اليقظة الحسية والفكرية في عقل متوثب من عقول الجيل الجديد، ولأرى كيف يمكن عقد صلة بين حياتنا الفكرية وبيننا
ولقد رأيت الكثير وعلمت الكثير ودفعني هذا العلم والتأمل إلى مواصلة النقاش، ففيه نشوة روحية ولذة فكرية ونوع من التعبير جديد عامر بنفائس المعاني وكرائم الاتجاهات، لا يمله القارئ الراغب في التسلية، وتجد فيه العقول الراجحة الوزينة أطايب وأطايب
- لاشك يا بني أن الإنسان بما ركب فيه من أحاسيس ومشاعر، وما اختص به من عقل متأمل له القدرة على تفهم ما يدور حوله وما يضطرب في أيامه من تغيرات معنوية ومادية. . . ولا شك أن قدرته على تفهم دقائق الأسرار تختلف كل الاختلاف وتتفاوت كل التفاوت تبعاً لقدرة الفرد على التغلغل في ظلمات الفكر، والتأمل في بدياتها ونهايتها، وإدراك الصلة بين هذه البداية وتلك النهاية. . . ثم تبعاً للقدرة على التعليل والوصول إلى النتائج
وكما اختلف الإنسان في جوهر العقل كان اختلافه في كل ما يصدر عن العقل وما يترتب
على نتائجه
- جميل هذا، ولكني أعتقد أن مظهر التعليل أهم مظاهر الفكر التي يقع بينها التفاوت، بل إني لأعتقد كل الاعتقاد أن للتعليل الخطر الأكبر في كل ما تقوم عليه الحياة الفكرية والعلمية، يظهر أثره في الشروع في العمل وفي حالة القيام به، ويبدو واضحاً فيما تتكشف عنه النتيجة. . .
ففي استطاعة كل إنسان أن يشعر بوجود ما يثير التفكير من موضوعات معنوية أو مادية، خاصة أو عامة، طبيعية أو غير طبيعية، ذلك لأن جوهر العقل المدرك مشترك في المجموع.
ولكن التفاوت قد يقع، بل لا بد أن يقع فيما وراء مرحلة الإدراك من تصرفات فكرية، كشعور الإنسان بإحساس خاص نحو موضوع اعتراضه، أو رغبته القائمة على هذا الشعور في سلوك مسلك خاص نحو هذا الموضوع؛ وكما وقع الاختلاف في مرحلة الإحساس الخاص والسلوك الخاص يحدث في القدرة على التعليل لأن هذه المرحلة تصل معاني الإحساس الخاص والسلوك الخاص يحدث في القدرة على التعليل لأن هذه المرحلة تصل معاني الإحساس بمعاني ووسائل السلوك
- حسن هذا يا بني، وجميل أن نتأمل (التعليل) تأملا أوسع نطاقاُ، ونحاول أن نستشف أسراره. . . عرفنا سر اختلافه فما هي صوره؟ وإلى أي مدى تتأثر الحياة بتلك الصور؟ ورأى مظهر من مظاهره أجدى على المجتمع؟
التعليل نوعان: تعليل روحي وتعليل عملي. أما الروحي، فهو وليد الفكر، يسير على ضوء أقباسه وتكون نتائجه صوراً فكرية أساسها التصور والتخيل؛ والعملي وهو في حقيقته صورة لتعليل روحي انطلقت من قيود التخيل والتصور ووجدت الوسيلة القادرة لتتجسد بالعمل أو بالقياس، ووسيلة الإتقان في العمل والصدق في القياس هي التجربة
- وعندي يا والدي أن التعليل الروحي قيد من قيود الشخصية! لأنه مختلف متفاوت، ومن اختلافه وتفاوته تتميز الشخصيات
فهذا رجل قاتم الروح، تخرج نظراته إلى الأشياء من ألوانها القاتمة، فما من فكرة له وعمل إلا وفيه صورة من صورها، وإنه لسالك السبيل حتى يصبح سمة يعرف بها ولون تتكون
منه شخصيته، وباختلاف ألوان الروح تختلف الشخصية
ولما كان التعليل صورة من صور الروح والعقل، ومظهراً من مظاهر الشخصية، كان طبيعياً انه إذا اشتد وتمت له الغلبة على الشخصية نفسها، وعلى سائر مكوناتها، أو تخطى حدود التوازن بينه وبينها. . . انتقل بالإنسان من قيد الشخصية الفردية إلى أفق الإنسانية العامة. . . فإذا به قد صب في قوالب من صور المجتمع، واستطاع أن يغالب نوازع النفس الفردية بعد أن كان الحكم والغاية فيه للتصور والتخيل والذوق الخاص، لا للميول الاجتماعية والخير العام
- رأيتَ يا بني أن التعليل الروحي من مكونات الشخصية، وإنه في أول أمره يكون من سمات الفردية، فإذا تمت لها الغلبة على سائر مكونات الشخصية، انتقل بها من نطاق الفرد ومنافعه الخاصة إلى أفق المجموع ومنافعه العامة، هذا حق ولكن يحسن أن نجلي عنه قليلاً فنقول: إن التعليل الروحي إذا غلب عليه التأمل الخاص أصبح صاحبه محباً للأثرة؛ أما إذا مسه شعاع من أقباس الميول العامة والعواطف، كان طريقاً ممهداً إلى مسايرة منافع المجتمع الإنساني وملابسة تقلباته وتطوراته، أو كان سبيلاً إلى معارضة تلك المنافع ومحاربتها. . .!
فهذا رجل نبيل الروح تظهر روحه النبيلة في مظاهر تعليله، ويقف تأثيرها في أول الأمر أو في حالة التوازن بينها وبين شخصيته عند منفعته الخاصة. إما إذا قهر هذا التعليل الروحي النبيل سائر مكونات شخصيته جعل منه صحاب ميول اجتماعية إنسانية سامية؛ فهو بما فطر عليه من نبل يعمل على إسعاد المجتمع وتقويم أوده. . .
وذاك رجل غلفت روحه بالأثرة والطمع، وطغى ذلك على مذاهب تعليله؛
فهو يتخبط في ظلمات أثرة محدودة بأطماع مقيدة في أول أمره؛ ثم إذا تمت الغلبة لتعليله الروحي وقهرت شخصيته، انطلق انطلاق الطائر الحبيس تفتحت أمامه آفاق السماء، فراح ينتهب من هنا وهناك، ويحلق هنا وهناك، وكان في جميع أموره مقدماً منفعته، معارضاً الخير العام
- وأرى يا والدي أن التعليل العملي سبيل من سبل إسعاد المجتمع. فما كانت الآلات ووسائل العلاج المختلفة إلا وليدة تعليل عملي، تأمل في أحوال الكون، وقارن بين ما فات
وما هو آت، وربط التجاريب القديمة بالنظرات الحديثة، ووقف عند كل ظاهرة من ظواهر الحياة وقفة الفكر العملي الذي لا يقنع بزاد التخيل، ولا يرضى بعتاد التصور!
ولقد كان الإنسان في فجر أيامه تيهان هائماً، وكان موقفه من مشكلات الأمور موقف العجز المطبق أو القدرة المقيدة تغيم الدهشة في رأسه إذا طوقته الحادثات، وتضطرب الحيرة في فكره إذا بدهته الملمات!
كل أعماله تنم عن نقص في التدبير، وكل تصرفاته تدل على قصور في التفكير، وما من طريق سلكه إلا هتك عن جهل بمغالبة الأمور
ولقد ظلت أموره إلى عهد غير بعيد مشدودة إلى ماضيه بقيود من المنافع الخاصة والنظرات الروحية! أما اليوم فقد تحول تحولاً كبيراً، وانقلب انقلاباً خطيراً. . .
أفلم يساير الزمن في تقلباته، ويلابس التقدم العقلي في تصرفاته؟ أو لم يناوص ويصاول حتى أدرك أسراراً لم يكن ليستشفها إلا الفطن الذي تحفزه فكرة وعقيدة؟!
