المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 426 - بتاريخ: 01 - 09 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٢٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 426

- بتاريخ: 01 - 09 - 1941

ص: -1

‌تحت ظلال الكافورة

من أحاديث القهوة

- 2 -

أصبحنا فإذا النيل الجليل يقبل نفّاحاً بالخير فيّاحاً بالنعيم، تتريّع شطئانه الخضر بالعسجد الذائب، وتتدفق مجاريه الفيح بالكوثر العذب، وتتنفس أمواجه الصهب بالتحيات والبركات على بنيه الخلّص الذين خلقوا من طينه الحر ومائه الطهور، وعاشوا على نائله الجم وخصبه الموفور؛ وكأنما تنفرج كل موجة على سؤال من هذه الأسئلة التي اعتاد أن يلقيها كل عام على أهله:

ماذا صنعتم يا بنيّ بالذهب الذي نثرته على أرضكم في العام الذاهب؟ هل قسمتموه بينكم على شريعة الله، وأنفقتموه فيكم على منفعة الوطن؟ أم هل بقيتم على طباع الوحوش الأوابد، تتفارسون بالغيلة أو بالحيلة حتى لا تدع المخالب والمجاريف، شيئاً للفقير أو الضعيف؟ ألا تزال الأمة مقسومة إلى باشوات و (دلاديل)، والسياسة قائمة على بهلوانات وتماثيل؟

ألا يزال أربعة الأخماس من أبنائي، يعيشون مجهودين على فضلات الخمس من أغنيائي، وخيري الفياض لم يدع في مصر كلباً جوعان ولا ضفدعاً عطشى؟

أي شيء صار مائي السماوي الفرات في دمائكم يا ساكني الوادي؟ أموتاً وقد أحييت الصحاري؟ أم ذلاً وقد أعززت الفراعين؟ أم جهلاً وقد خلقت الحضارة؟ إلى متى يا بني تقابلون برّي بالعقوق ووفائي بالغدر، وتقبلون من أوليائكم أن يدعوا مائي وثرائي يذهبان في عباب البحر كما تذهب النفحة الرخية في ثورة العاصفة وثراي مكروب وشعبي جائع؟

ولكن أسئلته الأبوية السنوية تذهب في الهواء كما يذهب فيضه في البحر، فلا أذن تعي، ولا لسان يجيب!!

أخذنا مجلسنا المعتاد من القهوة، وكان النادون المعتادون قد راعهم ما رأوا من جمال النيل وجلال الفيضان فسكنت ثرثرتهم بعض السكون، واتجهوا بمشاعرهم إلى النيل الطامي يقابلونه بالهشاشة ويبادلونه التحية. وملكتنا نحن أيضاً روعة المنظر، فذهلنا ذهول الشاعر المستغرق؛ وتراءت على مرهفي الحس منا سمات من جلوة الخاطر وطلاقة النفس؛ وكاد

ص: 1

الذهول ينقلب نشوة والحديث يتحول شعراً، لولا الذباب الذي يقع في الكأس فيكدر الصفو، أو المتسول الذي يسقط في الحديث فيقطع الأنس! والمتسولون في المنصورة كالذباب في رأس البر، لا يدعون للجالس مشغلة إلا بالاستعاذة والطرد. وكان الذي صرفنا عن المنظر الساحر والحديث العذب نوع من هؤلاء المتسولين طريف: رجل كفيف البصر، وثيق التركيب، مربوع القامة؛ على جسمه جلباب محكم التفصيل، وعلى رأسه عمامة حسنة التكوير، وفي يده هراوة صلبة العود؛ كان يقود نفسه على طوار الشارع وهو يقول بصوت جهير رزين ولهجة متزنة آمرة:(طالب من الله: أفطر، وأشرب القهوة، ونصف ريال، وواحد يلمه لي)!

لم يكد هذا الرجل يبدئ ويعيد، ويذهب ويجيء، حتى نهض إليه الجالسون بالقرش بعد القرش حتى أعلنهم أنه استوفي حقه. ثم أنصرف عنهم إلى غيرهم دون أن يجود عليهم بما تعود المتسولون أن يسرفوا فيه من مبتذل الدعاء والشكر!

قلت لصاحبي وقد بدا عليه ما بدا عليّ من العجب العاجب: هذا المتسول واحد من هؤلاء الأوزاع المتبطلين الذين يلحون على الناس بالضراعة والوضاعة، ويلح الناس عليهم بالنهر والقهر، فما السر الذي حمل القوم على أن يفردوه بهذه المعاملة؟

السر في رأيي هو القوة التي برزت في هيئته ولهجته.

والإنسان منذ كان يعجب بالقوة ويخضع للقوى بدافع من فطرته، لأن القوة دليل الحياة لصحيحة ووسيلة العيش العزيز، وهي معبودة منذ كانت في تهاويل الفلك وأفاعيل الطبيعة وتعاجيب الناس. ولولا سلطانها الفطري على القلوب لما عبد صنم ولا قدّس طاغية

ربما يتفق لك أن تجادل بعض الناس بالحسنى وتحاجّه بالمنطق، فيركب هواه ويصر على غيه؛ فإذ فاجأته بالصيحة الغضبة استكان وسلّم. وإنك لتجد كثيراً من خلق الله يصفقون لهجمات هتلر، ويصفرون لخطب رزفلت! وأولئك هم العامة وأشباههم ممن غلبت على نفوسهم عبودية القوة فآمنوا بالحيوان وكفروا بالإنسان، وانقادوا للعاطفة وغفلوا عن المنفعة!!

الديمقراطية كما تعلم وليدة المدنية العليا. وما كان المدني سليم النفس والفكر والإرادة أن يعود إلى عيش القطيع فيلقي مقادته إلى رجل مثله يجوز عليه ما يجوز على البهيم من

ص: 2

غلبة الشهوة وطغيان الأثرة. ولكن النفس البشرية على ما بلغته من المدنية والثقافة لا تزال في سرائرها بقايا من نوازع القوة تفسد بها وتصلح. فهي في السلم الطويلة والرخاء الوارف تنماع فلا يمسكها غير الشدة، وفي لحكم الصارم والسلطان الغشوم تذل فلا يعزها غير الهوادة. لذلك كانت الديمقراطية يا صديقي كاللحم: كلما اعتل الجسم واختل نظامه، كان أول ما يشير به الطبيب على المريض ترك اللحم. كذلك كلما انحل الشعب واسترخت قواه واضطرب أمره، كان أول ما يأمر به الزعيم نسخ الديمقراطية. ذلك ما كان في روسيا وإيطاليا وألمانيا وأسبانيا، ثم كان أخيراً في فرنسا وطن الجمهورية ومعبد الحرية ومعقل الدستور! كأنما خلق الإنسان آكل عشب فاللحم دخيل على طعامه، وكأنما فطر على الجبر والإكراه فالحرية غريبة على نظامه!

وافقني صديقي على جملة الرأي؛ ثم أخذ بطرف من الحديث وجذبه بعنف إلى حالنا التي لا تشبه حالاً من أحوال الأمم! وصديقي حديد اللسان جرئ الرأي فلا أستطيع أن أنقل إليك ما قال في خضوع القطيع لرجل أسمه الباشا، وفناء الجميع في فرد أسمه الزعيم

(المنصورة)

أحمد حسن زيات

ص: 3

‌2 - قصائد الشعراء

في تأبين سعد

للدكتور زكي مبارك

قصيدة العقاد:

لم يرسل العقاد قصيدته على النحو المألوف في قصائد الرثاء، وإنما قسمها إلى موضوعات ليصف أكثر الجوانب من شخصية سعد في الحياة والممات، فرأينا في القصيدة أربعة عشر موضوعاً تصورها العناوين الآتية:

(الأربعون - موقف التشييع - من منبر القبر - سعد والضعفاء - مراحل الخلود - سعد يملي على التاريخ - صورة على صفحة الزمن - يوم النفي - إلى مؤتمر السلام - مواكب العودة - سيشل وجبل طارق - الاعتداء الأثيم - المؤتمر الوطني - وداع)

وبهذا التقسيم استطاع الأستاذ عباس العقاد أن ينوع الصور في قصيدته، وأن يجعلها حافلة بطوائف مؤتلفة من الألوان وتظهر جودة هذه القصيدة لمن ينظر الصورة الأولى، إذ يقول الشاعر في انقضاء أربعين يوماً بعد وفاة سعد:

أمَضتْ بعد الرئيس الأربعون؟

عجباً! كيف إذن تمضي السنون؟

فترةُ (التيه) تغشّتْ أمة

غاب (موساها) على (طور سنين)

كلَّ يوم ينقضي نفقدُه

وهو ملء الصدر من كل حزين

تكبُر البلوى به حين مضتْ

والبلايا حينما تمضي تهون

كيف ينسى الناس من لم يَنسهم

يوم تُنسى النفس والذُّخر الثمين

لم يزالوا كلما قيل لهم

ذهب الموت به يلتفتون

ينظرون القبر لم يبعد بهم

عهدُ رب القبر في البيت الأمين

لا ولا طالت على أسماعهم

هدأةٌ من دعوات الهاتفين

يتدانى طيفُه في سِنة

يُفجع الحالم فيها كلّ حين

إيهِ يا سعد وما أنت سوى

بَشر يدركه ريب المنون

جئت للناس بِبشْرى خالق

فإذا متّ فلمْ لا يُفتَنُون

ص: 4

تلبس الخُلد وتنضوه فما

أجدرَ القومَ بعسف الحائرين

لِمَ يا دنيا - وقد أنشأتِهِ

بدعة - في خُلده لا تبدعين

عاش ممنوع قرين في العُلا

ليته في الخُلد ممنوع القرين

ذلك هو الموضوع الأول من موضوعات هذه القصيدة، والقارئ يشهد قوة الفطرة والطبع في مثل هذا البيت:

تكبُر البلوى به حين مضت

والبلايا حينما تمضي تهون

أما قوله:

أمضت بعد الرئيس الأربعون؟

عجباً! كيف إذن تمضي السنون

فهو من القوة بمكان، ومعناه أن الأربعين يوماً طالت حتى عصفت بالصبر الجميل، فكيف إذن تمضي السنون، وهي طوال طوال؟!

أطايب القصيدة

وفي هذه القصيدة كثير من الأطايب، كأن يقول الشاعر في عصامية سعد:

يا كبير النفس في ميعته

وفتىَّ البأس والعمرُ وهون

وعصامياً بَني الطَّود وكم

هُدمت أطواد أقوام بُنين

زاهداً في كل فانٍ وله

طمعٌ في المجد أعيا الطامعين

خلف السؤدد آفاقاً وما

جاوزِت دنيا ثراه أربعين

قبل ميلادك لم يشرف أب

من بني الريف ولم تنجب بطون

وفي هذا البيت إشارة صريحة إلى خصيصة من أظهر خصائص سعد، وهي نشأته الريفية. ويريد بها الشاعر أن يجعل سعداً عريقاً في العظمة القومية، وكأنه يعرض بمن كانت لهم أصول مدخولة في هذه البلاد، وبدون هذا الغرض لا يتسق الكلام، فللريف المصري فضل كبير في إنشاء المواهب، وما نشأ عظيم في مصر إلا وهو موصول الأواصر بذلك الريف، وإن كان من الدخلاء

ومن أعجب خصائص الريف أنه ينبوع المواهب، ويفتح أمام الأذهان آفاقاً لا تفتحها المدائن. ومن هنا يصلح أي ناشئ في الريف للنهوض بإعمال لم تؤهله لها ثقافته الشخصية

ص: 5

وتفسير ذلك أن الحياة بالريف توجه العقل إلى إدراك المطالب القومية، وتروض الذهن على تعرف المشكلات التي تعترض حياة الأهليين، وهي مشكلات ذات ألوان وأشكال، والتمرس بها يخلق القدرة على الإحاطة بما يثور في الصدور من آلام وآمال. فقول العقاد في سعد:

قبل ميلادك لم يشرف أب

من بني الريف ولم تنجب بطون

لم يرد به غير تأكيد القول في نباهة سعد، فهو يريد التنويه لا الاستقراء؛ وإلا فالشواهد كثيرة على من نبغوا من أبناء الريف قبل سعد زغلول

ومن أطايب هذه القصيدة قول سعد كما صوره العقاد:

صال بالجيش (كمال) ومضى

بذوي القمصان يسطو (مُوسلينْ)

وأنا الأمة والجيش معاً

وأنا السيف جميعاً واليمين

من بيان الصدق جرّدتُ لهم

عدة تصمى الكماة الفاتحين

أنا مصر وهي في سؤددها

أنا مصر وهي الأسر سجين

أنا ألقيت على عاتقها

حملها المطروح بين الآخرين

وهذا البيت جيد جداً، ومعناه أن سعداً راض الأمة على أن تحمل وحدها عبء الكرامة القومية، وهو عبء لا يحمله غير من وصل إلى شرف الفهم لقيمة التكاليف الثقال، ولا تضيع الأمم إلا حين تتوهم أن الحرية مغنم يساق، وليست مطلباً ينال بالدماء، وتشقى في سبيله عزائم الرجال

ومن روائع هذه المرثية قول العقاد في شخصية سعد:

