الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 422
- بتاريخ: 04 - 08 - 1941
حول التعليم الالزامي
جنود مجهولون. . .
في ميدان الجهاد الثقافي مجهولون لا يشكرهم شاكر، ولا يكاد يذكرهم ذاكر: أولئك هم فرق الأساس الذين يمهدون الأرض للدفاع، ويُعدون الجيش للعمل، ويهيئون الشعب للنهوض. وهم الذين يعيشون على عشرات القروش وينفقون من ومضات أرواحهم ونبضات قلوبهم وذخائر قواهم، مايضمن للقادة يوم النصر أكاليل الغار وألقاب الفخار وأكياس الذهب. فإذا فشلت الخطط وطاشت المعارك ربأ الناس بالقادة عن التهم، ورموا هؤلاء المجهودين المجحودين بنقص الكفاية وسوء الدُّرية.
هؤلاء الجنود المجهولون هم المعلمون الإلزاميون! كتب الله عليهم جهاد الأمية ونشر المعرفة بين الطبقات الفقيرة بالقدر الذي يساعد الإنسان على استكمال حظه من العلم الضروري، فأبلى هؤلاء الجنود الصابرون أحسن البلاء في معركة الأمية خمسة عشر عاماً؛ ثم أسفر هذا العراك الطويل الثقيل عن بقاء هذه الأمية منيعة الحصون شديدة البأس؛ كأنما كانت رحا هذه الحرب تدور على فراغ!.
دهش الكتاب والنواب لهذه النتيجة الموئسة، وراحوا كدأيهم يلتمسون العلل في إداد المعلم الإلزامي وكفايته وخبرته، ولو هداهم النظر الصادق لالتمسوها في فساد الخطط وسوء التوجيه واضطراب النظام وانبهام الغرض.
ما ذنب المعلم إذا أخفق نظام لم يضعه، ومنهاج لم يَشْرَعه، وكتاب لم يؤلفه؟ هل هو إلا جندي كسائر الجنود يكون أداة للنصر أو للهزيمة على حسب ما يصدر عن القيادة من حكمة أو أفن؟.
لقد فشل التعليم الثانوي فشلاً تضرب به الأمثال للعبرة؛ فهل يجوز في منطق العقل أن تخرج من حسابه الخبراء والمراقبين والمفتشين واللجان والتقارير والتجارب؛ ثم نحصر علته في المعلمين وهم من حيث الخبرة والمران بنجوة عن الشك؟.
نحن لا نزعم أن المعلمين منزهون عن صفة النقص، ولا مبرأون من تبعة الفشل، فإنهم ناس كسائر الناس، فيهم الضعيف بفطرته والقاصر في أداته؛ ولكنا نزعم أن نصيبهم من إخفاق التعليم أقل الأنصبة، وأن حظ الإلزاميين من هذا النصيب أضعف الحظوظ. ولو
جاز لنا أن نوازن بين طوائف المعلمين في الاستعداد والاجتهاد لجاء الإلزاميون في أصحاب الكفة الراجحة؛ ذلك لأنهم بحكم تنشئتهم وإعدادهم يشعرون بالضعف والتخلف، فهم لا ينفكون يستفيدون ويستزيدون ما أمكنتهم الوسيلة والقدرة. ومن النادر أن تجد معلماً إلزامياً لا يقتني الكتاب المفيد ولا يشترك في المجلة النافعة. وأشهد أن ثمانين في المائة منهم مشتركون في ((الرسالة))، وإنهم ليقتطعون بدل اشتراكها من قوتهم النزرْ؛ ولكنك تجد الكثرة الكاثرة من حملة الشهادات والمذبات من المعلمين الثانويين والجامعيين لا يقرأون غير الكتب المقررة وما يتصل بها من قريب، ثم لا يجدون في أنفسهم حاجة إلى مطالعة كتاب أو قراءة مجلة.
المعلم الإلزامي والطالب الأزهري هما الشعاع المنبعث من نور الدين والعلم إلى القرية، ولولاهما لتدجى على القرى ظلام من الضلال والجهل لا يمتد فيه بصر ولا بصيرة. ذلك لأنهما يمايشان سواد الشعب وعامته من الزراع والصناع، فيوقظان فيهم العقل، ويحييان الضمير، ويعقدان الصلة الاجتماعية بين حياة المدينة وحياة القرية. ولو كان للتوفيق كرسي في الحكومة لاتخذوا من التعليم الإلزامي وحدة ثقافية تبرئ الفلاحين أطفالاً ورجالاً من الجهالة والمرض. كان من الممكن أن تعتمد وزارة المعارف على المعلمين الإلزاميين في تعليم الأطفال بالنهار، وأن تعتمد وزارة الشؤون الاجتماعية عليهم في تعليم الرجال بالليل؛ وإذن لا تنقضي بضعة أعوام حتى لاتجد في بلد الأميين والحفاة مَنْ ليس في يده كتاب ولا في رجله نعل. ولكن وزارة المعارف وضعت المعلم الإلزامي تحت الدرجة الأولى من السلم ثم نظرت إلى أعلى وتركته يكابد العمل الكثير بالأجر القليل: فهو يعطي ثمانية وأربعين درساً في الأسبوع، ويأخذ أربعة جنيهات أو خمسة في الشهر؛ وهو مع ذلك موضع البركة في تبكير الزواج وتكثير النسل، وعبدُ الثقافة بنشدان المعرفة وإدمان القراءة. فبالله ربك كيف يحسن عمله هذا البائس ونهاره مكدودٌ بعمل المدرسة وليله مجهودٌ بهم البيت؟ وكيف يقضي حياته هذا المسكين ومظهره مظهر الأمير وعمله عمل الأسير وأجره أجر الخادم؟ على أن أعجب ما في الأمر أن يؤدي عمله كاملاً على الوجه الذي رسم له، ويقضي حياته كريمة على النحو الذي يليق به، ويكمل نفسه بالاطلاع والدرس حتى نبه من أفراده كثيرون في التعليم والصحافة والآداب!.
ذلك ما صنعت به وزارة المعارف أو وزارة الداخلية لا أدري؛ أما وزارة الشؤون الاجتماعية فلا تزال في ظلام الحيرة تتحسس بيديها المعوقتين طريق الإصلاح. ولقد دللناها في بضع مقالات كتبناها، على طريق الاستفادة من المعلم الإلزامي في محاربة الجهالة، فأبت إلا أن تحارب الأمية بنفسها فأصدرت مجل، وأن تصلح فساد المجتمع برأيها فحشدت الأطفال المتشردين في مزارع (السرو) الأميرية، ثم سلطت عليهم قسوة الجند وشدة النظام فاستفحل في نفوسهم الشر، وعصف في رؤوسهم التمرد، وتسللوا لواذاً في البلاد، حتى لم يبق من الأطفال الأربعمائة إلا أربعون يكلفون الحكومة من الجهد والنفقة مالا رادّة فيه ولا عوض منه.
كنا نود أن نجيل رأي في مشكلة التعليم الإلزامي ليستضيء أولو الأمر بخبرة المحنكين من الكتاب، ولكنا نعتقد أن الرأي في هذا الموضوع لا يصيب إلا إذا كان التعليم في مختلف درجاته وغاياته سياسة واضحة تنفذ، ونظام مستقر يتَّبع. فبحسبنا اليوم أن تعطف وزارة المعارف على هؤلاء الجنود المجهولين الذين عملوا وأحسنوا؛ وإنهم ليستطيعون أن يزيدونا عملاً وإحساناً، إذا أولاهم معالي الوزير جزاء وشكراناً.
((المنصورة))
احمد حسن الزيات
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
بعض ما علمتني الأيام - الشيخ عباس الجمل - فكاهة سياسية - كاريكاتور طريف - جناية الكتابة على الشعر والخطابة - كيف نعامل رجال الوعظ والارشاد.
بعض ما علمتني الأيام
تلقيت عن الأيام دروساً تفوق العدّ والإحصاء، وإن كنت قليل الانتفاع بتلك الدروس. . . وهل ينتفع جميع الناس بما يتعلمون؟ لو كان ذلك لصرتُ أحكم الحكماء، فلي من الدهر في كل يوم درسٌ جديد، مع الوعي الصحيح لما أسمع من دروس الزمان.
ولكني مع ذلك انتفعت بدرسٍ واحد، وأحب أن ينتفع به قرائي، فما هذا الدرس؟.
هو الخوف الشديد من أحاديث المجالس، فأنا لا أتكلم أبداً في الشؤون الدينية أو السياسية أو الاجتماعية حين أقابل الناس أو حين أزور الأندية في بعض الأحايين، لأني أعرف أن التزيد والتحريف صارا من عيوب بني آدم في هذه الأيام، ولا يجوز ائتمان مخلوقات هذا العصر على مكنون الأفكار والآراء، لأن حظهم من صدق الرواية صار غاية في الغثائة والهزال.
وذلك هو السر في إقلالي من غشيان الأندية والاتصال بالناس، حتى جاز اتهامي بالنقرة من بني آدم وإيثار العزلة والانفراد، مع أني في حقيقة الأمر رجلٌ ألوف، ولا أختار العزلة إلا طلباً للسلامة مع التزايد والافتراء.
فما العبرة من هذا الدرس؟ وما الذي أنصح به قرائي؟
أنا أرى أن نخاطب الناس عن طريق الجرائد والمجلات، أو عن طريق المؤلفات، فلا نعلن رأياً إلا وهو نص مكتوب بعجز عن تحريفه المفترون، وإلا فمن حق كل مخلوق أن يتزيد علينا كيف شاء.
إن النصوص المكتوبة لا تسلم من تحريف المغرضين، فكيف يسلم الكلام المرسل في أحد المجالس وفيها أوشاب لا تعيش إلا من الإفك والإرجاف؟.
إن التحريف الذي ابتُليتْ به آرائي المدوَّنة في مقالاتي ومؤلفاتي قد آذاني، فكيف يكون حالي لو أرسلت نفسي على سجيتها وحدثت الناس بما أراه في الأدب والحياة؟.
من الجريمة أن نحدّث الناس في شؤون يُخاف عليها من التحريف، ومن الجريمة أن يكون اللسان وحده أداة التعبير وهو لا يرسل غير لفظٍ وصفة القدماء بأنه عَرَضٌ سيَّال؟.
يجب أن يكون القلم أداة التعبير في دقائق الشؤون، لأنه يحدد أغراضنا تحديداً يمكن الاحتكامم إليه عند اشتجار الخلاف.
أَقِلّوا من أحاديث المجالس، يا قرائي، لتسلموا من أكاذيب المفترين، فما وثق أحد بالناس في غير حذر ولا احتراس إلا سقوه الصاب والعلقم، وأكرهوه على الوقوع في الخطيئة الدميمة وهي اليأس من الثقة بإخوان الزمان.
ما الموجب للثرثرة في الأندية والمجالس وعندنا من الجرائد والمجلات ما يتسع لنشر ما نريد من الأفكار والآراء؟.
إرحموا أنفسكم من أوزار التحريف لما يصدُر عنكم، واعرفوا جيداً أن المبادئ لا تخدَم بالقيل والقال بين أجواف الجُدران، وإنما تخدَم المبادئ بالقول الصريح الذي يعجز عن تحريفه أصحاب الأغراض المِراض.
ثم ماذا؟.
ثم أوصيكم بأن تكونوا رقباء على أنفسكم، فلا تقولوا في السر ما تعجزون عن نشره في العلانية، وما أوصيكم إلا بما أوصي به نفسي، فأنا لا أقول كلمة في مجلسٍ خاصْ إلا إذا عرفت أني أملك نشرها على الجمهور بلا تهيب ولا إشفاق، ولو شئت لقلت بدون أن يكذّبني أحد المكابرين. إن لساني في غاية من التلطف والترافق، وإن اشتهر قلمي بالشطط والجموح، وما كان ذلك كذلك إلا لأني أكره المواربة وأبغض الاستخفاء، وما حقد عليَّ حاقدٌ إلا بما قلت فيه بكلام منشور في الجرائد والمجلات يملك الرد عليه حين يشاء. أما إيذاء الناس في السر فلا أستطيعه أبداً لأن الله تباركت أسماؤه عصمني من رذيلة الاغتياب، فله الحمد وعليه الثناء.
الشيخ عباس الجمل
من أفظع الشواهد على أن أدباء مصر لا يعطف بعضهم على بعض، ولا يبكي أحدهم لكربة أخيه، ولا يسأل عنه حين يغيب، ولا يلتفت إليه إلا حين يسمع عَرَضاً أنه صار إلى بؤس أو نعيم. . . من افظع الشواهد على انعدام خلة الوفاء بين الأدباء المصريين أنهم لم
يسمعوا أن الأستاذ عباس الجمل يعاني علة دامية - سينجو منها بإذن الله - وأنه كان يجب عليهم أن يواسوه في جميع الجرائد والمجلات بما يدفع عنه العلة والعناء؛ فقد يكون في الكلمة الطيبة ما يزوَّد الجسم بقوة المناعة ويقلّم أظفار الداء. ولكن أين من يفهم هذه المعاني؟!.
فجعُ الشيخ بغَرَق ابنه (طاهر) وهو يقارع أمواج البحرين في دمياط فما تحركت يراعة أديب لمواساته في ذلك الرزء الجليل!.
وبُتِرتْ ساق الشيخ عباس منذ أسابيع، فما بكى شاعر، لا تأثر كاتب لمصيبة الأديب الذي كانت مشيته في شوارع القاهرة أرشق من مشية الأسد المختال!.
عباس الجمل في أحزان وكروب منذ خمس سنين، فأين الكاتب الذي واساه؟ وأين الشاعر الذي جعل بلاءه بالزمان موضوعاً لنشيدٍ جميل يصوِّر بلاء الرجال بالزمان!!.
شفاك الله يا صديقي، وشفي من أجلك كل عليل!!.
فكاهة سياسية
كان الحزب السعدي دعا إلى إعلان الحرب على الطليان والألمان، وهي الدعوة التي استوجبت إلقاء أطول خطبة سياسية في العهد الجديد، وهي خطبة الدكتور أحمد ماهر باشا في مجلس النواب، فقد استغرقت ست ساعات، على نحو ما كانت تستغرق خطب سُبحان وهو يَهْدر بين السِّماطَين!.
ولكن أنصار الحزب السعدي ليسوا جميعاً أعضاء في مجلس النواب، فكان الخطيب يشرح لسائر الأنصار وجاهة القول بإعلان الحرب، فكان الخطيب المختار هو الشيخ عباس الجمل. . . وما كاد الشيخ يعتلي الخطابة، حتى عوَت صَفارة الإنذار فأجَّل خطبته إلى أسبوع مُقبل، ودار الأسبوع وجاء الشيخ يُلقي خطبته، فعوَت صَفارة الإنذار من جديد!.
وهنا قالت جريدة المصري: سترى كيف تُلاحقك الغارات يا شيخ عباس!.
فأجابت جريدة الدستور: إن صحّ هذا النذير، ففي مصر طابور خامس!.
