المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 424 - بتاريخ: 18 - 08 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٢٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 424

- بتاريخ: 18 - 08 - 1941

ص: -1

‌تحت ظلال الكافورة

من أحاديث القهوة

- 1 -

المنصورة بلد الطبيعة الساحرة والطبع الشاعر هي الآن مصيف ومهجر

هي مصيف، لأن موقعها على ملتقى النهر الصغير والنهر الكبير جعلها كرأس البر على ملتقى النيل والبحر؛ والفرق بينهما أن (رأس البر) رمله من رمال الصحراء، والمنصورة روضة من رياض الجنة. وهي مهجر، لأن بعدها عن الأهداف الحربية والثغور البحرية صرف عنها لحظات المغيرين والغِيَر

ومن جملة المصطافين بها والمهاجرين إليها تتألف في القهوات والندوات جماعات في الأدب والسياسة والتجارة واللهو والفضول ترتسم من مجموعها صورة مقاربة لمجتمعنا العام تصلح للتأمل والدرس. ومن جعل الله ديدنه وصف ما يبصر، وتسجيل ما يسمع، لا يملك أن يشاهد هذا العالم الصغير دون أن يعرض بعض أحاديثه للبحث، وبعض حوادثه للنظر

تتفيأ القهوة التي نجلس فيها الدوح الباسق والشجر الوريف بين شارع الكرنيش وشاطئ النيل. فهي تنظر عن اليمين فترى في الطريق أخلاطاً من الأجناس أكثرها الإغريق، وأنماطاً من اللباس أغربها القلانس، وصوراً من الحسن أبدعها الأوانس، وهُوَلاً من القبح أشنعها المتسولون والباعة. وتنظر عن الشمال فترى في النهر زوارق العبور تنساب حابسة في شُرُعها طلق الهواء، أو ضاربة بمجاديفها وجه الماء، وشباك الصيد يطرحها الصيادون في المكان الضحل فلا تصيب إلا صغار الحصى أو شَبار السمك، وخواطف الطير تحلق فوق الصائد فتخطف ما ثار أو تأخذ ما ترك

يندو إلى هذه القهوة طوائف من الناس ألفت بينهم وحدة الحرفة أو مصافقة المودة أو مبادلة المنفعة: فهنا المعلمون قد تكوفوا على بعض المناضد القاصية، يجادلون بالصوت الجهير في الحرب والأخبار، أو يخوضون في حديث المفتشين والنظار، ومذباتهم التقليدية تتحرك آلياً في أيديهم فتذود الغبار عن الثياب والذباب عن الأوجه. وهناك التجار يتعاقب على مناضدهم الوسطى شُكول من السماسرة والمنتجين فيقيمون في حدودهم الضيقة سوقاً

ص: 1

تصطرع فيها طباع المتسوقين من الإغراء والإباء، والصخب والغضب، والمشادة والملاينة، والمسارَّة والمسايرة، ثم ينجلي الأمر عن صفقة من الشعير أو الرز. وهنالك في أقصى الشرق مناضد بُسطت عليها أغطية من القماش المفوَّف وقد أحاط بها عقائل من حسان الروم يفسرهن شباب منهن، قد أنقذهم من نار الحرب سلام النيل، وأفرغ عليهم وضاءةَ النعيم خير مصر، وضمن لهم عيش الأمان سماحة المصريين؛ فهم يتساقون أقداح الزبيب، ويتناقلون أحاديث الأنس، ويتطارحون أضاحيك الحياة، كأن شعبهم لم يذل ووطنهم لم يحتل ومَلكهم لم يشرَّد!

وفي خلال هذه الزمر ترى شاعراً وسنان الحركة نشوان الحس يقرأ على صفحة النهر الوردية أشعار الطبيعة، أو طارئاً من ضخام القرويين لم يطق صبراً على عبث النسيم فنام على كرسيه أثقل النوم، وغط في نومه أقبح الغطيط. وعلى حفافي القهوة ومماشيها تتهافت أفناءٌ من ذباب البشر يقولون إنهم من رعايا وزارة الشؤون الاجتماعية، فيهم المعتوه المخيف، والمريض المعدي، والشيخ المتهدم، والشمطاء الخاوية، والناشئ الضرير، وكلهم يسأل بإلحاف، أو يبيع بسماجة، أو يحتال في سخف!

وتحت الدوحة الكبرى وفي مكان لا يكاد يتغير تجلس جماعتنا طرفي النهار وزلفاً من الليل. وهذه الجماعة من تأليف الحب وحده. تقارب في أفرادها الذوق والرأي والهوى فتمكنت بينهم الألفة، واستكمل بعضهم من بعض ما نقص من عوامل أنسه ومباهج نفسه. واحسبني لا أعدو الحق إذا قلت إنها كثيراً ما تشقق الحديث في شجون من الأدب والتاريخ، وفنون من السياسة والنقد، وشؤون من التجديد والإصلاح، إذا هي سجلت في الرسالة على إيحاء الخاطر وإملاء الطبع كانت نوعاً من الإنتاج الأدبي له قيمته وأثره. ولعلني أستطيع أن أنقل إليك الحين بعد الحين مقطعات من هذه الأحاديث تجد فيها لوناً طريفاً من ألوان المعرفة

واسطة عقد الجماعة رجلان كل منهما طراز وحده في مناقلة الحديث ومبادهة الرأي: أحدهما الأستاذ توحيد السلحدار، والآخر الأستاذ الزناتي. أما صديقنا السلحدار فكنز مدفون لم يشأ الله أن يعرف: نفس كريمة لا تخلق إلا في ملك، وحس مرهف لا يكون إلا لشاعر، وذوق سليم لا يوهب إلا لفنان، ورأي حصيف لا يختمر إلا في حكيم، وثقافة شاملة لا

ص: 2

تجتمع إلا لعالم، وخبرة واسعة لا تتهيأ إلا لأريب. درس الأستاذ توحيد وقرأ، ثم رحل وشاهد، ثم ذاق وجرب، ثم عايش النبلاء بحكم نشأته، ولابس الدهماء بحكم وظيفته، وأعانه على الإفادة من كل أولئك أسرة غنية ويد سخية ونفس طُلَعة. فأنت لا تكاد تبدأ الحديث أو تلقى السؤال في ناحية من نواحي الأدب أو الفن أو السياسة أو التاريخ أو الطب أو الطعام أو الشراب أو اللهو إلا بادرك بقول تظنه لصوابه تفكير يومه، أو بادهك بجواب تحسبه لسداده اطّلاع ساعته

وأما أخونا الزناتي فحديثٌ حسن المنطق عذب الأسلوب جامع لطائفة مختارة من أخبار العلماء والأدباء ورجال الحكم، شهدها بنفسه، أو سمعها من أبيه، أو قرأها في مخطوط من نوادره؛ ومن هذه الأخبار ما لا تجده في كتاب ولا تسمعه من أحد. وللزناتي تطلَّع الجبرتي وملاحظته، فهو يستقصي أطراف الخبر، ويستوعب أحوال الأشخاص، ثم يخزن ذلك في حافظة واعية ليؤديه متى شاء لا يند منه حرف ولا وصف. ولقد أقترح أحد الأصدقاء على الأستاذ توحيد أن يُطرف قراء (الرسالة) بأحاديث (من جانب الذاكرة)، وعلى الأستاذ الزناتي أن يمتعهم بنوادر (من فيض الحافظة)؛ فعسى أن ينزل الأستاذان على مقترح الصديق، وان يعجلا إلى القراء الظِّماء بهذا الرحيق!

(المنصورة)

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

فرصة ذهبية لاختبار العزائم والأخلاق - قسم اللغة العربية

بكلية الآداب - أدفع الثمن يا جاحد - الموت في الرؤيا حياة

- إلى جيراني أوجه القول - تحية عراقية.

فرصة. . .

هي فرصة ذهبية لاختبار العزائم والأخلاق فاغتنموها قبل أن تفوت

وما تلك الفرصة؟ هي فرصة التنبه الشديد الذي يلازم النفوس والعقول عند اشتداد المكاره والمحرجات. ولا موجب للتذكير بما نعاني في هذه الأيام (البيض) وإنما الواجب هو التذكير بالقيمة الصحيحة لأمثال هذه الأيام في تأريث المشاعر والقلوب، فهي عندي أصلح الأيام للنضال في الميادين الأدبية والاجتماعية - بغض النظر عن الميادين السياسية - والرجل الذي يتبلد في هذه الأيام بحيث يقضي أوقاته في مضغ الحديث المعاد، هو رجل لا يصلح لشيء، وهو بمسلكه البليد يشهد على نفسه بفتور العزيمة وضعف الأخلاق

حين يأتي النذير بأن العالم معرض للدمار والهلاك - لا قدر الله ولا سمح! - ينقسم الناس إلى فريقين: فريق يسارع إلى انتهاب اللذات ليأخذ منها حظه قبل أن يموت، وفريق يستبق لي الأعمال الجدية ليواجه الموت وهو على أشرف حال، فإلى أي الفريقين تميلون، يا قرائي؟

كونوا كيف شئتم، ولكن المهم هو تذكيركم بأن الساعة من هذه الأيام قد تساوي سنوات بفضل ما فيها من التنبه والتيقظ، وبفضل ما تصنع في إرهاف عزائمنا وقلوبنا، وتلك فرص لا تسنح في كل يوم، فاغتنموها قبل أن تفوت، ثم اغتنموها قبل أن تفوت

لو كنا في حرب لدعوت نفسي ودعوتكم إلى الاستشهاد في سبيل الوطن الغالي، ولكن مصر لم تقرر إعلان الحرب، فلم يبق إلا أن ننتفع بالفرصة التي أتيحت بسبب تعرضنا لأخطار الحرب، بلا بغى منا ولا عدوان

والفرصة هي تلك اليقظة العقلية والروحية، اليقظة التي محت جميع الغفوات، وصيرت

ص: 4

أعصابنا في وقدة الجمر الوهاج

لا يجوز أن تنقضي هذه الأيام بلا محصول نفيس يرفع رءوسنا بين كرام الشعوب، ولا يجوز أن نقف موقف المنتظرين لما تسفر عنه الأغداء الآتية، وهي أغداء مجهولة الألوان، ولا ينتظرها إلا أهل الغفلة والخمود

لا يجوز أن تقل أوقات العمل عن عشر ساعات من كل يوم، بالنسبة للضعفاء. أما الأقوياء فمن واجبهم أن ينتفعوا بجميع الأوقات ولو قهرتهم الغارات على اللجوء إلى ظلمات السراديب

هي فرصة للتخلص من الأمراض النفسية والروحية، فاغتنموها قبل أن تفوت

هل سمعتم بجهنم - أعاذكم الله من حر جهنم -؟

يقيم الآثم مدة في جهنم عقاباً على ما أجترح من السيئات، ولو أصغيت لوحي النزعة الصوفية لقلت: يقيم الآثم مدة في جهنم ليتطهر من الأوضار النفسية والروحية بحيث يصلح لمجاورة سكان الفردوس

ومكاره الحرب ليست عقاباً على أثام جناها المصريون - وهم نماذج في الرفق والتسامح - وإنما هي مِحن مطهِّرة سنقطف ثمارها بعد حين

والإقبال على الأعمال بشغف وشوق هو الذي يقصر أمد ذلك الامتحان، فأقيموا الدليل على الصلاحية لحياة البِر والمجد، ليرفع الله عنكم آصار الخوف، وليُذهب عنكم أوجال هذه الأيام

إن اللاهين واللاعبين لا يستحقون الحياة، فمن حق الأقدار أن تسلب منهم هذه النعمة حين تشاء

أما الذين يبذلون حياتهم في الأعمال الجدية صابرين مُصابرين، فلهم في الحياة شرف الكرامة، ولهم بعد الموت شرف الخلود

في كلية الآداب

قيل وقيل إن قسم اللغة العربية بكلية الآداب صائر إلى الزوال، مع أنه كان النواة لدوحة الجامعة المصرية؛ فما أغرب ما تصنع التقلبات بمصاير الشخصيات المعنوية في هذه البلاد!

ص: 5

ويقال إن فكرة توحيد المعاهد التي تصوغ مدرسي اللغة العربية هي السبب في إلغاء ذلك القسم، فما تستطيع الدولة أن تحتمل الإنفاق على ثلاثة معاهد توصل إلى غرض واحد!

هو ذلك، يا مَن أقمتم البرهان على تبحركم في علم الاقتصاد! ولكن هل يوجد في الدنيا كلية آداب ليس بها قسم خاص بآداب اللغة القومية؟

لكم أن تنشئوا معهداً يتخرج فيه مدرسو اللغة العربية على المنهاج الذي تنشدون. . . أما اعتداؤكم على قسم اللغة العربية بكلية الآداب فهو جناية لا يُقدم على اقترافها رجل حصيف

وقد سمعت - وما أشنع هذا الذي سمعت - أن أساتذة كلية الآداب رحبوا بذلك الاقتراح اللطيف! (يشهد بذلك خطاب تلقيته من أحد المتخرجين في كلية الآداب، وإن كان بغير إمضاء، كأن صاحبه يخاف عواقب الجهر بالرأي الصحيح) أما بعد فهذه تجربة جديدة لأساتذة كلية الآداب، فإن أُلغي ذلك القسم وهم شهود فسيعرف القلم كيف يجزيهم أحسن الجزاء

كان يقال: إن من عيوب عهد الاحتلال أنه لم ير التعليم إلا وسيلة للتوظف، فكانت مكيدة لقتل المواهب المصرية

فأين أذناك، لأُسمعك صوت الحق، يا عهد الاستقلال؟!

وأين اليمين؟ أين اليمين؟ أي والله، فقد أقسمنا على الوفاء لكلية الآداب، وهي اليوم بلا ناصر ولا معين، فأين أبناؤها الأوفياء؟ كان الظن أن لا يلغى كرسي واحد من كراسي تلك الكلية، ولو كان خاصاً بدرس لغة الزنوج، فكيف يلغى قسم اللغة العربية؟ تلك أمور يحار فيها اللبيب

أدفع الثمن يا جاحد!

هذا مدرس (من شرق الأردن) كتب إليّ خطاباً بلغت كلماته 1500 بالتقريب، وإنما قدرت الكلمات لسبب سيعرفه بعد لحظات

وذنبي عند هذا المدرس أنني لم أف بما وعدت من بسط القول عن الحياة الأدبية في العراق، فقد سكتُّ بعد بضع مقالات. . . فهل غاب عنه أن الدنيا وقعت فيها أكدار صرفت القلم عما أعتزم المضي فيه، وأن من تلك الأكدار انقطاع البريد بين مصر والعراق؟؟ وما قيمة الكتابة عن الأدب العراقي وكان أهله في شغل بما عرف الناس، إلا ذلك المدرس

ص: 6

الأديب؟!

