المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 423 - بتاريخ: 11 - 08 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٢٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 423

- بتاريخ: 11 - 08 - 1941

ص: -1

‌الرحمة قوة

للأستاذ عباس محمود العقاد

(. . . وبعد فإنني أحد دارسيك، ومن طليعة المعجبين بغزارة علمك وقوة أدبك وسموه، ووفرة إنتاجك وتنوعه، لهذا لا احسبني متطفلاً إذا ما سألتك سؤالاً في موضوع طالما فكرت فيه، وهو: أصحيح ما يقال إن الرحمة من أخلاق الضعفاء، وإنها أبعد الصفات عن الأقوياء، وإن الإنسان كلما ازداد قوة ازداد قسوة؟. . . فهل تتفضل يا سيدي بالإجابة على سؤالي هذا على صفحات مجلة الرسالة الغراء لأنني من المدمنين قراءتها؟ ولك مني جزيل الشكر سلفاً. . .)

بغداد - شارع الرشيد

عبد الكريم جواد المحامي

وجوابي على سؤال الأستاذ الفاضل أن الرحمة قوة وليست بضعف، لأن الرحيم يعطي من فيض نفسه من يحتاجون إلى رحمة، ولا تملك النفس فيضاً تعطيه إلا وهي ممتلئة تستغني عن جزء من ذخيرتها لإسعاف غيرها. وليس هذا من شيمة الضعفاء.

والرحمة كلاءة ورعاية، ومن يكلأ غيره ويرعاه فليس هو بالضعيف.

وينبغي أن نرجع إلى الطبيعة، لنعلم ما هو طبيعي.

ينبغي أن نرجع إلى الطبيعة لنعلم الخلق الأصيل والخلق الذي هو عاهة طارئة أو نقص كمين.

والطبيعة تقول لنا إن الرحمة ركن من أركانها في أداء غرض من أهم أغراضها، بل هو أهم أغراضها على الإطلاق، وهو حفظ النوع وتجديده، وتعهد الأبناء الصغار إلى يوم استغنائهم عن معونة الأولياء الكبار.

فكل والد رحيم بغير اختياره: رحيم باختيار الخالق الذي خلقه وسخره لحفظ نوعه.

وكيف يقال إن الطبيعة تعتمد على الضعف في طلب البقاء؟ أو تعتمد على الضعف في غريزة أصيلة يوشك أن يتلاقى فيها الإنسان وسائر الأحياء، ممن صعد ولو قليلاً على سلم الارتقاء؟.

ص: 1

لو قلنا إن القسوة عجز وليست بقوة لما أخطأنا الدليل على ذلك من طبائع الأحياء التي عهدت فيها الضراوة وخلت طبائعها من الرحمة وما يماثلها.

فإن الوحوش المشهورة بالقسوة لا تعرف وسيلة غير البطش والضراوة لتحصيل العيش ومكافحة الأعداء، وكل بطش فهو إلى القوة الآلية أقرب منه إلى الخصال النفسية والملكات العقلية. فالفرق يسير بين صدمة الحجر وضربة الوحش من هياجه، فهي - أي القسوة - أدنى الوسائل التي لا وسيلة دونها، ثم تترقى وسائل الأحياء درجة بعد درجة حتى يكون استغناؤها عن القسوة بمقدار ارتقائها في تلك الدرجات.

ومن ثم يصح أن يقال إن القسوة عجز وفقدان وسيلة، وإنها من البدائيات التي يوشك أن تلحق بالآلة والجماد.

فالإنسان يقسو لأنه عاجز عن الرحمة، ولا يناقض قولنا هذا قول المتنبي:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعله لا يظلم

فإن بيت المتنبي معناه أن الظلم أيسر الوسائل وأقربها: أيسرها لمن لا يتيسر له ما هو أصعب منها. وهذا هو بعينه ما نذهب إليه حين نقول إن القادر على الصعب لا يهبط إلى ما دونه، وإن القادر على الرحمة مستغنِ عن التقتيل والتخويف.

إن الماء لا يحتاج إلى تدبير وإتقان لينحدر من الأعلى إلى الأسفل.

ذلك هو أيسر الطرق أمامه وأقربها إليه؛ ولكنه محتاج إلى التدبير والإتقان ليصعد من الأسفل إلى الأعلى.

فالظلم كانحدار الماء قريب؛ والرحمة كارتفاع الماء صعب ولكنه أدل على الاقتدار.

ومن آيات الطبيعة التي نستفيدها منها في هذا المعنى أن الرحمة تزداد في الأحياء كلما ازداد الشبه بينها وبين الإنسان في الغريزة الاجتماعية.

فالرحمة معروفة بين الحيوانات الاجتماعية في العلاقة بين والدها ومولودها، وفي العلاقات بين الفرد منها وسار أفرادها، وفي العلامات بينها وبين الآدميين.

ومؤدي هذا أن الرحمة وغريزة الاجتماع متلازمتان، فكيف تكون مرضاً وهي أصل من أصول الأخلاق الاجتماعية؟ وكيف يتركب في البنية ما هو مرض أو انحراف مناقض لأساس التكوين؟

ص: 2

على أننا خلقاء أن نميز بين الرحمة وبين الاضطراب الجسدي الذي يعجز صاحبه عن احتمال المؤلمات والمشقات، فيخور ويبكي حين يرى ما يؤلم أو يتعرض لما يشق عليه. وليس من الضروري مع هذا أن يرحم المتألم أو يعينه أو ينفعه بعطفه، وإنما هو عجز عن احتمال الآلام المشهودة كالعجز عن احتمال الهواء والاضطلاع بالمتاعب، وبين الرحمة وهذا النقص بون بعيد.

إن المرأة الهستيرية التي يغشى عليها حين ترى جريحاً يتألم، ليست بأرحم لذلك الجريح من الطبيب الذي يفتح جراحه ويزيده ألماً على ألمه

فالذين يزعمون أن الرحمة ضعف أو مرض، إنما يلتبس عليهم الأمر بين هذه الحالة الهستيرية التي هي ضعف، وبين الرحمة التي هي قوة، لأنها حماية لضعف الآخرين.

وإن الرجل الذي يبطش بالضعفاء لأقوى من الضعفاء؛ ولكن أقوى منه وأرجل منه وأرفع منه ذلك الرجل الذي يغلب الأقوياء لينقذ الضعفاء من أيديهم، ويريهم قوة أكبر من قوتهم، لأنها لا تكتفي بالقسوة على الضعيف، ولا تحجم عن زجر القوى، وزجره أحوج إلى القوة وأدل على الاستغناء.

وإنما رجل الدنيا وواحدها

من لا يعوّل في الدنيا على رجل

نعم، وأرجل منه من يعول كل الرجال عليه، ومن يبسط جناحيه على كل من حواليه.

وآية أخرى من آيات الطبيعة في هذا المعنى أنك لا تجد مزدرياً بالرحمة إلا وهو محتاج إلى رحمة الرحماء.

(فردريك نيتشه): رسول القسوة وأكبر الناعين على الرحمة في العصور الحديثة، قد عاش سنوات ولا سند له في الحياة غير رحمة امرأة عجوز، وهي أمه!

وروى عن الوزير ابن الزيات أنه كان يقول: إن الرحمة خور في الطبيعة. فلما نكب وعذب بالتنور الذي كان يعذب به الناس إذا به يرثي لنفسه ويستدعي الرثاء لها ويجري في ضعفه أمثولة لمن يسترحمون الأقوياء والضعفاء، و (لم يزل - كما جاء في الطبري - أياماً في حبسه مطلقاً، ثم أمر بتقييده فقيد وامتنع عن الطعام، وكان لا يذوق شيئاً. وكان شديد الجزع في حبسه كثير البكاء قليل الكلام كثير التفكير. . . وكان قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول لنفسه: يا محمد يا أبن عبد الملك! لم تقنعك النعمة والدواب الفُرْهُ، والدار

ص: 3

النظيفة، والكسوة الفاخرة، وأنت في عافية، حتى طلبت الوزارة! ذق ما عملت بنفسك. . .)

ومن شوهد عليهم من القساة أنهم كانوا أصلب من ذلك عوداً وأخشن مساً وأقرب إلى التمرد والعتو والأنفة من الشكوى فكثيراً ما يكون تمردهم ضرباً من التخبط، أو عرضاً من أعراض التشنج، أو ثورة عصبية هي مرض لا شك فيه كمرض الخنوع والولع بالشكاية وإن اختلف مظهرهما كاختلاف النقيضين.

فالذي نراه من المشاهدات الطبيعة أن القسوة هي العجز والمرض والنقصان، وأن الرحمة هي القدرة والفضل والزيادة.

فالرحيم عنده ما يكفيه ويزيد على كفايته حتى يكفي غيره ويتناوله بالعناية والحماية!

والقاسي عنده من القوة ما يغلب به الضعيف، فهو في الدرجة التالية من الضعف ليس دونه في مراتب القوة إلا فاقد القوة والعاجز عن كبحها.

وهذا بلا ريب غير قسوة الرحمة التي يقول فيها حكيم الشعر العربي:

وقسا ليزدجروا ومن يك حازماً

فليقس أحياناً على من يرحم

فالرحيم الذي يقسو هنا لينفع بقسوته من لا تنفعهم رحمته، إنما هو أرحم وأقدر على الرحمة، لأن رحمته لا تغلبه ولا تقوده غير واع ولا متدبر حتى يصنع باسم الرحمة ما هو نقيضها أو ما هو قسوة معيبة فيما تنتهي إليه من الإيذاء.

وكفى بالرحمة أنها فتح إنساني في عالم الحياة، ترقى إليها الإنسان وحده بين المخلوقات الحية، وشابهته فيها بمقدار ما صعدت بهم الطبيعة في مرتقاه.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌كيف يكتب التاريخ؟

للدكتور حسن عثمان

مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب

- 1 -

مقدمة

الشرق القريب - ومصر على وجه الخصوص - حديث العهد جداً بدراسة موضوع طريقة البحث التاريخي وكتابة التاريخ بالمعنى العلمي الحديث؛ وكلية الآداب بالقاهرة تكاد تبدأ هذا النوع من الدرس الذي أرجو أن يتسع ويطبق عملياً في المستقبل القريب. وفي صيف 1939 أصدر صديقي الدكتور أسد رستم كتاب (مصطلح التاريخ) نتيجة خبرته في تدريس طريقة البحث التاريخي سنوات عديدة في جامعة بيروت الأمريكية. وابتداءً من نوفمبر 1940، أخذ الدكتور محمد مصطفى زيادة الأستاذ المساعد لتاريخ العصور الوسطى بكلية الآداب بالقاهرة ينشر سلسلة من المقالات بمجلة (الثقافة) عن صناعة التاريخ في مصر، فرأيت أن أساهم أيضاً - بعد أن فتحت لي (الرسالة) صدرها الرحيب - بنشر بعض مقالات عن هذا الموضوع، لاحتمال تقديمه بعض النفع للراغبين في دراسة وكتابة التاريخ. ولإعطاء القارئ فكرة عن طريقة كتابة المؤلفات التاريخية التي يتداولها؛ والتاريخ لا يدرس عفواً، ولا يكتب اعتباطاً؛ وإنما يدرس لأغراض وفوائد، ولا بد لكتابته من استعداد خاص ودراية وخبرة بطريقة البحث التاريخي.

ولماذا نحاول الوصول إلى الحقيقة التاريخية؟ وما الذي نستفيده من دراسة التاريخ؟ لكي نصل إلى نتيجة معقولة، فلنبحث أولاً فيما هو التاريخ؛ فكلمة تاريخ مستمدة من اليونانية بمعنى بحث واستقصاء حوادث الماضي، أي تسجيل حوادث الإنسان منذ ظهر في الوجود، ومنذ بدأ يترك آثاره ومخلفاته على الصخر وعلى الأرض، حتى الوقت الحاضر. ونحن إذا تصفحنا أي كتاب عام عن تاريخ العالم، نجد أنه يتناول أوجه النشاط الإنساني المتنوعة في الزمن الماضي، فيشرح حوادث الحروب ومشاكل السياسة ومسائل الدين والفن والاقتصاد. . . وهو يحاول بذلك أن يعطي صورة للمجتمع الإنساني في حالة حركة مستمرة؛ وهي

ص: 5

حركة لا تتكرر ولا تعيد نفسها على نفس المنوال وفي نفس الظروف التي حدثت بها في فترة سابقة. نعم إنه قد تقع حوادث متشابهة، ولكن تشابهها لا يمكن أن يكون مطلقاً؛ والإنسان يجب أن يعرف تاريخه ككائن اجتماعي، فينبغي أن يعرف تاريخ تطوره وتاريخ آثاره في الزمن الماضي. وينبغي أن يدرس العوامل التي أدت إلى حدوث الغارات والحروب، وما لابس ذلك، وما خلفته من آثار؛ وأن يتبع مثلاً حركة الكشف الجغرافي في أواخر القرن الخامس عشر، وما ترتب عليها من تغيير طريق التجارة العالمي، وما ارتبط بذلك من هبوط سلطنة المماليك وجمهورية البندقية، وارتفاع شأن دول غرب أوربا كالبرتغال وهولندا وإنجلترا؛ وأن يدرس الأسباب التي أوجدت نوعاً جديداً من الأدب أو الفن وما إلى ذلك من أوجه النشاط الإنساني ومقومات الحضارة.

وحوادث التاريخ هي من صنع الإنسان في ظروف معينة؛ فينبغي أن يقرأ الإنسان وأن يدرس هذا التاريخ؛ فالعلاقة وطيدة بين حياة الإنسان وبين القرون والعصُر الماضية. ولا يمكن للإنسان أن يفهم نفسه وأن يفهم الحاضر بدون الماضي؛ ومعرفة الماضي تكسبه خبرة السنين الطويلة؛ والتأمل في الماضي يبعد الإنسان عن شخصه، فيرى مالا يراه في نفسه بسهولة من مزايا وأخطاء الغير؛ ويجعله ذلك أقدر على فهم نفسه وأقدر على حسن التصرف في الحاضر وفي المستقبل. ولكي ندرك أهمية معرفة الماضي ووجوب دراسة التاريخ، فلنفرض أننا استطعنا بوسيلة ما أن نقطع صلتنا بالماضي نهائياً، وأن نحرق دور الكتب وأن ندمر كل أثار العمران الراهنة، وأن ننسى أنفسنا؛ فماذا تكون عليه حال الإنسان وحال الحضارة؟ لا بد للإنسان في هذه الحالة من أن يعود ليبدأ من جديد ما كان قد بدأه منذ آلاف السنين من أوجه النشاط المختلفة لكي يصل إلى النقطة التي قطع فيها صلته بماضيه التاريخي، أو إلى ما يقاربها. فماضي الشعوب وماضي الإنسان حافل بشتى الصور، وهو عزيز عليه في كل أدواره، سواء عهود المجد والقوة، أو فترات المحن والكوارث؛ والأقوام الذين لا ماضي لهم ليسوا من شعوب الأرض المتحضرة. ومتى اقتنعنا بوجوب معرفة التاريخ والاستفادة منه، فينبغي إذاً أن يكتب هذا التاريخ، ويجب أن يتخصص لكتابته بعض الناس من أصحاب الاستعداد.

