المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 421 - بتاريخ: 28 - 07 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٢١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 421

- بتاريخ: 28 - 07 - 1941

ص: -1

‌قديس الوطنية المصرية

للأستاذ عباس محمود العقاد

عرفت الوطنية المصرية زعماء مختلفين منذ الثورة العرابية، ولكنها لم تعرف منهم أحداً أحق من (محمد فريد) صاحب هذه السيرة بلقب القديس الوطني، لان العقيدة الوطنية لها قديسوها كالعقيدة الدينية على ما نعلم؛ وأخص ما للقداسة من صفات هي الأيمان والمفاداة والسماحة وخلوص الضمير.

وقد اجتمعت هذه الصفات لمحمد فريد اجتماعاً لا يمارى فيه أحد، فهو في محراب الوطنية المصرية من الزعماء القديسين لا مراء.

كان فداؤه رحمه الله فداء لا غبار عليه ولا شبهة فيه: ترك الوظيفة في العهد الذي كان الناس فيه يعجبون لتارك الوظيفة ولا يعجبون للمنتحر تارك الحياة. ولم يتركها طمعاً فيما هو أكبر منها، لأنه كان يقود حركة بينها وبين اقرب مراحل النجاح سنون وسنون، ولم يكن يجهل بُعد الشقة ولا بعد الرجاء الذي كان يرتجيه.

ولم يطلب المال وهو ينزل إلى معترك السياسة، فقد كان المال موفوراً بين يديه، وقد أضاعه كله غير نادم عليه وهو في منتصف الطريق.

ولم يطلب الألقاب والمظاهر، فقد اغضب الذين يمنحونها في مصر والأستانة: اغضب الخديو بحملته على سياسة الوفاق وإصراره على الدستور، وأغضب السلطان العثماني بإصراره على استقلال مصر والمناداة (بمصر للمصريين)

وحرم نفسه الراحة وهو في وطنه، كما حرم نفسه الراحة وهو غريب عنه، فكان جماعة (تركيا الفتاة) يناوئونه ويضايقونه لأنه أبى في الحرب العظمى أن سيتبدل احتلالاً باحتلال، وصارحهم إن مصر لا ترضى لنفسها مكان الولاية العثمانية على أي نحو من الأنحاء

وبلغ الذروة العليا من المفاداة حين واجه الموت البطيء أنفة منه أن يواجه التسليم ولو مع السكوت؛ فقد ثقل عليه الداء في أوربا وعلم إن الجو المصري انفع الأجواء له والشتاء مقبلة، وضائقة العالم بعد الحرب محكمة، وليس اثقل من مرض وغربة وفاقة وشتاء بعد صحة ودعة ويسار وقدرة على التنقل بين الأجواء، فآثر التلف البطيء الذي لا تخفى غائلته ولا تخفى عقباه، على أن يشتري السلامة بعودة فيها خضوع وتسليم.

ص: 1

قال الأستاذ الرافعي في مقدمة كتابه عن محمد فريد إن الأمة (لم تقدره حق قدره ولا عرفت له عظيم منزلته).

وهذا ويا للأسف صحيح؛ لأن الصفة الكبرى التي امتاز بها هذا القديس الوطني هي الصفة الكبرى التي نجهلها نحن المصريين أو نحن الشرقيين على التعميم، وهي الصفة الكبرى التي لا نصدقها إن لمسناها ولمسنا آثارها، لأنها أشبه عندنا بغرائب الأساطير وخوارق الطبيعة: وهي المفاداة الخالصة مع الإيمان الثابت. فقد يلام الرجل على هذه الصفة العلوية لأنها تلتبس علينا بالتفريط؛ وقد يحمد على الحرص واقتناء المنافع، ولا يحمد على تضييع منفعة أو نسيان أثره حريصة، لان المفاداة شذوذ لم نألفه طويلاً في عادات المجتمع ولا في عادات الأفراد.

وما من شيء في اعتقادنا هو أجدى على المصريين والشرقيين من كتاب يؤكد صفة المفاداة ويثبت وجودها في رجل معروف السيرة معروف الأعمال مستقيم الخلق كمحمد فريد لم يشتهر بنزوات أهل الشذوذ ولا ببدوات التفرد والاستثناء

فإن الشك في وجود المفاداة يغلق المسالك بين السنة المصلحين الغيورين وأسماع السواد والناشئين: انهم لا يصدقون غيرة المصلح الذي يعمل لفكرة يحققها أو مثل عال يجرى وراءه، وان صدقوا منه هذه الغيرة نظروا إليها نظرتهم إلى طبيعة غريبة ليست منهم وليسوا هم منها، فلا وجه لإقتدائهم بها ومجاراتهم لأصحابها؛ إذ ليس من عادة الإنسان أن يصغي إلى من يحلهم منه محل الغرباء المخالفين لسنته في حياته، وإنما يصغي إلى من يمشون معه على سنة واحدة، وينتفي بينهم وبينه شعور الاستغراب والاستبعاد!

وهذه ولا ريب إحدى فوائد الكتاب الذي كتبه الأستاذ الرافعي في سيرة هذا الرجل الكبير.

على إننا نحب أن نستدرك هنا استدراكا له موضعه وله موجبة فيما يكتب بيننا عن القداسة والقديسين

فقد تعودنا أن تجور صفات القداسة على الصفات الدنيوية حتى خيل إلى أناس منا أن وصف القداسة يجرد الإنسان من وصف العمل الدنيوي أو المدارك الواقعية التي يحتاج إليها الساسة وزعماء النهضات القومية.

فان فهم أحد من وصفنا فريداً بالقداسة أنه لم يكن يدرك السياسة العملية إدراكها الصحيح

ص: 2

فهو مخطئ أيما خطأ، وجاهل بحق الرجل أيما جهالة.

فقد كان فريد على نقيض ذلك أوسع أقرانه علماً بالسياسة العالمية وأوسعهم نظرة إلى العلاقة بين شؤون الوطنية وشؤون الدول والحكومات في العصر الحاضر.

فلم يكن من أصحاب النخوة المحصورة أو الحماسة الضيقة التي تحسبها العصبية بين حيطان بلادها فلا تعدوها إلى غيرها، ولكنه كان يضرب بنظره شرقاً وغرباً ليتابع الأحوال قديما وحديثا متابعة العليم بما بين أطوار العالم ومصير أمته، وبما بين الحركات الإنسانية والحركات القومية من اتصال وتبادل في التأثير. ومن مقالاته قبل خمسين سنة مقالة عن المواصلات البرقية في العالم، وسياحة الرحالة (سفن هدين) في أواسط أسيا، وإنجلترا واسيا بأفريقيا، والإنجليز في غرب أفريقيا، والروسيا في مملكة كوريا، ومطامع أوربا في الصين، ورئاسة جمهورية الولايات المتحدة؛ وأشباه هذه الموضوعات التي لم تكن بينها وبين الحركة الوطنية المصرية صلة قريبة في رأي الأكثرين من كتاب ذلك الجيل والذي اذكره أنا من ذكرياتي الخاصة أنني أفدت من فريد المؤرخ قبل أن أفيد من فريد الزعيم، وأنني قرأت تأريخه للدولة العثمانية قبل أن اقرأ له مقالة سياسية، وقلب أن يتفرغ للدعوة الوطنية ويشتغل بها ذلك الاشتغال الذي صرفه عن التأليف.

وسمعت بعض الأدباء يقول وقد وقع في أيدينا كتاب من كتبه التاريخية: ألم يكن انفع لمصر أن يمضي هذا الباحث المنقب في الشوط الذي بدأه بتاريخ محمد علي، وتاريخ الدولة العثمانية، وتاريخ الرومان، وما إلى هذه المباحث التي لا يزال فراغها محسوساً في المكتبة العربية؟

فوافق الأديب أناس وخالفه أناس، وكان كاتب هذه السطور من مخالفيه ولا أزال من مخالفيه، لان فريداً قد اخرج لنا في القداسة الوطنية طرازاً منقطع النظير، ولم نخسر مع هذا طرازه في عالم البحث والتأليف، وربما كان اصدق ما يقال في سير العظماء (أن الخيرة في الواقع)، خلافاً لما يتمنون لانفسهم، وخلافاً لما تمناه لهم الأصدقاء، وهي قولة مأثورة تنطبق على سير الحاملين فيما نرى، كما تنطبق على سير النابهين.

ولقد كتب فريد صفحات طوالاً في تاريخ القسطنطينية لم يكن عسيراً على من دونه علماً وخلقاً أن يكتبوها أو يكتبوا أمثالها، أما الصفحة التي كتبها لنفسه في القسطنطينية أيام

ص: 3

الحرب العظمى فإحدى صفحات قلائل في سجل البطولة لا يكتبها ألا فريد ومن وهبوا ما وهبه فريد من فضيلة الصدق والمفاداة، وهم قليلون

ومثل لنفسك رجلاً منقطعاً عن بلده، منقطعاً عن موارده، ليس له جند ولا مال، وليس له ملجأ يحميه من أصحاب الجند والمال هناك، وأينما دار ببصره لم يجد حوله ما يثبته ويملي له في رأيه، بل وجد العوائق والمحظورات شتى تفت في عضده وتثنيه، وتؤيسه من عاقبة جهوده وأمانيه. . . والدنيا حرب والقول ما قال العسكريون والدولة مشغولة كلها بالحملة على مصر أو على الولاية التي ستعود إلى مكانها القديم من الدولة العثمانية، وهذا الرجل في عزلته وبين ثلاثة أو أربعة ممن يسيرون على نهجه يقفون في وجه هذا السيل الجارف ليصدوه بكلمة هي أقسى ما يسمع من قائل في تلك الأيام، وهي أن مصر للمصريين وليست للعثمانيين ولا لغيرهم من الفاتحين. . .

هذه صفحة فريد في القسطنطينية

وليس في تاريخ بني عثمان ولا تاريخ دولة من الدولات ما هو أولى بالتسجيل والتمجيد من هذه الصفحة التي كتبها بوحي لا يستوحيه مؤرخو الأبطال، بل يستوحيه دونهم أبطال المؤرخين

وشاء القدر أن يبوء هو بفخارها وألا يبوء خصومه إلا بصغارها وعارها. فأولئك الذين عارضوه وعاندوه وأكرهوه على اللياذ منهم بآفاق أوربا وهي أضيق عليه من سم الخياط. . . أولئك المعارضون والمعاندون هل عارضوه وعاندوه إيثاراً لتركيا أو إيثاراً لمصر أو إيثاراً للحرية والحضارة الإنسانية؟

. . . كلا. بل كان هذا وزيراً منافساً لأمير مصر فهو يغتنم الفرصة السانحة لشفاء الضغن وإحياء التراث، وكان هذا قائداً طموحاً فهو يتخذ من دولته ومن مصر معها مطية لطموحه؛ وكان هذا وذاك وغيرهما مصريين يقسمون بينهم مناصب الحكم في الولاية العثمانية المنظورة!! وكان فريد وحده أو فريد ومعه تلميذان أو ثلاثة من مريديه يعملون للحق ويخلصون للدولة العثمانية إخلاصهم للامة المصرية

وهذه إحدى الصفحات التي كانت تفوتنا لو قضى فريد حياته في تاريخ الأبطال، ولم يقضها بطلاً يرتجل هذه العظات والأمثال

ص: 4

وستنصف مصر فريداً يوم تنصف نفسها وتستحق الإنصاف من أقدارها. أما اليوم فكل ميدان فيها يتسع لتمثال فريد فهو ميدان يتسع للتنبيه والمؤاخذة، ويتسع لكلام كثير.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌المأموني الشاعر

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

ذكرت من قبل طرفاً من أخبار أبي المظفر الأبيوردي الشاعر القرشي الأموي وسميته (شاعر العرب في القرن الخامس) إذ كان يعرب عن أخلاق العرب وعاداتهم، ويبين عن آمالهم وآلامهم.

واذكر في هذا المقال شاعراً آخر من بني الخلفاء عرف باسم المأموني، ينتهي نسبه إلى الخليفة المأمون بن الرشيد رضي الله عنهما.

وأقدم قبل الحديث عن هذا الشاعر أن ما نعرفه عن أخباره مأخوذ عن الثعالبي صاحب يتيمة الدهر. وإنما يروي الثعالبي أخبار هذا المأموني في الري ونيسابور وبخارى، اي في خراسان وما وراء النهر. ويحدثنا هذا المؤلف الكبير عن شاعر آخر من بني الخلفاء يسمى الواثقي، من بني الواثق بن المعتصم ابن الرشيد، ويروى من أنبائه في تلك الأقطار أيضاً. ويخبرنا انه كان ببخارى إذ ذاك جماعة من بني الخلفاء العباسيين تجري عليهم الأرزاق، منهم: ابن المهدي وابن المستكفي. وإن قارئ هذه الأخبار ليعجب ويتساءل لماذا يذهب بنو الخلفاء إلى خراسان وما وراء النهر في طلب الرزق؟ وأن جاز أن يضطر إلى هذه الرحلة أبناء الخلفاء الذين بعد الزمن بينهم وبين الخلفاء من آبائهم كأبناء المهدي والمأمون والواثق، فكيف أدركت الضرورة ابن المستكفي وقد لبث المستكفي في الخلافة إلى سنة 334، فما مضى نصف قرن من خلافته إلى الزمن الذي يحدثنا بأخباره الثعالبي؟

ومرد هذا في رأيي إلى أمرين: الأول أن استيلاء البوبهيين على العراق عام 334 - وهي السنة التي خلع فيها المستكفي، وبأيديهم خلع - ذهب بهيبة الخلفاء وثروتهم، وأورث أبنائهم الفقر العاجل، وكان بنو بويه يتشيعون ولا يؤمنون بخلافة العباسيين

والثاني أن بني الخلفاء كانوا يلقون حفاوة وإكراماً في تلك البلاد، وان أمراء السامانيين ووزرائهم كانوا يمنحونهم من التعظيم والبر ما يحبب إليهم ركوب الأسفار البعيدة إلى تلك الديار النائية؛ والسامانيون كانوا يدينون بالطاعة لبني العباس ويؤمنون بخلافتهم

- 2 -

ص: 6

وأما المأموني فيحدثنا عنه الثعالبي أنه فارق وطنه بغداد وهو حدث إلى مدينة الري، فامتدح الصاحب بن عباد بقصائد أعجبته فأكرم مثواه وقربه. يقول الثعالبي: (فدبت عقارب الحسد بين ندماء الصاحب وشعرائه، وطفقوا يركبون الصعب والذلول في رميه بالأباطيل، ويتقولون عليه اقبح الأقاويل، فطوراً ينسبونه إلى الدعوة في بني العباس، ومرة يصفونه بالغلو في النصب واعتقاده تكفير الشيعة والمعتزلة، وتارة ينحلونه هجاء في الصاحب يعرب عن فحش القدح، ويحلفون على انتحال ما اصدر من شعر في المدح، حتى تكامل لديهم إسقاط منزلته لديه، وتكدر ماؤه عنده عليه. وفي ذلك يقول قصيدة يستأذنه فيها للرحيل:

فكنت يوسفَ، والأسباط هم وأبا

الأسباط أنت ودعواهم دماً كذبا

وعصبة بات فيها الغيظ متقداً

إذ شدت لي فوق أعناق العدا رتُبا

أرى مآربكم في نظم قافية

وما أرى لي في غير العلى أرباً

فارق المأموني الري إلى نيسابور، وفيها حينئذ أبو بكر الخوارزمي الكاتب المعروف، فأشار عليه الخوارزمي بإنشاء قصيدة في الشيخ أبي منصور كثير بن احمد يسأله فيها تقرير حاله عند صاحب الجيش أبي الحسن بن سيمجور - وبنو سيمجور من ولاة الدولة السامانية وقوادها - فأنشأ المأموني القصيدة وابلغها الخوارزمي الشيخ كثيراً، وحسنها لديه وأثنى على هذا الشاعر الشاب. فوقعت القصيدة ممن أهديت إليه موقعاً حسناً، وفي هذه القصيدة يقول:

إلى الله أشكو مُنًى في الحشى

تضُمن جنبايَ منها سعيراً

تُفارق بي كل يوم خليلاً

وتفجع بي كل يوم عشيرا

فإن تسألانِيَ يا صاح

بي نص السُرى تجداني خبيرا

ففي كل يوم تراني الركا

بُ أفارق ربعاً واحتل كورا

إذا سرت عن صاحبي قلتُ عُ

دَّ لعَودي السنين وخل الشهورا

أراني ابن عشرين أو دونها

وقد طبّق الأرض شعري مسيرا

إذا قلت قافية لم تزل

تجوب السهول وتطوى الوعورا

ولو كان يفخر ميت بحي

لكان أبي هاشمٌ بي فخورا

ص: 7

ولو كنت أخطب ما استحق

لما كنت أخطب ألا السريرا

ولو سرتُ صاحت ملوك البلا

د بين يدَيَّ النفير النفيرا

ولكنني مكتف باليسير

إذا سهّل الله ذاك اليسيرا

ويتبين في هذه القصيدة نشوة الشباب، وفخر الشاعر بآبائه واستحقاقه الملك كما تتبين قناعته ورضاه باليسير، وما طموحه وقناعته ألا من التناقض بين الانتساب إلى المأمون والمدح والعطاء.