ولقد ملك اليوم ناصية فكرة وعقيدة مهما يكن مكانها من الخير أو الشر فهي من علائم اليقظات الحسية! وجماع القول في تدرج الإنسان، ومسايرته للزمن، وملابسته للتقدم العقلي، إنه كان روحي التعليل فاصبح عملي التعليل، وانتقل من لا نهاية التخيل والتصور إلى حدود التجربة والعمل
وكان في انتقاله هذا إدراك لما لا يناله غوص التخيل وتحقيق لما لا يسبر غوره تغلغل التصور، ولم يعد الإنسان ذلك المكدود المجهد اللاغب المدلج الحائر
ولكن هذا التطور جلب شراً خطيراً كما حقق خيراً كثيراً
وأكبر الظن أن الإنسان سيظل مندفعاً في سبيل التعليل العملي وحده والتجربة خاصة، حتى يصل إلى غاية تنقلب فيها الأمور إلى أضدادها! وما ذلك ببعيد. وهل كانت هذه الحرب الضروس إلا صورة لفساد المذهب التجريبي العملي التعليل؟
تلك صور الإنسان، فما صور الحيوان؟ عندي أن الحيوان عملي التعليل يسير على ضوء التجربة وينهج نهج الخبرة السابقة، فكل أعماله غير الغريزية لا تكمل صورها إلا بالتكرار والتجربة ولذلك الاعتقاد عندي علل وأسباب
فهو محروم من التعليل الروحي الكامل المعاني، لحرمانه من صور العقل الكامل وهذا أمر
لا يحتمل الجدل؛ ثم هو عاجز كل العجز عن ملائمة نفسه بالبيئة التي تحيط به، والقدرة على الملائمة من قواعد الحياة الثابتة، التي تقوم على ضوء أقباس العقل الكامل، وإشعاع التعليل الروحي!
ثم إني لألمس هذا القصور عن بلوغ مواطن التعليل الروحي عند الحيوان، حتى فيما يرتكز على غرائزه الثابتة؛ فهذا حيوان يأكل العشب الأخضر، تراه يلتهم ما أمامه بغير تأمل، فهو لا يميز بين الضار وغير الضار، لحرمانه من التعليل الروحي؛ ولكنه بالتكرار والتجربة، يستطيع أن يدرك أن هذا النوع الذي أصابه منه ضرر جدير أن يبتعد عنه، وهو حتى في هذه الحال بطيء الإدراك، بطيء الفهم لوسائل التكرار والتجربة، فلو غيرت ظروف البيئة الأولى لوقع فيما وقع فيه أولاً!
أما أثر التعليل الروحي في الأدب فيبدو واضحاً جلياً في خطرات النفوس الشاعرة، ونظرات القلوب الفنانة الساحرة، وإنه ليكون اكثر وضوحاً في نفاث الشعراء الغزليين، ونغمات الكتاب الوجدانيين، وفي كل أثر من أثار الفكر السابحة في سماء من الخيال المجنح الذي لا يعرف القيود، ولا يعترف بالحدود! ومثل هذا التعليل لا يقوم إلا على التصور والتخيل، فهو من شواهد اليقظة الروحية، ولكن أثره لا يمتد إلى آفاق التعليل العملي، القائم على التجربة والقياس، وإن كان أصحابه من الشعراء والكتاب يحلقون في سماء الخلود الفكري. فغاية التعليل الروحي تغلب عليه الشخصية وتكسوها الفردية. فالشاعر الوجداني إنما يُشرح خواطر قد انبعثت من تقلبه في غمرات من الآلام الخاصة، واضطرابه في طوارق من الأوجاع والأسقام، فأثاره مقيدة بقوة تأثير ما يضطرب في حياته
والشعراء والكتاب الذين ينهجون نهجاً وسطاً بين الروحي والعملي هم بناة صروح الحياة، فما كانت الإنسانية في حاجة إلا للثبت الذي يستطيع المجانسة بين قوة التعليل الروحي وانطلاقه وقوة التعليل العملي وقدرته، وخير المصلحين من جمع بين فلسفة الفكر وفلسفة العمل والتجربة
- رائع هذا يا ولدي ولكني أميل إلى جعل التعليل الروحي شديد الصلة بالشعر وسائر أنواع الفنون كالرسم والنحت والموسيقى، فما سمعت مرة قطعة موسيقية روحية إلا
وأحسست بأنغام سماوية تكاد ترتفع بي من عالم الأرض إلى عالم السماء، وتطهرني من معاني التراب الحقيرة، وتكسوني معاني الروح التي لا تعرف الحدود. . .
ويا سحر الشعر الروحي الوجداني. . . يا سحره!
استمع إلى المعاني كيف تنطق وكيف تتراقص من سحر الفن ونور الروح وشفافية الوجدان! تأمل الألوان النفسية الساحرة تسطع من أزاهير قول الشريف الرضي:
أينعت بيننا المودة حتى
…
جللتنا والزهر بالأوراق
نحن غصنان ضمنا عاطف الوج
…
د جميعاً في الحب ضم النطاق
في جبين الزمان منك ومني
…
غمرة كوكبية الائتلاق!
وتأمل قول القائل وقد فاض به الوجد:
أيامنا جدول والحب زورقنا
…
هيهات يحفل بالأمواج ترتطم!
لا يدرك القلب ماضينا وحاضرنا
…
وفي نعيم الهوى أيامنا عدم
نعيش في عالم ألوانه حُلُم
…
في شارد من خيال الفن ترتسم
قد كان صفو الهوى دنيا منمقة
…
وكان في بهجتينا الحب يبتسم
ولّى فيا لوعة ألقت بعاصفة
…
على فؤاد ترامت حوله الظلم!
وانظر قول الشاعر:
حدثتني الرياض عن لفتاتك
…
وحكت لي النجوم عن لمحاتك
وطيور الغدير بحت من الشدو (م)
…
بلحن الجمال من صدحاتك
وسمعت الأمواج تهمس للشط (م)
…
حديث المجنون عن قسماتك
وضمير الجمال جن من الوجد (م)
…
وذاب الهوى على زهراتك
اذكريني يَعُدْ ضميري للنور (م)
…
ويحيى الفؤاد في ذكرياتك!
ويا سحر قول الشاعر محمد عبد الخالق الجبار يصف الشباب:
أنغامه الأيام وقعها الهوى
…
والصمت من أصدائها تغريد!
ملك على عرش المعاني جالس
…
من حوله للساريات عبيد!
إطراقة التاريخ حول جبينه
…
تكبيرة يجثوا لها داود!!
محمود البشبيشي
النجوم تقرر مصير الحرب.
. .!
وقع في يدنا تقويم قمري أخرجه السيد أمين الحسيني الفلكي في بدء العام الهجري الحاضر، وقد وردت به نبوءات عن الحرب، ويلاحظ القارئ أن كثيراً من هذه النبوءات قد صح
قال عن ألمانيا: أنه أمد حربها مع الديمقراطية سيطول وستزداد المعارك شدة، ولكن الأفلاك تقول إن قوتها بدأت في الانحطاط وأن هتلر لن يتمكن من تحقيق أمانيه في حكم العالم وانه سيسقط في مستقبل الأيام هو وشعبه، وإن بدا أنه سيظفر. فهناك شراك خطة ستكون السبب في سقوطه وستحدث ثورات في البلاد المحتلة. أما هتلر فسينقلب عليه أعضاء حزب النازي ويخونونه. وسيحاول في الصيف أن يغزو الجزر البريطانية ولكنه سيفشل لأن خطوط موصلاته ستقطع من البحر ولن يجد سبيلا للعودة وسيثور عليه أعداؤه من خلفه حتى يسقط وسيقتل في حادثة وبقتله تخضع ألمانيا وتنهزم
وقال عن إيطاليا: أن زعيمها سيفقد إمبراطوريته الأفريقية باستيلاء جيوش الحلفاء عليها وسيطلب مساعدة هتلر وقد يمده ببعض المساعدة ولكنها لن تؤدي إلى إنقاذ إمبراطوريته، وستضعف إيطاليا نفسها ويغرق أسطولها في معركة بحرية عظمى في البحر الأبيض بعيداً من السواحل وينتج عنها انهيار إيطاليا التام، وسيرسل هتلر إلى إيطاليا جنوداً ومهمات حربية ويسيطر على إيطاليا، ولكن لا يمر زمن طويل حتى تطرد ألمانيا من إيطاليا
وقال عن بريطانيا العظمى: إنها ستقضي على القوات الإيطالية في أفريقية وتحتل المستعمرات الإيطالية كما تدل الأحوال الفلكية على أن القوات البريطانية ستحرز انتصارات أخرى في الشرق الأوسط في هذه السنة. وسيكون هناك انتصار بحري عظيم في البحر الأبيض. أما في برقة فأن القوات الألمانية ستقع في شرك نصب لها بمهارة وستهزم شر هزيمة في الصحراء. أما في ألمانيا نفسها بعد فشل الغزو فسيحطم سلاح الطيران الملكي البريطاني المصانع الألمانية ويشل حركة الإنتاج الحربي ويقطع خطوط الموصلات
وقال عن الولايات المتحدة: أنها ستدخل الحرب ضد ألمانيا سنة 1942 وسيزداد العمل فيها هذا العام ويخصص جانب عظيم من إنتاجها الحربي والغذائي للدفاع عن الحرية الإنسانية وستمد الدول الديمقراطية بالمال مساعدة لها في نضالها وقال عن تركيا: إنها
ستطمئن في هذه السنة لأن خوفها من روسيا سيزول وسيحاول هتلر أن يفسد التفاهم بين تركيا وبريطانيا، وسيحاول أن يرغمها على الانضمام إلى المحور ولكنه سيفشل.