كاريكاتور ظريف
نبغت الصحف المصرية في إبداع الصور الكاريكاتورية برغم ما يقع فيها أحياناً من
سخافات؛ ومن أبدع ما رأيت صورة نشرتها مجلة (الشعلة) لميزان يحمله رجل معصوب العينين باسم (الرأي العام)، وقد رجحت كفة الوفديين على السعديين، فابتهج النحاس باشا وقال: مارأيك يا ماهر باشا؟.
فأجاب الدكتور ماهر: وما قيمة هذا الميزان وحامله رجلٌ من حزبك؟!.
وإذا كان الرأي العام من حزب الوفد فقد انحل الإشكال!.
في مصر اليوم أدبٌ سياسيّ، فأين من يقيِّد الأوابد من ذلك الأدب الطريف؟.
جناية الكتابة على الشعر والخطابة
هي سجعة ذكرتني بالحوار المعروف:
- أجمل السجع، ما خف على السمع.
- مثل ماذا؟.
- مثل هذا!.
ولكن كيف تجني الكتابة، على الشعر والخطابة؟.
تأمل هذا التمهيد:
إذا كان عند أحد جيرانك طفل أخرس فلا تسمح لأطفالك بأن يلعبوا مع ذلك الطفل، لأن طريقته في التفاهم ستروضهم على التعبير بالإشارات، وعندئذ يقل فيهم الشوق إلى التعبير بالكلام، فيحرمون أفضل النطق وهو أظهر الخصائص الإنسانية.
وإذا رأيت الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني يطيل القول في انصرافه عن قرض الشعر فلا تصدق أنه حرم الشاعرية، وإنما يرجع زهده في الشعر إلى أنه أكثر من التعبير عن أغراضه بالإشارة، ففترت رغبته في التعبير بالقصيد، والمواهب يجني بعضها على بعض.
وأقوى البراهين عندي على أن الشريف الرضي ليس المنشئ لكتاب (نهج البلاغة) هو إمعان الشريف في التعبير عن أغراضه بالشعر، فديوانه من حيث الكم يزيد عن ديوان المتنبي بألوف من الأبيات الجياد، وما أثر من الرسائل النثرية للشريف لا يشهد بأنه كان يشتهي التعبير عن ذات نفسه بالإنشاء.
وكما تجني الكتابة على الشاعر تجني على الخطيب: لأن أعظم أسباب الإجادة في احد هذه
الفنون هو الشوق إلى التعبير بإحدى أدوات هذه الفنون، ومتى عبّر المفكر عن نفسه بالكتابة فقدَ الرغبة في التعبير بطريقة ثانية وثالثة فصار أزهد الناس في مقامات الخطباء والشعراء.
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد الاعتذار عن نفسي، فقد عاب على قوم أن أنصرف عن الشعر والخطابة، وعدوني في هذين الفنين من المتخلفين، ولم أكن كذلك فيما سلف من الأيام، فلي ديوان شعر، وكنت في الثورة المصرية من أعلام الخطباء، ولم أزهد في هذين الفنين إلا بعد اشتغالي بالتدريس والكتابة والتأليف، فألِفْتُ التعبير بأسلوب يغاير أسلوب الشاعر وأسلوب الخطيب.
وإذن فما هذا التحدي الذي يواجهني به جماعة من أدباء الإسكندرية؟.
قال قائل منهم: إن الرجل الذي ودع بغداد بقصيدة بلغت 111 بيت هو الرجل الذي بخل على الإسكندرية الجريحة ببيت من الشعر أو بيتين!؟.
هو ذلك يا نَدامي (الثغر الجميل).
ولو أني فكرتُ في مواساة الإسكندرية بالشعر قبل أن أواسيها بالنثر لأطلت فيها القصيد، ولكني عبرت عن أحزاني بالإنشاء، فلم يبق لقرض الشعر محال. . . ألم أقل لكم: إن المواهب يجني بعضها على بعض؟.
وهل كان النثر الفني إلا شعراً تحرر من القوافي والأوزان؟.
قولوا ما شئتم، فلن تهمني الألقاب الأدبية، وإنما يهمني أن أصدق فيما يصدر عن قلمي، بغض النظر عن نوع الأداء.
كيف نعامل رجال الوعظ والارشاد
إلى الباحث المفضال (ا. ا) أوجه القول:
جاء في خطابك أن واعظ مركز. . . . . آنذاك بغير حق أمام أهل قريتك، وفي بيت الله بعد صلاة الجمعة، بألفاظ لا يليق صدورها عن الوعاظ.
وفهمت من خطابك أن النزاع نشأ من الخلاف حول مسألة لم تتفق فيها أقوال الفقهاء.
ومن حقي أن أوجه إليك هذه الأسئلة:
هل ترى من الخير أن نطالب الوعاظ بالخوض في الدقائق الفقيهة أمام جماهير لا يصح تعريضها لمشكلات تلك الدقائق؟.
وهل ترى أن الوعاظ يعيَّنون لإرشاد من يكون في مثل علمك واطلاعك؟.
انظر في هذه الأسئلة جيداً لتعفيني من نشر الكلمة التي تريد أن أوجهها باسمك إلى علماء الأزهر الشريف، فما أحب أن أشجعك على مجادلة الوعاظ، وهم قومٌ لا تباح لهم مجادلة الناس، وإلا كثرت الشُّبه وانعدام الصفاء بين أهالي البلاد.
وأنا بعد هذا أوصي نفسي وأوصيك بالنظر في باب الرياء من كتاب الإحياء، فإني أخشى أن نقع في مهلكات، باسم الغيرة على الدين، وهوَى النفس له مسالك لا يفطن لها الرجال إلا في أندر الأحيان.
لَطَفَ الله بي وبك، وهداني وهداك.
زكي مبارك
من أدب المدرسة
أستاذ
للأستاذ علي الطنطاوي
لما بلغنا قرية (صاربتا) كان الصبح يتنفس، فطرقنا أول باب لقيناه، فلما فتح لنا واحتوانا (المنزل) المعد للضيفان، سقطنا من الكلال والإعياء كالقتلى، فلم نلبث أن غرقنا في لجة الكرى. ولا عجب أنيبلغ منا التعب هذا المبلغ وقد سرنا الليل كله على الأقدام نصعد جبلاً ثم نهبط وادياً ثم نتسلق الصخر. حتى أدركنا هذه القرية التي فرت من العمران، وتغلغلت في الأودية المقفرة من لبنان الشرقي حتى وجدت هذه الذروة التي لا يضارعها شيء في عزلتها وعلوها وضياعها بين الأرض والسماء فاستقرت عليها.
ولما أفقنا ورأينا احتفاء القوم بنا، وعجبهم من سُرانا إليهم وقدومنا عليهم، سألناهم وضربنا معهم في شعاب الأحاديث، فعلمنا أنه لم ينزل بلدهم (أعني أنه لم يصعد إليها. . .) غريب عنها قبلنا، وكانوا يكلموننا على تخوف وحذر، فلما انتسبنا إليهم، وعرفناهم بنفوسنا داخلهم شيء من الاطمئنان. غير أنهم لم يكونوا يجيبون عن أسئلتنا وإنما يحيلونها على الأستاذ. . .) ورأيتهم يذكرون الأستاذ كما تذكر الرعية الملك المحبوب، تبرق عيونهم حباً، وتخشع أصواتهم احتراماً، فكنت أعجب أن يكون لمعلم القرية، وهو لعمري أستاذهم مثل هذه المنزلة، وعهدنا بمعلمي القرى أن الجندي أكبر في عيون الفلاحين منهم. وقلت: ألا تدعون لنا هذه الأستاذ المحترم حتى نراه؟ فلما سمعوا هذه الكلمة اضطربوا وتلفتوا يتبادلون النظرات، وعراهم مثل ما يعرو المؤمنين سمعوا كلمة الكفر. وكانت سكتة طالت، فأعدت السؤال، فقال صاحب المنزل وهو يبذل أكبر الجهد حتى يمسك غضبه فلا يؤذي ضيفه: إن الأستاذ يزار ولا يزور. فلما سمعت ذلك اطمأننت وقلت: لا بأس، إنا نتشرف بزيارته، ولو علمت عادته ما سألتكم دعوته، فقوموا بنا إليه. فقاموا وقد سرى عنهم بعض الذي وجدوا، ومشينا نصعد في طرقات القرية الضيقة الملتوية، وأنا أتصور هذا (الأستاذ) بعين الوهم فلا أراه إلا مثل من عرفت من معلمي الصبيان، غير أن له فيما يبدو دهاء ومكراً، مَخرَق بهما على الفلاحين وموه عليهم حتى حسبوه شيئاً وما هو بشيء.
حتى إذا بلغنا ذروة الجبل وجدنا عليها بيتاً هو أعلى بيت في القرية و (العين) أسفل منه،
وحوله حديقة لطيفة، فدخلنا البيت فإذا فيه فرش نظيف، وأثاث من أثاث المدن، وخزانة كتب بالقرب منها مكتب صغير عليه أوراق وأقلام، وكتاب مفتوح عرفت من نظرة واحدة أ، هـ (الإحياء) للغزالي، ف والله ما أظن أني عجبت من شيء عجبي منه. ولبثنا هنية؛ ثم دخل علينا شيخ أبيض الحية، قد وضع على كتفيه عباءة ستر بها ثوباً من ثياب التفضل أبيض نظيفاً، فرحب بنا بلهجة فصيحة وانطلق يحدثنا. أما الفلاحون فقد جلسوا عند الباب لم يقتربوا من الشيخ إجلالاً له، وسكنوا كأن على رؤوسهم الطير.
كان الشيخ يتكلم وكنت أحدّ النظر إليه وأكدّ ذهني لأذكر أي رأيت هذا الوجه. فلما طال ذلك مني ولحظة قال: مالك يا بني؟ قلت: أظن أني أعرفك يا سيدي. فضحك وقال: وأنا أعرفك يا بني، أما كنت في المدرسة التجارية سنة 1918؟ فتأملته ورأيت كأني رجعت طفلاً أنظر من وراء ثلاث وعشرين سنة إلى أستاذي الجليل الشيخ (عبد الواسع)، فلم أملك أن صحت: أستاذي! ووقعت على يديه أقبلهما، وأقبل يمسح على ظهري ويقبل جبيني، وقد استعبر كل من حضر.
أستاذي الذي ترك المدرسة وأحيل إلى المعاش منذ عشرين عاما، وانقطعت أخباره عنا وحسبناه مات، لا يزال حياً؟ ويقيم في قرية (صاربتا) الضائعة بين السماء والأرض! إن هذا لعجب.
قلت وقد سكن المجلس بعد أن حركته هذه المفاجأة الغريبة: وكيف عرفتني ياسيدي الأستاذ، وقد غيرتني الأيام؟ قال: ما تغيرت عليّ، ولقد ذكرتك من أول نظرة. ألم تكن في الصف الخامس حينما انتهت الحرب، وخرج الأتراك من الشام ليدخلها الشريف؟ ألم تكن في المقعد الأول حيال الشباك، وإلى جانبك (سرِّى) أين هو (سرى) الآن؟ قلت: لا أدري ياسيدي، ولم ألقه أبداً بعد تلك السنة. قال الشيخ مترفقاً ناصحاً بلهجته التي كان يخاطبني بها وأنا صغير (لم أنسها) قال: ولم يا بنيّ؟ لماذا لا تصل إخوان المدرسة؟ أما علمتك الحياة أن صداقة المدرسة خير صداقة وأمتنها؟ أصلحك الله يا ولدي.
وأطرق الشيخ يفكر، ثم قال: هل علمت يا ولدي أن المعلم يتمنى ألا يكبر تلاميذه أبداً، وأنه لا يتصورهم إلا كما عرفهم أول مرة ولو صاروا رجالاً؟ أنا لا أرى فيك الآن إلاَّ ذلك الصبي الذي كان في المقهد الأول حيال الشباك. فقدر المحنة التي يصاب بها المعلم حين
يرأسه أحد تلاميذه. أتعرف عدنان؟.
قلت: ومن عدنان؟ قال: لا. لم يكن معكم، هو أصغر منكم. عدنان هذا كان من أصغر تلاميذي وأحبهم إليّ. لقد جعلته الأيام ناظر المدرسة التي كنت فيها، فتصوره وهو يدعوني إليه ويستقبلني قاعداً، ويأمرني بأمره. ولقد نالني مرة بسوء لأني لم أوفه ما يراه حقه من الاحترام. وكيف أحترمه يا ولدي وأنا لا أقدر أن أرى على كرسيه إلا عدنان الطفل ذا الشعر الذهبي؟ كيف أحترمه؟ أأحترم ولدي! سامحه الله. سامحه الله لقد آلمني. وآذاني.
إن المعلم يحس بوخزة في كبده إذا أعرض عنه تلاميذه أو أنكروا أو ترفعوا عليه. كأن أولئك الأطفال هم الذين ترفعوا عليه. لا يعلم المسكين أن الطفل لا يبقى أبد الدهر طفلاً. . . لا. لا يتخيل ذلك أبداً. . .
وسكت الشيخ قليلاً ثم رجع يقول: وكنت ترفع أصبعك دائماً، أرأيت؟ أني لم أنسك. وكيف ينسى المعلم تلاميذه وهم بعض ذكرياته، والذكريات هي الحياة.
ثم سألني: وماذا تشتغل أنت الآن؟ فضحكت وقلت: معلم.
قال: آه. . . مسكين. . . لماذا اخترت هذه المهنة يا ولدي؟ قلت: أني سأتركها يا سيدي؛ قال: وتظن أنك تستطيع؟ إن تلاميذي الذي أحببتهم ومنحتهم قلبي، قد أنكروني. . . لم أعد أخطر لهم على بال. لم يزرني منهم أحد. . . لقد رأيت منهم ألوان الجحود، ولكني لا أزال أحبهم، وأتمنى لو أستطيع أن أضمهم إلى صدري. . . آه. . . كم يتألم الأب إذا رأى ولده يعرض عنه وينكره ويمر كأنه لا يعرفه؟ لم ألق منهم خيراً ومع ذلك فأنا أحب أن أنشئ غيرهم، وأن أصب البقية الباقية من روحي وحياتي في نفوس أطفال جدد، أعلم أنهم لن يكونوا خيراً من أولئك، ولكن هذه هي آفة المهنة. . . إنها مهنة ليس فيها إلا الألم. . . ولكن صاحبه يستمرئه ويجزع لفقده كصاحب (الكوكائين) يأخذه وهو يأخذ حياته، فإذا افتقده حنّ إليه. . . أليس هذا من الغرائب؟.
إني أمر على مدرسة القرية، فأسمع الطلاب يرددون درساً، أو يرتلون أنشودة، فيخفق قلبي في صدري، وأحسد هذا المعلم الذي أخذ مني أولادي. . . لا تعجب يا ولدي. . . سل الفلاح الذي يشق الأرض ويغرس فيها البذر وينتظر النبتة الضعيفة. . . فإذا ظهرت تعهدها بالسقي والعناية، وقاس طولها يوماً بعد يوم، فلا تنمو أنملة إلا وضع في هذه الأنملة
أمله ورجاءه وخوفه وإشفاقه وأحاطها بعواطفه، وصب فيها من ماء حياته. . . حتى إذا نما النبت واستطال، وظلته غصونه، وتدلى من حوله زهرة، وأينع ثمره، اضطر إلى بيعه. . . فما هي إلا عشية أو ضحاها حتى يراه في يد غير يده. . . سَلْهُ كم يتألم ويشقى، ويتقطع القلب منه حسرات كلما تنظر إلى هذه الأشجار، وذكر ماله فيها من ذِكَر وما أنفق عليها من أصباحة وأماسيه، ومن حبه وأماني نفسه. . . وإنها لأشجار. . . جمادات لا تعقل. . . فكيف بي وقد ربيت بشراً ثم أعرضوا عني ونسوا عواطفي وحبي. . . وما نسيتهم ولا أقلعت عن حبهم؟.