انتظر، فقد نصل ما أنقطع بعد أسابيع

ثم أرجع إلى بيت القصيد فأقول: أن هذا المدرس أتعب نفسه بمناوشتي وهو يعتقد بأني لن أنشر خطابه في الرسالة ولن أرد عليه، فمن أين عرف أني أبخل عليه بالنشر والرد، إن اتسعت صفحات (الرسالة) لما يريد؟

لو فكر قليلاً لعرف أن من الخير للحياة الأدبية أن يكون فيها كاتب يثير بعض القراء إلى الحد الذي يسمح بأن ينفعل فيكتب مئات الكلمات باهتمام واحتفال: فكتابة 1500 كلمة في ساعة غضب توقظ العقل والذوق، وتروض الكاتب على الاصطلاء بنار الفكر والوجدان

وما قال أحد أنه يبغضني ويحقد على إلا اطمأننت إلى تبليغ رسالتي الأدبية، فأنا أخلق الفرص خلقاً لإذكاء نار الغضب والحقد في القلوب التي طال عهدها بالغفوة والخمود. . . وهذا الغاضب الحاقد لا يعرف كيف انشرح صدري لما صدر عن قلمه من غضب وحقد، فذلك شاهد جديد على أن جهودي الأدبية لن تضيع

إن هذا المدرس لا يعرف كيف خدمته حين أثرت عواطفه الغافية، وحين قهرته على الفزع إلى القلم والمداد والقرطاس، وحين فرضت عليه أن يقول ما يقول بألفاظ خفاف أو ثِقال!

ادفع الثمن، يا جاحد، ليرفع الله عنك أصر الجحود!

الموت في الرؤيا حياة

الأديب الفاضل السيد (كاشف) الذي كتب إلينا من (أعالي النيل) رأى في منامه حلماً أزعجه أشد الإزعاج، وكيف لا ينزعج وقد رأى أن أعظم أحبابه الروحيين قد مات؟

وأجيب بأن الموت في الرؤيا حياة، فله أن يطمئن كل الاطمئنان

والطريف في هذه الرؤيا أن الميت هو صاحب (النثر الفني) وأن السيدة التي كانت تبكي خلف نعشه اسمها (ليلى) وهذا الأديب يرجوني أن أفسر له هذا الحلم المزعج ليذهب خوفه وأساه. . .

ومن غريب المصادفات أن أقرأ في جريدة الدستور قبل أن أتسلم خطاب هذا الأديب بلحظة قصيرة كلمة مترجمة عن جندي ياباني، وهي:

(حلمت ليلة أمس أني فقدت أبي، وقد أخبرني أحد رفاقي أن هذا الحلم فأل حسن)

ص: 7

والقول بأن الموت في الرؤيا حياة هو قول ابن سيرين، فاتفاقه مع العقيدة اليابانية دليل على ارتباط الأمم الشرقية بعضها ببعض في كثير من المعاني والآراء

أما بكاء (ليلى) خلف نعشي فهو شاهد على اعتزازي بمودة أهل العراق فهم أنصاري الأوفياء. أعزني الله بودهم الوثيق

إلى جيراني أوجه القول

لا تظنوا أن أعماركم سيضيع منها شيء أن أقللتم من الجزع وقت النذير بغارة جوية، ولا تتوهموا أن الأعداء عندهم من الذخائر ما يكفي لتقويض جميع البيوت، ولا يخطر في بالكم أن جنود السوء ستقصدكم بالذات، فهم يجهلون مواقع أرواحكم بالنهار وبالليل، ولعلهم يجهلون مواقع أرواحهم من وثبات القضاء

تلك كروب ستنجلي وستنكشف بعد أمد قصير أو طويل، ثم تعود الحياة إلى ما كانت عليه من الرخاء والصفاء

العاقبة للصابرين، يا جيراني، فلا تزعجوني بما أسمع من إمارات القلق والخوف، وقد أويت إلى سرداب البيت لادون بعض الملاحظات في أمان من اعتراض البوليس لا من اعتراض الموت، فالأعمال بيد الله يتصرف فيها كيف شاء

أكتب هذا وأنتم هرج ومرج، كأن صفارة الإنذار هي النفخ في الصور، وكأن الدنيا على شفا الزوال!

يكفي أن تراعوا نصائح وزارة الوقاية، تأدباً مع النظام، لا تخوفاً من الموت، ولتصنع الأقدار بعد ذلك ما تريد

لن يترك أحد من عمره دقيقة واحدة، ولو عرض صدره لقواذف الموت، فما جزعكم من كوارث لن تصيب إلا من كتبت عليه في سريرة الوجود؟

ثقوا، يا جيراني بأنكم باقون، إلى أن تنتهي الحرب بسلام، وثقوا بأن الاستهانة بالخطوب تفل أنياب الخطوب، واعرفوا جيداً أن الحياة لا توهب إلا لمن تصغر في نفسه قيمة الموت

ما هذا؟ تلك قهقهة عنيفة يصل دويها إلى اذني، وهي الإمارة على أنكم أصحاء النفوس والقلوب. جزاكم الوطن عن تلك القهقهة احسن الجزاء

تحية عراقية

ص: 8

في صدر جريدة (الأحوال) البغدادية تحية موجهة إلى مجلة (الرسالة) بإمضاء (رفيع)، وقد وضعت التحية في إطار جميل يصور بعض مواقع السحر في بغداد

فماذا نصنع في رد تلك التحية؟

نقدم إلى قرائنا الأخبار الآتية:

أولاً - لم ألاحظ فيما يصل من جرائد ومجلات أمثال (الأحوال، الأخبار، والكرخ، والحضارة، وصوت الحق) أن العراق كان وقع في كروب بسبب الحرب؛ فالعراق هو هو، وروحه المعنوية لا يزال قوياً سليماً، اهتمام هذه الصحف بشؤون التعليم والاقتصاد لم ينله أي ضعف، فهي لا تلتفت إلى الماضي لتجتر ما وقع فيه من لاواء، وإنما توجه جهودها إلى المستقبل بعزيمة ومضاء، وكذلك يفعل عقلاء الرجال

ثانياً - وزارة الدفاع الوطني هناك تنشر الإعلانات من وقت إلى وقت في دعوة الشبان إلى الإقبال على الجندية، وهي ترغبهم بشتى الوسائل كان تقول أن مرتباتهم في أيام الدراسة بمختلف المدارس العسكرية ستكون على هذا الوصف أو ذاك، وأن حالتهم بعد التخرج ستكون على هذه القاعدة أو تلك، وأعظم وسيلة في نظر وزارة الدفاع هي تذكير أولئك الشبان بأنهم سيكونون حماة البلاد، وهذا روح يدل على الشعور بقوة الذاتية، ويبشر بمستقبل مرموق، حقق الله الآمال!

ثالثاً - في جميع النشرات التي تصدرها وزارة الدفاع نجد العبارة الآتية:

(يجب أن يكون الطالب عراقياً، وليس متجنساً)

ومن هذه العبارة نفهم أن الاتجاه الجديد في العراق يوجب أن يكون الجنود والضباط والقواد من دم عراقي سليم، ولهذا الاتجاه الجديد أسباب لا تخفي على أولي الألباب

زكي مبارك

ص: 9

‌كيف يكتب التاريخ

للدكتور حسن عثمان

مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب

- 2 -

العلوم المساعدة

المقبل على دراسة التاريخ وكتابته ينبغي أن يعلم من أو الأمر أنه مقبل على عمل شاق يتطلب الجهد والتضحية والصبر الطويل، وأنه تلزمه دراسة عميقة وتحصيل جدي. وأنواع المعرفة الإنسانية متداخلة متشابكة فيما بينها؛ ولا يمكن أن يدرس علم معين مستقلاً بذاته عن باقي العلوم الأخرى. فمثلاً لا يستطيع الإنسان أن يفهم القرآن بدون أن يعرف اللغة العربية وعلم القراآت والفقه. . . وكذلك دراسة التاريخ متصلة بأنواع مختلفة من المعرفة الإنسانية. وكاتب التاريخ ينبغ أن يكون واسع الثقافة عارفاً بالعلوم المتصلة مباشرة بدراسة وكتابة التاريخ. ويمكن أن تسمى أنواع المعرفة اللازمة للمؤرخ بالعلوم المساعدة؛ وهي تختلف باختلاف العصر الذي يرغب الكتابة عنه؛ فالعلوم المساعدة اللازمة لمن يكتب في تاريخ اليونان القديم تختلف عن العلوم المساعدة الضرورية لمن يكتب في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية

ومعرفة اللغات من أهم العلوم المساعدة الضرورية للراغب في كتابة التاريخ. فلابد أولاً من معرفة اللغة الأصلية للعصر التاريخي المرغوب الكتابة عنه، لأن التراجم التي تكفي للثقافة العامة لا تكفي المؤرخ للتغلغل في تاريخ ذلك العصر، فالراغب في الكتابة عن تاريخ اليونان القديم لابد له من معرفة اللغة اليونانية القديمة. ومن يرغب الكتابة عن تاريخ العصور الوسطى في الغرب يلزمه معرفة اللغة اللاتينية التي كانت سائدة في تلك العصور. والراغب في الكتابة عن تاريخ إيطاليا من الضروري له أن يعرف اللغة الإيطالية. وأهمية اللغات لا تكون بدرجة واحدة بالنسبة للعصور التاريخية المختلفة. فمثلاً الراغب في الكتابة عن الثورة الفرنسية ليس من الضروري أن يعرف اللاتينية، ومن الأفضل أن يصرف جهده لتعلم لغة أوربية حديثة؛ ولكن اللاتينية ضرورية لمن يرغب في

ص: 10

دراسة تاريخ الكنيسة حتى في العصر الحديث. وعلى كل فإنه كلما تعددت اللغات القديمة أو الحديثة التي يلم بها الباحث في التاريخ اتسع أمامه أفق البحث والاستقصاء. فأي باحث في التاريخ ينبغي أن يعرف اللغات الأصلية، قديمة أو حديثة، المتعلقة بالعصر الذي يدرسه كالهيرغليفية واليونانية واللاتينية والعبرية والعربية والفارسية والتركية لكي يستطيع أن يرجع بنفسه إلى الأصول التاريخية الأولى؛ وكذلك ينبغي أن يعرف اللغات الأوربية الحديثة الشائعة الاستعمال وهي الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، وإن قصر في معرفة بعضها ينبغي أن يسد هذا النقص، وذلك لكي يقرأ المؤلفات التي تصدر بهذه اللغات عن العصر الذي يدرسه. وقد تبدو مسألة تعلم اللغات عسيرة، وقد تجعل أشجع الناس يتردد في الإقدام عليها؛ ولكنها دراسة لابد منها لمن يرغب جدياً في كتابة التاريخ، ويحسن أن يبدأ الراغب في كتابة التاريخ دراسة اللغات الضرورية أثناء وجوده بالمعاهد النظامية؛ ولكن لا داعي لأن يدرس عدة لغات في وقت واحد. وليس هناك ما يمنع الباحث من دراسة أية لغة جديدة في أي وقت من حياته؛ ودراسة سنتين في إحدى اللغات الجديدة على الباحث كافية كأساس مبدئي، يستمر بعدها في المزيد. ويا حبذا لو أمكنه قضاء بعض الزمن في بلد تلك اللغة الجديدة

ومن العلوم المساعدة الأساسية لكتابة التاريخ علم قراءة الخطوط وقراءة أنواع الخطوط تدرس بعناية في جامعات الغرب. وتوجد أنواع مختلفة من الخطوط الغربية والشرقية تبقي كالطلاسم حتى يتعلمها الباحث ويتدرب على قراءتها. ودراسة هذه الخطوط توفر عليه الوقت وتجنبه الوقوع في الخطأ فيما لو ترك المسألة لمجرد التعلم بالتمرين؛ وأحياناً توجد وثائق كتبها سفراء وقناصل الدول إلى حكوماتهم بالشفرة، وذلك لإخفاء معلوماتها عمن يحتمل أن تقع في يده من الاعداء؛ فينبغي تعلم فك هذه الشفرة بواسطة المفتاح الخاص بها إن وجد في دار الأرشيف التي يعمل فيها دارس التاريخ. ويوجد بالأرشيف الواحد أكثر من مفتاح واحد على حسب الحالة، ومفاتيح الأرشيف تختلف من بلد إلى آخر. فمفاتيح أرشيف الفاتيكان تخالف نظيرها في فلورنسا أو فينا أو باريس أو مدريد. وعلم قراءة الخطوط ضروري جداً لدراسة فروع مختلفة من التاريخ مثل تاريخ مصر القديم، وتاريخ اليونان والرومان، وتاريخ العصور الوسطى، والتاريخ الحديث، حتى أوائل القرن السابع عشر،

ص: 11

بالنسبة لدور الأرشيف في أوربا، وبعد ذلك العهد تصبح الخطوط واضحة مقروءة. والخط العربي مثلاً كتب بأشكال مختلفة، فمنه: الطومار والنسخي والرقعة، وقراءتها تحتاج إلى تعلم وتمرين؛ ولقد وضع بعض القدماء والمحدثين في الشرق والغرب بحوثاً في قراءة الخطوط العربية. وفي الشرق الأدنى العثماني كتبت الوثائق التركية بعدة خطوط مثل الخط الديواني وخط القيرمة، وقراءتهما تحتاج إلى تعليم خاص. ومجموعات وثائق دار المحفوظات المصرية بالقلعة تحتوي آلاف الوثائق عن تاريخ مصر المالي والإداري في العهد العثماني وفي عهد محمد علي وخلفائه. وكلها مكتوب باللغة التركية وبخط القيرمة؛ وكذلك توجد مجموعات من الوثائق بهذا الخط في سورية وتركيا. وستظل معلوماتنا عن هذه القرون الطويلة قاصرة وناقصة وقابلة للتعديل حتى يتعلم الباحثون قراءة خط القيرمة، ويتمكنوا من دراسة هذه الكنوز التاريخية على مدى عدة أجيال

ويتصل بدراسة الخطوط علم الدبلومات فيتعلم الباحث لغة ومصطلحات وثائق العصر الذي يدرسه، وأنواع الورق والحبر الخاص بها، لكي يستطيع أن يعرف صحة الوثيقة أو بطلانها. ويلزم الباحث أن يعرف بعض نواحي علم الكيمياء لكي يستعين بذلك على فحص هذه الوثائق بنفسه إذا اقتضى آلام؛ ثم يأتي علم النومات أي علم النقود والمسكوكات. فالعملة والأنواط التي تحمل صور الملوك أو ذكرى حوادث تاريخية معينة، عليها سنو ضربها تفيد في دراسة التاريخ، فنعرف منها حقائق عن حكم الملوك وعن مدى انتشار التجارة وعن تاريخ الفنون

والجغرافيا من العلوم المساعدة الضرورية لدراسة وكتابة التاريخ؛ والارتباط وثيق بين التاريخ والجغرافيا. فالأرض هي المسرح الذي حدثت عليه وقائع التاريخ، والظواهر الجغرافية المختلفة لها أكبر الأثر في الإنسان والتاريخ. فالسهول والجبال والصحاري والوديان والأنهار والبحار والمناخ وأنواع الرياح والثروة الطبيعية والموقع الجغرافي تؤثر كلها على تكوين الإنسان وعلى نوع حياته وعلى نوع الحضارة وعلى حوادث التاريخ. فلدرس تاريخ مصر مثلاً لابد من معرفة أثر ظروفها الجغرافية في التاريخ المصري. فموقع مصر بين الشرق والغرب قد جعلها تجمع ثروة طائلة لمرور التجارة العالمية بأراضيها في العصور الوسطى؛ وموقعها الجغرافي جعلها تقف أمام أوربا أثناء الحروب

