الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 425
- بتاريخ: 25 - 08 - 1941
شئ واحد!
للأستاذ عباس محمود العقاد
كان الضابط المصري (أحمس) الذي ارتفع إلى عرش الفراعنة في القرن السادس قبل الميلاد معروفاً في صباه بالمزح والمجون، وكان عربيداً لا يسلم من دعاباته زملائه ولا رؤساؤه ولا أصحاب القداسة من أحبار زمانه. فلما استوى على عرش بلاده نسي أصحابه أنه فرعون مصر وذكروا أنه الضابط العربيد، ثم جروا في معاشرته على السنة التي ألفوها يوم كانوا أنداداً في الرتبة وإخواناً في اللهو والمجانة، فصبر قليلاً على هذه المعاشرة التي لا يصبر عليها الملوك، ثم ضاق ذرعاً بها وبأصحابه وأزمع أن ينهرهم بالعظة والتمثيل، قبل أن ينهرهم بالسطوة والتنكيل؛ وقيل فيما قيل من أساطيره الكثيرة أنه أتى بإناء من الفضة تغسل فيه الأيدي فأتخذ منه تمثالاً لرب من الأرباب المعبودة في زمانه. ثم نصب التمثال في مدخل القصر حيث يراه القوم أول ما يرون عند دخوله، فما عبروه حتى خروا له ساجدين
وظهر لهم أحمس وهم يسجدون للتمثال فقال لهم: أتعلمون مم صنع هذا التمثال الذي حييتموه بالسجود؟ إنه من ذلك الإناء الذي كنتم في الوليمة الماضية تغسلون فيه أيديكم وتبصقون فيه من مضمضة أفواهكم. فمن منكم يجرؤ اليوم أن يبصق عليه أو يصيبه غسالة الأيدي؟ من فعل ذلك فجزاؤه الموت والعار، وان كان معدنه اليوم كمعدنه أمس في سوق البيع والشراء وفطن الضباط لما أراد، وعلموا أن أحمس الفرعون غير أحمس الضابط العربيد، فسجدوا حيث كانوا بالأمس يلقون الرشاش من غسالة الأفواه!
والمقصود من عظة (أحمس) أن الشيء الواحد قد يختلف في قيمته اختلاف الصورة حتى يهان ويبتذل في صورة، ويصان ويعبد في صورة أخرى
ولكننا نتجاوز ما أراده أحمس في هذه العظة لنقول: أن الشيء الواحد في الصورة الواحدة يختلف اختلاف التقدير والنظر حتى يهان ويبتذل عند أُناس ويصان ويعبد عند آخرون، بل حتى يكون له عند الإنسان الواحد شانان متفاوتان
وهذا تمثال أحمس نكتف به ولا تنتقل إلى غيره لنعرف كيف يختلف قدره باختلاف النظر إليه
فالصائغ الفنان يعطيه في تقويمه قيمة التحفة الجميلة التي لا تحسب بالدراهم والدنانير
والبخيل المتصيد للمال يغليه بمقدار ما يبذله فيه طلاب اقتنائه من عشاق الفن أو عباد هذه الأرباب
وعابد الوثن يتمرغ بين يديه
ومنكر الوثن يمرغه هو في التراب، وقد يعدو ذلك إلى تحطيمه وتحريم النظر إليه في صيغته المعبودة
وتاجر الفضة يحيله إلى الميزان، وصاحب الضرورة يبيعه بأبخس الأثمان، وحارسه يمنع الغبار أن يصل أليه لأنه يمنع رزقه وعقيدته وحماه
وهو مع هذا شئ واحد في صورة واحدة
فهل هو في الحق شئ واحد أو جملة أشياء؟
كنا على المائدة نخوض في حديث من هذا المعنى رهطاً من الأخوان الأدباء ورجال الفن والثقافة
فقال أحدنا: أن صديقنا فلاناً لتستهويه تلك الفتاة التي كانت تتهالك على من دونه فضلاً وعلماً ومكانة فلا تظفر منه بأكثر من اللهو بها أو الأعراض عنها؛ فما باله لا يرعوي؟ ألا يهديه أو يرده إلى صوابه ناصح أمين؟
قلت: وهل الفتاة التي استهوت صديقنا هي الفتاة التي استهواها من هو دونه في فضله ومقامه؟
قالوا: نعم. هي فلانة!
قلت: أعلم أنها هي فلانة، ولكني أحسب مع هذا أن تلك الفتاة هي غير هذه الفتاة
وكان أمامنا على المائدة صحفة من البط المطبوخ، فمضيت أقول: ألا أحدثكم بلغة الأماثيل فيما نتناوله الآن من الطعام ونحن مستطردون فيما بدأناه آنفاً من حديث العظات الرمزية؟
كان أربعة في جيرة واحدة من أحياء المدينة: متسول ولص ورجل كادح لرزقه وصائد من هواة الرياضة
فقال المتسول لزميل له وقد عبر به اللص في قيوده مسوقاً إلى سجنه: أنظر إلى ذلك الأحمق!. . . سطا على حظيرة البط ليلة أمس فتيقظ له الحارس وأوشك أن يرديه
برصاصة لأنه طمع في بطة أو بطتين! وهاهو ذا يساق إلى السجن حيث يصوم عن أمثال هذه الطعوم. أفما كان خيراً له أن يصنع كما صنعت أمس وقد شممت رائحة البط المطبوخ في منزل ذلك الصائد فما طرقت الباب حتى ناولوني صحفة أكلتها هانئاً بها غير جاهد في شرائها ولا سرقتها ولا صيدها ولا طبخها ولا اقتناء صحائفها؟ فأين غابت عنه حكمة القناعة وهي أقرب إليه من ذلك الخظار، ومما وراءه من الحبس والعار؟!
قال زميله: وما ظنك بالصائد الذي أكلت البط المطبوخ من بيته؟ أليس هو أحمق من اللص في طلب البط الذي يجود به مطبوخاً ولا ينال منه أكثر مما تنال؟ فعلام السفر من هنا إلى البحيرات النائية؟ وعلام شراء السلاح والعدو بين الماء والعراء؟ وعلام صيد الأسراب وبطة واحدة تكفيه، ولعله يجود بها على سائليه؟
وأصغى إليهما الرجل الكادح لرزقه فقال: الحمد لله على ما وفقني له من القصد والسداد: دريهمات معدوادت تغنيني عن نفقة الصياد وعن ذل السؤال وعن غشيان السجون
فمن من هؤلاء الأربعة على صواب! ولو أخذنا بالظاهر لكان الصائد المتعب أحمق الأربعة، ولو أخذنا بالحقيقة لكان دونهم جميعاً هو صاحب السهم الربيح والعقل الرجيح، لان البطة عنده ليست هي البطة التي يسرقها اللص، أو يستعطيها المتسول، أو يشتريها الشاري من السوق، ولكنها شئ يستحق أن يجهد له بالسفر والنصب وتعلم الرماية وبذل المال في السلاح، وهي كذلك شئ غير الذي ظفر به المتسول من بيته مطبوخاً بغير ثمن. فلا وجه للمبادلة ولا للمقابلة ين الشيئين
وهكذا يجوز أن تكون الفتاة التي استهوت صديقنا غير الفتاة التي تؤكل رخيصة على موائد منافسيه، فإنما العبرة ما يشعر به هو وما يشعر به هؤلاء، وليست العبرة بوحدة الأسماء والأجسام.
وليس الشيء الواحد بشيء واحد على هذا التقدير
تلك حقيقة ينساها معظم الناس وهي داخلة في كل عمل من أعمالهم اليومية، معترضة في كل خطوة من خطوات الحياة فالصنف الواحد من الخضر يشتريه اثنان في يوم واحد من سوق واحد بثمن واحد، فيؤكل على مائدة أحدهما كأنه من طعام أهل الجنة، ويؤكل على مائدة الأخر كأنه السم الزعاف
والكتاب الواحد يطالعه القارئان فيستفيد أحدهما منه ما لا يقدر بمال، ويخرج الآخر من قراءته ولم يأخذ منه ما يساوي ثمن ورقه
والمكان الواحد يقصده زائران فيرجع أحدهما بالصحة والمعرفة والثروة، ويرجع الآخر منه بالمرض والضلال والإفلاسوقد تفتحت عيناي على هذه الحقيقة منذ أيام الطفولة، فشهدت في بلدتي التي نشأت فيها التقاء الحضارات القديمة - والحديثة، والتقاء الأمم من غربية وشرقية؛ وكان يزور أسوان في الشتاء ألوف السائحين منهم الأمريكي والإنجليزي والفرنسي والألماني والنمسوي، وأبناء الأمم الأوربية كافة، فكانت أوروبا عندي على اجتماعها في كلمة واحدة صوراً مختلفات لا تتفق في مشارب ولا أطوار ولا عادات
وكنت أسمع العجب من اختلاف الآراء في سن يعجب فيها الإنسان من كل مشهود ومسموع، فلا أعجب ولا أحار أن عجبت، لكثرة ما تعودت من نقائض الأفهام والأحكام
زار أسوان أمير إنجليزي كبير، فخرج في الظهيرة إلى حيث يلعب (التنس) مع فئة من صغار الموظفين والضباط، وشهدت مجلس والدي في المساء وأنا معجب بالأمير الحر الظريف، فما سمعت تأففاً من شيوخ المجلس كالتأفف الذي سمعته منهم تلك الليلة، وهم يعيبون على الأمير لعبه (أولاً) ونزوله في اللعب إلى مرتبة الصغار من الموظفين (ثانياً)، وخلعه ملابس الإمارة ليظهر في لباس العامة (ثالثاً)، وما شئت من مآخذ شتى: رابعاً وخامساً وسادساً إلى غير انتهاء
وكان (العقلاء) يضحكون من هؤلاء الأوربيين الذين يبلون أحذيتهم أو ينضون مطاياهم في الجبال ليرجعوا منها بكيس ملآن حجارة وحصيات تلقى في عرض الطريق، وكنت أرى هذه الحجارة في متحف المدرسة، فأحسبها كنزاً من الكنوز المكنونة، أو أحسبها على أقل تقدير لها موضوع درس ممتع مفيد
وكان المنقبون في الآثار القديمة من عامة الناس يهزءون بالعلماء الذين يعطونهم الذهب ويأخذون منهم خرقة بالية أو حلية مكسورة أو ورقة ممزقة، وكنت أسمع في دروس التاريخ كل أسبوع أن هؤلاء العلماء رابحون مفلحون، وأن الخاسر الحقيق بالاستهزاء هم أولئك الجهلاء المستهزئون
وازددت علماً بالدنيا وبنيها، فكأنما اجتمعت الزيادة كلها في توكيد هذه الحقيقة الجامعة
وخلاصتها بلغة الحرب والتسعيرة والغلاء: أن ليس لعروض الدنيا تسعيرة واحدة، وأن ما يصدق من ذلك على العروض والأشياء، أحرى أن يصدق على الأحياء وعلى الرجال والنساء
عباس محمود العقاد
بمناسبة الذكرى الرابعة عشرة
قصائد الشعراء في تأبين سعد
للدكتور زكي مبارك
- 1 -
في مثل هذه الأيام من سنة 1927 فُجعت مصر وفاة الزعيم سعد زغلول، والتفتت الأمم العربية إلى هذه الفجيعة الدامية، فنُظِمت القصائد الجياد في الحزن لوفاة ذلك الزعيم العظيم، نظمها شعراء فضلاء من الحجاز واليمن والمغرب والشام والعراق؛ وكان من أجود المراثي التي صدرت عن شعراء الأمم الشقيقة قول الأستاذ بشارة الخوري شاعر لبنان:
قالوا دهتْ مصرَ دهياءٌ فقلتُ لهم
…
هل غُيّض النيل؟ أم هل زُلزل الهرم؟
قالوا أشدُّ وأدهى، قُلتُ ويحكمُ
…
إذن فقد مات سعدٌ وانطوى العلمُ
لِمْ لا تقولون إن العُرْبَ قاطبةً
…
تيتَّموا، كان زغلولٌ أباً لهمُ
وما نريد في هذه الدراسات الوجيزة أن تحدث عما تفضل به شعراء الأمم العربية من المواساة الكريمة لوادي النيل، فذلك يوجب أن نستعد لأبحاث طوال لا يسمح بها الزمن الضنين، فلم يبق إلا أن نتحدث عن القصائد التي نظمها أكابر شعراء مصر من أمثال: شوقي وحافظ والعقاد والجارم ومطران
حفلة التأبين
أقيمت تلك الحفلة التاريخية في اليوم السابع من أكتوبر سنة 1927 بعد انقضاء الأربعين لوفاة سعد زغلول، وكان الخطباء والشعراء على هذا الترتيب: مصطفى النحاس، عبد الخالق ثروت، محمد محمود، حسن نبيه المصري، حافظ إبراهيم، عبد الحميد سعيد، فكرية حسني، مكرم عبيد، احمد شوقي، نسيم اصيبعة، عباس محمود العقاد، حسين رشدي، بهي الدين بركات
جو الحفلة
ومن هذه الأسماء نلاحظ جو الحفلة روعيت فيه الصبغة القومية العربية، فقد تكلم محمد محمود عن حزب الأحرار الدستوريين، وتكلم محمد سعيد عن الحزب الوطني، وتكلمت
فكرية حسني عن السيدات، وتكلم نسيم اصيبعة عن سورية.
دموع ثروت
وكانت الحوادث قضت بأن يصفو ما بين سعد وثروت بعد طول الخصام والعداء، فلما وقف عبد الخالق ثروت لرثاء سعد زغلول، نظر إلى صورة الصديق الفقيد، فغلبه الحزن وأجهش بالبكاء. . . فترك المنبر، وقدم خطبته للأُستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي، فأتمها بالنيابة عن ذلك الخطيب المحزون
برقية نسيم
وفي تلك الحفلة أُلقيت برقية نسيم باشا، رئيس الديوان الملكي حينذاك، وفيها يقول:
(أُشاطركم الأسى وأُقاسمكم الشعور في تبين الفقيد العظيم، أسبغ الله عليه ثوب الرحمة والرضوان، وإني أستوهبكم عذراً: إذ ليس ميسوراً لي حضور الحفلة اليوم)
وإنما نصصت على هذه البرقية لأن جريدة (البلاغ) أشارت إلى أنها لفتت أنظار الحاضرين، ولبيان هذه الإشارة شرح يطول
إن تاريخنا السياسي الحديث فيه أسرار وغرائب وأعاجيب، فأين الباحث الذي يميط اللثام عن العبقرية المصرية في ميادين الجدل السياسي؟
إن طلبة الدكتوراه بكلية الآداب يشغلون أنفسهم بإعداد الرسائل عن مشكلات العصور الخوالي في الأدب والسياسة والاجتماع، فمتى يتجهون إلى درس المشكلات الأدبية والسياسية والاجتماعية في العصر الحديث؟
سارعوا إلى درس هذا العصر قبل أن تضيع الوثائق، وقبل أن يموت الشهود، فقد يصعب عليكم درسه يوم يصبح ظنوناً في ظنون!