يَعجبُ المرء أشخصٌ واحدٌ

أنت أم شتَّى شخوص وفئين

ناضر النفس وإن لاحت على

وجهك السمح سمات وغضون

وغضير القلب لا يألوك في

صَرعات النزع في نبض رزين

تأخذ اللب برأيٍ ثاقب

وفكاهاتٍ عِذابٍ وفنون

ضَحِكُ الأطفال في الطيب إلى

ضحك الأقدار في الجد الرزين

يوم ودعنك ودعت امرأً

يملأ الدنيا ويَقضِي ويَدين

وأحيّيك لألقاك غداً

حجراً يعلوه نوّار الغصون

ص: 6

وهذا شعر نفيس. . . وقول العقاد إن سعداً كان غضير القلب حتى في ساعات النزع ليس خيال شاعر، وإنما هو حقيقة؛ فقد شهد الأطباء بأن قلب سعد كان ينبض عند النزع بمثل القوة التي كان ينبض بها وهو في أوقات الصحة والعافية، وإلى هذه الظاهرة الغريبة أشار الشاعر محمود عماد إذ يقول:

وأنهدَّ قلبٌ طالما اعتدَّت به

مصرٌ ليوم كريهةٍ وعُرام

قلبٌ كقلب الكون يلبث نابضاً

والموت بادٍ في الحشا والهام

ولا يتسع المقام للإفاضة في محاسن قصيدة العقاد، وما أشرنا إليه يبين جوهرها الثمين

قصيدة الجارم بك

لم تلق هذه القصيدة في حفلة التأبين، وإنما نشرها المقطم في اليوم التالي وقال أنها (للأستاذ الشيخ علي الجارم المفتش بوزارة المعارف) وهي تبتدئ بهذه الأبيات الجياد:

لا الدمعُ غاض ولا فؤادك سالي

دخَل الحِمامُ عرينة الرئبالِ

وأصاب في الميدان فارس أمة

رفعَ (الكنانة) بعد طول نضال

رشقتْه أحداثُ الخطوب فأقصدتْ

حربُ الخطوب الدُّهم غير سِجال

للموت أسلحةٌ يطيحَ أمامَها

حول الجريء وحيلة المحتال

ما كان سعدٌ آية في جِيله

سعد المخّلد آية الأجيال

تَفنَى أحاديث الرجال ذكره

سيظل في الدنيا حديث رجال

سارٍ كمصباح السماء يحثه

كر الضحا وتعاقب الآصال

ومضى الجارم فتحدث عن الأيام التي عانتها مصر قبيل الدعوة إلى الاستقلال: فجعل السيف يلمع فوق كل رأس، وجعل الأرض ترجف والذعر يعصف بالقلوب، وأسرف فجعل الناس جميعاً في أهول من يوم الحساب:

وإذا بصوتٍ هز مصر زئيره

غضبُ الليوث حمايةٌ الأشبال

صوت كصور الحشر جّمع أمة

منحلة الأطرف والأوصال

فتطلعت عين وأصغت بعدها

أذن وهمت ألسنٌ بسؤال

مَن ذلك الشعشاع طال كأنهُ

صدر القناة وعاملُ العسال

ومَن الذي اخترق الصفوف كأنه

قدَرُ الإله يسير غير مبال

ص: 7

سعدٌ، وحَسبُك من ثلاثة أحرف

وما في البرية من نُهًى وكمال

ومِن السيوف إرادةٌ مصقولة

طُبِعتْ ليوم كريهة ونِزال

ومضى يغبّر لا العسير بخاذل

أملاً ولا نيل السها بمحال

فكأنه سيف المهيمن خالدٌ

وكأن دعوته أذان بِلال

ما راعه نفيٌ ولا لعبتْ به

في حُب مصر زعازع الأوجال

كالشعلة الحمراء لو نكَّستها

لأضفتَ إشعالاً إلى إشعال

والسيل إن أحكمت سد طريقه

دك الحصون فعدن كالأطلال

ومن أجود هذه القصيدة قول الجارم في صراحة سعد:

خصم شريف نال من خصمائه

ما نال من إجلال كل موال

عرفوه وضّاح السريرة طاهراً

شرُّ البلاء خصومةُ الأنذال

إن الشجاعة أن تناضل مُصحراً

لا أن تدب كفاتك الأصلال

قصيدة مطران

لم تلق في حفلة التأبين، وإنما نشرت في (الأهرام) بعد الحفلة بأيام، وأذكر أني قرأت على الدكتور طه حسين جملة منها في صبيحة اليوم الذي نشرت فيه، وكنا على موعد بداره في مصر الجديدة لنمضي معاً إلى الجامعة المصرية، فاتفق أن رأينا الأستاذ خليل مطران في الطريق، فكان من الطبيعي أن يحدثه الدكتور طه عن قصيدته، فقال الأستاذ مطران ما نصه بالحرف:

(لم أرد أن أقيم ملطمة عامة على سعد، كما صنع جماعة من الشعراء، وإنما أردت أن أحدد مكانه في التاريخ)

وكانت القصيدة كذلك، فقد تحدث مطران عن سعد كما يتحدث المؤرخ، وإن وشى حديثه بزخارف البيان

وقد رجعت إلى مكتبتي أستهديها تلك القصيدة فبخلت، فرجوت الدكتور رشيد كرم أن يتلطف فيحضر نسخة القصيدة من الأستاذ خليل مطران، فأحضرها بعد أيام طوال، ولكن أي قصيدة؟ هي قصيدة سنة 1936 لا قصيدة 1927، وهي القصيدة التي نظمها مطران عند انتقال رفات سعد إلى الضريح.

ص: 8

وذكرت الأستاذ مطران بما كنت أرجوه وقد لقيته في حفل خاص مع الدكتور علي باشا إبراهيم؛ فقال الجراح الأكبر: ألست تذكر أنها نشرت في الأهرام؟ قلت: نعم! فقال: أطلبها من أنطون بك الجميل. فقلت: ولكن ذلك يضيع فرصة الحديث عن هذه القصيدة في هذا الوقت، وسأقدم مقالي لمجلة (الرسالة) بعد يومين أثنين

ثم نظرت في القصيدة الثانية فرأيت فيها محاسن جديدة لا أذكر أني ظفرت بمثلها في القصيدة الأولى، فقدّرت أن الشاعر اختارها عن عمد، لتكون صوته المختار في تأبين سعد.

ومطران يقسّم قصائده الطوال إلى موضوعات وتلك عادته منذ زمن بعيد، وقد تحدّث في قصيدته عن الشؤون الآتية:

(مات سعد وروح سعد باقية - مأتم سعد في مصر والشرق - ترجمة سعد - سعد في الصحافة - سعد في المحاماة - سعد في القضاء - سعد وزيراً للمعارف - سعد نائباً عن الأمة في العهدين - صورة سعد - سعد في أحاديثه - سعد الأديب - سعد الخطيب - سعد الزعيم الأكبر ووصف أخلاقه - سعد في وجه أعداء الوطن سعد في صحابته - سعد في منفاه وبعد عودته فائزاً - سعد في رياسته للحكومة الدستورية - بيت الحياة وبيت الخلود - إلى أم المصريين)

وقد أحتفل الشاعر بهذه الموضوعات فتكلم عنها بتفصيل شائق خلاب، كأن يقول في سعد الخطيب

قضى الخطيب الذي كانت فصاحته

حالاً فحالاً هي الآلاء والنعم

حدِّث عن البلسم الشافي يمرّ به

على الجراح قد استشرت فتلتئم

حدِّث عن البلبل الغِرِّيد مختلفاً

بين الأفانين من تطريبه النغم

حدث عن الضيغم الساجي يثور به

تحرُّشٌ بحمى الأشبال لا القَرَم

حدث عن السيل يجري وهو مصطخبٌ

حدث عن النار تعلو وهي تحتدم

حدث عن البحر والأرواح عاصفةٌ

والسحب عازفة والفُلك ترتطم

وكأن يقول في وصف أحاديث سعد:

قضى الذي كان ناديه ومحَضره

قلادةً لكرام الناس تنتظم

ص: 9

إذا تكلم أصغت كل جارحةٍ

إليه لا الكدَّ يَثنيها ولا السأم

دُرٌّ يُسلسله فيما يفوه به

فالقلب مبتهجٌ والعقل مغتنم

كأن جلاسه مهما عَلَوْا رتباً

راجو صلاتٍ عليهم تنثر النعم

ويرى مطران أن شمائل سعد تعجز المؤبنين فيقول:

يا من يؤبن سعداً، مَن تؤبنه

هو الهدى والندى والبأس والشمم

هيهات توصف بالوصف الخليق بها

تلك الفضائل والآداب والشيم

ما القول في دوحة فينانة سقطت

ومن أماليدها الإحسان والكرم

كأنما غيضةٌ مجموعة نشبتْ

فيها المنايا تُثنِّيها وتخترم

لكنني أستعين الله معتذراً

عن القصور وبعض العجز لا يصم

ومع هذا الاعتذار الطريف فقد أبدع مطران في رثاء سعد كل الإبداع

أما بعد. فقد رأى القراء أن الشعراء الذي تحدثنا عنهم قد التقوا في كثير من المعاني، وكان من الممكن أن نعقد الموازنات فنعرف كيف سبق هذا أو تخلف ذاك، كأن نشرِّح ما قالوا في وصف خطابة سعد، وكأن ننظر كيف صوروه في المحاماة والقضاء

فمتى نوازن بين هذه القصائد الجياد؟

ومتى نبين المعاني التي أنفرد بها بعض أصحاب هذه القصائد؟

زكي مبارك

ص: 10

‌كيف يكتب التاريخ

للدكتور حسن عثمان

مدرس التاريخ الحديث بكلية لآداب

- 3 -

أول مسألة تواجه المبتدئ في دراسة التاريخ هي مسألة اختيار موضوع البحث، والمسألة تختلف بالنسبة للطالب الذي يبدأ دراسته الجامعية عنها بالنسبة للباحث الذي أنهى مرحلة التعليم المدرسي وبدأ يتطلع إلى الدراسة العلمية المنتجة. فالطالب المبتدئ في التعليم الجامعي لا ينتظر منه عادة أن يقوم ببحث أصلي، أو أن يكشف عن مجموعة وثائق لم تكن معروفة من قبل، أو أن يستخلص حقائق تاريخية مجهولة؛ وإنما المطلوب منه أن يتوفر على تحصيل وسائل الإعداد والتدريب الذي يؤهله للعمل العلمي في المستقبل. فالطالب أثناء الدراسة الجامعية يختار - بإرشاد المدرس - بعض الموضوعات المدروسة، لا لكي يبحثها من جديد وإنما للتمرين والتدريب والاقتباس؛ وهو في هذا يشبه دارس الكيمياء أو الطبيعة الذي يقوم بعمل التجارب التي ثبت صحتها نهائياً لكي يتدرب ويعرف ما عمله غيره من قبل. فطالب التاريخ يستطيع أن يختار موضوعات متنوعة في الفروع التي يدرسها. ويمكنه أن يبحث بعض الموضوعات العامة، كأن يختار مثلاً كتابة ملخص عام عن تاريخ نابليون في حيز محدود. ويعتمد على القليل من المراجع الأساسية عن الموضوع التي يأخذها من المدرس أو التي يستخرجها بنفسه من كتب المراجع. فيقتبس ويدون مذكرات من هذه المراجع. وينبغي أن يلاحظ وضع أرقام الصفحات لكي يمكنه الرجوع إلى بعض النقط عند الضرورة؛ ثم يقارن ويمزج بين المعلومات التي جمعها، ثم يعرض بإيجاز نشأة نابليون وتعليمه وشخصيته وتدرجه في المناصب، وحروبه في الشرق وفي أوربا، وحكومته وإدارته، وظروف أوربا في عهده، ووقوف إنجلترا في سبيله، ثم سقوطه وحياته في المنفى. ويعطي الطالب ملخصاً وافياً لكل هذه النواحي. وهو في هذه الحالة سيتجاوز عن الكثير من التفصيلات والحركات المحلية. وسيكتفي بالمسائل المهمة البارزة فقط، سواء أكانت حوادث الحروب أم مشاكل السياسة الداخلية أو الخارجية. وبعد

ص: 11

ذلك يختار الطالب جزءاً من الموضوع العام الذي ألم به مثل موضوع حملة نابليون على روسيا في سنة 1812، فيبحث الظروف التي أدت إلى تلك الحملة، ويتبع سيرها والحركات الحربية التي وقعت، ووصول نابليون إلى موسكو، ثم ارتداده وفشله، وما يترتب على ذلك من الآثار في فرنسا وفي أوربا. وهو في هذا سيبحث موضوعاً أكثر تحديداً من الموضوع السابق، وإلمامه بتاريخ نابليون العام سيساعده على فهم الحملة الروسية. ثم يتدرج إلى بحث نقطة تاريخية محددة بالذات مثل معركة واترلو، فيدرس في بعض المراجع العامة الظروف التي أدت إلى هذه المعركة ويوازن بين القوى الحربية لكل من فرنسا وإنجلترا وبروسيا، ثم يدرس خطط المعركة، ويتبع العمليات الحربية، ويوضح كيف هزم نابليون؛ ثم يشرح النتائج التي ترتبت على ذلك. ويمكن للطالب أن يطبق هذه الطريقة في نواح مختلفة من التاريخ. وهذا التدريج نافع جداً لأنه سيجعله يدرك فائدة الإلمام بتاريخ العصر أو الموضوع العام؛ وأثر ذلك واضح في فهم النواحي الخاصة، وفي التغلغل في بحث الموضوعات الجزئية. وسيعلمه هذا التدرج ضرورة الاهتمام بالجزيئات المعينة مع عدم إغفال الروح العام والنظرة العامة عن العصر الذي يبحث فيه. فلا بد من العناية بهاتين الناحيتين معاً على اتساق وتوافق. ثم يدرس الطالب بعض الوثائق الأصلية المطبوعة لبحث موضوع معين؛ كما يدرس بإرشاد الأستاذ طائفة مختارة من الوثائق المخطوطة، ويستخرج منها بعض الحقائق اللازمة لبحث نقطة معينة. وهذا كله كتدريب وإعداد للمستقبل. وما ينطبق على الطالب في الجامعة ينطبق على أي شخص لم تتح له فرصة التعليم الجامعي في بلد كمصر ويشعر في نفسه بالميل إلى دراسة التاريخ وبحثه