ص: 12

الصليبية. وظروف الجزر البريطانية الجغرافية قد منعت أوربا عن التدخل في شؤونها. وفي الوقت نفسه جعلتها تسيطر على البحار وتتدخل في الشؤون الأوربية في أوقات مختلفة. وأحيانا تتدخل العوامل الجغرافية تدخلاً حاسماً في تغيير مجرى التاريخ. فالعواصف والأنواء قد ساعدت الأسطول الإنجليزي على التغلب على الأرمادا الإسبانية في 1588. وشتاء الروسيا كان من العوامل التي أدت إلى فشل حملة نابليون في 1812. فلابد من الإحاطة بكل هذه الظروف لفهم التاريخ. والتاريخ والجغرافيا متلازمان ولا يمكن استغناء الواحد منهما عن الآخر

والأدب من العلوم المساعدة لفهم وكتابة التاريخ. فدراسة الأدب بصفة عامة توسع عقل الإنسان وتجعله أقدر على الفهم. ولابد للراغب في كتابة التاريخ من أن يتذوق الشعر لكي يفهم ملكة الخلق والابتكار. ويلزمه أن يقرأ القصص الأدبي لكي يتعلم فن عرض الموضوع وإبراز الحوادث المهمة وبحث الشخصيات، ووضع التفاصيل في المكان الملائم وإثارة انتباه القارئ، ويحسن أيضاً دراسة بعض كتب النقد الأدبي لأن هذا يساعد على نقد التاريخ. ودراسة الآثار العقلية لأمة ما أمر ضروري جداً لفهم تاريخ هذه الأمة. فمعرفة الأدب اليوناني ضرورية لكتابة تاريخ اليونان؛ والإلمام بالأدب الإيطالي لازم لكتابة تاريخ إيطاليا؛ ودرس الأدب الإنجليزي مهم لفهم تاريخ إنجلترا

ويتصل بدراسة الأدب الفنون المرتبطة بالشعب أو بالعصر الذي يرغب الباحث الكتابة عنه، مثل فنون النحت والتصوير والعمارة والموسيقى. فمن يرغب في دراسة تاريخ اليونان القديم لابد له من أن يدرس تطور الفن اليوناني القديم. ومن يرغب الكتابة عن تاريخ النهضة في إيطاليا يلزمه أن يدرس تطور الفن الإيطالي في عصر النهضة. ويمكن جمع ثقافة فنية عامة بدراسة الصور والرسوم في بعض المؤلفات العامة. ويا حبذا لو أمكن الباحث أن يدرس أهم آثار الفن اليوناني أو الإيطالي في متاحف اليونان وإيطاليا، ويعيش بعض الزمن في ذلك الجو الفني الخالص بين روائع فنون التصوير والنحت والموسيقى. ولا ريب فان الفنون خلاصة العواطف الإنسانية، تعبر أصدق تعبير عن روح العصر، والتأثر بها يجعل الباحث أقدر على فهم التاريخ وكتابته

ومن المسائل الأساسية لمن يرغب في كتابة التاريخ أن يعلم ما عرفه العالم عن التاريخ

ص: 13

قبل أن يكتب التاريخ. فينبغي أن يقرأ بعض أثار كبار المؤرخين السابقين مثل: هيرودوت وتوسيديد وليفي وماكيافيللي وفيكو وجبون وفولتير. . . وأن يقرأ بعض المؤلفات الحديثة عن التاريخ عامة، وعن العصر الذي يرغب في الكتابة عنه خاصة. فيلم بثقافة تاريخية عامة، كما يعرف الطرق التي اتبعها الأقدمون والمحدثون في بحث وكتابة التاريخ

ومن المفيد أيضاً أن يلم الباحث في التاريخ بطائفة أخرى من العلوم المساعدة. فيلزمه أن يعرف شيئاً عن المنطق وتقسيم العلوم لكي يفهم موضع التاريخ من بقية العلوم الأخرى، كما ينبغي أن يدرس فلسفة التاريخ فيعرف أراء بعض الكتاب مثل: برجسون وكروتشي. وهو محتاج أيضاً لأن يعرف مسائل عامة عن علم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والمالية والقانون والنظريات السياسية، والرياضة والفلك في بعض الأحيان، لأنه قد تعرض للباحث كل أو بعض هذه المسائل، فلابد من أن يكون ملماً بها، وإذا لم يكن يعرف بعض هذه النواحي، فيمكنه تحصيلها بسهولة

وأخيراً من الضروري جداً ألا يبقى الباحث في التاريخ في بلد واحد وفي دائرة محصورة؛ بل يلزمه السفر والارتحال إلى بلدان مختلفة، لا من أجل البحث التاريخي في ذاته فقط، بل لكي يرى أفاقاً جديدة، ويكسب خبرة بالناس وبالأوساط المختلفة. ومن الضروري أن يقضي زمناً في البلد الذي يدرس تاريخه. والأفضل أن يبدأ الباحث سفره بعد أن ينهي تعليمه الجامعي في بلده الأصلي، وبعد أن يقطع شوطاً في الدرس، وبعد أن يتعين له العصر الذي يرغب الكتابة عنه؛ فيسافر وقد تزود بأسلحة نافعة وبدأ طريق البحث العلمي، فيمضي في الدرس والكشف عن الحقائق التاريخية، ويزور الأماكن المختلفة، ويدرس ويتأمل؛ والنفس العالية لا تشعر بأنها غريبة في أي مكان

وهذا كله ملخص عن العلوم المساعدة وعن الأعداد اللازم لمن يتصدى لكتابة التاريخ. وليس المقصود بذلك التوسع في كل هذه النواحي لذاتها؛ فان هذا غير مستطاع. وإنما يكفي المعرفة العامة بقراءة بعض الكتب. وقد تزيد المعرفة في نواحي معينة من هذه العلوم المساعدة، على حسب طبيعة العصر الذي يرغب الباحث في دراسته والكتابة عنه. وقد يبدو من العسير جمع هذه الثقافة العامة؛ ولكن تخصيص حوالي ست سنوات أو سبع، تفعل عجائب، وتكفي للوصول إلى مستوى مناسب، يزداد بالتدريج. وروح العلم الصحيح لا

ص: 14

تعرف العقبات؛ والإخلاص والصبر يصلان بالباحث إلى الغرض في أغلب الأحيان.

(يتلى)

حسن عثمان

ص: 15

‌الشِعْر

للأستاذ بنيامين خليل

كثيراً ما قامت موازنات بين الشعر والتصوير؛ فقد قال (سيمونيدس)(الشعر تصوير ناطق، والتصوير شعر صامت). وقال (كوزن): (الشعر أول فن من الفنون الجميلة، لأنه يمثل غير المحدود خير تمثيل). وقال أيضاً: (ولو أن الفنون - إلى حد ما - بعضها بمعزل عن البعض الآخَر، فإن فناً منها قد انتفع بموارد جميع الفنون، ألا وهو الشعر. فمن الكلمات يستطيع صاحب القريض أن يصوغ صورة، أو ينحت تمثالاً، أو يحاكي المهندس المعماري في تشييد المباني. وفي مقدور الشعر أن يجمع بين عذوبة اللفظ والموسيقى. ففي الشعر كما يقولون تتلاقى جميع الفنون).

إن قصيدة عصماء معرض من الصور. ومما لا جدال فيه أن التصوير والنحت يعطياننا - عن شيء لم نره من قبل - صورة أكثر وضوحاً من أي قول أو وصف؛ ولكن إذا ما وقع الشيء تحت أنظارنا - تنعكس الآية - فنرى ثمة أموراً كثيرة يبرزها الشاعر أمامنا، وقد كنا لا نراها قبلاً في الشيء ذاته من تلقاء أنفسنا؛ فالفني هو الذي يصنع الأشياء واضحة كل الوضوح، أما الشاعر فهو الذي يخلق الأحداث والمعاني.

الشاعر العبقري مهبط الوحي والإلهام، ولذا نرى له حاسة فائقة لإدراك الجمال، وله مشاعر أدق من مشاعر معظم الرجال، مشاعر مضبوطة ضبطاً محكماً. قد يكون المرء شاعراً ولو لم يدرس شيئاً عن علم العروض؛ أما من يكتب شعراً رديئاً، أو حقير، فهو ليس بشاعر. لا يحيا الشعر ويدوم طويلاً إلا إذا كان شعراً حياً، إذ أن ما يصدر عن العقل والعاطفة ينسكب في القلب.

إن الشعراء والكتاب الذين يعدون في الطبقة الثانية سرعان ما تنقرض ذكراهم، ويتقلص ذكرهم، ويتوارى في زوايا النسيان؛ أما العباقرة منهم فأثرهم خالد إلى الأبد. ألم يعمر شعر حوالي 2500 سنة دون أن يفقد حرفاً من حروفه، أو مقطعاً من مقاطعه، على حين نرى قصوراً شاهقة وقلاعاً حصينة قد دمرت واتى عليها العفاء؟ أجل لا يتسنى لنا أن نحصل على تماثيل كورش والإسكندر قيصر، أو على صورهم الحقيقية، لأن الصور الأصلية لا تدوم، وما ينقل عنها تنقصه الحياة وتعوزه الحقيقة. أما الصور الذهنية لعبقرية الرجال

ص: 16

وعلمهم، فتبقى في الكتب بعيدة عن عبث الزمن متجددة في كل حين، وليس من الصواب أن نسميها صوراً لأنها تتوالد وتلقي بذورها في عقول الناس فتثير في الأجيال المتعاقبة أحداثاً وأراء لا حد لها

إذا كان اختراع السفينة فكرة نبيلة. . . تلكم السفينة التي تنقل الثروة والمتاجر من مكان إلى أخر، وتصل البلاد المتنائية بعضها ببعض فتتبادل محصولاتها - فما أحرانا أن نعظم الآداب التي تحاكي السفن في كونها تمخر عباب البحار، ولكنها بحار الزمن المترامية الأطراف، فتربط العصور المتوغلة في القدم، فينتفع كل عصر بحكمة العصور الأخرى وثقافتها واختراعاتها!

يحتاج الشاعر إلى مؤهلات كثيرة. يقول (كوزن)(من الذي وضع تصميم هذه القصيدة الغفل؟ وما الذي البسها الحياة والبهاء؟ الحب. وما الذي ارشد العقل والحب؟ الإرادة). ومن المسلم به أن لكل من الرجال قسطاً من الخيال، أما المحب والشاعر فمن الخيال قد خلقا كلاهما

إن عين الشعر ترنو في سمو وجلال، وتسبح من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء؛ بينما خيال الشاعر يتصور الأشياء غير المنظورة، نرى براعته تصوغها في قالب فني جميل، تعين للعدم مكاناً وتعطيه اسماً

يقول (شيشرون) الخطيب الروماني الشهير في خطبته عن (اركياس): (أليس هذا الرجل جديراً بحبي، جديراً باعجابي، جديراً بكل ما أستطيع من وسائل دفاعي عنه؟ أننا قد تعلمنا عن اكثر الناس حكمة أن التربية والتعليم والمران تكسب المرء تفوقاً في أي فرع من فروع العلم غير الشعر. أما الشاعر فقد صاغته الطبيعة وأيقظته القوى العقلية، وأوحى إليه بما نسميه روح الإله نفسه). يقول أفلاطون: (الشعراء أبناء الإلهة ومترجموهم)

يرفع الشعر الحجاب عن جمال العالم، ويبسط على الأشياء المألوفة فيضاً من النور وهالة من الخيال. أن من يحب الشعر حباً حقيقياً لا يعجز عن إحراز قسط وافر من السرور بمظاهر الطبيعة التي لا يرى فيها محبوها إلا جمالاً، ولا يسمعون منها إلا أنغاما موسيقية. على أن الطبيعة - مع ما فيها من أنهار عذبة، وأشجار مثمرة، وازاهير أرجة عطرة - لم تبرز الأرض في حلة أبهى واجمل مما وصفها به الشعراء

ص: 17

نرى الشاعر ينقلنا من المدينة التي تنعقد فوقها سحب الدخان بطريقة ساحرة - ينقلنا من جو ملبد بالدخان إلى الهواء الطلق، إلى الشمس الساطعة، إلى حفيف أشجار الغابات، إلى خرير المياه، إلى تلاطم الأمواج بالرمال - ويساعدنا الشاعر على نسيان هموم العيش ومتاعب الحياة كأننا مستغرقون في حلم من لذيذ الأحلام

يجب أن يكون الشاعر ذا معرفة لا بالطبيعة الإنسانية فحسب، بل بالطبيعة بأكملها اكثر مما يتصف به غيره من الرجال. اخبرنا (كراب روبنسون) أن رجلاً أستأذن في مشاهدة حجرة مكتب (وردسورث) فأجابته الخادم قائلة:(هذه حجرة مكتب سيدي، ولكنه يقوم بالدرس في الحقول)

ولنقدر الشعر حق قدره يجب ألا ننظر فيه نظرة سطحية، أو نقراه على عجل، أو نطالعه لكي نتكلم أو نكتب عنه، بل يجب أن يركز الإنسان عقله في وضعه الصحيح

أن كنوز الشعر التي لا تحصى في متناول كل منا؛ فقد يكون خير الكتب ارخصها، إذ بثمن كوب من الجعة أو قليل من تبغ، نستطع أن نشتري أحد مؤلفات شكسبير أو ملتون، أو عدداً من الكتب يفيد الإنسان من مطالعتها طيلة العام

وفي تعرف فائدة الشعر، لا نقصر نظرنا على أثره في الماضي أو الحاضر فحسب، يقول مستر ولم يقم ثمة من هو أحق بالكلام عن الشعر منه: أن مستقبل الشعر عظيم، فالفكرة في نظمه هي كل شيء، وما عدا ذلك فهو ضرب من الغرور. ففي الفكرة تمتزج العاطفة والشاعرية، فتصبح الفكرة حقيقة. إن أقوى عنصر في الدين في أيامنا هذه هو الجانب الشعري غير المحس فيه

قد سمي الشعر بحق: سجل اسعد الأوقات وخيرها لخير العقول وأكثرها هناءة. . . الشعر ضوء الحياة، بل هو نفس صورة الحياة، معبراً عنها بصدق أبدي. . . الشعر يخلد كل ما هو خير، وكل ما كان أية في الإبداع والجمال. . . وانه يزيل عن بصيرتنا الداخلية غشاوة الابتذال التي تخفي عنا عجائب الكون! ما الشعراء إلا مرايا لتلك الظلال الكبيرة التي يلقيها المستقبل على حاضرنا

وفي الواقع أن الشعر يطيل الحياة: انه يخلق لنا الوقت إذا قيس الوقت بتتابع الأفكار لا بعدد الدقائق. . . والشعر هو روح المعرفة لا يحده زمان ولا مكان بل يعيش في روح

ص: 18

الإنسان. . . فأي مديح خير من أن يقال: أن الحياة يجب ن تكون شعراً مصوغاً في قالب عملي فني جميل