قصيدة شوقي
نشرت في صدر (الأهرام) مع تمهيد نظمه من قلم المرحوم صادق عنبر، وهو يقول في ذلك التمهيد:
(هذه هي القصيدة التي تنزلت من سماء العبقرية وحياً يسيل نور الحكمة على أبياته، ويتجلى الإعجاز في حالية آياته، وتتعرف فيه مواضع سجداته. . . أبدعها شاعر العصر
(شوقي) في تأبين زعيم الشرق (سعد) وأودعها صورتين متقابلتين إحداهما صورة الحياة التي تعجز الموت، والأخرى صورة الموت الذي يعجز الحياة، منتزعاً من الحياة والموت معاً أصدق ما فيهما من العظات، وأجل ما فيهما من العبر والمثلات. وإنك لتجد فيما بين ذلك روحاً من الحكمة الكهلة ترف على بيت من أبياتها كما تدرج نسمة من الصبا في الخميلة النضرة الفيحاء. وقد تمثلت في هذا الشعر عاطفة شوقي المشبوبة وعظمة سعد الخالدة. وناهيك من خلدين تلاقيا، وسحرين تظاهرا)
جو القصيدة
لم أكن في مصر يوم مات سعد، وإنما كنت في باريس، فلا أعرف أين كان شوقي يوم مات سعد، فهل كان بمصر؟ في القصيدة ما يشهد بذلك، كان يقول:
قلتُ والنعش بسعدٍ مائلُ
…
فيه آمالْ بلادٍ ومُناها
وفيها مع ذلك أبيات تشهد بأنه كان يصطاف في البلاد السورية، كان يقول:
سائلوا (زحلة) عن أعراسها
…
هل مشى الناعي عليها فمحاها
عطل المصطافَ من سُمّاره
…
وجلا عن ضفة الوادي دُماها
فتَّح الأبوابَ ليلاً دَيرُها
…
وإلى الناقوس قامت بيعتاها
صدَع البرقُ الدُّجا تنشرُه
…
أرض سوريَّا وتطويه سماها
يحمل الأنباء تسري موهِناً
…
كعوادي الثكل في حرِّ سراها
عرض الشك لها فاضطربت
…
تطأ الآذان همساً والشفاها
قلت يا قوم اجمعوا أحلامكم
…
كلُّ نفس في ورِيديْها رداها
فهذه الأبيات صريحة في أن الشاعر كان في سورية حين مات سعد؛ فكيف جاز له أن يخاطب النعش ولم يكن من المشيِّعين؟
إنما صنع ذلك ليتسق له هذا الحوار الجميل:
يا عدوّ القيد لم يلمح له
…
شبحاً في خطةٍ إلا أباها
لا يَضقْ ذرعُك بالقيد الذي
…
حزّ في سوق الأوالي وبَرَاها
يا رفاتاً مثل ريحان الضحى
…
كللتْ عَدْنٌ به هام رباها
وبقايا هيكلٍ من كرمٍ
…
وحياة أترع الأرض حَياها
ودّعَ العدلُ بها أعلامَهُ
…
وبكت أنظمة الشورى صواها
حَضنَتْ نعشَك والتفت به
…
راية كنت من الذل فِداها
ضمَّت الصدر الذي قد ضمها
…
وتلقّى السهم عنها فوقاها
عَجبي منها ومن قائدها
…
كيف يحمي الأعزل الشيخ حماها
وهنا يظهر روح القصيدة، فالشاعر يتحدث عن القيد وعدو القيد، ويذكر الراية التي احتضنت نعش سعد، بعبارة لطيفة تعد من أدق العبارات، إذ جعل الراية تحس نار الفجيعة، وتشعر بفقد القائد الذي كان يحمي حماها، وإن جردته الأقدار من السلاح
عيون القصيدة
وفي هذه القصيدة أبيات روائع، منها قوله في فجيعة مصر بدفن سعد:
ما دَرَت مصر بدفنٍ صبِّحت
…
أم على البعث أفاقت من كَراها
صَرختْ تحسبها بنت الشَّرى
…
طلبت من مخلب الموت أباها
وقوله في جزع مصر لفقد الخطيب الذي أسكرها بسحر بيانه حيناً من الزمان:
طافت الكأس بساقي أُمةٍ
…
من رحيق الوطنيات سقاها
عطلّت آذانُها من وتَرٍ
…
ساحر رنّ مليَّا فشجاها
أُرغُنٌ هام به وجدانها
…
وأَذانٌ عشقتْهُ أُذناها
كلَّ يومٍ خطبةٌ روحيةٌ
…
كالمزامير وأنغام لٌغاها
دّلهتْ مصراً ولو أن بها
…
فلواتٍ دلهَّت وحش فلاها
وقوله في مصاير الأحياء:
زورقٌ في الدمع يطفو أبداً
…
عرف الضّفة إلا ما تلاها
تهلع الثكلى على آثاره
…
فإذا خفْ بها يوماً شفاها
وقوله في فضل سعد على الثورة وجعلها خير ما ترك من الذرية:
ولدَ الثورة سعدٌ حُرةً
…
بحياتي ماجدٌ حُرٌّ نماها
ما تمّنى غيرها نسلاً ومَن
…
يلد الزهراء يزهد في سواها
رَقدَ الثائرُ إلا ثوْرةً
…
في سبيل الحق لم تخمد جذاها
قد تولاها صبياً فكوتْ
…
راحتَيْه وفتياً فرعاها
أعلمتم بعد موسى من يدٍ
…
قذفت في وجه فرعون عصاها
وَطئتْ ناديَهُ صارخةً
…
شاه وجهُ الرِّق يا قوم وشاها
وقوله في أخلاق سعد:
أين من عينيّ نفسٌ حرةٌ
…
كنت بالأمس بعينيّ أراها
روعة النادي إذا جدَّت فإن
…
مَزحتْ لم يذهب المزح بهاها
يظفر العذر بأقصى سخطها
…
وينال الود غايات رضاها
ولها صبرٌ على حسَّادها
…
يشبه الصفح وحلمٌ عن عِداها
لست أنسى صفحة ضاحكة
…
تأخذ النفس وتجري في هواها
وحديثاً كروايات الهوى
…
جدَّ للصبِّ حنينٌ فرواها
وقناة صَعْدَة لو وُهبتْ
…
للسماك الأعزل اختال وتاها
تلك عيون هذه الشوقيات، وما زاد فهو معان يكررها شوقي في أكثر مراثيه، وإن كانت تجل عن الابتذال
قصيدة حافظ
ابتدأ حافظ قصيدته بما أَلِف الشعراء من الحديث عن تأثر الوجود لفقد العظماء، فسأل الليل: هل شهد المصاب ورأى كيف ينصبَّ في النفوس؟ ثم دعاه إلى تبليغ المشرقين غياب الرئيس، مع نعيه للنِّيرات لتلبس عليه ثوب الحداد؛ ثم توجع لغياب سعد عن الحفل فقال:
أين سعدٌ فذاك أول حفل
…
غاب عن صدره وعاف الخطايا
لم يعوِّد جنودَهُ يوم خطب
…
أن ينادَى فلا يردّ الجوابا
علّ أمراً قد عاقهُ، علّ سقما
…
قد عراه، لقد أطال الغيابا
أيْ جنود الرئيس نادوا جهاراً
…
فإذا لم يُجب فشقُّوا الثيابا
ثم وازن بين بلية فلسطين بالزلزال وبلية مصر بموت سعد. فقال:
قل لمن بات في فلسطين يبكي
…
إن زلزالنا أجلَّ مصابا
قد دُهيتم في دوركم ودُهينا
…
في نفوس أبين إلا احتسابا
ففقدتم على الحوادث جَفناً
…
وفقدنا المهنَّد القرضابا
سلّهُ ربُّهُ زماناً فأبْلى
…
ثم ناداه ربهُ فأجابا
قدرٌ شاء أن يزلزل مصراً
…
فتغالى فزلزل الألبابا
وجعل حمل النعش على المدافع دليلاً على أنه أضخم من أن تحمله الرقاب:
خرجتْ أمةٌ تشيِّع نعشاً
…
قد حوَى أمة وبحراً عُبابا
حملوه على المدافع لما
…
أعجزَ الهامَ حمله والرقابا
وأتخذ تعزية (التَّيمس) شاهداً على عظمة سعد فقال:
ساقت التيمس العزاء إلينا
…
وتوخّت في مدحك الإسهابا
لم يَنٌح جازعٌ عليك كما نا
…
حتْ ولا أطنب المحبُّ وحابَى
واعتراف (التايمز) يا سعد مقيا
…
سٌ لما نال نِيلنا وأصابا
وغُرة هذه القصيدة هي الأبيات التي ينص فيها حافظ إبراهيم على أن روح الثورة لن يموت بموت سعد، وأن الأمة لن تُصَدْ عن الغاية بوعد أو وعيد:
ليت سعداً أقام حتى يرانا
…
كيف نُعلي على الأساس القبابا
قد كشفنا بهَديْه كل خافٍ
…
وحسبنا لكل شئ حسابا
حُجَجٌ المبطلين تمضي سراعاً
…
مثل ما تطلِع الكؤوس الحُبابا
حين قال (انتهيت) قلنا بدأنا
…
نحمل العبء وحدنا والصعابا
فاحجبوا الشمس واحبسوا الروح عنا
…
وامنعونا طعامنا والشرابا
واستشِفّوا يقيننا رغم ما نلقاه هل تلمحون فيه إرتيابا
قد ملكتم فَمَ السبيل علينا
…
وفتحتمْ لكل شعواء بابا
وأَتيتم بالحائمات ترَامَى
…
تحمل الموت جاثماً والخرابا
وملأتم جوانب النيل وعداً
…
ووعيداً ورحمةً وعذابا
هل ظفرتم منا بقلبٍ أبّيٍ
…
أو رأيتم منا إليكم مَثابا
لا تقولوا (خلا العرين) ففيه
…
ألف ليث إذا العرين أهابا
فاجمعوا كيدكم وروموا حِماهُ
…
إن عند العرين أسداً غضابا
فهذه الأبيات هي خير ما في قصيدة حافظ، وقد خلت من معانيها قصيدة شوقي، وكان حافظ كثير الالتفات إلى المعاني التي ألف الزأر بها قبل عهد الاستقلال
ثم تحدث عن أخلاق سعد فقال:
تقتلُ الدسّ بالصراحة قتلاً
…
وتُسِّقى منافق القوم صابا
وترى الصدق والصراحة دِيناً
…
لا يراه المخالفون صوابا
تعشق الجوْ صافيَ اللون صحواً
…
والمضّلون يعشقون الضبابا
أنت أوردتنا من الماء عذباً
…
وأراهم قد أوردونا السرابا
وعطف على أيامه مع سعد في (بساتين بركات) فقال:
نمْ هنيئاً فقد سهرت طويلاً
…
وسئمت السقام والأوصابا
كم شكوتَ السهاد لي يوم كنا
…
في (البساتين) نستعيد الشبابا
ننهب اللهو غافلين وكنا
…
نحسب الدهر قد أناب وتابا
فإذا الرزء كان منا بمرحىً
…
وإذا حائم الردى كان قابا
أما بعد فهذه ملامح من قصيدة شوقي وقصيدة حافظ في تأبين سعد، وسنتكلم في المقال المقبل عن قصائد العقاد والجارم ومطران والله وليُّ التوفيق
زكي مبارك
نظرات في التربية
اللعب وأثره في حياة الطفل
للأستاذ رفعة الحنبلي
لكل إنسان في هذه الحياة أهداف يرمي إليها، لكنهم قلما يشتركون في هذه الأهداف؛ إلا أن هنالك غاية واحدة يشترك البشر كلهم فيها. هذه الغاية هي السعادة.
إن هذه الغاية التي عرفها علماء النفس (بعامل اللذة) تكيف أعمال الإنسان، وتتحكم في تصرفاته، وتدفعه إلى سلوك السبل التي توصله إليها فتمهد له حياة مرحة وعيشة رخية
وفي الواقع أن هذه اللذة قد تختلف باختلاف البيئة والوسط وقد تتباين بتباين الجنس والعمر، فاللذة التي تنساق إليها الفتاة أو المرأة هي غير اللذة التي يتجه إليها الفتى أو الرجل، كما أن لذة الأطفال هي غير لذة المراهق والشيخ
بيد أن البيئة والوسط لهما أثرهما في توجيه هذه اللذة وتكييفها حسب النظم الاجتماعية والقوانين الأخلاقية، والطرق التربوية التي يعيش الفرد في كنفها ويتفيأ ظلها؛ ولذة الطفل تتمركز في لعبه المختلفة الأنواع، فهي أولى رغائبه، وقبلة أنظاره، ومحط آماله، وهدف أحلامه
والتربية الحديثة تقوم على تهيئة الوليد للمستقبل، أي أنها تؤهله للحياة، والتأهل للحياة إنما يكون في الاهتمام بميوله، ومعرفة غريزته، وتعهد حاجاته في دور طفولته الذي هو وقت نموه وتقدمه، لذا كان من أقدس الواجبات على المرء أن يهتم بهذه المرحلة من حياة الوليد، وما تفتقر إليه من عناية
وما العناية إلا تهيئة أجواء من الحياة، تسمح للوليد بالنمو الطبيعي في الجسم والعقل والخلق، ولا يتوقف هذا النمو على ما يكتنفه من العوامل التربوية والاجتماعية، وما يحف به من العناصر التهذيبية والأخلاقية وحسب، بل يتوقف على ترك قوى الأطفال وغرائزهم وميولهم في جو حر طليق لا يقيده نظام ولا تحده إرادة؛ والطبيعة هي الجو الطليق للطفل، توجب عليه أن يعيش عيشة الأطفال، وتلزمه أن يحيا حياتهم، وتحمله على أن يلعب لعبهم، من تلقاء نفسه، وبكامل حريته، كما تتطلب مصلحته، وتقتضي غريزته
فالطفولة هي أهم الأدوار التي يمر بها الإنسان إذ تكون طبيعة الوليد سريعة الانفعال شديدة
التأثر بما يعرض في دائرة حسه، والتي يتأهب عقل الطفل فيها لقبول المؤثرات التي تمتزج في مزاجه الرخص، فتبعث فيه صفات تختلف قوة وضعفاً تبعاً لتلك المؤثرات
إن العوامل التي لها الأثر العميق في تربية الوليد وتهذيبه كثيرة، والعناصر التي لها النصيب الأوفر في تنشئته تنشئة تتلاءم مع غاية الحياة وفيرة؛ على أن اللعب هو أهم تلك العوامل والعناصر في حياته، فاللعب إنما هو استعداد للحياة كما يقول العلامة (كروس). وقد ذهب المربي الكبير (فرويل) - وهو أول من أبتكر روضات الأطفال - إلى أبعد مما ذهب إليه زميله فهو يقول:(من خطل الرأي وعقم الفكر، أن ننظر إلى اللعب كشيء لا وزن له ولا قيمة؛ ولكن من حسن الرأي وبعد النظر، أن ننظر إلى اللعب كعامل له حيويته ومؤثراته وغايته. إن لعب الأطفال لأشبه بالبراعم لحياة الإنسان، فإن كانت هادئة أو مضطربة، ونشيطة أو خاملة، خصبة أو مالحة، مفعمة بالسعادة أو مغمورة بالألم، وتحمل رمز السلام أو صدى الحرب، كل هذه تتصل اتصالاً وثيقاً باللعب التي تغمر الطفل مدة طفولته)
ولابد لنا من أن نعرض نظريات اللعب المتعددة التي أختلف علماء النفس في أمرها وتفاوتت بحوثهم فيها، ليقف الإنسان على عواملها ودوافعها
ذهب بعضهم إلى أن اللعب ليس إلا ظاهرة من ظواهر الراحة، أو بعبارة أخرى ليس اللعب إلا فترة من الوقت يأخذ الجسم فيها قسطه من الراحة، والفكر حظه من الهدوء؛ ولا يسع المرء إلا أن يتساءل لماذا يطيب اللعب للإنسان، بعد أن يكون تعباً منهوك القوى، متوتر الأعصاب، اكثر مما تطيب له الراحة؟ ألا نشاهد الأطفال يرغبون في اللعب ويلتمسون فور نهوضهم من فراشهم؟ والحيوان ألا تراه يلعب من الصباح حتى المساء دون أن يقوم بعمل ما؟
وراح يزعم البعض وعلى رأسهم (شيلر) - وناصره بعد ذلك الفيلسوف الإنجليزي الكبير (سبنسر) - أن اللعب يمثل فيضان القوة الزائدة في الطفل؛ ويعلل ذلك أن القوى الحيوية تزداد عنده ازدياداً كبيراً في وقت لا يمكنه أن يصرفها إلى أي عمل ذي أهمية، فتتكتل هذه القوى، وتنساب إلى الشعب التي تكونت - فيما مضى من الأيام - في الجهاز العصبي، فتحدث في الطفل فيضاناً يدفعه إلى اللعب.
ولا ريب أن تكتل هذه القوى الفياضة بدفع الطفل إلى اللعب، ويساعده على التبسط به، ولكننا نجد أحياناً بعضاً من الأولاد - على الرغم من التعب الذي يستولي عليهم من جراء أعمالهم - لا يزالون يلعبون لعبهم حتى إلى وقت إغفائهم! وقد نشاهد أيضاً أن بعض المرضى من الأولاد، يفزعون إلى ألاعيبهم، يلعبن بها ويعبثون، قبل إبلالهم من مرضهم وحتى قبل استكمالهم قواهم ونشاطهم!