وليس كل من يحاول أن يكتب التاريخ يصبح مؤرخاً. فالمؤرخ ينبغي أن تتحقق فيه

ص: 6

الصفات اللازمة لكل من يشتغل بالعلم. ومن بين هذه الصفات أن يكون محباً للعمل جَلداً صبوراً فلا تمنعه وعورة البحث ولا المصاعب والعقبات مهما كان نوعها عن مواصلة البحث، ولا توقفه ندرة المصادر، ولا يصرفه عن عمله غموض الحقائق التاريخية واختلاطها، فيقضي الشهور والسنوات وهو يعمل ويرتحل من بلد إلى آخر بحثاً عن الحقيقة. ويلزم المؤرخ أن تكون له ملكة النقد، فلا يقبل أي كلام، ولا يصدق أية وثيقة إلا بعد الدرس والاستقراء، فيأخذ الصدق والحق ويطرح ما دون ذلك. والمؤرخ لابد أن يكون مخلصاً أميناً شجاعاً، فلا يكذب ولا ينتحل ولا ينافق، ولا يخفي الحقائق التي قد لا يعرفها غيره في بعض الأحيان، والتي قد لا ترضيه أو لا ترضي قومه؛ فإنه لا رقيب عليه غير ضميره. والمؤرخ ينبغي أن يكون بعيداً عن حب الشهرة، وألا يحفل بالكسب وبالألقاب وبالجاه؛ فإن الحقيقة التاريخية التي قد يكشف عنها تعدل كل ذلك أو تزيد. والمؤرخ ينبغي أن يكون قوي الشخصية، فيستطيع أن يكون آراءه بناء على الواقع التاريخي، ويعرضها علينا، فنلمس شخصيته خلال السطور. والمؤرخ ينبغي أن يكون صاحب إحساس وعاطفة وتسامح وخيال؛ فيدرك آراء الغير ونوازع الآخرين، ويحس ما جاش بصدور الناس من شتى العواطف، ويفهم الدوافع التي حركتهم في اتخاذ سلوك معين في الزمن الماضي، ويشارك رجال الأمس مواقفهم في ساعات التاريخ الفاصلة، في فترات الانقلاب، وفي عهود المقاومة العنيفة، وفي ظروف النجاح والفشل؛ لأن المؤرخ المجيد يجد في كل هذه الحوادث صدى نفسه، فتتجلى فيه روح العلم والفن، ويبعث التاريخ حياً، ويحيا في التاريخ، ويعيش للتاريخ.

وإذاً فما هو الطريق الذي نتبعه لكتابة التاريخ؟ وما هي طريقة البحث التاريخي؟ طريقة البحث التاريخي عبارة عن العملية والمراحل التي يصل خلالها الباحث إلى الحقيقة التاريخية، بجمع الأصول والمصادر، ودراستها ونقدها، واستخلاص الحقائق وتنظيمها وعرضها عرضاً تاريخياً معقولاً. إنما نلاحظ بأنه ليس المقصود بالحقيقة التاريخية إمكان الوصول إلى معلومات صحيحة على الإطلاق؛ فالحقيقة المطلقة غير مستطاع الوصول إليها فيما يتعلق بالوقت الحاضر فضلاً عن الماضي، لظروف مختلفة كالأغراض والمصالح، أو لضياع الأدلة وانطماس الآثار. فالحقيقة التي يصل إليها الباحث في التاريخ

ص: 7

صحيحة نسبياً، وكلما زادت نسبة الصدق وكبر عنصر الحقيقة أصبح التاريخ تاريخاً بالمعنى الصحيح.

وإن من يدرس العلوم الطبيعية يستطيع أن يشاهد بنفسه التغيرات والتحولات التي تصيب المادة في معمل التجارب. إنما دارس التاريخ لا يستطيع أن يضع الحوادث أمامه في بوتقة التجارب؛ ولابد له من وسائل أخرى تؤدي به إلى الغرض. فينبغي أن تتوفر لديه الأصول والمصادر التي يستخرج منها الحقائق التاريخية. وهذه المصادر عبارة عن آثار ومخلفات الإنسان، وهي على أنواع مختلفة؛ فمن ذلك بقايا جسم الإنسان نفسه، وملابسه وطعامه ومساكنه وأسلحته وأدواته التي كان يستخدمها أثناء حياته، ونقوشه على الأحجار وكتبه المخطوطة والمطبوعة، وصوره ورسومه وتماثيله ومبانيه، ولغته وآدابه وقوانينه وعاداته وتقاليده. وآثار الإنسان كلها تحمل بين طياتها أسرار الحوادث وخفايا التاريخ؛ وهي تظل أبداً صامتة لا تبوح بأسرارها، إلى أن يتمكن الإنسان بالدراسة الطويلة، وبالتأمل العميق من أن يحملها على النطق، وعلى التعبير عن أسرارها وخفاياها. وينبغي ألا يفوتنا أن بعض آثار الإنسان تشيد للمبالغة وللتعظيم، مثل أقواس النصر التي أقامها نابليون في بعض الولايات الألمانية، والتي لا تدل على أنه قد أصبح سيد أوربا على الدوام، أو المدالية التي ضربها تذكاراً لنزوله إنجلترا، مع أن ذلك لم يحدث تاريخاً؛ فهذه المدالية ستبقى كذكرى لأمل لم يتحقق. أو تمثال الرجل الذي يقتل الأسد، مع أن ذلك لم يحدث إلا نادراً، والعكس هو الشائع. ولو استطاع الأسد أن يصنع تمثالاً لفتكه بالإنسان لصحّ الوضع. وأحياناً قد يعثر الباحث في التاريخ على وثائق مزيفة ومنتحلة، سواء بقصد الدعاية أو الدفاع عن فكرة معينة أو من أجل الشهرة أو للاتجار والكسب. وعلى ذلك ينبغي أن تدرس آثار الإنسان بروح النقد والحذر.

وتتحد قيمة التاريخ المكتوب بناء على بعض الأسس العامة. فأولاً نوع المادة التي استقى منها الباحث معلوماته، هل هي أصول أو هل هي نقوش قديمة معاصرة، وثبت صحة معلوماتها، أو هل هي وثائق ومراسلات سياسية مستخرجة من دور الأرشيف وثبت أنها غير مزيفة وأن معلوماتها صحيحة، أم أن المادة التي جمعها الباحث مستمدة من مجرد مراجع ثانوية ليست لها قيمة كبيرة. وثانياً قدرة الباحث على نقد ما تحت يده من الأصول

ص: 8

والمصادر. ويختلف الباحثون في النقد وفي استخلاص الحقائق على حسب اختلافهم في الفهم والتفسير والاستنباط. وأحياناً يضع الباحثون في التاريخ افتراضات مختلفة لمحاولة فهم حركة تاريخية مهمة مثل حركة النهضة في إيطاليا أو الثورة الفرنسية. وأحياناً يختلف الباحثون في تقدير معنى الحوادث من ناحية السياسة أو الخلق. وأحياناً يكتبون متأثرين بروح العصر السائدة مثل حركة الانقلاب الصناعي أو نمو الديموقراطية في أوربا؛ إنما كل هذه الاختلافات ضرورية لأنها تقدم آراء ووجهات نظر مختلفة عن عصر معين؛ وهي تعطي للتاريخ الحركة والحياة، وتجعل البحث التاريخي مستمراً بنشاط. وعلى العكس، عدم الاختلاف بسبب الجمود والركود. وثالثاً مطابقة التاريخ للواقع، وبعده عن التمييز والأهواء والنوازع المختلفة؛ فلا تعتبر تاريخاً صحيحاً الكتابة التي يطعن فيها مسيحي على المسلمين في زمن الحروب الصليبية؛ أو العكس، فالكتابة التي تخدم غرضاً معيناً قد تعتبر تاريخاً لنوع من التفكير أو النوازع الإنسانية، وإنما لا يمكن أن يعتبر ما جاء بها معبراً عن الحقيقة التاريخية بالنسبة لما تناولته من الموضوعات.

وبمعنى آخر يمكننا أن نقول إن قيمة التاريخ المكتوب تتحدد بناء على ملكات الباحث في التاريخ واستعداده، وبناء على مدى ثقافته، وعلى درجة إلمامه بطريقة البحث التاريخي. وكثير من كتب التاريخ تعتبر من أمتع ثمرات العقول، لنضوج عقلية المؤرخ، وخبرته الوطيدة، ونجاحه في إعطاء وحدة جامعة واضحة، بعكس الكثير من كتب التاريخ أيضاً التي يكتبها من لا يفهم التاريخ، ومن لا يملك ملكة النقد؛ فلا تزيد عن مجرد معلومات موضوعة بين دفتي كتاب. ومثل هذه الكتب غير جديرة بأسمائها، وهي قد لا تساوي الورق الذي طبعت عليه.

(يتلى)

حسن عثمان

ص: 9

‌بمناسبة الغارات الجوية على الإسكندرية:

دار الوجد والمجد

للدكتور زكي مبارك

(لو عاش (شوقي) إلى أن شهد ما تعاني الإسكندرية من

كوارث وخطوب لواساها بأطايب الشعر البليغ. فإلى روحه في

دار الخلود أهدي هذا القصيدة)

زكي مبارك

بأهلِ إسكندريةَ بعضُ ما بي

من الأحزانِ للثغر المصاب

أَدارَ هَوايَ ما قلبي بناسٍ

هُيامي فوق أثباجِ العُباب

وهل يَنسى أخو كرمٍ وعهد

رحيق الراحَ يُمزجُ بالرُّضاب؟

فإن تكن الكوارثُ آثماتٍ

صببْن عليك أسواطَ العذاب

فلن ينسى لك التاريخُ عهداً

ضحوكَ الوجه مرهوب الجناب

حَمَاكِ اللهُ يا دارَ التنادي

إلى الهيجاءِ أو دارَ التصابي

ألم تمرح بساحتك الجوازي

لوَاعبَ في حمى الأُسْد الغِضاب

ألم تُلقىْ مع الأقدار يوماً

كتائب من لحاظ أو حراب؟

وكيف يطيبُ للدنيا وُجودٌ

إذا هُدّدتِ ظلماً بالخراب؟

وأين تجولُ أفراسُ المعالي؟

وأين تصول أحلامُ الشباب؟

عروسَ البحر، والدنيا سفينٌ

تروَّع بالقواصف والضباب

أعندَك أن دارَ المجِد تنجو

على الأيام من كُرَب الصَّعاب؟

أعندَك أن في الدنيا رياضاً

تصان من الأفاعي والذباب؟

عروسَ البحر، ما هذى الرزايا

تصب على بنيك بلا حساب؟

أكنت جنيت، والدنيا مجالٌ

لمفروض الثواب أو العقاب؟

جمالكِ فاتنٌ، والحسن ذنبٌ

لأهل الحسن في شرع الذئاب

ص: 10

فما شكواكِ من ظلماَء طالت

وتلك جناية المجِد اللباب؟

عروسَ البحر، يا مهوى فتوني

ويا مَغْنى أمانيَّ العِذَاب

عُقلتُ بأرضك العزَّاء عاماً

فكان أعز عام في شبابي

دخلتُك عانياً في أسر ليل

أصمِّ القلب زنجيِّ الإهاب

فأقبلَ نورك الروحيْ يسرِي

إلى أرواحنا من كلِّ باب

رأى العقْالُ أن نحيا أسارى

حياةَ السيف في سُدَف القِراب

فلا ندري لوجه البحر لوناً

سوى الموهومِ من لمع السراب

ولا نقْتات من زاد الأماني

سوى المظنون من يوم المآب

فهل سمعَ الشقيّ بما أفاَءتْ

علينا إسكندرية من ثواب؟

هَديرُ البحر كان يعجّ عمداً

ليطربنا على بُعْد المثاب

وحَب الرمل صار لنا مهاداً

مُطرَّزة بأزهارِ الروابي

فأمسى الاعتقال على اجتواه

رخيَّ القيد مأنوس الرِّحاب

عروس البحر، حدَّتني شهودٌ

بأن الشط صارَ إلى تباب

فلا غيْداءُ تخطرُ في حِماهُ

كرقص البدر من خلف السحاب

ولا صَبٌّ خَتُورُ العهد يمشي

على جَنباته مَشْىَ الحُباب

ولا صهبْاء يحْسُوها بنوهُ

وقد قُبستْ من الذهب المذاب

إذا طافتْ بهم هاموا فخفُّوا

لَمِقبول المجانة والدِّعاب

وأَمْسواْ والكواِكب في عُلاها

لهم أسلابُ فتكٍ وانتهاب

سُلافٌ صانها (باكوسُ) عما

يشوبُ الراحَ من إثمِ وعاب

ألمْ يثقل على حُكماءِ قومي

وقد عاقَرتها وِزْرُ اغتيابي؟

أمير الشطِّ كنتُ فأين عهدي

يرْعى الحسن في الشطِّ العُجاب

وأينَ رِمَالهُ مني وكانتْ

مناسِكَ صَبْوتي في كلِّ (آب)