وعندما يتم الطالب مرحلة التعليم العالي ويحصل على درجة جامعية، ويرغب في متابعة البحث التاريخي، فإن اختيار موضوع البحث يبدو بشكل مخالف. فهو في هذه الحالة لا يستطيع أن يبحث أي موضوع كان؛ لأن المطلوب أن يقوم ببحث ويكشف عن حقائق تاريخية جديدة؛ فلا يكون البحث بناء على الرغبة فقط، وإنما يكون بناء على ما يجب أن يبحث، أو ما الذي يمكن أن يبحث. والباحث المبتدئ قد يثير اهتمامه أثناء دراسته بعض المسائل في تاريخ اليونان القديم أو في تاريخ العصور الوسطى أو في تاريخ الروسيا مثلاً. فللمضي في بحث إحدى هذه النواحي ينبغي أولاً أن يعرف العلوم المساعدة الرئيسية

ص: 12

المرتبطة بالفرع الذي يرغب دراسته. وإذا لم يكن يعرفها فينبغي أن يقرر بصراحة من أول الأمر: هل هو مستعد لأن يتعلمها أم لا؟ هل هو مستعد لأن يتعلم اللغة اليونانية القديمة أو لاتينية العصور الوسطى أو اللغة الروسية مثلاً؟ وهل هو مستعد لأن يتقن ما يتصل بهذه اللغات من العلوم المساعدة الضرورية مثل علم النقوش، وعلم قراءة الخطوط. . . فإذا لم يكن مستعداً لذلك فينبغي عليه أن يعدل عن المضي في بحث إحدى هذه النواحي التي تعوزه فيها الوسائل الضرورية، ويمكنه أن ينتقل إلى مجال بحث آخر يعرف أصوله وقواعده

والمبتدئ في البحث التاريخي طبقاً للطرق العلمية الحديثة، ينبغي أن يراعي بعض الأمور. فيجب أن يختار ناحية أو نقطة محددة لكي يستطيع أن يتفرغ لدراستها وإخراج جديد عنها؛ وتكون هذه النقطة جزءاً من موضوع عام لكي يتسع المجال أمام الباحث لمتابعة دراساته في المستقبل. فمثلاً لا يصح للباحث أن يتخذ تاريخ الدولة الأيوبية بأكمله موضوعاً للبحث، لأنه موضوع طويل. فالأيوبيون قد حكموا مصر من سنة 1169 إلى 1250م. ودراسة هذه الفترة دراسة عميقة مع كشف حقائق عميقة مع كشف حقائق جديدة عنها لا يمكن تحقيقها في سنوات قلائل. وإذا أصر الباحث على القيام بهذه الدراسة، فإنه لن يأتي بأكثر من تلخيص ما هو موجود في المراجع المعروفة أما إذا خصص وقته وجهده في نفس هذه سنوات القلائل لبحث ناحية معينة بالذات، مثل تاريخ صلاح الدين أو تاريخ الملك العادل أو تاريخ التجارة في عهد الدولة الأيوبية، فإنه يستطيع أن يسبر غور الأرض المجهولة ويكشف عن حقائق تاريخية جديدة. وبديهي أن الوقت والجهد اللذين يخصصان لفترة قصيرة يأتيان بنتائج علمية أعمق مما لو خصص لفترة طويلة. ووضع المؤلف علمي دقيق عن عصر الدولة الأيوبية بأكمله لا يمكن أن يتم إلا بعد دراسة جزيئات هذا العصر وبعد كشف كل الحقائق التي يمكن الوصول إليها. وما يقال عن عصر الدولة الأيوبية ينطبق تماماً على أي عصر آخر. وكذلك ينبغي أن يلاحظ الباحث عند التفكير في اختيار موضوع البحث ميله واستعداده، سواء للناحية الحربية أو السياسية أو الاقتصادية أو الدينية أو الفنية. ولا داعي لأن يقسر الباحث نفسه على ولوج ميدان لا يميل إليه؛ وعلى العكس فإن طرق الميدان الذي يميل إليه يجعله أقدر على العمل وأقوى على كشف الحقائق. والمرحلة

ص: 13

الأخيرة التي ينبغي أن يمر خلالها الباحث قبل أن يختار نهائياً موضوع البحث من الناحية العلمية تتلخص فيما يلي:

هل الموضوع الذي فكر فيه يحتاج أي أن يبحث؟ ألم يكن قد بحث من قبل مطلقاً؟ أو هل بحث بطريقة غير كافية وهل المادة الأصلية الموجودة عنه لم تدرس ولم تنقد كما ينبغي؟ أو هل قد وجدت أو يمكن أن توجد مادة أصلية جديدة تبرر إعادة بحث الموضوع من جديد؟ فإذا توفرت بعض هذه الشروط فمعنى ذلك أن الموضوع يحتاج إلى الدرس والبحث. ولكن كيف يمكن للباحث أن يثبت توفر بعض هذه الشروط؟ الطريقة العاجلة هي أن يبادر باستشارة أحد الأخصائيين في ميدان البحث التاريخي المعين، سواء في البلد الذي يعيش فيه أو في أي بلد آخر بواسطة المراسلات. وإذا تعذر الوصول إلى ذلك الأخصائي فعلى الباحث أن يجيب على هذه الأسئلة بنفسه. فلكي يعرف الباحث المراجع العامة والخاصة التي ظهرت عن العصر المعين، وهل اعتمدت على كل الأصول المعروفة فإنه يلزمه الاسترشاد بفن الببليوغرافيا. والتأكد من أن الأصول التاريخية الموجودة قد نقدت واستخدمت بطريقة علمية صحيحة يدخل في باب نقد الأصول والمصادر؛ ومسألة وجود مادة أصلية جديدة عن الموضوع تعرف عن طريق البحث والعمل في دور الأرشيف مثلاً. وسوف نعرف أشياء عامة عن هذه النواحي في هذه المقالات. وإذا لم تتوفر بعض هذه الشرط السالفة فلا معنى مطلقاً للاستمرار في البحث بدون جدوى عن ذلك الموضوع. ولابد إذاً من العدول عنه إلى موضوع آخر يمكن الإتيان في بحثه بجديد

وما هي الأعمال العلمية والأبحاث التي ينبغي أن تعمل في مصر؟ نحن فقراء ومتأخرين جداً في ميدان البحث التاريخي بالمعنى العلمي الحديث. والغرب قد سبقن بمراحل هائلة جداً في كل أدواره مثل طبع الفهارس ووضع الببليوغرافيات المتعددة الأنواع، وجمع الأصول، ونشر بعضها في مجموعات ضخمة، ووضع المؤلفات التي لا حصر لها عن مختلف أنواع التاريخ في جميع عصوره عن تاريخ العالم كله، وعن تاريخ كل من الدول والشعوب على حدة، سواء في ذلك المراجع التي تتناول التاريخ العام، أو المراجع التي تبحث عصوراً معينة ونواحي خاصة في تاريخ كل من هذه الدول والشعوب. فأين نحن من كل هذا؟؟ صحيح أن بعض الباحثين من المصريين قد وضعوا أبحاثاً عن بعض مسائل

ص: 14

التاريخ المصري وغير المصري نتيجة جهود فردية ولكنها قليلة جداً؛ ونحن عالة على علماء الغرب الذين درسوا نواحي متعددة من التاريخ المصري في عصوره المختلفة. ولكن هذه الدراسات المتعلقة بمصر سواء من جانب المصريين أو الأجانب لا تكفي مطلقاً. وقبل أن نفكر في اختيار موضوعات للبحث في تاريخ مصر ينبغي أن نقوم بأعمال تمهيدية واسعة النطاق وأساسية جداً، لكي يسير العمل سيراً منتظماً وفعالاً. وأول هذه الأعمال التمهيدية القيام بطبع كتالوجات وفهارس لدور الكتب ودور الأرشيف في مصر بالطرق العلمية الحديثة - أي بتبويبها وتقسيمها ووضع الفهارس لها - مما هو غير متوفر تماماً في الموجود منها حالياً، فضلاً عن غير الموجود أصلاً. ثم وضع الفهارس وقوائم للكتب والمخطوطات التي تناولت تاريخ مصر في العصور المختلفة؛ ثم جمع المخطوطات التاريخية ونشر بعضها نشراً علمياً حديثاً. وصحيح أن بعض الأفراد وبعض الهيئات مثل: المطبعة الأميرية، ودار الكتب المصرية، ولجنة التأليف والترجمة والنشر، تقوم بنشر بعض الأصول التاريخية. ولكن لم تنشر أغلبها النشر العلمي الواجب لخلوها من الفهارس مثلاً. ولقد عني المغفور له الملك فؤاد الأول بجمع الكثير من الوثائق المتعلقة بتاريخ مصر في القرن التاسع عشر من محفوظات مصر ومن بعض دور الأرشيف في أوربا وأمريكا، وقد حفظت في أرشيف عابدين؛ كما عنى بنشر بعض مجموعات من هذه الوثائق مثل مجموعة دوان وسامّاركو ومجموعة القرمانات السلطانية وكذلك أشرف جلالته على وضع مؤلفين عن تاريخ مصر العام باللغة الفرنسية، وأشترك في كتابتهما طائفة من العلماء الأجانب؛ ولكن هذا لا يعني أن العمل قد انتهى، فهناك عشرات الألوف من الوثائق لا تزال مجهولة عن نواحي هامة في تاريخ مصر منذ العهد العثماني حتى أوائل عهد محمد علي الكبير في دار المحفوظات المصرية بالقلعة، ويقابلها آلاف الوثائق عن هذا العهد محفوظة في دور الأرشيف الأوربية، وأغلبيتها الساحقة لم تمسها يد إنسان بعد. فلابد من حصر وجمع وتبويب هذه الوثائق في مصر وفي الخارج؛ ولابد من نشر بعض أجزاء منها نشراً علمياً.

وما عمله الغرب بخصوص نشر مجموعات ضخمة من الوثائق التاريخية، وما عمله ذلك الرجل المقيم في ظلال الأرز والجدير بالإعجاب والتقدير، من نشر بعض مجموعات من

ص: 15

الوثائق عن تاريخ سوريا كفيل بأن يجعلنا نجدّ ونسعى لنشر وثائقنا وأصولنا التاريخية.

وبعد إتمام بعض هذه الأعمال التمهيدية يمكن أن يتقدم وأن ينشط البحث التاريخي في مصر بدرجة مرضية. والمؤلفات التي تكتب قبل أن تتم بالنسبة إليها هذه المراحل التمهيدية، مع أنها جديرة بالتقدير، لا يمكن أن تعتبر آخر كلمة في الموضوع الذي تتناوله. وأرى أنه ينبغي على الباحثين أن يتبعوا أبحاثهم بنشر المهم من الوثائق التي اعتمدوا عليها في مجلد أو في مجلدات خاصة، لأن هذا العمل لا يقل - إن لم يزد - في قيمته العلمية عن البحث التاريخي نفسه. وبعد ذلك تواجهنا ثغرات هائلة في مراحل التاريخ المصري ينبغي أن تدرس وتبحث على مدى الزمن مثل تاريخ المدن المصرية وتاريخ الأزهر والمساجد، وتاريخ الكنائس والأديرة، وتاريخ التجارة في مصر، وتاريخ مصر المالي والإداري في العهد العثماني، وتاريخ علي بك الكبير، وتاريخ الحركة العرابية. . .

وهذه الأعمال الخطيرة لا يمكن أن تؤديها الجهود الفردية، ولا يمكن أن يقوم بها جيل واحد من الباحثين. وللسير في سبيل تحقيقها بالتدريج من الضروري جداً إنشاء معهد أو جمعية للدراسات التاريخية، كما هو الحال في الغرب، وتزود بالمال اللازم، وتضم شتات المشتغلين بالبحث التاريخي في مصر، وتنضم أعمالهم وتوحد جهودهم للإنتاج العلمي الصحيح. ومن اللازم أيضا أن نبدأ بإصدار مجلة للعلوم التاريخية، فإنه توجد في الغرب مجلات عديدة في التاريخ العام ومجلات خاصة لفروع التاريخ المختلفة. ولابد من جهد متواصل وتضافر وإخلاص في العمل، وبعد عن الزخارف وأبهت المناصب؛ ونحن أشد الحاجة إلى إيجاد بيئة علمية صحيحة تعمل للعلم وحده، وتضع تقاليد وطيدة، وتقوم ببعض الواجب نحو العلم والتاريخ.

(يتلى)

حسن عثمان

ص: 16

‌2 - كليلة ودمنة

نقد وتعليق

للأستاذ عبدا لسلام محمد هارون

7 -

4: 179: (فأسعفني بطِلبتي) بكسر الطاء وهي صحيحة. لكن العرب يختارون في مثل هذا (الطّلِبة) بفتح الطاء وكسر اللام. ومنه حديث نقادة الأسدي: (قلت: يا رسول الله، أطلب إليّ طلبة، فأني أحب أن أطلبكها)

8 -

4: 261: (إن الملوك وغيرهم جدر أن يأتوا الخير إلى أهله). وقد أفسد هذه العبارة أمران: أما الواحد، فأن (جدر) جمع (جِدار) بالكسر، وهو الحائط؛ والصواب:(جدراء)، أو (جديرون)، وهما الجمعان اللذان يجمع عليهما (جدير)؛ وجمع (فعيل) صفة على (فعل) بضمتين نادر سمع منه: نذير ونذر وجديد وجدد (بدالين)، وسديس وسدس

وأما الثاني، فأن (أتى) إذا تعدّى إلى المفعول لا يكون بمعنى الإعطاء، بل يكون بمعاني أخر منها الفعل: أتى الأمر والذنب: فعله؛ ومنها الهدم والقلع، قال الله تعالى:(فأتى الله بُنيانهم من القواعد) ومنها الانتساب، أتى الرجل القوم: أنتسب اليم وليس منهم، فهو أتىُّ

وأما الذي هو بمعنى الإعطاء فهو الفعل (آتى) على زنة أفعل. ومنه قول الله تعالى: (آتنا غداءنا)؛ وقوله: (وآتيناه الحكم صبيّا)؛ ومضارعه (يؤتى) على يفعل.