وما كان لي يا ولدي أن أزعجك بحديثي لولا أني أنفّس به عن نفسي. إنني أعيش وحيداً في هذه القرية المعتزلة لا أدري كيف أزجي الباقي من أيام حياتي. إني أشكو الملل، ولا أطيق النوم، فلا أجد إلا النجم أراقبه وذكرياتي أناجيها. وكثيراً ما تثقل عليَّ هذه الذكريات، حتى لأُضلَّ قلبي بين حاضر لا متعة فيه وماض لا رجعة له. . .
لا، يا ولدي، لا تحرص على هذه المهنة. اتركها إن استطعت فهي محنة لا مهنة. هي ممات بطيء لا حياة. إن المعلم هو الشهيد المجهول الذي يعيش ويموت ولا يدري به أحد، ولا يذكره الناس إلا ليضحكوا من نوادره وحماقاته.
وعدنا من المشية نسلك تلك الأودية، ونتسلق تلك الصخور عائدين من (صاربتا) ولا يزال حديث أستاذي يدوي في أذني، فأحس به في هذه البرية الساكنة قوياً مجلجلاً، ولكن الناس لا يسمعونه، وإن هم سمعوه لم يحبوا أن يفهموه!
علي الطنطاوي
بين إنكارين
في قسمة غنائم حنين
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
راق بعض إخواننا من أفاضل العلماء ما ذكرته في إنمار ذي الخويصرة التميمي على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين وأعجبه إرجاعي ذلك الإنكار إلى جمود ذي الخويصرة، وأنه يرى الوقوف في الدين عند حدود القواعد، ولا يرى الأخذ في ذلك بشيء من التساهل، وقد أداه هذا التنطع في الدين إلى ذلك الإنكار الفاضح، وكان من النبي صلى الله عليه وسلم أ، أعرض عنه في ازدراء، وتركه في ذلك الجهل الفاضح الذي لا يقبل الدواء، لأنه من الجهل المركب وهو شر أنواع الجهل، وصاحبه لا يفيد فيه العلاج أصلاً.
وقد كان هناك إنكار آخر من الأنصار على قسمة غنائم حنين، وهو أدل على ما راق ذلك العالم الفاضل من أن الجمود على القواعد ليس من الدين في شيء، وأنه لا قيمة لمنطق الألفاظ إذا اعترضه منطق الحوادث، لأن منطق الألفاظ يسهل تذليله لمنطق الحوادث بشيء من التصرف في دلالتها، أما منطق الحوادث فصريح لا يقبل تأويلاً، ويأبى إلا أن يخضع له منطق الألفاظ.
وكان إنكار الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى قومه من غنائم حنين ما أعطى ولم يعطهم، فوجدوا في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة - وهي القول الردئ - وقال بعضهم: إن هذا لهو العجب: يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم! وفي رواية أخرى: إن هذا لعجب، إن سيوفنا تقطر من دماء قريش، وإن غنائمنا ترد عليهم. وقال آخرون منهم: إذا كانت شديدة ندعي إليها، ويعطي الغنيمة غيرنا!.
وقال حسان بن ثابت في ذلك:
دع عنك شماَء إذ كانت مودتها
…
نزراً وشرُّ وصال الواصل النزرُ
وائت الرسول فقل يا خير مُؤتمن
…
للمؤمنين إذا ما عُدّدَ البشرُ
علام تدعي سُلمٌ وهي نازحةٌ
…
قدَّامَ قوم هم آوواْ وهم نصروا
سماهمُ الله أنصاراً بنصرهمُ
…
دين الهدى وعوان الحرب تستعر
نجالد الناس لا نُبقي على أحد
…
ولا نضيِّع ما توحي به السوَر
كما رددنا ببدر دون ما طلبوا
…
أهلَ النفاق وفينا ينزل الظفرُ
ونحن جندك يوم النَّعف من أُحُد
…
إذ حزَّبت بَطراً أحزابها مُضرُ
فما ونيْنا وما خمْنا وما خبروا
…
منا عثاراً وكل الناس قد عثروا
وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإنكار من أصحابه الأنصار، فلم يهمه أمر الألفاظ التي بلغته، ولم يبحث عن دلالتها على الشك في رسالته أو عدم دلالتها عليه، ولم ينظر إلى ما تقضي به قاعدة الإنكار عليه من كفر أو نفاق، بل نسي ذلك كله ولم يعبأ به ولم ينظر إلا إلى ماضي الأنصار الحافل بالجهاد في نصر الدين، ولم يذكر إلا أنهم آووه وآثروه وأصحابه على أنفسهم حين هاجروا إليهم، وبذلوا دماءهم وأموالهم حتى تم له ما تم من النصر على قومه وغيرهم، وليس من حسن السياسة أن يؤخذ الصاحب بزلة لا تذكر بجانب حسناته، وليس من الإنصاف أن يحاسب على الألفاظ إذا كانت أفعاله توجب الإغضاء عنها، وتدل على أنه لا يقصد ما فيها من دلالة على كفر أو نفاق. ولا شك أن من لا يراعي مثل هذا في سياسة أصحاه تختل عليه أموره، وتضطرب أحواله، وينظر فلا يجد له صاحباً ولا نصيراً.
وهكذا آثر النبي صلى الله عليه وسلم ما يقضي به حسن السياسة من أخذ أنصاره باللين، والتغافل عما صدر عنهم من تلك القالة. وقد دخل عليه سعد بن عبادة الأنصاري يبلغه شكوى قومه، فقال له: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لمِاَ صنعت في هذا القَيءْ الذي أصبت: قسَّمْتَ في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. فخرج سعد فجمع الأنصار له، فلما حضروا قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأنصار، ما قالةٌ بلغتني عنكم، وجدةٌ وجدتموها عليَّ في أنفسكم؟ ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، الله ورسوله أمَنُّ وأفضل. ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المنُّ والفضل. قال: أما والله لو شئتم لقلتم
فلصَدَقتم ولصُدِّقتم: أتينا مكذَّبا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجِدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعةٍ من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار. ولو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. أللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله سماً وحظَّاً.
فلله هذه السياسة البارعة التي يتواضع فيها النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار هذا التواضع، ويقوم فيهم كأنهم فرد منهم، فيوازن بين ما قدمه لهم من حسنات، وما قدموه له من حسنات، ويجعل ما قدموه له مثل ما قدمه لهم أو أرجح منه، ثم يذكر لهم عظيم حظهم إذا عادوا به في رحالهم، وعاد الناس بما أخذوه من تلك الغنائم، فيقتلع من نفوسهم كل أثر لتلك الموجدة، ويجعلهم يبكون ندماً عليها أو فرحاً بعظيم حظهم.
ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمد على قواعد الدين ورسومه كما نجمد اليوم، لم يأخذ الأنصار بتلك السياسة البارعة بل وقف يؤنبهم على تلك القالة، ويذكر أن الإصرار عليها كفر ونفاق في الدين، وأنهم إن لم يتوبوا منها حل عليهم عذاب الله وحبط ما قدموه من حسنات في الإسلام.
ولكن مثل هذا لا يشقى النفوس العاتبة، ولا ينال به رضا الأصحاب عند عتابهم، وإنما يكسب رضاهم بافغضاء عن زلاتهم، وأخذهم بالرغبة واللين، لا بالرهبة والوعيد. وها نحن أولاد اليوم نأخذ الناس في ديننا بالتشديد والوعيد، ولا نأخذهم بالرغبة وحسن السياسة، ونقف جامدين أمام النصوص وألفاظها، ونغالي في الأخذ بالقواعد غير متأثرين بالظروف التي تحيط بها. ولا شك أن هذه مغالاة في الغيرة على الدين تضر ولا تنفع، وتنفر الناس منه ولا تجذبهم إليه، وققد خسرنا بها كثيراً ممن كان يمكن أخذهم بالرغبة وحسن السياسة. ومن الواجب أن نقلع عن هذا الجمود، وأن نأخذ الناس إذا زلوا بتلك السياسة التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم.
عبد المتعال الصعيدي
5 - مدن الحضارات في القديم والحديث
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
يعتبر عصر الأسرة العلوية فاتحة عصر جديد في تاريخ القاهرة التي دارت عليها من الزمان أحوال من النحس والسعد، كما هو الشأن دائماً في كل بلد تنوشه الخطوط وتتقاذفه الأقدار.
ولقد طبعت القاهرة في عهد هذه الأسرة بطابع خاص مع احتفاظها بجلال القدم وروعة الماضي، وأفاضت عليها مآثر هذا البيت حللاً رائعة التقي في أثنائها الماضي بالحاضر والقديم بالحديث والشرق بالغرب، فبدت القاهرة بلداً شرقياً جميلاً يخلب اللب ويلفت النظر. وتهاوي إليها الععلماء وأهل الفنون والرحالون يمتعون النظر بمحاسن جمالها، أو يسرحون الطرف في رباعها المملوءة بروعة التاريخ وقدسية الماضي، ويجدون في آثارها القائمة وأعلامها الباقية ومعابدها وهيا كلها مجالاً للدرس وميداناً للبحث ومراداً للهو. فوصل إليها في شهر أكتوبر سنة 1806 - أي في أوائل حكم محمد علي باشا - الأديب الفرنسي المشهور (شاتوبريان) صاحب القصص الرائع والأسلوب المحكم.
قضى هذا الكاتب العظيم أياماً في مدينة رشيد، ثم وفد إلى القاهرة، فاستقبله نجل الوالي الكبير، ولقي في رحاب مصر وظلال الأهرام وعَبْرى النيل، ما جعله يتغنى دائماً بهذه الرحلة السعيدة.
وزار القاهرة في ذلك الحين ايضاً الكونت (دي فوربان) والكونت ماركيلوس؛ وسجل أولهما في كتابه وصفاً ممتعاً لمصر عامة والقاهرة خاصة، وحظي الاثنان بعطف الوالي عليهما وميله إليهما وإهدائهما بالهدايا الثمينة والعطايا الكريمة. وممن زار القاهرة في ذلك الحين الضابط الفرنسي الكبير مارمون وشامبوليون المؤرخ الكبير وصاحب اليد الطولي في حل طلاسم الكتابة الهير غليفية، وجوزيف ميشو المؤرخ، ودوزا الرسام الصناع المصور الحاذق.
وليس عجيباً أن تزخر القاهرة في ذلك الحين بطائفة من أكابر العلماء وأعلامهم، فقد كان الوالي يحسن ضيافتهم ويرحب بهم ويستعين بعلمهم، وبحثهم على فتح آفاق جديدة في النهضة المصرية التي حمل لواءها، ورفع بناءها.
ودبت الحيات في القاهرة من جديد، وودعت عهد الفتن التي سادتها حيناً من الدهر، واستقر فيها الأمر واستقام الحكم، وبدأت عناية الوالي تنصرف إلى البناء والتعمير، والإصلاح والتجديد، فبنى مسجد محمد علي بالقلعة على نسق تركي بديع، وأصلح مسجد عمرو بن العاص بمصر العتيقة، وجدد مسجد السيدة زينب وأصلحت أجزاؤه المتهدمة وزخرفت جدرانه وزينت أركانها بالنقوش البديعة، وصلى فيه الوالي صلاة الجمعة يوم 14 ربيع الآخر سنة 1217هـ.
وشهدت القاهرة في عهد تلك الأسرة أفراحاً ومعالم تذكر بأفراح الفواطم ولياليهم الخوالد، وكانت أضواء الثريات تنعكس ليلاً على بركة الأزبكية، وتتراءى النجوم في جوانبها فيخال الرائي أن سماء ركبت فيها. وأقيمت السواري وركبت القناديل، ونصبت المصابيح، وأديرت المطابخ، واستمر اللهو في القاهرة أياماً. واجتمع اللاعبون والراقصون والمغنون وأصحاب الفردة والمضحكون يبعثون إلى النفوس ألواناً من السرور.
وكان مهرجان الزفاف - كما تذكر كتب التاريخ - شيئاً عجيباً، وازدحمت قنطرة الموسكي وباب الخلق ودرب الجماميز، والصليبة والسروجية والجمالية والأزبكية بآلاف من الناس ومئات من العربات.
حدث ذلك في عهد محمد علي باشا، وحدث بصورة أروع في عهد اسماعيل حينما تزوج أبناؤه الثلاثة. ولقد ظلت القاهرة في فرح كامل مدة أربعين يوماً لما تهدأ لها عين، ولم يسكن لها طرف، ولم يخبُ فيها ضوء. . . وكانت الموائد موصولة غير مقطوعة؛ وأصناف الطعام تروح وتغدو على المدعوين فيجدون تنوعاً ولذة، وغصت الساحات الرحاب والعرصات الفساح بالفرق الغنائية، فهذا (الحمولي وتخته)، وذلك (الدمياطي وجوقته). واشترك في هذه الحفلات الغني والفقير، والصغير والكبير، والأمير غير الأمير. ففي داخل القصر لهو ولعب، وفي خارج القصر فرح وطرب، وفي الشوارع زحام بالمناكب، وفي شرفات المنازل أجسام مشرفة ورؤوس مطلة، وفي النيل قوراب ومراكب غصت بالراكبين.
ولا شك أن هذه الصورة الجملية التي لم نراها رأي العين تذكرنا بأفراح القاهرة في قرن الفاروق، فقد رأيناها وقد لبست أبهى حلة وأكمل زينة، وزيَّنتها ثريات الكهرباء، وسطعت
فوق دورها الأنوار الساطعة والأضواء اللامعة، وبدا قصر عابدين وكأنه قبس من نور، أو قطعة هائلة من البلور؛ وامتدت أقواس النصر هنا وهناك وقد جللتها الأنوار، وكللتها الأزهار، وازدحمت القاهرة بالوافدين إليها على قُطُر تنهب الأرض وتطوي الفضاء، وكان في كل بقعة فرح، وفي كل رقعة سور.