إليها كان حَجِّي واعتماري

وفيها كان خَتْلي وآْختِلابي

فكيف أَذوقُ للصبَّوات طعماً

وعن عَرَفاتها طال احتجابي؟

ندامَي البحرِ، سوف أعود يوماً

لأُطفئ ما بقلبي من لؤاب

ص: 11

نشيدي في التصوف كان لحناً

نقلتُ صداه عن قصف العباب

سوايَ يرى الوجود إن اجتلاه

سطوراً ثاوِياتِ في كتاب

ويجْلوه لوِجْدَاني ورُوحِي

إذا ما شئتُ إظلالُ السحاب

وهل كانت حياة الناس إلا

قلائد صاغها رَبُّ الرَّباب

عشقتُ البحرَ والصحراَء عشقاً

بهِ طال اندفاعي وانجذابي

أُطِلْ على الفضاء فتزْدَهيني

رِحابٌ غارقاتٌ في رِحاب

وأنظُر للوجودِ فلا أراهُ

سوى خمر تعاقَر أو رُضاب

إخلائي هناكَ، حدِّثوني

حديث (الثغر) وانتظروا إيابي

أَفوقَ رُبوعه غامتْ سماءٌ

مؤَججةٌ بأقباسِ اللهُّاب

وما القومُ الذين عَدَوْا عليه

كعدوان الذباب على الشراب؟

أكانوا جِنَّة صُمَّا فعاثوا

به عَيْثَ الأراقم بالوِطاب

أكان (النسر) في التحليق أدْنى

إلى الإسفاف من ذاك (الغراب)؟

وما الألمانُ إلا قومُ بَغْيٍ

أثيمِ الجِدْ مذمومِ القِطاب

نِطاحٌ كله سفهٌ ولؤْمٌ

ولو كَرِه المصانِع والمحابي

أحقٌ أن نادى (الثغر) أقوى

وأقفر من أحاديث الصحاب؟

فلا (النشارُ) يسأل غير صاحٍ

ولا (شيبوب) يحلم بالجواب؟

(وأبو شادي) أفاقَ، فَمن بَشيري

برَجْعِ الأمْنِ للثغر المَهاب

وكيف يَعيشُ روُحٌ كان أُنسىَ

وإنْ ألِفَ اْللجاجةَ في الغِضاب؟

أُكاتِمُ حبهُ قلبي وأَمضي

فأُعلنُ بُغضه عند العتاب

هو الدنيا: وقد جُنتْ فصاغت

رحيقَ هواه من شهد وصاب

بأهل إسكندرية بعضُ ما بي

من الأحزان للثغر المُصاب

سمعتُ حديثَ نكبتهم فأمسى

فؤادي في انصداعٍ وانشعاب

ملائك من أديم الخلد صيغوا

لِيوْم الوْجِد أو يوم الغلاب

أعزّ البحرُ أنفسهم فعزوا

فهم قوم اعتلاء واصطخاب

هُمُ الحراسُ للوطن المفدّى

من العادينَ أشباه القُلاب

ص: 12

فكيف تبددوا وأدال منهمْ

مديل البأس من وكر العُقاب

تُساق إليهم الأقوات، هلاّ

تساق إليهم عُددُ الحراب

أغيثوهمْ بِسَيْفٍ لا بزاد

فهم خلف القساوة الصلاب

أمِدوهم، إذا شئتم، بجيش

وَقاح الوجه منزوعِ النقاب

فما حَفظ الديارَ سوى حسامِ

به ظَمأٌ إلى يوم الضِّراب

أجب (عبد القوي) وأنت شهم

صريحٌ لا يُداورُ في الجواب

أأنت ترى (المخابئ) واقيات

وهُنْ أذل من غار الضّباب؟

وما شرفُ الفتى وقد استنامتْ

جوانحهُ إلى مثوى الهوابي

لنا ماضٍ نَسيناهُ فِضعْنا

ضَياعَ التبر في جوف التراب

لقد كنّا، وكنا، ثم كنا

أَداة الفتك من ظُفر وناب

ركزنا الرعبَ في مهج الضواري

فكيف تروزنا مهجُ الذئاب؟

لوادينا القوىّ عَنتْ وُجوهٌ

عززن بالانتساب والاكتساب

ألمْ ندفِنْ بِوادينا قُرُوماً

أرادوا الشرب من أمواه (حابي)

فكيف نكولنًا عن ردع قوم

لئام البغي منكودي الإصاب

هُمُ ظنوا الكناية زاد يوم

كظن النمل في نسف الهضاب

فإن فازوا فسوف نكون منهم

مكان البحر من لهب الضوابي

وسوف نظل نحن - كما فُطرنا -

أباةَ الضّيمِ أحرار الرقاب

عركنا الدهر جيلاً بعد جيل

وكابَدْنا الألوف من الصعاب

فما هُنْا على الأقدار يوماً

ولا أمستْ بوارقنا نوابي

ألم نشرقْ على الشرق المعنّى

فندافع عنه آصار الضباب؟

بنا وثقتْ شُعوب لم تواجهْ

بروق الغرب إلا في ارتياب

بنا استهدت بصائرُ لم نرُضها

خداعاً بالمواعيد الكِذاب

كدَأُبِكمُ وقد مرنَتْ نُهاكمْ

على ستر الخيانةِ بالخلابِ

أكان العلمُ في عالي سناه

ذريعةَ الاستراق والاستلاب

أروني. مِنَّه أسلفتُموها

بلا نهبٍ يرادُ ولا اغتصاب

ص: 13

طلائعً كان عْلمُكُم ليومٍ

يهونُ بجنبهِ يومُ الحساب

ولم يكُ علمُنا إلا نظيراً

لضوءِ الشمس يزهد في الثواب

أأنتمْ تُفتَنون بما ملكتمْ

من العدد النذيرةِ بالخراب

ولا نُزهي بآراء صِحاح

هي المنشود من فصل الخطاب

فإن تخْلد مآثِرنا وتسلم

على التاريخ من شُبَه المعَاب

فذاك لأنها آثار قومٍ

كرام الروح أطهارِ الإهاب

لنا الخلدُ الذي لن ترزقوهُ

ولو أوتِيتمُ ملك السحاب

فخبُّوا في المطامع كف شئتمْ

وخوضوا القاتمات من العقاب

ورُودوا الأرض في شرقٍ وغربِ

بكبِر الليث أو زهوِ الغراب

وصولوا آثمين بنار حرْبٍ

تحيلُ المزهرات إلى يَباب

فسوف تُروْنَ بعد مدىً قصيرٍ

فرائسَ للمحاقِ وللذهاب

بأهل إسكندرية بعض ما بي

من الأحزان للثغر المصاب

أَتِلكَ قيامةٌ قامتْ فدكّتْ

حصون البأس من تلك الطوابي؟

فمن كهلٍ سديد الرأي يُمسي

لوقعِ الهولِ مفقودَ الصواب

ومن رَشِأ تُصيِّرُهُ الرَّزايا

وقِيذَ الشيب في شرخ الشباب

ومن عذراَء يلفظها حمِاها

فنخرجُ للبلاءِ بلا نقاب

قوارع لم تقعْ إلا بأرضٍ

يقارعُ أهلها وقدَ الحرابِ

فما آثامُ أهلِ (الثغر) حتى

يُشنَّ عليهمُ ويلُ العذاب؟

مضت زُمرٌ إلى الأرياف منهم

مُضى الأُسْد من غاب لغاب

فكيف استقبلوا - بعد ارتقاه -

جشيبَ العيش في تلك الشعاب؟

أمِن بعد الحسايا ناعمات

يكون بساطهم متن التراب؟

إلى جلواتهم في الصيف كانت

تزفُّ أطايبُ الحسن اللُّباب

وفي داراتهم كان التنادي

إلى الصبَّوات في الشط الرغاب

فكيف مضواْ حيارَى لم يثوبوا

إلى زادٍ يعدُّ ولا ثياب؟

وكيف غدواْ بهذا الصيف صرعْى

لمشئوم الشتاتِ والاغتراب؟

ص: 14

كذاك العيشُ بؤس بعد لين

وشهدٌ يستقي من بعد صاب

ومن عشق السلافة في صفاها

أحب لحبها رنق الصُّباب

عروسَ البحر، نسرف إن رأينا

حياتك في المزاح وفي اِّللعاب

وكيف وفي معاهدك الخوالي

تسابقت العقول إلى الوثاب؟

بكل محلة وبكل أرض

مآثر منكِ طيبة النصاب

وما روما وأثينا إذا ما

تبارى الفاخرون بالانتساب؟

منار العقل كنت بلا امتراء

ونار القلب كنت بلا ارتياب

بكى التاريخ من عهد لعهد

مصاب العلم في (دار الكتاب)

فهل كانت بدائعها لقوم

أجانب عن مرابعك الرحابِ؟

بَناِك أسكندَرٌ فيما بَناهُ

كذلك قِيلَ رَجماً بالمغاِب

ولو أَصغى أُلو الألباب يوماً

لَهِمس الوحي في تلك الرَّوابي

لآمَنَ فِتيةٌ منهم برأْي

يَخالُك صادقاً (بِكر العُباب)

وهل (فِينوسُ) عندَ مُرِّبيها

سوى (راقودَ) في أحلام (حابي)؟

لِ (كيمي) أنت يا دار التنادي

إلى الهيجاءِ أو دارَ التصابي

لِ (كيِمي) أنت من أيام نوح

توارثك أينم عن خير آب

مَضى عهدُ القياصر في انزعاج

بأرضِ إسكندرية وانقلاب

بلادٌ لم تكن إلا مُجالاً

لِمشبُوب الصِّيال والاحتراب

بجمّر الثورة الحمراءِ يُغذَى

بَنوها لا بزاد أو شراب

وجاَء الفتحُ فانقادوا لقومٍ

مساكنهم بصهوات العراب

هوَ الإسلامُ طَهّرهم فأضحواْ

كماءِ المزْن في شُعَب اللِّصاب

فهل يَدري المؤرخُ كيف صاروا

طلائعَ للجهادِ وللغلاِب؟

عليهمْ عول الإسلامُ فيما

أرادَ من المغاربة الصِّلاب

فأموا الغربَ يحرسهم تقاهم

وقد مشت الملائك في الركاب

وحلوا عادلين به كراماً

حلول الغيث بالبقع الجداب

فلما أنْ هوت شمس المعالي

بأندلسٍ ولاذتْ بالحجاب

ص: 15

تقاطر أهلها يبغون حصناً

يقيهم شر أيام التباب

إلى جفن الحمى بالثغر عادوا

كما عاد الجراز إلى القراب

أتاريخاً يحبِّره قصيدي

لماضي (الثغر) في عهد الشباب؟

وما الشمس المضيئة إن حكتها

لرائيها خيوط من لعاب؟

عليك إسكندرية أَجّ حزني

فطار تجلدي وهوى صوابي

إذا فكرت فيك غلت دمائي

وآذن جمر حقدي بالتهاب

ألا سيف أجرده وأمضي

لأدفع عنك عادية الذئاب؟

ألا جيش قوي البطش ضار

يضيق عداك أكواب العذاب؟

سأصمت كارهاً، والصمت حيناً

يعدّ من البراعة في الجواب

زكي مبارك

ص: 16

‌من الأدب الحضرمي

ابن شهاب العلوي

للأستاذ علي عبود العلوي

(السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين العلوي شخصية بارزة في سماء الأدب الحضري تألق نجمها من أواخر القرن الثالث عشر الهجري إلى أوائل العقد الخامس من الرابع عشر.

وقد تزعم الحركة الأدبية بحضرموت وهو لم يتجاوز العقد الثاني من العمر ونهض بحضرموت في عالم الأدب بعد أن كان حظها من النهوض فيه قليلاً.

ولئن تغلبت عليه الناحية العلمية فاستأثرت منه بالتفكير وقطعت من حياته جزءاً عظيماً في التأليف، وأرغمته أن يترك لنا ذخيرة في العلم وثروة كبيرة جليلة المقدار تقارب الثلاثين مؤلفاً، فأشهد أنه فوق هذا كان الأديب بالطبع، والأدب سلوته الوحيدة وثروته التي لا تنفذ، ورأس ماله العظيم.

ولو وجد في بيئة شاعرة لكان منه أديب كبير تفاخر به العالم.

قرأت ديوانه منذ ثلاث سنوات وعلقت عليه مذكرات يصح أن يستقل بها كتاب خاص وهذه الكلمة من إحدى فصوله.

زار ابن شهاب مصر والعالم العربي والإسلامي عام 1303هـ وألهمه جو مصر بست عشرة قصيدة.

ولد الشهاب العلوي بحضرموت سنة 1262 هـ وتوفي بحيدر

آباد دكهن بالهند في 29121922 الموافق 1051341هـ.

البيئة المحافظة وحياة الشاعر:

قضي الأمر ولآت مفر أن ينشأ شاعرنا في البيئة المحافظة وهو شاعر. والشاعرية ثورة نفسية تطمح لتحطيم القيود، وتجنح إلى إرضاء النفس واتساع العاطفة، وتميل إلى التغني بمحاسن الجمال، وتخفق أجنحتها حينما ترى الوسامة والصباحة في القد السمهري تخطر في كوكبنا الأرضي، كالنجوم تتلألأ في السماء!

ص: 17

ولكن يحول دون ورود مناهل هذه الرياض ذات الأريج المنعش ما سنته أحلام الفلاسفة وفرضته الأديان وأقره العرف واصطلحت عليه الإنسانية منذ عصورها الأولى فورثته لنا أجيالها القديمة حتى صار من الأسس المقررة التي لا يمكن الخروج عليها دون أن تثور ثائرة الرأي العام وتقوم بصخبها العظيم تجاه النفوس الحساسة الرقيقة.

ولئن كانت في هذه الثورة نوازع إنسانية كثيرة جديرة بالإكبار والإعجاب، فإن فيها من الشطط والإجحاف بحقوق العالم الروحي شيئاً كثيراً، لا سيما وأن المجتمع الحضرمي كغيره من مجتمعات بني الدنيا، قد أضافوا إلى القيود التي يرتضيها العقل والدين والعلم قيوداً أخرى لا تمت إلى الإصلاح بشيء.

اللهم إلا إن كان جانب الإصلاح فيها ضئيلاً. وعلى كل فلن يقاس بالجانب العظيم الذي فقدناه من جراء كتم العواطف عند ذوي الإحساس المرهف، القادرين على التعبير عما تجيش به نفوسهم.

وإذا كانت هذه الأوبئة الطفيلية تتهادى بها الأمم، وتنتقل منها ولو إلى قطر بعيد كحضرموت قلْ من يقصده بالزيارة من بين الأقطار العربية والإسلامية بله الأقطار الأجنبية.