أنهى الشيخ كثير أمر هذا الشاب العباسي الشاعر إلى صاحب الجيش.

يقول الثعالبي: (فلما وقف على صورة حاله أنهاها إلى صاحب الجيش فاستدعاه. وحين وصل إليه، استقبله بخطوات مشاها اليه، وبالغ في إعظامه وابلغ في إكرامه. ثم خيره بين المقام بنيسابور وبين الانحدار إلى الحضرة ببخارى - يعني عاصمة الدولة السامانية - فاختار الخروج فوصله وزوده من الكتب إلى وزير الوقت وغيره من الأركان)

رحل الشاعر الشاب عن نيسابور ميمما بخارى فابلغه إليها سفر طويل شاق؛ وكأنه يصف هذا السفر في أول قصيدة أنشأها في بخارى مادحاً أحد رؤسائها أبا الحسين عبد الله بن احمد:

وليل كأني فيه إنسان ناظر

يقلب في الأفاق جفنيه داميا

إذا ما أمالتني به نشوة الكرى

تمايل في كفي المثقف صاحيا

وأمّا طما لُجّ المنى بين أضلعي

تعسَّفت لجا من دجى الليل طاميا

فأمسى شجا في ظلمة الليل دالجا

وأضحى قذى في مقلة الصبح غاديا

أحسن أبو الحسين وفاده ابن المأمون، وبلغ الغاية في إكرامه. يقول الثعالبي:

(فتقبله بكلتا اليدين واعجب منه بفتى من أولاد الخلافة يملأ العين جمالاً والقلب كمالاً)

وواصل صلاته، وخلع عليه، وألحقه في الرزق السلطاني بمن كان هناك من أولاد الخلفاء: كابن المهدي وابن المستكفي وغيرهما. وتتابع الوزراء على إكرامه، فكان كلما دالت الدولة لوزير نافس من تقدمه في الحفاوة والبر به

يقول الثعالبي: (وجعل كل منهم يربى على من تقدمه في الإحسان إليه، وإدرار الرزق عليه، وإخراج الخلع السلطانية والحملانات بمراكب الذهب، حتى حسن حاله، وتلاحق

ص: 8

ماله، وظهرت مروءته). وكان هو لا يألو في شكر أياديهم بقصائد يكافئ فيها نعمهم، فلبث في بخارى حقبة مغتبطاً راضياً

ومن قصيدة له في مدح ابن عزيز أحد وزراء بخارى:

أعبدَ الله لا خُيرتُ بيتاً

مدى الأيام ألا في علاكا

فكم لك من يد قلدتنيها

فلست أرى لها عني فكاكا

ولو حَمّلتَ ما حَملتَنيه

شَمامِ لما استطاع به حراكا

وقد ألبستني أثواب عزَّ

وقد أَوطأتَ أخمصىَ السَّماكا

فحسبك من عُليً أعليت كعبي

برفعكه، فقد بلغ السَكاكا

قال أبو منصور الثعالبي: (رأيت المأموني ببخارى سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، وعاشرت منه فاضلاً ملء ثوبه، وذاكرت أديباً شاعراً بحقه وصدقه، وسمعت منه قطعة من شعره، ونقلت أكثره من خطه: وكان يسمو بهمته إلى الخلافة، ويمني نفسه قصد بغداد في جيوش تنظم إليه من خراسان لفتحها، فاقتطعته المنية دون الأمنية. ولما فارقته لم تطل به الأيام بعدي حتى اعتل علة الاستسقاء، وانتقل إلى جوار ربه، ولم يكن بلغ الأربعين. وذلك في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة).

ويصدق الثعالبي فيما حدث عن همة هذا الفتى وبُعد أمله وطمعه في الخلافة، شعر له ينطق عن هذه الهمة وهذا الأمل، ويعرب عن ثقة الرجل بنفسه واعتداده بها. يقول في قصيدة أنشأها في بخارى:

أنا بين أحشاء الليالي نار

هي لي دخان والنجوم شرار

فمتى جلا فجر القضاء ظلامها

صليِتْ بي الأقطار والأمصار

بي تحلم الدنيا وبالخبر الذي

لي منه بين ضلوعها أسرار

فبكل مملكة عليَّ تلهُّف

وبكل معركة إلي أوار

يا أهلُ ما شَّطت برحلي رحلة

ألا لتسفر عني الأسفار

لي في ضمير الدهر سر كامن

لا بد أن تستله الأقدار

- 3 -

وأما شعر المأموني فوسط لا يسمو إلى الذروة ألا قليلاً. وقد اثبت صاحب اليتيمة له قصائد

ص: 9

قليلة وقطعاً كثيرة أكثرها في وصف الأزهار والفواكه والأواني والأطعمة. وقد صدرها المؤلف بقوله: (وهذا ما اخترته من شعره في الأوصاف والتشبيهات التي لم يسبق إلى أكثرها).

فأما قصائده فمنها قصيدة في مدح الصاحب إسماعيل بن عباد مطلعها:

يا ربع لو كنت دمعاً فيك منسكباً

قضيت نحبي، ولم اقض الذي وجبا

لا ينكرون ربعك البالي بلى جسدي

فقد شربت بكأس الحب ما شربا

ولو أفضت دموعي حسب واجبها

أفضت من كل عضو مَدْمعاً سرَبا

عهدي بعهدك للذات مرتبعاً

فقد غدا لفؤادي السحب منتحبا

وهذه أبيات تذكر بقصيدة المتنبي التي أولها:

دمع جرى فقضى في الربع ما وجبا

من حقه وشفى أنَّي ولا كربا؟

وكأنه أراد بمطلعه مناقضة مطلع المتنبي. ومحاكاة المتنبي في الوزن والقافية تظهر في قصائد أخرى. وكان المتنبي شاعر القرن الرابع، وقد ولد المأموني في أواخر حياة أبي الطيب، والزمان يدوي بذكره ويصدق قوله:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي

إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا

وللمأموني قصيدة أخرى يمدح بها أحد وزراء بخارى أولها:

سيخلُف جفني مخلفات الغمائم

على ما مضى من عمري المتقادم

بأرض رواق العز فيها مطنَّب

على هاشم بين السُّهى والنعائم

يدين لمن فيها بنو الأرض كلهم

وتعنو لهم صيدُ الملوك الأعاظم

ويهماَء لا يخطو بها الوهم خطوة

تعسَّفتها بالمرقلات الرواسم

وقد نشرت أيدي الدجى من سمائها

رداء عروس نّقطت بالدراهم

فخلنا نجوماً في السماء أسِنَّة

مذّهبة ما بين بيض صوارم

وأظنه حاول فيها محاكاة أبي الطيب في قصيدته التي مدح بها ابن طغج:

أنا لائمي إن كنت وقت اللوائم

علمت بما بي بين تلك المعالم

وأخرى من قصائده في مدح أبي نصر أحد وزراء بخارى ووصف دار بناها، أولها:

قد وجدنا خُطى الكلام فِساحاً

فجعلنا النسيب فيك امتداحا

ص: 10

وهو مطلع يذكر بقول أبي الطيب:

وقد وجدت مجال القول ذا سعة

فإن وجدت لساناً قائلاً فقل

ومما وصف به الدار:

بَهوها يملأ العيون بهاء

صَحنها يملأ الصدور انشراحا

شِيدُها فضة، وقرمدها تِبْ

ر قد امتيح من نداك امتياحا

وثراها من عنبر شيب بالمس

ك فإن هبَّت الصِّبا فيه فاحا

كل ناد منها قد اتشح الفر

شُ بثوب الربيع فيه اتشاحا

صبغة من دم القلوب فمن أب

صره اهتز صبوة وارتياحا

ما بكاء الرياض بالطل إلا

خجلاً من رياضها وافتضاحا

شابه النقشُ فرشها مثل ما

شابه ولدانها دُماها الصباحا

وكأن الستور قد نشر الطا

وس منها في كل باب جناحا

وكأن الجامات فيها شموس

أطلعتها ذٌرى القباب صباحا

هذا حديث فتى من بني الخلافة بعيد الهمة طماح، وشاعر من الشعراء الأمراء الذين تشرق أقوالهم في جوانب الأدب العربي ذكراً للهمم العربية والأدب والبلاغة، أدب النفس واللفظ، وبلاغة الأفعال والأقوال.

عبد الوهاب عزام

ص: 11

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

ليسمع مدير الجامعة ووزير المعارف - فرنسي يستمصر

فيستغرب - الشيخ حسين علي - إلى بعض النواب

والصحفيين - منارة أبي العباس

ليسمع مدير الجامعة ووزير المعارف

كنت شغلت نفسي عدداً من السنين بالدعوة إلى جعل اللغة العربية لغة التدريس في جميع كليات الجامعة المصرية، وانتهزت فرصة اشتراكي في المؤتمرات التي تعقدها (الجمعية الطبية)، فجعلتها مواسم لبث هذه الدعوة بين المشتغلين بالعلوم من أبناء الأمم العربية، وما زالت ألح حتى مللت وأمللت، فانصرفت عن نشر تلك الدعوة وأنا آسف حزين

واليوم أطلع على عبارة تستحق التفات مدير الجامعة ووزير المعارف، فقد جاء في النشرة التي أصدرتها الجامعة العبرية بالقدس أن جميع الدروس في تلك الجامعة تلقى باللغة العبرية ما عدا بعض دروس اللغات

فما معنى ذلك؟

معناه أن اليهود يرون لغتهم قديرة على التعبير عن جميع المعاني في مختلف الأغراض، وإنهم يرون من القومية أن يدرسوا آداب اللغات الأجنبية باللغة العبرية، مع استثناء طفيف يوجبه الحرص على التعمق في بعض اللغات

فكيف تعجز لغة العرب عما قدرت عليه لغة اليهود؟

إن اللغة العبرية لم تكن يوماً لغة علم ومدنية على نحو ما كانت اللغة العربية، فكيف استطاع اليهود أن يخلقوا من لغتهم أداة صالحة لدرس مقومات التمدن الحديث، بعد أن ظلت في غيابات السجن عشرات الأجيال؟

الجواب حاضر، ولكن أين من يسمع؟

والجواب أن اللغات لا تقوم بنفسها، وإنما يقوم بها أهلوها الجواب أن اللغات من صنع الناس، وإن كانت في بعض صورها من مواريث التاريخ، فما كان يجب على العرب في

ص: 12

العصور الخوالي أن يبتكروا أدوات التعبير عن شؤون لم يشهدوها ولم يعرفوها، وإنما يجب علينا أن نعبر عما شهدنا وعرفنا، كما عبروا عما شهدوا وعرفوا، لنستطيع القول بأننا أهل للإنشاء والإبداع، وكان أسلافنا من أكابر المنشئين والمبدعين

كان يجب على لغة العرب - كما يتوهم أهل الغفلة - أن تحيط بكل شيء، وإلا فهي جديرة بما يصبون عليها من عذابا العقوق!

فهل كان الأمر كذلك في لغات الإنجليز والفرنسيين والألمان، حتى نطالب لغة العرب بخلق المستحيل؟

لغات العالم والمدنية في هذا العصر كانت فقيرة ثم أغناها أهلوها بالنحت والاشتقاق والاقتباس، فمتى نصنع كما صنع الأحياء من أبناء هذا الزمان؟

أكبر هموم علمائنا اللغويين أن يعترضوا على نيابة حرف عن حرف، وأن يقول قائلهم: إن للعرب كيت ولا تعرف زيت، وأن يثوروا على أي تعبير لا يجدون له شواهد في لأقوال القدماء، كأن من الحرام أن يكون لنا في اللغة حق الاجتهاد، وهو حق لم يحرم على أبناء البوادي، ولو كانوا من أكلة الضباب واليرابيع!

اليهود لهم لغة يدرسون بها جميع العلوم؟؟؟

هو ذلك، لأن اليهود يريدون أن يقيموا الدليل على أنهم أحياء

ولو جاز أن يفتن قوم بأوربا ولغاتها، لكان اليهود أولى بذلك الفتون، لأن لهم طلائع في جميع البلاد الأوربية، فممن أخذنا نحن فتنة الخضوع الأحمق للغات الأجنبية، ولنا وجود أدبي واجتماعي لم تفلح في زعزعته الكوارث والخطوب؟

نستطيع بدون صعوبة ولا عناء أن نجعل لغة العرب لسان العلم والمدنية في الشرق، فنزاحم بها ألسنة الأجانب، ونستبقي أعمار أبنائنا فلا نضيع في (رطانات) لا ينتفع بها منهم غير آحاد

وأنا لم أبتكر القول بجناية اللغات الأجنبية في تعويق مواهب الشبان المصريين، فقد أعلن الأستاذ محمد بك حسين هذا الرأي في خطبة ألقاها بالمنصورة في السنة الماضية، وكانت حجته أن الشبان يقضون أطيب أعمارهم في دراسة اللغات، وهي دراسة لم تنتقل من الحفظ إلى الفهم، حتى تعود أذهانهم بالصقل والتهذيب

ص: 13

ولكن ما الذي نصنع ونحن في احتياج إلى معرفة اللغات الأجنبية، لنتصل بالتيارات العلمية في العصر الحديث

نكون طائفة خاصة تكون مهمتها الاشتغال بالترجمة لنغني اللغة العربية بإمداد جديدة في ميادين العلم والطب والاقتصاد والتشريع، وعندئذ تنفعل اللغة العربية بتلك الإمداد، وتصبح مورداً غنياً بآثار الأفكار والعقول، فيمكن الاجتهاد في ميادين كثيرة عن طريق اللغة العربية، كما اتفق المرحوم الشيخ أحمد الإسكندري أن ينتفع بالمترجمات، فصار يفكر على الأساليب الحديثة في التفكير بدون أن يتصل بإحدى اللغات الأجنبية، وبدون أن يتتلمذ لأحد من الأجانب، وله أبحاث تؤيد ما نقول منها بحثه المشهور في اصطلاحات الكيمياء.

فرنسي يستمصر فيستغرب

في هذه الفقرة أسوق حديثاً يشهد بما تصنع العزائم الصوادق في تذليل الصعاب:

كانت البعثة المدنية الفرنسية رأت أن تقصر مهمة مدارسها في مصر على إعداد تلاميذها للبكالوريا الفرنسية، إلا مدرسة واحدة هي الكلية الفرنسية بالظاهر، فقد رأت البعثة أن يعد تلاميذها للبكالوريا المصرية من القسم الفرنسي

ومدير هذه المدرسة هو المسيو مارسيل بونان، وقد أقام في مصر أكثر من عشرين سنة فلم يعرف من اللغة العربية غير ألفاظ معدودات، مثل مدرسة وقهوة وفراش!! وكان المنطق يوجب أن يجعل أبنه من تلاميذ الليسيه ليفوز بالبكالوريا الفرنسية بدون عناء، ولكن الرجل أصر على أن يجعل ابنه تلميذاً في مدرسته ليفوز بالبكالوريا المصرية مع صعوبة اللغة العربية على شاب لغته الفرنسية ودروسه بالفرنسية وحديثه في البيت بالفرنسية

وظل الشاب يتعثر من عام إلى عام في امتحان البكالوريا المصرية، وكان مفروضاً على من كان في مثل حاله بحكم النظام الجديد أن يؤدي امتحان اللغة العربية في مقررات أربع سنين، وذلك عبء ثقيل!

ونصحت للمسيو بونان مرات كثيرة أن يعدل منهج أبنه في الدراسة فلم يقبل، وكان جوابه أنه يريد أن يمحو الخرافة التي تقول بأن التفوق في اللغة العربية مستحيل على الأجانب!