فما رأي القارئ في مقدرة النجوم على التنبؤ؟ وهل يكون ما قررته النجوم هو فعلا مصير الحرب؟
مدن الحضارات في القديم والحديث
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
- 4 -
كانت حفلات الفاطميين في القاهرة موصولة لا تنقطع العام كله. ولقد صورها المؤرخون المعاصرون صوراً تنقل إلينا حقائق كثيرة عنها، ومن هؤلاء المؤرخين أبو محمد الحسن ابن زولاق مؤرخ المعز لدين الله وصاحب سيرته، وابن الطوير الذي يأخذ المقريزي عنه كثيراً في خططه، والمسبحي صاحب التاريخ الكبير، وابن عبد الظاهر وغيرهم.
وكانت القاهرة في عهد الفواطم تزخر بالقصور الكثيرة والدور المختلفة. ومن القصور التي ورد ذكرها في كتب الخطط: القصران الكبير والصغير، والقصر اليافعي، وقصر الذهب، وقصر الأقيال، وقصر الظفر، وقصر الشجرة، وقصر الشوك، وقصر الزمرد، وقصر النسيم، وقصر الحريم، وقصر البحر
ومن الدور المشهورة عندهم دار الضيافة ودار الوزارة ودار الضرب ودار الذهب ودار الملك
ومن المناظر التي كثرت في عهدهم منظرة اللؤلؤة وكانت تقع على الخليج، ومنظرة الغزالة، ومنظرة المقس، ومنظرة الدكة، ومنظرة السكرة.
والقصر الكبير يسمى المعزي نسبة إلى المعز لأنه هو الذي أمر جوهراً ببنائه حينما زايل مع عسكره شمالي أفريقية إلى مصر. ويقول المقريزي إن هذا القصر من ترتيب المعز ورسمه، وإن جوهراً لم يكن في البناء والتعمير إلا منفذاً لتصميم مولاه. ويجد القارئ وصف هذا القصر وصفاً تفصيلياً في الخطط مما ليس هذا موضع الإفاضة فيه. إلا أن شيئاً واحداً يطيب ذكره في هذا الموضع، وهو مد السماط في شهر رمضان، وكيف كان يجتمع فيه قاضي القضاة والوزير والأمراء يأكلون الطعام الهنيء ويشربون الشراب المريء ويقدم إليهم الماء المبخر في كيزان الخزف.
وكان لعيد الفطر مثل هذا السماط ومثله في عيد النحر، وكانت القاهرة المعزية تشهد هذه الحفلات في فرح عظيم
ولا نجد أحلى في هذا المقام من تدوين أبيات من القصيدة التي رثى بها عُمارة اليمني
الدولة الفاطمية، وودع مكارمها وأيامها وحفلاتها وعاداتها، وشيَّع فيها السن الجميلة التي استنوها لإحياء عيد أو إقامة شعيرة أو توديع جيش أو فتح خليج، فقال:
دار الضيافة كانت أنُس وافدكم
…
واليوم أوحش من رسم على طلل
وفطرة الصوم إن أصفت مكارمكم
…
تشكو من الدهر حيفا غير محتمل
وكسوة الناس في الفصلين قد درست
…
ورث منها جديد عنهم وبلى
وموسم كان في كسر الخليج لكم
…
يأتي تجملكم فيه على الجمل
وأول العام والعيدان كان لكم
…
فيهم من وبل جود ليس بالوشل
والأرض تهتز في عيد الغدير بما
…
يهتز ما بين قصريكم من الأسل
والخيل تعرض في وشى وفي شية
…
مثل العرائس في حلى وفي حلل
ولا حملتم قوي الأضياف من سعة الْ
…
أطباق إلا على الأعناق والعجل
وما خصصتم ببر أهل ملتكم
…
حتى عممتم به الأمضى من الملل
وللجوامع من أحباسكم نعم
…
لمن تصدر في علم وفي عمل
والقصيدة تجري كلها على هذا النسق من حسن السبك وجودة التصوير وصدق العاطفة وأثر الفجيعة والإحساس الأليم ويذكر المقزيزي أنه سبب هذه القصيدة قتل عمارة وتمحلت عليه الذنوب
لم يكن التصوير الفوتوغرافي قد ظهر في ذلك العهد ولو كان ذلك لبقيت لنا لوحات ومناظر تغني عن وصف القلم الذي كثيراَ ما يوجز فيجنح إلى الإخلال أو يطيل فيميل إلى المبالغة والإغراق ولو كان الرسم متقدماً في ذلك العهد، لسلمت لنا لوحات مصرية صادقة كتلك التي يصنعها الرسامون أمثال: محمود بك سعيد، واحمد بك راسم، وصبري، وعياد، وصباغ، وهلبرت التشيكوسلوفاكي المتمصر وغيرهم ممن يسجلون الحياة المصرية المعاصرة في لوحات ستبقى خالدة تمثل الفن من ناحية وتسجل تاريخ الخطط المصرية من ناحية أخرى
ولقد زار القاهرة في القرن الثامن الهجري الرحالة ابن بطوطة صاحب الرحلة المشهورة، وكان سلطان مصر على عهد دخوله إليها الملك الناصر أبو الفتح محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي. وقد أثنى ابن بطوطة على الملك الناصر في خلال كتابه ثناء عظيما
ووصفه بأنه: (صاحب السيرة الكريمة والفضائل العظيمة).
ولقي ابن بطوطة في القاهرة جماعة من الأمراء والفضلاء ذكرهم في رحلته، ووصف في خلال ذلك مجلس القاضي فخر الدين (وكان قبطياً ثم اسلم)، وكيف كانت تقضي عنده الحوائج، وتدرك لديه المطالب
وقد ترك لنا ابن بطوطة في رحلته وصفاً مختصراً ممتعاً ليوم المحمل في القاهرة، وهو يرينا صورة لما كان يجري في هذه العاصمة القديمة في عصر المماليك الذي جاء بعد عصر الفواطم.
وكان هذا اليوم يوماً مشهوداً، يركب فيه القضاة الأربعة ووكيل بيت المال والمحتسب، ومعهم الفقهاء، والرؤساء وأصحاب السلطان وأرباب الدولة وأهل الوجاهة، ويقصدون باب القلعة دار الملك الناصر (سلطان مصر في عهد المؤرخ)، فيخرج إليهم المحمل على جمل وأمامه أمير الحج المعين لمرافقة المحمل في تلك السنة ومع الأمير عسكره وأتباعه والسقاءون على جمالهم، ويجتمع لذلك أصناف الناس من رجال ونساء، ثم يطوفون بالمحمل في أنحاء القاهرة ومصر وأمامهم المنشدون ينشدون والحداة يحدون. . . وعندئذ ينبعث في قلوب الناظرين شوق إلى الحج وتهيج عزماتهم وتتحرك بواعثهم لقضاء الفريضة الموقوتة والعبادة المكتوبة.
ومن دواعي الأسف أن ابن بطوطة لم يترك لقلمه العنان في وصف القاهرة وما كانت عليه يوم وفوده عليها، وإنما اكتفى من ذلك بالنظرة العابرة، واللحظة الخاطفة، ولو قد فعل لترك لنا وصفاً طويلاً وصورة جميلة لنواح كثيرة من القاهرة كأسواقها ودورها وقصورها ومجامعها ومحافلها، ومساجدها ومدارسها، وشوارعها وحواريها، وقناطرها وجسورها، ولعل الناحية التخطيطية لم تكن تعنيه كما عنت المقريزي وعلي باشا مبارك من بعده.