وفي كتاب الله تعالى: (يُؤتى. يؤتون. يؤتين. يؤتيه. سيؤتينا. يؤتكم. يؤتيهم. تؤتونهن. وتؤتوها. نؤتيه. نؤته. نؤتها. يؤتهم. سنؤتيهم)؛ وإنما سقت هذه الشواهد لأنبه على أن ما ورد في اللسان من قوله: (والإيتاء: الإعطاء. آتى يؤاتى إيتاءً، وآتاه إيتاءً أي أعطاه) وهم أو تصحيف؛ والصواب: آتى يؤتى

فوجه عبارة أبن المقفع إذن: (جدراء أن يؤتوا الخير إلى أهله).

ولعل السر في هذا التحريف أن طائفة من علماء الرسم الأقدمين كانوا يرسمون الهمزة ألفاً في كل حالة، وزعيمهم في ذلك سنة 207 وجمهور علماء الرسم يسمون أولئك (أصحاب التحقيق)، أي تحقيق الهمزة؛ وأما الكتابة الغالبة التي نأخذ نحن بها الآن، فيسمى أصحابها:(أصحاب مذهب التخفيف والتسهيل)، وهم يجرون على لغة أهل الحجاز في تخفيف الهمزة وتسهيلها، ويعبرون عنها بصور تسهيلها: من الألف والواو والياء. فلعل هذه بقية من بقايا

ص: 17

رسم التحقيق

2 -

في الضبط النحوي

1 -

ص14س7: (ولكل علّة مجرى)، صوابه:(مجرى) بالتنوين، وهو تحريف طبع

2 -

11: 18: (فيعلم سرّ نفسه وما يضمر عليه قلبه) بنصب (قلبه) وجعلها مفعولاً ليضمر، وأضمر يضمر بمعنى أخفى يخفي، فما يكون المعنى في أن يخفي قلبه عليه؟ الصواب:(قلبه) بالرفع على الفاعلية؛ لأن القلب هو الذي يضمر الأسرار والنوايا

3 -

14: 41: (وشبّهت الجرذين بالليل والنهار، وقرضهما دأبهما في إنفاد الآجال) يصح أن تقرأ: (وقرضهما دأبهما) باستمرار التشبيه، و (شبّه) من الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين. وفي اللسان:(شبّهه إياه وبه). ومنه قول الشمردل:

يُشَّبهُون مُلوكاً في تجِلَّتهم

وطول أنْضية الأعناق والأُمم

وقول عبد بني الحسحاس:

فشّبهنني كلباً ولست بفوقه

ولا دونه إن كان غير قليل

وقد سبق استعمال ابن المقفع لهذه اللغة في 35س4: (وشبهتهما الجُنَّةَ الحريزةّ) وعلى ذلك يسوغ أيضاً أن تضبط كلمة (العسل) في السطر بعدها بالنصب

4 -

68: 14 - 16: (قال دمنة: حدثني الأمين الصادق عندي أن شنزبة خلا برؤوس جندك فقال لهم: قد عجمت الأسد، وبلوت رأيه ومكيدته وقوته، فاستبان لي في كل ذلك ضعف، وإنه - بسكر الهمزة - كائن لي وله شأن. وأنه - بفتح الهمزة - لما بلغني هذا عرفت. . . الخ)، يصح أيضاً:(وأنه كائن) بفتح أن، عطف على فاعل (استبان). ويتعين:(وإنه لما بلغني) بكسر الهمزة، عطف على مقول دمنة، أي وقال دمنة: إنه لما بلغني. . . الخ

5 -

96: 3 (وكذلك الجهال لم يزالوا يستثقلون عقلاءهم واللوماء كرامهم). صوابه: (واللؤماء) بالرفع. وهذا تحريف طبع

128 -

: 4 (فأعادت ذلك عليه مراراً - كل ذلك لا يلتفت إلى قولها). ولا وجه للفرع هنا. والوجه (كل ذلك) بالنصب على الظرفية الزمانية. ولا يصح أن تكون: (كل) مبتدأ، وذلك لأن الضمير العائد عليها محذوف تقديره (فيه).

ص: 18

والبصريون يمنعون حذف الضمير العائد على لفظ (كل) إذا كان مبتدأ، ولذلك حكموا بشذوذ قراءة أبن عامر في سورة الحديد (وكل وعد الله الحسنى)، وقراءة باقي السبعة:(وكلاً) بالنصب. وأبن عامر قرأ نظير هذه الآية من سورة النساء 95 (وكلاً وعد الله الحسنى) بالنصب كالجماعة

7 -

160: 2 (إلى مكان كذا وكذا). تكرار (كذا) مع العطف أحد استعمالين صحيحين. والوجه الآخر الإفراد، أي (مكان كذا)؛ وبهذا وردت في ص83 من طبعة بولاق

قال أبن هشام في رسالته التي صنفها في معنى هذه الكلمة:

كذا وكذا يكنى بها عن غير العدد. وفيها حينئذ الإفراد والعطف، نحو مررت بمكان كذا، ومررت بمكان كذا وكذا. ويكنى بها عن العدد وليس فيها إلى العطف. . . وقال أبن مالك: سمع فيها العطف وعدمه كالأولى، ولكنه قليل

وفي شرح الأشموني: (تأنى كذا هذه - أعني المركبة - كناية عن غير العدد وهو الحديث مفردة ومعطوفة)

ففهم من هذين النصين أن الإفراد في المكنى بها عن غير العدد مقدم على العطف. ولكن الرضى قدم العطف على الإفراد في الحالين

قال: (وورود كذا كذا مكرراً مع واو نحو كذا وكذا أكثر من إفراده ومن تكرره بلا واو، ويكنى بها عن العدد نحو عندي كذا درهماً، وعن الحديث نحو قال فلان كذا)

وقد التزم أبن المقفع لغة العطف، فقد جاء في 168 س14 (إن اليوم بمكان كذا وكذا) وفي 224 س8:(في يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا)، وفي 258 س13 (فقال كذا وكذا)

8 -

179: 2 (ولم أذكر ما ذكرت إلا أكون أعرف منك الكرم والسعة). والوجه: (إلا لكوني أعرف منك) الخ

9 -

199، 3:(لم تدر أيهما تأخذ) برفع (أيهما) والصواب (أيهما) بالنصب، فإنها مفعول مقدم لتأخذ، وليس من باب الاشتغال و (أي) هنا استفهامية، ولذا علقت الفعل القبلي قبلها عن العمل فيها. ولا يجوز أن تكون (أي) هنا موصولة بنيت على الضم، ولو فرضنا أنها موصولة فإنها لا تبنى عليه إلا في حالة واحدة، وهي إذا ما أضيفت وحذف صدر الصلة.

وليس في الكلام صدر صلة محذوف؛ فإنها جملة فعلية

ص: 19

قال الرضي: (صلتها أما اسمية أو فعلية. والفعلية لا يحذف منها شيء، فلا تبنى أي معها. والاسمية قد يحذف صدرها). فلا بناء مع الصلة الفعلية

10 -

268، 9:(من غذوة إلى الليل)، وبمنع (غدوة) من الصرف. وهذا ضبط جيد، فإن (غدوة) هنا معرفة من قبيل أعلام الأجناس، بدليل قرنها بالليل وهو معرفة. وغدوة حين تعدها معرفة تمنعها الصرف فتجرها بالفتحة

وزعم الخليل أنه يجوز أن تقول: آتيك اليوم غدوة وبكرة؟ فهذا دليل على جواز الصرف مع إرادة المعرفة

3 -

في تحقيق النص

1 -

26، 10:(مثل الحراث الذي يثير أرضه ويعمرها ابتغاء الزرع لا العشب) فما وجه العمارة في طلب الزرع؟!

الصواب (يغمرها) بالغين المعجمة، أي بالماء

2 -

38، 3 في الحديث عن الجنين:(منوط قمع سرته إلى مريء بأمعائها). وهو كلام متهالك مضطرب. فما العلاقة بين سرة الجنين وأمعاء الأم؟! وإنما الجنين موطنه الرحم، لا يعدوه ولا يتصل بغيره من الأعضاء. والصواب:(منوط بمعنى (من) سرته) كما ورد في نسخة بولاق ص28. والمعي، بالفتح، وكإلى: واحد الأمعاء. والمراد به هنا ما يسمى: (الحبل السري):

أما كلمة (مريء) فعجيبة أيضاً، فإن المريء بفتح الميم وكسر الراء: هو رأس المعدة اللاحق بالحلقوم، وهو مجرى الطعام والشراب إلى المعدة؛ لا يكون إلا ذلك، فكيف يكون المريء بالأمعاء؟! ووجه سائر العبارة عندي:(إلى مراق رحمها). وأصل المراق للبطن، وهي مارق منه ولان

3 -

40: 6: (والرضا مجهوداً مفقوداً) هي (مجهولاً) باللام. جاء في نسخة بولاق: (وكان الرضي أصبح مجهولاً) وفي نسخة شيخو 42: (وأصبح الرضي مفقوداً مجهولاً). وعند أبن الهبارية:

من بعد ما عاد الحجا مجهولاً

والشر قد سامى السماء طولاً

والحجا بالكسر: العقل والفطنة

ص: 20

4 -

44: 7: (كالكحل الذي لا يؤخذ منه إلا مثل الغبار). صوابه: (إلا مثل غبار الميل). وقد جاء في نسخة بولاق ص30 (إلا غبار الميل) وفي نظم أبن الهبارية ص22:

أوشك أن يبقى بغير مال

فالكحل لا يبقى على الأميال

الأميال: جمع ميل بالكسر

5 -

52: 2 (كالشعلة من النار التي يصونها) وفي التذييل ص290: إنها كذلك في الأصل وفي نسخة شيخو، وأنها في النسخ الأخرى (يضربها) وأن قريباً من هذا في السريانية الحديثة

أضيف إلى هذا التذييل أن في نسخة بولاق ص 34 (يضرمها) بالميم وهذه محرفة بلا ريب فليس المراد تقوية النار وإضرامها وتذكيتها، بل المراد سترها ومحاولة إضعافها

6 -

58: 1 (فأحسن الأسد مسألة شنزبة) المسألة هنا بمعنى السؤال، مصدر ميمي من سأل؛ والكتابة المعروفة (مسألة) برسم الهمزة فوق الألف

7 -

75: 12 (مثل المكاري، كلما ذهب واحد جاء آخر مكانه) هي في الأصل ونسخة شيخو: (مثل البغي كلما ذهب واحداً جاء آخر مكانه). وفي نسخة بولاق: (كمثل البغي كلما فقدت واحداً جاء آخر). وتغيير الأصل هنا لا مبرر له.

والأستاذ الجليل يعرف أنه لا يجوز لناشر كتاب تاريخي عالمي أن يبدل ما يراه غير ملائم لأذواق معاصريه وميولهم، ويعلم أن ذلك قد يعد جوراً على حق مؤلف الكتاب، فإن تسويغ التبديل يسلب الكتاب شخصيته، وربما نكره على مرور الزمان فعاد آخر غير الأول

ولعل ما حذا بالأستاذ على ذلك أن قد وجد أبن الهبارية قد صنع مثله (في ترجمته ص69) إذ يقول:

شبيه خان فاعلمن ومكتبِ

من فر يوماً عنهما لم يطلب

لا يحقلان أبداً بمن رحل

لكل من يمضي من الناس بدل

ومهما يكن فإن لفظ (المكاري) قلق ناب في موضعه، لا يتوجه إلى المعنى إلا مع الجهد والعسر، وإن فيما أثبته الأستاذ من التنبيه على ذلك التبديل في التعليقات لما يحمد عليه، وإن كان لا يعد عذراً صالحاً للناشر

ونسأل: ما الحكمة في أن يرفع الأستاذ هذا اللفظ من صلب الكتاب ثم يثبته وينبه عليه في

ص: 21

التعليقات؟! وكيف تسخط هذه الكلمة وغفر لنظائر لها وأشباه متفرقات في ثنايا الكتاب؟!