ترجمة بنيامين خليل

مدرس الآداب

بالأقباط الثانوية بالمنيا

ص: 19

‌الحروب الصليبية

ماهيتها، تطورها، نتائجها

للأستاذ ر. التميمي

كان مركز البابوية ومقامها قد أنحط كثيراً في أثناء القرن العاشر واصبح موضوع نزاع الأحزاب في رومة؛ واعتلى عرشها أناس لا خلق لهم كانوا سبباً في تشويه سمعتها الدينية فسقطت أهميتها في نظر المسيحيين. وحينما اعتلى عرش الإمبراطورية هنري الثالث اهتم بأمر البابوية وعزم على النهوض بها فعين لها رجالاً من ذوي الكفاءة والمقدرة؛ وهكذا بدأ الباباوات يستعيدون مكانتهم التي كانوا قد أضاعوها خلال القرن العاشر واخذوا يعملون على إصلاح المساوئ وإعادة المجد البابوي

وأشهر من قام بهذه المهمة الصعبة هو هيلد براند الذي ارتقى عرش البابوية باسم غريغوري السابع، فقد نظم شؤون الكنيسة تنظيماً محكماً وقضى على الفوضى فيها وجمع السلطة الدينية في يده وحكم على رجال الدين كبيرهم وصغيرهم أن يخضعوا له دون اخذ ورد. هكذا مهد السبيل لخليفته أربان الثاني الذي رأى بعين البصيرة أن الظروف أضحت مواتية ليقوم بأكبر عمل يعلى به مجد النصرانية وهو إشهار الحروب الصليبية على المسلمين وتخليص الأراضي المقدسة من أيدهم. ولقد اتفق أن هاجمت الجيوش السلجوقية الإمبراطورية البيزنطية وهددتها في عقر دارها فهرع الإمبراطور ألكس يطلب النجدة من البابا أربان الثاني؛ فلما تلقى هذا تلك الاستغاثة رآها فرصة سانحة لبسط سلطان الكنيسة الكاثوليكية على سائر أنحاء العالم النصراني في الشرق والغرب فلبى النداء وقرر السير في ترتيب حملة صليبية كبرى

لقد كان أربان الثاني في قراره هذا يستند على ما كان للكنيسة من قوة ونفوذ في الأوساط المسيحية، إذ أن النصارى يومئذ كانوا لشدة جهلهم يقترفون آثاماً كبيرة ويحملون أنفسهم أوزاراً كثيرة، ولم يكن أمامهم لرفع تلك الأوزار إلا القيام بالأعمال الصالحة كالحج والصوم وتعذيب الجسم والتقشف في الملبس والمأكل، وكان الحج أهم هذه الأعمال وأكثرها ثواباً. أما القتال في سبيل تخليص بلاد ذلك الحج فهو في نظرهم أهم عمل يقوم به إنسان لأنه يرضي به ضميره ويقدم أعظم تضحية للعالم النصراني الذي ينتمي إليه

ص: 20

لقد انتبه البابا أربان الثاني إلى هذه الحالة النفسية فتشجع في إشهار الحرب وزاد في نشاطه وجود طائفة من الأمراء، ولا سيما النرمنديين منهم سمعوا بكنوز الشرق وسلطان ملوكه وأمرائه العظيم فطمعوا فيهما، وتمنوا لو أُتيحت لهم الظروف ليكونوا سادة في ذلك الشرق الساحر مثل أولئك الذين ينعمون بأموال وافرة وجاه عظيم وسلطان مطلق

وصادف أن قحطاً شديداً اجتاح القسم الغربي من قارة أوربا وسبب مجاعة وفقراً وموتاً ولا سيما في فرنسا حيث أهلك الحرث والنسل ومات مئات الألوف من الناس وخربت القرى وأقفرت المزارع فبات بسبب ذلك كله معظم سواد الشعب في أشد حالات البؤس والشقاء، فلما نادى منادى الحرب الصليبية أقبل أولئك الجياع إقبالاً هائلاً عليها أملاً في العثور على أقواتهم اليومية، وهم بعملهم هذا يمتثلون أوامر الكنيسة التي كانوا يخشون بأسها وعقابها من جهة، ويحاربون في سبيل تخليص الأرض المقدسة من أيدي المسلمين من جهة أخرى

والحقيقة إن هذه الحروب لم تكن إلا مظهراً من مظاهر التعصب الديني قامت به البابوية في القرون الوسطى ضد العالم الإسلامي. ولقد أثارها البابوات وقذفوا بفرسان الغرب وأُمرائه إلى ساحات القتال في الشرق ليحققوا منافع مادية لصالح الكنيسة ولقد اشترك فيها الملك والأمير والفارس والراجل والنبيل والوضيع والناسك والسارق والراهب والقاتل والتقي والفاجر وكل منهم كان يرمي إلى غاية في نفسه؛ فهذا يريد ملكاً أو إمارة، وذاك يسعى لاكتساب مغنم، وذلك للاغتراف من كنوز الشرق الثمينة. أما السواد الأعظم فقد كان على جهله المطبق لا يريد من وراء تضحياته إلا رضا الكنيسة وتأمين حياة أخروية سعيدة

وهكذا تحركت تلك الجماهير الغفيرة من الغرب إلى الشرق، فكانت حينما تصل إلى البلاد الإسلامية تنقض عليها انقضاض الحيوانات المفترسة فتقتل الناس وتهدم القرى وتحرق ما تجده أمامها من أشجار وزرع ونباتات، وهي بعملها هذا تعتقد أنها تؤدي أقدس واجب تتحمله، وكان الرهبان يشجعون فيهم هذه العقيدة ويستزيدونهم قتلاً ونهباً وتنكيلاً بالمسلمين وزحفت الحملة الأولى بخيلها ورجلها وشبابها وصبيانها ونسائها وحيوانها قاصدة فلسطين مؤتمة بطيور الإوز ومواشي الماعز، وهي عادة حافظ عليها الجرمان من حياتهم الوثنية حين كانوا يقدسون كثيراً من الحيوانات بينها الإوز والماعز، ويتبركون بها؛ فلما زحفوا نحو الشرق مشوا وراءها يلتمسون منها النجاح والظفر، وحينما اجتازت الحملة آسيا

ص: 21

الصغرى تعرضت لأشد أنواع المحنة والفاقة والعطش، وكان السلاجقة ينقضون عليهم ويحصدون منهم الألوف حتى لم يبق من تلك الجماهير الزاحفة إلا عدد صغير أمكنه الوصول إلى الديار السورية بعد أن كان عددهم يربو على نصف المليون

وحين وصلت الحملة الأولى كان سوء الحظ ملازماً لسوريا بسبب حكامها السلاجقة وهم من السذاجة بمكان، وكان يحارب بعضهم بعضاً فلم يلتفتوا إلى الخطر الصليبي الذي دهم البلاد. وقد أدت هذه الغفلة التي لا تفتقر إلى ضعف الجبهة الإسلامية ضعفاً لا يمكن وصفه إلا إذا تذكرنا تلك الهزيمة الشنعاء التي منى بها كربوغا صاحب الموصل أمام مدينة إنطاكية، فلقد كان يقود جيشاً عظيماً فيه أكثر من مائتي ألف محارب بعددهم وأقواتهم الكاملة، ومع ذلك فقد أنهزم أمام هياكل بشربة صليبية مزقتهم الفاقة وأهلكهم الجوع وحصدتهم الأمراض السارية، فسجل كربوغا بحماقته صفحة في التاريخ كلها خزي وعار

ولقد كان لهذه الهزيمة نتائج خطيرة جداً؛ فالصليبي الذي أنهكه التعب وأهلكه الجوع أخذ يتقوى بسرعة عجيبة ويستصغر من شأن المسلم الذي دبت فيه عوامل الضعف والخور فولى مدبراً ولم يعقب تاركاً البلاد لأشد أنواع الاعتساف والظلم

هكذا استصغر الصليبيون شأن المسلمين واحتقروا قوتهم المفككة وهزءوا بجبهتهم المتصدعة، فاخذوا المتصدعة، فاخذوا يتنقلون من مدينة إلى أخرى، ولا جيش يقف في وجههم، إلا صوتاً ضعيفاً أرتفع من الخليفة الفاطمي بمصر يكلفهم الكف عن اكتساح المدن السورية، ويعرض عليهم صلحاً شريفاً إلا أن هذا الصوت تبدد بين قعقعة السيوف وهدير الجماهير المسيحية المتحمسة. وهكذا وصلت حملة الأمراء الأولى إلى فلسطين وملكت بيت المقدس. وحين دخلوا المدينة أراقوا دماء المسلمين أنهارا، ولجأ اليهود إلى معبدهم فأحرقوه، فماتوا وسط اللهيب. وفي خلال ثلاثة أيام قتلوا سبعين ألف مسلم، ولم يرعوا للشيوخ وقار سنهم، ولا للأطفال حرمة صغرهم، ولا للنساء ضعفهن؛ وهكذا برهنوا على همجية مستنكرة وقلوب متحجرة، لا تجد لها مثيلاً إلا عند أجدادهم القبائل المتبربرة أيام اكتساحهم الإمبراطورية الرومانية

وبعد الحملة الثانية التي انتهت بفشل ليس بعده فشل، رأى منظمو الحملات الصليبية المتاعب والأخطار الجسمية التي لاقاها الصليبيون في أسفارهم البرية السابقة، فعدلوا عنها

ص: 22

واستبدلوا بها أسفاراً بحرية أفادت الموانئ الطليانية فوائد جمة، لأن بحارتها أخذوا ينقلون على مراكبهم الجماهير لقاء أُجرة طيبة

لقد كانت وطأة الفرسان الصليبيين شديدة بسبب أسلحتهم ودروعهم وتروسهم وبسبب تمرنهم الطويل على أنواع القتال والمبارزة، فإذا ما خاض أولئك الفرسان حرباً أو موقعة فترت همتهم وضعفت شوكتهم واخذوا يشكون من حرارة الطقس ومن شدة بأس المحاربين المسلمين. وكانوا ينتهزون أول فرصة ليعودوا إلى بلادهم تاركين الفكرة الصليبية بين يدي أولئك الأمراء ذوي المطامع ورجال الدين الذين انتدبهم البابا لينفذوا أوامره ويشتركوا في وضع الخطط الصليبية والإقطاعية مختلفة

لقد ملك الصليبيون شواطئ سورية مع بيت المقدس والبلاد الفلسطينية ومقاطعة الكرك عبر الأردن وأنشئوا فيها مملكة بالقدس وإمارات ثلاثاً لاتينية إقطاعية في كل من طرابلس وإنطاكية والرها؛ ثم رحل معظم المحاربين إلى ديارهم ولم يبق منهم ألا آلاف قليلة مسلحة أخذت على عاتقها أمر الدفاع عن تلك الإمارات؛ وهؤلاء المدافعون هم أولئك الفرسان الذين ارتبطت منافعهم ومصالحهم بمستقبل البلاد الجديدة اللاتينية. وفي تلك الآونة ألف فريق من الرهبان الفرسان وهيئات دينية عسكرية وظيفتها خدمة الفرنج من الوجهة الصحية وتقديم المساعدات الحربية للدفاع عنهم وعن ممتلكاتهم وهذه الهيئات هي الهيكليون أو الداوية والاسبتاليون والتيوتونيون.

ومما تقدم يفهم أنه كان من السهل جداً على أي أمير مسلم يعرف واجباته ويقدر حرج موقف خصومه أن ينقض بجيش مدرب على أولئك الغرباء وأن يقذف بهم إلى لجج اليم ويخلص البلاد من أحكامهم الجائرة وقوانينهم القاسية؛ إلا أن شيئاً من هذا لم يحصل إلا بعد مضي نحو نصف قرن على امتلاك اللاتين للشطوط السورية.

وأول من تنبه إلى موقف الفرنج الضعيف هو عماد الدين زنكي صاحب الموصل حينئذ، فلقد شهر عليهم حرباً شعواء ظل لهيبها مستعراً نحو خمسين سنة، خاض غمارها هو نفسه مع جيشه المدرب بضع سنين، ثم مات مقتولاً، فخلفه في الجهاد ابنه نور الدين محمود ومن بعده صلاح الدين الأيوبي وانتهت هذه الحرب بظفر صلاح الدين الكبير وامتلاكه بيت المقدس.

ص: 23

لقد قام صلاح الدين بالمهمة التي تلقاها من سيده وأستاذه نور الدين محمود فأداها على أحسن وجه بعد أن انقض على الجيش الفرنجي في معركة حطين (صيف سنة 1187) وسحقه سحقاً، ثم استرد البلاد من أيديهم الواحدة تلو الأخرى، واسترد بيت المقدس، فدخلها صلحاً وعامل الفرنج بمنتهى التسامح والشفقة والرحمة، فكان مثالاً ممتازاً للحاكم العادل والقائد الظافر المتصف بالشهامة والمروءة؛ وكأنه بتسامحه ومروءته وشهامته يريد أن يلقي درساً في الأخلاق العالية والشفقة والرحمة على أولئك السفاكين والقتلة الذين ذبحوا سبعين ألف مسلم ذبح الخراف حين احتلوا المدينة المقدسة

ولقد كان في نيته وفي مكنته أن يطهر البلاد منهم نهائياً، لو لم تغتله المنية قبل الأوان، فترك مهمة التطهير النهائي إلى خلفائه من بعده

على أن الجهاد الذي أستأنفه خلفاء صلاح الدين ظل قائماً نحو عصر كامل آخر، وذلك لأن ذلك الجهاد لم يكن متصل الحلقات بل كانت تنتابه فترات يتقاتل ويتطاحن خلالها الأمراء والسلاطين المسلمون.