أما ابن إياس صاحب التاريخ المشهور ومؤرخ مصر الإسلامية في آخر عصر المماليك وأول العصر التركي فقد وصف القاهرة في عصره وصفاً لا يخلو من فائدة
ومن الحفلات التي وصفها ابن إياس في كتابه المشهور حفلة المولد النبوي الشريف فهو يذكر أن السلطان الغوري أقام الخيمة العظيمة التي صنعها الأشرف قايتباي - وبلغت تكاليفها ستة وثلاثين ألف دينار - وقد صنعت من قماش مختلف الألوان واشترك في
نصبها بالحوش ثلاثمائة رجل من النواتية، ونصبت خارج الخيمة أحواض من الجلد قد ملئت ماء مسكراً، وجلس السلطان في الخيمة وحوله الأتابكي (رئيس الجند) والأمراء المقدمون والقضاة الأربعة والوجهاء من أهل القاهرة والقراء والعلماء ومد السماط الحافل بكل هنيء مريء
وفي أيام نيابة طومان باي عن الغوري، احتفل بوفاء النيل وكسر السد. فنزل الأمير لهذه الغاية في سفينة كبيرة، وتوجه إلى المقياس وعاين زيادة النيل وقدرها، وتم الاحتفال في سرور عاد بعده الأمير إلى مقره في موكب حافل عظيم
وتذكرنا حوادث إخلاء المناطق الخطرة في الإسكندرية اليوم بسبب الغارات الطائشة عليها، بحادث إخلاء حيّ (بركة الرطلي) من سكانه، والفرق بين الحادثين كبير، إلا أن النتيجة كانت واحدة وهي وحشة كل من الحيين وفرار الناس عنهما. ولم يذكر ابن أياس السبب الذي حدا بالأمير (طومان باي) إلى تحريم السكن في بركة الرطلي والمسطاحي، ولا لماذا تشدد الأمير في إخلاء هذين الحيين حتى صارا موحشين، وغَدَوا بلقعين لا يسكن إليهما ساكن، ولا يطمئن إليها ناظر، ولا تتحرك فيها من الأنس نسائم. ولقد خسر بذلك أصحاب الدور أموالاً كثيرة، وأصبحت بيوتهم خاوية خالية. ولقد صَّور الشيخ بدر الزيتوني هذه الصورة الموحشة في شعر يقول فيه:
وأضحت بيوت الجسر خالية فلا
…
لصاحبها سكنى ولا واحد يكرى
وقد أصبحت تلك القصور خوالياً
…
فيا وحشة السكان من كل ذي قصر
على بركة الرطلي نوحوا وعددوا
…
لما حل فيها من نكال ومن خسر
رعى الله أياماً نقضت يطيبها
…
ونحن بمصر في أمان وفي بشر
وكان الدوادار الكبير هو الذي
…
أشار بهذا المنع بالنهي والأمر
وغفر الله لهذا الشاعر فشعره أصدق صورة لما وصل إليه الشعر العربي في عصر المماليك من ركة وسخف وضعف
على أنه يؤخذ على أياس أيضاً - كما أخذ على غيره من المؤرخين - أنه لم يتعرض لوصف القاهرة في عهده في تفصيل. ولعله كان مثل الكثيرين من المؤرخين لا يهتم إلا بالناحية السياسية أو العسكرية من تاريخه. أما ناحية الوصف والتخطيط فقد تركها لغيره
ممن يهتمون بأمثال هذه المباحث. ولكن لسوء الحظ لا نعلم فيما بين أيدينا من مراجع وصفاً للقاهرة في عهد ابن أياس. ولو قد تأخر الزمن بالمقريزي حتى شاهد مصر العثمانية لكان لنا من مادته في الخطط فيض غزير وتدخل القاهرة بعد ذلك في دور جديد، وتودع عهد المماليك لتستقبل عهد الأتراك. ويظهر أن هؤلاء خربوا كثيراً من معالمهما، وليس لدي الآن وأنا أكتب هذه الكلمة نص تاريخي قاطع للتدليل على ما أقول؛ ولكن بيتين للشاعر بدر الدين الزيتوني المعاصر للفتح العثماني يشتم القارئ منهما رائحة التخريب والذبول فيما كان قائماً فيها من آثار
وقد يكون الشاعر بدر الدين الزيتوني جنح إلى المبالغة في بيتيه كما يصنع الشعراء غالباً في اكثر ما يصفون. إلا أنه كلام يلقى ظلاً من الحق على ما ذهب إليه فيقول:
نبكي على مصر وسكانها
…
قد خربت أركانها العامرة
وأصبحت بالذل مقهورة
…
من بعدما كانت هي القاهرة
فقوله خربت أركانها العامرة لم يكن ضرورة من ضرورات القافية التجأ إليها، ولكن يلوح لنا أنه كلام فيه من الحق كثير وإذا كان العصر التركي قد اتسم بالغموض في كثير من حوادثه، إلا أن بعض المؤرخين من المصريين وبعض الرحالين من الأجانب قد وصفوا مصر في هذه الفترة الطويلة المظلمة. وابن أياس والجبرتي مرجعان مهمان لذلك العصر
وممن زار القاهرة في ذلك العصر القس (ريتشارد بوكوك) في سنة 1737م وترك كتابه الضخم (وصف الشرق وبلاد أخرى). وكتب قبله (دي ما بيه) قنصل فرنسا في مصر كتاباً عن أحوال مصر في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر الميلادي
أما القاهرة في عهد محمد علي فقد وصفها المستشرق (لاين) في أحد كتابيه المشهورين، ووصف آداب أهلها وعاداتهم ولباسهم وطعامهم وشرابهم وبعض أغانيهم التي كان يقرؤها علينا تحت ظلال شجرة الكافور على نيل المنصورة قارئ أديب فيستمع إليها الأستاذان الجليلان: أحمد حسن الزيات والشيخ محمود زناتي وكاتب هذه الكلمات في لذة ومتاع عظيم
(الحديث موصول)
محمد عبد الغني حسن
ذكرى قاص عراقي
للسيدة الفاضلة وداد سكاكيني
في الأدب الآم وفيه هموم وأشجان، ولقد تكون صفحاته السود مطوية منسية، حتى تنشرها الذكرى ويبعثها الحنين. من هذه الذكريات ما يهيج في نفسي كلما اطلعت على مقال يصور أدب العراق واتجاهه الحديث؛ ففي تلك الصفحات التي طواها الزمان ولفها النسيان، ذكرى قاص عراقي كان له أثر محمود في تجديد الأدب وبعث القصة على ضفاف دجلة حيث فتحت عينيها (ألف ليلة وليلة) أسطورة الشرق وسحر بغداد
منذ أعوام قريبة أخذت طلائع البعث والتحرر في العراق الجديد تنبثق من أرجائه الراقية وأجوائه الطافحة؛ هنالك ازدهرت معاهد الثقافة، وراجت أسواق الأدب؛ فرأينا بين الرافدين وفي بلد الرشيد والمأمون، كتاباً يعالجون فن القصة أسوة بأدباء العرب المحدثين الذين توفروا أيامنا على هذا اللون الطريف في آدابنا، وكأن النهضة العلمية التي تجددت في ذلك القطر الشقيق، وتمازج الثقافات في آفاته التليدة، ووقوف أولئك الكتاب على عناية أدباء الغرب بالفن القصصي دون غيره من فنون الأدب؛ كل ذلك حفز الشباب العراقي المثقف وحملة الأقلام الموهوبين منهم إلى إنشاء القصص والاستمتاع بما اشتملت عليه من دقة وصف وعمق تحليل وصدق تصوير؛ وكان ممن أدلى دلوه يومئذ في هذه الينابيع الثرارة أديب مطبوع هو المرحوم محمود أحمد السيد الذي يعرفه قراء الرسالة بما نشر فيها من آثاره، فقد كتب قصصاً عراقية الميسم، منوعة الألوان كانت مرآة لبلاده في عهد أحداثها الجسام، وكان كتابه (في ساع من الزمن) آخر أثر جاء به هذا القاص قبل أن يجود بنفسه الأخير؛ فلما نشر هذا الكتاب طلب إلي أن أنقده على صفحات (الحديث) الحلبية، فأقدمت على تلبيته خالصة النية للأدب، مظهرة محاسن الكتاب مشيرة إلى ما فيه من هنات؛ ولكني لم ألبث أن دعوت على قلمي الذي كان عفاً عنيفاً بنقده، إذ علمت أن ذلك القاص البغدادي عز عليه ما كتبت وآذته صراحتي فصد عنها، ورد علي بما لمست منه أنه تحمل نقدي لقصصه على مضض، فخسرت رضاه وأدى الأمر بيننا لي مناقرة فاشلة وجدل عقيم. وليس ما وقع بيننا بعجيب، فنحن قوم لم نتعود أن نتقبل النقد النزيه بقبول حسن، وأن نعبأ بمقالاته وفائدته وما يؤول إليه الأثر المنقود. وحسبك برهاناً أن ترى
الناس في شرقنا اصطلحوا في شئون النقد على المصانعة والرياء، وأمعنوا في التحيز والمداراة، فلا نقد عندنا يمحص الحقائق، ولا مساجلات تؤرث الأفكار والآراء
من أجل ذلك غاب عنا النقد الحر الصريح، ولم يتزحزح أدبنا عن التقليد والترديد إلا قليلاً. وأحسب أن نقادنا الأكفاء الذين كفوا أقلامهم عن الخوض في هذا السبيل إيثاراُ للمودة والسلامة قد أساءوا شر مساءة، فلولا صمتهم وزهادتهم في النقد لما تجرأ الأدعياء والطفيليون على كبار الأدباء لينهشوا الأشخاص دون الآثار وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وأن إسفافهم هذا من أصول النقد الحديث
إننا قوم لم نتعود أن نحق الحق ونزهق الباطل، وإنما درجنا على أن نماري مراءً ظاهراً. وكثيراً ما جَّر نقد الأدب في كل بلاد العرب إلى خصومة وتنابذ فرَّقا بين الأصحاب وأوغرا الصدور بالأحقاد. ولقد كان بيني وبين شاعرة مصرية معاصرة آصرة أدب وولاء، فلما نقدت ديوانها إجابة لسؤلها، قطعت عني رسائلها اللطاف، فأسفت لما وقع، ولكن قلمي يؤوب ولا يتوب
ما لي ولهذا الاسترسال في قول كاد يلهبني عن (ذكرى قاص عراقي) كانت له مشاركة في توجيه الأدب الحديث في العراق. وأنا بعد أن كادت ترم تجاليد هذا القاص في ثراها، ووالله ما ادري، أعلى ضفاف النيل حيث ذهب يستطب ويستشفى، أم على ضفاف دجلة وفي ظلال النخيل حيث رأى النور، أبعث ذكراه وادعوا أهله وقومه إلى تمجيده وتخليده، والكشف عما في آثاره من جوهر دفين؟
كان يرحمه الله يرى كتابيه: (الطلائع)، (جلال خالد) تجربة ضئيلة في مضمار الأدب الجديد في بلاده، بل محاولات أولى في فن القصة الذي كان يتمنى على الزمان أن يقيض له التفرغ لأصوله والبراعة فيه. وقد أهدى مؤلفيه إلى فتية في العراق، إلى أشباله الأباة الذين كان يرى في وثباتهم تحقيق الآمال.