(له بقية)

عبد السلام محمد هارون

ص: 22

‌الفقر مسألة اجتماعية

للأستاذ رمسيس يونان

كتب الأستاذ العقاد في عدد مضى من (الرسالة) فصلاً قيماً في مشكلة الفقر كان من بين ما كتب الكاتبون جديراً بالدرس والتحليل

وبالرغم من دفاع الأستاذ العقاد القديم المتواصل عن العامل العاطفي في حياة الإنسان، فلا شك في أنه من رجال الفكر المفتونين بالمنطق العقلي؛ وهذه ميزة في بيئة تعمه في الخرافات والآراء المنقولة والحكم المسطورة. ولكن للمنطق العقلي حدوداً ونقائص، وأولى هذه النقائص أن عرض المشاكل الاجتماعية كما تعرض القضايا المنطقية كثيراً ما يوهم المفكرين بأن حل المشاكل الاجتماعية رهين بحل قضية اجتماعية؛ وليس هكذا يحل المجتمع مشكلاته، وليس هكذا تتطور وتسير الحياة. ونقيصة ثانية تلازم المعتمدين على المنطق العقلي وحده هو نزوعهم في أغلب الأحيان إلى صياغة آرائهم في قالب الحقائق المجردة الثابتة، وليس هناك حقائق بوجه عام - وحقائق اجتماعية بنوع خاص - مجردة عن ظروف الزمان والمكان. فالمجتمع ظاهرة متطورة، ومع تطوره تتطور حقائقه ومثالياته وأحكامه. . . على أن أهم هذه النقائص هو أن رجال المنطق العقلي كثيراً ما يقعون في شرك خدعة نفسية كبرى، فهم إذ يعرضون آرائهم على أنها أحكام مطلقة أو حقائق لا مراء فيها أو بديهيات أولية، لا ينتبهون إلى أن هذه الآراء هي - عن غير وعي منهم - ليست في صميمها غير انعكاس في أذهانهم لصور مادية يحيطهم بها مجتمع بعينه

وأول ما ألاحظه - تفسيراً لما أقول - أن الاهتمام الحديث المتزايد الذي بدأ من كتابنا بدراسة المشاكل الاجتماعية المتصلة بتوزيع الثروات لم يأت عفواً، ولا من شهوة ذهنية طارئة هبطت على عقولهم من عالم الفكر المجرد. . . وإنما هناك حقائق مادية جديدة قد نشأت في المجتمع المصري هي التي انفعلت في أذهان هؤلاء الكتاب وبعثتهم على التفكير فيها وعرض الآراء والحلول؛ وهذه الحقائق - ككل الحقائق الاجتماعية - في حركة وتطور مستمر، وهي لا تتحرك وتتطور تبعاً لما يرتأى لها المنطقيون، بل يفعل مطالب إنسانية تكشفت وتمت إذ مهدت لتحقيقها وسائل مادية جديدة

وعلى ذلك فأنا أعتقد أن الأسلوب الصحيح الذي يجب أن نسلكه في دراسة مشكلة اجتماعية

ص: 23

مثل مسألة الفقر، هو أن نبدأ أولاً ببحث هذه الحقائق المادية الجديدة، وقبل أن نبدي الآراء والحلول المنطقية أو غير المنطقية، يجب علينا أن نتبين جيداً الاتجاه الذي تسير إليه هذه الحقائق، وبهذا فقط يمكن أن يصبح تفكيرنا قوة إيجابية مجددة، بدلاً من أن يكون مجرد انعكاس سلبي، قد يعبر عن (إحدى صور المجتمع)، ولكنه لا يعبر عن (الحركة الاجتماعية) في تطورها الخالق

والعقاد - إذ يعتمد على المنطق العقلي - لم يستطع أن يأتي بحكم واحد لا يقبل الجدل

فالفقر عند العقاد، ولكنا لن نعدم أديباً آخر يقرر أن الفقر عقاب، أو أنه تجربة من رب السماوات

ونفهم من كلام العقاد أنه يريد أن يكون ربح الأفراد مساوياً لما يقدمون للمجتمع من نفع؛ وكلمة (المجتمع) هنا خداعه غامضة المدلول، فأي مجتمع يقصد؟ هل يقصد المجتمع الإنساني شمولاً؟ إذا كان ذلك كذلك فالمجتمع الإنساني كما نرى مقسم إلى مجتمعات كثيرة تتضارب مصالحها إلى حد يصل بها إلى حرب شنيعة كالحرب الحاضرة. وعلى ذلك فالرجل الذي يعد نافعاً أكبر النفع بالنسبة للمجتمع الألماني مثلاً قد يعد مجرماً بالنسبة للمجتمع البريطاني. أما إذا كان العقاد يقصد (بالمجتمع) أمة بعينها، فالأمم كما نرى مقسمة إلى طبقات ذات مصالح متعارضة.

فإذا اكتشف عامل مثلاً وسيلة جديدة يلجأ إليها العمال ليرغموا بها أصحاب المصانع على زيادة أجورهم، عد هذا العامل مفيداً أكبر الفائدة بالنسبة لطبقة العمال، ولكنه لن يعد كذلك في نظر الطبقة التي تملك المصانع

والربح عند العقاد منه الحلال ومنه الحرام؛ وليس لمقاييس الحلال والحرام ثبات؛ فلكل مجتمع مقاييسه التي تنشأ معه لتوافق مصالح الطبقة الحاكمة. فاغتصاب ثروات الآخرين بالقوة مثلاً يعد إجراماً في معظم المجتمعات الحاضرة، ولكنه لا يعد كذلك في كل المجتمعات، ولم يكن يعد كذلك في كل العصور، بل هو ما زال يعد عملاً من أعمال البطولة في ساحات الحروب. . .

ويستنكر العقاد أن (يكون الجزاء الوافي حظ الممثل الذي لا يستحي أن يعرض رجولته للفضوليات من المتفرجات)، وقد يشارك العقاد في هذا الرأي قوم كثيرون، ولكنه من

ص: 24

المؤكد أن (الفضوليات من المتفرجات) لا يشاركنه إياه

ومن الحقائق التي لا مراء فيها عند العقاد (أن حياة الإنسان كائناً ما كان انفس من القوت والكساء. . .) فلماذا لا نضيف إلى ذلك أن حياة الإنسان كائناً ما كان هي أنفس أيضاً من سيارة رشيقة، ودار أنيقة، تحيطها حديقة موردة؟. . . فإذا قيل لنا: إن الإنسان يموت إذا حرم القوت والكساء، ولا يموت إذا حرم سيارة أو حديقة، فلنقل: إن الحياة لا تعني عدم الموت فقط، وأن الحياة بغير متعة إيجابية هي والموت سيان

ومن الحقائق أيضاً عند العقاد أن (الأمان كل الأمان خطر على الهمم والأذهان)؛ وهو يريد أن يقول بذلك أنه لو اطمأن كل فرد إلى قوته وكسائه، فقدنا من بني الإنسان العنصر المقتحم المغامر (ومني العالم بخطر من جراء ذلك، هو أخطر عليه من الإجحاف في تقسيم بعض الأعمال، وتوزيع بعض الأرزاق). . .

ولو صدر هذا القول من إسماعيل صدقي مثلاً لعذرناه. . . ولكن الغريب حقاً أن يصدر من العقاد. . .! فكيف يستطيع العقاد الشاعر أن يقول إنه لا تكون مغامرة أو اقتحام إلا حيث يكون طلب الرزق، وإن الإنسان لا يغامر في سبيل غرام، أو في سبيل كشف علمي أو إنتاج فني؟. . . ولماذا لا نقول: إن روح المغامرة إذا تحررت من هموم العيش وأعباء الثروات، فسوف تكتشف لنفسها ميادين وآفاقاً جديدة هي أجدر بعواطف الإنسان؟. . .

ويرى العقاد - كما يرى غيره - أن (العالم مدين للعصاميين)؛ وهذا رأي أقل ما يقال أنه مشكوك فيه. . . فأن عدد الفلاحين الهنود والصينيين يزيد على نصف سكان هذا العالم؛ فهل يمكن أن يقال مثلاً: إن هؤلاء الفلاحين مدينون بشيء للعصاميين؟. . . ولكن لنفرض جدلاً أن هذا الرأي صحيح، فمن الصحيح أيضاً أن نقول: إن الفلسفة والفنون الإغريقية مدينة لنظام الرق. . . وإن الديمقراطية الإنجليزية مدينة للفقر المدقع الذي يعانيه فلاحو الهند. . . فلولا وجود العبيد عند الإغريقلما استطاع (السادة) أن يتفرغوا للتفكير المجرد والبحث عن المثل العليا، ولما ازدهرت عندهمفلسفة أو فنون. . . ولولا الأجور المنحطة التي ينالها فلاحو الهند لما أمكن المستعمر أن يربح هذه الأرباح الطائلة التي بدونها لما يتيسر للحكومة الإنجليزية أن تتقدم لعمالها بمشروعات الإصلاح وبالإعانات والهبات الكثيرة. ولكن لولا هذه الإعانات والهبات لانتظرنا أن تنشط بين العمال الإنجليز الحركة

ص: 25

الشيوعية كما نشطت في ألمانيا؛ وفي هذه الحالة، لا يكون غريباً أن الطبقة الحاكمة الإنجليزية كانت تلجئ إلى النظام الدكتاتوري لقمع هذه الحركة

ولكنا إذا قلنا أن الفنون الإغريقية مدينة للعبيد، وأن الديمقراطية الإنجليزية مدينة لفقر الفلاحين الهنود، فليس معنى ذلك أن نظام الرق كان يجب ألا يزول، أو أن فقر الفلاحين الهنود ينبغي أن يستمر. . . وكذلك إذا صح أن العالم مدين للعصاميين، فليس صحيحاً أن العالم سيبقى مديناً لهم أبد الآبدين. فمهما تكن قيمة الدور التاريخي الذي لعبه العصاميون في تطور الاقتصاد العالمي في القرنين الماضيين، فأن كل الحقائق تدل على أن ما يسميه العقاد (البراعة المالية) ليست في الوقت الحاضر كما يقول (لازمة لتأسيس المرافق الاجتماعية والأخلاق القومية وتنظيم العلاقات واستثارة الهمم وتوزيع الأعمال التي لا يستبحر بنيرها عمران. . .) بل إنها على العكس من ذلك تؤدي بالعالم الآن إلى أشنع تمزيق وتخريب وتدمير عرفه الإنسان

فلا وجود للعصاميين بغير تنافس اقتصادي؛ وللتنافس الاقتصادي العالمي هو المسؤول الأول عن الحرب الماضية وعن الحرب الحاضرة. ولسنا ننتظر من مخلوق به مسكة من الشعور الإنساني أن يقول إن هذه الحرب في ذاتها بركة للإنسان. هذا وإن كنا نأمل - بعد أن فشلت الحرب الماضية في تنبيه الشعوب تنبيهاً كافياً إلى عواقب التنافس الاقتصادي - أن تكون نتيجة هذه الحرب الحاضرة هو القضاء فعلاً على النظام الاقتصادي الذي يؤدي التكالب فيه على جمع الثروات إلى الدجل والاحتيال من ناحية، وإلى الشقاء والمرض والحروب الهمجية من ناحية أخرى. . . .

ولا شك أن الفقر - كصفة لاصقة بحياة الأغلبية من الشعب المصري - ظاهرة قديمة ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ. فما الذي جد إذاً على فقراء مصر حتى أصبحت لهم مسألة تشغل بال كثير من الأغنياء، ويهتم لها المفكرون، وتقلق أدباء كانوا يؤثرون الدعة والراحة في مخادع البرج العاجي. .؟

قد يكون صحيحاً أن بعض الأدباء والمفكرين المصريين قد تأثروا بالأدب والتفكير الأوربي الحديث الذي يعالج مشاكل الاقتصاد وتوزيع الثروات، وهي أم المشكلات في الحياة الأوربية المعاصرة، ولكن هذا التأثر كان يبقى شيئاً خاصاً بأفراد، لا قيمة اجتماعية له، ولا

ص: 26

يثير اهتمام الرأي العام، لو لم تكن حياتنا الاجتماعية قد تأثرت مادياً بالمدنية الغربية

ولقد اقتبسنا عن الغرب أشياء كثيرة، منها مظاهر سطحية كأساليب الأكل واللباس، ومنها مظاهر أعمق كأساليب التشريع والقضاء والتعليم، ولكن وراء كل هذه المظاهر يكمن تأثر مادي أساسي، هو اقتباسنا لبعض الأساليب الحديثة في إنتاج الثروات، أي لبعض الصناعات الآلية التي نمت في مصر نمواً مطرداً في السنوات الأخيرة

ودخول الصناعة الحديثة في مصر معناه نشوء طبقتين جديدتين: طبقة رجال الأعمال من ناحية، وطبقة العمال من ناحية أخرى. ورجال الأعمال يعيشون في جو مادي، ولهم أساليب في التفكير، ولهم مصالح اقتصادية تختلف عن نظائرها عند أولئك الذين تعتمد ثروتهم على ملكية الأراضي المزروعة. فمن مصلحة رجال الأعمال مثلاً أن ينتشر التعليم، لأن المصانع محتاجة إلى العدد الوفير من العمال الفنيين وإلى العلماء والمهندسين وماسكي الدفاتر. . . وليس لطبقة ملاك الأرض مصلحة ما في أن يستخدم نصيب من الضرائب المفروضة عليها في إنشاء المدارس الفنية. . . فالزراعة في مصر ما زالت تسير على الطرق البدائية التي كانت تسير عليها في عصور الفراعنة. ومادامت الأيدي العاملة في الزراعة رخيصة إلى الحد الذي نراه، فلن يسعى ملاك الأرض إلى استخدام الآلات الزراعية الحديثة الغالية الأثمان، ولن يحتاجوا تبعاً لذلك إلى المتعلمين تعلماً فنياً إلا بقدر ضئيل. وهذا هو السبب الأساسي في نكبة خريجي مدارس الزراعة على قلتهم في بلد تعيش أغلبيته على الإنتاج الزراعي

وهذا في رأينا هو بعض التفسير المادي للمجادلات الصحفية التي كثرت في السنوات الأخيرة عن التعليم في مصر وضرورة توسيعه أو تحديده أو تغيير مناهجه

وقد تنبه رجال الأعمال في مصر من وقت ظهورهم إلى أن العقبة الأولى التي تقف في سبيل توسعهم الصناعي ورواج بضائعهم هي المنافسة الأجنبية. ومن هنا كانت الدعوة إلى الوطنية الاقتصادية التي لعبت دورها أولاً في حركة الاستقلال وإلغاء الامتيازات، ثم استحالت دعوة مستقلة لتشجيع المصنوعات المصرية. . .