فإن حضرموت فوق ما سرى إليها من العدوى بيئة عربية إسلامية صوفية، بلغت المثل الأعلى في تطبيق القول بالعمل، حتى كأنها المعنية بقول الشاعر:

كأن ربك لم يخلق لخشيته

سواهمُ من جميع الناس إنسانا

في هذه البيئة نشأ شاعرنا الشهاب العلوي، وجاشت نفسه بالشعر وهو في سن المراهقة، فتغنى وأغنى الشعب الحضرمي بالشعر الغنائي الوجداني، وذاعت شهرته في النوادي الحضرية، وفي المجتمع الحضرمي على اختلاف طبقاته، لأنه كان يقول الشعر وهو في هذه السن المبكرة بلغة حضرموت الدارجة، وبأوزانها الشعرية مما يدعونه بالشعر الحميني، أي غير الشعر المعرب ذي الأوزان العروضية الخليلية

والشعر الحميني قد يكون مرسل القافية كما يكون رباعياً، وأحياناً ثنائياً بلا نغم مردد، وإما نائياً بالنغم المردد.

فاضت نفس شاعرنا بالشعر الحميني وملأت به الجو الحضرمي ولكنها بعد ذلك سمت إلى

ص: 18

أن تساهم في النصيب العربي الخالد، وأن ترد المنهل الكبير منه، وأن تشاطر في المثل السامي الذي اتخذته العروبة لها نبراساً تستضيء به معالمها الشعرية.

وليس من الصعب على نفس شاعرة بطبيعتها ألا تهتدي إلى ينابيعه العذبة، ولكن من الصعب علينا نحن أن نتبين تاريخ الدور الذي جنحت إليه نفس شاعرنا بالضبط، لأن ديوانه قد خلا من إثبات أشعاره وهو في دور العقد الثاني وأوائل العقد الثالث؛ وكل ما نعرفه عن مقدرته الشعرية في هذا الدور تلك الأرجوزة التي نظمها في علم الفرائض، وضمنها كل ما يحتويه الفن إجابة لاقتراح أحد مشائخه عليه، والتي يقول في مطلعها:

لله حمدي وارث الأرض المتين

ومن عليها وهو خير الوارثين

وفي ختامها يقول:

فاصفح وأصلح ما بها من الغلط

فقد أتى: من ذا الذي ما ساء قط

وعذر من لم يبلغ العشرينا

يقبل عند الناس اجمعينا

أو قصيدته التي امتدح بها شريف مكة الشريف عبد الله باشا ابن عون الحسيني وعمره إذ ذاك 24 سنة، قال:

حي الحيا حياً به حلت سُعا

ومنازلاً خطرت بهن وأربعا

وهمت على الوادي الذي سكنت به

ديم تغادره أنيقاً ممرءا

وسقى العهاد معاهداً بسفوحها

تختال جارات الصفا والمدعى

ديم أو انس صيدهن محرم

ليظلْن في تلك المحاجر رتَّعا

سود الذوائب والجلابب والعيون

القاتلات متيما ومولعا

من كل غانية بلطف حديثها

ودلالها تذر الفؤادْ مقطعا

يا ظبية البطحاء مهلاً إنني

بهواك ذو كلف سقيما موجعا

هل تسعفين فداً لحسنك مهجتي

بالوصل ذا شغف يفيض الأدمعا

واقضي لبانته لديك وزحزحي

عن وجهك الحسن الصبيح البرقعا

حاشا لحسنك أن يكون محرماً

ولمثل وصلك أن يكون ممنعا

تيهي فإنك في الحسان مليكة

يأتين نحو حماك شعثاً خضعا

وتمايلي بحلي محاسنك التي

لم تتركي لسواك فيها مطعما

ص: 19

وتبختري جذلاً فقد جاوزت من

جمع المفاخر والمكارم أجمعا

قمر البطاح خليفة الحرمين مو

لانا أبا شرف الشريف الأروعا

إلى آخر ما قال

ومن الظلم ألا أشير إشارة إجمالية إلى أن ابن شهاب في هذا العهد لا يزال يتوثب للصعود، ولكنه مكبل بقيود الصنعة الزائفة:

حي الحيا حياً به حلت سعا

ومنازلاً خطرت بهن وأربعا

أو سود الذوائب. . . الذي مصدره التقليد المحض أو الإعجاب بما قال أبو الطيب:

من الجآذر في زي الأعاريب

حمر الحلي والمطايا والجلابيب

والفتى الناهض لا بد أن يتحرر يوماً ما وأن يصبح حراً طليقاً ليتغنى بالشعر كما توخي به العاطفة، لا كما تريده الصناعة الزائفة. وفي الفصل الذي يتضمن الكلام على الأدوار التي اجتازت بها شاعرية شيخ حضرموت سترى ذلك.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد ذكر عن أهل الجيل الماضي بأنهم كانوا لا يرون الشعر إلا مغالبة لسانية، ومساجلة كلامية، ولباقة منطق، وسرعة جواب وارتجال.

وكذلك قدر لأبن شهاب أن يدخل في شراك هذه الأحبولة الضيقة، فإن الشريف عبد الله ارتاب في أن تكون القصيدة لشاعر حضرموت، وظن أنها مقولة على لسانه؛ لا سيما وقد شايعه على هذا الرأي أحد ندمائه، إذ أسر إليه في المجلس بذلك فاقترح الشريف على شاعرنا أن يجيز البيت الآتي ليختبر بذلك قريحته:

صفي الوقت لا أبناء الزنا

ولمن يحسن ضرباً وغنى

ولا مناص لابن شهاب من أن يقيم الدليل على شاعريته فيقول:

وبنو الدهر كما قد مال ما

لوا إلى من كان منهم ذا غنى

قل أن يوجد منهم منصف

أنا قد جبت القرى والمدنا

وبلوت الناس طراً فإذا

أكثر الناس أرقاء الدنا

جانبوا الصدق الذي من قاله

بان إبريزاً إذا ما أمتحنا

عزفت أنفسهم عن كل من

كان من أهل المثاني والثنا

ص: 20

وغدوا لم يرفعوا رأساً بمن

لهم الآداب كانت ديدنا

ذلك ذوق عصر نربأ بأنفسنا اليوم أن نقفو إثره أو نتبع خطواته. وما أدري مقدار صحة الرواية التي نصت على الحكاية المذكورة، وإن كنت أعرف أنها دليل على انحطاط الذوق الأدبي والاجتماعي.

يا ترى ماذا أريد أن أقول؟!

أظنني أريد أن أقول: إن للسيد ابن شهاب كثيراً من الشعر الوجداني الذي ماجت به عاطفة الشباب ودفعته به خصوبة النفس اليقظة الشاعرة التي يستهويها الجمال، والتغني بمشاعر القلب والوجدان، ولكن ظروف البيئة المثقفة بالروح الصوفية هي التي حرمتنا الاستفادة من شعر الغناء والوجدان.

ومن ناحية أخرى فإن العزلة التي استهوت حضرموت والتي لا تزال تستهويها إلى اليوم وصيرتها بمعزل بعيد عن الأخذ بوسائل النهوض وتنمية المعارف والثقافة، هي التي هيأت الفرصة. لأن ينكص ابن شهاب في آخر عمره عن نشر آثاره التي تحمل سورة الصبا ومطارح الفتون والفتوة.

ولو كانت لنا إذ ذاك مجلة أدبية أو صحفية سياسية أو اجتماعية لما أمكن شاعرنا أن يتنازل عن بنات أفكاره؛ ولأنه لو فعل لاستطعنا الوصول إلى أشعاره بلا أقل كلفة ولا عناء.

ولا تزال ترن في أذني سورة القصيدة التي أنشدني إياها حفيد الشاعر الأديب السيد حسن بن عمر الشاطري العلوي وذلك منذ سنوات وأنا بجاوة.

نعم لا أزال أذكرها لاستحساني إياها إذ ذاك وهي من الأشعار التي لم تثبت في ديوانه.

وإذا كنت على ذكري لإعجابي بالقصيدة فإني لا أعرف الأسباب التي حالت بيني وطلب نسخة منها من صديقي الأديب لاحتفظ بها مع المذكرات التي جمعتها في تاريخ حضرموت.

لا أريد أن أحجم عن أن أُبين الغرض المقصود من ذلك.

إْن السيد ابن شهاب كما ذكرت في جملة التعريف به أكبر شخصية تزعمت النهضة الأدبية في عصره الحضرمي. ومن كانت له هذه المكانة السامية جدير بأن تعطينا المعلومات

ص: 21

الكافية عنه من كل الجهات، وأن نتعرف إليه وهو في سن الصبا كما نتعرف إليه وهو يافع وفتى وكهل لأن التعرف به هو التعرف إلى الأدب الحضرمي في الصميم.

ودراسة الأدب الحضرمي هي دراسة البيئة الحضرمية بما لها من مكانة علمية وأدبية وما فيها من عادات وأخلاق وميول ومشارب واصطلاحات وروح فكرية وصوفية.

وهذه كلها قيم تاريخية جديرة باعتبارها في المكان الأول في تاريخ حضرموت الأدبي، والبيئة المحافظة تقيس الآداب والفنون بمعيار علم الأخلاق.

علي عبود العلوي

ص: 22

‌من تراثنا الأدبي

ما ألّف عن النساء

للأستاذ صلاح الدين المنجد

سمرنا ليلة عند صاحب لنا أديب، فنقضنا الأحاديث نقضاً، ثم ملنا إلى ذكر النساء وأخبارهن، والعرب وآرائها فيهن؛ وكان في المجلس متأدب فجّ العلم، أخذ اللغة عن الأعاجم وتخرّج على طرائقهم ونهج مناهجهم، ونحا في تفكيره منحى لا استقامة فيه. فذهب إلى استخفاف العرب بالنساء، وادعى أنهم لم يحفلوهن ولم يخصوهن بالتآليف، أو يفردوا لهن التصانيف؛ ودعم زعمه هذا بأقوال باردة لبعض المستشرقين.

وقد أردت تتبع هذا الزعم بالرد. . . لتبيان طرافة جهل هذه الفئة، وضيق علمها، وأفَن رأيها، وسخف دعواها؛ واستقرأت تراث الإسلام والعرب الزاهر، فإذا فيه تآليف حسان وتصانيف ملاح خصّوها بالنساء، وجلْوا فيها عن أسرار خفيّات وأخبار مكنونات، ولم يدعوا أمراً أدركوا صلته بهن إلا تكلموا عليه وبحثوا فيه.

وليت أن هذا التراث العربي كان قد سلم. . . إذن لرأينا من أخبار النساء كل معجب مطرب. . . ولوجدنا فيه سيرهن وأحاديثهن وأسرارهن منذ الجاهلية حتى عصور الانحطاط:

1 -

فقد ألف عنهن في الجاهلية كتب كثيرة، منها: كتاب (الموءودات) لهشام بن محمد. . . بن الكلبي النسابة الأخباري، وكتاب (المعروفات من نساء قريش) له أيضاً، وكتاب (المردفات من قريش) ألفه علي بن محمد المدائني المحدث المتكلم، وكتاب (بقايا قريش في الجاهلية) ألفه الهيثم بن عدي الراوية الأديب الأخباري. . . وغيرهما.

2 -

ثم خصوا نساء النبي وأمهاته بالرضاع وبناته بعدد من الكتب لا يُحصى، منها: كتاب (أمهات النبي) للمدائني الذي مر ذكره، وكتاب (أزواج النبي) لمحمد بن عمر المعروف بابن القوطية، وكان نحوياً لغوياً أديباً شاعراً، وكتاب (أزواج النبي) لابن الكلبي. . . وآخر مثله للواقدي محمد بن عمرو المؤرخ الإخباري، ثم كتاب (بنات النبي وأزواجه)، لأحمد الرقي الراوية الحفظة الثقة ذي التآليف الكثيرة.

3 -

وتكلموا على نساء المسلمين ممن أوتي الشهرة والمُلك في كتب شتى. منها كتاب

ص: 23

(أمهات السبعة من قريش) لمحمد بن حبيب، وكان من علماء بغداد ومهرة مؤدبيها وكتاب (أمهات الخلفاء) لابن الكلبي. وكتاب (من تزوج من نساء الخلفاء) للمدائني. . . وغيرها.

4 -

ثم ألفوا في أخبار النساء كتباً كثيرة، تعرضوا فيها إلى أحوالهن ومعايشهن وطبائعهن وما يعجبن به أو يصدقن عنه وما قيل فيهن وروى عنهن. فقد ألف الجاحظ كتاباً أفرده على النساء وما يتصل بهن، وألف الهيثم بن عدي (كتاب النساء)، وصنّف هارون بن علي المنجم الأديب الشاعر الرواية النديم كتابه في (أخبار النساء)، وألف المدائني كتاباً في (أخبار النساء) أيضاً. وكان للرقي كتاب في النساء، ولإبراهيم ابن القاسم الكاتب القيرواني الشاعر الرقيق كتاب (النساء) قال عنه ياقوت (إنه كبير). ولابن قتيبة العالم المؤرخ الأديب كتاب (النساء)، وعمر بن خلف بن المرزبان كتاب (النساء والغزل).

5 -

ثم ألفوا في الموضوعات الدقيقة الخاصة بهن، فأبانوا عن أحوالهن الدينية في كتب مختلفة منها كتاب (الحيض) للقاسم بن سلام (أمام أهل عصره في كل فن من العلم) كما ذكر ياقوت. وكتاب (العدّة) و (الرضاع) و (الطلاق) و (الشغار) لمحمد بن إدريس الشافعي.

6 -

وقد أفردوا للتزيّن والتجمّل والتحلّي كتباً كثيرة، ذلك لأنها أمور ذات شأن عند النساء؛ فألف أحمد بن سعد أبو الحسين، الكاتب الشاعر كتاب (الثياب والحلي)، وصنف أحمد بن فارس اللغوي كتاباً مثله. وجمع الرقي أصول (الزينة) و (التزين) في كتابين. وألف إسحاق بن إبراهيم الموصلي وغيره كتباً في (الرقص والزفن). ولم يقنعوا بذلك بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فألف علي بن محمد الظاهري الميكالي الأديب المفاكه كتاب (فخر المشط على المرآة).