أما رواياته وأقاصيصه فقد لقيت الثناء والتقدير من أدباء العرب كالأستاذة: أحمد حسن الزيات وأحمد أمين ومحمود تيمور وسامي الكيالي، وغيرهم؛ ومن بعض المستشرقين أمثال: كراتشكوفسكي وب. جوزي وهـ. ركب ور. ك طومسن صاحب مجلة العراق في أكسفورد، وكنت من أصدق قرائه وأصحابه إعجاباً بها وتنويهاً بطرافتها وروعتها
وكانت مقالاته وبحوثه تتسم بالرأي السديد والأسلوب المبين ويفيض على جنباتها شعور صادق ولمحات شتى تشير إلى مثل الحياة العليا التي يريدها لقومه وبلاده. ولو لم يدركه الموت في عنفوان شبابه لترك للأدب ميراثاً خصيباً لا تبلى جدته. وحسبه فضلاً أنه ساهم في فن القصة العراقية قبل أن يشيع هذا الفن في سورية ولبنان، وسعى مع أنداده أنصار المدرسة الحديثة إلى تعزيز الحياة الأدبية في بغداد، وكتب خواطر وفصولاً في النقد والاجتماع، وترجم عن التركية التي أتقنها قصصاً نشر بعضها ورجا أن يجمعها في سفر مطبوع. على أن أكثر ما كتب هذا القاص مبعثر في تضاعيف الصحف والمجلات العربية في مصر والشام والعراق فحبذا لو يتسنى جمع شواردها في كتاب
ما أشقى حظ الأديب من أهل دنياه! ففي غابر العصور كان يقول ابن الرومي: لهفي على الدنيا. . . ورهن المحبسين كان يولول من أم دفر، وهكذا في جديد الدهر يموت الأديب فيتحسس الناس مجاثم نبوغه بعد مماته ويهبون لتمجيد ذكراه. وما أحراهم لو فعلوا ذلك في حياته فقدروه قدره وكرَّموه بما كان يزيده بسطة في أدبه وتحليقاً بفنه. وقد يكون بين عاثري الجدود من الأدباء من لا يأبه لفقده عارفوه، كالذي وقع للأديب العراقي محمود السيد، إذ لم أعرف صحيفة أدبية في بلادنا عددت مآثره إلا مجلة (الرسالة) في مصر، فقد نعته لقرائها ورثته بكلمة وجيزة. وكان المرتجى من صاحب (الحديث) في حلب وهو الوفي لإخوانه الأدباء أن يختصه بمقالة على الأقل في مجلته التي سكب الفقيد كثيراً من المداد على بحوثه وقصصه فيها
فيا أسف الآداب والشباب لفقدهما هذا العصامي الذي حمل باكورة القصة في مرابع الرشيد! ويا فتية العراق المناجيد، ويا صحبه الأكرمين، من أولى منكم بإثارة ذكراه، وأنتم الذين أحبكم وأهدى إليكم ما خطت براعته قبل أن تغتمض عيناه؟
لم يكن محمود أحمد السيد مغمور الصيت ولا مجهولاً لدى قراء العرب، وإنما عاش كأزاهير الليمون في الربيع تتشقق أكمامها عن الحياة ويفوح منها الأريج، ثم لا تلبث أن تذوي وتتساقط تاركة في الأفانين ثمراً مختلفاً ألوانه طيباً مذاقه
هكذا أفل شباب هذا القاص البغدادي الذي حرم دنيا تضيّفها تاركاً آثاره التي تشف عن أدب نضير مطبوع بمياسم العراق
(دمشق)
وداد سكاكيني
الزاد الأخير
للأستاذ سيد قطب
زوّديني من الرجاء الأصيلِ
…
مُشرِقاً فيكِ في المحّيا الجميلِ
أنت كنزٌ من الطّلاقةِ والبش
…
رِ ودنيا من السَّنىَ المعسول
خِفّةُ الطير وانطلاقُ الأماني
…
بعضُ ما فيك واندفاقُ السّيول
وهجٌ يبهر النفوسَ ويُذِكي
…
خفقاتِ القلوب عند المثول
ذَخَرَتْكِ الحياةُ كنزَ حياةٍ
…
ورصيداً لما لها المبذول!
زوّديني لَكَادَ ينفدُ زادي
…
في صراعٍ مع الحياة طويلِ
كاد يخبو المصباحُ إلا بصيصاً
…
فاسكبي الزيتَ في بقايا الفَتِيلِ
كنتُ كالجذوةِ المشعّة نوراً
…
وهي اليوم في طريقِ الأفول
فيكِ زاد يقُوتنُا ويَقِينَا
…
عثراتِ الطريق بين التّلول
أنتِ لا غيرُكِ القديرة أن تُذْ
…
كِي حياة بخاطري وميولي
حين ألقاكِ يغمرُ البشْرُ نفسي
…
برجاءٍ مُشَعْشَعٍ موصلِ
وأرى عبئِ الثقيلَ خفيفاً
…
وأرى ناهضاً بعبئ الثقيل
وكأني استشعرتُ رَوْحَ شبابي
…
وَرَجَعْتُ الزمانَ صعبَ القفول
فأعيدي إلىَّ ماضِيَ عمري
…
واغمريه بالبشر والتَّأميل
واطلعي في قفار نفسي حياةً
…
وإذا مَا دَجَا عَالَميِ أَو ْمِضِى لِي
(حلوان)
سيد قطب
مدينة بلا نساء.
. .
الإسكندرية والهجرة
للأستاذ عبد اللطيف النشار
يا بلدة أمست بلا نساء
…
منبوذة من رحمة السماء
أين التفات الأم للأبناء
…
أندى على القلب من الأنداء
حنوّ حان بيَّن الوفاء
…
ورقة في غير ما رياء؟
أين ابتسامات على استحياء
…
وأخريات جمة السخاء
والواعدات دونَ ما وفاء
…
يخلطن مُرَّ اليأس بالرجاء
مختلفات الخلق والأزياء
…
لكل مرئيّ فتون راء
ودانيات ودهنَّ ناء
…
أبعد في القرب من السماء
بواعث الحسرة والعزاء
…
وخالقات الهمة الشماء
وجالبات الشَّر والشحناء
…
خلوت يا ثغر من النساء
فما الذي فيك من السراء
…
وما الذي فيك من الضراء
لا صوت يغري السمع بالإصغاء
…
ما صبر أيوب على البلاء
كصبر أهل البلدة البيضاء
…
يا لكِ من تسمية هوجاء
لون ثياب الحزن للآباء
…
نحن بني الأندلس الفيحاء
تشهد ما قدَّر للأبناء
…
وراثة عن سالف الآباء
صدقت يا سخرية القضاء
…
قد صُبّحت بغارة شعواء
وغارة تأتي مع المساء
…
وفي أذى الهجرة من أرزاء
فوق الذي نشهد من بأساء
…
هل عودة لعهدها الوضّاء
يوم ينار النور في الأجواء
…
يوم يشيع الأنس في الأرجاء
يا بلدة المنارة الزهراء
…
ومضرب الأمثال بالآلاء
حتام إسراؤك في الظلماء؟
…
رحماك بي يا خالق السماء!