فقد تخاصم الملك العادل مع أولاد أخيه صلاح الدين وتقاتل سائر الأمراء الأيوبين، فكان لنزاعهم الأثر السيئ في نفوس المسلمين، إذ ضعفت همتهم وانحطت شوكتهم وقلَّت قيمتهم، وهذا ما مكن الفرنج من إطالة الإقامة والحكم في إمارتهم اللاتينية الهزيلة. على أن التقاتل هذا لم يكن يقتصر على الحكام المسلمين، بل تناول أيضاً أمراء الفرنج في إمارتهم، فكان يشتد بين الفرنسيس والإنكليز والألمان، وبين البنادقة وتجار جنوة، وبين رهبان طائفتي الداوية والإسبتالية. وفي ببعض الأحيان كان ينقلب ذلك الخلاف إلى حرب طاحنة تذهب فيها الأرواح الصليبية بلا حساب

والفرنج الذين كانوا يأتون حديثاً إلى الأرض المقدسة كانوا يختلفون مع إخوانهم القدماء من اللاتين المقيمين في هذه البلاد وذلك بسبب الفروق البارزة في عادات وتقاليد كل من الفريقين. فالمشارقة منهم مضى عليهم اكثر من عصر وهم يعيشون في ديار الشرق ويقلدون الشرقيين في مأكلهم ومشربهم ومسكنهم؛ وصاروا ينظرون إلى مسلمي سوريا نظرة الجار إلى جاره، فيتعاقدون معهم، ويبادلونهم السلع، ويراعون حقوقهم وعهودهم، وذلك بخلاف حملات الفرسان التي كانت تدهم البلاد بخيلها ورجلها وتعصبه الذميم وقوتها

ص: 24

المتناهية، فقد كان رجالها يجهلون الإسلام والمسلمين ولا يعرفون عنهم إلا أموراً وآراء خاطئة ومشوهة؛ فإذا ما دهموا بلداً لهم وقرية انقضوا عليها انقضاض الباشق على فريسته، وهكذا كان الخلاف يشتد بين فريقي اللاتين القدماء والجدد، وكان يرمي بعضهم بعضاً بأشنع التهم؛ فقد كان الغربيون يقولون مثلاً إن المشارقة خونة لا عهد لهم ولا ذمة، يصادقون المسلمين أعداء النصرانية ويتعاقدون معهم؛ أما المشارقة وهم الذين صقلت طباعهم وتهذبت أخلاقهم وهدأت ثورة تعصب الذميم عندهم بفضل مجاورتهم للشرقيين، فقد كانوا يرون في فرسان الحملات المتتابعة شراسة في الطبع وغلظة في الخلق مع قوة متزايدة وجشع في سفك الدماء وميل غريزي للنهب والسلب، فكانوا لذلك يحتقرونهم ويخشون بأسهم

ولقد بحث الفارس المسلم والأديب المعاصر أسامة بن منقذ الكناني الشيزري في مذكراته (كتاب الاعتبار) عن اختباراته الشخصية في عادات الإفرنج الصليبيين فقال ليس عند الإفرنج شيء من النخوة والغيرة، وهم يعالجون مرضاهم بطرق ابتدائية، ويحاكمون المذنبين منهم بأساليب غبية عجيبة، وكل من هو قريب العهد بالبلاد الإفرنج يكون أجفى أخلاقاً من الذين تبلدوا وعاشروا المسلمين. ثم يذكر أنه نفذ صاحباً له إلى إنطاكية في شغل، وكان بها الرئيس تادرس بن الصفي - وهو يقصد يئودوروس صوفيانوس - وكان بينهما صداقة، فقال هذا لصاحب أُسامة الموفد إلى إنطاكية يوما:(قد دعاني صديق لي من الإفرنج: تجئ معي حتى ترى زيهم)، فمضى المسلم إلى دار فارس من الفرسان العتق الذين خرجوا في أول خروج الإفرنج، وقد اعتفى من الديوان والخدمة، وله بانطاكية ملك يعيش منه، فأحضر مائدة حسنة وطعاماً في غاية النظافة والجودة ورأى المسلم موقفاً عن الأكل فقال له:

(كل طيب النفس فأنا ما آكل من طعام الإفرنج ولي طباخات مصريات ما آكل إلا من طبيخهن ولا يدخل داري لحم خنزير)

فأكل المسلم وهو محترز ثم انصرف

(فلسطين)

ر. التميمي

ص: 25

‌سنة.

. .

للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد

سَنةٌ مرَّت ولا كلَّ السنين

بين صيف من هوانا وشتاء

وربيع كلما غام أضاء

والضحى والليل حيناً بعد حين

سنةٌ كان لها نجم فريد

غمر الشمس وغطَّى القمرا

ومشى في حسنه منتصرا

كل برج تحته برج سعيد

إن يكن لي في سناء رقباء

فالذي أرصده لم يرصدوه

والذي أَنشده لم يَنشدوه

والذي هاموا به عندي هباء

سنةٌ مرت على روض الغرام

أنبتت فيه فنون الشجر

من رياحينَ وغرسٍ مثمر

وسل الأرواح ما أزكى الطعام

يومها الأول وافى ودنا

فانس أيامك في ساعاته

واجمع الصافيَ من لذَّاته

جرعةً، واطرَب عليها زمنا

جرعة نجمع فيها سكرَ عامْ

إن شربناها فقد تشربُنا

أو سكبناها فقد تسكبنا

ص: 27

في الهوى روحين في كأسِ وئام

جدد الذكرى وقرِّب لي العِيان

فهما يا صاحبي بين يديّْ

حضرا الساعة يا صاح لديَّ

ربة الذكرى وذكراها قران

هات لي الذكرى أراها وتراني

غضةً ملموسة في راحتيْ

حلوة معسولة في شفتيْ

جنةً تنبت في كل أوان

جنتي لا حيَّةُ تخرجني

ابداً منها ولا أحياؤها

لا ولا إبليس أو حواؤها

أنا فيها خالد كالزمن

أنا منها وهي مني في الضمير

فإذا فارقتها بالنظر

لم يفارقها ضميري عُمُري

وله العصمة من مس السعير

سنةٌ كان لها نجم فريد

هات منها أيها النجم وهات

سنةّ ثانيةً بل سنوات

ولنا منك مزيد المستزيد

أنت يا نجم معيدٌ ما تشاء

لا السموات ولا داراتها

غُنيةٌ عنك ولا أوقاتها

أنت ميقات وشمس وسماء

ص: 28

أنت تدنيها سماء زَلفا

تنسج الوقت لنا منفردين

لا مشاعا كنسيج النيِّرين

بل لنا طوع يدينا وكفى

عباس محمود العقاد

ص: 29

‌أخبار سلم الخاسر

للأستاذ حسن خطاب الوكيل

هو سلم بن عمرو مولى بني تيم بن مرة ثم مولى آبى بكر الصديق رضى الله عنه. وكان من سبب تسميته بالخاسر انه ورث عن أبيه مالاً كثيراً - مائة ألف درهم - أنفقها كلها في طلب الشعر والأدب والموسيقى. كما انه ورث مصحفا من أبيه كان لجده من قبل فباعه واشترى بثمنه طنبورا، لذلك لقبه بعض أهله وجيرانه بالخاسر وقالوا انفق ماله على ما لا ينفعه. فأسرها سلم في نفسه ولم يبدها لهم. ومضى في سبيله يجد في طلب الشعر وراويه، والأدب وذويه، حتى حاز قصب السبق وصار علما من أعلامه، وشاعراً مطبوعاً متصرفاً في فنون الشعر، ورواية لبشار ابن برد أستاذه. وعنه أخذ، ومن بحره اغترف. ومدح الملوك والأمراء، وتحدى الشعراء. ومن محاسن الصدف انه مدح المهدي العباسي بقصيدة فأعجب بها وأمر له بمائة ألف درهم، وكان المهدي على علم بسبب تسمية بالخاسر، فقال خذ هذا المال وكذب به جيرانك؛ فجاءهم سلم بالمال وقال لهم هذه المائة ألف درهم التي أنفقتها وربحت الأدب. فأنا إذاً سلم الرابح لا سلم الخاسر

وحدث أن أستاذه بشار بن برد بعثه إلى عمر بن العلاء بقصيدة مدحه بها التي يقول فيها:

إذا نبهتك صعاب الأمور

فنبه لها عمراً ثم نم

فلما جاءه سلم بها وأنشده إياها أمر عمر بن العلاء بمائة ألف درهم لبشار بن برد؛ فلما رأى سلم المال الموهوب لأستاذه بشار تحركت نفسه وتلمظت شفتاه إلى نيل جائزة له أيضاً. فقال لعمر بن العلاء إن خادمك - يعني نفسه - قد قال في طريقه إليك قصيدة فيك. فقلل له عمر - فإنك لهناك - فأجابه سلم. تسمع ثم تحكم، فقال عمر هات فأنشد قوله:

قد عزني الداء فمالي دواء

مما ألاقي من حسان النساء

قلب صحيح كنت أسطو به

أصبح من سلمى بداء عَياء

أنفاسها مسك وفي طرفها

سحر ومالي غيرها من دواء

إلى أن قال:

كم كربة قد مسني ضرها

ناديت فيها عمر بن العلاء

فاعجب بها عمر وأمر له بعشرة آلاف درهم، فكانت عطية سنية لم تخطر له ببال

ص: 30

وكان من خبره انه حدث بينه وبين أستاذه بشار فتور وانقطاع بسبب انه اخذ معنى لبيت من شعر بشار وصاغه في بيت له قضى به على بيت بشار وسارت بحديثة الركبان، واصل البيت من قصيدة لبشار:

لا خير في العيش أن دُمنا كذا أبدًا

لا نلتقي وسبيل الملتقى نهج

قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم

ما في التلاقي ولا في غيره حرج

من راقب الناس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

فعمد سلم الخاسر إلى البيت الثالث وصاغه هكذا:

من راقب الناس مات غماً

وفاز باللذة الجسور

فبينما بشار بن برد في منزله إذ دخل عليه أبو معاذ النميري فقال له: لقد قال سلم الخاسر بيتاً من الشعر هو أحسن وأخف على الألسن من بيتك، فقال له بشار وما هو؟ أنشدنيه. فأنشده قول سلم:

من راقب الناس مات غماً

وفاز باللذة الجسور

فقال بشار: سار والله بقيت سلم وخمل بيتنا. وكان كذلك إذ لهج الناس بيت سلم وصار مثلاً من الأمثال السائرة؛ أما بيت بشار فلم يتمثل به احد؛ فغضب بشار من سلم وحلف ألا يدخل عنده ولا يفيده ولا ينفعه ما دام حياً. فلما علم سلم بذلك وطال عليه جفاء أستاذه شق عليه ذلك فاستشفع إليه بكل صديق له، وكل من يثقل عليه رده، فكلموه فيه؛ فبعد اللتيا والتي قال بشار: ادخلوه إلي، فاستدناه فلما كلمه قال: إيه يا سلم! من الذي يقول: من راقب الناس لم يظفر بحاجته. . . الخ. قال سلم: أنت يا أبا معاذ، جعلني الله فداك. فقال بشار: فمن الذي يقول:

من راقب الناس مات غماُ

وفاز باللذة الجسور

قال سلم تلميذك وخريجك وعبدك يا أبا معاذ

فاجتذبه بشار إليه وقنعه بمخصرة كانت بيده ثلاثاً وقال له:

يا فاسق!؟ أتجيء إلى معنى قد سهرت له عيني، وتعب فيه فكري، وسبقت الناس اليه، فتسرقه ثم تختصره لفظاً تقربه لتزري علي وتذهب ببيتي؟ فحلف له سلم ألا يعود لشيء مما يكرهه وينكره منه، فرق له ورضى عنه

ص: 31

ومن طريف ما حدث لسلم الخاسر أن أبا العتاهية حقد على سلم وحسده على ما يناله من الخطوة والجوائز عند الملوك والأمراء فأرسل إليه ببيتين من الشعر يرميه فيهما بالحرص وهما:

تعالى الله يا سلم بن عمرو

أذل الحرص أعناق الرجال

هب الدنيا تصير إليك عفواً

أليس مصير ذاك إلى الزوال

فلما قراهما سلم غضب من أبى العتاهية وقال: ويلي على الجرار ابن الفاعلة الزنديق! زعم أنى حريص وقد كنز البِدر وهو يطلب المزيد، وأنا في ثربي هذين لا املك غيرهما، ولما سرى عنه كتب إليه هذه الأبيات:

ما أقبح التزهيد من واعظ

يزِّهد الناس ولا يزهد

لو كان في تزهيده صادقاً

أضحى وأمسى بيته المسجد

ورفض الدنيا ولم يلقها

ولم يكن يسعى ويسترفد

فخاف أن تنفد أرزاقه

والرزق عند الله لا ينفد

الرزق مقسوم على من ترى

يناله الأبيض والأسود

كل يوفي رزقه كاملا

من كف عن جهد ومن يجهد

هذا فصل في الكلام قد ساق إليه البيان عن بعض أخبار سلم الخاسر تفكهه للقراء، ولنتخذ دليلاً ثانياً وحجة ناصعة في الآيبات أن الجزء الحادي والعشرين من كتاب الأغاني هو من الأغاني، وسبق أن قدمنا في حجتنا بقصة إسحاق الموصلي وغلامه زياد، وإنها لم تذكر ألا في الجزء الحادي والعشرين منه واقرها ابن منظور في مختصر (الأخبار والتهاني)، فكذا هنا قصة مسلم الخاسر مع أهله وجيرانه، وسبب تسميته لم تذكر إلا في الجزء الحادي والعشرين من الكتاب، وهي بطبيعة الحال جاءت في مختصر الأغاني (حرف السين)، ولولا ذهاب المخطوطات إلى المخابئ لأتينا بالنص كما هو مدون في محله، والله يهدي السبيل

حسن خطاب الوكيل

ص: 32

‌المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

تأليف المستشرق الإنجليزي ادوارد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

مقدمة المؤلف - القاهرة سنة 1835

في زيارة سابقة للقاهرة قصدت بها - على الأخص - دراسة اللغة العربية في أشهر مدرسة، جعلت اكثر همي ملاحظة شمائل المصريين المسلمين وعاداتهم؛ وسرعان ما أدركت بعد معاشرة هذا الشعب سنتين ونصف سنة أن كل ما أمكنني الحصول عليه سابقا من الأخبار المتعلقة بهم، لا يكفي ليكون ذا فائدة كبيرة لمن يدرس الأدب العربي، أو ليقضي حاجة القارئ العادي. لذلك رغبت في تدوين الملاحظات عن أشهر عاداتهم لاستزيد لنفسي من جهة، ولأستطيع أن أزيد في معرفة مواطني بالطبقات المتحضرة لامة من أهم أمم العالم من جهة أخرى، وذلك برسم صورة مفصلة عن سكان أكبر مدينة عربية. إلا أن زيارتي الأولى لم تكف لبلوغ هذا الغرض مع متابعة دروسي الأخرى، فصرفت النية عن نشر ما قيدته عن المصريين المحدثين. وبعد خمس سنوات من عودتي إلى إنجلترا عُرِضت هذه المذكرات على بعض أعضاء من لجنة جمعية نشر المعارف المفيدة استحسنوها وأوعزوا إلى اللجنة أن تعني بموضوعاتها، وطرافة بعض محتوياتها، فعهدت إلى تكملتها ثم طبعها. وقد كان ذلك حافزاً لي على قبول النصيحة ومتابعة العمل. وفي أقرب فرصة عدت ثانية إلى مصر. وبعد أن أقمت أكثر من سنة في عاصمة ذلك البلد، ورحلت نصف سنة في الوجه القبلي، أتممت - بقدر ما استطعت - العمل الذي تعهدت به

قد يقال إن القارئ الإنجليزي استفاد من كتاب الدكتور رَسِل عن أهل حلب وصفاً صادقاً لشمائل العرب وعاداتهم؛ ولا أحب أن أصم أمانتي الكتابية التي أدعيها بمحاولة التقليل من المزايا الحقيقية لهذا الكتاب القيم؛ ولكن يجب أن أؤكد أن الكتاب في مجموعه قد وصف العادات التركية أكثر مما وصف العادات العربية، وأن المؤلف الأصلي وأخاه الذي ندين له بالطبعة المزيدة المنقحة، لم يكونا يعرفان اللغة العربية معرفة كافية لإنعام النظر في بعض

ص: 33

ما يقتضي وضع الكتاب معالجته من الموضوعات المهمة، ولم يكن منصبهما المعروف في حلب ولا شعورهما الوطني يسمحان لهما أن يتنكرا هذا التنكر الضروري الذي يمكنهما من إيلاف الكثير المهم من الحفلات الدينية، والأفكار الاجتماعية، والأساطير الشعبية، التي قاما بوصفها. فنقص الملاحظة هو الخطأ الوحيد الذي استطعت أن أكشف عنه في كتابهما العلمي الجليل