وفي عهد هذه الأسرة اختطت في القاهرة شوارع جديدة، وأنشئت أحياء حديثة. ففتح شارع السكة الجديدة، وشارع الموسكي، ومُهِّد الطريق بين القاهرة وبولاق، وفتح شارع محمد علي فتحاً جديداً أزيلت بسببه بيوت قذرة، وحارات ضيقة، ومنعطفات مظلمة. وكذلك كان حال شارعي الفجالة وشبرا. وأقيمت على حفاف هذه الشوارع بيوت عالية وقصور كبيرة لا تزال بعض بقاياها إلى اليوم. وبهذه الحركة الإنشائية خلقت القاهرة خلقاً جديداً، وقضى على كثير من مبانيها الخربة، وخرائبها القذرة، وبركها المنبثة في داخلها، وأقيم على أنقاض ذلك كله شوارع واسعة طويلة، وبيوت أخذت تجاري التقدم العلمي وتماشي التطور الهندسي حتى وصلت إلى ما نشاهده اليوم من قصور عالية رفعت لمخترق السماء سموكها، وكادت تلامس الجوزاء قممها، حتى كأن البحتري كان يعني كل قصر منها بقوله:
ذُعر الحَمام وقد ترنم فوقه
…
من منظر خطر المزلة هائل
وأخذت مكانة القاهرة تعظم وشهرتها تتسع، حتى زاد إقبال الملوك والأمراء عليها، وكثرت رحلة العلماء والأدباء إليها. فزارها في عهد إسماعيل - غيرَ من شهدوا حفلة افتتاح قناة السويس - السلطان عبد العزيز الخليفة العثماني سنة 1863 وتجد وصفاً ممتعاً لزيارته في كتاب نفحات تاريخية لعزيز بك خانكي؛ كما زارها:(فلوبير)، و (تيوفيل جوتييه)، و (رينان)، و (شارل إدمون)، و (سولسي)، و (إدمون أبوت) صاحب كتاب (أحمد الفلاح) وكثير غيرهم.
وجمِّات ميادين القاهرة في عهد تلك الأسرة بالتماثيل المقامة تخليداً لذكرى الأبطال والعظماء؛ فأقيم في الميدان المعروف اليوم بميدان الملكة فريدة تمثال البطل الفاتح إبراهيم باشا، الذي نقل بعد الثورة العرابية إلى موضعه الحالي بميدان الأوبرا. وأخذت فكرة إقامة هذه التماثيل تزداد وتتسعكل يوم، حتى رأينا منها إلى اليوم تمثال لاظ أو إلى في الميدان المنسوب إليه، وتمثال سليمان باشا الفرنساوي، وتمثال سعد زغلول عند نهاية جسر الخديو
إسماعيل (قصر النيل سابقاً)، وتمثال مصطفى باشا كامل الزعيم الوطني في الميدان الذي ينسب إليه اليوم، والذي كان يعرف قبلاً بميدان (سوارس).
وشهدت القاهرة منذ ذلك العهد روحاً علمية لم تشهدها حتى في أيام الفاطميين. فأنشئت الجمعيات العلمية المتعددة كالجمعية الجغرافية التي رأسها الدكتور (شوينفرت) الألماني، وجمعية المعارف التي وضعت تحت رعايتها الأمير توفيق باشا ورياسة عارف باشا لنشر الكتب والقيام على طبعها ترويجاً للثقافة ونشراً للعلم والأدب.
وتبع ذلك سيل فياض من الجمعيات العلمية ذوات النشاط الملحوظ في عهد الملك فؤاد، وهي جمعيات كان جلالته يتولاها بكثير من رعايته وتشجيعه حتى اتخذت طابعاً علمياً، وكان لها مكان وقدم راسخة بين الجمعيات الأوربية المختلفة.
وأنشئت الجامعة المصرية وأخذت تحتضن رويداً رويداً المداوس العالية التي كانت في القاهرة حينئذ حتى ضمت إليها واصبحت كليات تابعة لها ومتفرعة منها إلا بعض معاهد ظلت - لعوامل خاصة - محتفظة باستقلالها أو تبعيتها لوزارة المعارف كدار العلوم وكلية البوليس.
واصبحت الجامعة المصرية قبلة أنظار كثير من أبناء الشرق يولون وجوههم شطرها استغناء بها عن جامعات أوربا. وحفلت تلك الجامعة الفتية بكثير من العلماء الأجانب الذين نشروا فيها علمهم ووسعوا فيها دوائر بحثهم حتى خرج جبل جديد يختلف في مناحي بحثه ودرسه عن الأجيال القديمة.
واصبحت القاهرة اليوم حاضرة إسلامية كبيرة لا تقل عن كثير من حواضر اليوم في تخطيطها وآثارها ومبانيها الشاهقة وشوارعها وجسورها ورياضها وملاهيها.
(الحديث موصول)
محمد عبد الغني حسن
للحق والتاريخ
عبد القادر حمزة باشا
كلمة أخيرة عنه
(وعن (قومة) بحثه وراء (الحقيقة) في التاريخ المصري
القديم)
للأستاذ محمد السوادي
كلمة!!
دللت في مقالي الذي تفضلت (الرسالة) الغراء بنشره في (العدد 419) على أن عبد القادر حمزة إنما اتجه إلى دراسة (التاريخ المصري القديم) بحثاً وراء (الحقيقة) في ذاتها ولذاتها، وأن هذه الدراسة ملأنه - كمصري - زهواً بمصريته فكان هذا الشعور منه إيذاناً (بالقومية) التي حالفته في بحثه، وأن عبد القادر حمزة مؤلف كتاب (على هامش التاريخ المصري القديم) قرن بين (الحقيقة) إثباتاً (للقومية) ففعل.
وأثبت في مقالي الملحوظات الست - أو الحقائق المريرة - التي وضعها الرجل أمامه وخرجمنها بأن (الحقيقة) ضائعة فيجب إيجادها، و (القومية) ضعيفة فيجب إنماؤها. أما (الحقيقة) فهي أن مدينة مصر لم تقم كما اعتقد المؤرخون الأجانب (على أساس من الخرافات والعقائد الفاسدة)، بل قامت كما دلل هو (على أساس علمي وخلقي صحيح).
هذه هي خلاصة المقال الذي اختتمته بوعد مني لك أن ألتقي بك لندرس معاً (بالتطبيق) الطريق التي سلكها في البحث، والنتائج التي خرج بها، و (النظافة) العلمية التي حالفته في هذا البحث.
وأحب أن أضيف إلى ذلك الوعد (كلمة) لا بد منها كما يقولون، أحب أن أقول إن هذا (التطبيق) بالمعنى الذي أفهمه من هذه الكلمة يسوقنا إلى دراسة مستفيضة بدا لي أن أرحبُها إلى وقت يحفظ على (كرامتي) و (براءتي) بعد إذ ترامي إلى أن بعض خصوم البراءة، يزعمون أني إنما أنشر هذه الفصول ابتغاء مرضاة جريدة (البلاغ) التي أعمل فيها. وليس
يسوءني أن تنشط الشياطين السود في أشباه الرجال لتسرد على مسمعي قائمة طويلة من الإفك، ما دمت مطمئناً إلى قدرة القراء على التفريق بين الصدق والكذب في أي اتهام يوجه إلى؛ ولكني إزاء اتهام كهذا لا أملك له دفعاً، وفي مجتمع تقوم الصلات بين جمرة بنية على النفاق، ويجد مثل هئذا الاتهام سبيله إلى بعض الأذهان، لايسعني إلا أن أجعل من هذا المقال خاتمة للبحث. ويعزز هذا العزم مني سبب آخر بل أسباب أخر. . . ليس من اللياقة أن أميط اللثام عنها اليوم؛ فإلى غد. . . إلى الغد المجهول الذي لا أدري متى يعلم!! وفيه - إن علم - أقوم ببعض ما يجب علي لهذا العظيم الراحل.
تاريخ ولكن
ولأعد الآن إلى (تطبيق) متواضع محدود لناحية واحدة يصح الوقوف عندها.
أدرك الرجل أنه مقدم على (تاريخ)، وهو لم يكن يوماً (مؤرخاً) ولكن الدراسات التي قام بها أهلته لهذا الإقدام، بل أنارت له السبيل إلى تصويب أخطاء المؤرخين العالميين، وإلى تفنيد الأباطيل التي أذاعها المغرضون منهم؛ فماذا يصنع؟.
رأي - كما يرى كل عالم زاد علمه فزاد تواضعه - أن يسمى جهوده (على هامش التاريخ المصري القديم)، فلما تمت له التسمية واطمأن إليها وأنس بها، وصارح الأخصاء من الأصدقاء بهذا الشعور، ونشر فصولاً ضمن هذا (النطاق الحر)، كف فجأة عن مواصلة النسر، وعاد يواصل الدراسة في صمت، لأن (فكرة جديدة) نبتت في ذهنه وحددت له (اتجاهاً جديداً) في بحثه. فما هو هذا الاتجاه؟.
هو أن يجمع بين (الحقيقة) كمؤرخ و (القومية في البحث) كمصري، ما دام المجال قد انفسح أمامه، ولم يعد مقيداً بالتاريخ في صميمه، بعد إذ أذاع أن كل جهوده ستكون وقفات (على هامش هذا التاريخ)، فضلاً عن أن هذا اللون من البحث يحمل طابع الأخذ والرد، وبحكم المنطق في رقاب الوقائع، ويخرج من المقدمات بنتائج، فيجيء البحث أدنى إلى العراك العميق الهادئ. . . عليه من طلاوة المنطق طابع، وله من ذات الحقيقة جمال. . . فيدرسه رجال (الحقيقة) على أنه (تاريخ)، ويدرسه أبناء الجيل بنفس الروح الذي يطالعون به جدلاً بديعاً أو قصة رائعة. . . فتنساب إلى أذهانهم حقائق مجلوة من تاريخ بلادهم، ويتغلغل إلى أعماقهم حب لهذا التاريخ يغدو على الأيام إعزازاً لهذا البلد، فتزكوا الوطنية
فيهم، وينمو الشعور بحق بلادهم عليهم، فيصبح هذا النتاج (إنسانياً) من حيث (الحقيقة) و (وطنياً) من حيث (قومية البحث) وراء هذه (الحقيقة).
كانت هذه هي (الفكرة) التي حددت له (الاتجاه)، فاطمأن إلى أن للبحث هدفاً يهون دونه كل شقاء، وكانت هذه هي (الفكرة) التي استطعت أن أخرج بها من أحاديثي الكثيرة معه، وإن كنت - لوجه الحق - أقرر أنه لم يحددها بهذا الوضوح، لأنه كان يأنف أن يشعرك بأنه يقصد إلى مدح نفسه أو الثناء على جهده.
الجوهر
اختمرت (الفكرة) إذن وتحد (الهدف)، فكيف يدرك المؤلف هدفه، أو ماهي الوسائل التي تمكن له من إدراكه؟.
لم يصارحني بها، ولكني كتابه في جزأيه - ما طبع منها وما هو تحت الطبع - ناطق بهذه الوسائل التي أستطيع أن ألخصها لك فيما يأتي:
أولاً: حدد مدار البحث كما قلت لك بالتدليل على أن المدينة المصرية قامت على أساس علمي وخلقي صحيح، وحدد الحقيقة التي يحب أن يثبتها التدليل على أن المدينة الحديثة وما سبقها من مختلف المدنيات، وفي طليعتها المدنية اليونانية، إنما هي (سير مطرد) لمدينة مصر وأقباس مستمدة من نهضة المصريين؛ ثم حدد النتيجة التي يحب أن يبلغها التدليل على أن هذا العالم القائم الذي يتطاحن بسلاح التضليل، ونتيه فيه العنصرية الآرية من ناحية، والديمقراطية السياسية من ناحية أخرى، إنما يغفل عمداً الحقيقة الكبرى، وهي أن لا آرية هنا ولا ديمقراطية، وإنما هناك (مصرية) أمدتهم جميعاً بالفضل الذي يتنازعونه، وإذا صح أن للأصيل فضل المباهاة، فمن حقنا وحدنا أن نباهي بمصريتنا.
ثالثاً: آثر عبد القادر حمزة أن يختار من بين موضوعات هذا التاريخ القديم موضوعات بالذات، يركز فيها الجهود ويستخلص منها النتائج كما سيجيء في التطبيق.
رابعاً: رأى أن يكون نهجه علمياً إزاء المؤرخين، ومنطقياً إزاء القراء، ففي النهج يذكر الرواية التي ساقها المؤرخون الأجانب بأسانيدها، ثم يذكر المراجع ويحدد الكتاب ويعين الصفحات، ثم يعود إلى التفنيد ويضيف إلى الأسانيد كل سند جديد وفقت إليه الكشوف، ثم يخرج بالنتيجة وضاحة الجبين لا سبيل معها إلى دعاة الشك بعد أن انبلج منها صبح
اليقين. . .
أمثلة للتطبيق
وإليك الآن بعض الأمثلة التي تحقق لك (التطبيق المتواضع) الذي وعدت به:
أراد أن يخلص ذهن قرائه مما علق بها أيام الدراسة من خرافات اختلقها المؤرخون الأجانب فاعترفنا بها كحقائق وحشونا بها البرامج فذكر قارئه بادئ ذي بدء بأن الكتابات التي تركها لنا الكتاب اليونانيون والرومانيون كانت الرجع الوحيد لمعرفة مصر القديمة منذ ضاع سر اللغة المصرية إلى أن كشفه شامبوليون الشاب أي مدى أربعة عشر قرناً؛ وهؤلاء الكتاب الذين زاروا مصر وكتبوا عنها في ما بين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الثاني بعد الميلاد شحنوا كتاباتهم بأشياء لم يفهموها فألبسوها لباس الغرابة والخرافة، مثلهم في ذلك كمثل الذين يزورون مصر الآن من الأجانب فيدعون عليها دعاوي لا وجود لها لأنهم لم يفهموا ما شاهدوه، أو لأنهم يريدون أن يثيروا دهشة قرائهم بما يقعونه من المبالغات.
وهذا كلام يفهمه القارئ الحديث الذي كان يرى الشركات الأمريكية والأوربية تجيء إلى مصر قبل الحرب فلا تلتقط لأفلامها غير صور الطبقات في حي (زينهم) و (عشش الترجمان) بل تستأجر من الدهماء فقراء يطلب إليهم التزني بالطراطير وما إليها لتوهم الشركات شعوب الغرب بأن مصر لاتزال تتخبط في مثل هذه الأزياء.
يفهم القارئ الحديث هذا النحو من المنطق فهل قنع عبد القادر حمزة بهذا التدليل وترك المؤرخ أو المحقق يطالبه بالدليل؟ كلا. وإنما تناول أقوال شيخ أولئك الكتاب والمؤرخين - هيرودوت - ونقلها بأمانة، ثم دلل على فسادها. وحسبك منها أن أذكر لك بعضها في سطور:
أبان لك المؤلف أن هيرودوت نقل عن موظف مصري في معبد (المعبودة نيت) في ما الحجز أن النيل يولد بين (سيين) و (ابلفنتين) - وهذه كانت تجاور أسوان - وأن شطراً من مائه يجري إلى مصر والشطر الآخر إلى النوبة، وأن هذا الزعم كان يعقده المصريون، ثم دلل عبد القادر على أن هذا القول ليس سوى خرافة ما كانت تستحق أن يثبتها هيرودوت في كتابه بعد أن قال هو نفسه: (إنه يميل إلى الظن بأن ذلك الموظف الذي نقل
عنه هذا القول كان يمزح. (وقال المؤلف إن المصرين (الذين كانت سيين وابلفنتين من مدنهم كانوا يوقنون من غير شك أن النيل لا يجري شطر منه إلى مصر وشطر منه إلى النوبة، بل يأتي من النوبة جارياً إلى مصر. وقد أرسل المصريون قوافلهم التجارية وحملاتهم العسكرية وسفنهم التجارية والحربية إلى النوبة وإلى ما وراء النوبة منذ الدولة القديمة. . . فهم إذن ركبوا النيل إلى ما وراء الشلال الرابع. . . فالادعاء عليهم بأنهم كانوا يعتقدون أنه يولد عند أسوان هو ادعاء زور، والاعتماد فيه على حديث قال هيرودوت إنه سمعه من موظف مصري هو اعتماد على سند ساقط)).