عبد اللطيف النشار
البريد الأدبي
1 -
لابن المقفع لا للخليل
صوب الأستاذ بداري اعتماداً على رواية الجاحظ نسبة هذه الجملة إلى ابن المقفع: (الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيئني لا أرضاه) يعني الشعر. وكان الأستاذ الكبير العقاد نسبها إلى الخليل في بعض مقالاته
وأقول: إن ذلك لا يمنع من صحة نسبتها للخليل مع تغاير في الألفاظ. جاء في الجزء الثالث من العقد: قيل للخليل: مالك لا تقول الشعر؟ قال: (الذي أريده لا أجده، والذي أجده منه لا أريده) فالمعنى والصياغة متحدان في الجملتين، ولعل الاختلاف في اللفظ راجع إلى تصرف النقلة: وأروِى للأصمعي قوله في هذا المعنى: (يأباني جيدهُ وآبي رديئه)
وقد رأى الأستاذ بداري أن الذوق الأدبي يرجح صدور هذه الجملة عن ابن المقفع لا عن الخليل، لأن أول أديب كبير وكاتب عظيم، والثاني إمام لغوي نحوي. وعندي أن هذه العلة التي ساقها الأستاذ حجة عليه لا له
ذلك أن هذه الجملة وما شابهها وردت للتدليل على شيئين:
أولهما: أن ترديد النظر في الشعر والرواية له والإكثار من حفظه، لا تكفي وحدها لخلق الشاعر، بل لا بد له قبل ذلك من الملكة الموهوبة والطبيعة المواتية. قال ابن عبد ربه: كان الخليل ابن أحمد أروى الناس للشعر ولا يقول بيتاً، وكذلك الأصمعي
وثانيهما: أن قرض الشعر والنفوذ إلى أسراره والتفطن لمواضع الجمال فيه، لا يُنال بحفظ متن اللغة ودراسة العروض والقوافي وعلوم البلاغة. قال ابن رشيق في العمدة: أن أهل صناعة الشعر أبصر من العلماء بآلته: من نحو وغريب ومثل وخبر وما أشبه ذلك، ولو كانوا دونهم درجات فكيف إذا قاربوهم أو كانوا منهم بسبب. قيل للمفضل الضبي: لم لا تقول الشعر وأنت أعلم به؟ قال: علمي به هو الذي يمنعني من قوله؛
وأنشد:
وقد يقرض الشعر البكئ لسانه
…
وتعي القوافي المرَء وهو أديب
وقال الأصمعي:
أبي الشعر إلا أن يفيء رديئه
…
على، ويأبى منه ما كان محكما
فيا ليتني إذ لم أُجد حوك وشيه
…
ولم أك من فرسانه كنت مفحما
وفي ديوان الصبابة: أن ابن دقيق العيد قال لابن سيد الناس: قل لعلماء المعاني والبيان والبديع: أتحسنون أن تقولوا مثل قول المتنبي:
أزورهم وسواد الليل يشفه لي
…
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
فإن قالوا لك: لا. فقل إي فائدة فيما تصنعون. (يريد: أن العمل غير العلم)
فواضح أن الغرض من الجملة السابقة المنسوبة للخليل وابن المقفع: بيان أن الشعر لا يملك بالرواية ودراسة العلوم وجمع اللغة، وإلا لكان الأصمعي والمفضل وإضرابهما أشعر خلق الله! بل لما كان أحد أولى من الخليل بالشعر وهو واضع العروض نظام الشعر وسلك القافية! ونسبتها إلى الخليل أولى من نسبتها إلى ابن المقفع حتى تقوم الحجة على أن اللغة والنحو والصرف والعروض وسائر العلوم اللسانية وما يتصل بها - وهي من سمات الخليل البارزة - لا تجعل غير الشاعر شاعراً. وأما ابن المقفع فكان أديباً كاتباً كما قال الأستاذ، لا راوية ولا عالماً بالمعنى الاصطلاحي، فالتمثيل به في هذا السبيل لا يكون ظاهراً ظهوره في الخليل، لأن الكتابة والشعر يفيضان من نبع واحد، والعلم شيء وراء ذلك
وإذا صح ورود هذه الكلمة عن ابن المقفع فلا يفهم منها أنه لا يحسن قول الشعر، فالحق أن له شعراً جيداً - وإن كان قليلاً - ومعروف أن مقطعات الكتاب أرق وأعذب من شعر الشعراء الخلص، ولكن المراد أن الشعر لا يواتيه كما يواتيه النثر، فقصر همه على ما هو أجدى عليه
2 -
النحو في الكلام كالملح في الطعام
وردت هذه الحكمة بلفظها في كتب كثيرة، والغرض منها مشابهة النحو للملح في الإصلاح، وهو معنى ناصع لا غبار عليه، وقد تعالمه الناس وتلقوه بالتسليم والقبول خلفاً عن سلف، حتى لقد بلغ من ذيوعه أن العامة في الصعيد يسمون الملح:(المصلح) فلا داعي لأن ينكره الأديب الشرباصي أو يخطئه.
وأما الرواية الأخرى: الهزل في الكلام كالملح في الطعام فلا بأس بها، وورودها لا يفيد عدم ورود الأولى، ويكون وجّه الشبه هنا القلة لا التحسين والتلميح كما ذهب إليه الأستاذ
البداري
وقد نظم أحد الشعراء هذه الحكمة على الرواية الثانية مع وضع المزح موضع الهزل، فجاء اللفظ أرق وأعفّ. قال:
أفد طبعَك المكدودَ بالجِدّ راحةً
…
يجمّ، وعلّله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن
…
بمقدار ما يُعطَى الطّعامُ من الملح
علي الجندي
نظرات بين المجلات
1 -
روى الأستاذ الكريم الدكتور عبد الوهاب عزام في العدد 418 من الرسالة في أثناء دراسته الحافلة بجليل الفوائد عن الشاعر الأبيوردي - روى البيت التالي هكذا:
وقد أخلق الفضل بالعراق وفي
…
فارسَ لما اضمحلت الرتب
والبيت على هذه الرواية غير موزون ولا يستقيم إلا بإحدى اثنتين: إما أن تحذف الواو التي في أوله فيصير هكذا:
قد أخلق الفضل. . . الخ وإما أن تحذف كلمة (قد) وتبقى الواو التي قبلها ويصبح البيت هكذا:
وأخْلق الفضل بالعراق وفي
…
فارس لما اضمحلت الرتب
2 -
يقول الدكتور الفاضل زكي مبارك في العدد 418 من الرسالة (لقد ُبحَّ صوتي في الدعوة إلى اعتراف الدولة بالقيم الأدبية) ويضبط الفعل بُح بضمة على الباء، والذي أعرفه عن هذا الفعل أن الواجب لغة أن يقال بَحَّ صوتُه بفتح الباء كما نصْ على ذلك الفيروزابادي والجوهري وأبو بكر الرازي في مختاره، وقد يستذر الدكتور كعادته بالذوق في المسائل اللغوية، وهو عذر لو أخذنا به على علاَّته في اللغة باب الفوضى. على أن في الفعل بَح بفتح الباء لطفاً ورقة لا يوجدان في حالة الضم التي لا نعرف - على قدر ما نعلم - ما يؤيدها في اللغة
3 -
في العدد 130 من الثقافة الغراء دراسة أدبية طيبة، والدارس الأستاذ جمال الدين الشيال والمدروس الشاعر الشاب تاج الملوك بوري بن الملك الصالح نجم الدين الأيوبي
والشعر الذي جاء في خلال هذه الدراسة كله كريم صحيح، إلا بيتاً واحداً ذكره الأستاذ هكذا:
هذه المعجزات ليست لظبي
…
إنما هذه فعال (عيسى) المسيح
وكلمة عيسى زائدة في البيت
4 -
مقالات العالم الفاضل الدكتور علي عبد الواحد وافي (في الاجتماع اللغوي): تدل على تمكن في البحث وتوفر على الدرس، وفيها غذاء علمي كبير، وهي فوق ذلك لا ترهق القارئ ولا تملّه. . . وحبذا لو أطال الكلام على اللهجات التي تفرعت من العربية، وذكر المستشرقين الذين ألفوا كتباً في قواعد العامية، فذلك موضوع على اتساعه لا يضيق به علم الأستاذ الكبير.