7 -

ورأوا أن الظرف أحلى خصائص المرأة، فألف محمد بن أحمد أبو الطيب النحوي وكان من أهل الأدب، كتاب (المتطرفات). وألف أحمد بن أبي طاهر أحد البلغاء الشعراء الرواة كتاباً مثله؛ وصنف الرقي كتاب:(المحبوبات والمكروهات). وكان للمفجع الشاعر الشيعي كتاب: (عرائس المجالس). وكان هذا شاعراً حلواً. قال عنه الثعالبي: (شعره قليل ولكنه كثير الحلاوة). ثم ألفوا فيما يجب أن تكون عليه النساء، وشروط عشرتهن من الرفق والرحمة والقسوة والغلظة، ومن ذلك كتاب الشافعي في (عشرة النساء).

ص: 24

8 -

ولم يغفلوا عن حياة النساء الخاصة في دورهن وصلتهن بأزواجهن، فألف الشافعي كتاب (أخلاق الزوجين)، والمدائني كتاب (من هجاها زوجها)، و (من شكت زوجها)، و (من مُيّل عنها زوجها)، و (من قتل عنها زوجها)، و (من نهيت عن تزويج رجل فتزوجته). وألف خالد بن طليق الرواية النسابة كتاب (المتزوجات).

9 -

ثم تطرفوا فألفوا في علاقة الرجل الجنسية بزوجة. . . وهذه التآليف وافرة ولا جدوى في التنويه بها.

10 -

ثم ذهبوا إلى أبعد من هذا فخصوا الشذوذ الجنسي عند المرأة بكتب وتآليف منها: كتاب (السحق)، وكتاب (البغاء)، وكتاب (برحان وحباحب)، وهو في أخبار النساء والباه. . . ألفها محمد بن حسان النملي أحد الكتاب الأدباء في عهد المعتصم. ومنها كتاب (السحاقات والبغائين) لمحمد بن اسحق الصميري أبو العنبس وكان أديباً مليحاً وهجاء لاذعاً.

ولقد خص ابن النديم مسرداً لأسماء الكتب التي ألفت في (الحبائب المتطرفات) ككتاب (ريحانة وقرنفل)، وكتاب (رقية وخديجة)، وكتاب (سكينة والرباب)، وكتاب (سلمى وسعاد). . . وغيرها.

11 -

وكما ألفوا في أخبار السواقط وذوات الشذوذ، فقد ألفوا في الشواعر والنابهات والعواقل؛ فهناك كتاب (أشعار النساء) لمحمد بن عمران المرزباني الرواية الإخباري، وكتاب (العواقل) لابن الكلبي. . . وغير ذلك.

12 -

ولقد عنوا أيضاً بأخبار القينات والجواري والمغنيات والمسيمعات والنوائح وأمهات الأولاد، فكتب الجاحظ كتاباً عن (القيان)، وألف إسحاق بن إبراهيم الموصلي كتاباً مثله. وكان للمدائني كتاب في (القينات)، وآخر في (المغنيات) وثالث في (أخبار عزة الميلاء)، ورابع في (قيان الحجاز)، وخامس في (قيان مكة). وان لأبي الفرج الأصباهني صاحب الأغاني كتاب في (الإماء الشواعر)، وللمفجع الشاعر الشيعي كتاب في (أشعار الجواري) ولأحمد بن مطرف القاضي المصري كتاب في (النوائح).

وألف الطبري المحدث الفقيه كتاب أمهات الأولاد، وألف الشافعي كتاب (عتق أمهات الأولاد).

ص: 25

13 -

ونضيف إلى ذلك فصولاً كثيرة مبعثرة في كتب الأدب خصت بالنساء وأخبارهن وصفاتهن وأحوالهن، كالعقد الفريد لابن عبد ربه، ونهاية الأرب للنويري، وربيع الأبرار للزمخشري، وعيون الأخبار لابن قتيبة، وغير ذلك. . .

تلك جريدة بأسماء الكتب التي ألفت عن النساء وأحاط بها علمي؛ ولعل هناك كتباً كثيرة غفلت عنها فلم أذكرها ولم أعلم بها.

أفبعد ذلك كله - وإن قلْ - تقولون إن العرب لم يحفلوا بالنساء ولم يؤلفوا في أخبارهن. . .؟

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 26

‌زخرفة المساجد

للأستاذ الشيخ سيد رجب

كان الدكتور زكي مبارك قد كتب في بعض أعداد (الرسالة) القريبة كلمة من (شجون حديثه) يدعو بها إلى زخرفة المساجد وتنميقها، ذاهباً إلى أن هذا مما يرفه عن النفس بعد مشاغل العمل، ويهدئ الخاطر، ويلهم الروح، ويرغب في المساجد، ويعين على العبادة! وذاهلاً - وهو مؤلف (التصوف الإسلامي) وإن كنا لم نره - عن أن العبادة الحق إنما تنبعث من نبع الإيمان في القلب، ومن مثابة الهداية في النفس، وتستلهم الروح لا المادة، وتتجه بحقيقتها المعنوية إلى السماء لا إلى الأرض. وهذه حقائق لا ينفع لإيجادها، ولا يغني في التسبب لها، أن نملأ الأرض - لا المساجد وحدها - بما يقترحه الدكتور من دُمى وتماثيل وتهاويل وتصاوير! بل إن كل أولئك لن يكون - إن وجد - إلا مشغلة للحس والوجدان والعقل، وصارفاً للنفس، في موقفها الرهيب العظيم عما يجب أن تفرغ له من استغراق وتأمل ومناجاة. وهذا بعض ما من أجله صرحت النصوص الدينية بالنهي عن زخرفة المساجد وتنميقها.

ذهل الدكتور عن كل هذا، وأخذ - وهو الرجل الأزهري رغم صبغته الجديدة - بما لا ينبغي أن يؤخذ مثله به، ولا أن يغلط في حقيقته! فلما قام فقيه في المسألة يرجعه إلى الصواب، وإرشاده للحق، استنكف ذلك وكبر عليه، وأخذته العزة بنفسه، فلم يرض لها أن تخطئ، ولم يرض لها - إن هي أخطأت - أن يردها عن الخطأ ناصح من المسلمين! والكلمة التي كتبت في الرد عليه بغير توقيع، وفي مجلة لا شأن للوعظ والوعاظ بها؛ ولكن هذا لم يكن من مصلحة الدكتور أن يفكر فيه، وليس من شأنه أن يعرفه، فإنه عسى أن يفسد عليه ما قصد، وهو لا يقصد إلا الأزهر والأزهريين.

وعلى هذه النية وهذا الأساس هاجم الدكتور الأزهر في أشخاص الوعاظ، وأقحم ذكرى الرجل الفاضل والمؤمن البار المرحوم الشيخ عبد ربه مفتاح في حديثه، وعرض نفسه وعلمه وثقافته وفكره الحر الطليق على شباب الأزهر عامة، وكلية اللغة العربية خاصة، وسمي الدكتور ذلك كله (زخرف المساجد).

بيد أن الدكتور قد عرض في كلمته الأولى، في (الرسالة) الصادرة بتاريخ (26 من جمادى

ص: 27

الآخرة سنة 1360) لما تعود هو وأمثاله أن يلوذوا بحصنه كلما حز بهم الأمر في ميدان من ميادين الخلق والعلم والدين، وهو المناداة بحرية الفكر، واصطناع الصراخ والعويل على ما يحاول رجال الدين الرجعيون الجامدون من حجر على العقل، وتكبيل للرأي، ومناوأة لهذه الحرية!! وتلك ناحية لا نحب أن يخلو حديثنا من الكلام فيها، إحقاقاً للحق، وإرشاداً للصواب، وحرصاً على فائدة من تعوزه هذه الفائدة من القراء.

وفي (الرسالة) التالية، الصادرة بتاريخ (4 من رجب) عرض الدكتور لحضرة النائب المحترم مفتش الوعظ، فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد اللطيف دراز من أجل كلمة ألقاها في مجلس النواب، وهذه أيضاً لا نحب أن نتركها حتى نحاسب الدكتور عليها.

حرية الفكر:

يظن بعض الناس أن الحرية هي التحلل من كل حرمة، والانطلاق من كل قيد، والخوض ما وسع المرء أن يخوض في كل ما يسنح لخاطره ويستهوي نفسه! فإن بصرهم ناصح بالصواب، أو ذاد عن حقه المعتدي عليه ذو حق، هب أولئك الناس في وجهه، يدقون طبول الحرب للدفاع عن الحرية المهضومة والفكر المقيد، جاهلين أن حرية الناس - إلا من العبودية لخالقهم جل جلاله هي أول عقيدة دعا إليها الرسل والأنبياء، وأول مبدأ قام من أجله ذلك الصراع الطويل الهائل في تاريخ البشرية بين الحق والباطل والسماء والأرض. وهل قدس كتاب أو شريعة أو أمة، ما قدس القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وسلف الإسلام الصالح، من هذه الحرية والدفاع عنها وتحقيقها في النفوس وتقريرها بين الناس؟ ومَن أولى بأن يعرف هذا للكتاب والسنة وسلف الإسلام من أعلام الملة وجنود الدعوة ورجال الدين؟؟

ولكنها الحرية بمعناها الحق، وفي هيئتها التي برأها الله على سنته من الوزن والتقدير والإحكام، ومراعاة العدل والحق في كل ما يبرأ وما يبدع، فلا يتجاوز خلق حده، ولا يخرج عن طوقه، ولا يطغى شيء على شيء في وجوده وكنهه، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.

هذه الحرية الموزونة المقدرة التي لا تجهل ولا تظلم ولا تطغي، هي الحرية التي يقرها ناموس الوجود ويعرفها العقل ويدعو إليها الدين؛ وهي الحرية التي يطلبها الناس ويهيمون

ص: 28

بها ويتفانون في الدفاع عنها، لأنهم يرون فيها قوام وجودهم وصلاح حياتهم، وهو بعض ما من أجله أعزها الله ومكن لها تمكيناً، فجعلها فطرة النفس وصبغة الخلق وحقيقة التوحيد.

فهل سمع بهذا أو عرفه من قبل أولئك الذين يكثرون من تصنع الغيرة على الحرية والدفاع عنها، ليبرروا بها كل مخزاة، ويدرعوا بها عند كل طغيان؟!

هل علم هؤلاء - وهم لا يقفون الحرية إلا حيث تناوئ الدين والخلق وتقاليد الإسلام - أنهم بهذا يسيئون إليها ولا يحسنون، ويهدمونها من حيث لا يشعرون؟!

إن علماء الدين - يا قوم - لا يمكن أن يكونوا أعداء الحرية، لأن الحرية من صميم الدين، ولكنهم أعداء الفوضى وأول هادميها، وهذا واجبهم الذي لن يتخلوا عنه مهما لاقوا في سبيله من أذى واعتداء.

الرياء الاجتماعي

طالما وصف الدكتور زكي مبارك مخالفيه في الرأي بهذا الوصف، وعلى الأخص أثناء مناقضتهم إياه في مسألة الأغنياء والفقراء، وأسباب الفقر وأسباب الغنى، مع أنهم كانوا يستمسكون بحق معروف لم نر لهم فيه مخالفاً من القراء، وكان هو يدافع عن شاذ من الرأي لم يوافقه عليه أحد؛ وقد ظل سادراً حتى أرسل إليه القراء يخيرونه بين اختفائه من الميدان الأدبي، أو سكوته عن هذا الباطل؟ فهل يسمح الدكتور أن نستعير منه هذا الوصف لنصف به تصنعه الدفاع عن مصر والإشفاق عليها من تلك النصيحة المخلصة التي أسداها فضيلة الأستاذ الشيخ دراز مفتش الوعظ إلى الأمة والحكومة في مجلس النواب؟! إننا لا نجد وصفاً أصدق منه لموقفك هذا يا دكتور. أيكون الأستاذ دراز متحاملاً على مصر وطاعناً فيها، ومقرراً غير الحق حين يقول بلسان العالم المصلح والنائب الغيور، ناصحاً أمته داعياً إلى الإصلاح فيها:(أصبحت هذه البلاد لا هي بالبلاد الدينية، ولا هي بالبلاد اللادينية، ولا هي بالبلد الشرقي، ولا هي بالبلد الغربي؛ وذلك ظاهر في كل مظاهرها، ليس في الزي فقط، ولكن في الثقافة والخلق وكل ما يتصل بحياتنا الخلقية والاجتماعية) - ولا يكون الدكتور مرائياً في موقفه حين يرد هذا القول ويماري في الواقع الذي يشهد له ويؤيده، ويقر الباطل والفساد في الأمة، متظاهراً بالدفاع المريب عنها، والإشفاق المصطنع على سمعتها الدينية والأدبية؟

ص: 29

فهل نأخذ من هذا أن الدكتور يقر ذلك الاختلاف والتناقض في ثقافة الأمة وقوميتها وأصول اجتماعها وتعدد شرائعها وأزيائها، وغير هذا مما أجمع المتصدون للإصلاح الاجتماعي على أنه شر ما نكبت به البلاد من بلاء يجب دفعه والتخلص منه أم ماذا يريد؟

أما بعد، فإن من أبدَى صفحته للحق هلك، ولقد أراد الدكتور زكي مبارك أن يدفع عن نفسه ما حسبه من بعض الناس عدواناً عليه فلم يستطع هذا إلا بأن يتعدى هو على نفسه مرتين: مرة بمجافاته الحق، وأخرى بمحاولته النَّيل من جماعة كبيرة كريمة كعلماء الوعظ والإرشاد؛ وما منهم إلا يملك ما يملك الدكتور من قلم ولسان. فما أكثر في الناس من يسئ لنفسه حين يريد أن يحسن إليها، أكان ذلك دفاعاً عن نفسه، أم كان توريطاً لها في مأزق آخر تكون فيه أكثر ملامة وأثقل حملاً وأشد حاجة للدفاع؟ وهل صان الدكتور بذلك أنفه الذي قام حامياً له، أم حقق عليه المثل العربي الحكيم:(رب حام لأنفه وهو جادعة)؟

نسأل الله أن يجنبنا مزالق الأقلام، وفتنة اللسان والجنان، وأن يعصمنا من خطل الرأي وضلال الهوى، وأن يهدينا بفضله سواء السبيل.

السيد رجب

واعظ القاهرة

ص: 30

‌إلى الأستاذ الزيات

محنة التعليم الإلزامي

للأستاذ علي عبد الله

كانت كلمتك يا سيدي عن هؤلاء الجنود المجهولين، نفحة من نفحاتك المباركة، ونظرة من نظراتك الصادقة، أنصفت بها هؤلاء المظلومين المكدودين، وذكرتهم حين لم يذكرهم ذاكر، وقلت فيهم قالة الحق في وقت بخلت عليهم فيه الوزارة بما يسد الرمق، وحرمهم الناس حتى من كلمة طيبة ونظرة رحيمة!.