ثم لم يشأ المؤلف أن يقول له قائل: (ولماذا تتجاهل أن بعض المؤرخين تأولوا هذه الرواية، فقالوا إنها كانت اعتقاداً للمصريين قبل أن يفتحوا النوبة، ويركبوا النيل إلى ما وراء الشلال الرابع). بل أثبت عبد القادر هذا التأويل، ورد عليه بأن هيرودوت لم يقدم إلى مصر إلا في مختم الحضارة المصرية. أي بعد أن كان المصريون قد فتحوا النوبة في عصر الدولة القدية فالموظف الذي نقل عنه لا يمكن أن يكون إلا جاهلاً أو مخرفاً، وهيرودوت لا يدل بنقله هذا التخريف إلا على أنه كان يلتقط ما يقال له بغير احتياط ولا تمحيص.
ثم نقل المؤلف عن هيرودوت قوله إنه وصل في تجواله إلى بلفنتين وقوله: (فما أكتبه وصفاً لمصر إلى هذه المدينة رأيته بعيني) ثم قطع عبد القادر بأن هيرودوت كاذب) لأنه لو كان قد وصل إليها وشاهد مجرى النيل عندها لعلم أنه ليس له مجريان متعارضان أحدهما يتجه إلى صمر والثاني إلى النوبة).
ولم يشأ المؤلف أن يدع هيرودوت (الكذب) في هذه الرواية كذاباً على طول الخط وبسوء نية، بل راح يلتمس له المعاذير ويقلب الأمر على مختلف وجوهه، حتى اهتدى - أي المؤلف - إلى الأناشيد التي وجدت منقوشة على الأهرام موجهة إلى النيل وفيها:
(لقد انتفحت الصخرتان وظهر المعبود. إن المعبود يضع يده على جسمه (يريد أنه يضع يده على أرض مصر)). ورجح عبد القادر أن تكون هذه الخرافة قد انبعثت من هذا النشيد، لأن الصخرتين قائمتان عند ابلفنتين. ورجح أن يكون غرض الشاعر أن النيل يدخل حدود مصر عند هاتين الصخرتين؛ فكأنه يولد عندهما بالنسبة لها وهو تعبير شعري جائز،
والمصريون كانوا مشغوفين بالمجاز، أما إذا قلنا إن الشاعر لم يرد معنى مجازياً فهو على كل حال قال بأن النيل يظهر من بين صخرتين، ولم يقل إن شطراً منه يجري إلى مصر وشطراً إلى النوبة. والعلماء اتفقوا على أن نقوش الأهرام تسجل أساطير كانت عامة المصريين تعتقدها فيما قبل التاريخ يوم كانت المدينة المصرية تحبو كالطفل.
ملحوظات
هذه خلاصة متواضعة لنقطة تافهة وردت عرضاً ضمن كتاب هيرودوت، فما بالك إذا عدت إليها في الكتاب وقرأت أسانيدها ولمست مدى الاهتمام الذي أخذها به المؤلف ليقضي عليها؟ ثم ما بالك حين تتبعه في تناوله الحقائق الكبرى. ألم تلاحظ معي أن للمؤلف (ضمير المؤرخ) يمشي جنباً إلى جنب مع (حماسة القومية) في الذود عن المصرية، حتى لقد راح يلتمس العذر للمؤرخ اليوناني إرضاء للضمير العلمي، فإذا وجد له سنداً خيل إليه أنه راجح أثبته؛ فإذا أثبت التفنيد أنه مرجوح قضى عليه ثم ترك لقارئه الحكم على رواية هيرودوت.
ثم ماقيمة مسألة تافهة كهذه يعني بها هذه العناية؟
القيمة أنك - بها وبأخواتها التي تلتها - تعرف أقوال هؤلاء المؤرخين وقيمتها، فتظهر ذهنك من الإيمان الخاطئ بالتاريخ الذي درسته تلميذاً وشاباً وكهلاً وشيخاً لتستقل معه بحوثه الكبرى وراء الحقيقة الخاصة بالتاريخ المصري القديم.
ومن هذا (التطبيق المتواضع) ترى أن الرجل لم يكن يثبت حرفاً - بله البحث - من غير أن يرمي به إلى نتيجة. وقد ترى الكلمة مثبتة في مقدمة الكتاب للعودة إليها في خاتمته.
ميزة
وكان للمؤلف ضمن الميزات ميزة لا يسعني إغفالها على الرغم من ضيق النطاق واعتزامي اختتام البحوث، ميزة العودة إلى الحق شأن العالم الثبت، وميزة مسايرة أحدث البحوث وآخر الكشوف بحيث إذا عثر على كشف يصوب نتيجة بلغها قبلاً عاد فصارحك بخطأه وأرشدك إلى الكشف الذي هداه إلى الصواب.
وفي الجزء الأول مجالان للتطبيق أرجو أن تعود إليهما: أحدهما في صفحة 223 تحت
عنوان (ملحق للتقويم المصري) ضمنه نصوصاً اهتدى بعد أن فرغ من طبع الكتاب إلى أنها عثر عليها أخيراً ودلت على أن الكهنة ورجال الحكومة كانوا يدونون أيام المواسم الزراعية طبقاً للتقويم وأمام كل واحد منها اليوم المعادل له طبقاً لدورة الشعرى اليمانية: (الامر الكانوبي) الذي أصدره بطليموس الثالث بتعديل التقويم على أساس إضافة يوم كل أربع سنوات إلى الخمسة الأيام الإضافية.
والآخر في ص227 وهو تصحيح خطأ وقع فيه في قوله: إن من المباحث التي بحثها برستيد أنه حفر في مدخل الدلتا حتى وصل إلى عمق 20 متراً أو 30 فوجد أن الإنسان الذي عاش حيث وجدت تلك الجمجمة وتلك الأواني والقوالب يرجع إلى 16 ألف سنة مضت. فقال عبد القادر إن هنا أسماً سقط وكان يجب أنيذكر لأن صاحبه هو الذي حفر مدخل الدلتا وهو هو شوينفورت، وأما برستيد فقد درس نتائج هذا الحفر وحسب طبقات الطمى التي يكسو بها النيل أرض الدلتا كل سنة فوجد أن الإنسان الذي عاش حيث وجدت الجمجمة يرجع إلى 16 ألف سنة مضت.
كلمة أخيرة
ها هو ذا (التطبيق المتواضع) انصب على موضوع واحد ومنه رأيت أن (التطبيق الدراسي المشبع) يقتضي كتاباً ضخماً أو فصولاً يستغرق نشرها عامين، فاعذرني - إزاء القيل والقال الذي ألمعت إليه - إذا أنا أعفيت نفسي من هذه المهمة المضنية التي أخذت بها نفسي عن طواعية ولوجه الوفاء، وأرجأنها إلى وقت يحفظ على الكرامة ولا يدع سبيلاً للمطاعن الرخيصة في العمل المحمود.
وقد ألتقى بك بين الحين والحين؛ على صفحات (الرسالة) الغراء ولكن في أحاديث أدبية أخرى بعد أن أثارت بحوثي الأخيرة شهية التحدث إليك. فإلى لقاء قريب.
محمد السوادي
الضمير الفردي والضمير الاجتماعي
للأستاذ جريس القسوس
إذا جاز لنا العبث بعلوم الاجتماع والنفس والأخلاق استطعنا أن نقسم الضمير إلى نوعين: (ضمير فردي وضمير اجتماعي)؛ ولا يتضح معنى ذلك إلا بكلمة سابقة في تعريف الفضيلة والرذيلة اللتين هما قسطاسا الضمير، بل مقررْتا وجوده. إذ كيف يجوز أن يقال بأن لزيد ضميراً حياً أو ضميراً ميتاً إذا لم يربط ذلك الضمير بفضائل أو برذائل؟.
لكل فئة أو جماعة أو طائفة من البشر قواعد وأنظمة وعادات جرت عليها وتمشت بموجبها عهوداً طويلة، لا تحيد عنها قيد شعرة إلا بقوة جبارة عاتية تفوق قوة تلك الطائفة؛ فإذا حادت جرت على الأنظمة الجديدة وتمسكت بها تمسك المستميت، ودعمتها ودافعت عنها دفاعها عن النظم التي تحولت عنها في بدء الأمر تحت تأثير القوة، كغاندي مثلاً، يحاول جهده أن يزحزح الطائفة الهندوسية عما جرت عليه من شعور سيء نحو جماعة الأنجاس. وسبب تمسك أي طائفة بنوع خاص من التقليد أو العرف والعادة، هو إدراكها بالتجربة والاختبار أن هذا النوع - دون غيره - يفيض على أكثرية مجموع أعضائها أجزل النعم وأتم البركات. . . نعمة وبركة يشترك فيها الفرد والجماعة معاً، إلا في حالات نادرة خاصة، حيث تنتفع الجماعة من أمر لا ينتفع منه الفرد إن لم يكن يخسر.
هذه التقاليد والعادات التي اختارتها الجماعة وأدركت نظرياً وعملياً أنها نافعة للأكثرية الساحقة من مجموع أفرادها نفعاً يغشى على أبصار أعضائها، لا أفرادها، فلا يرون فيها ضراً ولا شراً بل نفعاً وخيراً هي الفضيلة. أقول: أعضاؤها لا أفرادها، لأن العضو يفكر ويقوم في كثير من الأحيان بأمور لا تستند إلى العقل والمنطق تحت تأثير الجماعة التي لا تختلف في عقليتها الاجتماعية عن عقلية الطفل. ويتجلى ذلك في تصوير شكسبير للرعاع في يوليوس قيصر؛ فهم ينساقون ويندفعون كالصبيان اندفاعين متناقضين تارة تحت تأثير السحر البياني الذي يتدفق من لسان بروتس، وتارة مأخوذين ببيان أنطونيوس وعباراته العاطفية الشديدة. لكن الفرد يستقل في عقليته في كثير من الأحيان، فيقوم بأمور لا غبار عليها من حيث منطقها واستنادها إلى العقل.
أما خروج الجماعة عن القواعد والأحكام فهو الرذيلة والإثم، وعاقبته العذاب الأليم في
الدنيا وفي الآخرة. ولهذا لا يستغرب أن ترى فضيلة عند فئة رذيلة عند أخرى والعكس بالعكس. كمذهب العري نعرفه رذيلة وعند أهله فضيلة.
لكن هناك قواعد وأحكاماً وعادات أجمع العالم على الجري عليها إجماعاً استقلالياً أو تقليداً، فهذه فضائل عالمية كونية عرفت منذ انبثاق الخليقة أنها فضائل كالصدق والعدل والتواضع والإحسان. هذه الفضائل كما شرحتها ترتسم في نفس الفرد وتنطبع في ذهنه بالتقليد والتلقين؛ ولا يورث منها إلا الميل لها، لأن ما يكتسب لا يورث. فيجد المرء نفسه في حظيرة الجماعة وتحت سلطتها وتأثيرها لا يستطيع أن يقوم بعمل مناف لما تمشت عليه، أو يفكر أو يقول مالا يروق في نظر الجماعة، ولا يشعر بالأثر إلى تجنب الرذيلة ويدفعه إلى عمل الفضيلة قبل إتيانها ويقرن العمل بالتشجيع على الإتمام ويلحقه بالطمأنينة واللذة النفسية - هذا الصوت هو ما نسميه بالضمير - الضمير الاجتماعي لأنه ليس إلا صدى لجلجلة القيود والأصفاد التي ترسف بها الجماعة. ويصح أن تسمى ما يقابل هذه القوة من قوة عنيفة مضادة سكبت في النفس البشرية مع القوة الأخرى ورافقتها في الحياة جنباً إلى جنب: هذه القوة يصح أن تسمى بالوسواس، وهو المذكور في قول الله تعالى:(قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس).
هذا هو الضمير الاجتماعي - بل هذا هو الضمير المطلق كما نعرفه عادة وتعرفه جمهرة العلماء؛ لكنني عرفته بالاجتماعي على اعتبار وجود ضمير آخر غير هذا الضمير؛ وهو الذي اصطلحت على تسميته بالضمير بالضمير الفردي المطلق، ذلك لأن الفرد قد لا يرتبط ارتباطاً عقلياً حراً مجرداً بما ترتبط به الجماعة من خير أو شر، فيستوي عنده خيرها وشرها، رذيلتها وفضيلتها، ويصبح طليقاً من هذه القيود الاجتماعية، لا يتأثر بما تتأثر به الجماعة من جميل أو قبيح تأثيراً تقليدياً غير منطقي. لأنه لم يتهيأ لبشر من الناس أن يميز الحدّ الفاصل بين الخير المطلق والشر المطلق غير الأنبياء. هذا الفرد - إن وُجد - عرفته الجماعة بميت الضمير - من حيث علاقته بها. وما كان في الحقيقة إلا حيّ الضمير - ذلك الضمير الروحي المستقل الذي قرّ في نفسه وركب في طبعه منذ أن عرف الحياة. وهو لا يختلف عن الضمير الاجتماعي من حيث أنه قوة مؤنبة، خفية عميقة في النفس. إلا
أن إدراكاته تختلف في كثير من الأحيان عن إدراكات الضمير الاجتماعي في أنها أرهف وأبعد وأدق وآصل. ذاك يقاس بفضائل خارجة عن النفس فرضت عليها فرضاً، فأصبحت كأنها جزء منها؛ ولكن مدركات الضمير الفردي من جمال وبرّ وصلاح خلقت مع الإنسان منذ الأزل، إلا أنها مطموسة بالمادة. فبذرة هذا الضمير الفردي في كل نفس، فإذا زاولها الفرد بالرياضة العنيفة، وتعهدها بالصقل والتهذيب والتجريد، فجلى عنها الأصداء، وأزال كل ما علق بها من أقذار المادة، نمت وازدهرت وجاءت بثمار روحية سامية، واستطاعت إذ ذاك التحليق في غير جوّ المرئيات الهيوليات. وبذا يصبح هذا الضمير الفردي المطلق بمثابة ذوق مهذب راق، تقاس به الأعمال والأطوار، ويدرك بالفطرة السامية والضمير الإلهي ما هو خير وما هو شرْ. وصاحب هذا الضمير فوق أصحاب الضمير الاجتماعي أو الإحساس التقليدي المزيف، فهو يعرف الله مباشرة، ولكن أولئك لا يعرفونه إلا بالواسطة.
(شرق الأردن)
جريس القسوس
وحي الحرب
على مسيل الدماء. . .