ويرد (ستانلي هول) أسباب اللعب إلى عوامل وراثية بعيدة خلفتها الأجيال الماضية. فيقول: إن اللعب ليس الأقوى بدائية للأنسال السالفة ورثها الطفل وأحتفظ بها. وهذا الرأي يطابق ما ذهب إليه (هيكل) من أن الطفل يمثل في لعبه ما مر على الإنسان من الأدوار في نشوئه
وما اللعب في نظر (هول) إلا عبارة عن ارتياض ضروري لإخفاء بعض الوظائف التي أصبحت عديمة الفائدة؛ فالهدف الذي أراده من نظريته هذه هو أن اللعب ليس وسيلة للقضاء على هذه الوظائف وتكييفها وإعدادها لقبول حياة جديدة
على إن أهم تلك النظريات التي فازت بإعجاب قسم كبير من علماء النفس هي نظرية (التدريب الإعدادي) ? وأول من فكر فيه وتعمق في دراستها العالم الكبير عام 1896 في كتابه (ألعاب الحيوان)
أراد هذا العالم أن يتجه في درس اللعب إلى ناحية جديدة - بعد أن لمس عقم نظريات زملائه - فولى وجهه شطر الناحية البيولوجية من بحثه ليقف على دقائقها وليعرف كنه أسرارها. ولقد وفق (كروس) في نظريته هذه توفيقاً كبيراً، حتى أنه أدرك القوى العقلية وتفهم اضطراباتها، لا عند الإنسان فحسب، بل عند الحيوان أيضاً
ولو أردنا أن نبحث، على ضوء هذه النظرية القوى الفعالة للعب، لوجدناه يختلف جد الاختلاف في جماعة الإنسان، ويتباين بتباين أنواع الحيوان. فالهرة الصغيرة تقبع في ركن من أركان الحجرة، منبسطة اليدين، مغمضة العينين، مرهفة السمع، حتى إذا ما اهتزت أمامها ورقة ما أو سحبت من أمامها، تراها قفزت عليها قفزة سريعة، وداعبتها بيديها فترة من الزمن، ثم مزقتها بأنيابها، فكأنها بعملها هذا تستعد للحياة وتهيئ نفسها للقفز على فريستها في المستقبل. والجدي الذي يمارس النطاح منذ صغره يعد نفسه للحياة التي عرفت
عنه، فلكل حيوان غريزة خاصة به، أتته عن طريق الوراثة البعيدة أو القريبة من الفصيلة التي ينتسب إليها، فتظهر هذه الغريزة واضحة جلية - وان كانت في بدئها ضعيفة إلى حد ما - منذ النشأة الأولى
وقد تتفاوت مدة نمو هذه الغرائز في الحيوان بتفاوت درجته في سلم الحياة، فالحيوانات الدنيا تحتاج إلى مدة أكثر مما تحتاجه الحيوانات العليا، لاستكمال نمو غرائزها واستيفاء قوتها؛ وقلما نجد غريزة في حيوان آخر، فالهرة تقفز على الورقة إذا ما اهتزت أو تحركت، ولكنه يتأهب للنطاح حالاً إذا وجد أمامه جدياً آخر؛ فالهرة تجهل النطاح، كما أن الجدي يجهل القفز، لأن لكل منهما غريزته الخاصة به
كذلك نرى للإنسان غرائز بقدر ما لديه من أنواع اللعب: فغريزة للصيد، وثانية للقتال، وأخرى للمداعبة وغيرها. . . على أن هذه الغرائز الموروثة لا يكتمل نموها ولا تستوفي حيويها إلا باكتساب واقتباس جديدين؛ ولن يفوز الإنسان بهذين العنصرين الهامين إلا بعد ممارسة اللعب الذي من شأنه أن يعد المرء للحياة الصحيحة. لذا وجب على الإنسان - وهو أكثر الحيوان طفولة - أن يلعب، ويلعب كثيراً سنين عديدة، كي يمسي فيها بعد إنساناً جديراً بالحياة؛ إذ أن اللعب، في الواقع، يروض بعض قواه الفعالة، ويروض معها بعض وظائف أعضائه، ويسمو هذا الترويض بالإنسان إلى ما يصبو إليه من أهداف سامية وغايات نبيلة
هذه هي أهم تلك النظريات التي أشبعها علماء النفس درساً وبحثاً، ولا بد لنا من الرجوع إلى البحث عن أثر الألعاب في حياة الإنسان بعد أن أتينا على ذكر عواملها المتعددة
والواقع أن اللعب لا يعني الراحة ولا التسلية؛ وإنما هو عمل حيوي للإنسان، له الأثر الأكبر في حياته، كما أن له خصائص بيولوجية، تسهل على المرء سبل التقدم، وتمهد له طريق الحياة
فالرغبة في اللعب إنما تنبثق من الغريزة الكامنة فيه، فيختار من الألعاب ما يتفق وميوله ورغباته وتساعده على بلوغ هدفه. على إن هذه الرغائب وهذه الميول تتنوع بتنوع العوامل الاجتماعية والخصائص الفردية، إذ تعبر عما يختلج في نفسه من هذه الخصائص وتفصح عن نفسيته بأجلى مظاهرها
وأخذت التربية الحديثة تواجه هذه الميول وتتعهد هذه الخصائص، فتوجهها إلى النواحي الاجتماعية والأعمال الإنسانية التي قد يقوم بها المرء في المستقبل
يقول (فرويل): (ليس للمشرف على الوليد إلا أن يوجه تصرفاته، منذ نعومة أظفاره، في الوقت الذي يرتع ويلعب بين ألاعيبه الكثيرة، إلى معرفة خصائصها، وأن يظهر له أثرها في نفسيته وخلقه) وهي إلى ذلك تمتاز بأنها العامل الأقوى في نموه العقلي والجسدي
فالأبحاث التي قام بها العلامة الفرنسي أكدت لنا أن هنالك اتصالاً وثيقاً بين النمو الجسدي والنمو العقلي، أو بالأحرى بين صحة الجسم ونزوة العقل ووثبة الفكر. لذلك نرى أن الألعاب التي يتهالك عليها الطفل، في بدء حياته، والتي يختلف إليها بين آونة وأخرى تساعده على هذا النمو الذي أشار إليه (بينه) والذي يلازمه طول حياته الأولى؛ فالاعتناء بالألعاب هو وسيلة لتحسين العقل والجسم معاً
يحتاج الوليد، في الواقع، إلى كثير من اللعب، فالقوانين المدرسية التي تحتم عليه الصمت والجمود، لا تتلاءم مع حياته، وما يتطلبه من حرية، وما ينشده من استقلال. لذلك أدرك (فرويل) أن المعهد ليس هو البيئة الخاصة التي تلائم الوليد، لأنها تقيد حريته وتفقده حيوية وتخمد نشاطه. وهذا ما حداه إلى إنشاء روضات الأطفال يلعبون ويغنون ويرقصون في جو حر طليق يتعهدهم كما يتعهد البستاني نبات روضته
فالنظم المدرسية الحديثة حتمت على المربين تعهد الأطفال تعهداً كلياً، وإغراءهم على اللعب بالألاعيب وبشتى الوسائل، وترغيبهم فيها بمختلف العوامل، مما حداهم إلى وضع مقادير وفيرة من الألاعيب الجميلة بين أيديهم، يختلفون إليها برغبة وشوق، ويتصرفون بها بحرية تامة. والطفل لن يكون طفلاً إذا لم يفزع بين حين وآخر إلى اللعب لأن طبيعته تقتضي ذلك
وقد يثير منظر هذه الألعاب فضول الطفل، فيدفعه إلى تفهم أسرارها والوقوف على دقائقها، وما يحيط بها من إبهام وغموض، فيتفتح عقله على آفاق جديدة، وتنكشف نفسه على أجواء ظريفة، ويتقوى جسمه وتتصلب أعضائه، فينعم بالعقل النير، ويتمتع بالجسم القوي، ويتزود بالمعرفة الواسعة
لذا وجب على المربي أن يُذْكي غريزة اللعب في نفس الولد، ويستحث رغباته، ويلهب
فضوله للاستقراء عن خصائص هذه اللعب والوقوف على ماهيتها، لأن هذا الاستقراء هو في الواقع من أهم العوامل التي لها الأثر الأكبر في إيقاظ القوى الفكرية فيه، ورفع مستواه الأدبي والعقلي والخلقي؛ بل يجب على المربي ألا يهمل رغبات الطفل - التي هي خلجات نفسية وقتية - وألا يتجاهل فضوله الذي يرتبط إلى حد ما بالبيئة والوسط والعمر. فالإهمال يورثه قلة المعرفة، والتجاهل يخمد فيه الدافع النفسي للعمل الذي من شأنه أن يرسم لنا خطوط نفسيته ويبين ما يجول في خاطره
هذا إلى أن التربية الجسمية والخلقية والعقلية تتصل اتصالاً مباشراً بالألعاب التي يتسلى بها الأطفال؛ وقد تختلف هذه الألعاب باختلاف حداثتهم، وقد تتباين بتباين عواملها، إلا أن الهدف الأسمى والغاية المثلى منها هي تربية الوليد تربية سامية صحيحة.
فاللعب يرمي إلى إنماء الجسم وتقوية البدن، وإلى غرس الفضيلة في النفس، وتزويد العقل بشتى المعارف والعلوم، فصفاء القلب، وجمال الأدب، وطيب الخلق، وإظهار التعاطف، وإبراز العادات الحسنة، وتقوية الميول الاجتماعية، وجميل المعاملة، وحسن المعاشرة، وحب الإنسانية، إنما تكتسب عن طريق الألعاب
ولما كان الوليد يميل بطبيعته إلى العمل ويندفع بغريزته إليه - واللعب أول مظهر من مظاهر العمل - كان الهدف التربية الحديثة أن تصاغ أعمال التربية الأولى في صور الألاعيب، معدة لتصريف غرائز الطفل وتوجيه ميوله ورغائبه توجيهاًيعود عليه بالنفع في مستقبل حياته، فاللعب إذاً هو بمثابة وسيلة هامة لتكوين الطفل تكويناً أدبياً. فليست (الحركات والألاعيب التي يأتيها الطفل، يقصد إشباع الرغبات، وسد أطماع النفوس وحسب، ولكنها مختارة لغايات تهذيبية وأخلاقية وأدبية).
ولما كانت التربية تبتدئ عملها منذ الدقيقة الأولى التي يبصر الطفل فيها النور، والتي تتمشى جنباً إلى جنب مع الطفولة، وتستمر معه طوال حياته، وجب أن تعاون التربية الطبيعة على الوصول به إلى الغاية المقدرة له، ويتوقف نجاح نشأة الطفل على قوة بدء التربية. لذا كانت العناية بالتربية الأولى في دور الطفولة التي هي أهم أدوار الحياة، تفوق كل عناية، وهذا ما عاناه في قوله: إن التربية تبتدي منذ المهد
وماذا يراد بالتربية الأولى؟. . . أليست هي التي ترمي إلى (إنماء قوى الأطفال الجسمية،
وتمرين حواسهم وإيقاظ مداركهم، وحملهم على تعرف مظاهر الطبيعة حولهم، ووقفهم على أسرار الاجتماع، والتعاون على الأعمال، وتوجيه نفوسهم إلى النافع في الحياة؟)
أليست هي التي ترمي إلى إنماء الجسم وإيقاظ العقل وإحياء القلب؟ أليست هي التي تحتم جعل أساليب التعليم سائغة شائقة، تبعث في نفس الوليد الغبطة، وتنفخ فيه أسباب المرح، وتملأ قلبه بهجة وسعادة؟. . .
ليس اللعب في نظر المربين إلا وسيلة للتربية الأولى التي شأنها أن تؤدب النفس، وتهذب الخلق، وتقوم الطباع، وتوجه الغرائز. وما اللعب إلا العامل الأقوى في تهيئة تلك الأجواء التي تتطلبها التربية، وتلك الآفاق التي ترغب في إحاطة الوليد بها؛ فاللعب من أهم الأحداث في حياته - إن لم يكن أهمها - لأن من خصائصها التهذيب والتأديب والتثقيف، فضلاً عن تفتح النفس لألوان من المعرفة، وانفساحها لصنوف المؤثرات والأحاسيس، وتهيؤها للحياة المقبلة
وهو إلى ذلك - أي اللعب - يمثل دوراً اجتماعياً من الطراز الأول في الهيئة الاجتماعية. وإذا ما رجعنا إلى رأي العالم، كار نجده يقول: إن الألعاب لها الأثر الكبير في إنماء شعور التكتل عند الفرد، وهذا التكتل له الشأن الخطير في حياة الإنسان وفي رفع المجتمع البشري. وقد ذهب هذا العالم الكبير إلى أبعد من هذا الحد، فزعم أن كثيراً من الألعاب تساعد المرء على التخلص من بعض الغرائز الموروثة غير الاجتماعية والتي يتضرر المرء منها، إن هي بقيت متأصلة فيه
غير أن هذا التخلص لا يراد به سوى التسامي بهذه الغرائز وتوجيهها توجيهاً سامياً، فالانفعالات في الوليد أوجدوا لها علاجاً اجتماعياً أطلقوا عليه (التسلية النفسية) التي تتسامى بغرائزه غير الاجتماعية، وقت انفعالها إلى النواحي الاجتماعية كتربية الحيوان وتعهد الأزهار وغيرها
وقد تأثر العلم قديماً ولم يزل يتأثر حتى الآن، بالألعاب التي يتلهى بها الإنسان، وبفضل هذه الألعاب اكتشفت أول خصائص الكهرباء، وظهرت الدراجة، وحلت بعض المعضلات وتمتع العالم بشتى الاختراعات ومختلف الاكتشافات
إن الألعاب التي يلعبها المرء والملاهي التي يلهو بها هي عوامل لها الأثر في ترقيته
وتكوين خلقه وميوله وتحديد وجهة نظره في الحياة، فهي عوامل في تربيته يؤثر فيه أثراً مستمراً، فتشكل أخلاقه وعقله من يوم يحل في هذا العالم إلى يوم يغادره) فهي وسيلة لتأديب نفسه وتهذيب خلقه وتنمية ذوقه
وإذا ما غمرنا الطفل بالألعاب الكثيرة ووسائل اللهو فكأننا غمرناه في بيئة هي أسبقها إلى التربية الحقة، وأدناها غاية منالبيئات الأخرى.
(بيروت)
رفعة الحنبل
كليلة ودمنة
نقد وتعليق
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
(كتاب دهريّ الصَّنعة، متقادم الميلاد) أفرغت فيه حكم الدنيا ومواعظ الأجيال، وكان عجباً عاجباً وأدباً خالداً!!