وأشهد لقد وجدوا في كلامك عنهم ورأيك فيهم أحسن العزاء؛ وإن لهم فيه لغنية إذا بخلت الوزارة بالجزاء. وقد يجد المظلوم برد الراحة في كلام من يرثي له أو يعطف عليه.

وأشد ما أدهشني من كلمتك أنها كانت على إيجازها أصدق وأوفى ما كتب في هذا الموضوع منذ عرفته البلاد إلى اليوم؛ فصورت العيوب والعلل، وفرقت بين الجوهر والعرض، ووازنت بين الماهية والكيفية، وحددت المسؤولية ووضعتها في موضعها؛ وعرفت من أمر هذا النوع من التعليم ما لم يعرفه القائمون بأمره، ولو عرفوا بعض ما عرفت لوجدوا إلى الصواب رسولاً، ولاتخذوا مع هذا الرسول سبيلاً. . .

ومن ألطف ما رأيته أني مررت بمعلم يقرأ على بعض إخوانه ما كتبته (الرسالة) عنهم؛ ولم يكن يقرأ من المجلة، وإنما كان يقرأ من ذاكرته، إذ كان قد حفظ المقال من شدة كلفه به؛ وما انتهى من القراءة حتى انصرف إلى إخوانه يقول لهم: والله لو لم أكن معلماً إلزامياً لوددت أن أكون ذلك المعلم اليوم! ولو لم أكن مظلوماً لتمنيت أن أكون مظلوماً، لأن ما كتبه صاحب الرسالة أشهى عندي وأحب إلي من أن تنصفني الوزارة أو ينصفني الناس. وإن من الخير لي أن أكون مع هؤلاء المجهولين الذين ذكرتهم الرسالة بالخير، من أن أكون مع المترفين المجدودين الذين غمرتهم الحكومة بالمال. . .

إنك يا سيدي لم تدع لأحد بعد مقالك أن يقول شيئاً؛ ولكني أحب أن أؤيد ما ذكرته عن هؤلاء الجنود المكافحين، بما يدل على أنك كنت ملهماً تستشف الحقائق من وراء أستار الغيب!!

فمن ذلك أن أولياء الأمر أسرفوا في غبن هؤلاء المعلمين فخفضوا من مرتبهم جنيهاً كاملاً،

ص: 31

وأصبح المعلم الجديد يتقاضى ثلاثة جنيهات بدلاً من أربعة؛ ثم جعلوا العلاوة الدورية نصف جنيه كل ثلاث سنوات. وزعمت الوزارة بهذا أنها استجابت لرغباتهم وحسَّنت حالهم ووضعت لهم نظاماً للعلاوات: مع أن الجنيه الذي استقطع من رواتبهم الضئيلة أصبح لا ينال إلا بعد قضاء ست سنوات في الكفاح والشقاء. . .

وأنا أعرف معلمين قضوا في خدمة هذا التعليم أكثر من خمسة عشر عاماً، ورافقوه وهو طفل في مهده وما تزال مرتباتهم أقل من خمسة جنيهات. وكان هؤلاء لا يعولون إلا أنفسهم؛ ولكنهم أصبحوا بعد هذه المدة الطويلة في عائلات يزيد أفراد كل منها على العشرة

أقول هذا وأنا أعلم أن في رجال التعليم الأولي من يبلغ مرتبه عشرة جنيهات وخمسة عشرة وتسعة عشر، وعلة ذلك لا ترجع إلى تفاوت في الكفاية أو زيادة في العمل أو امتياز بالأقدمية؛ وإنما ترجع إلى ارتباك نظام التعليم الأولي وتعدد أنواعه ومدارسه وبرامجه ونظمه. فهناك مدارس أولية تابعة للوزارة، وأخرى تابعة لسكة الحديد، وثالثة تابعة لمجالس المديريات؛ ثم هناك شيء اسمه التعليم الأولي الراقي، والتعليم الأولي القديم، ومشروع التعليم الأولي، ثم التعليم الإلزامي، ومع أن الجميع يعلمون الأطفال ولا يزيد بعضهم على بعض شيئاً في العمل، فإن مرتباتهم تختلف كل الاختلاف حسب أسماء المدارس التي يعملون فيها. وقد أجازت الوزارة أخيراً أن ينتقل المعلمون من مدارسهم إلى المدارس الأخرى التي ليست من درجتها ولا من نوعها، واحتفظت لكل معلم بمرتبه ودرجته؛ وبذلك أصبح في المدرسة الواحدة من يتقاضى أربعة جنيهات ومن يتقاضى ثمانية. وقد يكون الأول أقدم من الثاني، كما قد يزيد مرتب المعلم على مرتب الرئيس.

ومن غريب الأمور أن الوزارة قد أسرفت في التجني على رجال التعليم الإلزامي، فأصدرت منشوراً عاماً استبدلت فيه اسم المكاتب بالمدارس، وحرمت فيه على كل معلم أن يزعم لنفسه أنه مدرس في مدرسة، وإنما يجب أن يكون معلماً في مكتب عام. والمفهوم من هذا أنها استكثرت على هؤلاء البؤساء حتى الأسماء وتعمدت تحقيرهم، بينما هي أسلمت إليهم فلذات أكباد الأمة لإعداد الجيل الجديد منها.

أما قبل تنفيذ قانون الإلزام، فقد شقي المعلمون بمحنة لم يسمع بمثلها الناس، وهي أن المعلمين الإلزاميين كانوا يكلفون بالمرور على بيوت الفلاحين وحقولهم في القرى،

ص: 32

لمطاردة التلاميذ والقبض عليهم وإحضارهم إلى المدارس. . . فمن استطاع أن يملأ فصله فهو في أمن من العقوبة؛ أما الذي تنهاه كرامته عن التعرض لأذى الفلاحين وعدوانهم فهو مغضوب عليه، وقد يعرضه هذا للفصل من الخدمة

ومن بواعث الأسى أن أحد مديري الدقهلية الأسبقين دخل عليه معلم إلزامي في مظهر أنيق وسمات وسيمة، يرفع إليه ظلامة من الظلامات، فظنه الباشا واحداً من الكبراء في البلد، فأكرمه واحتفى به، ولكنه عرف آخر الأمر أنه من الإلزاميين فشتمه وطرده، وأقسم أن يجرد جميع المعلمين من هذه الملابس التي يظهرون فيها بمظهر أهل النعمة؛ وبر الباشا بقسمه وساعده مفتشو المعارف اتقاء بطشه!

وصدرت الأوامر إلى جميع قوات البوليس والمباحث والخفر والعمد في البلاد بالتفتيش على المعلمين في المدارس والتبليغ عمن يوجد منهم غير متلبس بعمامة أو لابس قفطاناً. . .

ولم يكن للمفتشين من عمل في تلك الأيام إلا التفتيش على الجبب والقفاطين، لا على التربية والتعليم؛ وأصبح لبس العمامة عند الباشا من مؤهلات الترقية وزيادة المرتب، فلم يكن يرد لمعمم حاجة!

أقول هذا وأنا مشفق من أن أذكر كل ما أعرف، ولو شفيت نفسي بذكر الحقيقة المؤلمة، لأبكيت الناس وأضحكتهم، وأظهرت لهم أن التعليم الإلزامي إنما شقي بقادته وسادته، أولئك الذين يعيشون فيه وهم عنه غرباء، ويلقون المسئولية على المعلمين وهم منها أبرياء

(المنصورة)

علي عبد الله

ص: 33

‌من رسائل الصيف

الدار المقدسة

(مهداة إلى الإنسان الشاعر. .)

للأستاذ عبد الحميد يونس

أخي إبراهيم. . .

قرأتُ فيما قرأت أن هُناك مرآة مسحورة لا ترى فيها نفسك في لحظة من لحظات حاضرك أو فترة من فترات مستقبلك، ولكنك تشاهد فيها شخصك في برهة واحدة تختارها من ماضيك.

وأنا الآن أتمنى كالأطفال أن أحصل على هذه المرآة، وأن أركب في هذا السبيل ما يركب أبطال الأساطير من أهوال، فإن عبور البحر أهون من عبور الزمن إلى الوراء، وملاقاة المجهول آلم من ملاقاة المعلوم، واستعادة الذي كان معك ثم ضاع، أشهى من حصولك على مالا ترتقبه مما هو آت!. . .

ودعني أسائل نفسي وقد تحققت أمنية العثور على هذه المرآة (أي لحظة من لحظات ماضي أريد؟). . . هي هذه الومضة من ومضات صباي وقد ذهبت إلى بيتنا الجديد، فلم أنظر إليه إلا بعد أن تمليت من البناء المواجه له ذي النوافذ الشبيهة بنوافذ المساجد، وكنت أعلم أنه مقام صاحب النظرات والعبرات

هذه الدار أيها الصديق أنفقت ما يقرب من خُمس قرن خلعتُ فيها صباي وسلختُ شبابي؛ دخلتها تسابقني آمال عذاب، وخرجت منها بذكريات أعذب!

وما أظنك نسيت البرج الذي كان يشبه أبراج المنائر حيث كنت أبشر بالطريقة الإشراقية التي تعلو على الناس وإن لم تنفصل عنهم؛ وحيث خيَّلت إلي نفسي القدرة على مطاردة الأوهام والوساوس والكشف عن الترهات والأباطيل؛ وحيث ظننتني أستطيع هداية الضالين، ولو كانوا من القرصان والمهربين؛ وحيث رأيتني أحارب إله الظلام، فلا أكاد أصرعه حتى أراه يتسلل من الناحية الأخرى!

أو نسيت الغرفة الجرداء التي كنت أستقبل فيها وفود العكر زمراً تعقبها زمر، وأفراداً في

ص: 34

إثر أفراد، والتي كنت أمثل فيها خاشعاً بين يدي الأنبياء والأولياء والقديسين؟ وكيف تنساها وقد وسعت جمهورية أفلاطون وطوبى مور وجزيرة مكدوجال؟

أما المقصورة، فأنت لا تذكرها، لأنها كانت المكان الحرام الذي مارست فيه فن الحياة، ومهدت للقصائد التي هجت بها نفسي ولم تنفرج عنها شفتاي أو يسجلها قلمي. . . وجمعت فيها بين الملائكة والشياطين، ولقيت فيها (ليليت) وبناتها، وتاييس في انطلاقها وفي توبتها، وأفروديت في خلابتها؛ وسمعت فيها أعذب اللثغات وأشهى الضحكات وأعمق الزفرات. . .! هنا، أيها الصديق، عجنت تجاربي، واختزنت ذكرياتي، وحبست أوهامي. . .! هنا أديت فرائض الشاعر وشعائر الحكيم!

والخزانة الصغيرة التي كانت وكأنها (باب جحا) لا تكاد تطلب منها شيئاً حتى تراه؟. . . الخزانة الصغيرة النفيسة التي لم يكن خادمها موكلا بغذاء البطون، وإنما كان مختصاً بغذاء العقول والقلوب؟. . . لقد أخذتها معي، فبطل السحر، وبقيت الصحائف والرفوف!

وأنت ألم تجلس معي تحت هذا المصباح؟ أنا موجود وأنت موجود، والمصباح كذلك موجود؛ ولكن (التغير) صيرني شخصاً آخر، وحولك إلى غيرك، ونور المصباح في عيوننا الآن ليس كما كان بالأمس!

واليوم أقتلع من هذه الدار المقدسة اقتلاعاً، فكم رددت جدرانها صلواتي، وسمعت ابتهالاتي، ووعت حكمتي، وحفظت قصائدي! وكم انشقت سقوفها عن طيف، وانفرجت نوافذها عن خيال، وانفتحت أبوابها حتى لعدو!

ألا قل لهذه الدار المقدسة ألا تبوح بأسرار وجداني إلا لصاحب وجدان، وألا تطلع أحداً على خزائن تجاربي إلا إذا كان من زمرة الإشراقيين، وألا تفتح كنوز ذكرياتي إلا لمن يصلح للقيام على البرج والمقصورة والمحراب!

ألا قل لهذه الدار المقدسة إنني ما غادرتها قالياً، ولا تركتها راضياً، وإنني مررت بها سأقف وأستوقف، وكلما ذكرتها سأبكي وأستبكي؛ وإنني - لولا التجمل - لفعلت ساعة الرحيل ما يفعل العجائز في الأضرحة، فقبلت المقابض والجدران!

وهكذا تراني أيها الأخ إذا حصلت على تلك المرآة لا أقنع من ماضي بلحظة واحدة، وإنما أريده كله لا أنقص منه حتى ساعات الألم!

ص: 35

بل وهكذا تراني إذا حصلت على هذه المرآة وتحققت رغبتي فرأيت ماضي كله لا أقنع بالمشاهد والنظر، فالفرق بينك وبين صورتك كبيرة، والفرق بين تذكرك لماضيك وبين أن تعيش ماضيك أكبر وأكبر. . .