أما العقبة الثانية - وقد بدأ التنبه إليها حديثاً - فهي ضعف السوق المحلية. وما دامت الصناعة المصرية لا تطمع في منافسة الصناعة الغربية في الأسواق الأجنبية، فهي

ص: 27

مضطرة إلى الاعتماد قبل كل شئ على السوق المحلية. ولكن ما دام هناك أربعة عشر مليوناً من سكان مصر لا يكادون لفقرهم أن يستهلكوا شيئاً من المصنوعات، فلا أمل لأرباب الصناعة المصرية في الإنتاج الضخم الذي يدر الأرباح الطائلة على زملائهم في الغرب.

(البقية في العدد القادم)

رمسيس يونان

ص: 28

‌6 - مدن الحضارات في القديم والحديث

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

قرطبة:

يحق للحضارة العربية الإسلامية أن تفخر بما كان لها في عدوة الأندلس من تاريخ مجيد، فلقد كانت الحضارة الشرقية الإسلامية في المشرق يقابلها حضارة إسلامية شرقية في المغرب، ولم يظهر في المشرق عالم جليل أو محدث كبير، أو شاعر شهير، أو فيلسوف حكيم، أو وزير له خطر، أو أمير له قدر، إلا ظهر في المغرب من يدانيه علماً أو ينافسه قدراً أو يزاحمه محلاً

فلقد وقعت المفاضلة بين ابن رشد والطوسي، وبين ابن زهر الحكيم وابن سينا، وبين ابن فرناس والفارابي، وبين ابن هانئ الشاعر والمتنبي، وبين ابن زيدون والبحتري، وبين ابن عبدون والأصمعي، وبين ابن مروان البصري والمعري، فقد كان الشبه بين النظيرين في الفن الواحد قريباً، وكان الفرق بين المتماثلين غير بعيد

وكان حظ المدن من تلك المفاضلة ونصيبها من تلك المقابلة حظ الأتاسي من أهل العلم والنظر والجلال والخطر؛ فهذه بغداد في الشرق على نهر دجلة، وتلك قرطبة في الغرب على الشاطئ الغربي من نهر الوادي الكبير

ولقد أتيح لكثير من المؤرخين في العصور التالية لسقوطها أن يزوروا تلك المدينة الضائعة في ذلك الفردوس الإسلامي المفقود. وزارها في العصر الحديث اثنان من أهل النظر والرأي والأدب والعلم. هما الأمير العربي المسلم الغيور شكيب أرسلان والكاتب المصري الرحالة محمد لبيب البتانونب - صاحب الرحلة الحجازية ورحلة الأندلس

ووصف كل من الكاتبين المدنية الإسلامية على حالها اليوم، ثم تطرق بهما الحديث إلى ذكر تاريخها وشئ من أحداثها، وذكر الجامع العظيم فيها

رأى البتانوني قرطبة في العقد الثالث من القرن العشرين الميلادي (سنة 1927) فلاحت أمام عينيه عربية المظهر، شرقية المنظر (وشكل مبانيها يكاد يكون عربياً صرفاً)

ورآها الأمير شكيب بعد ذلك ببضع سنوات، وقد طحنتها رحى الفتنة حين تأليفه كتاب الحلل، وغيرها حلول المصائب والأحداث، واتصلت الشدائد على أهلها فلم يبق منهم بها

ص: 29

وقت زيارته لها إلا الخلق اليسير

ولقد لفت حياء نسائها نظر البتانوني فأثنى عليهن ونعتهن بالاحتشام وغض البصر والإطراق إلى الأرض في غير تحديق إلى الرجال. والظاهر عندي أن ذلك الحياء حياء جميل يكاد يكون طبعاً في نساء الأندلس اليوم، فقد رأيت كثيراً من فتيات أسبانيا المتعلمات يفدن إلى جامعة (تور) بفرنسا لتعلم الفرنسية في عطلة الصيف، ورأيت منهن الحياء والعفة والبعد عن التبرج الممقوت الذي كنت أنعيه على نساء فرنسا، ورأيت منهن ما يؤيد قول البتانوني (ومع أن بلادهم حارة جداً لا تكاد ترى صدورهن عارية)

على أن هناك رحالة ثالثاً معاصراً تعرض لذكر الأندلس في كتابه (السفر إلى المؤتمر) وهو المرحوم احمد زكي باشا؛ إلا أن حديثه عن الأندلس جاء في عرض كلامه عن رحلة إلى المؤتمر، ولم يكن حديث الأصالة كما فعل الأمير شكيب والبتانوني

وأغلب المعلومات التاريخية التي أوردها الرحالتان مستقاة من نفح الطيب الذي اختص قرطبة في الجزء الأول بحديث طويل. ويروي المقري صاحب نفح الطيب عن ابن سعيد المغربي أو عن الشريف الإدريسي، أو عن الحضرمي

ومعتمدنا في كتابة هذا الفصل عن قرطبة على كتاب نفح الطيب الذي يعد بحق مرجعاً وافياً لتاريخ الأندلس

ولقد وصف كثير من العلماء (قرطبة) في أزهى عصورها وأجمل أيامها، ويستشهد (المقري) بأقوال هؤلاء العلماء، إلا أنه لا يذكر أسمائهم ولا يدلي بخبر عنهم، فهو يقول مثلاً: قال بعضهم، وقال بعض العلماء. . . وفي الوقت نفسه يذكر أسماء الأعلام منهم، أو الذين وصل إليهم علمهم، واشتهر عنده اسمهم: كالحجازي والحضرمي وابن سعيد والبكري

ولقد ذكر ابن سعيد عمارة قرطبة فقال: إن العمارة اتصلت بها في أيام بني أمية ثمانية فراسخ طولاً وفرسخين عرضاً، وذلك من الأميال أربعة وعشرون في الطول وستة في العرض، وكل ذلك ديار وقصور ومساجد وبساتين بطول ضفة الوادي الكبير.

وذكر آدم متز المستشرق في كتابه: (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)، نقلاً عن ابن عذاري المراكشي صاحب كتاب البيان المغرب أن عدد الدور التي كانت بها للرعية دون دور الوزراء وأكابر أهل الخدمة مائة ألف دار وثلاثة عشر دار، وأن

ص: 30

مساجدها ثلاثة آلاف: (الجزء الثاني من الحضارة الإسلامية ترجمة محمد عبد الهادي أبو ربدة ص 227).

ولقد بلغ من اتساع قرطبة وامتداد مساحتها واتصال العمران بها أن عدد أرباضها بلغ واحداً وعشرين ربضاً، وفي كل منها من المساجد والأسواق والحمامات ما يقوم بأهله ولا يحتاجون إلى غيره

وفي خارج قرطبة امتدت قرى كثيرة قدرها ابن سعيد بثلاثة آلاف قرية. وهو عدد إذا فرضنا أن المبالغة التاريخية قد ضاعفته، فهو يدل بغير شك على ازدحام القرى حول تلك العاصمة الإسلامية، كما تزدحم القرى الصغيرة والكبيرة حول (لندن) اليوم مثلاً، وتمتد إلى عشرات الأميال. وقد قدر لنا أن نرى هذه القرى اللندنية من أعوام خلت

وكان القرويون من أهل أندلس لا يقطعون ترددهم على قرطبة واختلافهم إليها في كل مناسبة صغرت أم كبرت، وكان أعظم ما يجذبهم إليها شهود يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة والتسليم عليه ومطالعته بأحوال بلدهم

ولقد بلغت المنافسة بينها وبين بغداد حداً عظيماً، حتى لقد أحبها المؤرخون من أهلها، فحابوها بالوصف، كما يقول المرحوم شوقي:(ولكن من أحب الشيء حابى). . .

وحاول كثير من وصافها أن يلحقوها ببغداد في أيام عظمتها، حتى لقد زعم قوم من أهلها أنها كأحد جانبي بغداد، وإن لم تكن كأحد جانبيها فهي قريبة من ذلك

ولم تكن قرطبة خاملة الذكر وضيعة المحل قبل الفتح العربي ولكنها كانت عامرة فزادها الفاتحون من المسلمين عمراناً، وزادوها عظمة بما بنوا في ضواحيها من القصور الكبيرة أشباه المدن الضخمة (راجع تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان جـ 5 ص 90)

ويغلب على الظن أن قرطبة قبل الإسلام كانت مما شيده القرطاجيون، ثم صارت تابعة للرومان سنة 152 ق. م إلى أن دخلها المسلمون، وجعلوها حاضرة الملك ومقر الأمارة، وحاولوا أن يخلعوا عليها من جلال الملك ما يدنيها من عواصم الشرق الكبرى، ولعبت المنافسة في ذلك الدور العظيم

وكان فيها نظام الطبقات البنائي كما حدث في القاهرة وفي بغداد وفي سامراء وفي دمشق وفي غيرها من العواصم. والواقع أن فكرة التقسيم بين الطبقان قديمة منذ الزمان الأول؛

ص: 31

فلقد كان في أيام الفراعنة قصور وأحياء للأشراف وأحياء للعامة

وقد عقد المرحوم جورجي زيدان موازنة بسيطة بيم دور الأشراف في روما إبان عمرانها وبين دور الأشراف في قرطبة إبان عمرانها كذلك، وكانت في الأولى ألفين - على ما رواه (جيبون) وفي الثانية أكثر من ستة آلاف - على ما رواه المقري نقلاً عن غيره

وأعجب ما في قرطبة من بدائع الفن وروائع الهندسة العربية آيتان: القصر الكبير والمسجد الجامع. أما القصر الكبير فكان مؤلفاً من 430 داراً كالكامل والمعشوق والمبارك وقصر السرور وغيرها

وكان في هذا القصر من العجائب الكثير سأل عنه ابن بشكوال فقال بعد كلام: (وفيه من المباني الأولية والآثار العجيبة لليونانيين ثم للروم والقوط والأمم السالفة ما يعجز الوصف، ثم ابتدع الخلفاء من بني مروان منذ فتح الله عليم الأندلس بما فيها في قصرها البدائع الحسان، وأثروا فيه الآثار العجيبة، والرياض الأنيقة، وأجروا فيها المياه العذبة المجلوبة من جبال قرطبة على المسافات البعيدة، وتمونوا المؤن الجسيمة حتى أوصلوها إلى القصر الكريم وأجروها في كل ساحة من ساحاته وناحية من نواحيه في قنوات الرصاص، تؤديها منه المصانع صور مختلفة الأشكال من الذهب الأبريز والفضة الخالصة والنحاس المموه، إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة في أحواض الرخام الرومية المنقوشة العجيبة. . . وفي هذا القصر القباب العالية السمو، المنيفة العلو، التي لم ير الراءون مثلها في مشارق الأرض ومغاربها).

وقد بناه عبد الرحمن الداخل الأموي بعدما فر من الشرق ووطد لنفسه في الأندلس ملكاً، وزاد الأمراء من بعده عليه كلُّ على حسب طاقته. ومن المؤلم أن تتطاول يد الزمان وتمتد إلى قصور ذلك القصر وتقتلعها من أساسها، وتدكها من قواعدها، ولم يبق منها بعد مثولها للعيان، وكونها في الزمان، نقش ولا أثر، إلا أثراً يذكر وخبراً يسطر، وقصة تروى، وحديثاً لمن ألقى السمع

وقد اصطلحت على محو تلك القصور والدور عوامل من الزمن، ودوافع من الإحن والمحن. أما الزمن فقد تطاول، والبناء لا يبقى على التطاول، ولا يدوم على امتداد. وأما الإحن والمحن فقد اختلفت على قرطبة، وحدثت الثورات، وفتكت يد التخريب، وأصبح

ص: 32

أهل قرطبة منذ عهد المرابطين عرضة للحوادث وغرضاً للشغب. وجاء المتعصبون من النصارى فحاولوا أن يزيلوا للإسلام كل أثر، وأن يدكوا للعرب كل قاعدة، وأن يهدموا من الحضارة العربية كل ركن؛ فزال البناء ومات البنَّاء، وبكى حين لا ينفع البكاء. وهل يرد الملك المضيَّع فيض الدموع، أو يعيد المجد المحطم وقد الضلوع؟ ولم يدم ذلك الجلال طويلاً. ففي القرن الخامس الهجري أخذ كل شيء ينذر بسقوط قرطبة. وقبل ذلك بزمن كانت هذه العاصمة الجميلة مسرحاً للفتن، وميداناً للمحن. وصار الخلفاء يولون ويعزلون في أجل قصير وأمد قريب. فتولاها في مدة يسيرة ستة من الأمويين، وثلاثة من بني حمود، مما انتهى إلى التفرقة والانقسام

وكان الأمراء يختلفون ويحتربون وتسيل دماء الناس على أيامهم. وقام العداء بين أمير وأمير، ومدينة ومدينة. ودارت الحرب بين طليطلة وقرطبة وظلت بضعة أعوام تتخللها معارك مضطرمة بين الفريقين، انتهت نهاية مؤلمة ومصيراً محزناً بالنسبة إلى قرطبة وحاكمها ابن جهور. فقد صاحب طليطلة بابن جهور وضرب الحصار على العاصمة القديمة للأندلس، ولم يرفع عنها إلا بعد أن أسيلت الدماء، وانهارت على إثر ذلك دولة بني جهور في قرطبة

ومن هذه الفتن أيضاً ما حدث بعد ذلك بقليل، فقد هاجم أهل طليطلة ومرتزقة قشتالة على غرة، فسقطت في أيديهم بلا مقاومة، ولكن نشبت بين الفريقين في الزهراء - مجمع القصور الملكية - معركة دموية دافع فيها الحرس عن القصور دفاعاً شديداً. وقتل ابن الأمير ابن عباد، ورفع رأسه على رمح وطيف به في شوارع قرطبة