وكان اختيار مطبعة المعارف لهذا السِّفر الجليل أن يكون تذكاراً لعيدها الخمسيني - اختياراً موفّقاً كل التوفيق، فبرهنت بذلك أنها تحسن هذا الأمر وتجيده
وأما الرجل الذي وكِلَ إليه الاضطلاع بعبء نشر الكتاب وتحقيق مواضع الشُّبه فيه والحكم عليها، فرجل هَدَّكَ مِنْ رجل! فالدكتور عبد الوهاب عزام قطب من أقطاب الثقافة العربية كما هو من الثقافة الفارسية. فكان بذلك خير من يتصدّى لمثل (كلية ودمنة)، لينشره على الناس في هذا الثوب الرائع الفائق، وليجهد نفسه فيه هذا الإجهاد المثمر الطيب
وإني لأبادر فأهنئ الأستاذ عزام تهنئة صادقة، لِمَا أحيا (كلية ودمنة) على نحو يغتبط له ابن المقفع في مثواه، ويغتبط له أيضاً ذلك الجندي المجهول الذي صنع للناس هذا الكتاب في أصله الهندي، ثم تركه يسير في الدنيا كريماً عزيزاً، تتهاداه اللغات، وتتنازعه اللهجات، ويغتبط له كذلك أنصار الأدب العربي في المشرقين والمغربين
كما أزجي تهنئتي إلى رجال مطبعة المعارف، ومنوِّهاً بهذا الفن العجيب الذي أبرز الكتاب تحفة تاريخية ناطقة. وان كان للنشر أدب خاص، فهذا الكتاب منه قطعة أدبية عالية؛ وإن للألواح الثلاثة عشر التي رسمها المصور (رومان ستريكالفسكي) لأثراً كبيراً في إحداث هذا الجو الفني البهيج
وقد صنع الأستاذ عزام لهذا الكتاب مقدمة بلغت من النفاسة مبلغاً، وحوت من الفوائد الكثير؛ فهو قد عرض لتاريخ الكتاب، وبين أن النسخة العربية (أصل لكل ما في اللغات الأخرى، حاشا الترجمة السريانية الأولى، فقد فُقِد الأصل الفهلوي الذي أخذت عنه الترجمة العربية، وفُقد بعض الأصل الهندي الذي أخذت عنه الترجمة الفهلوية واضطرت بعضه، فصارت النسخة العربية أُمَّا يرجع إليها من يريد إحداث ترجمة أو تصحيح ترجمة قديمة، بل يرجع إليها من يريد جمع الأصل الهندي وتصحيحه)
ثم تحدَّث عن طبعات الكتاب، فذكر:
1 -
طبعة المستشرق دي ساسي الذي كانت طبعته أصلاً من أصول الطبعات المصرية الكثيرة؛ وهي نسخة ملفقة من عدة نسخ
2 -
ثم طبعتي اليازجي وطبارة، وهما ملفقتان من طبعة دي ساسي ومخطوطات ومصورات أخرى
3 -
ثم طبعة شيخو، وهي أول طبعة في اللغة العربية تقدم للقراء نصَّاً كاملاً غير ملفق من كتاب (كليلة ودمنة) وأصلها مخطوط سنة 739هـ؛ وقد طبعه شيخو كما هو لم يصحح أغلاطه ولم يوضح غامضه، ليكون أمام المستشرقين صالحاً للمقارنة والنقد
ثم تحدث عن النسخة التي نقلت عنها الطبعة الحديثة، وهي في مكتبة أيا صوفيا باسطنبول كتبت سنة 618هـ، فهي أقدم من كل المخطوطات التي وصفها المستشرقون، وأقدم من نسخة شيخو المكتوبة سنة 739
وهذه النسخة مفعمة بالتحريف والتصحيف والإسقاط وخطأ الرسم؛ وتستطيع أن تعد في النموذج المصور من الصفحة الأولى فقط نحو اثني عشر تحريفاً وتصحيفاً
وهذا يدل على مقدار الجهد الهائل الذي بذله الأستاذ عزام في تحقيق هذه النسخة وتقريبها إلى السلامة
ونحن في هذا الصدد نأخذ على الأستاذ أنه لم يتوخ في هذه الناحية ما يقتضيه النشر العلمي من إثبات الأصل والتنبيه عليه؛ فقد يكون للقارئ وجه في التصحيح غير الذي ارتضى. نعم، إن الأستاذ قد أثبت بعض كلمات الأصل في التعليقات التي ألحقها بالكتاب، لكنها من القلة بحيث لا تغني شيئاً في معرفة أصل الكتاب والوقوف عليه
وأمامنا جهود المستشرقين ناطقة بمدى تقديرهم لهذه الناحية التاريخية الفنية، فلا تكاد تجد كتاباً نشروه إلا وقد أثبتوا أصله أو أصوله إن كان ذا نسخ مختلفة
وكتاب مثل كتابنا هذا، لَبسَ من جلال التاريخ ما لَبس، جدير بما ذكرت من وجوب بيان أصله للرجوع إليه، ووجوب مقارنة نسخه بعضها ببعض
ولغة أبن المقفع في (كليلة ودمنة) لغة عالية، تعلو على المتأدب والأديب أيضاً، فهي محتاجة إلى توضيح وتقييد وبيان. فكان من المستحسن أن يصنع الأستاذ لها شرحاً أو
معجماً يلحقه بنهاية الكتاب، كما فعل من قبلُ الخوري نعمة الله الأسمر، حينما نشر ترجمة ابن الهبارية لكليلة ودمنة، مع أن لغة هذا النظم في مستوَى ترجمة ابن المقفع
على أن الأستاذ قد أحسن صنعاً بما حقق من الأعلام الفارسية والهندية، مما يشهد له بتمام البراعة في ذلك
قرأت نسخة الأستاذ عزام، ونعمت - كما نعم غيري - بما فيها من دقة وجمال، فطالعني فيها خير كثير ومقدرة فنية عظيمة، كما ظهرت لي بعض هنات أحببت أن أنبه عليها، وبدا لي بعض الرأي في عبارات الكتاب، فآثرت أن أنشره راجياً أن يباعدني العَنتُ، ويفارقني التكلف، وأن يسعفني في ذلك الحق
1 -
في الضبط اللغوي
1 -
ص 36س 6: (كالعظم المتعرِّق) بكسر الراء، صوابه:(المتعرَّق) بفتح الراء المشددة. يقال عرق العظم يعرقه عرقاً، وتعرقه، واعترقه: أكل ما عليه من اللحم
2 -
81: 5، 6:(ولكن النفس الواحدة يفتدي بها أهلُ البيت، وأهل البيت تفتدِي بهم القبيلة، والقبيلة يفتدي بها المصر). الوجه: (يُفتَدَى) و (تفتَدَى) بالبناء للمجهول فيهما. فأهل البيت، وكذا القبيلة والمصر لا يفعلِون الافتداء، وإنما يفعل بهم ذلك غيرهم فهم مفتَدون. ومن ذلك ما قال كعب بن سعد الغنوي:
فلو كان حيٌّ يُفتَدى لفديتُه
…
بما لم تكن عنه النفوس تطيب
3 -
87: 6: (ولا تغتر إليه)، ولا يقال (اغتر إليه) بل (اغتر به). على أن جو العبارة يؤذن بأن صحتها:(ولا تقترب إليه) فليس فيما سبقها من الكلام ما يشعر بأن (شنزبة) قد يتعرض للاغترار أو يقع فيه
4 -
91: 12: (وندفن بقيتها مكاناً حريزاً). وهذه عبارة غير صحيحة. والصواب: (في مكان حريز) فإن الفعل (دفن) لا يتعدى إلى ثان إلا بالحرف (في). وليس هذا أيضاً من المواضع التي يكون فيها لفظ (مكان) ظرفاً من الظروف المكانية؛ فإناسم المكان الصالح للظرفية إما أن يشتق من حدث بمعنى الاستقرار والكون في مكان، أولاً. والثاني لا ينتصب على الظرفية إلا بالفعل الذي ينتصب به على الظرفية المختص من المكان كدخلت ونزلت وسكنت. وذلك نحو المضرب والمقتل والمأكل والمشرب
والأول (ومنه لفظ مكان) إنما ينصبه على الظرفية أمران: أحدهما الفعل المشتق مما اشتق منه اسم المكان نحو قمت مقامه، وجلست مجلسه، وأويت مأواهُ؛ وثانيهما كل ما فيه معنى الاستقرار وإن لم يشتق مما اشتق منه، نحو قعدت موضعك، ومكان زيد، وجلست منزلَ فلان، ونمت مبيته، وأقمت مشتاه. وما ليس فيه معنى الاستقرار لا ينصبه، فلا يقال كتبت الكتاب مكانك وقتلته مكان القراءة، وشتمتك منزل فلان
وليس (الدفن) من الاستقرار في شئ، فلا ينصب لفظ (المكان) على الظرفية المكانية
وقد جاء في نسخة بولاق ص49: (وندفن الباقي في أصل هذه الشجرة، فهو مكان حريز)
5 -
95: 13 (وبلاء يضيَّع عند من لا شكر له) البلاء هنا بمعنى الإنعام. وفي ترجمة ابن الهبّارية ص95:
ما أضيع النعمة عند الكافر
…
وأقبح الخّلة عند الهاجر
وبين اللغويين خلاف في أن يكن البلاء بمعنى الإنعام؛ فقال بعضهم: (الإبلاء: الإنعام. والبلاء: الأشقاء والإتعاس).
أما الإبلاء بمعنى الإنعام فلا خلاف فيه. ومنه قول زهير
رأى الَّله بالإحسان ما فعلا بكم
…
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
أي صنع بهما خير الصنيع. والحق أن الإنعام إنما هو الإبلاء لا البلاء. ومنه الحديث: (من أُبلي فذكر فقد شكر) وحديث كعب بن مالك: (ما علمت أحداً أبلاه الله خيراً مما أبلاني)
وقد احتج من زعم أن (البلاء) يكون أيضاً بمعنى الإنعام بقوله تعالى: (وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين) وقوله: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) ورُدّ عليه بأن البلاء في الآية الأولى بمعنى الاختبار لا الإنعام. وكذلك (بلوكم) أريد بها: (نختبركم) وجاء في نسخة بولاق ص51: (وحِباء يصطنع عند من لا شكر له). والحباء، بالكسر: العطاء
6 -
221: 15: (ولكن إيش الفائدة فيها) بكسر الهمزة، وهذا ضبط عامي؛ والصواب:(أَيْشِ) بفتح الهمزة وتنوين الشين المكسورة، واصلها:(أيِّ شئٍ؟) خفِّفت بحذف الياء الثانية من (أيِّ) وحذف همزة (شئ) بعد أن نقلت حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، ثم أعلَّت إعلال المنقوص. ونحوها في ذلك (َوْيُلمِّهِ)، واصلها:(ويلٌ لأمّه)، حذفت لام (ويل) وهمزة (أُمّ).
قال المتنخل الهذلي:
ويلمه رجلاً تأتي به غبناً
…
إذا تجرَّد لا خال ولا بخلُ
وقال ذو الرمّة:
ويْلمَّها روحةً والريحُ مُعصفةٌ
…
والغيث مرتجزٌ والليل مقترب
وقال علقمة بن عبدة:
ويلم أيام الشباب معيشةً
…
مع الكثر يُعطاه الفتى المتلف النَّدي
قال ابن السِّيد في الاقتضاب: (حذف لام ويل وهمزة أُمّ، كما قالوا أيشٍ لك، يريدون: أي شئ؟). وقال الخفاجي في شفاء الغليل: (أيش بمعنى أي شئ خفف منه. نص عليه ابن السيد في شرح أدب الكاتب، وصرحوا بأنه سمع من العرب. وقال بعض الأئمة: جنِّبونا أيش؛ فذهب إلى أنها مولدة. وقول الشريف في حواشي الرضى أنها كلمة مستقلة بمعنى أي شئ وليست مخففة منها، ليس بشيء. ووقع في شعر قديم أنشدوه في السير:
من آل قحطان وآل أيش)
قال السهيلي في تفسيره: (وأما آل أيش فيحتمل أن تكون قبيلة من الجن المؤمنين ينتسبون إلى أيش. فإن يكن هذا وإلا فله معنى في المدح غريب. تقول فلان أيش هو وابن أيش! ومعناه: أي شئ عظيم؛ فكأنه أراد من آل قحطان ومن المهاجرين الذين يقال فيهم مثل هذا، كما تقول: هم وما هم! وزيد وما زيد، وأي شئ زيد! وأيش في معنى أي شئ كما يقال ويلمه في معنى ويل أمه، على الحذف وكثرة الاستعمال. وهذا كما قال هو: في جيش وأي جيش!)
(له بقية)
عبد السلام محمد هارون
الحروب الصليبية
للأستاذ ر. التميمي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
تطورات الحركة الصليبية
لقد كانت الغاية الأولى من اشتهار الحرب الصليبية امتلاك الأرض المقدسة وجعلها خاضعة لحكم مسيحي؛ فلما ظهر قواد كبار في الشرق الإسلامي أمثال: نور الدين وصلاح الدين، ورأوا مملكة اللاتين لم تنشأ في الشرق إلا بسبب تخاذل المسلمين وتفرقهم، أخذوا يستعدون لمطاردتهم والقضاء عليهم وهيأوا لذلك جيوشاً مدربة تطورت على أثرها الحركة الصليبية ودب الضعف في جنباتها وفي نفوس منظميها وقوادها.
ولقد تطرق إليها الفشل أيضاً حينما أخذ البابوات يقاتلون آل هوهن شتاوفن وينازعونهم الحكم في جنوب إيطاليا وشمالها، فتجزأت قواتهم وانصرف الجانب الأكبر من عملهم وتفكيرهم إلى إضعاف قوة مسيحية كان عليهم أن يوجهوها إلى تعزيزالفكرة الصليبية إذا أرادوا استمرارها. ويقول بعض المؤرخين إن لأطماع الجمهوريات الطليانية دخلاً كبيراً في التطورات التي طرأت على الفكرة الصليبية، إذ أن البنادقة كانوا السبب الأكبر في توجيه الحملة الرابعة إلى القسطنطينية وسائر ممتلكات البيزنطيين بدلاً من فلسطين وهم الذين كانوا يختلفون لأسباب مادية مع تجار جنوا فيضعفون باختلافهم الجبهة المسيحية. وقد أباحوا لأنفسهم التقرب من بعض ملوك المسلمين وأمرائهم، فعقدوا مثلاً معاهدة مع الملك الكامل بينما كان العالم الغربي يستعد للحملة الصليبية الخامسة.
لقد تكرر حادث عقد المعاهدات مع المسلمين أكثر من مرة، فعقدها كل من ملوك صقلية والأراغون وجمهورية جنوا قبيل سقوط عكا النهائي في يد سلطان مصر. كل ذلك أضعف الروح الصليبية وحور اتجاهها وخفف كثيراً من حدتها.
أضف إلى كل ما تقدم النزاع الشديد الذي كان قائماً بين رهبان طائفتي الداوية والاسبتالية وانصراف كل فريق إلى الحط من كرامة الآخر واتهامه بأفظع التهم تأميناً لمنافع مادية ليس لها أية علاقة بمجد الصليب والحركة الصليبية.
ويفهم مما تقدم أن الحركة الصليبية قد باءت بالفشل التام بعد أن انتقلت القدس نهائياً إلى أيد إسلامية مع سائر البلاد الفلسطينية، ثم تلا ذلك سقوط عكا وطرابلس وإنطاكية وهي آخر الحصون اللاتينية وطرد آخر صليبي من الديار الشامية في أواخر القرن الثالث عشر. وبهذا السقوط وذلك الطرد ختم الفصل الأخير من الحركة الصليبية التي كانت ألفت لغاية نصرانية كبرى أقامت العالم الغربي وأقعدته وانتقل بسببها مئات الألوف من الفرسان والأمراء وسائر المحاربين إلى ساحات القتال في الشرق، ومنهم من قضى نحبه، وفيهم من حكم أو أصبح ذا سلطان وإمرة بعد إن كان في وطنه الفقير مفلساً لا يملك شروي نقير؛ والجانب الأكبر عاد إلى موطنه يجر ذيول الخسران وعار الهزيمة. ومجمل القول أن الحركة تطورت وباءت بالفشل حين تغيرت غايات المشرفين عليها والمنظمين لها؛ فباباوات القرن الثاني عشر الذين كانوا يتمتعون بسلطان منقطع النظير كانوا وطدوا العزم على امتلاك القدس فاستعلوا سلطانهم وسؤددهم وقذفوا بالجماهير السذج نحو الشرق حيث امتلكوا ما أرادوا. أما بابوات القرن الرابع عشر فلقد كانوا على اختلاف دائم مع ملوك ذلك العصر الذين أخذوا يشعرون بقوتهم وينكرون على السلطة الدينية تدخلها في شؤونهم الداخلية والسياسية؛ وقد بلغ بأولئك الملوك وفي مقدمتهم فيليب الرابع ملك فرنسا وإدورد الأول ملك إنكلترا أن رفضوا أوامر البابا وتغاضوا عن تهديداته؛ وكان النزاع يدور حول فرض الضرائب على رجال الدين بعد أن كانوا معفين منها؛ وكانت الكنيسة ترفض ذلك مدعية أن أرض الكنيسة موقوفة لخدمة الله فلا يصح أن يؤخذ عنها ضرائب. أما الملوك فانهم كانوا في أشد الحاجة للمال بسبب كثرة نفقاتهم؛ لذلك طمعوا في ممتلكات رجال الدين الواسعة ورغبوا في فرض ضرائب عليها؛ وفي ظروف كهذه ليس من المعقول أن يكون أمل في تجديد حملات صليبية على نمط الحملات السابقة
ومع كل ما تقدم فكر بعضهم عقب سقوط القدس وسائر الإمارات اللاتينية نهائياً في أيدي المسلمين، وفي تأليف حملة صليبية جديدة، والسعي في إحلال التفاهم محل التنابذ والتحاسد بين رهبان الداوية والاسبتالية. وقد كان فكر في هذا الأمر في مجمع ليون المنعقد سنة 1245، وتقرر القيام به أيضاً في مؤتمر فينا الديني سنة 1311؛ على أن رغبته في التوفيق بين هؤلاء الرهبان لم تتحقق وانتهى الأمر بأن قضى على هيأة الداوية وصادر
ملك فرنسا فيليب الرابع أملاكها وأموالها بعد أن تقاسمها مع البابا. أما رغبة تأليف حملة صليبية جديدة فلم يلتفت إليها حينئذ سوى بطرس الأول ملك قبرص الذي كان يحكم في أواسط القرن الرابع عشر؛ فلقد أنشأ جمعية دعاها جمعية السيف وغايتها تخليص القدس، ثم أرسل وفداً إلى غربي أوربا قام بالتبشير والدعاية لتأليف حملة صليبية جديدة فلم ينجح، فأرسل بطرس أسطولاً اعتدى على شطوط سوريا ومصر وعاد للجزيرة غانماً. وحين مات بطرس هذا أوصى بوجوب متابعة الدعاية لحملة صليبية. اعتباراً من سنة 1230 ارتدت الحركة الصليبية حلة جديدة لم تعرف من قبل، فبينما كان الصليبيون حتى الآن يهاجمون كلما سنحت الظروف بلاد الإسلام في الشرق وأهمها سوريا ومصر، وانقلبوا الآن إلى مدافعين، وأضحى خصمهم الأتراك العثمانيين بدل العرب والأكراد والأتراك من سلاجقة ومماليك. . .