(طبق الأصل)

(حمدي)

عبد الحميد يونس

ص: 36

‌البريد الأدبي

الشيخ عباس

أويت إلى مرقدي حين الظهيرة فلمحت العدد الأخير من مجلة الرسالة فأخذته آنس بمطالعة عناوينه إلى أن يُريح عليّ النوم راحتي وجمامي، ووقع بصري على حديث أخي الدكتور زكي ذي الشجون والأشجان فسارعت إلى الفصل الذي عنوانه:(الشيخ عباس الجمل) أرجو أن أطلع فيه على بشرى أو فكاهة أو دعابة فقرأت ما روّعني وعزب بسروري وراحتي وأقض مضجعي قرأت قول الدكتور وهو يعنى على أدباء مصر تجافيهم: (فجع الشيخ عباس الجمل بغرق ابنه طاهر وهو يقارع أمواج البحر في دمياط فما تحركت يراعة أديب لمواساته في ذلك الرزء الجليل)

(وبترت ساق الشيخ عباس منذ أسابيع فما بكى شاعر ولا تأثر كاتب لمصيبة الأديب) الخ

فأما المصيبة الأولى فقد عرفتها من قبل وراعني نبؤها وأنا في اسطنبول منذ أربع سنين؛ وأما المصيبة الأخيرة فما عرفت نبأها الفاجع إلا من كلام الدكتور زكي وقد وقعت من نفسي وقلبي موقعاً مفظعاً أليماً

وإذا بي أجلس واجماً تسير بي الذكَر في عالم من مصائب الماضي والحاضر، وتسرح بيَ الفكَر فيما أصاب الرجال الكبائر من أحداث وأرزاء، فذكرت فيما ذكرت عقبة بن أبي وقاص حينما قطعت رجله في الموقعة يوم صفين فلبث يقاتل مرتجزاً:

الفحل يحمي شوكه معقولاً

وتذكرت هذا الفارس العربي عبد الله بن شبرة الجُرَشي وكانت يده قطعت في موقعة فلطاس إحدى وقائع الروم فقال يرثيها في أبيات أولها:

ويل أم جار غداة الروع فارقني

أهْونْ عليْ به إذ بان فانقطعا

يميني يديْ غدت مني مفارقة

لم استطع يوم فلطاس لها تبعا

ثم إذا بي أسير إلى خزانة كتبي ألتمس عروة بن الزبير لأقرأ ما قال حين أصيب برجله، وأتأسى بما عزاه به أصحابه، وذكرت قول أحد المعزين له:(يا أبا محمد والله ما أعددناك للصراع ولا للسباق، ولقد أبقى الله لنا أكثرك: عقلك وعلمك) وطلبت بقية هذا الكلام في مظانه فلم أهتد إليه، ولكني وجدت في ابن خلكان خبر عروة حين صبر لقطع رجله لا

ص: 37

يتحرك ولا يتأوه ووجدت فيه هذه الكلمة:

وكان أحسن من عزاه إبراهيم بن محمد بن طلحة فقال له: (والله ما بك حاجة إلى المشي ولا أرب في السعي، وقد تقدمك عضو من أعضائك وابن من أبنائك إلى الجنة؛ وقد أبقى الله لنا منك ما كنا إليه فقراء، وعنه غير أغنياء، من علمك ورأيك نفعك الله وإيانا به. والله ولي ثوابك، والضمين بحسبك)

يا أخانا العباس! إن لك في أرزاء الرجال وخطوب الزمان أسوة وعبرة؛ وإن لك من دينك وعقلك وعلمك ما يغنيك أن تساق إليك الأسى والمواعظ. وإنا لنعرفك كبيراً أبياً عزيزاً، وإنا لنرجو أن نجدك اليوم أكبر وآبى وأعز من أن يضعضعك خطب، أو يبهظك رزء. وأنك لتعلم أن الحر الأبي يسير في هذه الحياة صابراً على لأوائها، مستكبراً على أرزائها مشى الجمل الثقال بالحمل الثقيل لا يرزح ولا يرزم ولا يعيا ولا يقف دون غايته

يا أخانا العباس! إن لك من دينك وعقلك وعلمك وأدبك ما يؤنسك بالصبر والرضا، ويوطن نفسك للحادثة وإن جلت، والخطب وإن فدح، وإن لك من إبائك وشممك ما يربأ بك أن تضيق بالرزء الشديد، وتطأطأ للنازلة الجليلة

والله يجعل هذا آخر محنك، ونهاية بلائك ويبقيك لآلك وإخوانك موفور العقل والعلم، معافى في نفسك وبدنك وأسرتك

وأما الأخ الدكتور زكي فقد صدق حين نعى على الإخوان تقاطعهم وغفلة بعضهم عن بعض. وإنَّا يا أخي زكي - ولا تؤاخذني بهذا التشبيه - لنسير من مشاغل هذه الحياة جليلها وسفسافها في مثل طريق الساقية أو مدار الساقية: حركة دائبة في مضطرَب متشابه ضيق، لو سارت فيه الدابة أبد الدهر ما خرجت منه وإن توهمت - وهي محجوبة العينين - أنها أبعدت المسير، وتناءى ما بين مبدئها ومنتهاها. ولست أدري إلام تشغلنا الشواغل عما هو أعظم من التقاء أخ بأخ، وتفقد صديق صديقاً، ومذاكرة أديب مثله؛ وفي أولئك من قضاء الحق ومتعة النفس وربح العقل وفقه الأمور، مالا نجد وإن حرصنا في هذه الحركة العاجلة التي كادت تسلب الإنسان عقله وإرادته.

عبد الوهاب عزام

حول اللهجات العامية

ص: 38

يقصد علماء اللغة بكلمة (اللهجات المصرية) ما يشمل اللهجات العربية المستخدمة في السودان، فليس السودان جزءاً لا يتجزأ من مصر في نظر علماء الجغرافيا وأساطين القانون وعدول السياسة فحسب، بل هو كذلك أيضاً في نظر علماء اللغات

ولذلك لم أر ضرورة لأن أخصه بالذكر في مقالي عن طوائف اللهجات العامية، بل رأيت أن عطفه على مصر، كما يفعل الغربيون، قد يسئ إلى الحقيقة فيشعر بأنه بلد آخر منفصل عنها.

فليفرح إذن روع الأستاذ أحمد المبارك عيسى. فما كان لمثلي، وأنا من مواليد السودان ومن أكثر الناس إيماناً بوحدة وادي النيل، أن أغفل أمر هذا البلد الأمين.

وإنا لنرتقب بذاهب الصبر أن تواتي الظروف حضرة الأستاذ المبارك فيتحفنا على صفحات (الرسالة) بما وعد به من مختارات في الأدب القومي للسوادن، ويزيدنا بذلك يقيناً أن اللهجات المصرية كافة من أقرب اللهجات العامية إلى العربية الفصحى.

أشكر للأستاذ جودة مرعشلي بدمشق تصحيحه لما ورد سهواً في مقالي بصدد أسماء بعض القرى السورية التي لا يزال أهلها يتكلمون بلهجة منحدرة من الآرامية الغربية.

علي عبد الواحد وافي

هل نستفيد مما نقرأ؟

المعروف في اللغة أن فعولاً لا بمعنى فاعل مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، وأن ما يستوي فيه المذكر والمؤنث لا يجمع جمع مذكر سالماً مثل: صبور وفخور وغيور.

وأذكر أني قرأت مقالاً منذ شهور للكاتب الكبير الأستاذ العقاد بالرسالة جمع فيه غيوراً على غيورين، وهو خطأ كما ترى.

ثم حدث أن الأستاذ السباعي بيومي جمع فخوراً على فخورين في مقال له بالعدد 401 من الرسالة رداً على الدكتور زكي مبارك فتنبه أحد القراء لهذه الغلطة وأشار إليها في الرسالة بعد ذلك.

وحدث أيضاً أن الأديب طه الساكت كتب منذ أسابيع كلمة مسهبة في الرسالة عن هذه القاعدة، وذكر الشواهد لها، ودعا الكتاب إلى مراعاتها.

ص: 39

وأخيراً رأينا الأستاذ العقاد يقول في العدد 411 من الرسالة:

(فإن الشك في وجود المغاداة يغلق المسالك بين ألسنة المصلحين الغيورين).

ولا شك أن إصرار الأستاذ الكبير العقاد على هذا الجمع لهذا الكلمة - وهو عضو مجمعنا اللغوي - يدلنا على أن له رأياً فيها يخالف ما أجمع عليه نحاة البصرة.

فهل يتفضل الأستاذ ببيان رأيه على صفحات الرسالة فنكون من الشاكرين؟

(بني سويف)

محمد محمود رضوان

المدرس بالمدرسة النموذجية

فتوى واستفتاء

1 -

تحت هذا العنوان في عدد (الرسالة) 318 أفتيت واستفتيت الأدباء والباحثين في بعض المباحث الأدبية، وعرضت لهم ما بين روايتي الوسيط والمفصل من التناقض في ترجمة ابن خلكان، ثم استبان لي صواب رواية الوسيط ومنشأ خطأ المفصل على الرغم من أني كنت أستبعد أن يقع مؤلفوه الأماثل في مثل هذا الخطأ؛ وإلى القراء البيان:

قال ابن خلكان نفسه: ومولدي يوم الخميس بعد صلاة العصر حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وستمائة بمدينة إربل بمدرسة سلطانها الملك المعظم مظفر الدين بن زين الدين رحمهما الله.

وقال هو نفسه في ترجمة أبي الفضل أحمد بن كمال الدين:

وتولى التدريس بمدرسة الملك المعظم بعد والدي رحمه الله تعالى، وكان وصوله إليها من الموصل في أوائل شوال سنة عشرة وستمائة؛ وكانت وفاة الوالد ليلة الاثنين الثاني والعشرين من شعبان من السنة المذكورة، وكنت أحضر درسه وأنا صغير، وما سمعت أحداً يلقي الدروس مثله.

ومن هذا يظهر جلياً أنه أخذ مبادئ العلم عن شيخه أبي الفضل، لا عن والده كما قال أصحاب المفصل، ومنشأ الخطأ أنهم رجعوا ضمير (درسه) إلى الوالد وغفلوا عن المترجم له وحق لمن استفتى ثم أفتى بعد عمر أن يقول: بيدي لا بيد عمرو

ص: 40

2 -

نقرأ في كتب السيرة أن للنبي صلى الله عليه وسلم خصائص؛ ونطالع في كتب الأدب كثيراً من خصائص اللغة العربية؛ ونسمع بكتاب الخصائص لابن جني - وإن لم يره إلا قليل - فما مفرد هذا لجمع؟ أمرضتني كتب اللغة، ولم تسعفني، ثم رأيت أقرب الموارد يقول:(والخاصة الذي تخصه لنفسك. . . والخاصيّة نسبة إلى الخاصة ج خاصيات وخصائص على غير القياس)، وفي أثناء مطالعتي في (المواهب اللدنية) ألقيته يقول:(وقد ذكر بعض العلماء أنه صلى الله عليه وسلم أوتي ثلاثة آلاف معجزة وخصيصية) فما قول السيد وحيد؛ والأستاذ الكبير (ا. ع)؟

3 -

نبه كثير من الباحثين على خطأ الافتعال من قَطَف وعابوا (المقتطف) علماً على المجلة المعروفة؛ فما رأيهم في قصيدة النابغة الشيباني الفائيّة وفيها يقول:

تَسبي القلوب بوجه لا كفاء له

كالبدر تم جمالاً حين ينتصف

تحت الخمار لها جَثْل تُعكِّفه

مثل العثاكيل سودا حين تقتطف

وبعد فكثير من مفردات اللغة العربية حائر بين المخطئين والمصوبين، فهل يضع المجمع اللغوي الملكي حدَّا لهذه الفوضى؟

طه محمد الساكت

المدرس بمعهد القاهرة

حول استدراك في غزوة حنين

ذكر الأستاذ الفاضل سعيد الأفغاني في العدد (422) من مجلة الرسالة الغراء استدراكاً على مقالي الأول في غزوة حنين؛ وقد جاء فيه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي سئل عن الخوارج (أكفار هم)؟ فقال: (من الكفر فروا) قيل: (أمنافقون هم)؟ فقال: (إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً). قيل (فما هم)؟ قال: (فتنة غشيتهم).

وكنت أحب أن يذكر الأستاذ سعيد الأفغاني المصدر الذي نسب فيه ذلك إلى علي بن أبي طالب، لأن هذا قد يفيد في تحقيق نسبة ذلك القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرت، أو إلى علي بن أبي طالب كما ذكر هو؛ فأما المصدر الذي نقلت عنه نسبة ذلك إلى

ص: 41

النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو كتاب إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون المعروف بالسيرة الحلبية، وهو تأليف نور الدين علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي القاهري الشافعي المتوفى سنة 1044هـ. وقد جاء ذلك في الجزء الثالث (ص140) من النسخة المطبوعة بمطبعة محمد علي صبيح بمصر

ولا شك أن صدور ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع صدوره بعده من علي بن أبي طالب، والقطع بالصواب في مثل ذلك كما قطع الأستاذ سعيد الأفغاني لا ضرورة إليه، لأن صدوره محتمل من النبي صلى الله عليه وسلم؛ وليس هناك ما يمنع صحة نسبته إليه على سبيل القطع

عبد المتعال الصعيدي

القصر العيني

في العدد (418) من الرسالة الغراء ذكر الأستاذ طه الساكت خطأ الكثيرين في تسمية ابن قيم الجوزية ثم قال: (وقريب من هذا الخطأ - وإن تكلف بعض الكتاب تصحيحه - قولهم (القصر العيني)، وإنما هو قصر العيني بالإضافة إلى الأمير الشهابي أحمد بن عبد الرحيم بن البدر العيني نسبة إلى (عين تاب) على ثلاث مراحل من حلب) أ. هـ.

والواقع أنني كتبت في العام الماضي عن هذا التصحيح في مجلتي (منبر الشرق) و (الصباح) الغراوين، ولكني عدتُ فوجدت أن قولهم (القصر العيني) صحيح لا غبار عليه ولا تكلف فيه، وذلك لأن قولنا (قصر العيني) من باب الإضافة، وقولنا (القصر العيني) من باب النسب، والصلة وثيقة بين الإضافة والنسب، حتى لقد كتب الشيخ (الأشموني) في كتابه عنوانَ (النسب) ثم قال:(هذا هو الأعرف في ترجمة هذا الباب، ويُسمى أيضاً باب الإضافة، وقد سمَّاه سيبويه بالتسميتين. . .).

فقل (قصر العيني) وقل (القصر العيني) ولا تضيِّق على نفسك، فلغة الضاد أفسح مجالاً وأرحب صدراً، ولنا في لهجاتها ورواياتها وأقوال أهليها متسع ومستراد!