وأخيراً، وبعد جهاد عنيف، نجح الشاب جاك بونان في امتحان الثقافة العامة بتفوق، فهو أول فرنسي يزاحم الطلبة المصريين في الامتحانات العمومية

ص: 14

بقيت خطوة واحدة، هي أن يعرف هذا الشاب أن حي الظاهر في رعاية سيدي عبد الوهاب الشعراني، فمتى يصلي معي الجمعة في مسجد الشعراني؟

أسلم تسلم، يا جاك؟!

الشيخ حسين علي

ما فجع رجل بأبيه إلا تجدد جزعي لفجيعتي بأبي، فما استطعت دخول البيت الذي مات فيه إلى اليوم، ولا تمثلت وجهه الأصبح إلا غلبني البكاء

من أجل هذا رأيت الحزن يعصر قلبي حين قرأت في الجرائد أن الدكتور طه حسين فقد أباه، ورثه الله عمر أبيه، ومنّ عليه بالصبر الجميل!

أبو الدكتور طه هو الشيخ حسين علي، وكان رجلاً في غاية من اللوذعية والأريحية، وإن لم يظفر من الألقاب بما يحفظ له مكانة بين رجال التاريخ

وقد أكد عندي فكرة الوراثة العقلية والروحية؛ فقد كان عقله على جانب من الرجاحة، وكان روحه على جانب من الصفاء.

قضى الشيخ حسين حياته في عملٍ بسيط بإحدى قرى الصعيد، ولكن بعده عن الحياة الفكرية في العاصمة لم يحل بينه وبين الاتصال بما كان يجد من تطورات الآداب والفنون، فكان يحدثك عن المدنية الحديثة بأسلوب يقنعك بأنه من أبناء الجيل الجديد، على بُعد بلده من التأثر بأفكار الجيل الجديد.

كان الشافعي يقول: (الحر من راعى وداد لحظة)، وقد واددت هذا الرجل لحظتين، فمن واجبي إن اذرف عليه دمعتين

والى الدكتور طه وأخوته أقدم أصدق العزاء.

إلى بعض النواب والصحفيين

يطيب لجماعة من النواب والصحفيين أن يتحدثوا عن مصر بعبارات لا تخلوا من ازدراء واستخفاف، وقد تصل إلى الطعن والتجريح في بعض الأحيان، وأنا انظر إلى هؤلاء نظر الإشفاق، لأن أقوالهم تشهد بأن فهمهم للمجتمع المصري فهم ضعيف، ولأنهم نشئوا في أوقات لم تخرج فيها طرائق الوعظ عن البكاء والأستبكاء.

ص: 15

وأضرب المثل بقول الأستاذ الشيخ محمد دراز وهو يهدد في مجلس النواب:

(أصبحت هذه البلاد لا هي بالبلاد الدينية، ولا هي بالبلاد اللادينية، ولا هي بالبلد الشرقي، ولا هي بالبلد الغربي، وذلك ظاهر في كل مظاهرها، ليس في الزي فقط، ولكن في الثقافة والخلق وكل ما يتصل بحياتنا الخلقية والاجتماعية)

وهذا النائب هو أيضاً مفتش الوعظ والإرشاد بالديار المصرية، فان كان صادقاً فالأمة في بلاء، وألا فهو نفسه بلاء، والله الحفيظ!

كان الظن برجل مستنير مثل الشيخ محمد عبد اللطيف دراز أن يدرك أنه لا يجوز الجهر بمثل هذا الكلام في مجلس النواب، لأنه طعن صريح في الأمة المصرية، ولأنه كلام أجوف لا طائل تحته ولا غناء

ولكن ما ذنبه وهو يتوهم أن رجال الدين يجب عليهم أن يصرخوا في كل وقت، وأن يشهدوا بأن أبناء اليوم ليسوا إلا شر خلف لخير سلف، وأن سعادة الدارين لن تكون إلا من نصيب من يعيشون بقلوب لا تحس روح المدنية في القرن العشرين؟

هذا الواعظ مسئول عن تغيير منهجه في الوعظ، وألا كانت عظاته أقاويل مشئومة لا تُدخل البشاشة الدينية إلى صدور المؤمنين

وقد استراح الأستاذ علي الغاياتي إلى صرخات الأستاذ محمد دراز فعلق عليها في مجلته منبر (الشرق) بعبارات هي غاية في الإيذاء، فقد قرر أن أكثرنا مسلمون جغرافيا فقط، وأن الواقع لا يقر لكثير منا بوطنية ولا بمصرية!

وماضي الأستاذ علي الغاياتي يصدنا صداً عن محاسبته على هذا الجور البغيض، فلم يبق إلا أن نرجوه أن يترفق في الحكم على أمته وأن ينظر إليها بمنظار لا يحجب عنه ما فيها من نضارة وإشراق.

وإن أراد المنطق فليسمع:

لقد أراد السخرية من زعامة مصر الأدبية والدينية، وكانت حجته إننا عجزنا عن توحيد كلمتنا والذود عن حمانا

أما توحيد الكلمة فهو مطلب براق ولكن انعدامه لا يؤذينا في شيء، لأن الخلاف من أقوى مظاهر الحيوية في الشعوب، ونحن نختلف أقل مما يجب، ويا ويلنا إذا لم نختلف!

ص: 16

وأما عجزنا عن الذود عن حمانا، فلا يرجع إلى جبن أو استخذاء، وإنما يرجع إلى ظروف يعرف الأستاذ منها أضعاف ما أعرف، وما مر يوم بدون أن يجاهد المصريون ليكون لهم جيش قادر على دفع العدوان بالعدوان

وأذن فسخريتك ضرب من الشماتة وأنت تجهل!

وما أظلم من يشمت بأمة لم يكن نكولها عن الحرب إلا إشفاقا على بنيها من الفناء، وذلك مصير من يواجه الحرب بلا استعداد.

أليس من الإثم الموبق أن تقول: إن الشعب قد فقد شخصيته وبات عالة على الأمم والشعوب؟

الشعب المصري لن يفقد شخصيته أبداً، ولن يبيت عالةً على أحد، فاتق الله في أمتك، أيها الرجل المفضال، وأحذر من العودة إلى مثل هذا التجني المقيت، فقد نستطيع القول بأن القلوب الصحاح ليست من المرض في أمان

ولفضيلة الشيخ دراز أن يسمع هذا النذير، إن أراد!

منارة أبي العباس

من أعظم الأعمال التي قامت بها وزارة الأوقاف تجميل مسجد أبي العباس المرسي بالإسكندرية، فله منارة ستصير علم الهداية للسفن الضوال بعد انتهاء الحرب، وستكون بشيراً لكل قادم بأنه يفد على مدينة إسلامية.

وإذا تذكرنا أن أبا العباس كان من أعلام الصوفية، وأن لقبه (المرسي) سُمي به ألوف وألوف من أبناء الأمة المصرية كان من السهل أن ندرك كيف خصته وزارة الأوقاف بذلك الالتفاف!

ولكن بعض الوعاظ الذين آذاهم أن نقول بوجوب زخرفة المساجد ردوا علينا في إحدى مجلاتهم بان مسجد أبي العباس بلغت تكاليفه نحو المئتين من ألوف الجنيهات، ولو انفق ذلك المبلغ في إعداد طائرات لوقى الإسكندرية من أخطار الغارات الجوية!

وهذا كلام معقول، ولكنه كلام العوام الذين يرتدون ثياب الخواص.

وكيف تكون الحال لو عم هذا المنطق (المعقول) فدعونا الحكومة إلى إلغاء ميزانية المعاهد الدينية لنشتري بها طيارات ودبابات؟

ص: 17

وكيف تكون الحال لو عم هذا المنطق (المعقول جداً) فقلنا أن الأمة لا تحتاج إلى وعاظ بقدر ما تحتاج إلى جنود، وإن من الواجب أن نأخذ مرتبات الوعاظ لننفقها في إعداد الجنود؟

وإذا تم هذا، أو بعض هذا، فما مصير من يأكلون العيش باسم الدين، وهتلر رضي الله عنه أو غضب عليه - يقول: هذا عصر دبابات لا عصر ديانات؟ حدثوني كيف تصنعون، إذا عم هذا المنطق (المعقول) فأنا أعرف مصايركم إذا احتكمت الدنيا إلى هذا الميزان المخلول؟

كان يكفي أن تقولوا إن زخرفة المساجد ليست من تقاليد الدين الإسلامي، أما دخولكم في شعاب تحتاج إلى دليل من الفكر والمنطق فهو المأزق الذي أرجو أن تخرجوا منه سالمين، إن كانت السلامة من نصيب من يواجه الشمس بعين رمداء

زكي مبارك

ص: 18

‌للتاريخ لا للأدب

كارثة دمشق

للأستاذ علي الطنطاوي

(يا أيها العرب: إن أجبتم دمشق، فافهموا هذا الفصل بعقول جيوبكم، بعد أن تفهموه بعقول رؤسكم، واعلموا أن القليل إلى القليل كثير، والله يجزي والناس تشكر، والساعي في الخير كفاعل الخير، والصديق عند الضيق.)

- 1 -

عادت إلينا الرسالة بعد طول الغياب فيا أهلاً بها نجية النفس وسميرة الفؤاد، ويا مرحباً بمعادها - ويا ليتها تعود معها تلك العهود، حين كانت أقلامنا تجري طليقة من القيود - لم تصبغ بالدم ولم تجعل مدادها من سواد البارود. . . ويا ليت أني حين أكتب اليوم أقدر على اجتناب أحاديث الكوارث والهموم، فلا أقص على القراء أخبارها، وأصف آثارها، فأزيدهم كرباً على كربهم. وحسب الرجل اليوم همه، وما بلد إلا وفيه ما يغمه. . . وما تجمل بنا الشكوى، لولا أنها إلى أخ حبيب. ومن للأخ في الضيق غير أخيه؟ ومن للشام إلا مصر والعراق؟ ومن لمصر إلا العراق والشام، ومن تجمعه بها أخوة الجذم واللسان والإسلام؟ وكيف السكوت وما حل بدمشق ينطق بوصف هوله الجماد لو كان ينطق الجماد، وتفيض له أعين الصخر، لو بكى الصخر لذي مصاب. . .

- 2 -

كنا نذكر الحرب التي مضت وما حملت إلينا من الجوع والخوف والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، وكيف كان الشعب يموت جوعاً لأن التجار الفجار قد احتكروا خبزه، فذهب من الناس من ذهب، لتمتلئ صناديق المحتكرين بالذهب، ثم لا يجد الأموات قبراً لأن الحرب لم تبق من الرجال من يقدر على حفر قبر. نذكر هذا كله ثم ننظر إلى هذه الحرب فنراها سلاماً علينا وأمناً لم نجع فيها ولم نعر، ولم تنل منا منالاً اللهم إلا ما نالت بأظافر التجار وأنيابهم، إذ جعلوا الواحد من ثمن الأشياء عشراً، وربما بلغوا ببعض الأثمان مائة ضعف. وما قلت السلع ولا تبدلت، ولكنه الطمع والجشع ورقة الدين وضعف الخلق!

ص: 19

واستمر مرير الحرب، وانتشرت نارها ونحن لا نعرف مكانها إلا على السماع، وجعلت تطيف بلهبها بنا، وتدنو منا، فأمتد لسانها إلى مصر فجزعنا وأشفقنا وكنا مع المصريين بقلوبنا وألسنتنا، وما نملك لعمري إلا الألسنة والقلوب، ثم دنت منا فبلغ لهيبها العراق، فأقبلنا على العراق بقلوبنا وما جانبت مصر ولا تولت عنها تلك القلوب، ثم أصبحنا ذات يوم على صوت الراد (الراديو) يقول إن الحرب في (الكسوة) على أبواب دمشق، فنظرنا شطر القبلة فلم نجد على جبل (المائع) أثراً لحرب، فكذبنا وأنكرنا، فقال العارفون إن المعركة وراء هذا الجبال. وأكدوا ذلك ولكنا لبثنا مكذبين، فلم تكن إلا ليال حتى بدت في الأفق القبلي من دمشق ومضات المدافع وسمعنا أصواتها فصدقنا ما قال الراد، وأيقنا أن قد بلغتنا الحرب، ولكنا لم نكبرها ولم يصبنا الذعر منها، إذ لم تمسسنا نارها، ولا أحسسنا أوارها، ثم دنت منا النار، وانطلقت المدافع الثقال من قلاع (المزة) و (قاسيون)، فاهتزت لها دمشق ولكن أفئدة أهلها لم تهتز، فانطلقوا يؤمون (المهاجرين) يشرفون منها على المعركة وهي دانية منهم وأصواتها في آذانهم، وشظاياها عن أيمانهم وشمائلهم. وانهم لفي إشرافهم هذا، واجتماعهم في المهاجرين، عشية يوم الجمعة 20 يونية، يتحدثون في عرض الجيش المهاجم على المقاتلين في دمشق كف أذاهم عنها، وتركها (مكشوفة) كيلا تعبث بمحاسنها أيدي الحرب، فتجعل عامرها يبابا، وقصورها تلال؛، وكيف أبى المقاتلون فعرضوا دمشق بإبائهم للأذى، وما يعنيهم أذاها، ولا تهدم لهم (إذا هي تخربت) دار يفجعون في زوج ولا ولد! وكانت المعركة مشتدة هذه العشية، وكان الناس مزدحمين ينظرون بجهنم قد فتحت أبوابها وإذا القنابل قد ضلت طريقها فإذا هي تساقط على (المهاجرين) أجمل أحياء دمشق وأبهاها، فطار الفزع بألباب الناس، وكانت ساعة الهول التي يستعاذ بالله منها، وصار الناس كحالهم يوم القيامة، حين يجد المرء ما يشغله عن أخيه وزوجه وبنيه؛ فخلفوا الدور مفتحة الأبواب، واستلموا منافذ الطرق، مهاجرين إلى (الشام) يعتصمون بالاموي، ويقيمون في جواره بعيدين عن مواقع القنابل التي تحمل الموت والدمار. فلا ترى على الطرق إلا الناس مسرعين بوجوه شاحبة، وأعضاء من الخوف مضطربة. وربما خرجت المسلمة المخدرة مكشوفة الوجه، والمدافع تنطلق، والقنابل تتتالى وتتعاقب، كالغيث إذا انهمر. . . وكان أمر لا يوصف!

ص: 20

- 3 -

ثم انسحب جيش، ودخل دمشق جيش، وأعلن استقلال سورية، وانتهت الحرب، فتنفس الناس الصعداء، وتذوقوا لذة الأمن بعد الخوف، ومن كان لجأ من الخوف إلى دمشق من سكان القرى المرزأة المروعة الذين أكلت الحرب دورهم وغلاتهم سكان:(الكسوة، والباردة، والأشرفية، وصحنايا، وسبنية، وسبينات، والقدم، وغيرها) من قرى الغوطة التي كانت تنعم بالأنس والدعة في ظلال الأشجار، فصارت صحراء قاحلة، لا شجرة فيها ولا دار. وديرا يا قرية العنب الديراني الذي تباهي دمشق المدن بلونه وطعمه ونبل حبته وجلال عناقيده واتساع كرومه؛ وجارتها المزة (جيزة دمشق) وأجمل ضواحيها، استعدوا للرحيل إلى دورهم ومساكنهم. . . يحسب المساكين أنها لا تزال لهم مساكن، ما دروا أن من هذه القرى ما لم يبق منه إلا أطلال ورسوم. . . وانطلق الدمشقيون الذين واسوهم في مصيبتهم، وآووهم في منازلهم يودعونهم بالحفلات والولائم. . . فاشتعلت الأحياء التي تحف بالأموي نوراً، وابتسمت سروراً:(القيمرية الكلاسة، وباب السلام، وباب البريد، وسيدي عامود)، حتى ليحسبها الرائي ترقص طرباً، وما بها لو حققت من طرب. وفيم الطرب؟ ولكن مواساة للمنكوبين، وتطييباً لقلوبهم، وإظهاراً للرضا بانطفاء نار الحرب، وحمداً لله على ما لطف وسلم، فكانت ليلة الأربعاء (25 يونية)، كأنها من ليالي الأعياد. . .

وكان أسبق الأحياء في هذا المضمار (الكلاسة)، هذا الحي الرابض بين الحرمين الأقدسين: مسجد بني أمية الجامع، ومدفن البطل صلاح الدين (آخذ الدنيا ومعطيها)، كأنما سرى في أهله روح من روح صلاح الدين، فظهرت على أيدي أهله مدهشات الشهامة والكرم، حتى لقد آوى رجل منهم واحد سبع أسر في داره، وأولاهم من بشاشة وجهه وفضل ماله ومسكنه ما لا يمتد إلى اكثر منه جهد مثله. . .