محمد عبد الغني حسن
عبد القادر حمزة وقومية بحثه وراء الحقيقة
أرجو - بعد التحية - أن تأذنوا لي في تصويب واقعة أخطأت في تحديد زمنها؛ إذ قلت في مقالي الذي تفضلت (الرسالة) الغراء بنشره بعددها الفائت: (إن أهل الرأي في مصر احتفلوا (بتأبين الفقيد من أيام)، وأن أسرة الفقيد تحتفل في الرابع عشر من هذا الشهر بإحياء ليلة الأربعين، وإني (أحب بدوري أن اختار هاتين الملائمتين - التأبين والأربعين - لأثير ناحية من أدب الفقيد))
ووجه الخطأ واضح في قولي إن أهل الرأي (احتفلوا بتأبين الفقيد من أيام)، ومرد هذا الخطأ إلى أن لجنة الاحتفال كانت قد أزمعت إقامته في يوم الخميس (10 يوليه)؛ ثم عادت فحددت له يوم الخميس (17 يوليه)، ولما كنت قد كتبت مقالي قبل يوم الخميس الأسبق وكان عدد (الرسالة) يصدره بعده، قد وقعت في هذا الخطأ الذي لا بد أن يكون قراء (الرسالة) قد فطنوا إليه من تلقاء أنفسهم
وإلى أن أكتب مقالي التالي الذي وعدت بكتابته أرجو - مرة أخرى - أن تأذنوا في تصويب أخطاء (مطبعية) وقعت في مقال الأسبوع الفائت نفسه
ففي السطر السادس من المقال جاء: (ومن الرابع عشر من هذا الشهر) والصواب: (وفي
الرابع عشر. . .). وفي السطر السابع عشر من النهر الأول من صفحة 904 جاء: (وفي الجمال الذي يحيط اللثام عنه. . .). والصواب: (وفي الجمال الذي يميط. . .). وفي السطر العشرين من النهر الثاني صفحة 905 جاء: (على الصور التي انحاز بها ذهنه. . .) والصواب: (على الصور التي انماز. . .)
محمد السوادي
القصص
ثمن السعادة
للأستاذ نجيب محفوظ
دخل الأستاذ الحجرة التي قاده إليها الخادم فلم يلق تلميذه الصغير في انتظاره كمألوف عادته، فجلس على كرسيه يقلب عينيه في الصور المعلقة على حيطان الحجرة، وكانت المرة الأولى التي ينتظر فيها تلميذه منذ جيء به ليدرس له لعشرة أيام خلت، وأوشك أن يدعو الخادم حين سمع وقع أقدام خفيفة ورأى الغلام مقبلاً عليه يتأبط كتبه وكراسته، فحدجه بنظرة تعنيف ولكن راعه أن يرى عينيه محمرتين من البكاء وذقته الصغير يرتعش من التأثر فسأله باهتمام:(مالك؟)
وكان السؤال أثار مكظوم شجون الغلام فاندفعت الدموع إلى مآقيه وهو ينتحب:
- تيزة. . . ضربتني. وتشاجرت مع بابا وما زالا يتشاجران فسأله باقتضاب (من تيزة هذه؟)
(امرأة بابا)
فدلته هاتان الكلمتان على معان كثيرة بغير حاجة إلى مزيد من السؤال. على أن الغلام تطوع من نفسه فسرد قصته الصغيرة الحزينة على مدرسه. قال: إن والدته ماتت لعهد ولادته وأن أباه تزوج من تيزة بعد ذلك بعام أو عامين، وأنه يعيش بمفرده تحت رعايتها بعد أن تزوج أخواته الأربع في الأعوام الثمانية التي أعقبت وفاة الأم، وأن أسباب الخلاف لا تنتهي بين تيزة وأبيه، فلن يزالا يصطدمان ويشتجران، وأقسم أن الحق دائماً مع أبيه، وأنه لا يشتبك معها حتى يضطر إلى ذلك اضطراراً، ثم لا يبث أن يكف عنها يائساً قانطاً، فلا تسكت هي عن الغضب والحنق والسباب. وأصغى المدرس إلى تلميذه بغير اهتمام ظاهر، وواساه بكلمة تافهة، ثم تناول الكراسة وبدأ عمله، ولم يطرقا الحديث مرة أخرى ولا عادا إليه فيما أعقب ذلك من الأيام، حتى كانت ساعة درس فاقتحمت عليهما الغرفة بغير استئذان شابة حسناء في ريعان الشباب، فوضع الأستاذ الكتاب على المكتب وقام واقفاً في تأدب واحترام وألقى على الزائرة نظرة حيية، فراعه ما رأى - لا من حسنها وشبابها فحسب - ولكن من انطلاقها على سجينها وعدم تكلفها، الأمر الذي أخرجها - بغير قصد
طبعاً - عن الاحتشام، فكانت ترتدي (روب دي شامبر) من نسج رقيق يكشف عن ذراعيها ونصفي ساقيها وأعلى الصدر، وكان الأستاذ يظن أنه لا يجوز لشابة أن تبدو هكذا لعيني رجل غريب، ولذك غلبه الارتباك والاستحياء، وحدس أنها إحدى أخوات تلميذه المتزوجات، وتأكد حدسه حين رآها تمد يدها في رفق إلى ذقن توتو تداعبه، ثم جلست باطمئنان تجاه المدرس وهي تخاطبه قائلة: تفضل بالجلوس. . . هل يعجبك عمل توتو! فجلس أنيس وهو يقول: (توتو مجتهد، وقد تقدم في هذين الأسبوعين في الأجرومية والمطالعة، ولا ينقصه إلا المثابرة على حفظ الكلمات)
فابتسمت ابتسامة حلوة وطلبت إليه أن يستمر في عمله، فعلم أنها ترغب في أن تشهد درسه، فلم ير بداً من متابعة الدرس متلعثماً برماً، واختلس منها نظرة فوجدها تنظر إليه بإمعان، فاعتقد أنها تتابع كلامه، فوجه انتباهه إلى ما يقول ليخرج صحيحاً عذباً. وفي مرة أخرى وقع نظره على جيب الروب وقد انفرج عن أعلى الصدر فزاغ بصره وارتد في اضطراب وذعر ولم تمكث الشابة طويلاً فحيته وانصرفت، فشيعها بنظرة غريبة وقال لتوتو مستفهماً: أهي أختك؟
فهز الغلام رأسه سلباً وقال بجفاء: (تيزة) فتملكت الشاب الدهشة وتساءل متعجباً (تيزة؟!) فنظر الغلام إليه بإنكار وقال: (نعم). فتمالك أعصابه ولم ينبس بكلمة، ولكنه لبث مشغولاً دائم التفكير، وفي أثناء عودته إلى مسكنه بشارع ماهر بالجيزة استدعى صورة والد توتو - كما رآه يوم قدم إليه - ببدنه المترهل وكرشه الكبير ورأسه الصغير المستدير الأصلع، قد علا المشيب قذاله وقلق المنظار على أنفه الغليظ المجدور، ثم تمتم قائلاً:(الآن فهمت كل شيء. . . فرضوان بك حكمدار في المعاش جاوز الستين، وزوجه لا تعدو الرابعة والعشرين، وتوتو غلام بائس تضافرت عليه أسباب التنغيص الظاهرة والخفية. . . ولكن لماذا تلطفت بالغلام أمامي؟!). ولم يعتور أفكاره سوء، لأن أنيس كان طالباً ريفياً - كان طالباً وإن كان أستاذاً لتوتو - طاهر النفس، على أنه تأثر بحسنها وشبابها وخلاعتها غاية التأثر
وفي الدرس التالي لم يكد يطمئن إلى مقعده أمام تلميذه حتى كانت (تيزة) ثالثتهما؛ وكانت كما رآها أول مرة، جميلة خليعة متبذلة في ثوبها، ولم تلازم مكانها طوال الوقت، فكانت
تخرج لبعض الشؤون ثم تعود إلى جلستها. وفي مرة عادت فجلست إلى جانبه دون أن يبدو عليها أنها تعمدت ذلك، فخال أنيس أن ساقها - لدنوها - تلامس ساقه. وعند انصرافه سلمت عليه باليد، فراح يضوع من كفه أريج معطر، ومضى مبلبل لفكر تضطرم في وجدانه يقظة عاطفية حارة، وما زال مشغول البال يحاول أن يتفهم محاضراته عبثاُ حتى ضرب مكتبه بقبضة يده وصاح جزعاً مكروباً:(لا احسبني إلا مجنوناً أو مسحوراً)