(البجلات)

أحمد الشرباصي

ص: 42

‌القصص

مفترق الطرق

للأستاذ نجيب محفوظ

زماننا عاثر الحظ أو نحن به عاثرو الحظ. فأينما تول وجهك تسمع تنهد شكوى أو تر تجهم كدر. ولن تعدم قائلاً يقول إن هذا الزمان أضيق رزقاً وأنضب حياء وأفسد خلقاً وأقل سعادة وأنساً من الزمان الماضي، ويجوز أن نكون لزماننا ظالمين، وأننا نتحامل عليه لا لعيب اختص به دون غيره من الأزمنة، ولكن تبرماً بقساوة الحياة وفراراً من جفاف الواقع ولياذاً بظلام الماضي الذي يشبه ظلام المستقبل بعث أمل وطب آلام. ومهما يكن من أمر هذا السخط فما من شك في أن جلال أفندي رغيب كان على حق في شكواه التي يرددها بغير انقطاع. كان مراجع حسابات في وزارة المعارف وفي السادسة والأربعين من عمره، قد وسع الله له في إحدى زينتي الحياة الدنيا وقتر عليه في الأخرى، فرزق ستة أبناء يسعون ما بين حجر الأم والسنة الرابعة الثانوية. وأما مرتبه فسبعة عشر جنيهاً، فناء بأثقال العيش ومتاعب الحياة، وقصمت ظهره المصاريف المدرسية. وكان كثيراً ما يقول متبرماً حانقاً كلما آن موعد قسط أو اقترب موسم من المواسم:(رجل مثلي - أب لستة ذكور، اثنين في المدرسة الثانوية، واثنين في المدرسة الابتدائية، وواحد في المدرسة الأولية، وواحد في البيت، غير زوجة وأم، ولا تراه الوزارة حقيقاً بإعفاء واحد من أبنائه من المصاريف. . . فمتى إذا تجوز المجانية!. . ولمن تجوز؟). وكان كغالبية أهل هذا البلد يائساً من العدالة قانطاً من الخير، يعتقد اعتقاداً كالإيمان الراسخ أنهما لا يصيبان إلا المجدودين من ذوي القربى والأصهار والأصدقاء، فرأى أن ليس أمامه سوى الكفاح الشاق، ومعاناة الشدة عاماً بعد عام، والتصبر على مرارة الحياة

ولبث على حاله لا يطمع في رجاء حتى تولى وزارة المعارف معالي حامد بك شامل، فطرق أذنيه اسم الوزير الجديد، وجذبت عينيه صورته المنشورة في الصحف، فومض في أفقه المظلم بارق أمل جديد، وانتعشت نفسه برجاء لا عهد له به، وقال لنفسه:(ينبغي أن أقابله. . . وأن أشكو إليه. . . هل يرفض رجائي؟. . . لا أظن)، وقصد يوماً إلى سكرتير الوزير وكتب حاجته على رقعة ليوصلها إليه، فمضى الشاب بها وتركه في حالة من القلق

ص: 44

والإشفاق لا توصف؛ وعاد مسرعاً يقول لجلال أفندي: (معالي الباشا مشغول جداً اليوم فلتتفضل بالمجيء ضحى الغد)، فعاد إلى حجرته مسرعاً واجداً متألماً، وكان ألف طوال مدة خدمته خيلاء الرؤساء وانتهار المديرين، ولكن انشغال الوزير آلمه أكثر من أي شيء، وجعل يتساءل: ترى هل يذكرني؟. . . ولم يكن شيء، ليصده عن هذا الباب، فذهب ضحى الغد كما قال له السكرتير وانتظر طويلاً حتى قال له الشاب:(تفضل)، فقام مسرعاً خافق الفؤاد، وفتح له الباب المحروس فاجتازه إلى الحجرة ذات السجاجيد والزخارف، ونظر إلى صدر المكان فرأى معالي الباشا كما يدعونه يطالع في شيء بين يديه، فلما أن شعر بوجوده رفع إليه عينيه ومد له يده وعلى فمه شبه ابتسامة وقال:

- أهو أنت!. . لقد اشتبه علي الاسم. . . أو ما تزال حياً؟

فسر جلال للمداعبة الأخيرة واطمأنت نفسه وقال بخضوع وإجلال:

- نعم يا صاحب المعالي ما أزال أكابد حظي في الدنيا

فنظر إليه نظرة استفهام، ومال إلى الوراء قليلاً وهو يتمتم:(أفندم)، فقال جلال:

- يا معالي الباشا قصدت إلى معاليك لأشكو إليك ما أشكوه من عنت الدهر وشقاء الأيام. لي أسرة كبيرة وأبناء كثيرون ومرتبي صغير، ولست طامعاً في علاوة أو درجة، ولكني أضرع إلى معاليكم أن تعفى ابنين لي في مدرسة شبرا الثانوية من المصروفات

- الاثنين معاً؟!

- نعم يا معالي الوزير؛ إن آمالي مشرقة بمعاليكم، لقد جاوزت معاليكم عهداً طويلاً من سني الدراسة، وينبغي لمن حظي بذاك الجوار أن يربو حظه على حظوظ الناس جميعاً، خاصة إذا علمتم أن لي غيرهما أربعة آخرين، فقال له الوزير باقتضاب:

- قدم لي مذكرة

وكان الرجل محتاطاً لذلك، فأخرج من جيبه التماساً أعده لهذه الساعة وقدمه إلى الوزير، فجرت عليه عيناه بسرعة، ثم أمسك قلمه ووقع عليه بكلمة، وقال للرجل:

- اطمئن. . .

فانحنى جلال أفندي تحية، فتكرم الآخر بمد يده له، ثم غادر الحجرة مغتبطاً مثلج الصدر. ولكنه ما كاد يعود إلى مكتبه بالوزارة، حتى قال لنفسه متعجباً: لم يتغير (حامد شامل)

ص: 45

البتة، ولا تقدم به العمر، وكأنه في ريعان الشباب. . . هل يصدق إنسان أن كلينا ابن خمس وأربعين؟. . . تا لله إني لأبدو لعين الناظر في سن والده!. . . وقضى وقته يفكر في الوزير، في حاضره وماضيه، وفي صلته القديمة به. . . ثم اضطجع بعد تناول غدائه في بيته، وأشعل سيجارة، واستسلم إلى أحلام الذكريات. . . فألوت به إلى عهود الماضي المنطوي. . . إلى الوقت الذي كان يجلس فيه إلى يسار التلميذ (حامد شامل) على مقعد واحد، لا يكاد يفرق بينهما فارق جوهري. . . وكان التلميذ (حامد شامل) يلفت الأنظار إليه ببياض بشرته واحمرار شعره، وبملازمة عبد متهدم طويل يرتدي بدلة سوداء له في الطريق إلى المدرسة وفي طريق العودة، يتبعه كالظل إذا مشى، ويطمئن إلى مكانه إلى جانب حوذي العربة إذا ركب، ولذلك كان يحلو لرفاقه أن يداعبوه فدعوه (حامد اغا)، على أنه عجب غاية العجب كيف كانت المنافسة تحتد بينه وبين وزير اليوم وتلميذ الأمس كأنهما أخوا حظ واحد. . . والأعجب من هذا أنهما جريا معاً وراء تلك العاطفة - التي تهيج الجد والنشاط ولا تتسامى عن المرارة والألم - منذ أول عهد تجاورهما؛ وكانا في كفاحهما كأنهما يعيشان منفردين في فصل واحد، فكانت الغاية التي يهدف إليها كل منهما أن يتفوق على قرينه بغير مبالاة الآخرين. وعلى الرغم من استعانة حامد بالدروس الخصوصية يتلقاها على أنبه مدرسي المدرسة، فقد كانت الغلبة بينهما سجالاً، وكانت كفة جلال الراجحة. . . وكانا في ملعب كرة القدم مثلهما في الفصل لا يريحان ولا يستريحان. وكان كلاهما يزعم أنه أحق من صاحبه بقلب الدفاع. فكان مدرس الألعاب يعاقب بينهما فيه، حتى بدا تفوق جلال للجميع فاستأثر به، فكان آخر عهد الآخر بلعب الكرة. يا لله!. . . كانا يستبقان كأنما الدنيا تضيق عنهما معاً، وكأنما كان مستقبلهما ينذر بحرب مستعرة تشمل ميادينها الجد واللعب والإدارة والوزارة. فكيف شالت كفته بعد ذلك؟؟ كيف سقط من عيون الغربال وضاع في الحثالة؟. . . كيف صار رفيقا المقعد الواحد أحدهما وزيراً والآخر مراجعاً بالحسابات ينوء صدره بآلام الحاضر ووساوس المستقبل!

ثم تمتم قائلاً وهو يطفئ سيجارته ويرمي بالعقب إلى المنفضة: تا الله ما يستحق أن يكون وزيراً ولا وكيل وزارة ولا شيئاً من هذا، وخشي أن يكون متجنياً عليه أو مائلاً مع عواطفه القديمة فتساءل باهتمام وجد كأنما يزمع كتابة ترجمة له كيف اعتلى كرسي

ص: 46

الوزارة؟. . . لقد انفصلا في نهاية الدراسة الثانوية فاضطر هو لأسباب إذا ذكرها جرت المرارة في فمه، إلى الانقطاع عن الدراسة والتحق صاحبه بمدرسة الحقوق، ثم حصل على الليسانس، وكان أبوه محمد باشا شامل وزيراً للحقانية فعينه سكرتيراً له في الدرجة الخامسة، فكانت القفزة الموفقة الأولى. وقرأ بعد ذلك في الصحف أنه اختير لبعثة في فرنسا لا يعلم كم أمضى بها ولا ما حصل عليه فيها من الإجازات، ولكن كثيرين يعلمون بزواجه بعد ذلك بسنوات من كريمة المرحوم حامد باشا حامد الذي تولى الوزارة مرات، فارتقى فجأة إلى الدرجة الثالثة مديراً لإدارة التشريع، وانقطعت عنه أخباره فترة وجيزة حتى علم بتوليته مديرية أسوان، ثم بترقيته محافظا ًللقنال بعد ذلك بقليل، ثم باختياره وزيراً للمعارف، ومضى على توليته الوزارة أسابيع والمجلات لا تكف عن الإشادة بمواهبه القانونية ومقدرته الإدارية ومشروعاته عن إصلاح التعليم، وكاد جلال أفندي أن يصدق ما يقال لولا أنه قرأ مقالاً عن تفوق الوزير في عهد الدراسة - في العلم والرياضة البدنية معاً - وكيف أن مفتشاً من مفتشي الوزارة تنبأ له على أثر مناقشته بأنه سيكون يوماً وزيراً، فأغرق الرجل في الضحك، وقال ساخراً:(الآن فهمت سر المواهب القانونية والإدارية!)

وتنهد جلال أفندي رغيب وتمتم قائلاً: (دنيا!)، وأراد أن يريح نفسه من أفكاره فتناول مجلة يقلب صفحاتها المصورة؛ والظاهر أن ذكريات الوزير كانت تأبى أن تفارقه، فرأى صفحة من المجلة مخصصة للوزير تتوسطها صورة كبيرة؛ ما إن بصر بها حتى صاح في دهشة وغرابة (رباه هذه صورة فصلنا القديم) وألقى عليها نظرة سريعة فثبت بصره على صورته وكان يقف في الصف الأول وراء المدرسين مباشرة إلى يمين الوزير ينظر إلى عدسة المصور في ابتسام وثقة؛ وكان الوزير كالعابس وعلى حاجبه الأيمن ذبابة، فضحك جلال طويلاً وذكر قصة الذبابة، وقد كانت في الأصل من نصيبه هو وتنبه لها والمصور يهم بالتقاط الصورة فهشها بسرعة فطارت عنه إلى حاجب قرينه وحطت عليه؛ وقد أحس أسفاً لذبة الذبابة فلعلها كانت ذبابة الحظ السعيد سكنت إلى وجه الوزير المدخر؛ ورنا إلى الصورة بعينين حالمتين فهامت روحه في آفاق الماضي حتى شعر بأن روح الطفولة تحل فيه مرة أخرى، وأن شعيرات قذاله البيضاء تسود، وتجاعيد جبينه وما حول فمه تلين،

ص: 47

ونظرة عينيه تصفو وترق، ويمسح على ما فيها من هم وبلبال. . . أحس قلبه يخفق مرة أخرى بالأمل والطمأنينة، وجرى بصره على الوجوه الصغيرة وهو يتساءل: ترى كيف صار هؤلاء جميعاً؟. . . وعاين أول صورة في الصف الأخير فعرف صاحبها بوضوح غريب، وذكر اسمه (عبد الملك حنا)، وذكر كيف كانت تنتابه نوبات الصرع في الفصل حتى انقطع عن المدرسة. . . أما بقية الصف فتذكر وجوههم وغابت عنه أسماؤهم ومصايرهم؛ وعرف في الصف الثاني وجهاً كأنما تركه بالأمس؛ كان ابناً لأحد كبار المستشارين فكان يتمتع لذلك بنفوذ وصوله فيحييه الناظر إذا بصر به، ويلاطفه المدرسون، وقد علم فيما بعد أنه عين وكيلاً للنيابة وترقى قاضياً، ولعله يتأثر الآن خطى أبيه الكبير. أما من يليه من الصغار فجلهم من المغمورين وبعضهم معه في المعارف وهو يعرفهم حق المعرفة، وأما آخر هذا الصف - الذي ينظر إلى المصور بتحد غريب ويشبك ذراعيه على صدره - فكان من أشقياء التلاميذ المولعين بالشجار والتصادم، وقد طرد من المدرسة لاعتدائه على أحد المدرسين. ومن العجيب أنه احترف فيما بعد (البلطجة)، وطاف بالسجن مرات. وألقى نظرة أخيرة على الوجوه الأخرى فلم يعرف عنها شيئاً إلا الدكتور المعروف (حنا عبد السيد)، وإلا هذا الذي يتوسط الصف الأول، كان أنبغ التلاميذ جميعاً، وكان أول الابتدائية ثم أول البكالوريا والتحق بمدرسة الحقوق كبير الهمة سخي المواهب، ولكنه أصيب أول عهده بها بداء اصدر فاضطر بعامين ترك المدرسة والكف عن التحصيل، واشتغل بعد ذلك بعامين كاتباً في الصحة. . . فلا يقل حظه شذوذاً عن حظ الوزير نفسه.

نال كل منهم نصيبه وخضع لحكم حظه وسعيه. كانت تجمع بينهم جدران واحدة، لا يكاد يتميز وراءها إنسان إلا بجده وخلقه، ففرقت بينهم الحياة، فرفعت وخفضت، وأحيت وأماتت، وأذاقت الفقر، ومتعت بكرسي الوزارة، وكل بما قسم له غير راض ولا قانع. . .

ونظر جلال أفندي عند ذاك في الساعة فوجدها تدور في الرابعة، فعلم أن موعد الصغار آن واقترب، وإنهم عما قليل يملئون البيت حياة وقلبه نوراً، فرمى بالمجلة بعيداً وطرد من عقله الوسواس ليستقبلهم أجمل استقبال، وقال لنفسه متعزياً:

- من الخطأ أن يفكر الإنسان في شئون الناس ما دام هذا لا يورث إلا الضيق، وحسبي أن

ص: 48

معاليه قال لي: (اطمئن)

نجيب محفوظ

ص: 49