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
قَالَتْ سَكَتَّ وَمَا عَهِدْتُكَ ساكِتَا
…
أَنَا ما عَرَفْتُكَ في الحوادِثِ صَامتَا
وَغَدَوْتَ صَوْناً في المسامعِ خافتا
…
أَتُرَاكَ تَنْدُبُ من شَبابكَ فائِتَا؟
فَأَجبْتُهَا
وَالقلبُ مَحْطومُ الرَّجاءْ
كَيْفَ الْغ ناء مَعَ الدِّماءْ؟
مَا بَيْنَ أَنَّاتِ الأَلَمْ
فَوْقَ الضَّحايا والرِّممْ؟!
قَالَتْ مَلأتَ الأرضَ شِعراً صَادِقَا
…
وَسَكَبْتَ في الأَسمَاعِ لَخْناً دافِقاً
وَالآنَ. . . تُمْعِنُ في رُقَادِكَ غَارِقَا
…
وَسَكَتَّ حتى لا لأَظنَّك نَاطِقاً. . .
فأَجبْتُهَا
وَالْقَلْبُ تَفْجَعُهُ الْكرُوبْ
وَالأرضُ يَحْرِقُهَا اللَّهِيبْ
وَالنَّاسُ تَحْصُدُهَا الْحُروبْ
كَيْفَ الْغِنَاءُ مَعَ الدِّماءْ
وَالأرضُ أَجْدَرُ بالبُكاءْ؟!
قَالتْ تَعَالَ معي إلى الشطِّ البعيدْ
…
لا النَّارُ تُزْعِجُنَا وَلَا جَرْسُ الْحَدِيدْ
فَهُنَاكَ ظِلُّ الأمْنِ مُنبَسِطٌ مَدِيدْ
…
وَهُنَاكَ تُسْمِعُنِي أَنَاشِيدَ الْخُلودْ
فَأَجبْتُهَا
وَالنَّارُ تَلْمَعُ والسُّيوفْ
والصفُّ تَتْبَعُهُ الصُّفوفْ
كيف الفِرارُ من الْحُتوفْ
والبحرُ خُضِّبَ بالدِّماءْ
وَالأرْضُ تَصْرُخُ والسَّمَاءْ؟!
قَالَتْ مَتَى سُحُبُ الوَغَى تَتَقَشَّع
…
وَمَتَى يَذُوبُ من الوُجودِ المِدْفَعُ؟
وَمَتَى حَمَامُ السِّلمِ يَوْماَ يَسْجَعُ
…
وَمَتَى القُلُوبُ عَلَى المحَّبةِ تُجْمَعُ؟
فَأَجبْتُها
واللَّفْظُ يُمْسِكُهُ الحياءْ
والْقَلْبُ مُنْكَسِرُ الرَّجاءْ
هَيْهَات لَا يُرْجَى شِفَاءْ
ما بالنُّفُوسِ من الْعَِاءْ!
فالحربُ في الإنْسَانِ دَاءْ
(وَالْحَرْبُ تَعْمَلُ لِلْفَنَاءْ
…
كاَلْحَرْبِ تَعْمَلُ لِلْبَقَاءْ)
محمد عبد الغني حسن
أصابع على معزف
للأستاذ العوضي الوكيل
كلما أرسلتْ أصابِعُك اللحـ
…
ن رقيقاً كالشعرِ في روح شاعِرْ
خِلتُ أني سبحتُ في عالم القد
…
س وجدْفت بالرُّؤى والخواطر
وتمنيْتُ أن تسيل على كفْـ
…
يكِ روحي كاللحن ريَّانَ عاطرْ
العوضي الوكيل
هتاف من الماضي
أو في ظلال الأقصر
للأستاذ عماد الدين عبد الحميد
(هذه مقطوعة غنائية أطلعني عليها صاحبها الأديب في حياء وتردد واستطلاع!
فوجدتها - كأغنية - تستطيع أن تقف شامخة بين نظيراتها وأحببت أن أقدمها للرسالة.
وإذا قد لها أن تخرج ألحاناً وغناء فأرجو أن يكون حظها من التلحين والأداء خيراً من حظ مثيلاتها. وأن تخرج فيجو مصري لا في (سوق فارسية) ولا في (معبد صيني). وأن تسلم كذلك من روح الميوعة والتطريب التي يشقى بها الغناء وتفسد الأذواق)
سيد قطب
جَرت الفلكُ بركبِ الأملِ
…
تسمع الدنيا نشيد القبلِ
كلما مرْت بنبعِ الأزلِ
…
شدت الأطيارُ لحن الغزلِ
أيها السْاري إلى الفجر بنا
…
تتهادى بشراعٍ من منى
هاك خمر النيل تجري فاسقنا
…
واملأ غناَء حَوْلنا
مرْ بنا كم مار في هذا المكان
…
موكبُ النيل رهيباً بالحسان
ومضىَ يختالُ في عرسِ الزمانِ
…
بين عزفٍ وشراب وأغانِ
كم جميلٍ قد طوى النيلُ وسارا
…
ها هنا قبَّل النيلُ عذاري
كنَّ يَلْقَيْنك يا نيلُ حيارى
…
ثملاتِ بين نشوى وسكارى
ملْ بنا نحو ظلالِ الأقصرِ
…
في تهاد يا لسحر المنظر
لَيتنا نقضي نصيب العمر
…
ها هنا بين ظلال الأثر
حين تبدو سابحات كالجبالِ
…
في محيطٍ من صخورٍ ورمالِ
لا ترى غير خيالٍ لجمالِ
…
وخلودٍ لوجودٍ وزوالِ
قف بنا نتل كتاب الأقدمين
…
سادة الأيام بين العالمينْ
ونحيّى في الثرى مجدَ السنينْ
…
في جلالٍ وخشوعٍ وسكونْ
ها هنا قد عاش فرعونُ هنا
…
ها هنا قد ساد خوفو ومِنا
ها هنا كل بعيدٍ قد دنا
…
وجثا كلُّ عظيمٍ وانحنى!
هات ياهيكل وحيَ العبر
…
شاخصاتٍ بين هذى الصُّور
ليتنا نقضي نصيب العمر
…
هها هنا بين ظلال الأثر
عماد الدين عبد الحميد
مدينة تدمر
للأديب مصطفى بعيو الطرابلسي
(في يوم 14 يوليو انتهت حملة الحلفاء في سورية بعد قتال استمر حوالي ستة أسابيع في تلك البلاد الشقيقة بين قوات الحلفاء من جهة وقوات قيشي من جهة أخرى، ولقد قام مطار تدمر في هذه الحملة بدور خطير، وتكرر ذكر هذه المدينة على صفحات الجرائد. فوفاء لتاريخ هذه المدينة وماضيها المجيد أكتب هذه السطور)
في وسط بادية الشام وجنوب خط عرض 35 شمالاً، وغرب خط طول 40 شرقاً، تقع مدينة تدمر ذات المطار الحربي في الوقت الحاضر والتاريخ المجيد في العصور الماضية، إذ كانت تسمى باليونانية بالميرا أي مدينة النخل، وباللغة العبرية (تمر) بإقحام الدال فيها، وهذا اللفظ يرادف كلمة (النخل). وقد ذكر المتنبي هذه المدينة في شعره، ولكنه اشتق اسمها من الدمار حيث نراه يقول في مدح سيف الدولة الذي تغلب على بعض قبائل العرب عبد مدينة تدمر:
وليس بغير تدمر مستغاثٌ
…
وتدمر كاسمها لهمُ دمارُ
على أن الرخين لا يأخذون بهذا الرأي، ويرجحون أن قول المتنبي هذا من باب الاستقاق البديعي ذكره على طريقة الجناسَ، ويجمعون على أن سيدنا سليمان هو الذي قام بتأسيسها، ولهم في ذلك أدلة يذكرونها، ومنها شهادة الكتاب المقدس في سفر أخبار الأيام الثاني وسفر الملوك الثالث، إذ قال الكتاب عن سليمان:(فبنى سليمان جازر. . . وتدمر في أرض البرية).
ومنها أن ليهود يتناقلون أباً عن جد قصة بناء سيدنا سليمان لها، هذا فضلاً عن أن المؤرخ الشهير يوسف اليهودي قد روى هذا في كتاب العاديات اليهودية، وهو أحد مصادر التاريخ الإسرائيلي. ثم إن العرب اتفقوا على هذا الرأي ولا سيما سكان البادية، بل نراهم يزيدون على ذلك ويزعمون أن الجن هم الذين بنوا مدينة تدمر لسليمان، ومما يؤيد هذا الرأي قول النابغة الذبياني، نحن نعلم مكانته بين شعراء الجاهلية:
إلا سليمان إذ قال الإله لهُ
…
قم في البرية فاحددها عن الفَنَدِ
وخبِّر الجن أني قد أمرتهمُ
…
يبنون تدمر بالصُّفاح والعمدِ
وإذا كان المؤرخون قد اتفقوا على بناء سيدنا سلميان لها فقد اختلفوا في سبب بنائها، ولكن أغلبيتهم أجمعت على رغبة سيدنا سلميان في أن يجعل منها مربطاً لتجارة رعاياه، أو كما جاء في الكتاب المقدس إحدى (مدن الخزن).
هذه المدينة التي ازدهرت أيامها في عهد سليمان كعادة المدن الجديدة في أول إنشائها لم تلبث أن تدهورت بعد وفاة منشئها وأصبحت خاملة الذكر حق أوائل النصرانية، حتى أن هيرودوت أبا التاريخ القديم لميذكر في تاريخه، مع أنه قد زار معظم البلاد الشرقية الهامة في عصره والمحيط بالبحر الأبيض المتوسط. وكذلك لا نجد لها ذكراً في أخبار فتوح الإسكندرية فضلاً عن أن العالم الجغرافي (استرابون) لم يذكرها مع إلمامه بمعرفة الأنحاء الشرقية. كل هذه الشواهد تؤيد ما آلت إليه حالة تدمر من تدهور وخمول وهي التي كانت عامرة في أول عهدها لما اشتهرت به من غزارة مياهها، إذ كانت تجري فيها عدة أنهار لم يبق منها سوى جدول أو جدولين؛ أما عيونها المعدنية التي اشتهرت بها منذ القدم، فقد نضت.
وقد عثر الأثريون على كتابة نبطية قديمة في شمال جزيرة العرب ترجع إلى القرن السادس ق. م. تصف مدينة تدمر بأنها فندق متسع الأرجاء في بادية الشام، وهذا دليل على مركزها التجاري العظيم في سابق الأزمان وتأييد لما ذهب إليه بعض المؤرخين في تعليل سبب بنائها.
على تلك المدة التي اضمحلت فيها مدينة تدمر ما كانت إلا فترة استجمام سرعان ما عاد إليها نشاطها بعد ذلك، واستردت شهرتها من جديد، واسترجعت سلطانها القديم في التجارة على أثر انهيار الدولة السلوقية وكثرة الولايات المستقلة في شمال بلاد العرب والعراق التي اتخذت التجارة مهنة لها، فكانت القوافل تسير إلى بطرة وغزة وتدمر فأصبحت منذ ذلك العهد مدينة خطيرة وأخذت تتقدم عمرانياً، وأصبحت تجارة أوربا وآسيا في أوائل المسيحية في قبضة يدها. تمر بها تجارة بلاد العرب من ذهب وعطور ولآلئ البحرين وتوابل الهند وهي في طريقها إلى روما، فعرف الرومان قيمة مركزها التجاري فاستمالوها إليهم ثم ما لبثوا أن ضموها إلى أقاليمهم الشرقية وأحاطوها بالحميات العسكرية، كما حصنوا الطريق الذي يصلا بنهر الفرات لحماية تجارتهم وتأمينها من غارات القبائل.
ومن الآثار التي عثر عليها الأثريون والتي ترجع إلى سنة 137م مرسوم أصدره مجلس شيوخ المدينة لحسم الفتن التي قامت بين النجار ومأموري الخزانة من أجل المكوس وارتفاعها إذ كانت البضائع الصادرة أو الواردة تجبي عليها ضريبة ثابتة ثم ضريبة أخرى تختلف باختلاف قيمة البضائع ومقدارها، وقد عرفنا من هذه النقوش أيضاً نوع التجارة التي كانت تمر بمدينة تدمر وهي بالإضافة للأنواع السابقة عبارة عن دقيق وزيوت عطرية وغلال وأثمار يابسة وملح من ممالح تدمر الكثيرة في ذلك العهد مما جعل لأهلها شهرة خاصة في قيادة القوافل التجارية عبر الصحراء لحسن خبرتهم بالطرق ولاستعدادهم لمقاومة أعمال قطاع الطرق. فلا عجب بعد ذلك أن شابهت تدمر البندقية فيالعصور الوسطى من حيث المركز التجاري. وكانت تدمر تحتفظ لنفسها بنصيب من دخلها السنوي بعد أن تؤدي إلى روما الجزية المفروضة عليها.
هذا كل ما يمكن أن يقال باختصار عن تجارة تدمر في أزهي عصورها. وقد تكلم في هذه الناحية بتوسع كل من الأستاذ (تولدكة)، (ساخَوْ)، (دي قوكويه). وعرفنا من النقوس السابقة الذكر أنه كان لتدمر مجلس وطني يسن القوانين ويتألف من رئيس وكانت وعدد من الأعضاء. وكانت السلطة التنفيذية في عهده شيخين وديوان يتكون من عشرة حكام. أما السلطة القضائية فكانت من اختصاص بعض الوكلاء.
أما لغتها الرسمية اللغة اليونانية كما هي العادة في جميع الممالك الرومانية الشرقيى؛ ولكن أهلها كانت لهم لهجة خاصة هي الهجة الآرامية وهي قريبة من السريانية. ويقال إن المسيح عليه السلام قد تكلم بها، ولكن هذا لم يثبت بعد. على أن الخط التدميري إلى الآن لا يعرف المؤرخون صورته حق المعرفة في القرون السابقة للمسيحية، لأن جميع الكتابات والرسوم التر عثر عليها حتى الآن ينحصر تاريخها فيما بين القرنين الأول والرابع المسيحيين، وأقدم هذه الكتابات لا تتعدى السنة التاسعة قبل المسيح. ويؤكد المؤرخون أن تدمر قد اقتبست صورة حروفها من الفينيقيين.
اختلف المؤرخون في تحديد السنة التي خضعت فيها تدمر لحكم الرومان ولكنهم أجمعوا على أنها لم تتبع روما قبل سنة 36م، وعلى الرغم من خضوعها لروما كانت تتمتع ببعض الحقوق المدنية، ومنحت امتيازاً خاصاً يخولها السيادة على جميع البلاد والمجاورة لها. ثم
تطورت العلاقة بين تدمر وروما إلى شبه محالفة لا سيما بعد أن أخذ أمر بني ساسان يستفحل وهم الأعداء الألداء لوما وبأطرتها.