لقد جاء الأتراك العثمانيون إلى أوربا الشرقية سنة 1308م بعد أن أنشئوا ملكا واسعاً لهم في آسيا الصغرى في فجر القرن الرابع عشر وبنوا مجدهم وسطوتهم الحربية بجيش مدرب ومجهز أحسن تجهيز دعوه بجيش الإنكشارية (الينيشرية) وعناها الجيش الجديد، فأخذوا يهاجمون به البيزنطيين ويتغلبون عليهم، ويدمرون لهم الحصن بعد الحصن، ويقهرون الجيش تلو الجيش، حتى باتوا على مقربة من عاصمتهم. هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى هاجموا فرسان الاسبتالية في رودس وآل لوزينيان في قبرص؛ فذعر العالم المسيحي لهذا الخطر الإسلامي الجديد، وهب البابوات ينفضون عنهم غبار الخمول والمسكنة؛ ويحاولون تجديد جبهة صليبية قوية تقف في وجه أولئك الأتراك الأقوياء، وظلوا يثابرون على حشد الجهود تلو الجهود، وأخذ الناس بالنعرة الدينية إلى أن وصلوا فعلاً إلى تأليف حملة قوية البنادقة والقبارصة وفرسان الاسبتالية وكلهم باتوا مهددين؛ فجاءوا بأسطولهم المتحد وامتلكوا مرفأ أزمير سنة 1344؛ إلا أن هذا الظفر لم يكن ليؤثر في نشاط الأتراك وتقدمهم فلقد واصلوا نجاحهم في البلقان وامتلكوا مدينة فيليبية البلغارية؛ وعلى أثر ذلك جاءت حملة صليبية واشتبكت مع جيش السلطان بايزيد الأول فانكسرت شر كسرة
وفي سنة 1439 تألفت حملة صليبية أخرى من المجريين والبولونيين تحت رياسة قائد
ترانسيلواني ممتاز يدعى يوحنا هنياد وحاربت السلطان بايزيد الثاني وتغلبت عليه؛ إلا أنها لم تلبث أن غلبت على أمرها، فكانت هذه آخر حملة جردتها أوربا المسيحية على الأتراك المسلمين.
وفي سنة 1453 ملك الأتراك مدينة القسطنطينية، وبامتلاكها قضوا نهائياً على الإمبراطورية البيزنطينية. وعلى أثر ذلك قام البابا بيوس الثاني ونشر داية واسعة النطاق لحملة صليبية وقاد طائفة من المحاربين نداءه إلى مدينة أنكونا الطليانية، وكان يريد أن يزحف بها على البلقان ليقاتل الأتراك؛ إلا أن أفراد الحملة انفضوا من حوله فحزن البابا لتلك النهاية ومات متأثراً غاضباً.
وبعد ذلك لم نسمع بحملات تحمل اسم الصليبية وانتقلت مهمة منازلة الأتراك المسلمين إلى مُلوك أوربا الحديثة وإلى جيوشها المنظمة
وقبل الانتهاء من هذا الفصل لابد لنا من القول بأن الحركة الديموقراطية قد أثَّرت كثيراً في عقول الناس وفي طريقة التفكير الأوربي بالمسلمين؛ فبينما كان هم الباباوات وسائر رجال الدين ومن ورائهم الملوك والأمراء والفرسان والعامة خلالالقرون الوسطى هو القضاء التام على الديانة الإسلامية وامتلاك بلاد المسلمين أخذت الأحوال تتبدل منذ عهد اليقظة إلى أن حل القرن الثامن عشر، فظهر فيه حكماء وفلاسفة بشروا بحرية الأديان وبمبادئ التسامح والتساهل وظلوا في تبشيرهم حتى أثروا في عقول فريق ليس بقليل من الناس المثقفين، فصاروا ينظرون إلى الشرقيين لا بمنظار للتعصب الذميم والحقد الكامن بل بصفتهم أحد أركان هذه الهيأة البشرية التي ساهمت في إقامة صروح المدنية على ممر الأجيال والعصور
ومبادئ التساهل هذه قد انتشرت انتشاراً واسعاً خلال القرنين التاسع عشر والعشرين فاقترب بسببها الشرقي من الغربي أكثر من قبل، ولعبت المصالح المادية الدور الأول في إقامة العلاقات الودية بين الطرفين، وصار الغربي يتودد في كثير من الأحيان إلى الشرقي دون أن ينظر إلى دينه، ويخلص في تودده؛ على أن هذا لا يمنعنا من التنبيه إلى ما يكتبه بعض المؤرخين المغرضين وهم مازالوا يحرصون كل الحرص على مبادئ التعصب والحقد التي سادت دنياهم منذ العصور الوسطى المظلمة، وقد تجد من هؤلاء من ينفث
سمومه في صحف ومجلات محترمة أوربية وأميركية وتراه يحمل حملات شعواء على العرب مثلاً ولا ذنب لهم في نظره إلا لأنهم مسلمون وهو لا يحب الإسلام ولا المسلمين، ويريد أن يرى في الحرب العالمية السابقة حرباً صليبية انتهت بظفر الصليبيين على الهلال ودخول البلاد المقدسة تحت الحكم الإنكليزي
نتائج الحروب الصليبية
من المناسب أن ننظر إلى الحركة الصليبية كجزء أو فصل من تاريخ البشرية، لا كعمل أريد به تنصير الشعوب الشرقية؛ وتأريخ هذا الفصل صعب جداً، لأنك بينما تجد بعض المؤرخين يذهبون إلى أن معظم التطورات الاجتماعية العالمية قد نشأت عن الحروب الصليبية، يقول آخرون خلاف ذلك فلا يهتمون أبداً بتلك الحروب الاهتمام الذي تستحقه
على أن من الإنصاف أن نقول ونقرر بأن اضمحلال عهد الإقطاع وظهور المدن الحرة وبشائر عهد اليقظة، حتى والاكتشافات البحرية، كل أولئك يمكن إرجاعه إلى حد ما إلى الحركة الصليبية
ففي أوائل القرن الحادي عشر كان الأشراف والفرسان أول من لبى نداء البابا، وخرج منهم عدد كبير إلى الشرق قتل أكثرهم، وأقام آخرون في الأراضي المقدسة، فقل بذلك عدد الأشراف. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن إعداد الحملات الصليبية قد اضطر هؤلاء إلى بيع أملاكهم كلها أو بعضها كما اضطرهم إلى تحرير أرقائهم مقابل مبالغ دفعوها إليهم، وقد أقام أولئك العتقاء في المدن واشتغلوا بالصناعة والتجارة ، فزادت أهمية المدن وظهرت فيها طبقة جديدة هي الطبقة الوسطى المؤلفة من أولئك الذين حرروا أنفسهم بما دفعوه لسادتهم النبلاء. ولقد استطاعت هذه المدن بفضل جد أبنائها من أرباب الصناعة والتجارة أن تشتري هي أيضاً حريتها من الأشراف ذوي السيادة عليها وتكتفي بحماية الملك أو الإمبراطور
وأما بوادر النهضة واليقظة فقد ظهرت حين اتصل نصارى الغرب بمسلمي الشرق وأخذوا عنهم ما سمعوه من أغان وأحاديث واطلعوا على تاريخ البلاد الآسيوية وجغرافيتها وهي التي أيقظت العالم الغربي من سباته العميق وجمعت كلمته على عمل مشترك بعد أن كانت الفردية فيها مستحكمة العرى وكانت الفكرة القومية كلمة لا معنى لها، فكان الباريزي مثلاً
ينظر إلى ابن مرسيليا نظرة إلى الألماني الأجنبي عنه أو الإنكليزي، وذلك لأن الطرق لم تكن معبدة ووسائل التنقل نادرة صعبة، فكان الناس لا يعرفون إلا من جاورهم من السكان، فلما ضمتهم الحروب الصليبية تحت لواء واحد تعارف أبناء الأمة الواحدة وتآلفوا. ثم أيقظت هذه الحروب بين النصارى فكرة الدفاع عن مبدأ مشترك مقدس وهذا ما كان يقوم في العصور الوسطى مقام المبادئ المشتركة التي تربط جيلنا المتحضر مثل نظرية الحرية المدنية والسياسية وتقرير المصير واحترام العهود والمواثيق
ومن نتائج الحروب الصليبية قيام فريق من الملوك الأوربيين بجمع الضرائب الثابتة من رعاياهم، فقد باشر بجمعها لويس السابع ملك فرنسا فتبعه هنري الثاني ملك إنكلترا، ثم جبيت ضريبة صلاح الدين في معظم العالم الغربي سنة 1188 ولم تقتصر الضرائب هذه على الأهلين بل تناولت أيضاً رجال الكنيسة وذلك بقرار استحصله البابا أينوسن الثالث في مجمع لاتيران الديني سنة 1215 على أن تنفق تلك الضرائب على الحروب الصليبية
وحينما جاء الفرنج ساحات الحرب في الشرق لم يفكروا في تنصير المسلمين بادئ بدء، فلما مضى عليهم نحو عصر استيقظوا من غفلتهم، وكأنهم أرادوا أن يتلافوا ما فاتهم بالتبشير بالدين المسيحي ودعوة الشرقيين إلى التنصر فقاموا قومة واحدة وعلى رأسهم البابا، وأخذوا يبعثون إلى ديار الشرق وإلى قبائل التتارية مبشرين انتشروا في جميع البلاد الواقعة بين عكا والإمارات اللاتينية الشامية من جهة، وسد الصين من جهة أخرى؛ وكان النصارى مع الباباوات يعلقون آمالاً كبيرة على تنصير التتار. فلما حكم هؤلاء تيمورلنك قضى على فكرة التبشير وحمل أبناء قومه على اعتناق الديانة الإسلامية
وقد نقل الفرنج من سوريا أموراً كثيرة إلى بلادهم. فالفرسان منهم أخذوا عن العرب القوس والطبل والبيرق والرمح. وقد كانت في مبدئها عربية أخذها الفرنج عن فرسان العرب الذين كانوا يغيرون على بلادهم خلال العصرين الثامن والتاسع. ويقول سديو المؤرخ الفرنسي: (إن خلال الفروسية الأندلسية وشمائلها الرقيقة كانت مستقى أخذت منه الفروسية النصرانية الكثير من خلالها ورسومها). ويقول فياردو: (إن الفروسية وكل نظمها التي عرفت في الأمم النصرانية كانت مزدهرة عند الأندلسيين أيام الناصر والحكم والحاجب المنصور، وكانت الأندلس في ذلك العصر كعبة يقصدها فرسان النصرانية من
كل صوت بعهد سلام وحماية من الخلفاء ليعقدوا المباريات مع فرسان الإسلام. وقد بلغت الفروسية العربية أسمى درجاتها وذروة ازدهارها في مملكة غرناطة التي تفيض تاريخها بأخبار السادة والأمجاد شهامتهم ووفائهم
فالألعاب الفروسية أصلها سباق الجريد المعروف عند العرب، والمبارزة، وما يتبعها من آداب اجتماعية، مثل تقديم المساعدة للمرأة والولد والشيخ العاجز، والوفاء بالوعد، والتجمل بمبادئ الرجولة، والمروءة، والكرم، كل أولئك أشياء معروفة عند العرب الذين كانت طبيعة بلادهم وحياتهم الاجتماعية في صحرائهم المترامية الأطراف وشدة عنايتهم بضروب الفروسية تحملهم على الاعتماد على السواعد المفتولة في بلوغ ما يصبون إليه من صفات الرجولة أكثر من اعتمادهم على شئ آخر. كما نقل الفرنج إلى بلادهم بعض المحصولات النباتية كالسمسم والمشمش والبطيخ والذرة والليمون والشمام والقطن والسكر.
هذا عدا أشياء وأمور وعادات شرقية كثيرة انتقلت إليهم عن طريق الأندلس وصقلية. كل ذلك يبرهن على مبلغ التأثير الكبير للحروب الصليبية في حياة الأمم الاجتماعية في الديار الغربية
(فلسطين)
ر. التميمي
2 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
مقدمة الكتاب
البلد ومناخه - العاصمة - المنازل - السكان
من المشاهد أن أكثر الخصائص لشمائل أمةٍ وعاداتها وأخلاقها، إنما يرجع إلى الخصائص الطبيعية لإقليم هذه الأمة. فخصائص الإقليم المصري تؤثر ولا شك في أحوال المصريين الأخلاقية والاجتماعية، وهي لذلك تقتضينا كلمة إيضاحية نجمل فيها الآثار العامة؛ أما الآثار الخاصة، فستتجلى في الفصول الآتية من هذا الكتاب
يجري النيل في وادي مصر العليا الشديد الضيق الكثير الريح بين صحراوين جبليتين رمليتين، حتى يجتاز سهول مصر السفلى؛ وهو في مجراه تكتنفه في كل مكان، ما خلا مواضع قليلة منه، حقول زراعية تكونت من غرينه؛ وهذه المناطق الزراعية ليست مستوية كل الاستواء لانخفاضها عند الصحراء وارتفاعها قليلاً عند النهر؛ يتخللها غابات من النخل وسلاسل من القرى، وتقطعها ترع عديدة
تصل أمطار الصيف الغزيرة التي تقع في الحبشة وما جاورها من البلاد أرض مصر حول الانتقال الصيفي؛ وعند الاعتدال الخريفي يبلغ النهر أقصى فيضانه، فيُترع النهيرات والقنوات التي تروي الحقول، ويغمر بقاعاً واسعة من الأرض الصالحة للزراعة، ثم يهبط تدريجياً حتى يعود سيرته الأولى. ويحمل النيل معه، وعلى الأخص في وقت الفيضان الغِرْين (الطمى) الذي يجرفه من البلاد الجبلية حيث ينبع، فيوزع في كل سنة هذا الغرين الوفر على الحقول المنبسطة على جانبيه، بالفيضانالطبيعي أو بالري الصناعي؛ بينما يرتفع مجراه من تراكم هذا الغِرْين بدرجة مساوية لارتفاع الحقول. ويعتمد المصريون جميعاً على نهرهم في خصب الأرض، لأن المطر ظاهرة نادرة جداً في بلادهم، ما عدا البلاد الواقعة على سواحل البحر المتوسط. ولما كانت الفصول منتظمة كل الانتظام، فان
الفلاح يمكنه أن يرتب العمل الواجب إنجازه بكل دقة. وعمل الفلاح على الجملة سهل، ولكن رفع المياه للري شاق متعب!