وفيما أعقب ذلك من أيام كان يذهب إلى بيت رضوان بك شغفاً بها قبل كل شيء، وأحس أن تفضلها بحضور درسه هو السعادة الحقيقية التي تبذلها له الدنيا جميعاً، فاستلذها واستطابها وجن بها جنوناً. وجعلت الشابة الفاتنة تودد إليه، وتعرض لعينيه المشغوفتين محاسنها العارية، وتداعبه بنظرات من عينيها حلوة فاتنة، أو لفتات من لحظها فاتكة. والشاب يذهل عما حوله بسرعة جنونية. وذهب يوماً إلى بيت الحكمدار فوجد الشابة في الحجرة دون الغلام، فسأل عنه وهو لا يحفل به في باطنه. فقالت له المرأة:(ذهب مع والده إلى شقيقته في الزمالك لأنها مريضة). فأحس خيبة وحنقاً لأنه سيضطر إلى مغادرة البيت، وقام واقفاً كئيباً، فسألته:(إلى أين؟). فأشار إلى الباب وقال (سأعود من حيث أتيت). فصوبت إلى عينيه نظرة ملتهبة وتمتمت بجرأة وهي تهز رأسها الصغير (كلا. . .) فخفق قلبه وتدافعت أنفاسه ووقف حيالها كالمسحور المذهول. . . ثم تبعها على الأثر لا يلوي على شيء
وتخلفت بعد ذلك عن حضور درسه، ولكنها سمَّت له الأيام التي يستطيع أن يلقاها فيا في أمن من الرقباء. فاندفع في سبيله كمياه الشلال الجارفة في فورة عاطفة مشبوبة تصم الآذان وتعمى البصر وتغرق هواجس انفس، مستكيناً لنوازع شهوته وجنونه. وإنه ليغادر بيتها ذات أصيل من أصائل الحب إذ لاحت منه التفاتة بغير قصد إلى شرفة البيت المطلة على الطريق، فرأى مشهداً تجمد له الدم في عروقه، وتصلب شعر رأسه من الهول، فتعثر وأوشك أن يقع على وجهه، وهرع إلى الإفريز تحت الشرفة كأنما يداري نفسه؛ وتقدم في خطى مضطربة لاهثاً حتى بلغ منعطف الطريق، وأراد أن يستوثق مما رأى فصوب بصره في خوف وإشفاق نحو الشرفة، فرأى عند مدخلها رضوان بك برأسه الأصلع المستدير يجلس مطمئناً إلى كرسيه في جلباب فضفاض يطالع جريدة ويهش الذباب عن
وجهه بمذبة. . فأيس من تكذيب عينيه، ولهث قائلاً بفزع لا يوصف:(رباه إنه هو هو. . . نعم هو في جلباب البيت فكيف كان ذلك. . .؟ هل عاد إلى البيت أثناء وجوده مع زوجه. . .؟ فكيف لم يشعرا به؟ ولماذا لم يقصد إلى حجرة نومه ليبدل ثيابه؟ أم أنه كان في البيت قبل ذهابه هو إليه؟ فكيف استقبلته المرأة باطمئنان؟ أو كيف لا تعلم بوجود زوجها في البيت؟ بل كيف لم يشعر به رب البيت مع أنه غادر المخدع في خطى مطمئنة غير محاذرة؟. . . رباه. . .! لقد نجا من شر فادح. . . وداخله إحساس الذي يستيقظ بغتة فيجد أنه قد اجتاز سوراً شاهق العلو في نومه. . . وتخايلت لعينيه أشباح الإثم والجريمة والسجن، فعزم على أن يضرب بغرامه عرض الحائط متعظاً بالهاوية التي أوشك أن يتردى فيها. ولكنه لبث يذهب لإعطاء دروسه للغلام توتو، وكان يعاني الآم قلبه وجموح عواطفه، ولكن المرأة لم تمهله حتى يتناسى ويتعزى، فعادت إلى اقتحام حجرة الدرس عليه وسألته بعينيها في عتاب وكدر. . . وحين انتهاء الدرس تبعته إلى الباب الخارجي وسألته بحدة: (لماذا لا تأتي؟). . . فقص عليها همساً ما رأته عيناه آخر مرة، ونظر في وجهها ليمتحن أثر كلامه، فها له ألا يرى الانزعاج الذي كان يتوقع، وسمعها تقول بلهجتها الغاضبة:(كذبتك عيناك. . .)، فأكد لها أن ما رآه حق بغير ريب، فاستهانت بتأكيده وقالت له: إنها ستنتظره وترى ما هو فاعل. . . فأبدى لها مخاوفه. . . فقالت وقد نفد صبرها: (أنت مخطئ واهم، فتعال ولا تتعب نفسك بالنظر إلى الشرفة. . . تعال ولا تخف. . .)، فوعدها بالعودة لكي يتخلص من إلحاحها ثم انطلق على نية ألا يعاود ذلك البيت إلى الأبد. . .
ولبث على ذلك أسبوعاً كاملاً. وفي مساء يوم الجمعة، وكان في الشقة - التي يشاركه فيها بعض الأقران - بمفرده، سمع طرقاً على الباب، فمضى إليه وفتحه، فرأى أمامه رضوان بك بجسمه المترهل متوكئاً على عصاه ذات المقبض العاجي. فسرت في جسده رعدة شديدة زلزلت قلبه زلزالاً عنيفاً، ووثب إلى ذهنه خاطر سريع: أن امرأة ربما وشت به كذباً عند زوجها لتكيد له، وأنه جاء للتأديب والانتقام. . . فاستولى عليه اليأس والقنوط، وصعد في وجه الرجل نظرة ارتياع ليقرأ ما تدل عليه إمارات وجهه وما ينذر به حضوره، فرآه هادئاَ مبتسماً كأنما جاء لسلام لا لقتال. ومد يده بالسلام، فمد الشاب يده، ولما يفق من دهشته. . .
ثم تنحى عن الباب وهو يقول مزدرداً ريقه: تفضل بالدخول يا سيدي. . . فدخل البك وهو يتحدث قائلاً: إنه لا داعي للجلوس لأنه على عجل، وأنه جاء ليسأل عن صحته وعما إعتاقه عن متابعة دروسه. . . فاعتذر أنيس بأن موعد امتحانه اقترب وأنه في حاجة إلى كل دقيقة من وقته. . . ولكن البك لم يقتنع بحجته ورفض أن يقبل عذره، وطلب إليه برقة ألا يحرم توتو من دروسه. فعاود الشاب الاعتذار، وكر الرجل إلى الإلحاح، ثم أدنى رأسه من أنيس وقال له: لابد من حضورك. . . فهذا ضروري جداً لتوتو. . . تعال حينما تشاء وكيفما تشاء. . . لابد من حضورك، فهذا ضروري جداً. . . وكان لا يحول بصره عن الشاب، فوجد في نظرته ونبرات صوته ما أثار فضوله ودهشته. . . أما الشيخ، فصمت لحظة متردداً، ثم استدرك قائلاً:(هذا ضروري لتوتو ولسعادتي ولسعادة الأسرة. . . بل لسعادتنا جميعاً. . . فأصغ لي، لابد من حضورك. . .)
واحتقن وجهه بالدم، وارتعشت شفته السفلى وذقنه كالطفل إذا أوشك أن يفحم في البكاء ثم تحول عنه. . . ومضى دون أن ينتظر موافقة الشاب، ولبث هذا في مكانه متفكراً مذهولاً تتجاذبه شتى العواطف. . .
وكان الأسبوع الذي أعقب هذه الزيارة معترك أزمة نفسية عميقة أخذت بتلابيب أنيس، فتقاذفته الغرائز والشهوات، وتجاذبته نوازع اللذة ومغريات السلامة والطمأنينة، وكان ذا عزيمة قوية وسريرة طاهرة وقلب تقي، فآثر السلامة. فلما أن استدار الأسبوع أحس قواه تتماسك وتشتد، فأطرى إرادته وجعل يتناسى بين رضوان بك السيئ الحظ وزوجه الحسناء القلقة الغضوب ويودع ذاك العهد زاوية من زوايا الذكريات الغريبة المنسية. . .
وانتصف مايو، فقصد أنيس يوماً إلى الكلية ليسأل عن موعد ظهور نتيجة الامتحان. ولما بلغت به قدماه باب مقهى المثلث، شعر بإنسان يعترض سبيله بعصاه كالمداعب، فرفع رأسه إليه فرأى رضوان بك يغادر المقهى يسبقه أحد أصدقائه إلى سيارة تنتظر على كثب، فارتبك ورفع يده بالتحية، فالتقت يداهما، وابتسم البك ثم سأله عن حاله، وتحدث معه قليلاً دون أن يعرج إلى الذكريات القديمة. وحين هم بمفارقته غير لهجته وقال بصوت دل على الضراعة والمضض: (أيها الشاب. . . إياك والسخرية من الناس أو الهزء بالبؤساء، فأنت تجهل الدور الذي تعده لك الأقدار غداً. واذكر أن أغرب تصرفات الإنسان لا تعوزها
أسباب تبررها؛ فصن لسانك عن الأذى وحاول ما استطعت أن تتعظ بما يصادفك من العبر - كتب الله حظاً سعيداً. . .) ورفع يده بالسلام وسار في طريقه منتصب القامة يدل مظهره على أنه رجل عسكري بغير جدال.
نجيب محفوظ