ولم يطل ملك بني عباد، حتى تغلب عليه المرابطون سنة 481 فالموحدون سنة 539؛ وانتقصت أطراف هذا الفردوس الجميل شيئاً فشيئاً

(الحديث موصول)

محمد عبد الغني حسن

ص: 33

‌3 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

المنازل

وحجرات الطابق الأرضي لها نوافذ صغيرة مركبة من قضبان الخشب المنقور مرتفعة بحيث تسمح للراجل أو للراكب أن ينظر من خلالها. أما الغرف العلوية فنوافذها تبرز بمقدار قدم ونصف قدم أو أكثر؛ وأغلبها مصنوع من الخشب المخروط المشبك؛ وهو لضيق ثقوبه، يمنع كثيراً من النور والشمس، ويحجب سكان المنزل عن الأنظار؛ ولكنه في الوقت نفسه يسمح بدخول الهواء. ومن العادة ألا يصبغ هذا الخشب، ولكن القليل منها يصبغ بعضه بالأحمر والأخضر، وبعضه يصبغ كله. وهذا النوع من النوافذ يسمى روشنا، ولكنه في الاصطلاح الغالب يسمى مشربية؛ والكلمة الأخيرة لها وضع آخر سيذكر بعد

وكثير من النوافذ المختلفة الأنواع مصور في هذا الكتاب؛ وقد أوردت على قياس أوسع رسوماً لأكثر نماذج الشبابيك شيوعاً. انظر شكل (3). وقد يكون للنافذة الموصوفة آنفاً مشربية صغيرة تشبه نوعاً ما روشنا مصغراً، تبرز عند الواجهة أو عند الجانبين. وتوضع فوقها قلل من الفخار ذات مسام لتبريد الماء بتعريضه لتيار الهواء. ومن هنا اشتق أسم (مشربية) ومعناه (مكان الشرب). ويعلو النافذة البارزة مباشرة نافذة أخرى مسطوحة من الخشب المشبك أو من القضبان الخشبية أو من الزجاج الملون. وشباك هذه النافذة العلوية، إذا كان لها شباك، كثيراً ما يكون ذا رسوم قوامها موضوعات تصويرية أكثر من الأنواع الأخرى، فيمثل طستاً فوقه إبريق، أو صورة أسد، أو اسم الله، أو أمثال هذه الجملة:(الله أملي) الخ. وقد تكون النافذة البارزة ملوحة كلها بالخشب، وقليل منها يميل إلى الأمام من أسفل إلى أعلى بزاوية عشرين درجة تقريباً. وتفتح من القمة لدخول النور. وبعض الأشكال الغالبة، وتكون جوانبها ذوات ألواح زجاجية. وفي أجمل المنازل أيضاً تجهز شبابيك النوافذ الآن بألواح زجاجية من الداخل فتقفل كلها في الشتاء لأن البرد القارس

ص: 34

يشعر به المصريون عندما تنخفض الحرارة إلى أقل من ستين درجة فاهرنهايت. وأما نوافذ الدور الدنيا فأكثرها من طراز آخر لأنها مستوية مع سطح الحائط الخارجي. وجزؤها الأعلى يكون شباكاً أو قضباناً خشبية، والجزء الأسفل له درف معلقة يقفل بها؛ والكثير منها له مشربية للقلل تبرز عند جزئه الأسفل

وتتألف المنازل، على العموم، من طابقين أو ثلاثة ويتوسط كل دار كبيرة فناء مكشوف غير مبلط يدخل إليه من دهليز ينعطف مرة أو مرتين بقصد منع المارين في الطريق من النظر إلى الداخل. وفي هذه الطرقة من داخل الباب يوجد مقعد حجري طويل يسمى (مصطبة) وهو ملاصق للحائط الخلفي أو الجانبي يجلس عليه البواب والخدم الآخرون. وفي هذا الفناء بئر يتسرب ماؤه المائل للملوحة خلال الأرض من النيل، كما يوجد في جانبه الظليل جرتان يجلب إليهما الماء يومياً من النهر في قرب. وتطل الغرف الرئيسية على الحوش، وتغطى جدرانها الخارجية بالجص وتبيض. وهناك كثير من الأبواب تفتح على الفناء، منها واحد يسمى (باب الحريم) وهو مدخل السلم الذي يؤدي إلى الحجرات المخصصة للنساء ولرب الدار وأولاده

ويوجد غالباً في الطابق الأرضي غرفة تسمى (منضرة) يستقبل فيها الزائرون من الرجال. ولهذه الغرفة نافذة واسعة من القضبان الخشبية، أو نافذتان من هذا النوع تطلان على الحوش، وأرضيتها جزء صغير يمتد من الباب إلى الجهة المقابلة منخفضاً عن بقية الغرفة بأربع أو خمس بوصات تقريباً. ويطلق عليه اسم (درقاعة). وهذه الأخيرة تبلط في المنازل الجميلة برخام أبيض وأسود، وبقطع صغيرة من القراميد الحمر الجميلة في نماذج معقدة أنيقة، ويتوسطها فوارة تسمى (فسقية) يتدفق ماؤها في بركة صغيرة قليلة الغور، مخططة برخام بلون الأرضية المحيطة بها. وتصرف مياه هذا النبع من الحوض بواسطة ماسورة. وأمامك نموذج من أرضية الدر قاعة شكل 6 كما وصفتها آنفاً

ويوجد في نهاية الدرقاعة في مواجهة الباب رف من الرخام أو من الحجر العادي على ارتفاع أربع أقدام تقريباً يطلق عليه اسم (صفة) يستند على عقدين أو أكثر، أو على عقد منفرد؛ ويوضع تحته أوعية للاستعمال العادي مثل أوعية (العطور) والطست والإبريق المستعملين للغسيل قبل الأكل وبعده وللوضوء، كما توضع فوقه أواني المياه وفناجين

ص: 35

القهوة وتكسي عقود الصفة في الدور الجميلة بالرخام والقراميد على مثال بركة الفسقية أنظر (رقم 7 ورقم 8) كما يكسى الحائط الذي يعلوها إلى ارتفاع أربع أقدام أو أكثر تقريباً بمواد مماثلة: جزء منها بألواح رخامية كبيرة قائمة، والجزء الآخر بقطع صغيرة على أسلوب الدرقاعة. أما المنصة أو الجزء المرتفع من الأرضية فيسمى (ليوان)

ويجب على كل داخل أن يخلع نعليه في الدرقاعة قبل الصعود إلى الليوان؛ وهذا الليوان يبلط عادة بالحجر العادي، ويفرش بالحصير صيفاً وبالبسط فوق الحصر شتاء، وتوضع فوقه الحشايا والوسائد ملاصقة للجدران، ويسمى حينئذ (ديوان). وتوضع الحشية التي يبلغ عرضها حوالي ثلاث أقدام، وسمكها ثلاث بوصات أو أربعاً، على الأرض عادة. أما الوسائد وطولها بقدر عرض الحشية، وارتفاعها مساو لنصف هذا القياس، فتستند مائلة إلى الحائط. وتحشى الحشايا والوسائد بالقطن وتغطى بالشيت المطبوع أو الجوخ أو بما هو أغلى ثمناً. وأحياناً توضع الحشية على سرير من جريد النخل، وأحياناً أخرى توضع على منصة حجرية تعلو إلى نصف قدم تقريباً وتسمى (سدلة)، وهي كلمة من أصل فارسي تطلق أيضاً على فجوة عرضها مساو لعمقها تقريباً، وبها فرش ووسائد حول جوانبها الثلاثة. ويلاحظ أن بعض الغرف به مكان أو أكثر من هذه الأمكنة الداخلة تستخدم للجلوس شتاء وهي لذلك تبقى بدون نوافذ. أما حوائط الحجرة فتغطى بالجص وتبيض. ويوجد في داخل جدران الغرفة دولابان أو ثلاثة قليلة العمق، بمصاريعها حشوات خشبية دقيقة الصنع، لأن الحرارة ويبوسة الجو يعرضان الخشب للتقلص والالتواء كما لو كان داخل تنور؛ ولهذا السبب تصنع أبواب الغرف أيضاً بالطريقة نفسها. ويلاحظ أن هناك تفنناً عظيماً ومهارة فائقة في مختلف الأساليب المتبعة في صنع تلك الحشوات الصغيرة وتركيبها، وقد نشرت بعض نماذج مختارة منها شكل 9. أما السقف الذي يعلو الليوان، فهو ذو جسور من الخشب المنقور يبعد الواحد منها عن الآخر مسافة قدم؛ ويلون بعضها أو أحياناً بذهب، ولكن هذا الجزء من السقف الذي يعلو الدرقاعة يكون في المنازل الجميلة أفخم نقوشاً وأكثر زخرفة. وبدلاً من العروق الكبيرة تسمر بضعة شرائط خشبية دقيقة في الألواح فتؤلف نماذج غريبة التعقيد، كاملة الانتظام، ذات تأثير زخرفي عظيم.

وقد رسمت جزءاً من السقف على هذا الأسلوب الزخرفي، ولكنه ليس من الطراز الكثير

ص: 36

التعقيد (شكل رقم 10). وهذه الشرائط تدهن بالأصفر أو تذهب، وما بينها يلون بالأخضر والأحمر والأزرق. وتكون الألوان في المثل الذي ضربته، كما هو مشار إليها في الرسم بالنسبة نفسها، ولكن على مقياس أكبر. أما المربع الذي يتوسط السقف حيث تكون الشرائط سوداء على أرضية صفراء. وكثيراً ما يتدلى قنديل من وسط هذا المربع. وهناك بضعة نماذج متشابهة، وألوانها - الواحدة بالنسبة للآخر - توضع غالباً بالترتيب نفسه؛ إلا أن هذه السقوف في بعض المنازل لا تلون. أما سقف النافذة البارزة فكثيراً ما يزخرف بالطريقة نفسها كما ترى في الشكل 11. وهكذا يتجلى الذوق السليم بقصر الزخرفة على الأجزاء التي لا تكون دائماً أمام العين، لأن إدمان النظر إلى مثل تلك الخطوط الكثيرة المتقاطعة المتجهة في اتجاهات عديدة مما يؤلم العين

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 37

‌إيماءة إلى الله.

. .

إلى طيفها الذي لا يفارقني

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

. . . وَأَوْمَأْتُ لِلّه عَلِّي أَرَاهَا!

مَعَ اللَّيْلِ تَسْرِي بِقلبي خُطاها

مَعَ الصَّمْتِ يُشْجِي خَيالي نِداها

مَعَ الزَّهْرِ يَرْوَي دَمِي مِنْ شَذاها

مَعَ الطَّيْرِ تَرْوِي لِرُوحي أَساها

مَعَ النَّفْسِ تَجْرِي هَوَى في هَواها

وَيَجْري بِدَمْعِ اللَّيالي بُكاها. . .

فَقَالَ لِيَ اُلغَيْبُ: ضَلَّتْ سُرَاها!

فَهَامَتْ مَعَ الْمَوْجِ حَتَّى طَوَاها

وَذابَتْ مَعَ الْفَجْرِ حَوْلي رُؤَاها

وَرَفْرَفَ مِنْ حَاجِبَيْهِ سَناهِا

وَأَشْرَقَ مِنْ رَاحَتَيْهِ صِبَاها

وَكانَتْ لَهُ غُنْوَةً في لِقاَها

وكانَتْ لهُ آهَةً في نَواها

وكانَتْ لهُ قِصَّةً ما رَوَاها

لِغَيْرِي، وَغَيْرُ الرُّبَى. قُلْتُ: وَاها!

فياَ لَيْتَهُ نَحوَ قلبي هَداها

وَنَضَّرَ مِنْ صَفْحَتَيْهِ ثَرَاها

فَإِنْ ظَمِئَتْ مِنْ شَبَابي سَقاها

وَإِنْ شقِيَتْ سَاقَ دَهْري فِداها

فمَالي مَدَى العُمْرِ سِحْرٌ سِواها

هَتَفْتُ. . . فَصَدَّتْ نِدائَي سَماها!

ص: 38

فَأَوْمَأتُ لِلهِ. . . عَلَّيَ أَرَاها

كَأَنِّي (بسَيْناَءَ) صَوْتٌ تَنَاهَى

إلى شَفَةِ الْغَيْبِ يَدْعُو الإلها. . .

(النخيلة)

محمود حسن إسماعيل

ص: 39

‌من الأدب الفرعوني

نشيد السيفين

من رواية (مصر الخالدة) التي ألفها ويخرجها الأستاذ (فتوح نشاطي). وهي مسرحية فرعونية، تفتتح بها الفرقة القومية موسمها التمثيلي المقبل. . .)