أما ظروفي فكانت غير ذلك. فقبل قدومي الأول إلى هذا البلد شدوت شيئاً من العلم بلغة العرب وآدابهم. وكنت أستطيع - بعد سنة من قدومي - أن أتحدث إلى الشعب الذي كنت أعيش بين أفراده في شيء من السهولة. وقد عايشت صفة خاصة مسلمين من جميع الطبقات؛ وأخذت أخذهم في الحياة العامة. وكنت أصرح دائماً أنني أوافقهم على آرائهم كلما سمح بذلك ضميري اكتساباً صداقتهم وإخلاصهم؛ وفي أحوال كثيرة أخرى أمسكت عن مخالفتهم في الرأي، بقدر ما امتنعت عن أي عمل ينفرون منه. فأمسكت عما يحرمه دينهم من الطعام والشراب، وتركت ما لا يألفونه من العادات والأساليب: كاستعمال الشوك والسكاكين. واستطعت بفضل ألفتي لحفلاتهم الدينية العامة أن أشاهد أعيادهم وطقوسهم، من غير أن أثير الشك في أنني أجنبي لا يحق له التدخل في شؤونهم. وبينما كان العامة يظنونني تركياً - من ملابسي التي وجدتها أكثر ملاءمة لي - كان أصدقائي يعرفون طبعاً أنني إنجليزي. ولكني ألزمتهم أن يعاملوني معاملة المسلم باعترافي مختاراً بأثر العناية الإلهية في ظهور الإسلام وانتشاره، وبإقراري، عندما أسأل، باعتقادي في المسيح طبقاً لما جاء في القرآن من أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه. وهكذا حسُن رأيهم فيَّ وقويت ثقتهم بي، ولكن إلى حد لم يغنني على مجابهة بعض الصعاب. والمسلمون يكرهون أن يبوحوا بشيء يتعلق بدينهم أو بأساطيرهم للذين يشتبهون في أنهم يخالفونهم في العاطفة؛ لكنهم لا يأبون الكلام في هذه الموضوعات مع من يعتقدون أن بينه وبينهم معرفة وألفة. لذلك كنت اعمد إلى سؤال الذين هم اكثر تساهلا واقل علما لأحمل الذين هم أوسع معرفة وأضيق صدرا على الكلام في المسائل التي أريدها. وبهذه الطريقة نجحت في التغلب على ترددهم. وكان لي أستاذان للعربية وآدابها، وللدين الإسلامي وفقهه، يدرسان لي بانتظام وباجر. وكنت أسالهما عما اشك فيه لأحقق ما سمعته في أحاديثي مع أصدقائي، أو أصححه

ص: 34

أو أضيف أليه. وأحيانا كنت اتصل بالسلطات العليا، وكان من دواعي غبطتي أن اعد بين أصدقائي في هذه المدينة بعض رجال بلغوا شأواً بعيداً في المعارف الشرقية

وربما يفيد القارئ أن اعرفه بأحد معلمي اللذين أشرت أليهما أنفا، وان أبين له في الوقت نفسه كيف كان كغيره من مواطنيه ينظر ألي: ذلك هو الشيخ احمد (أو السيد احمد، لأنه من طبقة (الأشراف) الكثيرة العدد: أي من سلالة النبي) وكانت سنه تربى على الأربعين باعترافه، ولكن يبدو عليه أنه يناهز الخمسين. وكانت سحنته وخليقته تستحقان الذكر: كان ربعة إلى القصر، وكان أصهب اللحية قد وشعها لمشيب. ويظهر أن العور قد أصابه منذ سنوات عديدة. وهو يكحل عينيه في المناسبات الخاصة ولا سيما في عيدي الفطر والأضحى. والكحل قلما يستعمله غير النساء. وهو لا يفتخر بانتمائه إلى الرسول فحسب، بل يتمدح كذلك بانتسابه إلى الولي المشهور الشعراوي. وبشرته الصافية تؤيد ادعاءه أن أجداده عاشوا منذ أجيال في مناطق أفريقيا الشمالية الغربية. وكان يعيش على ميراث قليل مع اتجاره في الكتب. وكان يزورني كل ليلة تقريباً لينتفع من مهنته من ناحية، وليجتمع بي، أو ليتحدث ألي للتدخين وشرب القهوة من ناحية أخرى

وكان قبل احترافه تجارة الكتب وراثةً عن أبيه، قد قضى بضع سنوات لم يحترف فيها غير الذكر في الحفلات الصوفية. والذكر عبارة عن جماعة يقفون مترنحين يرددون اسم الله وصفاته الخ. وهو لا يزال إلى اليوم يقوم بهذا العمل. وكان حينئذ درويشاً في الطريقة السعدية، وأهل هذه الطريقة معروفون على الأخص بأكل الثعابين الحية. ويقال انه كان واحداً من آكلي الثعابين، ولكنه لم يقصر نفسه على أكل يهضم بمثل هذه السهولة. ففي ذات ليلة بينما كان فريق من أهل طريقته في حفل حضره شيخهم، اعترت صديقي جذبة، فخطف زجاجة طويلة كانت تحيط بقنديل موضوع على الأرض واكل جزءاً كبيرا منها. . . فدهش الشيخ والدراويش الآخرون، نعوا عليه خروجه على نظم الطريقة، لان أكل الزجاج لم يكن من الكرامات التي كان يسمح لهم بأظهرها. ثم طردوه في الحال، فدخل في الطريقة الأحمدية. ولما كان أهل هذه الطريقة هم أيضاً لا يأكلون الزجاج، فقد عزم على ألا يعود إلى فعلته مرة أخرى. . . غير انه بعد ذلك بقليل أخذته هذه الجذبة في اجتماع بعض الأخوان من أهل الطريقة وفي حضرة كثير من رجال الطريقة السعدية، فوثب على

ص: 35

شمعدان وقبض على مصباح من مصابيحه الزجاجية الصغيرة، فابتلع نصفه وشرب ما فيه من الزيت والماء. فقادوه إلى شيخه ليعزره على هذا التعدي، ولكنه اقسم ألا يعود إلى أكل الزجاج أبداً، فعفا عنه وأبقاه في الطريقة. وعلى الرغم من حلفه اليمين لم يلبث أن عاد إلى ديدنه من أكل الزجاج. وقد حاول أحد الحاضرين من الأخوان أن يقلده فنشبت قطعة كبيرة من الزجاج بين لسانه وسقف حلقه، وقد شق على صديقي أحمد استخراجها. فأعيد ثانية إلى شيخه، ولما لامه على الحنث بقسمه والرجوع في توبته أجاب بهدوء: أتوب مرة أخرى. وما أحسن التوبة، لان الله قال في كتابه العزيز:(إن الله يحب التوابين) فصاح الشيخ مغتاظاً: أتجرؤ على هذا التصرف ثم تستشهد بالقرآن أمامي؟) ثم أمر بعد هذا التوبيخ أن يسجن عشرة أيام. ثم طلب منه القسم مرة أخرى على أن يمتنع عن أكل الزجاج وبهذا سمح له بالبقاء في الطريقة الاحمدية؛ وقد حرص على أن يبر بقسمه هذه المرة

وقد قص على هذه الوقائع من كان مكلفا بمراقبته من الأخوان ثم اعترف لي هو بعد ذلك بحقيقتها

وقد عرفت الشيخ أحمد قانعاً بزوجة واحدة من زمن طويل؛ إلا أنه سمح لنفسه الآن بزوجة أخرى استمرت تعيش في منزل أهلها. ومع ذلك فقد أهتم بأن يؤكد لي أنه ليس من الغنى بحيث يرفض الكسوة السنوية التي أهديها إليه. وفي زيارتي الثانية لمنزله أثناء إقامتي الحالية في هذا المكان حضرت أمه لدى باب الغرفة التي كنت جالساً فيها معه، تشكو إليّ سوء عمله باتخاذه زوجة جديدة. وكانت تشير بيديها من خلال الباب بالحركة اللائقة ليكون لكلامها تأثير؛ أو لعلها كانت تريد أن تظهر جمال راحة اليد وأطراف البنان المخضوبة بالحناء الرطبة. إلا أنها كانت تستر شخصها، فأخذت تناشد شعوري بقوة وتقول:

(يا أفندي! إني أضع نفسي تحت رحمتك! أقبل قدميك! لا أمل عندي إلا في الله وفيك)

فقلت لها: (ما هذا الكلام يا سيدتي؟ أي مصيبة أصابتك؟ وماذا أستطيع أن أصنع لك؟ أخبريني)

فاستمرت تقول: ابني هذا، ابني احمد، شخص لا قيمة له. له زوجة طيبة، عاش معها سعيداً على بركة الله ستة عشر عاماً. وهاهو الآن يهملها ويهملني ويتخذ زوجة أخرى

ص: 36

صغيرة السن قليلة الحياء. . . وهو يبدد نقوده على هذه القردة وعلى غيرها من أمثالها، وينفق على أبيها وأمها وأعمامها وأخيها وأولاد أخيها، ولا اعلم من عداهم، ثم يقصر في حقنا - أنا وزوجته الأولى - ولا يوفر لنا الراحة التي تعودناها من قبل. . . والنبي! ورأسك الغالي! إنني أقول الحق. . اقبل قدميك أرجوك أن تلح في تطليق زوجته الجديدة. . .

وكان الرجل المسكين أثناء مخاطبة أمه لي من وراء الباب ينظر بغباء، وما كادت تذهب حتى وعد بتحقيق رغباتها. . . ثم قال: على أن المسالة صعبة، فقد كنت متعوداً أن أنام أحياناً في منزل شقيق البنت التي تزوجتها أخيراً، وهو يشتغل كاتباً عند عباس باشا. . . ومنذ اكثر من سنة، أرسل عباس باشا في طلبي وقال: سمعت انك تنام غالبا في منزل كاتبي محمد. . . لماذا تفعل هذا؟ إلا تعلم أن هذا غير لائق وفي المنزل نساء؟. . .

فقلت: سأتزوج من أخته. . .

فسألني الباشا: إذاً لماذا لم تتزوجها من قبل؟

- لان سنها تسع سنوات فقط!

- هل عقد العقد؟

- لا. . .

- ولم لا؟

- ليس في قدرتي الآن دفع المهر

- وما مقدار المهر؟

- تسعون قرشاً. فقال الباشا

- هاك إذاً النقود. . . وليعقد العقد حالاً

فهكذا تراني إنني اضطررت إلى التزوج من البنت، وأخشى أن يغضب الباشا إذا طلقتها؛ ولكني سأتصرف تصرفاً يجعل أخاها يشدد في طلب الطلاق، ويومئذ أعود ثانية إلى عيش السلام والهدوء. وهذا مثل طيب للراحة التي ينعم بها من يتزوج اثنتين!

ومنذ وقت قريب عرض علي نسخة من القران لأشتريها، وظن من الضروري أن يلقي ألي بعض المعاذير. وقد لاحظ إنني من طول ما الفت طقوس المسلمين اقر ضمناً إنني

ص: 37

واحد منهم، وان من الواجب عليه أن يعتبرني احسن اعتبار، وانه يفعل ذلك مطمئن النفس، ولأنه يعلم أن اعتقادي علانية بالإسلام يغضب علي مليكي، وانه لأجل ذلك لا يمكنني أن افعل هنا وقال لي:(انك تحييني بقولك: السلام عليك. لذلك أكون أثماً لو قلت انك كافر، لان الله عز اسمه قال: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً). ثم أضاف إلى ذلك قوله: (وعلى هذا ليس حراماً أن أضع بين يديك القران الكريم. ولكن من مواطنيك من يأخذه بيده القذرة، بل ويجلس عليه وأنا استغفر الله من مثل هذا الكلام واستبعد أن نفعل هذا وأنت والحمد لله تعرف انه: (لا يمسه ألا المطهرون) وتراعيه. وفي مرة أخرى باع نسخة من القران بناء على طلبي لمواطن لي؛ وفي أثناء انعقاد الصفقة دخل الغرفة إنسان، فانزعج مواطني وأسرع فوضع الكتاب على المقعد وخبأه بجزء من ملابسه، فاخجل هذا العمل الكتبي، وظن أن صديقي جلس على الكتاب، وانه يفعل هذا احتقارا له؛ فلم يخف باعتقاده أن الله سيعاقبه اشد عقاب على هذا البيع الحرام؛ وكان هناك شيء واحد صعب علي أن أقنعه بعمله أثناء زيارتي السابقة لهذا البلد؛ وهو أن يذهب معي في وقت خاص إلى مسجد الحسين - وهو المدفن المشهور لراس الحسين - واقدس المساجد في العاصمة المصرية. وبعد ظهر يوم من أيام رمضان كنت امشي وإياه أمام أحد أبواب هذا الجامع، وكان ساعتئذ يغص بالأتراك وكثير من سكان المدينة العظماء بين الحشد. . فظننت أنها مناسبة طيبة لأشاهده من كثب، وطلبت من رفيقي الدخول معي فرفض بحزم خوفاً من أن يعرف إنني إنجليزي، وكان من الممكن أن يثير ذلك غضب المتعصبين من الأتراك الموجودين هناك فاعرض نفسي إلى بعض الأذى. فدخلت وحدي وبقى هو بالباب يتبعني بعينه الوحيدة متعجباً من جراتي؛ فلما راني عارفاً بالأساليب العادية: أطوف حول الستر البرنزي المحيط بالضريح، وأقوم بأوضاع الصلاة المنتظمة، دخل وأقام صلاته بجانبي

وأود بعد سرد هذه الحكايات أن اذكر أن أخلاق أصدقائي الآخرين لا يلاحظ عليها مثل هذا الشذوذ. وكان استقبالي لضيوفي لا يخرج عن عادات الضيافة الشرقية المألوفة. كنت اقدم إليهم الشبك والقهوة وأدعوهم إلى مشاركتي الغداء أو العشاء. وقد كتبت الكثير من أخبارهم بالعربية بإملائهم ثم ترجمتها إلى الإنجليزية ونشرتها في هذه الصفحات

ص: 38

والمقصد الأول من وضع هذا الكتاب هو تمحيص الأشياء وتحقيق الحوادث؛ فلم أضح بالحقيقة في سبيل تجميل القصة أما الصور التي نشرت فيه فقد رسمتها للشرح لا للزينة.

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 39

‌حول التعليم الإلزامي

هؤلاء الجنود المجهولون

للأستاذ محمد كامل حتة

إلى الأستاذ الجليل صاحب الرسالة

ليس عجيباً أن يجري قلمك في قضية المعلم الإلزامي بما جرى به من البيان الرائع والدفاع المحكم والحجة البالغة؛ فأن هذا القلم الذي وقفته على نصرة الحق في جميع صوره وقضاياه خليق بان يكون له في هذه القضية بلاء يزلزل جوانب البغي، ويفضح مسارب الهوى، ويسفر عن أوجه الحق وضيئة ساطعة!