ومناخ مصر - في معظم السنة - ملائم للصحة إلى درجة تستحق الذكر. غير أن الأبخرة المتصاعدة من الأرض بعد الفيضان تجعل أواخر الخريف أقل ملائمة للصحة، فهي تسبب الرمد والديسنطاريا وبعض أمراض أخرى تكون أكثر شيوعاً في الخريف منها في الفصول الأخرى. وتهب فجأة رياح جنوبية حارة تدوم ثلاثة أيام في وقت الخماسين التي تدوم على وجه التقريب خمسين يوماً تبدأ في شهر أبريل وتنتهي في آخر مايو؛ وتلك الرياح يندر أن ترتفع منها الحرارة فوق 95 درجة فاهرنهايت في الوجه البحري، أو 105 درجة في الوجه القبلي؛ إلا أنها تكرُب الأنفاس وتضيق الصدور. وفي الصيف يفد الطاعون إلى مصر، ويكون أشد خطراً في مدة الخماسين. ومصر معرضة أيضاً في الربيع وفي الصيف لريح السموم وهي أشد وطأة من رياح الخماسين، ولكنها أقصر مدة، إذ يندر أن تدوم أكثر من ربع ساعة أن عشرين دقيقة؛ وهي تهب عامة من الجنوب الشرقي حاملة معها سحباً من الغبار والرمال. وتتراوح الحرارة في منتصف الشتاء بعد الظهر في الوجه البحري بين الخمسين والستين درجة في الظل. أما في أشد الفصول فتتراوح بين التسعين والمائة درجة. ويزيد على ذلك حوالي عشر درجات في مناطق الصعيد الجنوبية. على أن حرارة الصيف مهما بلغت شدتها قلما تضايق النفس، لأن النسيم الشمالي يلطفها، ولأن المناخ شديد الجفاف. إلا أن هناك مصدراً كبيراً للضيق يسببه ذلك الجفاف، وهو كثرة الغبار. وهناك أوبئة أخرى تقلل كثيراً من الراحة التي ينعم بها المصريون وضيوفهم في هذا المناخ البهيج. ويكثر الذباب في الربيع والصيف والخريف كثرة مزعجة أثناء النهار. وأما في الليل فينتشر البعوض انتشاراً يقض المضاجع ما لم يتقه النائم بالكلة. ويملأ البق أثناء الفصل الحار كل المنازل ذات الأثاث الخشبي. ولا يمكن تجنب القمل في أي فصل، ولكن من السهل التخلص منه. أما البراغيث فتكثر في الشتاء كثرة مزعجة
ومناخ الصعيد أكثر ملأئمة للصحة من الريف وإن كان أشد حرارة. وقلما ينتشر الطاعون فيما وراء القاهرة. وهو أكثر انتشاراً في مناطق المستنقعات القريبة من البحر المتوسط. وفي أثناء السنين العشر الأخيرة، قبل زيارتي الثانية لمصر، لم تحدث غير إصابات قليلة
جداً، إلا في الأقاليم السابقة الذكر؛ وهذه لم يكن الوباء فيها شديداً، لأن البلاد تحسن صرف مياهها، وأدخلت فيها نظم المحاجر الصحية لمنع دخول هذا المرض من بلاد أخرى أو لوقفه. والرمد أكثر انتشاراً في الوجه البحري منه في الأقاليم الجنوبية. وهو يحدث عامة من العرق؛ ولكن ضرره يتفاقم من الغبار ومن أسباب كثيرة أخرى. وقلما يستفحل خطر هذا المرض إذا أسرع المرضى في استعمال الدواء، ولكن كثيراً من الوطنيين لجهلهم طريقة العلاج، أو لإصرارهم على تفويض الأمر للقدر، يفقدون البصر كله أو بعضه
وكثيراً ما سألني السائلون هل في مصر معمرون؟ ومن المحقق أن قليلاً من أهل هذا البلد مَن يبلغ السن العالية؛ ولكن من النادر أن يبلغ المرء هذه السن في بلدنا دون أن يصاب مراراً بمرض مميت لولا عناية الطب التي لا ينالها إلا النزر القليل في مصر. وحرارة الصيف تنهك الجسم ولكنها تدفع المصريين إلى الإفراط في الملذات الشهوانية. وخصوبة الأرض تولد الكسل، فيكتفي المصري بالقوت القليل، وهذه الكفاية يحصل عليها بأدنى سعي وأقل مشقة
والعاصمة المصرية الحديثة التي يشغل الحديث عن سكانها أكثر صفحات هذا الكتاب، تسمى الآن (مَصر) أو باللفظ الأفصح (مِصر)؛ ولكنها كانت تسمى من قبل القاهرة فصفحها الأوربيون إلى (كايرو). وموقعها عند مدخل الصعيد في منتصف المسافة بين النيل وسلسلة المقطم الشرقية، وبينها وبين النهر بقعة صالحة للزراعة في أكثر أجزائها. ويزيد عرضها على ميل في المناطق الشمالية (حيث يقع ميناء بولاق)، ولكنها في الجنوب أقل من نصف ميل. ومساحة العاصمة تبلغ تقريباً ثلاثة أميال مربعة. وقد أُحصى عدد سكانها أثناء زيارتي الثانية فبلغ زهاء مائتين وأربعين ألفاً؛ وقد زاد هذا العدد بعد ذلك كثيراً بسبب إنقاص عدد الجيش ولأسباب أخرى. والقاهرة محاطة بسور تقفل أبوابه ليلاً، وتشرف عليها قلعة كبيرة تقع في زاوية من المدينة بالقرب من الجبل، وشوارعها ليست مبلطة وأكثرها ضيق غير منتظم، وهي أحرى بأن تسمى أزقة
وتبدو القاهرة للأجنبي العابر في شوارعها ضيقة جداً تغص بالسكان؛ ولكن الحال تختلف في نظر من يشرف على المدينة من سطح منزل أو مأذنة مسجد. وأكبر الشوارع يكون فيه عادة صف من الحوانيت على كل جانب، وفوق الحوانيت غرف لا تتصل بها، وقلما تكون
مشغولة بمستأجري الدكاكين وتوجد على أيمان الشوارع الكبيرة وعلى شمائلها دروب وحارات، وأغلب الدروب طرق مزدحمة لكل منها بوابة من الخشب كبيرة على مدخليها تقفل ليلاً، ويحرسها بواب من الداخل يفتح لكل من يطلب الدخول. أما الحارات فغالباً ما تتكون من عطفات صغيرة لها مدخل عام واحد ذو بوابة تقفل كذلك ليلاً، ولكن أكثرها يشقها درب من أولها إلى آخرها
ولابد لي من وصف دور العاصمة، وهذه الصورة التي أمامك تعطيك فكرة عامة عن خارج تلك المنازل. وتبنى الجدران الأساسية في الطابق الأول خارجاً وداخلاً من الحجر الجيري الناعم، يقطعونه من الجبال المجاورة. وعندما يقطع الحجر يكون سطحه ذا لون ضارب إلى الصفرة الخفيفة، ولكن لونه سريعاً ما يقتم. وتلون خطوط الواجهة أحياناً بالحمرة والبياض على التعاقب خصوصاً في المباني الكبيرة كما هو الحال في أكثر المساجد
ويشيد البناء العلوي بالآجر، ويغطى بالكلس أحياناً، وهو ذو واجهة تبرز حوالي قدمين، يقوم على كوابيل أو دعائم؛ والآجر لبن محروق ذو لون أحمر قاتم. ويتكون الملاط من طين بنسبة النصف، وكلس بنسبة الربع، والباقي من رماد التبن والسقط. لذلك تبدو الجدران غير المغشاة بالكلس قذرة اللون كما لو كانت مبنية باللبن. ويغطى سطح المنزل بالكلس، ويكون عادة من غير سور
ويبين الرسم رقم 2 الأسلوب المعماري (الأكثر ذيوعاً) لمدخل المنزل القاهري. فالباب كثيراً ما يزين على هذه الطريقة المصورة، فيصبغ القسم الذي فيه الكتابة والأقسام الأخرى المتشابهة الشكل بلون أحمر يحده حد أبيض، بينما تلون بقية الباب باللون الأخضر. وأما عبارة (هو الخلاق الباقي) التي سنشرح موضوعها عند الكلام على خرافات المصريين فترى على أبواب كثيرة. وهي تنقش عادة بحروف سوداء أو بيضاء. وقلما تصبغ الأبواب ما عدا أبواب البيوت العظيمة. ويكون لها على العموم سماعة من الحديد وضبة من الخشب، وعلى جانب الباب درجتان من الحجر للركوب
(يتبع)
عدلي طاهر نور
الإنجليز والعمل
(نقلا عن مجلة الشهر الفرنسية)
للأستاذ مصطفى كامل
يضرب المثل بالبرود الإنجليزي، ولكن النشاط الإنجليزي لا يقل ذيوعاً عنه. وكثيراً ما كان الشعب الإنجليزي في رأي الأجانب قليل الاكتراث، بطيئاً في التصميم، مفضلاً الاحتفاظ الشديد بعمله وراحته وعاداته اليومية على كل شئ آخر. مع أن هذا الشعب نفسه قد أدهش العالم مراراً بجلده في المشاق وإصراره الخارق وموارده المادية والأدبية التي لا تنفد، والتي يستخدمها في العمل بمجرد شروعه فيه. أخذ بعض الذين عيل صبرهم على الإنجليز أنهم يعبئوا بتوغل الألمان واستفزازهم في أوائل هذه الحرب؛ ولكن العالم كله اليوم يتحقق من إرادة هذه الحكومة وهذا الشعب التي لا تنثني أمام أية تضحية، وفي عدم ادخار أي مجهود لوضع نهاية لتهديد الريخ الثالث للأمم الشرقية ولمجموع العالم المتمدن. فكيف نوفق بين هذين النوعين من الوقائع؟ سنوضح أنهما غير متناقضين إلا في الظاهر
فلو أننا تأملنا الشعب الإنجليزي إبان العمل لأدركنا سر تصرفه في وقت الراحة. فاللغز هو أن العمل عنصر طبيعي للنفس الإنجليزية، فلا حاجة إلى كلمات بيانية، أو حركات خطابية لحثه على العمل. إذ أن النفس الإنجليزية لا تستطيع أن تتصور حياة بدونه، فالتصرف والعمل لهذه النفس ضرورة حيوية وليس نظاماً، ولهذا لم يكن النشاط المتوالي الذي يفيض منها مكتسباً أو زائفاً أو وقتياً؛ ولم يكن الهدوء والراحة في نظر الإنجليزي غير نتائجه المفيدة المرغوبة. ويجب الاعتراف بأن للإنجليزي سيطرة لا تجارى في العمل تعطيه مع غريزة الاستمرار والتضامن في الجهود، قوةً تجعل منه أثمن حليف وأنفع صديق
الصدارة في العمل
وليس أدل على أن الإنجليز شعب عمل من نفس اللغة التي خلقوها لاستعمالهم؛ فليست توجد لغة أوربية أخرى يهيمن (الفعل عليها بهذه الدرجة - أعني التعبير عن الحركة والفعل والنشاط - كما أنه لا توجد لغة لها مثل قدرتها على التعبير الدقيق عن النظام والأمر، وفي تصوير ما فعل أو ما يتعلق بما يفعل، يمثل هذا الإيجاز والوضوح
ولكل مراتب الحركة والعمل (فعل) في الإنجليزية ينطبق عليها تماماً بغير ضرورة إلى استعمال ظرف أو أي تعبير للتحديد أو الإيضاح. وفعل يرفس وهو مثل من آلاف الأمثلة التي تزخر بها اللغة الإنجليزية، ليس له مثيل في أية لغة أوربية، كما أن الفعل في الإنجليزية يتغلغل في الجملة بأكملها، فيبرز جرسها ويحدد وزنها
والذي تفصح عنه اللغة الإنجليزية ببراعة هو دقائق تكوين الذكاء الإنجليزي الذي تبدو الفكرة في ثناياه كأنها لم تخلق إلا للاستعداد للعمل والترحيب به وجعله سائغاً. وقد ذكر سلفادور دي مادرياجا عن هذا الموضوع في كتابه (الإنجليز والفرنسيون والأسبان) آراء في منتهى السداد والدقة، قال:
(إن الذكاء الإنجليزي في الدرجة الأولى من القوة، ويبلغ أقصاه أثناء العمل وعندما يكون الإنتاج العملي محط النظر، ولكنه لا يتكلف المشقة من أجل تصرفات لا تجدي، وهذا هو أحد أسباب الشهرة السيئة التي نسبْت إليه؛ كما أن هناك سبباً آخر، فذكاء الإنجليزي، وهو أقل تخصصاً في الأمور الذهنية، كأنه ذائب في جميع أنحاء جسمه؛ وهذا ما يفسر بطئه في التحرك، فإنه لا يكفي أن يحشد التهيج الخارجي قوى المخ وحده بل جميع الجهاز العصبي أيضاً، كما أن الإدراك لا يتم بالمخ وحده ولكن بجميع الجهاز العصبي كذلك. ولهذا كانت الآلة العقلية في الإنجليزي أكثر تعقيداً وثقلاً وبطئاً للبدء في العمل)
وهذه الفكرة التي تركزت في العمل من تلقاء نفسها تتضح في مذهب المنفعة الغريزي الذي نجد الأدلة العديدة عليه في تاريخ إنجلترا، والذي يفسر كثيراً من الأمور في عادات الإنجليز، فالإنجليزي يتجه قُدماً نحو العمل عندما يتعلق الأمر بالتصرف مهما كانت الوسيلة. ومن السهل عليه أن يقنع بالضروري، ويكون لديه كل ما لم يفد مباشرة في الغرض الذي تكفل ببلوغه فائضاً عديم الجدوى، ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن العمل يقوم بطريقة تدل على التسرع والشدة والعسف، بل على العكس، فإن عادة الإنجليزي في التصرف وفهمه للحياة في ظلال العمل تعلمه أن يتصرف بهدوء وتؤدة، وتخول له أن يشعر بالراحة وهو في أوج العمل، وأن يدخل في حسابه على قدر المستطاع أوقاتاً للاستجمام والراحة
والإنجليزي لا يستسلم للاهتياج بسرعة، ولا للاندفاع إلى العمل بغير أن ينضجه تماماً في
ذهنه، فهو بطئ في التحرك، ولكنه عندما تستولي عليه فورة العمل لا يقفه شئ، فإنه عندما يتصرف يؤدي عمله بكل جوارحه وقلبه. وكيف لا يكون كذلك وهو في أثناء العمل يشعر أنه كالسمكة في الماء لا تشعر وهي في الماء بالحاجة إلى العنف لتسبح، ولهذا لم يكن في النشاط الإنجليزي أثر من الضيق أو الوهن، بل تصحبه الابتسامة والراحة
وإننا نجد في بعض رسائل الشاعر الروسي تيوتشيف بتاريخ 25 يونيو 1855 قوله: (أما عن العدو - ويقصد الأسطول الإنجليزي في حرب القرم - فقد تبادلت الرسل بين الفريقين هذه الأيام، ولقد كان بين الطلبات السخيفة التي طلبت منا، طلب في غاية الغرابة، هو أن نمنحهم ركناً صغيراً في أرض محايدة ليستطيع رجال أسطولهم أن يتصرفوا إلى لعبتهم المحبوبة (الكريكيت)).
صحيح إن حرب 1855 لا تشبه الحرب في 1939، ولكن الخلق الإنجليزي لم يتغير تغيراً محسوساً، ومع ذلك فإن طلب البحارة الإنجليزي لم يكن سخيفا كما ظن تيوتشيف، لأن التدريب الرياضي جزء من نظام التعليم الذي خلق طراز رجلالعمل الإنجليزي السكسوني
غريزة التضامن
وهناك مظهر أساسي آخر للنفس الإنجليزية، هو غريزة التضامن التي تسود العاطفة الشديدة للمنفعة المشتركة والعمل المشترك؛ فإن النفس الإنجليزية ممتلئة أكثر من أية نفس أخرى بهذه العاطفة. فالتضامن للإنجليزي، سواء أكان مقصوراً على أعضاء الجماعة الصغيرة أم كان يشمل الوطن كله، ليس شئ معنوياً أو مثلاً أعلى للأخلاق أو الاجتماع، وإنما هو حقيقة واضحة مادية، بل هو ضرورة يشعر بالحاجة إليها، وكل أمة جديرة بهذا الاسم تتآزر في الخطر إذا داهمها من الخارج، ولكن ذلك يكون عن اقتناع بالضرورة إليه؛ أما في إنجلترا، فإن الذي نراه في مثل هذه الحالات هو غريزة غير واعية، ولو أنها سليمة الإدراك، وهي تشبه من بعض الوجوه الغريزة التي تثير أعضاء فريق الكريكيت عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الشرف الرياضي لقرية أو مدرسة. وقد أصبحت التقاليد والتعليم طبيعة ثانية، فانه في الخلايا الاجتماعية الصغيرة وفي الحياة اليومية تتكون على التحقيق الغريزة التي يمكن أن توحد، عندما تسنح الفرصة، بين جميع إنجلترا، وكل الإمبراطورية،
بل بين جميع العالم السكسوني الإنجليزي
وغريزة التضامن مصدر للنظام الاختياري الذي لا يشبه النظام الفرنسي ولا للنظام الألماني من باب أولى، فإن الألماني يخضع لأمر، والفرنسي يخضع لمبدأ، والإنجليزي يخضع لنفسه، لغريزته، لرغبة الحياة في المجموع، وهي رغبة طبيعية لديه بمقدار الرغبة في الحياة. النظام الألماني رق اختياري، والنظام الفرنسي خضوع الإرادة للآراء الواضحة البينة؛ أما النظام الإنجليزي فهو فيض غريزة خاصة بكل إنجليزي، وهو وثيق الصلة بفكرة الخدمة: الخدمة التي يؤديها الإنسان طواعية إلى قريبه، لا الخدمة التي يؤديها الشخص إلى متبوعة. وكلمة موظف تترجم في الإنجليزية (بالخادم المدني)، فان لفكرة الخدمة الاجتماعية عند الإنجليزي معنى يشبه المعاني الدينية. ومن الواجبات الرئيسية على رجال الدين الانجليكانيين والبروتستنت في إنجلترا غرس الخدمة الاجتماعية، ومكافحة البؤس والأماكن غير الصحية، وتنظيم الإحسان العام ومقاومة البطالة، وتعويد الإنسان أن يكون نافعاً على أية صورة وبأية وسيلة؛ ولكن ذلك غير مقصور على الكنائس والقسس فحسب، ولكن التعاون الاختياري منتشر بين جميع الطبقات وفي جميع ولايات المملكة المتحدة، وفي مجموع العالم الإنجلوسكسوني
ولتفهم غريزة التضامن الإنجليزية يجب التنويه على الأخص بأنه تضامن إيجابي في العمل، وليس عاطفة سلبية بتحمل المسؤولية المشتركة مما يمكن أن نجدها كذلك في الشعوب الأخرى، فأن الصدارة في العمل تتأكد في هذا الميدان كما تتأكد في مجال الاستمرار التاريخي، في التقاليد الحية. ففي اللحظة التي يهدد الخطر بلاده فيها، وتكون الضرورة إلى العمل المشترك لا محيص عنها، يتجه الإنجليزي بكليته نهائياً إلى تقليده وإلى جماعته، وعندئذ تبلغ عبقريته الفردية أقصى قوتها وتتكشف عن كافة مواردها
إن أهم ما يريد الإنجليزي قوله يقوله في صوت خافت، فإذا كان قلقاً بدا أكثر صمتاً وهدوءاً من قبل، حتى إذا هدد الخطر جميع الذين معه يدرك أن الصمت لم يعد يكفي، وأنه يجب عمل شئ آخر يسهل إنجاز أثقل الواجبات؛ وكلما ازداد الخطر بدت على وجوه المارة في لندن علائم الأنس واللطف
لقد تكلم الناس كثيراً عن قوة بريطانيا المادية وقوة بحريتها وطيرانها، ولكن الذي يفوق هذا
كله هو أطوارها في الجهود بمجرد أن تباشرها، وإحساسها بالتضامن، وهدوءها الحازم في الأوقات الحرجة؛ وبمعنى آخر قواها الأدبية التي تؤيد الحقيقة المطلقة للحكم القائل:(إن الشعب البريطاني ما يزال أثمن حليف في العالم)
مصطفى كامل
رسالة الشعر
من جراح الحرب!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(مهداة إلى الذين نضر الله أيامهم بالغنى واليسار، فتركوا أيام الشقاء والبائسين صرعى على أعتابهم بلا رحمة ولا إحسان. . .! وإلى الذين شردتهم ويلات الحرب في كل مكان. .)