ثم انتهي الأمر في تدمر بقيام رجل من أبنائها يتمنى إلى بني السميدع ويلقب يأذينة، تمكن من إلان سلطانه على تدمر وخضاع قومه، واتخذ له لقباً ملكياً في سنة 250م، ولكني سرعان ما أقلق هذا العمل بال الأمبراطور الروماني واستطاع أن يتخلص منه بقتله؛ ولكن سلالته استطاعت أن تحتفظ بعرشها وعملت على تحسين علاقتها مع روما، بل نرى أذينة الثاني يحارب الفرس إلى جانب الروم مما كان له أحسن الأثر في نفوس الرومانيين. ولكن أذينه الثاني لم يعمر طويلاً إذ اغتاله ابن أخيه لحقده عليه، وتولت إدارة شئون البلاد زوجته الزباء وصية على ابنها الكبير (وهبلات) ونجحت في إدارة شئون الدولة وقامت بأعمال جليلة وعملت على تعمير البلاد. وما زالت آثارها باقية تخلد اسمها؛ مع أن الاهالي يخلطون بينها وبين ما فعلته (زبيدة) زوجة هارون الرشيد ومن الصعب تعقب أخبار هذه الملكة في سطور لكثرتها وقد نشر الأستاذ فريد أبو حديد قصة تاريخها في مجلة الثقافة.
ومما يلفت النظر أنه على الرغم من شهرةهذه الملكة فإن الغموض يحيط بتاريخها، فنجد مثلاً مؤرخي العرب ينسبون إليها قصة مع أحد ملوك الحيرة، وقد أورد لها ملخصاً المسعودي في كتابه مروج الذهب ولكن بعض المستشرقين وعلى رأسهم الأب سبستيان رنزفال اليسوعي يشك في صحة هذه القصة.
توترت العلاقات السياسية بين زينب ملكة تدمر وروما وانتهى الأمر بأسرها بعد حرب شاقة وتدمير المدينة مما دفع أهلها للقيام لأخذ ثأرها؛ ولكن القائد الروماني (أورليانس) قابل هذه الحركة بتهديم المدينة. وهكذا تدهور حال المدينة وأخنى عليها الدهر إلى أن جاء بنو غسان فاتخذها بعضهم منزلاً له وبقيت على حالتها المتأخرة حتى فتحها المسلمون في سنة 634م عندما مر بها خالد بن الوليد في حملته إلى سوريا.
مصطفى بعيو الطرابلسي
كلية الآداب. اسكندرية
البريد الأدبي
واالد الملوك الأيوبيين
أنقل ميدان الكلام عن الملك ووالد الملوك نجم الدين بن أيوب إلى مجلة (الرسالة) الغراء، لأنني أصلحت على صفحاتها شعراً رواه الأستاذ جمال الدين الشيال عن الشاعر بوري أخي السلطان صلاح الدين الأيوبي.
ولقد ذكرت في كلمتي الأولى في (الرسالة) أن بوري هو (ابن الملك الصالح نجم الدين الأيوبي) فعد الأستاذ الشيال ذلك مني (خطأ رئيسياً هاماً)، ووهم - سامحه الله - أنني خلطت بين والد صلاح الدين وبين الملك الصالح نجم الدين حفيد العادل وأحد الذين حكموا مصر في العهد الأيوبي.
وليس في تلقيبي نجم الدين بن أيوب (بالملك الصالح) خطأٌ يدعو الأستاذ الشيال إلى تصحيحه في مجلة (الثقافة) الغراء؛ ولمأكن في هذا التلقيب حائداً عما اعتاده مؤرخو العصر الأيوبي من تلقيب طائفة من أمراء هذا البيت بالملوك، مع أنهم لم يكونوا ملوكاً (ولم يحكموا مصر). فالعماد الأصبهاني مؤرخ صلاح الدين وصاحب كتاب (الفتح القسي في الفتح القدسي) يلقب الأمير أسد الدين شيركوه (بالملك المجاهد، الجواد الماجد)(ص235 طبعة الموسوعات)؛ ويلقب أيضاً سيف الدين أخا صلاح الدين الأيوبي (بالملك العادل) قبل أن يصير إليه ملك مصر: (أنظر ص227 من الفتح في الكلام على وقعة أرسوف).
ويلقب تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أخي صلاح الدين (بالملك المظفر)، مع أنه مات في حكم صلاح الدين ولم يكن له، ولا يمكن أن يكون له حكم مصر:(أنظر ص290 من المصدر المذكور).
ومن هذا يتضح أن تلقيب نجم الدين بن أيوب بالملك الصالح صحيح لا غبار عليه وقد وصفه أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي صاحب النجوم الزاهرة بالأمير: (أنظر الجزء السادس) والسبب في تلقيبه بالصالح أنه كان محباً للصالحين، كما يذكر أبو المحاسن (ص67 ج6).
والحق أنني بعد ذلك كله لم أر وجهاً لاعتراض الأخ الأستاذ جمال الدين الشيال على هذا
اللقب الذي لقب به نجم الدين الملك وأبو الملوك، وهو اللقب الذي كان يخلع في ذلك العهد على أمراء البيت الأيوبي غير الملوك.
(المنصورة)
محمد عبد الغني حسن
آثار الحضارة المصرية في نيجيريا العليا
نشرت إحدى المجلات العلمية في لوزان نبأ جاء فيه أن بعض المكتشفين عثروا في منطقة نيجيريا العليا على مجموعة من الفيروز الأزرق الذي كان يحتفظ الصناع من قدماء المصريين بسره.
ومما قالته المجلة أن هذه المجموعة من لآلئ الزجاج الأزرق، لابد أ، تكون أتت من مصر، لأن قدماء المصريين كانوا رسل الحضارة، وأول من أنشأوا المراكز التجارية، وأدخلوا الحرف في المناطق التي تقع على ضفاف بحيرة تشاور والبلاد التي يرويها نهر النيجر وفي السنغال. بل إن أولئك المصريين القدماء كانوا أول من أدخلوا في هذه البلاد عن طريق دارفور و (واداي) الحيوانات الداجنة، ولاسيما الحمير كما أنهم مارسو فيها فن البناء الفرعوني.
في اللغة
1 -
دعا الأستاذ طه محمد الساكت الباحثين إلى استنباط مثال واحد من منثور العرب - بعد أن بحث جاهداً عن شاهد واحد فأعياه البحث - تقدم فيه القسم على الشرط والجواب فيه للشرط، على خلاف القاعدة النحوية المشهورة أن يكون الجواب للمتقدم.
وأجيب دعوة الأستاذ فأقول: إن لدي شواهد كثيرة لما يريد وقعت لي في أثناء قراءتي وعنيت بتدوينها وإن لم تكن بين يدي أو في الطاقة الحصول عليها الآن؛ ولكني أذكر واحداً منها يحضرني، وقع لي في الجزء الأول من العقد الفريد من كلام لعمر بن الخطاب قاله لمعاوية بن أبي سفيان حين قدم عمر على معاوية بالشام. قال معاوية:(فإن أمرتني بذلك أقمت عليه وإن نهيتني عنه انتهيت). فقال عمر: (لئن كان الذي تقول حقاً فإنه رأي أريب، وإن كان باطلاً فانها خدعة أديب).
قلت: ورد الخبر هكذا في جميع طبعات العقد حتى الطبعة الحديثة التي أخرجتها لجنة التأليف والترجمة والنشر منذ شهور، (ج1 ص16).
وهكذا ورد أيضاً في طبعة المكتبة التجارية التي صدرت منذ شهرين وحققها الأستاذ محمد سعيد العريان.
فان لم يكن محرفاً - وما أكثر التحريف في العقد - فهو الشاهد المسكت للأستاذ الساكت.
2 -
من القواعد أفعل التفضيل المشهورة أنه إذا كان محلي بأل امتنع أن يؤتى بعده بالمفضل عليه مجروراً بمن، فلا يصح أن يقال:(أنا الأكثر منك مالاً).
ولما رأيت أكثر أدبائنا وأشدهم تدقيقاً وتحرياً للصواب في اللغة يقعون في هذا الخطأ أو فزت إلى التنبيه عليه. ومن أمثلة الخطأ فيه ماجاء أخيراً في كلمة الأستاذ حبيب الزحلاوي (محصول الرسالة) المنشورة بالعدد 418 من الرسالة قال: (والأنفع من هذا وذاك الخ)، وما جاء من مقال الأستاذ العقاد (القدوة والإصلاح) بالعدد 377 قال:(دنيا صاخبة هي العوض الأنفس من كل ما يفوته من الأنس بالمجتمعات) إن كان يريد أن كل ما يفوته هو المفضل عليه. أما إن جعل الجار والمجرور متعلقاً بالعوض - ولست أظنه يريده - فلا خطأ. ومنه أيضاً ما جرى على لسان الشيخ البشري كثيراً في الجزء الثاني من كتابه (المختار) حيث قال: (الأقل من القليل). . . والسلام على من اتبع الهدى.
(بني سويف)
محمد محمود رضوان
المدرس بالمدرسة النموذجية
الحسبة في الاسلام
نشر الأستاذ محمود الشرقاوي في العدد 417 من (مجلة الرسالة) كلمة عن التسعيرة الجبرية في الأندلس تحت عنوان: (من حضارة الإسلام في الأندلس). ولعل في الكلمة الآتية زيادة فائدة في الموضوع.
علم الاحتساب علم باحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم اللاتي لا يتم التمدن بدونها، حيث إجرؤها على القانون العدل بحيث يتم التراضي بين المعاملين، وعن
سياسة العباد بتهي المنكر وأمر المعروف.
أما المحتسب فله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم. وكثير من الأمور الدينية هو مشترك بين ولاة الأمور، فمن أدى فيه الواجب وجبت طاعته فيه. فعلى المحتسب أن يأمر العاملة بالصلوات الخمس في مواقيتها ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس، ويتعاهد الأئمة والمؤذنين، فمن فرط منهم فيما يجب من حقوق الإمامة أو خرج عن الأذان المشروع ألزمه بذلك، واستعان فيما يعجز عنه بوالي الحرب والحكم وكل مطاع يعين على ذلك.
ويأمر المحتسب بصدق الحديث وبأداء الامانات وينهي عن المنكرات من الكذب والخيانة ما يدخل في ذلك من تطفيف الميزان والمكيال والغش في الصناعات والبياعات ونحو ذلك.
وله أن يكره الباعة على بيع ماعندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل. وله أن يجبر أهل الصناعات على ما يحتاج إليه الناس من صناعاتهم كالفلاحة والحياكة والبناية، ويقدر أجرة المثل فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك، ولا يمكن الصائع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العامل. وهذا من التسعير الواجب.
وأما صفة ذلك (أي التسعير) فينبغي للامام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم استظهار على صدقهم فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا، وإذا امتنعوا عن بيع ما يجب عليهم بيعه عوقبوا.
أحمد صفوان
مصطلحات المجمع اللغوي
كان المجمع اللغوي ينشر في مجلته السنوية ما أقره من المصطلحات العلمية والفنية أثناء موسم الانعقاد؛ وقد رؤي أن تفرق هذه المصطلحات في مختلف أجزاء المجلة، واختلاطها بغيرها من الأبحاث والدراسات، لاييسر على الباحثين سبيل الرجوع إليها عند الحاجة، فتقرر أن تجرد جميع المصطلحات التي وضعها المجمع خلال أدوار انعقاده الماضية قبل النظام الجديد، وأن تطبع في كتاب مستقل يكون قريب التناول للمؤلفين والمدرسين
والراغبين في البحث والدراسةذ. وقد أعد هذا الكتاب للطبع في المطبعة الأميرية، وتبلغ مصطلحاته نحو ثلاثة آلاف في علوم الأحياءذ والطب والحرارة والكهربا واللاسلكي، وفورع الرياضة والعمارة والموسيقى والتاريخ، وأدوات الشؤون العامة، إلى غير ذلك من ضروب العلوم والفنون والآداب. وينتظر أن يخرج هذا الكتاب من المطبعة في سبتمر المقبل.
إلى الدكتور علي عبد الواحد وافي من السودان
أتتبع باهتمام القيمة (في الاجتماع اللغوي) على صفحات (الرسالة) الزاخرة. . . وفي حديثك أخيراً عن الهجات العامية الحديثة استوقفتني عبارتك: (وأدنى هذه المجموعات إلى العربية الفصحى مجموعتا اللهجات الحجازية المصرية). . . استوقفني هذه العبارة، وكان بودي أن أكتب إليك هذا في حينها، ولكن الانهماك المتواصل في سبيل العيش لم يسمح لي بذلك.
فإن كنت تقصد بتلك العبارة أن اللهجة المصرية هي لهجة وادي النيل الذي يشمل مصر والسودان، وهذا ما أستبعده وأشك فيه، لأنها ليست هذه هي أولى المرات التي يُهمل فيها السودان ويسقط سهواً وعمداً من حساب الشرق والعرب. . . إن كنت تعني بها ما قدمت، فذاك، وإلا فلتعلم ياأستاذي الفاضل أن بالسودان - وخصوصاً أواسطه - لهجة هي من أدنى اللهجات إلى العربية الفصحى إن لم تكن أدناها جميعاً.
ولست في حاجة لسرد الأدلة والبراهين لإثبات هذه الحقيقة ولكن لك أن تبحث وراءها، ولك في الكثير من قادة الفكر المصري الذين زاروا السودان خلال السنوات الأخيرة أكبر مصدر ومرجع.
وبهذه المناسبة أتمنى أن تساعدني ظروفي السيئة لأتحف أستاذينا الكبيرين المبارك والزيات بمختارات من أدبنا القومي ليلمسا فيه الذوق العربي الصحيح مجسماً؛ وليستنشقا منه عبير العربية المتغلغلة في النفوس. أسأل الله أن يوفقني ويوفق معي الكثير من أبناء هذا القطر البررة هنا وهناك للقيام بهذه المهمة وإسداء هذا الجميل إليهما، حتى إذا ما زارا هذا القطر المظلوم تذوقاً بسهولة ما يقدمه إليهما من أدب قومي رفيع.
أحمد المبارك عيسى
تعقيب
جاء في ص (867) من العدد (418) من (الرسالة) في حديث للدكتور علي عبد الواحد وافي عن (اللهجات العامية الحديثة)، ومنه عن اللهجات غير العربية التي يتكلم بها بعض الطوائف في سوريا، وهي اللغة المتحدرة من الآرامية، وأن ثلاث قرى هي: معلولة، صدنايا، يبرود. وهي التي يتكلم أهلها هذه اللغة.
والمعروف أن القرى الثلاثة المقصودة في حديث الدكتور هي: معلولة - جَبْعِدين - بحْفَا، وهي واقعة في الشمال الشرقي عن دمشق.
فهل لحضرة الدكتور أينير معرفتنا عن سبب الخطأ الوارد في حديثه عن تسميته هذه القرى، وله منا خالص الشكر المشفوع بالاحترام.
جودة مرعشلي
استدراك
في العدد 417 من الرسالة الغراء مقال في غزوة حنين، جاء في آخره ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخوارج:(أكفارٌ هم؟) فقال: (من الكفر فروا) قيل: (أمنافقون هم؟) فقال: (إن المنافقين لايذكرون الله إلا قليلاً وهؤلاء يذكرون الله كثيراً) قيل: (فما هم) قال: (فتنتة غشيتهم).
والصواب أن المسؤول الذي أجاب هذه الأجوبة عن الخوارج هو علي بن أبي طالب لا النبي صلى الله عليه وسلم. وفي أيام علي خرج الخوارج في العراق، وكانت سيرة على في مقاتليه من أصحاب الجمل وصفين والخوارج سيرة إنصاف وإغدار واعتراف بحق ولم بك رضي الله عنه يبخس أحداً شيئه صديقاً كان أم عدواً.