أن قضية المعلم الإلزامي، هي في الواقع ومع النظر الدقيق، ليست ألا قضية الأجيال المقبلة التي تتكون على يديه وتنطبع على غراره. وليس من اليسير أن نتصور حياة هذه الأجيال ومظاهر وجودها شيئاً منفصلاً عن حياة هذا المعلم الإلزامي ومظاهر وجوده. ومن هنا كان الوضع الحاضر للمعلم الإلزامي جريمة في حق الشعب الذي تتصايح الدعوات في كل مكان بالحرص على مستقبله والرغبة في إنصافه وإسعاده. وكان المقياس الصادق للوطنية في مصر ما يبذل في سبيل المعلم الإلزامي من جهود مخلصة، تهيئ له النهوض بأعبائه الثقال في مكافحة الجهل والفقر والمرض والانحلال، وتنشئة الأجيال القادمة على الصورة التي تتحقق بها معاني الوجود ومقومات الحياة. . .

أما أن يضيق على المعلم الإلزامي في الرزق، حتى لا يكاد يقيم أوده ويستمر مظهره ويلحق بقافلته؛ ثم يحمل من الأعباء الثقال عملاً مرهقاً وحساباً عسيراً وتقديراً مجحفاً، ثم تتكأكأ عليه التهم الجائرة والدعايات النكراء، فتلك إساءات مؤذية، أهون مظاهرها أن تصيب أشخاص المعلمين الإلزاميين وأسرهم، وأخطر حقائقها أنها تصيب الشعب في آماله ومستقبل أجياله؛ لأن هذه الأجيال لن تكون إلا صورة مضطربة من هذه الحياة الشقية التي يحياها أولئك المعلمون، مهما حبرت وزارة الشئون الاجتماعية في مجلتها من الصحائف، ومهما افتنت في وضع البرامج الأخاذة والمشروعات الموشاة، ومهما تباكى أدعياء الإصلاح غيرة على مستقبل هذا الشعب البائس المحروم!

ولعل من الحقائق المؤلمة أن التراث الذي أورثتنا إياه القرون المتعاقبة على مصر قد

ص: 40

وضع المعلم الإلزامي في مركز دقيق جعله هدفاً لكثير من الأفراد والجماعات، ترى في وجود هذا المعلم وفي طبيعة عمله خطراً تخشى مغبته على كثير من الأوضاع التي يرزح الشعب تحت أثقالها، ولا حياة لهؤلاء الأفراد والجماعات إلا في ظل هذه الأوضاع الجائرة؛ ومن هنا كانت الحملات على المعلم الإلزامي في كثير من الأحيان حملات مغرضة، تلبس ثوب الحق وهي من صميم الباطل، وتتظاهر بالإصلاح وهي ترمي إلى الهدم؛ وقد انساق في هذا التيار الجارف كثيرون عن حسن قصد وبراءة ضمير، من غير أن يفطنوا إلى هذه البواعث الخفية ومن غير أن يبذلوا في سبيل الإصلاح ما ينبغي من جهود. . .

ومن الأمور التي تستوقف النظر وتدعو إلى التفكير الطويل أن في وزارة المعارف ثلاثة رجال بأيديهم مقاليد الأمر في هذه الوزارة التي تتولى شؤون التعليم الإلزامي، وكلهم قد أبلى في بحث هذه المشكلة البلاء العظيم، واستطاع أن يلمس مواطن الداء ويقرر وسائل العلاج، وأن تكون له آراء جديرة بالتنفيذ لإصلاح حال المعلم الإلزامي الذي يتوقف على صلاح حاله صلاح المجتمع الذي يعيش فيه، ومع هذا فإن تلك الآراء القيمة التي سجلها هيكل وطه والسنهوري في صحائف الكتب والمجلات، لم يكن حظها على أيدي أصحابها وقد مكنتهم الأقدار من العمل والتنفيذ، أكثر من حظ ما يسطره كاتب مثلي قد تعوزه القدرة على إعلان رأيه، قبل أن تعوزه القدرة على تحقيق الرأي الذي يريد!

إني لأشفق على مشكلة التعليم الإلزامي في وزارة المعارف إذا لم تحل في عهد هؤلاء الثلاثة الذين ارتبطوا بمناهج قويمة في الإصلاح، وإلا فهل من اليسير أن تجود الأيام بمجموعة كهذه، اجتمعت على الرأي المتحد والعبء المشترك والقدرة المتاحة لتحقيق الآمال؟

(القاهرة)

محمد كامل حتة

ص: 41

‌ليالي القاهرة

الكأس. . .

للدكتور إبراهيم ناجي

لَا تَبْكِهَا ذَهّبَتْ وَمَاتَ هَواهَا

في القَلْبِ مُتَّسَعٌ غَداً لِسِواهَا

أحْبَبْتَهَا وَطَوَيْتَ صَفْحَتَهَا وكم

قَرَأَ اللَّبِيبُ صَحِيفَةَ وَطَواهَا

يَا شَاطِئَ الأَحْزَانِ كم مِنْ مَوجَةٍ

هَبْهَا ارْتِطَامَةَ مَوْجَةٍ وَصَدَاها

تِلْكَ الوَليدَةُ لم تَطُلْ بُشْرَاهَا

لَمَّا تَكَدْ تَطَأُ الثَّرَى قَدَمَاهَا

زَفَّ الصَّبَاحُ إلى الرِّمَالِ نِدَاءهَا

وَسَرَى النَّسِيمُ عَشِيَّةً فَنَعَاهَا

هَاتِ اسْقِنِي وَاشْرَبْ عَلَى سِرِّ الأَسَى

وَعَلَى صُبَابَةِ مُهْجَةٍ وَجَوَاهَا!

مَهْلاً ندِيمِي كَيْفَ يَنسَى حُبِّهَا

مَنْ ينْشُدُ السَّلوى عَلَى ذِكْرَاهَا

مَازِلْتَ تَسْقِينِي لِتُنْسِينِي الْجَوى

حَتَّى نَسِيتُ فَما ادَّكَرْتُ سواهَا

كانَتْ لَنَا كأْسٌ وكانَتْ قِصَّةٌ

هَذا الحُبَابُ أَعَادَهَا وَرَوَاهَا

كأْسِي وَشَمْسُ هَوايَ، والسَّاقي الذي

عَصَرَ الشُّعَاعَ لِمُهْجَتِي وَسَقَاهَا

الآنَ غَشَّاهَا الضَّبَابُ وَهَاأَنَا

خَلْفَ المَدَامعِ وَالْهُمُومِ أَرَاهَا

غَالَ الْفَنَاءُ حُبَابَهَا وَضَبَابَهَا

وَتَبَخَّرَتْ أَحْلَامُهَا وَرُؤَاهَا!

إبراهيم ناجي

ص: 42

‌من الشعر الرمزي

في مفرق الطريق

للأستاذ سيد قطب

بين نفسين من النفوس الكثيرة التي تعيش في الإنسان الواحد

متفرقة في بعض الأحيان. دار هذا الحوار. . . فأما إحداهما

فتتعلق بماض عزيز لا رجعة له ولا أمل فيه، وأما الأخرى

فتنزع إلى العزاء بالتطلع إلى جديد:

أَنتَ أوغلتَ في الظلام طويلا

فمتى يا رفيقُ تبغي القُفولا؟

شدَّ ما آدَنَا التخبط في الليل

وخِفْنا ظلامَه المدخولا!

ورأيْنا الأوهامَ تبدو شُخوصا

ورأينا الشخوصَ تبدو هَيُولَى

وَخَبَرْنا فلم نُفِدْ باختبار

وسخرنا مما خبرنا طويلا

يا رفيقي. إذا قَدِرْتَ فأوِّبْ

إن هذا الظلام يُضني العقولا

أنا أخشى الضياَء أُبصر فيه

ذكرياتي تبدَّلت تبديلا

أنا أخشى النهارَ يكشف عني

كلَّ وَهْمٍ أرودهُ تعليلا

أنا يا صاحبي أُشِيحُ بوجهي

أن أرى عهدنا تَرَدَّى قتيلا

أنا يا صاحبي أُدافعُ عقلي

أن يَرُودَ اليقينَ جهماً ثقيلا

الظلام الظلام أروحُ للقلب

ولو كان لا يريح العقولا!

يا رفيقُ. الحياةُ أسمى وأغلى

أن تُقَضَّى كذاك وَهْماً ضئيلا

يا رفيقُ. الحياة أقصرُ عهداً

أن تُضَحَّي ساعاتها تَخْييلا

أُبْ من الظُّلْمَةِ الحبيبةِ واهجرْ

كلَّ ما كان في الحياة الأولى

وَتَطَلْعْ إلى جمالٍ جديدٍ

أَفلَمْ تَلْقَ في الحياةِ جميلا؟

عِشْ بما قد وُهِبْتَهُ من حياة

مُسْتَثَارَ الإحساس نهماً عجولاً

آه يا صاحبي. أتجهلُ أني

أفقدُ الدارَ إن فقدتُ الطلولا

ص: 43

ذاك عهدٌ أنفقتُ فيه رصيدي

كلّهُ لم أُبَقِّ منه قليلا

أتراني أجدِّدُ الذّخرَ والعمرُ

مُوَلٍِّ والجهدُ أمسى هزيلا؟

أنا باقٍ هنا فإن شئتَ دعني

ورُدِ الكونَ حافلا مأهولا

أنا باقٍ هنا أرودُ طُلولي

لم أعُدْ بعدُ أستطيبُ القفولا!

(حلوان)

سيد قطب

ص: 44

‌البريد الأدبي

من سوء الترجمة أيضاً. . .

تكلمت في العدد 418 من الرسالة على قولهم (من جديد) وأوضحت أن هذا التركيب مما جناه جهلة المترجمين، وان كتابنا وبلغاءنا قبلوه من غير تفكير ولا بحث، فوشج بلغتنا، وعاد مما لا يستطاع استئصاله منها - كغيره من الطفيليات التي أغارت عليها - ألا بطويل جهاد وكبير عناء

ثم تذكرت بعد أن كتبت تلك الكلمة أني كنت قد قيدت في كناشتي طائفة مما فشا بيننا من أمثلة سوء الترجمة. فعدت أليها، وتخيرت منها ما ارجوا أن أوفق لنشره في هذه المجلة كلما ساعفت الفرصة

فمن ذلك استعمال (عَبْر)(مصدر عبر النهر وغيره: إذا قطعه إلى الجانب الأخر) ترجمة للكلمة الإنجليزية يجعلوها في نسج الكلام ظرفاً - كما يصنع الإنجليز بكلمتهم - فأخرجوها عن معناها ووضعها اللغوي بلا مسوغ مطلقاً

وكثير ما نراها هكذا في البرقيات والتعليقات الحربية، وفي وصف الغارات والحركات العسكرية، وفي الخطب السياسية وغير ذلك

وأني مورد لهذا الاستعمال الخاطئ ثلاثة أمثلة قبستها من الصحف، ليتضح بها المقام

1 -

ومن زمن قريب ادعت اليابان لنفسها حق مرور قواتها (عبر) شمال الهند الصينية

2 -

وسنواصل كل شهر قذف. . . بالقنابل الشديدة الانفجار كلما فرغت مصانعنا من إخراج طائراتنا الضخمة، أو جاءت إلى هنا (عبر) الأطلنطي

3 -

لهذا وصلوا بين باكو وباطوم (عبر) القوقاز بأنابيب

(فظرفية)(عبر) المفتعلة واضحة في هذه المقتبسات، يدل عليها متعلق (الظرف) في كل

وقد يسبق إلى الوهم أن هذا العبث مما يمكن تخريجه على وجه صحيح: كأن يحمل مثلاً على حذف عامل المصدر

ولكن قليلاً من التأمل فيما أسلفت من الأمثلة وفي غيرها يذهب بهذا الوهم. على ان قواعد حذف عامل المصدر وأمثلته مبسوطة مفصلة في موضعها. وليس هذا مما يدخل منها في باب أو يمت له بصلة

ص: 45

(ا. ع)

أخبار تهم الأدباء

1 -

مضت أسابيع وأسابيع ولم نقرا شيئاً من روائع الأستاذ إسعاف النشاشيبي، ونحن نرجو أن يكون بعافية، فهو من أعاظم الباحثين في هذا الجيل

2 -

الفائزون من شعراء العراق في المسابقة الشعرية التي أقامتها محطة لندن للإذاعة العربية هم بالترتيب حضرات السادة: عبد الرحمن البناء، جميل احمد الكاظمي، ومصطفى كامل يأسين وقد وزعت عليهم الجوائز في حفلة أقامها السفير البريطاني في بغداد

3 -

والفائزون من شعراء مصر ثلاثة، كان ثانيهم السيد حسن القاياتي، وقد تألم من هذه المنزلة (الثانوية) فان تفضل أحد الموظفين بمحطة الإذاعة المصرية وقدم ألينا أصول القصائد الثلاث فقد نقيم ميزاناً ينصف السيد القاياتي بعض الإنصاف وإن كان يؤذي لجنة التحكيم بعض الإيذاء!

4 -

من بين الذين فازوا بعضوية (جماعة كبار العلماء) اثنان من أدباء اللغة العربية؛ وهما الشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد عرفة، ومعنى ذلك أن الأدب يزاحم بمنكب ضخم في بيئات العلماء

5 -

لم يفصل وزير المعارف في استقالة الدكتور طه حسين، ويقال انه سيعين في مجلس الشيوخ، فان صح هذا النبأ كان فوز للسلطة الأدبية، وذلك بان التعيين في مجلس الشيوخ كانت تراعي فيه اعتبارات لم يكن للأدب فيها مكان

6 -

حان الوقت لتقييد أوابد الفصاحة البرلمانية، فقد وقعت في الأسبوع الماضي محاورات في مجلس الشيوخ ومجلس النواب تشهد بأن الفصاحة البرلمانية قد وصلت إلى ابعد حدود التفوق، وسيأتي يوم تباع فيه مضابط البرلمان في المكاتب كما تباع أطايب المؤلفات!

زكي مبارك

وفاة طاغور

توفي الدكتور رابندرانات طاغور شاعر الهند وحكيمها في اليوم السابع من شهر أغسطس، وقد نعته إلى العالم شركة روتر بما يأتي:

ص: 46

كان السير رابندرانات طاغور الذي أعلنت الآن وفاته في مقدمة المحبوبين في العالم وفي الهند وقد نال جائزة نوبل في الآداب وألقى محاضرات هبرت في جامعات اكسفورد سنة 1930

ولد في 6 مايو سنة 1861 وتلقى تعليماً خاصاً في القرية التي ولد فيها قبل أن يقيم في كلكتا. ولما بلغ الرابعة والعشرين ذهب إلى الريف ليتولى إدارة مزارع والده، وهناك بدا الكتابة لأول مرة. ومن ذلك الوقت كتب نحو ستين ديواناً من الشعر وعدة مؤلفات نثرية منها روايات وقصص صغيرة ومقالات فلسفية وروايات تمثيلية. وكان السير رابندرانات فضلاً عن نظمه الشعر وكتابته النثر مؤلفاً موسيقياً، فقد نظم اكثر من ثلاثة آلاف أغنية

وفي سنة 939 تلقى في عيد ميلاده الخامس والسبعين رسائل التهنئة من جميع أنحاء العالم وكلها إشادة بفضله كشاعر وروائي وقصصي ومفكر سياسي ومصلح اجتماعي وأستاذ ديني.