- 4 -

نام الناس هذه الليلة التي حسبوها من ليالي الأعياد آمنين لا يخافون الحرب وقد انطفأت نارها، ينتظرون بآمالهم الغد القريب ليحمل إليهم السلام والرخاء. فلما كانت الساعة الرابعة

ص: 21

(إلا ربعاً)، ومآذن دمشق المائة والسبعون تصدح (بالتراحيم) الأخيرة، ولم يبق دون الفجر إلا قليل، والليل ساكن سكون السحر الفاتن العميق. . . وإذا برجة لا توصف قلقت البيوت فذهبت بها وجاءت كأنها الزلزال العظيم، لولا أنها اقترنت بصوت أفاق منه الناس، وإن أجلدهم ليضطرب في فراشه اضطراب السمكة خرجت من الماء، ثم أعقبتها رجتان، ثم جاءت رجة أنست الناس الأوليات فحاروا وذهبت المفاجأة بألباب ذوي اللب منهم وخرجوا من بيوتهم يتراكضون، وما لأحدهم وجهة ولا مقصد. . . ثم انجلت الحال، فإذا هي طيارة لا يدري أحد موردها ولا مصدرها. . . ألقت قنبلتها الأولى على أكواخ في مزرعة عند (جسرتورا) فيها ثلاث أسر في كل أسرة منها أكثر من عشرة أشخاص، فأبادت الجميع، وما ثمة مطار ولا ثكنة ولا شيء مما يصح ان يكون لقنابل الطائرات هدفاً، وألقت الثانية على (باب السلام) من أسفل (الجزيرة) فهدمت أربع عشرة داراً (لا شقة)، والثالثة وقعت على الكلاسة فأبادت الحي كله؛ ولو زاحت عن موقعها عشرة أمتار من هنا أو هناك، لطارت بمأذنة العروس أو بقبر صلاح الدين، ورمت الأخيرة في الحي الجديد في (سيدي عامود)، الذي لم يكد يبنى بعد خرابه، حتى حمل إليه الدمار في الثانية من حمله في الأولى، وما في كل ما دمرت الطائرة ولا في جواره ولا قريباً منه شيء من المصانع والمواقع العسكرية البتة

وقع ذلك كله في أقل من خمسين ثانية، لم يمتد إلا ريثما اجتازت الطيارة من أول المدينة القديمة إلى آخرها، ثم توارت في الظلام كما خرجت من الظلام. . .

- 5 -

أسرعت مع من أسرع إلى مطرح القنابل وبدأت من (سيدي عامود) فإذا القنبلة قد سقطت في وسط الطريق في ميدان صغير يتقاطع فيه شارعان، فاحتفرت حفرة هائلة، وتطايرت قطعها وشظاياها، فأصابت أربع عمارات جديدة مترعة بالسلع التجارية القيمة فضعضعتها وهدت أركانها وأدخلت بعضها في بعض، وأبادت كل ما كان من سلعة ومتاع، وأفقرت أسراً الله اعلم بعددها، وحطمت القنبلة كل زجاج الحي، وقتلت رجلاً وامرأتين - وذهبت من بعد إلى (الكلاسة) فإذا هذا الحي الآمن بأمان المسجد، القائم في حمى صلاح الدين، قد غدا تلاً واحداً كالقبر العظيم كأنه لم يكن منذ ساعات يبسم للحياة ويبسم له المجد، وكأنه لم

ص: 22

يكن منزل الكرام الصيد المحسنين. . . وكان الناس مزدحمين يعملون مساحيهم في هذه الأنقاض فيكشفون عما تتفطر لهوله القلوب، ويلقون من غرائب الحياة ومآسيها ما يخجل أكبر القصاص ويدفعه إلى حطم القلب، والنساء يولولن يسألن عن زوج ضائع أو ولد مفقود ويقعن على أرجل الكشافة والفعلة وأصحاب المساحي يسألنهم الإسراع بالكشف عمن افتقدن من أقربائهن، ومنهن من تقبل على التراب تنبش بيديها وهي تعد الدقائق والثواني تتصور الموت جاثماً على صدر من تحب، فإذا رأت أنها لم تصل إلى شيء وهالها الأمر، جن جنونها فأقبلت تلطم وجهها وتشد شعرها. والرجال. . . لم يكن الرجال بأجلد من النساء

وكيف يتجلد الرجل ويصبر وحبيبه تحت الأنقاض وكلما مرت لحظة دنا من الموت باعاً، كيف يصبر وهو يظن أن في يده حياته، وكيف يعيش من بعده إذا توهم أنه هو الذي قتله بتقاعسه عن إسعاده؟

إن الذي رأيت في الكلاسة من الفواجع والمآسي لا يقدر على وصفه لسان ولا قلم، والحفارون خلال ذلك يخرجون جثة من هنا وجثة من هناك، فينادون عليها ليعرفها من يعرفها. ولقد وجدوا جثثاً مشوهة لم يعرف أصحابها، ووجدوا ساعداً مبتوراً لم يدر من صاحبه. . . وهذه امرأة حديثها عجب من العجب؛ فقد كانت تنام بين ولديها فلما سمعت الرجفة نهضت وكل عرق منها يرتجف كأنه ريشة في مهب الريح فوجدت الظلام من حولها دامساً طامساً، فمدت يديها تتلمس ولديها فوقعت على الرضيع ولم تقع على الأخر، فتحسست مكانه فإذا يدها على جذع من الخشب وسط تراب منها، فنهضت كالمجنونة فاصطدم رأسها بشيء قريب حسبته السقف فازداد جنونها ولم تدر أهي في يقظة أم في حلم، فأخذت بيد ابنتها التي ما ينقطع بكاؤها وقبعت في فراغ وجدته. وكان ينتهي إلى سمعها صدى طرقات بعيدة كأنها آتية من قرار سبع آبار، ثم رأت حين ألفت عيناها الظلمة، كأنما هي في مغارة من مغارات الجن لا باب لها ولا كوة، ثم أنها من ضيقها كالقفص، فأقبلت تضرب بيديها ورأسها، والتراب يتساقط عليها حتى وجدت بصيصاً من النور، وازداد صوت الطرق وضوحاً في أذنيها، وتسرب إليها الهواء بعد أن كادت تختنق، فأغمي عليها ولم تفق إلا في المستشفى ورضيعها إلى جنبها، وولدها الآخر وزوجها تحت

ص: 23

الأنقاض.

وهذا هو الأستاذ المصور (أ. . .) يفتش عن ولده الحبيب، وقد جحظت عيناه من الذعر، وتبدلت حاله، وصار لون خديه كقشرة الليمون، وهو يستحث الحفارين، ويضرب بيديه التراب. . . هنا ابنه، ولده الحبيب! يا أيها الآباء! جاء به من المهاجرين يوم الروع ليودعه المكان الآمن عند جدار المسجد، عند قبر صلاح الدين. ومرت ثلاث ساعات كانت عليه وعلى المشاهدين كأنها ثلاثة عصور؛ ثم انكشف الردم عن نصف غرفة وإذا الولد فيها وهو حي، لكن ذراعه تحت الردم، وهو يصرخ: أبي، ارفعني، ارفعني يا أبي. فلما سمع الأب صوته وثب إليه يعانقه وهو يبكي، وكل عين ثمة تبكي. . . ولكن كيف يرفعه وفوق ذراعه كل تراب؟ وأقبلوا ينقلون التراب والولد يصيح صياحاً جعل أباه يفكر بإنقاذه ولو بقطع يده، أسمعتم؟ وانهم لفي ذلك وإذا بجذع يهوي على رأس الصبي فيقتله حالاً.

وهاهنا طفل رضيع يجدونه حياً يمتص من ثدي أمه الميتة. حقائق لو كانت خيالاً لكانت من أغرب الخيال

ولما انصرفت من (الكلاسة) أخذ بيدي صديق لي وأنا لا ابصر من الأسى والحزن طريقي فقال: إن ما رأيت ليس بشيء. إن أحببت أن تنظر إلى أفظع عدوان وأشقى ضحية وأروع مشهد، فتعال معي إلى باب السلام، فلقد أخرج منه إلى الآن (الضحى) سبعة وعشرون قتيلاً، فنترت يدي منه ولم أجب!

- 6 -

وانجلت الغارة عن ثمانية وعشرين منزلاً أضحت خرائب وتلالاً وواحد وسبعين قتيلاً. ثلاثة أرباعهم من النساء والأطفال، ونحو خمسين جريحاً لا يكاد يعيش منهم أحد، ما قتل هؤلاء في المعركة الحمراء ولا سالت نفوسهم على ظُبي الأسنة، وشفرات السيوف. . . ولو واجههم العدو في حومة الوغى لوجدهم فرسانها وسادتها، ولكنه أخذهم غدراً وعدا عليهم وهم آمنون في فرشهم فأخذ الرجل من جنب زوجته وولده، أو قتلهم جميعاً لم يتورع عن قتل النساء، ولا عن ذبح الذراري، ولم يكسر عليهم الأبواب ويدخل دخول الغاصب القوي، ولكنه مر في السدفة الحالكة مرور اللص الجبان، فراغ عن مواطن الجندية ومنازل الكماة لأنه ليس من أكفائهم، وتخير هذه البقع الآمنة حول بيت الله فصب عليها كل ما في

ص: 24

النفوس الشريرة من خسة ودناءة، ولعله أراد بنيرانه بيت الله، أو لعله أراد بها قبر السيد الذي علم قومه كيف يكون النبل

فيا رحمة الله على النبل وأهله، وسلام على هذه الأرواح الطاهرة، وعلى الظالمين لعنة الله

علي الطنطاوي

ص: 25

‌صفحة من كتاب

(مرارة اليُتم)

(مهداة إلى الصديق المفجوع بوالده)

للأستاذ شكري فيصل

- 1 -

حين مددت يدي أمس إلى ساعي البريد لم أدر سر هذه الخفقة العنيفة التي اضطرمت بها جوانحي فانتفضت معها انتفاضة المذعور، ووجدت في نفسي ألواناً من الأحاسيس لم أتمالك أن أسكن إليها، أو أطمئن معها، أو أدرك سر التأثير فيها. . . فلقد فاضت بين جنبي لاهبة مستعرة، فإذا أنا أصلى بلهبها، وأكوى بلفحها، وإذا كياني كله جمرة متقدة في أتون من اللظى والنار

ولم يكن ذلك من عادتي في شيء. . . لشد ما كنت أضحك للساعي وأطرب له. . . ولشد ما كنت ألقاه أقبل عليه وأدنو منه. . . لقد كنت ألقاه بالأمل الطروب الذي ينساب ابتسامة عريضة، وتحية مرحة، ولقاء حلواً. . . وكنت أرقب موعده، وانتظر مقدمه، وأعد له الساعات؛ فليس احب ألي من الساعة التي تصافح فيها يداي هذه (الرسائل)، أنسم فيها عبير الوطن، وأنعم بدنيا الاهل، وتتسق لي الذكريات اللطاف، وأعيش في هذا العالم الندي: نشوان بالرؤى الحالمة، ثملاً بالأماني الناعمات.

ولكن كان لي في أمس شأن آخر. . . لم تتفتح شفتاي عن التحية الحلوة، ولم تنطلق في دنياي البسمة الطروب، ولم تشع في وجهي قسمات الأمل. كان كل شيء في نفسي يهتز ويضطرب كأنما كان ينشر في السماء الصافية أمواه السحاب وأمواج الضباب، وكأنما يبعث في العالم الهادئ الآهات الصاخبة والنفثات الغاضبة. وكانت تطيف بي طوائف كابية معتمة لا أتبين معها وجه النور، ولا ظلمة الغسق؛ ولا أدري لها عبق الأمل أو مرارة الواقعات، ولا أحس أهي نذر الشر أو بشارات الخير!

وحين أخذت أنزع هذا الغلاف الرقيق لم أدر أين أبتدأ منه. كنت كلما أمسكت بطرف منه توليت عنه إلى طرف آخر؛ فإذا الكتاب يضطرب بين يدي، وإذا أنا أدور معه كالخابط في

ص: 26

الليلة الظلماء لا يدري أين يضع قدمه لأنه يخشى أن تزل به

. . . لكأني كنت أخادع نفسي فلا أفجؤها بالآهة الحرى والدمع الهتون.

- 2 -

وأخذت اقرأ من هنا وهناك لم أبتدئ مع الكلمات الأولى كما يفعل الناس، لأني لم أك أملك الإرادة الهادئة والطبع المتزن. ولكنما كنت أعدو وراء الكلمات وأمضي في ثنايا الأسطر، لألقى الشر وأجد خبر المصيبة

إن الفراشة الوادعة ليست هي وحدها التي تسعى إلى النور لتلقي حتفها فيه، ولكننا في ساعات المصيبة أشبه بهذه الفراشات؛ غير أننا نتداعى في قبور الظلمة ومسارب الكهوف لتلتهمنا الآلام الفواجع

- 3 -

لقد عرفت في كتب صاحبي أناقة الصورة وجمال المظهر؛ وكنت أجد فيها مرح الطفولة وعبث الصبا؛ وكانت تنشر لعيني ذكريات الماضي وأصداء السنين. لطالما هدأت إلى ظلالها الوارفات بعد الطواف البعيد! كانت أشبه بالزهرة الفواحة التي تتفتح عنها نفس يهزها الأمل، ويحدوها الرجاء، وتزدهر من أمامها مسالك الحياة. . . ولكنها اليوم شيء آخر، لقد عصفت بها العاتيات فعرتها من الجمال الضافي، وسطت عليها لفحات النار فذهبت بروائها الزاهي. . . لم يعد كتاب صاحبي إلا الهشيم الذي تذروه الرياح الهائجة: تلطمه بالمصيبة، وتصدمه بالفجيعة، وتنال منه بالحزن

وفي طرف منه جمدت عيناي ويبست أطرافي. كان يهتز في يدي كما تهتز الأوراق البالية في أعقاب الشجرة الضخمة، فتسمع لها حشرجة الروح، وانين الاحتضار. . . لكأن كلمة الموت التي طرقت مسمعي فيه، قد ملأت كل كياني، فإذا أنا وهذه الدنيا من حولي هامد همود الجثة. . . صامت صمت الموت. . . موحش أيحاش القبر.

- 4 -

يا للمساكين الذين تنالهم الدنيا بأحزانها السود، وتنشب مخالبها الحادة في أجسادهم الطرية الرخوة. . . إنهم لم يستكملوا بعدُ ريعان الفتوة وزهرة العمر وربيع الشباب، ولكن الحياة

ص: 27

تريدهم على أن يجدوا الربيع القاحل، والزهر الآفل، والريعان الماحل. . . إنها لتريدهم على الحزن، ولتضطرهم إلى البكاء حين تضحك السماء وتبتسم الأرض. . . لا تبالي هذه القلوب الساذجة الضاحكة، ولا تأبه لهذه النفوس الخيرة النبيلة، ولا يعنيها أن تلطم باليتم فتياناً عرفوا الحياة نعيماً وأملاً وجنة

يا ويح اليتيم. . . كان بالأمس ينشأ في أيام من الورد والسوسن، وفي أجواء من العطر والزهر، وفي دُنى من النعيم والسحر؛ ولكنه اليوم يغمض لهول المصيبة عينيه، ويصم أذنيه، ويطرق برأسه. فإذا أفاق وأصغى ونظر فلن يجد إلا الصحراء والظلماء والبأساء؛ لأن الدنيا عدت على عالمه الهانئ فذهبت بعطره وسحره، وعقت على جناته الناعمة فذهبت بورده وزهره، ودفنت عرائسه المائسات في قتام العاصفة، وتركت له أغصان الأسى ينثرها بيده على الهيكل الحبيب والقبر الخصيب

- 5 -

لم أعد أستطيع أن اقرأ، لأن الدموع التي كانت تتقرح عنها جفوني غشت عيني، فإذا أنا أهيم في أودية مرعبة من الحسرة الممضة والألم العميق

وإني لألمح صديقي فما أملك أن أطيل النظر إليه والتأمل فيه. لقد عرته الدنيا من نعمة الأبوة، كما تعرى الزهرة الناشئة من أوراقها الخضر؛ فما يملك أن يرد عن نفسه المكاره العاديات.