عَبِيدَ الْخَزائِنِ. . . طُوفُوا بِهَا
…
كما طافَ نَعْشُ الْهُدَى بالصَّنَمْ!
وَأَدُّوا الصَّلَاةَ بِأَعْتَابهاَ
…
عَسَاها لَكُمْ كَعْبَةٌ أَوْ حَرَمْ
وَبُثُّوا الْكنُوُزَ حَدِيثَ الْهَوَى
…
لَعَلَّ شَذا المَالِ يَرْوِي النَّهَمْ
وَقَفْتُمْ هَوَاكُمْ وَأَحْلَامَكُمْ
…
عَلَى أَخْرَسٍ سَرْمَدِيِّ الْبَكَمْ
لَهُ رَنَّةٌ في حَشاكُمْ لَها
…
صَدَى عَازِفٍ عَبْقَرِيِّ الرَّنَمْ
غَزَا رِقُّهُ دَهْرَكُمْ مِثْلَماَ
…
غَزَا النُّورَ لَيْلٌ دَجِيُّ الظُلَمْ
عَبَدْتُمْ جَمَاداً عَلَى وَجْهِهِ
…
لِجُرْحِ النَّدَى آهَةٌ تَبْتَسِمْ
ظَلَمْتُمْ صِبَاهُ فَشَيَّبْتُمُوُ
…
هُ كما شابَ في الدَّهْرِ مَعْنَى الْقِدَمْ
سَجَنْتُمْ خُطاَهُ بأَيَّامِكُمْ
…
وَلُذْتُمْ بِهِ في زَوَايَا الْعَدَمْ
إِذَا امْتَدَّ ضَوْءٌ لِمِحْرَابِهِ
…
ذَبَحْتُم خُطا الشَّمْسِ فَوْقَ الْقِمَم
وَإِنْ رَفَّ حُلْمٌ عَلَى مَهْدِهِ
…
نُسِخْتُمْ فَنَاءً لِهَذَا الحُلُمْ
سَهِرْتُمْ عَلَيْهِ كَأُمِّ الوَحِيدِ
…
سَرَى اللَّيْلُ فِيهَا هَوىً يَحْتَدِمْ
قُلُوبٌ سَواهِدُ مِثْلُ الْعُيُونِ
…
شَرَايينُهَا سَاهِداتُ الضَّرَمْ
وَقَفْتُمْ بهَا وَقْفَةَ الدَّيْدَبَانِ
…
وَطفْتُمْ بهَا طَوْفَةَ الْمُسْتُلِمْ
عَلَى رَصَدٍ كَفَّنَتْ سِرَّهُ
…
بَدٌ سِرُّها في الجَمْاَدِ الأصَمّْ
يُسَمُّونَهُ المَالَ وَهْوَ الذَّي
…
يُمِيلُ الْحُظوظَ وَيُمْلِي النِّعَمْ!
أَمَا جَاَءكُمْ نَبَأٌ عَنْ أَسَى
…
جِراحَاتُ مِصْرِ بِهِ تَضْطَرِمْ؟
بَكَى الثَّغْرُ حَتَّى سَرَى دَمْعُهُ
…
مَعَ الرِّيحِ رُؤْيَا لَهِيبٍ وَدَمّْ
يُعَاتِبُكُمْ مَوْجُهُ في الضِّفَافِ
…
وَلِلْمَوجِ شِعْرٌ شَجِيُّ النَّغَمْ
إِذَا أَذَّنَ الْفَجْرُ في أُفْقِهِ
…
يُؤَذِّنُ عِزْرِيلُ فَوْقَ الأَكَمْ
فَتَهْوِي قُصُورٌ لها في السَّماَ
…
جَبينٌ عَلَى النَّجْمِ عَالٍ أَشَمّْ
وَتَهْوِي قُبُورٌ عَلَى أَرْضِهَا
…
تَكادُ مِنَ الْهَوْلِ تَبْكي الرِّممْ
أَلا مَنْ لِسَارِينُ تَحْتَ الدُّجى
…
يُسَقَّوْنَ مِنْ كُلِّ بُؤْسَى وَهَمّْ
تُهَاجِرُ أَيَّامُهُمْ وَالطّوَى
…
بأَحْشَائِهَا وَقْدَةٌ مِنْ ضَرَمْ
لَهُمْ سِيرَةٌ رَاحَ يَرْوِي الأسَى
…
أَسَاها بِدَمْعٍ كَسَيْبِ الدِّيَمْ
دِيَارُهُمْ أَقْسَمَتْ لَا تُرَى
…
فَبَرَّ الْخَرابُ لها بالْقَسَمْ
فَلمَّا تَهاوَتْ عَلَى أُسِّهَا
…
وَدَكْ الثّرَى صَرْحُها المُنْهَدِمْ
مَشَى المَوْتُ أَعْمَى ضَريرَ الْعَصَا
…
يُنَقّلُ في كُلِّ عُمْرٍ قَدَمْ
تَنُوحُ بِكَفَّيْهِ زَمَّارَةٌ
…
إِذا نَامَ زَمَّارُها لمْ تَنَمْ
نماَ غَبُهَا في خَرابِ الْبِلَى
…
وَطَافَ بِهِ الشُّؤْمُ يَسْقيِ الأَجَمْ
سقَا فَرْعَهُ مِنْ صُرُوفِ الزْمانِ
…
رَزَاياَ مُشَعْشَعَةً بالنِّقَمْ
بأَدْغَالِهِ لاذَ جِنُّ الْفَلا
…
وَبومُ الدُّجى بِذَرَاهُ اعْتَصَمْ
نماَ غابُها. . . لَيْتَهُ ما نماَ
…
وَلَا مِنْ حَشاهُ عَوَى أَيُّ فَمْ
إذا وَلْوَلَتْ في ظَلامِ الضِّفَافِ
…
أَصَابَ الْبِلى مِنْ صَداها صَمَمْ
فَلا صَرْخَةُ الطِّفْلِ تَلوِي خُطاهُ
…
وَلَوْ ذابَ فِيهَا حَشا كُلِّ أُمّْ!
مُفاجِئَةٌ لا تَعِي مَا الوُعُودُ
…
وَلا مَا الْعُهُودُ وَلا مَا الْحُرَمْ؟
إِذا صَفَرَتْ ذَابَ قَلْبُ الضِّيَاءِ
…
وَدَسَّ الدُّجى وَجْهَهُ الْمُدْلَهِمْ
تَخَيَّرَتِ اللَّيْلَ مَسْرَى نِدَاها
…
كَمَارِدَةٍ تَشْتَكي لِلسُّدُمْ
عُوَاءُ الذِّئَابِ لَدَى نَوْحِهَا
…
أَلَذُّ اسْتماعاً وَأَشْجَى نَغَمْ
تُنَادِي فَيَنْشَقُّ جُرْحُ الأَثِيرِ
…
عَلَى قَاذِفَاتِ اللَّظَى وَالْحُمَمْ
طَوَائِرُ لمْ يدْرِ سَاقيِ الْحَدِيدِ
…
أهَوْلاً سَقَى قَلْبَهَا أَمْ ضَرَمْ؟
وَهَلْ سَاقَها لِلْوَغَى سَائِقٌ
…
مِنَ الْجِنِّ أَمْ عَاصِفٌ مِنْ عَدَمْ
يُغِيرُ بها وَالْكَرَى نَائمٌ
…
وَلَيْلُ الْحِمى رَاهَبِيُّ الْحُلُمْ
وَلِلنِّيلِ إِغْفَاَءةٌ أَقْبَلَتْ
…
عَذارَى الْخَيَالِ بها تَسْتَحِمّْ
سَجَا وَاطْمَأَنَّ كَأَنِّي بِهِ
…
نَبِيٌّ يُبَارِكُ خَطْوَ النَّسَمْ
وفي وَجْهِهِ قِصَّةٌ لم يَزَلْ
…
مَعَ اللهِ قِرْطَاسُهَا وَالقْلَمْ!
أَغَارَتْ عَلَيْهِ رِيَاحُ المَنُونِ
…
فَضَجَّ لَها مَوْجُهُ المُرتَطِمْ
وَحَالَتْ مِنَ الرُّوْعِ شُطْآنُهُ
…
نِدَاءً يَصِيحُ بِمَوْتَى الْهِمَمْ:
مَشَى نَافِخُ الصُّورِ في أَرْضِكُمْ
…
فَكُونُوا الْبَشِيرَ لِبَعْثِ الأُممْ
دَعُوا الهوْلَ يأتِي كما يَشْتَهِي
…
فَإِنْا أَلِفْنَاهُ مُنْذُ الْقِدَمْ
يُديِرُ عَلَيْنَا خُطَا السَّافِيَاتِ
…
عَلَى جَبَلٍ سَرْمدَِيِّ الشَّمَمْ!
عَلَى خَمْرَةِ الصَّبْرِ مِلْنَا بِهِ
…
نَشَاوَى بِسِحْرِ الأسَى وَالأَلمْ
فَمَنْ رَامَ كَيْدَ الْحِمَى وَيْلَهُ
…
سَيُشْقِيهِ جَبَّارُهُ المنتَقِمْ!
وَيَسْقِيهِ من سُخْرِيَاتِ الْفَنَاءِ
…
عَتِيٌّ عَلَى الدَّهْرِ يُدْعَى الْهَرَمْ
أَبُو الْهَوْلِ فِينَا يَسُوقُ الزَّمانَ
…
وَيَرْعَى اللَّيَالِيَ رَعْيَ الْغَنَمْ
فَمَا الْهَوْلُ؟ ما خَطْبُهُ إِنْ دَجَا
…
سِوَى هَاجِسٍ بِخُطاَنَا أَلَمّْ
دَعُونَا نُحَيِّ الوَغَى وَاللَّظَى
…
وَإِنْ كَرْبُها في ثَرَانَا احْتَدَمْ
فما يَصْرَعُ الْمِحَنَ المُبْكِيَاتِ
…
إِلاّ الذي ذاقَها وابتَسَمْ!
دَعُونَا نُحَيِّ لَهِيبَ الْخُطُوبِ
…
وَإِنْ جَمْرُها في حَشانَا اضْطَرَمْ
سَئِمْنَا حَيَاةَ الزَّمَانِ المَرِيضِ
…
وَعَيْشَ الزَّمَانِ السَّقِيمِ اَلْهرِمْ
دَعُونَا نُقِمْ مَجْدَنَا في النُّجُومِ
…
فَمِنْ ضَوْئِها قد نَسَجْنَا الْعَلَمْ
سَتَعْصِفُ أَيَّامُنَا بالوُجودِ
…
وَتَهْزَأُ أَروَاحُنَا بالْعَدَمْ
وَنَبْنِي جَدِيداً لِتَارِيخِنا
…
كَفَانا فَخَاراً بِسِحْرِ الْكَلِمْ
تَمرَّدَتِ الأرْضُ تبْغِي الوُثوبَ
…
فَمَا بَالُنَا بالْكَرَى نَعتَصِمْ
أَلا فَلْنَقُمْ من عَمِيقِ الرُّقادِ
…
فلَا بَعْثَ لِلجِيل إِنْ لمْ نَقُمْ!
محمود حسن إسماعيل
العاطفة الحيرى
للأستاذ خليل شيبوب
في الصدر عاطفةٌ ولهى محيرةٌ
…
قد طالَ ما أتّقي منها وما أجِدُ
وددتُ لو ظهرتْ حتى يخفَّ بها
…
قلبي وحتى يُراحَ الروحُ والجسدُ
كأنها في فؤادي حينما خفيتْ
…
أُنشودةٌ لم يُذِعْ ألحانَها أحد
حامت على الوتر المشدودِ صامتة
…
فهل إلى نزعها منه تُمَدُّ يد
كأنها النجمُ يسري في الغيوبِ وما
…
يَدْرِي إلى أيِّ دنيا نورُه يَفِد
أو خمرةٌ ليس يُدْرَى بَعْدُ شاربُها
…
تظلُّ في ختمها تَغلي وتتَّقِد
أو درةٌ أخطأ الغوَّاص موقعها
…
تظلُّ في الصدفِ المختوم تنعقد
أو حبةٌ علقت في الأرض ناضجة
…
فالأرضُ حُبلى بما فيها وما تلد
يا نزغةً في فؤادي لست أفهمها
…
شَرٌّ من الجدِّ لهوٌ قاتلٌ وَدَدُ
أتى الزمانُ الذي ما زلتُ أرقبه
…
وفيه كلُّ أمانيِّ الهوى بِدَد
وعُطِّلَتْ بدواتٌ كان يبعثُهَا
…
وجهٌ به قسماتُ الحسن تَتَّحِد
ما عاد لي اليومَ من قصدٍ أُحَقِّقُهُ
…
وأيُّ قصدٍ أُدَاريهِ وأفتقد
تقطّعَ الوترُ المشدودُ حين خبا
…
نجمٌ سرى وأُريقَتْ خمرةٌ تقد
وأطفأ الصدفُ المختومُ دُرَّتَهُ
…
وحبَّةُ الأرضِ ماتت وهي ترتفد
قد بان أمسي وما يومي بمعتلق
…
به وليس ليومي في الزمانِ غَدُ
طغَتْ هواجسُ في صدري تُغَمْغِمُ لي
…
صِلاتِ عُمْريَ تُشقِيه وتضطَهد
كأن تحتي فضاءً لستُ أُبصره
…
لكِن أُحِسُّ به يدنو ويبتعد
حسب الشقاءِ بأني قد رضيتُ به
…
وأن لي ما وَهَى عزمٌ ولا جلدُ
خليل شيبوب
البريد الأدبي
من الأستاذ توحيد السلحدار
صديقي العزيز
شاء فضلك أن تنوّه بي في سياق وصفك الفني لمنتداك تحت الكافورة - التي خلّدت ذكرها بأدبك البارع، وإني متيمن، يا صاحب الرسالة، بحسن ظنك شاعر بأثر حبك وعطفك في رأيك.
وكم بودي لو يساعدني ما تعرف من حالي الصحية على القيام بما دعوتني إليه، ولو يكون لي حظ من الكفاية يسمح بالإقدام في ميدان أتهيب الدخول فيه بعد ثنائك الكريم. على أني قد أخاطر كلما خطر لي موضوع وأسعدتني الصحة.
هذا، ولك مني جزيل الشكر، وصادق الإخاء، وأحسن التحية.
(المنصورة)
محمد توحيد السلحدار
تعقيب لغوي
جاء في (شجون) للعلامة الدكتور زكي مبارك بالعدد 421 من الرسالة ما يأتي:
(أكبر هموم علمائنا اللغويين أن يعترضوا على نيابة حرف عن حرف، وأن يقول قائلهم: إن العرب تعرف كيت ولا تعرف زيت (كذا)، وأن يثوروا على أي تعبير لا يجدون له شواهد في أقوال القدماء. . . الخ)
ولست الآن من محاجّة الدكتور في أفكاره هذه بصدد، وإنما هما ملحوظتان لفظيتان أريد التنبيه عليهما في عباراته:
1 -
أن (ذَيْت) بالذال لا بالزاي. وقد انتظرت طويلاً لعل الدكتور يعود فيصححها، فلم يفعل. وقد يكون هذا من سبق القلم، كما قد يكون من زلات المطبعة.
2 -
أن (كَيْتَ) و (ذَيْتَ) لابد أن تُكرْرا. تقول: كان الأمر كيت وكيت، أو: كان من الأمر ذيت وذيت. وفي الحديث: (بئس ما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت).
فكان واجباً أن يقول الدكتور:. . . إن العرب تعرف كيت وكيت، ولا تعرف ذيت وذيت. .