وفي سنة 1901 أسس مدرسة في سانتينكتان تحولت فيما بعد إلى معهد علمي دولي يسمى - فسفا بهاراتي - وكان هذا عمله في حياته

وقد اشتهر أيضاً بأنه سائح عظيم، فانه زار إنجلترا في سنة 912 حيث نقل بعض مؤلفاته البنغالية إلى اللغة الإنجليزية، وساح في أوربا مراراً، وكذلك في اليابان وروسيا السوفيتية والصين والولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية وإيران وكندا ومصر والعراق

ولما بلغ 63 عاماً شرع فجأة يشتغل بالتصوير بالألوان، وقد أقيم معرض لصوره بلندن في ديسمبر سنة 1983 وكانت هذه الصور خيالية غريبة، أي ما يدور بعقل الشاعر مرسوماً على الورق

وأقيمت لصوره معارض أخرى في برمنجهام وموسكو وبرلين ومونيخ وباريس ونيويورك

وقد مرض السير طاغور فجأة مرضاً خطراً بالحمرة في صيف سنة 937 ولكنه شفي منه. وبعد ذلك كان لغزو اليابان للصين أثر شديد في نفسه؛ وفي أكتوبر سنة 937 أذاع رسالة لاسلكية على مواطنيه الهنود - استنكر فيها وحشية الحربين اليابانيين في معاملتهم للصين

وبعث إلى يوتي ناجوشي الشاعر الياباني تعنيفاً أدبياً مؤلماً بسبب ضرب اليابانيين

ص: 47

للصينيين غير المحاربين بالقنابل

ولما بلغ الثمانين من عمره منحته جامعة أكسفورد درجة دكتوراه في الآداب. وقد منحه إياها السير موريس جوير كبير قضاة الهند في اجتماع خاص عقدته لهذا الغرض جامعة اكسفورد في قرية سانتينكتان بالبنغال. . .

وكان لسير رابندرانات طاغور هيئة وقورة خارقة للعادة، فكان كبير الجسم عظيم الرأس، فضي الشعر قد سال على جانبي رأسه في خصائل كثيفة. وكان جميل الوجه ذا لحية بيضاء طويلة وكان يبدو في أرديته الطويلة الواسعة كأنه أحد الروحانيين

وكان ذا صوت جميل وقوة لا تقاوم في الكلام، وكان كلامه يشع الهدوء والسكينة والخير

ولم ير في معظم الأحوال إلا مع الأطفال سواء أكانوا هنوداً أم بريطانيين أم صينيين أم يابانيين؛ فقد كان الأطفال يخضعون في الحال لقوته الجذابة وحبه لهم.

قصص مسرحية للأطفال

القصص من أنفع الوسائل لتهذيب النفوس، وتلقين الناشئين اللغة الصحيحة، ورياضتهم على البيان؛ ومن الممكن أن تكون عوناً للمدرسين على تدرس الحقائق التاريخية في غير عسر، وطريقاً لإتقان فنَّي الإلقاء والتمثيل، وداعية لتآلف التلاميذ وتقوية أواصر المودة بينهم لما تشتمل عليه من حوار مسرحي يصحبه شيء من الحرية التي تخرج بالتلاميذ عن نطاق التعليم الجاف.

ولقد تلوت مؤلف الأستاذ (محمد يوسف المحجوب) فوجدته مبعثاً لسرور القارئ، شاهداً بفضل المؤلف، ولا شك أنه فتح جديد في تدريس القصص المدرسية؛ فهو مصوغ في أسلوب شعري منسجم النغمات، سهل العبارة، متين النسج، برئ من الغرابة والتعقيد، سليم من المحاورات العنيفة التي تسوق الأطفال سوقاً إلى حب اللجاج والمهاترة.

والقصص مشتملة على أغراض نبيلة، فمنها ما يدعو إلى مكارم الأخلاق كقصة (على البحيرة)، وما يربي العاطفة الوطنية وينمي المعارف التاريخية كقصة (قناطر محمد علي) وقصة (فتح مصر). هذا إلى ما يزيد شوق القارئ ويبعث السرور في نفوس الناشئين من جمال الطبع، والعناية بضبط الحروف، وتجميل القصص بالصور المتقنة التي تربي الخيال والذوق السليم.

ص: 48

ولا غرابة في ذلك فالمؤلف معروف برقة العاطفة، ولطف الحس، وهو - كما قال الأستاذ الكبير محمد علي مصطفى في مقدمة الكتاب - (يمتاز بأنه معلم فيه مهارة وحذق، وبأنه خَبَر الأطفال وعرف ميلهم، وبأنه درس هذه القصص لتلاميذه فأحبوها وشغفوا بها، واستزادوه منها).

(المنصورة)

محمود البشبيشي

ص: 49

‌القصص

البيت الهادئ

كتبت في القطار النازح عن الإسكندرية

للأستاذ سعد محمود دوارة

هاهو ذا القطار تتسارع دقاته كأنها خفقات قلب كبير. . . وهاهي ذي أعمدة التلغراف تتلاحق كأن بينها سباقاً لا نهاية له. . . وهاهو الثغر الحبيب يختفي وراء الأفق البعيد

القطار مزدحم بالكتل البشرية وكتل المتاع. الناس وجوههم مكفهرة مغبرة، نظراتهم حزينة قلقة. لقد هجروا ديارهم فارين من الموت الذي كان يحوم فوق رؤوسهم، لا حديث لهم إلا ما أصابهم من نقص في الأموال والأرزاق والأرواح.

أمامي سيدة تبكي بكاء صامتاً. . . تركت زوجها الذي لم يستطع اللحاق بالقطار؛ ولقد حاولت أن تعود إليه، ولكن أنى لها أن تتحرك بين هذه الجموع المحتشدة. إنها لا تعرف أين تذهب ولا كيف تعيش وهي لا تملك سوى الثوب الذي لا يكاد يستر جسدها

أما هذه الفتاة الهيفاء التي تجلس بجانبي شاحبة كأنها تمثال من الشمع، فهي خطيبتي وفتاة أحلامي (عايدة)

لقد كانت في يوم من الأيام زهرة نضرة تستقبل أشعة الشمس الذهبية وتميل مع النسيم الرخاء. . . ولكنها الآن بعد أن حطمت قلبها يد القدر القاسية، تبدو واجمة. . . وقد نفرت مني كأن قلبها لم يخفق في يوم من الأيام بحبي. . . وإذا التقت عيناي بعينيها نظرت إلي نظرة عتاب شديدة ثم أخفت وجهها كي لا أرى دموعها المنهمرة

في تلك الليلة المشؤومة، كنت أنا وعايدة في إحدى دور السينما حين سمعنا زمارات الإنذار ترسل نعيبها الحزين؛ وتسابق المتفرجون إلى الخروج يلتجئون إلى أقرب مخبأ، وأخذ كل يتحسس طريقه في الظلام. . .

. . . وأخيراً وجدنا مكاناً ضيقاً في أحد المخابئ. . . كان الجو خانقاً، والكآبة غاشية على كل وجه، وكان السواد الأعظم من الناس بملابس النوم. . . وابتدأت المدافع تدوي متعاقبة. . . وتعالت أصوات الدعاء من كل جانب. . . ومن حين إلى آخر كنا نسمع صفير القنابل

ص: 50

وهي تشق طريقها في الهواء متجهة إلى الأرض، فتحبس الأنفاس ويخيم على المكان هدوء كهدوء القبور. . . ثم نحس بالأرض تهتز تحت أقدامنا، ونسمع صوت الانفجار مصحوباً بصوت تناثر الزجاج. . .

وتبرعت (عايدة) بزجاجة عطرها تمررها بين الناس. . . كانت تبدي شجاعة نادرة، وكانت تواسي النساء قائلة: إن القنابل لا تقذف إلا على الأهداف الحربية، وإننا جميعاً في سلام!

وبعد ساعات - خيل إلينا أنها سنوات - سمعنا الزمارات تعلن انتهاء الغارة. . . فاندفع الناس خارج المخبأ لاستنشاق الهواء الطلق. . .

كانت الشوارع مضاءة بأشعة القمر الفضية، وكانت قطع الزجاج المتناثر تتلألأ ببريق غريب. . . وخرج الناس من كل جانب فامتلأت بهم الطرقات. . . كل يريد أن يطمئن على ذويه وأقاربه!

وشاهدنا ونحن نشق طريقنا بين الأكتاف بيوتاً تهدمت، وبيوتاً لا تزال تتهدم. . . كما شهدنا عربات صغيرة محملة بالمتاع وبالناس متجهة نحو محطة السكة الحديدية. . . كأن أصحابها لا يطيقون الإقامة في هذه المدينة لحظة أخرى بعد أن رأوا الموت بينهم. . . ومعهم!

وأخيراً. . . وبعد مجهود عنيف، بلغنا الشارع الذي تقيم فيه (عايدة) مع أمها وأختها الطفلة. . . كان الزحام شديداً بدرجة غير عادية، وكان عمال الإنقاذ والإسعاف يحاولون صد تيار الجموع المحتشدة. . .!

ولم أشعر إلا و (عايدة) قد تركتني واندفعت بين الزحام حتى غابت عن ناظري، كما تغيب قطعة الحرير البيضاء بين عتمة الأمواج المتلاطمة. . .

أخذت أناديها. . . ولكن صوتي كان يختفي بين همهمة الجمهور، وبين الصراخ والنحيب. . .

وأشرفت على مكان أستطيع منه أن أرى بيت (عايدة). . . لم أكد أصدق عيني. . . ذلك البيت الذي كان يشق الفضاء قد صار أثراً بعد عين، وقد تصاعدت في مكانه سحب من الغبار الأبيض الكثيف. . .!

ص: 51

ورأيت (عايدة) تحاول أن تتملص عن أيدي رجال الإنقاذ الذين منعوها. . . من الاقتراب. . . من الأنقاض. . .

حاولت أن أصل إليها وأقنعها أن محاولتها هي الجنون بعينه، ولكن دون جدوى، فقد كان تيار الجمهور الجارف يدفعني إلى الوراء

وغابت عايدة عن ناظري لحظات، وعندما رأيتها ثانية كانت فوق الأنقاض، ولا أدري كيف وصلت إلى هناك. . . كانت ترفع قطع الحجارة المحطمة وبقايا الأثاث المتهالك. وكانت تفعل ذلك بقوة عجيبة لم أكن أعهدها في ساعدها البض ويديها النحيفتين الناعمتين. . . وقد انسدل شعرها الفاحم فوق وجهها حتى أخفاه

وحاولت أن أثنيها عن محاولتها الجنونية، فقد كانت هناك بضعة جدران تريد أن تنقض. ولكن أنى لها أن تسمع صوتي الضعيف. .؟

وفي هذه اللحظة سمعنا زمارة الإنذار ترسل نعيبها وكأنه نعيب غراب سوء،، وساد الهرج واندفع الناس كأنهم قطيع من البقر الوحشي نحو المخابئ

وبذلت جهود الجبابرة حتى وصلت إلى عايدة وكانت مكبة على عملها كأنها لم تسمع شيئاً. . . أفهمتها أن بقائها مستحيل، ولكنها لم تقتنع، بل أخذت تردد في صوت حزين:(دعني أنقذهم. . . دعني أنقذهم)

واضطررت إزاء إصرارها أن أقسو عليها بعض القسوة، فحملتها بين ساعدي كطفلة صغيرة، ولكنها قبل أن تغادر المكان كانت قد استخلصت من بين الأنقاض دمية صغيرة. كانت دمية أختها!

وقضينا ليلة مضنية. . . وعندما خرجنا من المخابئ كان الشفق الوردي ظاهراً في الأفق معلناً قدوم يوم جديد

وحملت عايدة مغمى عليها إلى منزلي

وهناك استطعت بمساعدة خادمتي العجوز - وهي الشخص الوحيد الذي يعيش معي - أن أسعف عايدة. وبعد مدة ليست قصيرة أفاقت

كان جفناها ذابلين وقد أحيطت عيناها بهالتين من الزرقة الداكنة. وكانت أصابعها لا زالت ممسكة بدمية أختها الطفلة

ص: 52

كانت تتكلم بهدوء غريب وهي تغالب دموعها التي حفرت لها مجرى فوق وجنتيها الشاحبتين. . . ولا زالت كلماتها ترن في أذني وتتكرر في سرعة متزايدة

قالت إنه كان في إمكانها أن تنتشل أختها وأمها من بين الأنقاض لولا حملي إياها عنوة إلى المخبأ

حاولت جهدي أن أفهمها أن هذا كان مستحيلاً، وأنني خفت أن يسقط عليها جدار أو تنهار من تحتها الأنقاض فأفقد بموتها آمالي ولا يبقى لي سوى الاحزان، ولكنها كانت في حالة غير عادية. . . وكانت فكرة إمكان إنقاذ أهلها تتملكها وتلح عليها. وانتابتها بعد ذلك حالة ذهول هي أشبه بالإغماء، فلم تعارض حين شققنا طريقنا نحو محطة السكة الحديدية

لا زال القطار تتسارع دقاته، ومن حين إلى آخر يرسل أنيناً حاداً كأنه يشارك الناس أحزانهم وأنينهم

لقد صرنا في قلب الريف! الخضرة تلفنا من كل جانب. ما أروع اللون الأخضر؟!. . . إنه يهدئ الأعصاب ويحيي في النفس حب الحياة

الجو دافئ، وكأن ركاب القطار قد أنهكهم التعب فخيم السكون على المكان. أما عايدة فقد مال رأسها الرائع فوق كتفي، وهبت نسمات الأصيل الدافئة تطيح بخصلات من شعرها الثائر إلى وجهي فينقل ألي شذى عاطراً

لا زالت آيات الحزن مرتسمة على وجهك أيتها الحبيبة. . . وإني لأشاركك هذا الحزن؛ فقد كانت أمك تعوضني بعطفها وحنانها مما حُرمته منذ زمن طويل

أما أختك الصغيرة، فقد كانت عصفورة مرحة، ولا زالت صورتها مطبوعة فوق مخيلتي وهي تندفع نحوي وتدس يديها الصغيرتين في جيوبي باحثة عن الحلوى. . . ثم تأبى أن تفارقني حتى تنام فأحملها برفق إلى مخدعها. . .

نحن ذاهبون إلى أختي التي تسكن الريف. . .

إن لها ابنة صغيرة تشبه أختك. . . وستجدين هناك عطفاً وحناناً وستغفرين لي ذنبي!

سنبقى هناك حتى تنقشع تلك الغمامة التي تحجب سماء بلدتنا الحبيبة. . . ثم نعود إليها

وإني لأتخيل يوم عودتنا. . . سيكون القطار الذي نركبه مزدحماً. . . ولكن السعادة ستحل على وجوه المسافرين محل التعاسة التي نراها الآن مرتسمة على وجوههم. . . وإن

ص: 53

صورة البيت الذي سنقيم فيه في الإسكندرية لمطبوعة فوق مخيلتي حتى لأكاد أراها. . . هو بيت هادئ تحيط به من كل جانب حديقة صغيرة خضراء. . .

أما هؤلاء الذين أحزننا فقدهم وأبكانا، فإني موقن أن لهم الآن بيتاً هادئاً.

سعد دوارة

ص: 54