لشد ما يبعث الأسى هذا اليتم المفاجئ في الليالي السود، ينتزع النعمة الرافلة، ويتعقب الهناء الوارف، ويبدد الحلم السعيد، ويسوق هؤلاء المساكين الفتيان وهم في غضارة الصبا وطراوة الشباب، إلى دنيا من الهموم والكآبات

ولكن لا عليكم أيها الشباب الذين يفقدون آبائهم في أحلى ساعات العمر وأجمل أوقات الحياة، ويتطلعون حولهم فلا يجدون القلب الذي ينهلون منه، والساعد الذين يتكئون عليه، والصدر الذي يدفنون وجوههم فيه، لأن الآلام المبكرة ليست إلا السحاب الجون يفيض أمطاراً ومياهاً ليغسل الأدران، ويطهر الأجواء، ويصفي النفوس

(القاهرة)

ص: 28

شكري فيصل

ص: 29

‌الوحدة العربية ووحدة اللغة

للأستاذ يوسف كمال حتاتة

استمر حكم العرب في الأندلس ثمانية قرون من عام الفتح (سنة 91هـ) إلى العام الذي سقطت فيه غرناطة سنة 897 هـ)

وكانت في الأندلس سبعمائة مكتبة عامة يرتادها الناس لدراسة أنواع العلوم وبينها مكتبة قرطبة التي كانت تحوي نصف مليون كتاب.

فلما دالت الأيام وأُخرج العرب من ديارهم أحرق أعداؤهم الكتب التي ألفوها وبقيت البلاد ترسف في قيود الجهل وأصبحت كلمة كتاب إحدى الجرائم التي ينبغي الحذر منها، وظلت مدريد - عاصمة الحكم الذي خلف حكم العرب - لا تضم مكتبة عامة واحدة إلى القرن الثامن عشر الميلادي

في هذه الفترة كان المتحدث عن نظريات نيوتن وأبن رشد يساق إلى محكمة التفتيش فتحكم عليه بالموت بعد التعذيب، والتعذيب هو قطع الأرجل والأذرع في شريعة القساوسة؛ أما الموت فهو إلقاء المحكوم عليهم في التنانير المسجورة

في زمن عبد الرحمن الناصر لدين الله كان المبشرون يقفون أمام جامع قرطبة الكبير ويخطبون داعين الناس إلى اعتناق الدين المسيحي في أثناء اجتماع المسلمين لصلاة الجمعة، وكان الخليفة يسمعهم فلا يقول لهم كلمة ولا يأمر رجال شرطته باعتراضهم أو الوقوف في طريقهم

هذا في الأندلس؛ أما في بغداد فقد وضع الرشيد جميع المدارس في مملكته تحت رقابة يوحنا بن ماسويه الشهير، وكان الإشراف على أمور التعليم في الدولة العباسية يفوض تارة إلى النسطوريين وطوراً إلى اليهود

وكان جيورجيس الجنديسابوري طبيباً للمنصور، وقد علت منزلته عنده، وسبب ذلك أنه كانت له زوجة عجوز لا تشتهى فأشفق عليه المنصور وأرسل إليه ثلاث جوار حسان فردهن وقال:(إن ديني لا يسمح لي أن أتزوج غير زوجتي ما دامت حية) فأعلى المنصور مكانته وقدمه حتى على وزرائه. ولما مرض أمر المنصور بنقله إلى دار العامة وخرج إليه ماشياً يسأل عن صحته فأستأذنه الطبيب في الرجوع إلى بلده ليدفن مع آبائه

ص: 30

فعرض عليه الإسلام ليدخل الجنة فقال له:

رضيت أن أكون مع آبائي في الجنة أو في النار

فهش له المنصور وبش وأمر بتجهيزه ووصله بعشرة آلاف دينار، وهو المنصور المشهور بالإمساك وكزازة اليد

على أن هلا كوخان الوثني قد أمر بإلقاء الكتب العربية في نهر دجلة، فقضى على مدينة بني العباس بعد تقويض عرش خلافتهم التي استمرت من سنة 132هـ إلى سنة 656 هـ

فأنت ترى أن هلا كوخان التتري الوثني لم يعمد لتقويض بنيان الدين الإسلامي، ولكنه أراد القضاء على لغة العرب ومدينتهم في العراق، وحذا حذوه قساوسة الأسبان في الأندلس الشهيدة، لان الأمة تحيا وتموت بحياة لغتها وموتها. أما كتاب الله وسنة نبيه، فإن هلا كوخان التتري الوثني وقساوسة الأسبان الذين هدوا هديه في الأندلس كانوا يعلمون أن المصاحف وكتب الحديث قد انتشرت في جميع المشارق والمغارب في بلاد فارس وفي الهند وبلاد الجزيرة العربية وجاوة وبخارى وما إليها.

عندما ضمت ولاية الألزاس إلى ألمانيا بعد حرب السبعين الأخيرة، قام أحد المدرسين الفرنسيين في تلك المنطقة الشهيدة إذ ذاك بين تلاميذه وقال لهم: إن درسي هذا هو آخر الدروس التي ألقيها عليكم. فإذا أردتم أن تحتفظوا بفرنسا في قلوبكم، فلا تفرطوا في لغتها

والوحدة العربية التي استشهد الحسين بن علي رافع علمها في سبيل الذود عنها وأضاع ماله وتاجه، هذه الوحدة التي يسعى لها العرب وعلى رأسهم صاحب السمو الأمير عبد الإله حفيد الحسين، لا يقدر العرب على الوصول إليها - على الرغم من الجهود المبعثرة التي يبذلها أصحاب الزعامات الزائفة الذين يشبهون الذباب الملوث في الإناء الطاهر - إلا إذا وحدنا لغة الجرائد والمجلات، ليفهم ابن العراق وابن اليمن والحجاز ونجد وفلسطين ودمشق ما يكتبه ابن مصر.

لو عرف الرجل الذي ناطوا به قتل اللغة العربية في مصر وحكموه في وزارة المعارف المصرية من عام 1891 إلى عام 1919 أن جماعة من تجار الأدب الزائف والثقافة العرجاء، سيصدرون هذه المجلات التي يكتبونها بلغة طمطمانية، لا تمت إلى العربية

ص: 31

الصحيحة بصلة ويحشونها بمقالات لا صلة لها بالأدب ولا بالتاريخ ولا يعلم من العلوم الحديثة ولا القديمة، لبرأ ذمته من جناية قتل اللغة العربية في مصر وتخلص من لعنة التاريخ الأبدية، لأن هذه المجلات قد قضت على اللغة العربية وهبطت بها إلى أقصى دركات الحضيض فخدمت الاستعمار وقضت على الوحدة وعلى الأخلاق

وهذه الكتب التي تدرس في المدارس التابعة لوزارة المعارف ما قول صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا فيما حوته من الأغلاط اللغوية والتاريخية، فقد أحصيت في أحدها ثلاثمائة غلطة لغوية وتاريخية تكاد تخرج الكتاب من حظيرة الكتب التي يشرف على انتخابها عدد من العلماء، وعلى رأسهم هيكل باشا المشهور بغيرته على لغة الضاد ومحاولته إحيائها بعد موتها

وأني لا أتحدى أحداً إذا طلبت إلى معاليه الرجوع إلى سجلات مخزن كتب وزارة المعارف في زمن إدارة (المستر دجلاس دنلوب) ورؤية أسماء الكتب التي أمر ببيعها بالقنطار فبيعت بأبخس من ثمن الورق قبل الطبع؛ إنه إذا فعل فسيرى بين هذه المجلدات التي بيعت بالقناطير عدداً كبيراً من الكتب اللغوية القيمة مثل: القاموس ولسان العرب وصحاح الجوهري، ومن الكتب النحوية التي لا يوجد نظيرها من المؤلفات الحديثة في مكاتب مصر ولا بين كتب التدريس

وهذا معناه أن يد هلا كوخان أو يد عضو محاكم التفتيش قد حاربت ثقافة مصر من سنة 1891 إلى سنة 1919، فإذا كان العرب يريدون الاحتفاظ بمجدهم، فإن الواجب يحتم عليهم حفظ لغتهم، وهذا لا يتم إلا بنبذ المجلات الموبوءة، والاعتناء بتصحيح لغة كتب التدريس

كان صاحب الجلالة المغفور له علي الأول ملك الحجاز السابق ووالد صاحب السمو الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق اليوم يقيم في حي الكرادة على ضفة نهر دجلة في مدينة دار السلام، وكنت أيمم قصره في كل يوم فأرفع إلى جلالته خلاصة الجرائد العربية والتركية وأحمل بعضها معي لإعادة قراءتها عند عودتي في المساء. وفي أحد الأيام قرأ أحد أصدقائي جريدة هزلية تصدر في مصر ودسها في الجرائد التي تأبطتها ودخلت على الملك الوديع فوجدته منفرداً في بهو الاستقبال.

ص: 32

وبعد حديث قصير أمرني بقراءة مقال لي قد نشرته جريدة العراق في ذلك اليوم فقرأته. وفي هذه الأثناء انتثرت الجرائد التي أحضرتها بسبب الهواء المتسرب في النافذة المفتوحة وسقطت على الارض، وكنت قد وضعتها على مقعد بالقرب من جلالته، فرأى الجريدة الهزلية وسألني عن مصدرها وخطتها، وأخذت في قراءة أحد فصولها، فأتممت قراءته وشرعت في قراءة فصل آخر، وتراءى لنا صاحب السمو الأمير عبد الإله فأومأ أليَّ جلالته بطرفه فأخفيت الجريدة وغيرنا مجرى الحديث. وعرف الأمير الفتى أنه قد فَجَأنا في خلوتنا فسلم وودع ولم يزد على قوله لكاتب هذه المقال: جئت للسلام عليك وقد قرأت مقالتك اليوم في جريدة العراق فاسمح لي بالانصراف لأني ذاهب إلى المدرسة.

وبقيت مع جلالة والده فقال لي بعد انصراف ولده وهو يشيع سيارته بنظراته من نافذة القصر:

- لقد فطنت لما أشرت به إليك، لأني لا اقرأ ولا أريد أن يقرأ عبد الإله الجرائد والمجلات التي تنهش الأعراض؛ وهذه هي المرة الأولى التي منيت فيها برؤية جريدة من هذا النوع

فقلت لجلالته: إن هذه الجريدة قد دست في جرائدي ولم أرها إلا بعد شروعي في القراءة، ولو عثرت عليها قبل دخولي من باب القصر لحرقتها وذريت رمادها في الهواء، لان هذا النوع من الجرائد لا فرق بينه وبين جراثيم الأمراض الوبائية.

ومضى جلالته في حديثه فقال:

- يقول لك عبد الإله إنه قد قرأ مقالتك في جريدة العراق وقد رمى بقوله عصفورين بحجر، فقد أذنت له في قراءة الجرائد التي تنشر مقالاتك لا غيرها، لأنك لا تتعثر في الأغلاط اللغوية ولا تدنس قلمك بالهجر من الألفاظ التي تجرح العواطف ولا تغلظ لمناظرك في القول، وهذا ما حدا بي إلى النصح لعبد الإله بقراءة ما تكتبه في الصحف وما تختاره له من الكتب.

فقلت لجلالته: أن المتنبي حكيم العرب وشاعر الأجيال يقول يا صاحب الجلالة:

وكل يرى طرق الشجاعة والندى

ولكن طبع النفس للنفس قائد

ويقول أرسطا طاليس إن الفضائل ليست طبيعية فينا، وإلا عجزنا عن تغيير طبائعنا؛ فالعادة لا تستطيع أن تغير ما هو فطري، مثلُ ذلك مَثلُ الحجر الذي يهوى بطبيعته إلى

ص: 33

اسفل فإنه لا يمكن أن يتعود الصعود ولو حاول به المرء ذلك ألف مرة؛ وكذلك النار فطرتها الصعود بلهبها ولا يمكن أن تتجه إلى أسفل؛ وليس في الوجود جسم واحد يمكن أن يفقد خاصته التي تلقاها من الفطرة ليستبدل بها عادة غيرها.

والأمير عبد الإله كريم الطرفين هاشمي الأبوين لم أره مرة مازحاً ولا عابثاً. ولقد تقدم إليَّ يوماً في طلب كتاب قراءة ليتفكه به في أوقات فراغه فبحثت في خاطري وتخيرت لسموه كتاب كليلة ودمنة وأحضرت له نسخة من الطبعة التي صححها الشيخ خليل اليازجي لخلوها من الأغلاط اللغوية. وبعد قراءة بعض فصولها قال لي: إنه يميل إلى مطالعة الكتب الأدبية واللغوية والتاريخية فأحضرت لسموه شرح ديوان أبي الطيب وفقه اللغة وسر العربية للثعالبي وحاولت أن أُردمهما بكتاب أدب الكاتب لمؤلفه أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة.

بيد أني أردت تمحيص أدب الكاتب لأعرف هل هو من سقط المتاع، أو من البضاعة التي تساوي ما سيبذله الأمير من وقته الثمين فرأيت صاحب أدب الكاتب يقول:(ومن ذلك القافلة يذهب الناس إلى أنها الرفقة في السفر ذاهبة كانت أو راجعة، وليس كذلك إنما القافلة الراجعة يقال قفلت فهي قافلة، وقفل الجند من مبعثهم أي رجعوا، ولا يقال لمن خرج إلى مكة من العراق قافلة حتى يصدروا)

والقاموس يقول: (والقافلة الرفقة القفال والمبتدئة في السفر تفاؤلاً بالرجوع)

ويقول في (باب ما لا ينصرف) وما كان منها على ثلاثة أحرف (يريد ما كان من الأسماء) وأوسطه ساكن فإن شئت صرفته وأن شئت لا تصرفه. قال الله عز وجل: (أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين) وقال تعالى: (اهبطوا مصراً) انتهى قول ابن قتيبة. وهذان المثلان يثبتان أن ابن قتيبة يجهل أسرار اللغة العربية، فالقاموس يقول المصر الكورة، والكورة هي المدينة، فقوله في الآية لبني إسرائيل الخارجين من مصر في طريقهم إلى بيت المقدس (أدخلوا مصراً) معناه أدخلوا إحدى المدن؛ وقوله تعالى في الآية (99) من سورة يوسف عليه السلام (فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) يريد به مدينة مصر عاصمة وادي النيل واسمها هنا ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة؛ أما في الآية الأولى فإن العلتين قد زالتا فلا علمية ولا عجمة والاسم في قوله تعالى:

ص: 34

(اهبطوا مصراً) عربي نكرة ولكنه علم أعجمي في سورة يوسف؛ وعليه فإن ابن قتيبة قد اخطأ في التمثيل ولو تمثل باسم غير هذه الاسم مثل (هند) و (دعد) لأصاب لأن العلم الثلاثي الساكن الوسط يجوز فيه المنع والصرف إذا كان غير أعجمي ولا منقول؛ أما مصر في الآية الواردة في سورة يوسف فإن فيها العجمة والعلمية.

ويقول ابن قتيبة ويقال: (شتان) ما هما بنصب النون، ولا يقال شتان ما بينهما! والقاموس يقول:(وشتان بينهما بفتح النون وما هما وما بينهما وما عمرو وأخوه أي بعد ما بينهما) ويقول ابن قتيبة في أدب الكاتب: (ورجل منهوم من الطعام ولا يقال نهم) والقاموس يقول: (نهم ونهيم ومنهوم)، وفي أدب الكاتب أغلاط لا أضيع الوقت بذكرها

ويسرني أن سمو الأمير قد ذكر لي سبب رغبته عن قراءة كتاب كليلة ودمنة فقال: لقد برمت بما فيه من القصص المتشابكة والإطالة المملة على الرغم من جزالة ألفاظه وسلامة عباراته ورقة أسلوب كاتبه وبلاغة إنشائه الذي هو من نوع السهل الممتنع.

وآن وقت الغداء فتغدينا وودعت جلالته وانصرفت.

يوسف كمال حتاتة

عضو المجمع العلمي بوزارة المعارف في الآستانة سابقاً

ص: 35

‌فن تيمور

للسيدة الفاضلة وداد سكاكيني

كان الفن القصصي في نهضة أدبنا الجديد أطيب ما أثمر وأينع في إنتاج الأدباء المحدثين؛ ولا ريب في أن القاص المصري المشهور محمود تيمور كان سباقاً لمغارس القصة ومجانيها، ولا يزال في طليعة أدبائها الذين توفروا على إنشائها وممارستها على ضوء القواعد التي اجمع على مراعاتها قادة الأدب وأهل الفن.