والله الموفق.
(أ. ع)
1 -
صحة مَثل
في ثلاث مواطن من باب (البريد الأدبي) في هذه المجلة، (أنظر الرسالة، الأعداد: 417، 419، 420) كلمات ثلاث في المثل القائل: (النحو في الكلام كالملح في الطعام). ذهب كاتب الأولى إلى تضعيف هذا المثل كون وجه الصحة في إيراده: (الهزل في الكلام كالملح في الطعام) استناداً منه إلى ما جاء في كتاب مجالس السلطان الغوري. فجاء الكاتبان الثاني فالثالث يؤيدان صحة المثل بنصه الأول
وهأنذا الآن بين يدي نص صريح وقفتُ عليه، يثبت صحة المثل ويبين مغزى إطلاقه
جاء في القسم الثاني من الجزء الخامس من كتاب (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، المتوفي سنة 597هـ (ص 160 من الطبعة التي ظهرت أخيراً في حيدر آباد):
(حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: دخلتُ على أبي العيناء في آخر عمره، وقد كفّ بصره، فسمع صرير قلمي على الدفتر قال: مَن هذا؟ قلت: عبدك وابن عبدك محمد بن يحيى الصولي! قال: قال بل ولدي وأبن أخي! ما تكتب؟ فقلت: جعلني الله فداءك شيئاً من النحو والتصريف! فقال: النحو في الكلام كالملح في الطعام، فإذا أكثرت منه صارت القدر زعافاً يا بني! إذا أردت أن تكون صدراً في المجالس، فعليك بالفقه ومعاني القرآن. وإذا أردت أن تكون منادماً للخلفاء وذوي المروءة والأباء، فعليك بنُتَف الأشعار ومُلَح الأخبار) أهـ
فأنت راءٍ مما نقلنا أن هذا المثل لا يحتمل تأويلاً ولا يستوجب تبديلاً، بعد أن كفانا أبو العيناء (المتوفى سنة 282هـ) نصب البحث عن موقع استعماله
2 -
نظرة في مقال
أُطالع باغتباط ما يكتبه الأستاذ محمد عبد الغني حسن بعنوان (مدن الحضارات في القديم
والحديث)، فهو بحث جليل؛ وقد استوقفتني فيه نقاط (العدد 417 من الرسالة) أضنها تحتاج إلى مراجعة، وهي:
1 -
قال في الصفحة 844 في كلامه على بغداد: (والبحتري الشاعر الرقيق يصف لنا بركة المتوكل في شعر تصويري جميل. . . ويقول في ذلك:
تنساب فيها الماء معجلة
…
كالخيل خارجة من حبل مجريها)
والذي يُفهم من هذا الكلام ومما يتلوه، أن بركة المتوكل كانت في بغداد، في حين أن من المعروف عرفان اليقين أنها في سامراء. والذي يقرأ سيرة المتوكل يجد أنه قضى أغلب أيام خلافته في سامراء، وبها أقام قصوره التي فاقت سائر قصور الخلفاء، ولا داعي إلى تفصيل ذلك
2 -
وورد بعد ذلك بخمسة عشر سطراً قوله: (وكان نهر دجلة في ذلك الحين يكاد يغص بالحرامات الكثيرة والزوارق الجميلة. . الخ). والواضح أنها (. . . . يغص بالَحرَّاقات. . .) وهي ضرب من السفن النهرية، ولعل هذا من أغلاط الطبع
3 -
وفي آخر الصفحة نفسها، عَدَّ (جميل نخلة المدور) عراقياً مع أنه لبناني
(بغداد)
كوركيس عواد
الطنطاوي يتحرك. . . فهل يتحركون؟
قضت الظروف القواهر التي حلت بدمشق إلا أن تحطم الأقلام القليلة التي كانت تهتز بين حين وحين لمسح عبرة من مقلة، أو لتأسو جرحاً في قلب، أو لتبعث نشوة في نفس. وأخذت جلَّق تطوي الليالي السود وفي نفوس المثقفين من أبنائنا غصة، وتقضي الأيام العوابس والألم يصهر الغُيُر من شبانها على الأدب الذي أصبح ميتاً فيها خلال هذه الأحداث أو شبه ميت. ولسنا ممن يزعمون أن الأدب في دمشق كان قبل الحرب خيراً منه في خلالها، ولكن العاملين والعاملات كانوا يجدون حين يمتطى القلم أناملهم الخمس اللطاف! ميداناً ينتشرون به ما ينتجون. ولكن هذا الميدان بدأ نطاقه يضيق منذ اتقدت الشرارة الأولى لهذه الحرب الضروس - التي توشك أن تقضي على البشرية إن لم يطفئها
عقلاء قوم - ولم يكن هذا الضيق خاصاً بالأدب والأدباء وحدهما، وإنما كان عليهما أشد منه على غيرهما من مرافق الحياة. وما زال الضيق يشتد، والنطاق يتأزم، وحتى أمسينا منذ شهور وليس في الميدان من يخط حرفاً (لرثاء) الأدب بعد أن تلاشى وخمدت أنفاسه
وهكذا حطم الأباء والمتأدبون يراعهم، وحرمنا الأنس بصرير أقلامهم، وظريف أقوالهم. . . حُرمنا ذلك كله لتحل محله الوحشية بدوي القنابل، والذعر من عويل الطائرات ولم يعد ثمة مجال لغذاء العقل، وقوت الفكر، ونشوة الروح وها قد أخذنا نتنفس الصعداء بعد هذه الضُّغطة القاتلة وشرعنا نستعيد شيئا من هدوء النفس، وطمأنينة الفؤاد بعد الانقلاب الأخير. فهل نترك عقولنا إلى الأبد دون غذاء، وأفكارنا دون قوى، وأرواحنا دون خمر؟
تقول العامة إن الحركة بركة! وهذا الأستاذ الطنطاوي يتحرك ويسارع بنشاط إلى قلمه بعد أن سكت فأطال وأطال وهذه الأنباء تترى علينا من كل ناحية وصوب، والشائعات تملأ الجو الأدبي وكلها تبشر بخير كثير ونفع عميم. ولعل أعظم هذه الأنباء شأناً وأدعاها للغبطة والسرور هو نبأ إعادة مجلة المجتمع العلمي في وقت قريب إلى حيز الوجود وتأمين صدورهابأوقاتها المعينة؛ والذين يعرفون مبلغ أهمية هذه المجلة في دنيا الأدب سيغتبطون لهذا النبأ دون ريب. وهناك من يقول بان الدكتور العجلاني يسعى للحصول على ترخيص لإصدار مجلة أدبية راقية، وإن لم يكن قد حصل بالفعل. وهناك طائفة من الشبان العاملين في حقل الأدب تعد العدة لإصدار صحيفة في الموضوع نفسه. ونعتقد أن هذه الصحيفة ستكون أكثر توفيقاً من غيرها لأنها ستقوم على سواعد أناس لا يبغون من وراء عملهم سوى خدمة الأدب والثقافة. وهناك. . . وهناك. . . فهل يتحقق كل هذا فيك يا دمشق؟ وهل تصدق كل هذه الأماني والأحلام العذاب؟ وهل ترى أدبائنا كلهم يتسابقون إلى الميدان بإخلاص وعزم وثبات؟ هل ترى الأدب في دمشق مزدهراً يانعة ثماره؟ وهل ترى شيوخ الأدب وشبانه يعملون معاً متوادين متآلفين، مخلصين متفقين، ليس في الشيوخ واحد يستخف بشاب، ولا بين الشبان متحذلق واحد يشتم الشيوخ ويسكب الثناء على نفسه من وراء حجاب؟ هل ترى كل ذلك. . .؟ هل تراه؟
(دمشق)
عبد الغني العطري
الواو التي حيرت النحويين
لابد لهذا الجمود في العلم عندنا من آخر، ولا شئ يقرب نهاية هذا الجمود غير الطعنة الجريئة توجه للمتعارف بين أهله، والمجمع بينهم على صحته، لتثور بذلك ثائرتهم، وتتفتح به أذهانهم المقفلة
وطعنتي اليوم لتلك الواو التي حيرت النحويين في نحو إياك والشر وغيره من صيغ التحذير، فقد حمَّلوها ما لا تحمله من معنى العطف، وتكلفوا في حملها عليه وجوهاً تأباها جزالة اللغة، فقال بعضهم: إن الأصل في ذلك - اتق نفسك أن تدنو من الشرِّ والشرِّ أن يدنو منك - فحذف أن والفعل وجارُّه المقدَّر والجارُّ المتعلِّق به من كل من المعطوف والمعطوف عليه، فصار - اتق نفسك والشر - ثم حذف الفعل والمضاف وأنيب عنه الضمير فانفصل. وهناك تكلفات أخرى في ذلك أسهلها أن الأصل فيه - احذر تلاقي نَفسِكَ والشرِّ - فحذف الفعل ثم المضاف الأول وأنيب عنه الثاني، فصار - نفسكَ والشرَّ - ثم حذف لفظ نفس وأنيب عنه الضمير فانتصب وانفصل وصار - إياك والشرَّ
والحقيقة أن هذه الواو ليست من العطف في شئ، وأن التعليم التلقيني التقليدي هو الذي يجعلنا نصر إلى الآن على أنها للعطف، وأكبر دليل على أنها ليست للعطف أن صيغة التحذير قد تخلو منها فيكون معناها مع خلوها منها كمعناها مع وجودها فيها، كما قال الشاعر:
فإياك إياك المِراَء فإنه
…
إلى الشر دعَّاءٌ وللشر جالب
وليس هذا شأن حرف العطف، وإنما هو شأن الحرف الزائد، فهذه الواو عندي زائدة لا عاطفة
ويلي هذا عندي أن تكون أصلية عاطفة لا على معنى التشريك في الحكم، ولكن على معنى من الجارَّة، فيكون معنى - إياك والشر - إياك من الشر، ولا غرابة في أن تأتي الواو العاطفة بمعنى من الجارة، فقد وردت عاطفة بمعنى باء الجر في نحو قولهم - أنت أعلم ومالك - أي بمالك، وهذا هو رأيي في تلك الواو أعرضه على قراء الرسالة الغراء، ليوازنوا بين الرأيين، وكم ترك الأول للآخر.
عبد المتعال الصعيدي
النفط
يحتل السائل المستعمل في الاستصباح اليوم مكانة ملحوظة من جميع الشعوب، والقوم في مصر يشكون الآن قلته، ويتنافسون في سبيل الحصول عليه، وذلك لندرته واستنفاد الحرب القائمة لأكثرية الكمية الموجودة منه في العالم. ومن العجيب أن هذا الزيت قد أطلق عليه في مصر العربية جملة أسماء ليس من بينها أسم كانت تستعمله العرب؛ فالحكومة المصرية تسميه في بطاقاتها (الكيروسين) ولا أدري من أين جاءت هذه اللفظة، وكتاب السياسة يسمونه (البترول) ولم أر لها أصلاً في اللغة، والعامة تسميه (الجاز) أو (الغاز) وكل منهما لفظة مجهولة منكورة.
فلماذا لا نسمي هذا السائل باسمه العربي القديم، والذي يطلق عليه اليوم في العراق وفي الهيئات العربية الصميمية، ألا وهو النِّفط؟
جاء في المختار: (والنَّفط والنِّفط دهن، والكسر فيه أفصح)؛ وجاء في القاموس إنه: (ضرب من السرج يستصبح به)؛ وقال المصباح: (والنفاطة أيضاً منبت النفط ومعدنه). فلنقل (النفاطات) بدل (منابع البترول). ويقول بشار بن برد في حبيبته عبدة:
لعبدة دار، ما تكلمنا الدار
…
تلوح مغانيها كما لاح أستارُ
أسائل أحجاراً ونؤياً مهدماً
…
وكيف يجيب القول نؤي وأحجار؟
وما كلمتني دارها إذ سألتها
…
وفي كبدي (كالنفط) شبت له النار!
(البجلات)
أحمد الشرباصي
والد الملوك الأيوبيين أيضاً
أراد الأخ الأستاذ محمد عبد الغني حسن أن يناقش (في العدد 422 من الرسالة) فكرة جديدة بعيدة عما قصدت إليه بردى المنشور في الثقافة عدد 135؛ تلك الفكرة تتلخص - كما فهمت - فيما يلي: هل كان أمراء بني أيوب يلقبون بلفظ الملك أم لا؟ وأنا لا أعارضه في
هذا الرأي بل أزيده أن هذا التقليد بدأ في مصر فكان يحمل لقب الملك وزراء بني فاطمة الأقوياء عندما جمعوا السلطان في أيديهم، وساعدهم على ذلك ضعف الخلفاء (وأول من لقب بالملك منهم مضافاً إلى بقية الألقاب رضوان بن ولخشي عندما وزر للحافظ لدين الله. . . سنة ثلاثين وخمسمائة)(المقريزي الخطط، طبعة النيل 2 ص 305). وصار وزراء الفاطميين بعد هذه السنة يحملون ذلك اللقب، ومنهم أسد الدين شيركوه الذي لقبه الخليفة العاضد في خطاب توليته الوزارة بالملك المنصور؛ ومنهم أيضاً صلاح الدين الأيوبي الذي لقبه العاضد كذلك بالملك الناصر، فكان هذا اللقب يمناً عليه، ولزمه حتى وفاته
ولما ملك صلاح الدين وأصبح لآل أيوب الأمر والذكر لقب الكثيرون منهم بألفاظ الملك، وإن لم يحكموا مصر، بل لدي ما يجعلني أستزيد الأستاذ دعاء لي أن يسامحني الله. فقد قال صاحب شفاء القلوب في مناقب بني أيوب حزاب عند ترجمة نجم الدين أيوب:(أيوب بن شادي نجم الدين الملك الأفضل وقيل الأوحد أبو الملوك الأيوبية. . . الخ). فنجم الدين الذي عنيته في مقالي بالثقافة عن تاج الملوك بوري لقب بالملك الأفضل أو الأوحد، والذي حمله هذا اللقب هو الخليفة العاضد أيضاً (راجع المصدر السابق نفس الصفحة) إذ يقول عند كلامه عن لحاق نجم الدين بابنه صلاح الدين وحضوره إلى مصر:(وخرج إلى مصر بجماعته كلهم، ولما قدم خرج العاضد للقائه ولقبه وزينت البلد الخ) ولم أعثر فيما قرأت عن الأيوبيين على مؤرخ واحد لقبه بالملك الصالح إنما الذي تفرد بحمل هذا اللقب هو نجم الدين بن الملك الكامل محمد، لهذا كان لي عذري أن حسبت أن الأسماء تشابهت على الأستاذ عبد الغني، ورأيت أنه لزام على أن أكتب ما كتبت
لم يبق إذن إلا أن الأستاذ يريد أن يضفي - من عنده - هذا اللقب على أبي الملوك الأيوبيين لأنه محباً للصالحين كما يقول أبو المحاسن ج6 ص 67، وهذا فرض بعيد أولاً، ولا يسمح به التاريخ للأستاذ ثانياً، لأن هؤلاء الملوك وأسماؤهم وألقابهم وأعمالهم أصبحت في ذمة التاريخ، ولا يسمح التحقيق العلمي لأحدنا البتة أن يغّير في صغيرة أو كبيرة منها، فهل لا يزال الأستاذ بعد هذا التحقيق مصراً على تلقيب نجم الدين الكبير بالملك الصالح؟ لا - بل أنا أظنه - وقد ثبت لدى أنه يعلم أن الكبير غير الصغير، يوافقني على تلقيب الأول بالملك الأفضل أو الأوحد، ويترك لقب الملك الصالح لمن يتميز به وهو حفيد
العادل؛ ولعلي - بهذه الكلمة - أكون قد أرضيت الحق والتاريخ أولاً، والأستاذ عبد الغني حسن ثانياً
جمال الدين الشيال
المهرجان الأدبي الثالث
يحتفل السودانيين كعادتهم في كل عام بالمهرجان الأدبي الذي سيقام هذه السنة بنادي الخريجين بأم درمان في أيام عيد الفطر المبارك حيث يعرض ما تنتجه العقلية السودانية في ميادين الآداب والعلوم والفنون
والسودانيون الذين تربطهم بمصر روابط لا تنفصم عراها، والذين يستمدون ثقافتهم منها، كم يسرهم أن يلبي رجال الفكر وقادة الرأي وحملة الأقلام دعوتهم ليسعدوا برؤية من يستطيع زيارة السودان في ذلك الحين، وليتذوقوا ما تخطه تلك الأقلام القوية في مختلف الأبحاث
وليت أبناء الكنانه عاملون على تحقيق تلك الرغبة التي سيكون لها أثرها الخالد في تدعيم الصلات بين القطرين الشقيقين
الأمين التوم
سكرتير المهرجان