(دمشق)
سعيد الأفغاني
القصص
الرجل المكروه
عن الانجليزية
للأستاذ عبد اللطيف النشار
وقف على غير انتظار في وسط الجمع وكان صامتاً وكانوا صامتين، ويظهر أنهم يشعروا ببدخوله، فابتسم ثم جرْ كرسياً وجلس على مقربة من صاحبة المنزل، فلما نظرت إليه قالت:(ما أغرب تصرفاتك! هل مشيت كل المسافة بين بروم هيل وبين المنزل في هذه الشمس؟).
فهز رأسه بالايجاب دون أن يتكلم، وقد كان غريب التصرفات كما وصفته مسز ألينورا بونيتون التي أمرت على أثر مجيئه بالشاي والتفتت إليه وقد كان مجيئه بغير دعوة وجلوسه بغير استئذان.
ودار الحديث بينهم متجاهلين جوده فشرب الشاي في صمت وهو شاعر بهذا التجاهل ولكنه لم ينسحب من المجلس ولم يهم بالانسحاب.
وقالت اللادي مارتين لصاحبة المنزل: (ما أغرب هذا الرجل ياعزيزتي ألينورا! أهو نموذج لأهل جيراتكم؟ لقد كنت أظن أهل هذا الوسط راقين!).
فهزت مسز ألينورا كتفها وقالت: (لا يعلم إلا الله من هو وماذا يريد، وليس فينا من يحبه غير زوجي، وأنت تعرفين أنه يسر من كل شيء غير عادي).
فقالت الزائرة: (ولكن من أين أتى؟ هل هو جار؟).
قالت: ألينورا: (اسمه ليندهام وهو يسكن في كوخ على بعد بضعة أميال، وليس لدي أي إنسان فكرة عن شخصيته ولا عن الجهة التي جاء منها، وهو يقضي معظم أوقاته في المشي في الطريق وفي غزو المنازل).
قالت اللادي مارتين: (يظهر من هيئته أنه راق وأنه غريب الأطوار).
فاختلست مسز بوينتون نظرة من المستر ليندهام وقد كان في ثياب شديدة القدم ولحية مقصوصة على غير نظام ورباط رقبته منحرف، ولكن في هويته علائم التهذيب وصوته الهادئ الرصين يفتن سامعيه.
وعادت الزائرة إلى الكلام فسألت صاحبة المنزل: (لماذا يأتي هذا الرجل هنا؟).
فأجابتها ألينورا: (لا أعرف سبب مجيئه خصوصاً مع غياب زوجي عن المنزل، ولا أحد يلاطفه هنا لا يكاد يكلم أحداً، وهو يكثر من المشي تحت الدار. وقد قابلته في إحدى الليالي فرأيته يكلم نفسه بصوت منخفض ولم تكن المسافة بيني وبينه أكثر من متر، ولكنه لم يلاحظني وقد خفت منه كما أخاف من الموت).
قالت الزائرة: (إن زوجك رجل طيب يالألينورا؛ وعلى ذكر زوجك أخبريني ماذا تم في القضية؟).
فقالت صاحبة المنزل: (إنه ذهب ليقابل المحامين، ويظهر أنهم لم يحصلوا على رد من السير جيرفاس؛ ويظهر أنهم لايعرفون مكانه).
فنظرت اللادي مرتين من خلال النافذة وقالت: (أرجو ألا تخسروا القضية فإن هذه الجهة من أحسن الأماكن في الإقليم) ونظرت ألينورا من خلال النافذة أيضاً إلى المنظر الذي أطلعت عليه اللادي وقالت: (إخال أنني أسمع صوت عربة مقبلة) ثم وقفت وخرجت من الغرفة. وبعد قليل عادت وأعلنت قدوم الأميرة فوقف جميع الضيوف إلا الزائر غير المرغوب فيه. ونظرت ألينورا إلى هذا الرجل الذي لايحبه إنسان نظرة مقت وانتظر الجميع أن يكون لدى الرجل من حسن الذوق ما يحمله على مغادرة المنزل قبل أن تأتي الأميرة.
على أنه لما أقبلت الأميرة وقف ودار بعينيه في الفضاء، وكان بادياً على الأميرة التعب ولكن تعبها لم يؤثر على جمالها الرائع. وفي فترة التعارف وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام ليندهام الذي لم تعن مسز بوينتون بتقديمه إلى الأميرة فقدم هو نفسه إليها قال:(هل تسمحين يا صاحبة السمو بأن أذكرك بإسمي؟ أنا ريتشارد ليندهام وأرجو ألا تكوني نسيتني).
فمدت إليه يدها وقالت بصوت عذب: (إن الإنسان لا ينسى أقدم أصدقائه. وإني مسرورة جداً برؤيتك يا مستر ليندهام).
وجيء بالشاي، ثم دخلت الأميرة قاعة أخرى وطلبت من صاحبة المنزل أن تدعو إليها المستر ليندهام لأنها تريد محادثته.
قالت مسز بوينتون: (ليندهام ياصاحبة السمو؟!).
وكانت لهجتها شديدة الدلالة على الاستغراب، ولكن الأميرة كررت أنها تريد محادثته، فذهبت إليه صاحبة المنزل وقالت بغير ما اعتادته من لهجة في مخاطبته:(إن الأميرة تريد أن تراه؛ فقام متباطئاً ولم يبد عليه شيء من الاستغراب، ولا أظهر شيئاً من الاهتمام وقال: (اسبقيني وسأتبعك).
أغلق الباب وكانت الأميرة في حالة غير عادية: فعيناها مغرورقتان بالدموع وقالت: (لقد ظفرت بك في النهاية ولن تستطيع أن تفلت مني. تعال الآن).
فتناول كفها ورفع يدها إلى شفته؛ وتغيرت هيئته ففارقه مظهر الخشونة المعتاد، وأصبحت نظراته وصوته كصوت الطفل ونظراته وقال:(ياعزيزتي جبربيل، هل لا تزالين مؤمنة؟ ألم تنفقدي ثقتك؟). فقالت: (كلا. كلا. ولا لحظة واحدة).
قال: (الحمد لله).
ثم انقضت لحظات في صمت، وبعد ذلك قالت:(ألا تزال باسمك المستعار؟) فقال: ليس لي اسم سواه.
قالت: ولكنك في انكلترا ولم تتركها إلى غيرها. فقال بلهجته التهكمية القديمة: ليس أغرب من ذلك.
قالت: (لقد تغير كل شيء فلم أتبين أين كنت)؛ فمشى نحو النافذة وقال: (لقد كان إطلاق الرصاصة من هذا المكان وكان أكثر من عشرة أشخاص مستعدين للشهادة بأنه لم يكن يقيم هنا أحد غيري).
قالت الأميرة: يظهر يا جيرفاس أنك هنا لغرض خاص، فقال: وأنت؟.
قالت: لغرض أيضاً. . . فقل لي: هل تسلمت خطاباً؟.
فقال: نعم، وهو السبب في مجيئ من النمسا. . . انظر وعرضت عليه خطاباً، فرمقه بنظرة ثم قال: هو كخطابي تماماً، ويعلم الله أن هذا في منتهى الغرابة. . . ولكن الذين على وشك الموت كثيراً ما يقولون الحقيقة!.
وكان في هذه الأثناء يفحص الحائط وفي يده سكين يضرب بها في مكان بعد مكان ويتسع الصوت. . . وكانت الأميرة تراقب حركته وهي واقفة وراء ظهره، وقال: ليس هنا أي
دليل يساعدنا.
قالت: لقد اختفى جزء مهم من أركان القضية. . . أين هو الرجل الذي أخفي مطلق الرصاص؟.
فهز رأسه وقال: لقد كان من الغباوة ألا أفكر في المكان من قبل، ولقد اختفى جزء من القضية كما تقولون، ولكن الجزء الآخر لا يزال باقياً. . .
وأشارت إلى شيء ملقي على الأرض، فتناوله وقال: هذا دفتر مذكرات. . . ففتحت الصحيفة الأخيرة منه وصاحت:
- ماهذا يا جيرفاس؟.
فهز كتفه وقال: هذا ما ليس يعلمه إلا الله.
وحاول أن يقرأ الأسطر التي أشارت إليها، ولكنه صاح بدوره: إقرائي أنت. . . فإنني لا أستطيع.
فاختطفت الدفتر من يده واقتربت من النور. . .
ظل الرجل الذي لا يحبه إنسان. . . الرجل الذي تعده صاحبة المنزل فضولياً. . . ظل مع الأميرة نحو ساعة، وكانت صاحبة المنزل ومن معها يتحدثن في هذه الأثناء. . .
وقد نالت الأميرة رتبتها بالزواج من أمير، وهي من أسرة قديمة، ولكنها قبل الزواج كانت فقيرة، ويشاع أنها كانت مربية في بعض البيوت. . .
وفي عهد هذه القصة كان الأمير متوفى منذ عام، تاركا لها ثروة كبيرة، وكان مركزها في المجتمع موطداً بالرغم من إشاعات السوء التي كان يشيمها عنها بعض الناس.
وقد سئمت مسز (بوينتون) من تكرار القول لزائريها أنها لا تعرف (ليندهام)، وأنه جاء من حيث لا يعرف إنسان، وأن زوجها المستر (آرثر) قد اهتم بشأنه، ولكنها كانت مرتابة منه منذ البداية. . . وبينما هي لا تزال كذلك تضرب على هذه النغمة، إذ دخلت الأميرة ومعها المستر (ليندهام) كما هو معروف بهذا الاسم بين الزائرين، أو السير (ليندهام) كما هو معروف بهذا الاسم بين الزائرين، أو السير (جيرفاس) هو اسمه الحقيقي، وقالت الأميرة: لقد رأيت الغرف التي أعددتها لضيافتي، ولكن يظهر أن إحداها لها تاريخ، فهل صحيح أن السير (نولز فلتون) قتل برصاصة أطلقت عليه من نافذة غرفة الجلوس؟!.
ظهر شيء من الاضطراب على وجه صاحبة المنزل وقالت:
- نعم، ولكن هذا من سنوات عديدة، وكنت أظن أن كل إنسان نسي ذلك، وأظنك يا صاحبة السمو لا تخافين من الأشباح. . .
فابتسمت الأميرة وقالت: لقد رأيت الآن واحداً من هذه الأشباح. . .
وكان السامعون يتحدثون فيما ينهم ويتساءلون عما تتحدث عنه الأميرة. وقد بدت علائم الاعتمام. وقالت الأميرة: نريد أن تحدثينا يامسز بوينتون عن تلك الجريمة. لقد قتل السير نوليس وهو يمشي على الشرفة. وكانت الإصابة من مجهول، فهل عرف شيء عن سرها؟.
فقالت مسز بوينتون: أما في المحاكم فلا، وأما بصفة قاطعة بين الناس فلا. ولكن القرائن ضده أنه بالرغم من أن التهمة لم توجه إليه فإنه غادر البلاد هارباً ولم يعرف له مكان.
قالت الأميرة: لم يكن بينهما خصومة معروفة، ولكن شاع بعد الحادث وبعد سفر جيرفاس أن بينهما سوء تفاهم، إلا أنه لحسن حظ جيرفاس لم تقل كلمة في هذا الصدد في التحقيق.
قالت الأميرة: ولكن هل عرف شيء من أسباب سوء التفاهم؟ فهزت مسز بوينتون كتفها وقالت: يقال إنه كانت هناك مريبة لأولاد اللادي موري أخت الشقيقين، وكان كلاهما عاشقاً لها، وأن جيرفاس قتل أخاه مدفوعاً بدافع الغيرة. ويرجح أن الرصاصة خرجت من غرفة السير جيرفاس. وقد بقي السير جيرفاس في انكلترا بعد وقوع الجريمة ببضعة شهور، ثم سافر وأملي ألا يعود، لأنه إن عاد فسنظطر إلى إخلاء هذا المنزل له وهو خير مكان يوافقنا.
فابتسمت الأميرة وابتسم المستر ليندهام، وقالت الأولى: ولكن ما رأيك في أنالسير جيرفاس قد عاد وأنه جالس بجانبي الآن؟.
فقالت مسز بوينتون وقد بدت عليها علائم الدهشة والانزعاج: المستر ليندهام؟.
فأححنى الرجل رأسه وقال: إنني أعتذر على انتحالي اسماً مستعاراً، ولكن كان لدي أسباب هامة تضطرني إلى زيارة الأماكن المجاورة، وأنتم تدركون عذري إذا لم أستطع الظهور باسمي الحقيقي. وإن غياب ثمانية أعوام وإرسال اللحية لجديران بتغيير الهوية.
قالت مسز بوينتون: ولكن الأميرة عرفتك عند ما رأتك.
فقال: نعم.
وقالت الأميرة: ربما كنتم قد سمعتم بأنني قضيت عامين مربية قبل زواجي من الأمير برليتز، ولكن الذي لا تعرفونه على ما أظن هو أنني كنت مربية في نفس هذا المنزل. وربما أدهشكم أن السير جيرفاس الذي يتهم بأنه قتل أخاه قبل من أجلي لم يكلمني أية كلمة قبل الآن.
ساد الصمت وقد كانت القرائن كلها قوية ضد جيرفاس والأميرة. ولكن لم تظهر على واحد منهما أدلة الإجرام. واستأنفت الأميرة الكلام فقالت: (وقد استكشفنا أن في الغرفة التي كنت أقيم فيها مكاناً سرياً في الحائط بينها وبين الغرفة المجاورة؛ وهذا المكان هو المخبأ الذي أطلقت منه الرصاصة.
وقالت: إنه وصل إليها بالنمسا وإلى السير جيرفاس في الاسكا خطابات من مجهول فاضطرا إلى المجيء وإلى دخول المنزل للبحث عن هذا المكان السري. وقالت: إن استكشافهما كان خطيراً. ثم اطلعت صاحبة المنزل على دفتر المذكرات وقالت: إنه دفتر مذكرات السير جوليس لترانج وصيف السير نوليس فيلتون، وهو يعترف بأن كتمانه الحقيقة يكاد يصيبه بالجنون، ويظهر أنه كان قريباً جداً من الجنون لما كتب هذه المذكرة. وهذا نصها فاقرئيها!.
فقرأت مسز بوينيون:
(سبتمبر - لا أستطيع الاحتمال فوق ذلك. إنها كانت تغض النظر عني لأني وصيف ولا تعني بغير السيد، وقد قتلته وألصقت التهمة بالسير جيرفاس).
وقرأت مسز بوينتون بعد ذلك الخطاب الذي وصل إلى الأميرة والخطاب الذي وصل إلى السير جيرفاس فوجدتهما بخط واحد، وهو نفسه خط صاحب المذكرة. وقد روى في الخطابين أنه في المستشفى في حالة الاحتضار.
فقالت: (هذه أنباء غريبة، ولكن أخشى ألا أستطيع تجديد عقد الإيجار).
فابتسم السير وقال: (هذا يتوقف على رغبة الأميرة).
عبد اللطيف النشار