إن في قصص تيمور دنيا العالم الذي يعيش فيه، فقد سبر هذا الأديب أغوار الحياة ومعايش الصعاليك والشذاذ، وارتفع إلى قمة الحياة فعرف أهل السرف والترف وما يدور في دنياهم الطافرة من سعادة وشقاء. وإنك لترى في صنعه المتقن مدينة من القصص، فيها صور الصروح شامخة الهامات متلألئة الثريات، وفيها تماثيل الأكواخ مفروشة بهلاهل الحصير تترجح في ظلماتها سرج مختنقة الأضواء

ومن يقرأ تيمور في قصصه الحديثة يجدها متنوعة الألوان، محيطة بمعالم الإنسانية التي تحمل مياسم الشرقيين العرب، فلم تبق إقليمية محلية مقتصرة على طابع واحد، وإنما أخذ فن مؤلفها ينمو ويتطور ويتجه صوب النفس الإنسانية، غائصاً على أسرارها مستجلياً خفاياها. وإنك لتراه أيضاً يلقي النور في بعض أقاصيصه على كثير من مشاكل العصر ومعضلات المجتمع، وكأن آثاره المنوعة عاصمة من عواصم الفن، شيدها تيمور بك على ضفاف النيل، لم يسمع بها خوفو ولا حوتها طيبة. وإن من الكتب ما يبقى على وجه الزمان أكثر من المدن المشيدة بالحجارة والحديد. فليكن كلامي على آخر إنتاجه (مكتوب على الجبين) ففي هذا الكتاب اكتمل الفن واستقام الأسلوب

بدأ القاص كتابه بمقال حافل عن فن كتابة القصة أو كيف يعالج القاص كتابة قصة فنية؛ فبين في فاتحة كلمته أن الموهبة والقواعد أمران لا بد منهما للقصصي كالشاعرية وصحة النظم للشاعر. وهنا طفق يفيض في أصول القصة ومميزاتها التي تبصر القصصي وترشده إلى أسرار الإبداع، ثم عرض لأنواع هذا الفن وأسمائه من ناحية الأسلوب والموضوع، وما يدلان عليه في أدب الفرنجة، وانتهى إلى بسط العناصر التي إذا جرى عليها القاص برزت قصته ناطقة بالحياة منطبقة على أوضاعها وأطوارها، فجاءت هذه

ص: 36

المقدمة درساً قيماً في فن القصة يجدر أن يلم به كل من أوتي الموهبة التي تعده لمعالجة هذا الفن.

لا تثريب على (الشيخ غيث) فلقد مهدت له أم حسن سبيل الغواية والمعصية، وكأني أشهده الساعة وهو يداعب بأصابعه لحيته المستديرة، ويستمع للحوار الذي دار بينه وبين زوجه السليطة اللسان المتشاجرة مع الجيران؛ حتى إذا سافرت هذه للريف وقف الشيطان بينه وبين خادمته جليلة التي أخذته بنظرتها الغاوية، فاحتلت منطق تفكيره، وجعلته يفسر آي القرآن كما شاء هواه؛ ففي هذه الأقصوصة ترى رجل الدين الذي يتصنع الوقار والتقوى، ولا يلبث أن يهوى في قرار سحيق من الخطيئات.

وإني لأتساءل: ما حال (بسمة اللبنانية) بعد أن هامت على وجهها، فهي مذ حلت في فندق الشمال من لبنان خفت إليه مواكب الطرب، ولمعت فيه الأعين بالجذل، وفاضت الوجوه بالمرح. لكن ذلك الفتى الفنان الذي حل بالفندق على حين غفلة سلب بغنائه لبها وصهر بحبه نفسها، فأحال خفتها رزانة وضحكها بكاء حتى كان مآلها الاختفاء

هكذا تتعاقب في ذهني صور هذه المجموعة التي اشتملت على أربع عشرة قصة، فأحدث عنها كأنني رأيت أبطالها وعرفتهم، لأن المؤلف قد استمد حوادثهم من الواقع الذي هو ملء سمعه وبصره، وأفاض على تلك الحوادث من تهاويل الخيال دون كلفة ولا ابتذال، فلم تصطدم بما يخالف العرف والذوق، ولا ندت عن العادات والشرائع، وإنما كانت المثال الحق للقصة الحديثة. على أن ما يلفت النظر ويسترعي الإعجاب في هذه المجموعة ظاهرة فيها جديدة لم أكن لأراها فيما سبق من آثار الأستاذ تيمور بك؛ تلك هي صقال الإنشاء، وبراعة السبك في الأسلوب، والطرافة في الأداء والحوار، وهذا يفسر استماع القاص الموهوب صاحب المجموعة لبعض الناقدين، إذ كانوا يرون في أسلوبه وهناً يعدونه غضاضة في فنه، فصح عنده أن سمو الآثار الأدبية والفنية لا يقوم على المعاني وحدها، وإنما يعوزه المباني المرصوصة الجميلة؛ فما خلد الكتاب إلا أساليبهم، ولا جرم أن الأديب الذي لا يتقدم ولا يتجدد يكون غير مبدع، لان من سنة الإبداع التطور والتحرر من كل ما يعوق الفن عن التحليق، ويطرف الأدب بجدة القرائح ورصانة التعبير

إن أدبنا الجديد مدين للقاص المطبوع محمود تيمور ولأنداده أعلام القصة في بلاد العرب

ص: 37

بهذه النهضة الأدبية التي ما زالت مشرقة الأسارير، وضاحة المعالم على الرغم من توالي الخطوب وجهامة الزمان

وداد سكاكيني

ص: 38

‌كبرياء!.

. .

للأستاذ صالح جودت

أجَلْ أنتِ فاتنة، إنما

أرى عزة النفس لي أفتنا

وإنْ كان عندكِ سحر الجمال

فسحر الرجولة عندي أنا

وإنْ كثرتْ في هواكِ القلوبُ

فذلك من بعض ما عندَنا

وإن غرّوركِ بحلو الشباب

فإِنّ الشباب قريب الفنا

وعينيكِ، والخصَلِ الحالكات

كأني بها خُلقتْ مَوْهنا

وحمرةِ خدّيكِ في سُمرةٍ

كحلو النبيذ رقيق الجنَى

يحبكِ قلبي، ولكنه

يخاف العواقبَ إن أَعلنا

فيكتم عنكِ شؤونَ الهوى

ويُظهر غير الذي أبْطنا

وأنتِ المنى، غير أني امرؤٌ

يذلل للكبرياء المنى

ويكره في الحب بذلَ الدموع

وبسط الخضوع وفرطَ الضنى

إذا المرءُ هان على نفسه

يكون على غيرها أهْوَنا

وذلُّ الرجال لوجه الجمال

كذلّ الضمير لوجه الغني

وأني امرؤٌ حررته الحياة

فكيف ترومين أن يُسْجَنا

وهذا الدلال وهذا الضلال

حبيبا الشقاء عَدُوَّا ألهنا

فلا تجعلي من غرور الأنو

ثة باباً يسدُّ الهوى بيننا

صالح جودت

ص: 39

‌ليالي القاهرة

الميعاد الضائع

للدكتور إبراهيم ناجي

ياَ مَنْ طَوَاها الَّليْلُ في ظَلْمائِهِ

رُوحاً مُفَزَّعَةً عَلَى بَيْدَائِهِ

تَتَلَفَّتِينَ ألَيَّ في أَنْحَائِهِ

لَهَفَ الفُؤَادِ عَلَى الْغَرِيبِ التَّائِهِ!

إِنْ تَظْمَئ لِيَ كمْ ظَمِئْتُ إِليْكِ

جَمَعَ الوَفاءُ شَقِيَّةً وَشَقِيّا

ياَ مُنْيَتِي قَسَتِ الْحَيَاةُ عَلَيْكِ

وَجَرَتْ مَقادِرُها الْجِسَامُ عَلَيّا!

إنِّي الْتَفَتُّ إلى مَكانِكِ وَالْمُنَى

شُلَّتْ وَقلبِي لَا يَطِيقُ حَرَاكا

فَصَرَخْتُ ياَ أَسَفا لَقَدْ كانَتْ هُنا

لمَ عَاقَنِي الْقَدَرُ الْخَئُونُ هُنَاكا!

عَبَسَتْ وَسَوَّدتِ السَّماءُ ظِلالَها

فَكأَنَّ عُقْباَناً تَحُطُّ رِحالَها

وَكَأنَّ أَطْوادَ السَّحابِ حِيالَها

أَرسَتْ عَلَى الكَتِفِ الصَّغِيرِ ثِقالَها

تَسْتَصْرخِينَ لَكِ السَّماَء وقَدْ خَبَتْ

وَطَوتْ بَشاشَة كُلِّ نَجْمٍ مُشْرِق

إِنْ خْلتهِاَ اسْتَمَعتْ إِليْكِ وَقَارَبَتْ

أَلفَيْتهِا صَارَتْ كلَحْدٍ ضَيّقَ

ياَ مَنْ هَربْتِ مِنَ الْقَضَاءِ وصَرفِهِ

عَجَباً لِهاَرِبةٍ تَلُوذُ بهاَرِبِ!

إِمَّا هَوَي نَجْمٌ وَمَالَ لِضَعْفِهِ

أَبْصَرتِ حَظَّكِ في الشُّعَاع الْغَارب

أَسَفاً عَليْكِ وَأَنْتِ روحٌ حائرُ

وَالكَونُ أَسْرارٌ يَضيقُ بها الحِجى

تَجْتَازُ عَابرَةٌ وَيُسْرِعُ عَابرُ

وَتمُرُّ أشْبَاحٌ يُوَارِيها الدُّجَى

في وَجْنَتَيْكِ تَوَهُّجٌ وَضِرَامُ

وَبمُقْلتيْكِ مَدَامِعٌ وَذُهُولُ

وَكَذَا نمُرُّ بِمِثْلكِ الأيامُ

مَجْهُولةً وَعَذَابُهَا مَجْهُولُ

وَليْتِ قبْلَ لِقاَئِناَ يَا جَنَّتِي

لَمْ تَظْفَرِي مِنِّي بِقَوْلٍ مُسْعِدِ

وَكَعَادةِ الْحَظِّ الشّقِّي وَعَادَتي

أَقبَلْتُ بَعْدَ ذَهَابِ نَجْمِي الأوحَد

تَتَعَاقَبُ الأقْدَارُ وَهْيَ مُسِيئَةٌ

كَمْ عَقَّناَ لَيْلٌ وَخَانَ نَهَارُ!

وَكأَنما هَذَا الْفَضَاءُ خَطِيئَةٌ!

وَكأنّ هَمْسَ نَسِيِمهِ اسْتِغْفَارُ

وَكأَنهُ أَحْزَانُ قَوْمٍ ساروا

هَذِى مآتِمُهُمْ وَثَمَّ ظِلالُها

عَفَتِ الْقُصُورُ وَظَلتِ الأسْوَارُ

كَمَناَحَةٍ جَمُدَتْ وَذَا تِمْثاَلُها!

ص: 40

غامَ السَّوَادُ عَلَى وُجُوهِ الدُّورِ

وَسَرَى إِليَّ نَحِيبُهَا وَالأدْمُعُ

وَكأنّني فِي شاَطِئ مَهْجُورِ

قَدْ فَارَقَتْه سَفِينَةٌ لا تَرْجِعُ

حَملَتْ لناَ أمَلاً فلَمَّا وَدَّعَتْ

لَمْ يَبْقَ بَعدَ رَحِيِلها لِلنَّاظِرِ

إلاّ خَيَالُ سَعَادَةٍ قَدْ أَقْلَعَتْ

وَوَدَاعُ أَحْبَابٍ وَدَمْعُ مُسَافِر

إبراهيم ناجي

ص: 41

‌إلى روح شقيقي إبراهيم

يا قبره!. . .

للآنسة الفاضلة فدوى طوقان

يا قبرَه، قُدَّستَ من قبرِ

باهَيْتُ فيه منازلَ البدرِ

يا قبرَه، بالله ما فعلتْ

أيدي البِلى بشبابه النضرِ

تلك البشاشة يا لرونقها

هل غَيَّضَتْ في الترب والعَفْر

تلك الخلال ولستُ احصرها

تالله قد جَلَّتْ عن الحصْرِ

لهفي، أباتتْ في التراب لَقًى

يَفْنَى؟ معاذ خلاله الغُرِّ

أني لأسْتَنْشِي لها عَبَقاً

في الخافقيْنِ معطَّرَ النَّشْر

أوَّاه لو تدري بمن ظفِرتْ

أيدي البِلى! أوَّاه لو تدري!

ما بهجةُ الدنيا وزينتُها

وأخي رهينُ صفائح القبر؟

وأطولَ أحزاني على سندٍ

أعْدَدْتُهُ لنوائب الدَّهر

الموتُ مال به وخلَّفني

لتفجُّعِ أشْقَى به عُمْري

كمدي أراه قاتلي، وإذا

أنا لم أمُتْ كمداً فما عذري

ما بالُ ذكركَ بات لي شجناً

يهتاجُني يا طيِّبَ الذكر

عهدي به بَرْداً على كَبِدي،

اسفي، أيغدو لَذْعَةَ الجمر

ولقد أرومُ القولَ فيكَ ولي

بحرٌ يمدُّ - أخي - بلا جزر

لكنني، والحزنُ معترضٌ

سُدَّتْ عليَّ مسارح الفكر

الشعر صوَّحَ روضُه أسفاً

وبكتْ عليكَ عرائسُ الشعر

يا طالما حَلِيَتْ ترائِبُهَا

بالدُّرِّ منك ومونقِ الزهر

واليوم، لا حَلْيٌ يزِّينها

إلا لآلي الدمع إذْ يجري

مالي بدار الأنس - يا سَكني -

انْسٌ وأنتَ بموحشٍ قَفْرِ

خلفتها دنيا تضيقُ على

غرض الأبيِّ وغاية الحرِّ

تُسدى إلى غير الكرام يداً

وعلى الكرام تعود بالخسر

سأظلُّ طول العمر رهن جوًى

يغدو - أخي - ويروح في صدري

ص: 42

ولقد يعزِّيني على حَزَني

أني، وان أُجِّلْتُ، في الإثرِ

(نابلس)

فدوى عبد الفتاح طوقان

ص: 43

‌رسالة العلم

السيجارة. . .

للأستاذ أحمد علي الشحات

في ظل الدخان المتصاعد من السيجارة كم من أفكار قد سبحت وأعصاب قد هدأت وأحلام قد صورت وأماني قد بعثت: هذه الدخينة وما حوت كانت في مبدأ الأمر ورقة من نبات اسمه نيكوتيانه وسمي بذلك نسبة لاسم السفير الفرنسي في أسبانيا جان نيكوت الذي أدخل التبغ إلى فرنسا لأول مرة كهدية للملكة كاترين دي مديشي، والتبغ يتبع من وجهة التقسيم النباتي العائلة الباذنجانية التي تحوي نباتات أخرى ذات أهمية مثل الطماطم والبطاطس والداتورة والسكران، وللأخيرين أهمية طبية في علاج الأمراض الصدرية التشنجية. وبهذه المناسبة نذكر أن السكران المصري أجود أنواعه في العالم، ولذلك يصدر إلى أوربا، كما أن نبات البلادونا الذي يستخرج منه الأتروبين المستعمل طبياً لتوسيع حدقة العيون من أقارب التبغ إذ يتبع نفس العائلة المذكورة

وقد كانت الأرض الأولى التي نبت عليها التبغ واستعمل في التدخين هي أمريكا إذ وجدت غلايين في قبور أمريكية ترجع إلى ما قبل التاريخ، ومن أمريكا نقله إلى أسبانيا فرنسسكو فرناند مبعوث فيليب الثاني لدراسة حاصلات المكسيك عام 1558.

وكلمة التبغ يرادفها بالأجنبية والأصل الذي أخذت عنه هذه الكلمة غير معروف تماماً؛ فقد تكون قد أخذت عن اسم جزيرة توباجو إحدى جزر الهند الغربية، أو عن توباسكو في خليج المكسيك، أو عن اسم أداة وجد الأسبان أن الأمريكيين يستعملونها في التدخين، وهي عبارة عن أنبوبة تنتهي إلى فرعين تشبه حرف اسمها وكانوا يضعون الفرعين على فتحتي الأنف ويستنشقون منهما الدخان، وهذا هو المصدر المرجح. ومما يؤسف له أن تكون مصر من اكثر الدول استعمالاً للدخان؛ فلقد جاء في إحدى الإحصائيات أن متوسط نصيب الفرد في الدولة من الدخان بالأرطال كما يأتي:

الولايات المتحدة 5. 92

بريطانيا العظمى وايرلندا 2. 95

بلجيكا 4. 9

ص: 44

فرنسا 2. 9

مصر 4. 06

إيطاليا 2. 35

وقد يطرأ على ذهن القارئ أنه علاجاً، لهذه الحالة، تباح زراعة الدخان في مصر خصوصاً، وقد سبق أن كان يزرع إلى أن حرمت زراعته عام 1890، ولقد فكرت الهيئات المختلفة في ذلك وقامت وزارة الزراعة بتجربة زراعته في مناطق مختلفة، ولكن كان الناتج دائماً رديء النوع، فإذا قيل انه سيكون رخيص الثمن ويقبل الجمهور عليه، فمعنى ذلك أن الحكومة ستحرم من دخل كبير في الجمرك. فإذا قيل فلتفرض الحكومة على زراعته ضريبة عالية تعوض بها ما تفقده من الجمرك، كان الجواب انه بذلك سيرتفع ثمنه إلى أن يقارب الأصناف المستوردة من الخارج - وهي أجود منه نوعاً - فسيفضلها المستهلك، فإلى أن نستطيع استنبات أنواع جيدة ستظل الحال على ما هي عليه

ويتراوح طول نبات التبغ ما بين ست أو تسع أقدام، والأوراق منظمة على الساق بالتبادل، وليست لها أعناق فيما عدا الأوراق السفلى، فقد تكون لها أعناق قصيرة، وتغطي الساق والأوراق شعيرات ناعمة ذات غدد، وسطح النبات لزج لخروج إفرازات سائلة، وينتهي الساق إلى أزهار لونها قرنفلي أو وردي وحبوب الثمار لونها بني وصغيرة جداً، حتى أن النبات الواحد قد ينتج منه مليون؛ وللأرض التي يزرع فيها الدخان تأثير كبير على لونه. فالأرض الطفلية الرطبة تنتج دخاناً لونه قاتماً: أحمر أو بني، والأرض الرملية تنتج دخاناً أصفر اللون، أو أحمر زاهياً ذا أوراق رقيقة، وكما حرم الدخان في أراضينا حرمت زراعته كذلك في أسبانيا، مع أنها أول بلد - كما ذكرنا - نقلت زراعته إليه من موطنه الأصلي (أمريكا)، ومن أسبانيا ادخل إلى فرنسا وإيطاليا عام 1560، وادخل في ظن الناس آنئذ أن له فوائد طبية هائلة، حتى كانوا يسمونه أي العشب الصحي، وسموه أيضاً أي التبغ الإلهي، كما سموه أيضاً أي عشب نيكوتيانا المقدس. ويفهم مما سبق شدة ولع الناس بالتبغ، حتى انتشر التدخين انتشاراً عظيماً هال من بيدهم الأمر من ملوك وباباوات وسلاطين وحكومات. فأصدرت نشرات تبين مدى الضرر من التدخين، وفرضت ضرائب باهظة، حتى أن إنجلترا رفعت الضريبة من بنسين على الرطل إلى ستة شلنات وعشرة

ص: 45

بنسات، وقصرت زراعته على مساحة ضئيلة، ولكن الناس لم يكفوا عن التدخين، فلم تجد الحكومة الإنجليزية مناصاً من إصدار منشور يحرم زراعته تحريماً باتاً في إنجلترا وايرلندا؛ وبعد بضعة أعوام رفع الحظر على الأخيرة، ولكن سرعان ما أعيد ثانية، وكان ذلك عام 1831، إلى أن رفع الحظر عن إنجلترا وايرلندا عام 1910.

وهو يزرع الآن في الولايات المتحدة، وكوبا، والمكسيك، والبرازيل، وبارجواي، وجزر الهند الهولاندية، وبورنيو الشمالية، واستراليا، والهند، والصين، وبورما، والفيليبين، وإيران، والترنسفال، وروديسيا، واليونان، وتركيا، وهنغاريا، وألمانيا، وروسيا، وفرنسا، وهولاندة.

وتبذر بذوره في فبراير ومارس وأبريل في مشتل، على أن تكون التربة قد طهرت من آثار الحشرات بان تحرق عليها بعض المواد، فإذا ظهرت البادرة أحيطت بغلالات رقيقة، ويحافظ عليها من الريح، حتى إذا ما اكتمل طول النبات ست بوصات نقل إلى الحقل، وذلك في الفترة ما بين أبريل ويونية، ويكون بعد كل نبات عما يجاوره قدم ونصف إلى ثلاثة أقدام في صفوف بين كل صف وتاليه ثلاثة أو أربعة أقدام، ويتم نضج النبات حين يعلو الورقة اصفرار في اللون بعد أن كانت خضراء زاهية، كما تصبح هشة سهلة التكسر إذا أحنيت، ثم تجفف الأوراق صناعياً، وعملية التجفيف هذه تحتاج إلى دقة ملاحظة في درجات الحرارة المختلفة التي تتعرض لها الأوراق فيحوطها أولا جو تضبط حرارته فيما بين 80 و90 درجة بالمقياس الفهرنهيتي، أي بما يعادل 26. 6 - 33. 3 تقريباً بالمقياس المئوي، وذلك لمدة تتراوح ما بين 18 - 36 ساعة، ثم تزداد درجة الحرارة بفرق 5 - 10 درجات فهرنهيتية كل ساعتين إلى أن تصل إلى درجة 120ف ثم تثبت. أما السيقان فترفع حرارتها بعد ذلك إلى 160 - 175ف بفرق قدره 5 - 10 درجات كل ساعة، وتستغرق مثل هذه العملية ثلاثة أيام. وأما في الأقطار الشرقية كالهند وسيلان حيث الجو دافئ فيكتفي في التجفيف بحرارة الشمس الطبيعية، وفي التجفيف الصناعي لا بد من رفع درجات الحرارة بانتظام وهدوء حتى يحتفظ النبات باللون والنكهة المطلوبة؛ ثم تكبس الأوراق في صناديق أو تكوم في حفر دافئة رطبة، ويضغط عليها يومياً لمدة عشرة أيام، ويوالى الضغط بعد ذلك في فترات أطول لمدة ثلاثة شهور. فتحدث في هذه الفترة عملية

ص: 46

اختمار، وتتخذ الأوراق شكل التبغ المعروف، ويكون في الأوراق في هذه المدة رائحة الكحول ويصبح لونها داكناً لامعاً

وللسماد المستعمل في زراعة الدخان تأثير هام في شكل الأوراق، فالسماد الذي يحوي نسبة عالية من الأزوت أو الفوسفات ينتج أوراقاً سميكة؛ بينما السماد الذي يحوي البوتاسيوم ينتج أوراقا ناعمة ذات نكهة طيبة، إلا أن نمو النبات يكون بطيئاً، والأوراق الخضراء في النبات تحوي نسبة عالية من الماء من 80 - 90 ? بينما الورقة حين تصبح معروضة للبيع في السوق تحوي 12 - 14 ?.

والمادة الكيميائية التي يمتاز بها التبغ هي مادة النكوتين وهي مادة شبه قلوية سامة، تختلف نسبتها باختلاف أصناف النبات، في نبات المساس أو شجرة الجرش أقل من 1 ? بينما في التبغ الناتج من جنوب أفريقية تتراوح بين 3 - 5 ? بينما في نبات الدخان البلدي تكون أعلى من ذلك. كذلك تختلف هذه النسبة باختلاف سمك الورقة، فكلما غلظت كانت النسبة أعلى.

كذلك كلما دكن اللون وكلما ارتفع موقع الورقة على الساق، أو كلما كثر الأزوت في السماد، ووجد أنه كلما زادت نسبة النيكوتين ضعفت قوة الرائحة الملموسة في التبغ، وفي الدخان المتصاعد من التبغ وجدت كذلك النوشادر، وأول أكسيد الكربون، وسينور الأيدروجين، والأخيران من الغازات السامة، وكبريتور الإيدروجين، وحامض البوتريك، ومواد كيميائية أخرى لا ضرورة للاستطراد في ذكرها، وأما غاز أول أكسيد الكربون السام فتختلف نسبته باختلاف سرعة الاحتراق، ففي الدخان المتصاعد من السيجارة تتراوح نسبته بين 6 - 8 ? بينما في دخان الغليون ما بين 7 و - 14 و1 ?، وفي السيجار من 6 - 8 ?، كما تختلف نسبة الرماد المتخلف فهي اقلها في تبغ السجائر بينما هي أعلاها في الرماد المتخلف من السيجار والرماد يحتوي على عناصر مختلفة منها: البوتاسيوم، والكالسيوم، والمنجنيز، والحديد، والألومنيوم، والصوديوم ومواد كبريتية وفوسفورية، وهذه العناصر مرتبة ترتيباً تنازلياً حسب نسبتها، وقد يضاف إلى التبغ مواد تكسبه طعماً مقبولاً مثل السكر والعسل والجليسرين والصمغ ونبات السوس أو ربه.

أحمد علي الشحات

ص: 47

‌البريد الأدبي

جواب

جوابي عن قول الأديب الأمثل الأستاذ زكي مبارك هاهو ذا:

يا سيدي الصديق، قال تعالى:(أنا أنزلناه قرآناً عربياً)، وجاءت الكلمة (عجوز) للشيخة في التنزيل العزيز، كما تعلم.

وإن في علمك يا سيدي الأستاذ الكبير قول الشاعر:

عجوز علتْها كبْرة في ملاحةٍ

أقاتلتي يا للرجال عجوز

ونحن نتبع (اللسان العربي) يا صديقي لا نبدع لغة

زادك الله بسطة وأزكى لك الخير

(وحيد)

إلى فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي

قرأت مقالك العظيم بالعدد (420) من مجلة الرسالة الغراء؛ فكان آية من آيات تلك المجلة الكريمة علينا، العاملة على إصلاح الأزهر وإعادة مجده السالف. وقد ملأني ذلك المقال أملاً في الإصلاح بعد يأس، وأفعمني رجاء فيه بعد قنوط؛ ولكني رجعت إلى نفسي بعد ذلك الأمل فقلت: أي ربي، هذا القائد فأين الجنود؟ وهذا رسول الإصلاح فأين الأصحاب والحواريون؟ وهذا الداعي إلى النهوض فأين المجيبون؟

بني المعاهد هبوا طال نومكم

قد هيْأ الله هذا المصلح البطلا

ولقد وقفت يا سيدي كثيراً عند قولك عن الأستاذ الإمام: وتعلم القواعد في مختصرات رضيها ذلك العصر المظلم، لا تفهم إلا بشروح وحواش وصناعة خاصة. فقلت في نفسي: كيف ينظر أستاذنا المراغي إلى تلك المختصرات وشروحها وحواشيها تلك النظرة؟ وكيف يذكر العصر الذي رضيها باسم العصر المظلم؟ ثم يرضى بعد هذا أن تبقى في عهده الكريم كما كانت في ذلك العصر، إذ لا تزال لها المكانة الأولى في الأزهر، ولا تزال علومنا لا تدرس إلا فيها، ولا تزال قواعدها لا تؤخذ إلا منها

يا سيدي الأستاذ الأكبر إن تلك المختصرات وحواشيها وشروحها هي علة العلل في فساد

ص: 49

التعليم بالأزهر، وهي مصدر ذلك الجمود الذي حارب الأستاذ الإمام، وحال بينه وبين الوصول بالأزهر إلى الإصلاح المنشود، ثم يحول الآن بينك وبين الوصول إلى ذلك الإصلاح، وإن الفرصة سانحة بوجودك على رأس الأزهر للقضاء على تلك المختصرات وشروحها وحواشيها، وبين يديك طائفة صالحة من العلماء، تنتظر منك أن تدعو فتجيب، وأن تقول: حي على العمل فنعمل؛ ولا يمضي عليها إلا زمن قليل حتى تظهر لك بدل تلك المختصرات الميتة المظلمة كتباً حية مشرقة، تسري فيها روح الاجتهاد، وتظهر عليها آثار التجديد، وتخرج لك من الأزهر العلماء المجددين، والأئمة المجتهدين.

فهل لك يا سيدي الأستاذ الأكبر أن تبدأ بتلك الدعوة، وهل لك أن تصل بين تلك الطائفة وأمنيتها في العمل؟

عبد المتعال الصعيدي

في اللغة:

كان العلامة الدكتور زكي مبارك قد عدّى (حرم) بمن في بعض قصائده. فاعترض عليه بعض أدباء الشرق. فدافع عن هذه التعدية (بأنه قد يرى المعنى في بعض الأحايين لا يؤدي تأدية صحيحة إلا إذا عبر عنه بتلك الصورة)

وهو دفاع غير مقنع كما ترى

فكتبت في العدد 405 من (الرسالة) أقول: (إن الفعل (حرم) يتعدى بمن أيضاً، وعندي شاهد لذلك عثرت عليه في بعض مطالعاتي للاغاني)

وبينما كنت أجيل الطرف أمس في كناشتي، إذ أنا أمام هذا الشاهد، وهو للعباس بن الأحنف، قال:

أُحرم منكم بما أقول وقد

نال به العاشقون مَنْ عشقوا

صِرت كأني ذُبالة نُصبتْ

تضئ للناس وهي تحترق

ثم قلبت صفحات الكناشة، فلمحت مما كنت اختزنته فيها من (الأغاني)، تعبيرين يستوقفان النظر، لما أنهما كانا يظنان من توليد العامة في مصر أو في غيرهما من الشرق العربي.

وقد آثرت أن اعرضهما، كلاً في نصه الذي ورد فيه، ليستبين المعنى، ويتضح المقام:

ص: 50

1 -

اخبرني عمي، قال: حدثنا الكراني. . . قال: انشد جرير قول عمر بن أبي ربيعة:

سائلاً الربع. . . الأبيات

فقال جرير: (إن هذا الذي (ندور عليه) فأخطأناه وأصابه هذا القرشي)

فتدور عليه: نبحث عنه لنصل اليه، وهو نفس تعبير الناس عن هذا المعنى الآن، غير أنهم يضعفون عين الفعل.

2 -

غنى إبراهيم الموصلي الرشيد صوتاً، فأمر له بألف دينار. فلما كان بعد سنين، خطر ببال اسحق ذلك الصوت، وذكر قصته، فغناه إياه؛ فقال الرشيد:(قد أخذ ثمنه أبوك مرة، فلا تطمع)؛ فقال اسحق: (فعجبت من قوله، ثم قلت له: يا سيدي، قد أخذ أبي منك مائتي ألف درهم، ما رأيتك ذكرت منها غير هذا الألف، (على بختي أنا. . .)

فهل كنت تظن أن هذه العبارة - على ابتذالها الآن - مما كان يتكلم به إسحاق ابن إبراهيم الموصلي الجليل القدر في حضرة الرشيد؟

(أ. ع)

1 -

حول السواد

سأل الدكتور زكي مبارك في العدد الثامن عشر بعد المائة الرابعة من الرسالة: (هل كان السواد من علائم الرزانة في أوقات الاهتمام بعظائم الأمور. . .؟)

وأقول: إن الثياب السود كان لها شأن في الدهر الغابر أيام بني العباس (أنظر أول من لبس السواد: محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر)، وكان الناس يلبسونها إذا دخلوا على الخلفاء وكانوا في موكب واحتفال: شأنهم اليوم فيما يشاكل تلك الرسوم.

قال التنوخي في (نشوار المحاضرة): (حدث أبا الحسن ابن الفرات قال: فدخلنا في الليلة التي ولي فيها العباس بن الحسن الوزارة بعد موت القاسم بن عبيد الله. فتشاغل الحسن بتقليب ثياب السواد وقد جاءوه بها ليختار منها ما يقطع له فيلبسه من غد في دخوله إلى الخليفة، وكان الرسم إذ ذاك ألا يصل أحد إلى الخليفة في يوم موكب إلا بسواد. . .) 8 - 91

وقال أيضاً: (. . . فإذا كان يوم موكب كانت الأقبية كلها سواداً، وإذا كان غير موكب

ص: 51

فربما كانت بياضاً، وفي الأكثر من السواد) 8 - 12 (نشوار المحاضرة. مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق)

وكانت الخلفاء والشعراء تلبس السواد، والشواهد كثيرة منها ما قاله التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة):(حدث عبيد الله بن عبد الله قال: كنت مع الرشيد بطوس لما ثقلت علته فجلس يوماً وعليه جبة خز سوداء، وفوقها دراعة خز اسود. . . وقلنسوة طويلة وعمامة خز سوداء) 2 - 53

وقال الجاحظ في (البيان والتبيين): (وكانت الشعراء تلبس الوشي والمقطعات والإرادية السود) 3 - 78

وكانوا يتخذون العمامة من خز اسود. ذكر الجاحظ في (أخلاق الملوك) أن إبراهيم بن المهدي دخل على احمد بن أبي دؤاد وعليه مبطنة ملونة من احسن ثوب في الأرض وقد أعتم على رأسه رصافية بعمامة خز سوداء. لها طرفان يتدليان خلفه وأمامه، وفي يده عكازة آبنوس ملوح بذهب وفي إصبعه فص ياقوت. . .) 48

قال (أحمد زكي باشا): (والرصافية هيئة عمة على قلنسوة خاصة بالخليفة أو ولي عهده وذكر (بن خلكان) في (وفيات الأعيان) عند ترجمة (جعفر البرمكي) أن أكابر بني العباس كان لهم الحق باتخذاها أيضاً)

ويقول الدكتور مبارك: إن السواد اتخذ شعاراً للحزن لما يشيع في النفس من انقباض واستيحاش فِلمَ اتخذ أهل الأندلس البياض شعاراً، وهو يشيع في النفس الانشراح والصفاء؟

2 -

أوهام لغوية

جاء في مقال الأستاذ محمد عبد الغني حسن.

أ - (كانت القاهرة طيلة حكم الفاطميين. . .) استعمل (طيلة) بمعنى (طول). وهي من أوهام الكتاب وليست بشيء. في (اللسان)(أطال الله طيلته أي عمره)، والصواب (طول وطوال) فتقول (كانت القاهرة طول حكم الفاطميين وطواله) وفي (الصحاح) و (الأساس) (والطوال بالفتح من قولك لا أكلمه طوال الدهر وطول الدهر بمعنى. . . هـ.

ب - وقال صاحب (الوضع الصحيح للإصلاح الاجتماعي)(تشوش أمانيه) ولم يسمع هذا الحرف في كلام فصيح صحيح. قال صاحب القاموس: (والتشويش والمشوش والتشوش

ص: 52

كلها لحن. ووهم الجوهري. والصواب: التهويش والمهوش والتهوش. . .) وانظر الزمخشري أيضاً.

ووقال (سوف لا تكفي غلتها. . .) وهذا خطأ شائع عند المبتدئين والمتأدبين يستعملون (سوف لا) للنفي في المستقبل ولم يسمع هذا عن العرب. ولكنهم قالوا (لن) بدلاً عنها. فتقول (لن تكفي غلتها)(ولن افعل كذا. . .)

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

بين العزوبة والزواج

قرأنا المقال الذي دبجته براعة الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في الزواج، فوقع من أنفسنا موقعاً حسناً. ولما كان الشيء بالشيء يذكر فنرجو الأستاذ النابغة أن يسمح لنا أن نضيف إلى مقاله القيم رأياً نذكر إننا مررنا به في إحدى مطالعاتنا إلى عهد قريب.

يقول صاحب الرأي - واعتقادي انه طبيب مشهور - بأن الإحصائيات بسنين متوالية قد أثبتت إثباتاً حاسماً بأن نسبة عدد الوفيات بين المتزوجين أقل بكثير من نسبة عدد الوفيات بين العزاب في العام الواحد. ويستنتج - بعد أن يعرض جدولاً بإحصائياته - أن العزوبة متلفة للحياة اكثر مما تتلفها مهنة مجهدة مضنية. أو أكثر من مسكن قدر له أن يلقي بكل عنف في أقل الأماكن محافظة على الشروط الصحية. وبالرغم من أن للإحصائيات بعض الأخطاء، فإننا نستطيع أن نقول بكل اطمئنان (إن الحياة تكون أسعد جداً برفيق). وأن ما يمكن أن تتضمنه هذه الإحصائيات من الصحة يجب أن يكون حافزاً قوياً على الزواج. فإنه لمن السهل جداً أن يجد الباحث في حياة المتزوج أسباباً كثيرة تبعده عن المفاسد والأمراض وكل ما ينهك قواه وبالنتيجة يطيل في عمره ويمد أجل سعادته. فهلا يشعر العزاب بيننا بأن الحياة جديرة بأن نحياها بسرور فيقبلوا على الزواج مسرعين؟

هذا ما نرجوه مخلصين والسلام.

(الحصن - شرق الأردن)

خليل السالم

ص: 53

حول اللهجات العامية

أشكر للكاتب الألمعي الأستاذ محمد عبد الغني حسن ما وجهه إلي وإلى مقالاتي (في الاجتماع اللغوي) من عبارات الحمد والثناء؛ وقد وددت لو ألبي رغبته الكريمة، فأطيل الكلام على اللهجات العامية التي تفرعت من العربية، وأذكر ما كتبه المستشرقون في قواعد كل منها، لولا خشيتي أن بحوثاً دقيقة كهذه قد تجرد مقالاتي مما وصفها به من أنها (لا ترهق القارئ ولا تمله)

وسأعرض لهذه البحوث وما إليها في كتاب لي في (فقه اللغة)، وهو الآن تحت الطبع، وآمل أن أفرغ منه قريباً إن شاء الله

علي عبد الواحد وافي

(الزاد الأخير)

قرأت في العدد الفائت (420) من (الرسالة) الغراء قصيدة بالعنوان المتقدم للأستاذ سيد قطب جاء في نهايتها:

واطلعي في قفار نفسي حياةً

وإِذا ما دجا عالَمي أو مِضى لي

والشطر الثاني من البيت مكسور، ويكون صحيحاً لو أنه قال:

واطلعي في قفار نفسي حياةً

وإِذا اسوَدَّ عالَمي أوْ مِضى لي

(القاهرة)

عبد الرحمن الخميسي

ص: 54

‌القصص

في وزارة الخارجية

عن الإنجليزية

بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار

أكثر من بقي إلى اليوم من أصدقاء (ألفونس لاكور) لم يروه إلا في أخريات أيامه. وقد كان ألفونس منذ ثورة 1748 إلى أن قتل في حرب القرم في العام التالي يقضي كل أيامه في مشرب (كافيه دي بروفنس) في شارع (ريوسان هورنيه) حيث لا يجالسه ولا يحادثه أحد، لأن القصص التي كان يرويها هذا السياسي القديم مما لا يستطيع تصديقه إنسان. فإذا ما جلست إليه وسمعته يبعد ويشتط عن مدى ما تتصور أنه الحقيقة. . .

انتهزت أول فرصة لتحتج بها وتترك مجلسه، لكنني قد قرأت مذكرات خاصة لبعض السياسيين، فلم أستغرب ما نقلوه ألي من أخبار هذا السياسي القديم، فذهبت إليه وسمعته يتحدث عن مدة وجوده في مصر تحت قيادة كليبر، وكان مما قاله:

(لقد تركت مصر على أثر قتل هذا القائد. ولست اكتم عنك أني كنت أوثر البقاء فيها، وكنت أريد اعتناق الإسلام؛ وكان أول ما لفتني إليه وحببني فيه إباحته تعدد الزوجات، ولولا تحريمه الخمر ومجادلتي مع المفتي في شأنها مجادلة أقنعته بأنني لن اترك شربها لو أسلمت لأعلن المفتي إسلامي من زمن بعيد. فلما توفي الجنرال (كليبر) وجعلوا المسيو (منو) رئيساً لي، عولت على الاستقالة والإقامة في لندن حيث لا اشتغل بشيء غير ترجمة ما وقع عليه اختياري من الكتب الإسلامية، وفي مقدمتها القرآن. وكان المسيو أوتو سفير فرنسا في لندن يمهد للصلح بين إنكلترا وفرنسا بعد حرب استمرت عشرة اعوام، ولست احب التحدث عن كفايتي، ولكني أؤكد لك أن هذا السفير استعان بي، فأديت له خدمات جليلة: ذهبت معه إلى لندن مستقيلاً من الجيش، فكانت اسعد أيامي تلك التي قضيتها في لندن أترجم كتب الإسلام وأسعى في توطيد السلم بين الدولتين.

ولقد كادت تقضي على السفير وعلى أعوانه كثرة أعمالهم، لان الرجل الذي كنا نفاوضه من اصلب الرجال وهو وليم بت، وليس من السهل على ست دول مجتمعة أن تعامل رجلاً

ص: 55

كهذا، فكيف ونحن نفاوضه في صلح بعد حرب استمرت أعواماً عشرة؟

وكانت أعمالنا مساومة على أخذ أرض مقابل أرض والتنازل عن جزيرة في مقابل شبه جزيرة. وهل إذا فعلنا ذلك في فينيس تفعلون ذلك في سيراليونا؟ وهل إذا أعطينا مصر للسلطان، تعطوننا مدينة الكاب التي أخذتموها من حلفائنا الهولانديين؟

وفي يوم من الأيام عاد إلينا السفير متعباً منهوك القوى فأجلسناه واجتمعنا حوله وبعد أن تمالك قواه قال: (لقد كان أهم لعبة يريد أن يلعبها ضدنا الإنكليز خاصة بمركز مصر، وقد وجدت انه لا يزعجهم شيء كما يزعجهم وجودنا فيها لأنهم يخشون أن يجعلها نابليون قاعدة للهجوم على الهند، ولذلك كنا كلما توقف وليم بت في أمر من الأمور قلنا له: (إذا كان الأمر كذلك فنحن لا نستطيع أن نخلي مصر) فنراه في الحال قد رجع إلى صوابه، وبسبب مصر نلنا شروطاً باهرة في الصلح مع الإنكليز والحق إننا لم نخش الأساطيل والجيوش الإنكليزية وإنما نخشى دهاءهم السياسي، ويختلف الإنكليز عنا في نقطة هامة هي أننا إذا حصلنا على جزء من الممتلكات فيما وراء البحار جلسنا مطمئنين في باريس ودبرنا التسهيلات التي نستطيع بها إخضاع ذلك الجزء لنا ونحن في أماكننا جاثمون. أما الإنكليزي فيحمل زوجته وأبناءه ويذهب إلى ذلك الجزء كائناً ما كان وصفه محاولاً جعله كأية بقعة من بلاد الإنكليز.

وأخيراً تم التفاهم على شروط المعاهدة وهنأت المسيو أوتو على نجاحه وكان شديد الفرح بذلك النجاح فلم يجلس مطمئناً إلينا بل أخذ يجري من غرفة إلى غرفة وهو يضحك ضحكاً عالياً وأنا جالس في ركن من غرفة الاستقبال انظر إليه كلما مر من أمامي. وفي وسط السهرة جاءت رسالة على يد رسول من باريس فنظر إليها السفير ولم يفتح فمه بحرف، بل خانته قوته ووقع على الأرض فجريت نحوه فاجتمعنا حوله وحملناه فنام على النمرقة وكان شكله يدل على أنه قد مات لولا أن نبضه كان لا يزال يدل على حياته.

والواقع أني اكره الفضول ولكن لما رأيت الإغماء على السفير لم استطع منع نفسي من النظر إلى الرسالة التي سببت ذلك فكدت اصعق أنا أيضاً عندما قرأتها. لكنه لم يغم علي، بل جلست في ركن من القاعة وأخذت ابكي. وهذه الرسالة تدل على أن جيوشنا أخلت مصر. وكانت المعاهدة لم توقع بعد ولا بد إذن من فسخها لأن الإنكليز ما عادوا في حاجة

ص: 56

إلى إخراجنا منها. لكننا فرنسيون فلا نهزم بسهولة. والإنكليز يظلموننا حين يرون أن إظهارنا للعواطف التي يستطيعون كتمانها يدل على إننا ضعفاء.

بعد قليل أفاق المسيو أوتو وقال: (ترى يا مسيو ألفونس أن هذا الإنكليزي وليم بت سيضحك مني عندما أطلب إليه توقيع المعاهدة). فخطر ببالي خاطر فجأني وقلت: (تشجع! كيف نجزم بان الإنكليز وصل إليهم هذا الخبر؟ ربما استطعنا الحصول على توقيعهم على المعاهدة قبل أن يعلموا بهذا الخبر)

فقفز المسيو أوتو من مكانه ومد نحوي ذراعيه وعانقني وقال: (لقد أنقذتني يا مسيو ألفونس! إن الخبر وصل إلى باريس عن طريق طولون، وسيصل متأخراً إلى إنكلترا عن طريق جبل طارق؛ فإذا نحن احتفظنا بالسر أمكننا الحصول على توقيعهم على المعاهدة

ولست أستطيع أن اصف حالتنا في اليوم التالي؛ فقد كانت ساعاته تمر بطيئة، حتى لقد انتقل المسيو أوتو من الشباب إلى الشيخوخة في ذلك اليوم. ولم أطق الصبر على الانتظار، فخرجت من المنزل مرتاداً كل طريق مقتحماً كل مكان. ولكنني لم اسمع أي خبر. ولما جاءت الساعة الثامنة وهي موعد توقيع المعاهدة اقترحت على المسيو أوتو أن يشرب زجاجة من الخمر قبل أن يذهب، لأني خشيت أن يستدل الإنكليز على الحقيقة من اصفرار وجهه واضطراب يده. ثم ركبت معه عربة من عربات السفارة، وكانت الخمر قد أنعشت قواه، فلما وصلنا إلى باب وزارة الخارجية بقيت في العربة ونزل وقلت له:(إذا تم التوقيع فاعطني إشارة. والى ذلك الحين سأمنع وصول أية رسالة إلى الوزير الإنكليزي)، فصافحني ووعدني بأن يدني شمعة من النافذة حتى أراها من الطريق، ثم تركت العربة تعود ووقفت قرب الوزارة فرأيت العربات مقبلة، وقلت في نفسي: لو جاء رسول من رئيس الوزارة إلى وزير الخارجية فإني أمنعه ولو بقتله، فان آلافاً من الجنود قد ماتت لتكسب مجد الحرب. وماذا إن شنقت وانتصرت بلادي. . .؟

ثم خطر ببالي خاطر فدعوت حوذياً وأعطيته جنيهاً وقلت له: (إذا ركبت عربتك مع أي إنسان فلا تتلق الأوامر منه بل مني، وأنزلني في شارع هاري ولا تترك الذي معي إلا في نادي ويتر في بروتون، وسأعطيك جنيهاً أخر)

فوافق الحوذي. وبعد دقائق جاء رسول وهم بدخول الوزارة فأمسكت بذراعه وقلت: (هل

ص: 57

أنت رسول إلى وزير الخارجية؟)

قال: (نعم). فقلت: (تعال معي فهو الآن عند السفير الفرنسي)

وكان كلامي بلهجة تأكيد لم يتردد الرسول في تصديقها. وركب معي في عربة الحوذي الذي اتفقت معه. ولكن السائق جرى بنا في الطريق الذي أرشدته إليه وهو يختلف عن الطريق المؤدي إلى السفارة. فصاح الراكب معي بالحوذي أن يقف وقال إن في الأمر حيلة. ومنعته فاستغاث فكتمت أنفاسه فجلس هادئاً وأردت أن أطمئنه فقلت: (أني رجل شريف مثله، وان الأمر مراهنة فقط).

قال: (مراهنة! ألا تعلم أني أؤدي عمل الحكومة؟ أن عملك يستوجب العقاب)

فقلت: (هذا هو موضوع المراهنة)

قال: (إذاً فأنت مجنون)

عند ذلك نظرت إلى ساعتي فوجدت موعد التوقيع قد فات ولم أجد ضرورة للاستمرار في الخطة، فأوقفت العربة ونزلت راكضاً تاركاً من فيها تحت رحمة الحوذي. وركبت عربة أخرى إلى دار السفارة. ومن منعطف في الطريق راقبت ذلك الرسول يقبل نحوها. وبعد دقائق نزل المسيو أوتو فرحاً مستبشراً وقال لي أنه تم توقيع المعاهدة. ولكن بعد التوقيع وصلت رسالة إلى الوزير الإنكليزي بأن الفرنسيين أخلوا مصر. فقال ذلك الوزير أنه لو تقدمت الرسالة دقيقة لما أمكن توقيع المعاهدة، ولكن أمرها خرج من يده.

فهنأت السفير بانتصاره، وعدت وفكرت في أن مصادفات صغيرة كتأخير الخبر لحظة أو تقديمه لحظة يكون لها تأثير في مصائر الدول وأحوال السياسة العالمية. فآمنت بالقضاء والقدر ولم أعد أسخر من اعتقاد الشرقيين بهما. وعكفت بعد ذلك بأيمان صادق على استئناف ترجمة القران وسائر الكتب الإسلامية.

عبد اللطيف النشار

ص: 58