للأديب عبد الرحمن الخميسي

هَيْهَاتَ تُغْفِلُ ذِكْرَناَ الأيَّامُ

وَلمصْرناَ الْبتَّارُ والبسَّامُ

سَيفانِ تَرجُفُ إِنْ رَأتْ حَدَّيْهما (م)

الأرَضُونَ وَالْجوْزَاء وَالأيَّامُ

الْهَولُ مِنْ حَوْليْهما عَبْدٌ، فكَمْ

أَمَرَ فَبَاَدَتْ فيِ الوَغَى أَقْوامُ

وَالْموتُ يَكْمنُ فِيهمَا، فكأَنما

هُوَ أَنفُسٌ وَهماَ لَهُ أَجْسامُ

سَلْ فِي المَعارِكِ كم أَرَاقَا مِنْ دَمٍ

قَدْ صَفَّقتْ لَهُما بهِ الأعْلامُ

فَكلاهُما بَطَلٌ يُباركُ بَأْسهُ

مِنثٌ وَتفْزعُ مِنْ أَذاهُ الهامُ

ثبْتٌ عَلَى الأحْداثِ يَصرعْ بَطْشَها

فإذَا بها فَوْقَ الرَّغامِ رَغَامُ

قَدْ شرَّدَ الأعْدَاَء فِي البَلوَي كما

لوْ شُرِّدتْ فِي الْمهْمهِ الأنْعَامُ

أيَّامَ يُوغلُ فِي الدِّماءِ حَديِدهُ

ظَمْآنَ لا يَرْوِي صَداهُ حِمَامُ

ويُجَدلُ الأحْبَاش وَالْخيتاسَ فِي

سُوحِ الوَغَى فَتُكبِّر الأهْرَامُ

وَلقَدْ غَزَا البَسَّامُ فينقيا فَمَا

خَشَعَتْ لِغيْرِ شَباتِهِ الإفْهَامُ

وَمَشَى به رَمْسيسُ يَفْتتحُ الدُّنَى

مِثْل القَضَاءِ فُتُوحُهُ أحْكامُ

وَالمجْدُ للْبتَّارِ مِنْ سَيْفٍ قَضَى

ألا يَرَى أرْضَ الْعَدوِّ سَلَامُ

يَسْتلُّهُ (مِنْتوحُتبْ) مِنْ غِمْدهِ

فَتَهابُ حَتَّى فَتْكهُ الأصْنامُ

لكنَّهُ والْحرْبُ تَرْعَى بِاسْمهِ

فِي قَادِشٍ وَجُيوشُهُمْ أغْنَامُ

وَالصَّفُّ بَعْدَ الصَّفِّ مُنْهَارٌ كما

تَنهَارُ تَحْتَ التَّلْعَةِ الأكوَامُ

خَانَتْهُ مِنْ مِنْتُوحتِبْ يَدُهُ التي

خَارَتْ فَطَارَتْ إِثْرَهُ الأحْلَامُ

وَأسْتَأْثَرَ الْخِيتاَسُ بِالسَّيْفِ الذي

كانتْ تُقَدِّسُ مَجْدهُ الأعْوَامُ

لكِنَّناَ والْحُزْنُ يَفْرِى رُوحَناَ

مِنْ أَجْلِهِ وَتَهُدُّناَ الآلامُ

مُتَمَرِّدُونَ عَلَى الزّمانِ جَبَابِرٌ

تَرْتَاعُ مِنْ أَهْوَالِناَ الأيَّامُ

ص: 40

(القاهرة)

عبد الرحمن الخميسي

ص: 41

‌البريد الأدبي

كليلة ودمنة

قرأت ما كتبه في الرسالة (العدد 425) الأستاذ عبد السلام محمد هارون فشكرت للكاتب الفاضل حسن رأيه، وجميل ثنائه وأعجبت بتدقيقه وتحقيقه، وتلقيت بالقبول والسرور نقده الذي يبن عن صدق النية، وخلوص القصد في طلب الحق. وكلنا طلاب علم نسأل الله الهداية والتسديد!

وقد أخذ الأستاذ على الكاتب مآخذ وهذا بيان رأيي فيها: قال بعد أن ذكر كثرة التحريف في النسخة المخطوطة، والجهد الذي بذل في تصحيحها:

(ونحن في هذا الصدد نأخذ على الأستاذ أنه لم يتوخ النشر العلمي من إثبات الأصل والتنبيه عليه فقد يكون للقارئ وجه في التصحيح غير الذي ارتضى. . . وكتاب مثل كتابنا لبس من جلال التاريخ ما ليس جدير بما ذكرت من وجوب بيان أصله للرجوع إليه ووجوب مقارنة نسخه بعضها ببعض)

والجواب أن مذهبي في النشر ألا أخالف النسخة التي اتخذتها أصلاً إلى حين أن يتضح غلطها، وإن كان هذا الغلط في مواضع قليلة أثبته في مواضع. أثبته في الحاشية ليعرف القارئ ما وقع في أصل الكتاب؛ ولكن نسخة كليلة ودمنة التي أنشرها مملوءة بأغلاط واضحة كثيرة لا ينال الناشر والقارئ من إثباتها إلا العنت

وأما مقارنة النسخ المختلفة فقد بينت في المقدمة أن النسخ المطبوعة، إلا نسخة شيخو، ملفقة مغيرة تصرف فيها الناشرون كما شاءوا على غير خطة معروفة. ثم بين هذه النسخ كلها بعضها وبعض، وبينها وبين نسختنا ونسخة شيخو، ثم بين هاتين النسختين من الاختلاف ما لا يمكن إثباته في الحواشي بل يختلف السياق أحياناً حتى يحسب القارئ أن أمامه كتباً مختلفة

ثم يرى الأستاذ أن (لفة ابن المقفع في كليلة ودمنة لغة عالية تعلوا على المتأدب والأديب أيضاً فهي محتاجة إلى توضيح وتقليد وبيان. . . الخ)

وليس هذا رأياً في هذه الطبعة التي أريد بها أن تكون في الأغلب هدية للعلماء والأدباء لا أن تكون كتاباً مدرسياً يؤدي به الناشئون. نعم ربما يستعان بهذا الكتاب على درس أساليب

ص: 42

ابن المقفع وأساليب النثر في عصره، ولكن هذا بحث آخر لا يتعلق بمقصدنا من نشر الكتاب

ثم أخذ الأستاذ ألفاظاً رأى أنها خالفت الصواب. وقد بينت رأيي فيها على الترتيب الذي ساقه في مقاله:

1 -

ص 36 س 6: كالعظم المتعرِّق، والصواب المتعرَّق بفتح الراء كما قال الأستاذ، وهي زلة مطبعية فاقت عناية المصحح واجتهاده

2 -

81: 5 و 6: (ولكن النفس الواحدة يفتدى بها أهل البيت، وأهل البيت تفتدى بهم القبيلة. . . الخ). قال الأستاذ: الوجه يفتدى.

وعلل هذا بقوله: فأهل البيت لا يفعلون الافتداء، وإنما يفعل بهم ذلك غيرهم. . . الخ

ولست أرى هذا الرأي، فأهل البيت يفتدون أنفسهم؛ وفي القرآن الكريم:(ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به). ومثلها آيات أخرى، فلا وجه للعدول عن المعلوم إلى المجهول. ويؤكد هذا أن اللزوم في افتدى هو الأصل؛ وقد عرضت لها التعدية، ولم ترد في القرآن إلا لازمة. فالعدول إلى البناء للمجهول عدول عن الأصل لغير سبب

3 -

87: 6: يقول دمنة للثور: (إن أنت رأيت الأسد ينتصب مقعياً ويرفع صدره. . . الخ. فاعلم أنع يريد قتلك، فاحذره ولا تغتر إليه). يقول الأستاذ: لا يقال اغتر إليه بل اغترَّ به، ويرى أن الصواب لا تقترب إليه وقد بينت في المقدمة أن كثيراً مما وقع في الكتاب من تحريف سببه تغيير العبارات غير الشائعة إلى العبارات الشائعة. وأرى أن كل فعل يعدّى بإلى إذا أريد الانتهاء إلى ما بعده، أو الركون إليه. فلذلك يقال: استمع إليه، وجلس إليه، وسكن إليه. وفي القرآن:(إلى ربك يومئذ المستقر): فما رأي الأستاذ في أن يقال استقر إليه؟. . . فالتعدية: بالي وعلى نحوهما جائزة إن كان في الفعل ما يدل على الانتهاء أو العلو صراحة أو ضمناً. وإنما الكلام في تعدية الفعل إلى المفعول به، أيتعدى فيها الفعل بنفسه أو بالياء. . . الخ. ومعنى اغتر إليه هنا سكن إليه أو ركن أو نحو ذلك مما يتضمنه معنى الانتهاء أو الركون

4 -

91: 12 (وندفن بقيتها مكاناً حريزاً). قال الأستاذ وهذه عبارة غير صحيحة والصواب في مكان حريز. ونقل عن همع الهوامع وشرح الكافية كلاماً في اسم المكان،

ص: 43

وانتهي إلى قوله: (وليس الدفن من الاستقرار في شيء فلا ينصب لفظ المكان على الظرفية المكانية) وهذه الجملة تبطل الاحتجاج الطويل الذي نقل له ما نقل عن كتب النحو. ففي الدفن إقرار واستقرار ولا ريب، وأنا أعرف أن في النسخ الأخرى:(وندفن الباقي في أصل هذه الشجرة فهو مكان حريز، أو ندفن بقيتها في مكان حريز) ولكني لا أغير نص الكتاب ولو كان غيره أرجح منه حتى يكون غلطاً واضحاً لا شبهة فيه، فكيف وليس فيه غلط ولا شبهة الغلط؟

5 -

95: 13 (وبلاء يضيع عند من لا شكر له) قال الأستاذ وبين اللغويين خلاف في أن يكون البلاء بمعنى الإنعام ونقل في هذا كلاماً عن نهاية أبن الأثير ولسان العرب

وليس لازماً أن يكون البلاء هنا بمعنى الإنعام، بل الأرجح أن يكون بمعنى الاختبار، والبلاء اختبار بالخير والشر. فكل معروف تصطنعه عند إنسان هو بلاء عنده.

6 -

221 - 5 (ولكن إيش الفائدة) قال الأستاذ: (وهذا ضبط عامي والصواب أيش). وقد بينت في المقدمة رأيي في هذا الباب ولغته وقلت: (بل أرى فيه من الركاكة ومقاربة العامية الخ المقدمة ص50) ولم أتبعه إلا اتباعاً لنسخة الأصل واستيفاء للبحث.

وبعد. فالأستاذ مشكور على نقده، ولعل فيما أجبت به ما يزيل شبهته.

عبد الوهاب عزام

في مدن الحضارات

أشكر للأستاذ الفاضل كوركيس عواد العراقي ما أبداه من الغبطة بما أكتب في الرسالة الغراء (عن مدن الحضارات) وأنا سعيد لأنه يتابع ما انشره متابعة الباحث المتمكن، والقارئ المتفطن، ولا عجب إذا لفتته مدينة السلام أو دار السلام بما كتبته عنها فقد عرفت مما ينشره في الرسالة أن بغداد دار إقامته

وللأستاذ الشكر على ما كتبه خاصاً ببركة المتوكل مصححاً به ما توهمت من أنها كانت في بغداد. ولعل الأستاذ وهو جد قريب من سامراء يحدثنا حديث المؤرخ الثبت عن (المختار) و (البديع) أجمل قصورها وعن ساجهما الذي حمل إلى (الجعفري) وعن (المتوكلية) التي بناها قرب سامراء وبنى فيها قصر (اللؤلؤة)

ص: 44

أما نسبة (جميل نخلة المدور) إلى العراق فهي شائعة عندنا في مصر ولعلها نسبة جاءت إليه من سبيل كتابته على حاضرة العراق

والحق أنني لم أقرأ ترجمة لهذا الباحث العظيم، وكل ما قرأت له أو عنه كتابه (حضارة الإسلام) وتقريظ كتبه المرحوم الدكتور يعقوب صروف في مقتطف شهر مايو سنة 1888م. المجلد الثاني عشر صفحة 515 وفيه عن جميل نخلة المدور أنه (قد ربي منذ نعومة الأظفار على سلامة الذوق، ورضع آداب العرب والعجم مع اللبن، وأوتي قريحة وقادة لا تخبو نارها بسلامة عبارته، وبصيرة نقادة لا يخفى شرارها بطلاوة نوادره وحسن فكاهته، وجداً يستسهل المتاعب، وثباتاً يغلب المصاعب)

ولا تجد في الطبعات المختلفة التي طبعتها وزارة المعارف المصرية من هذا الكتاب القيم ترجمة مختصرة أو مطولة لكاتبه

ونحن منتظرون تعريفاً بمؤرخ بغداد اللبناني من الباحث العراقي الأستاذ كوركيس عواد وله الفضل والشكر

أما ورود كلمة (الحرامات) في مقالي مكان (الحراقات) فذلك خطأ لم أكن - شهد الله - من جناته، فكيف أصلي بحره؟ والطابعون دائماً يريدون ما لا يريد الكاتبون؛ وكثيراً ما يحرفون الكلم عن مواضعه، وإذا كان صاحب المقال معذوراً في خطأ أقحم عليه فما عذر القارئ اللبيب؟

(المنصورة)

محمد عبد الغني حسن

إلى وزارة المعارف

أعلنت وزارة المعارف عن مسابقة القصة في غضون شهر مايو من هذا العام وحددت يوم 15 أكتوبر آخر موعد لقبول قصص المتبارين - ولعل وزارة المعارف راعت في هذه المواعيد ظروف معلميها وطلبتها دون أن تلتفت إلى عوامل أخرى أكثر أهمية.

ونلاحظ (1) أن المدة كلها واقعة في الصيف، والصيف فصل الركود والراحة والاستجمام، والنشاط فيه محدود، خصوصاً النشاط الذهني، والقصة - بحكم طولها - عمل فني دقيق لا

ص: 45

يخلو من مزالق، ووحدة الموضوع والحبكة الفنية عاملان جوهريان في كل قصة. لذلك نرى أن الصيف غير ملائم للإنتاج القصصي

(2)

المدة قصيرة جداً لا تكفي لإنتاج عمل فني بارز - وكثير من مشاهير الكتاب العالميين ينتجون قصة كل عامين فكيف تتسع خمسة أو ستة أشهر لكتابة قصة؟!

(3)

العالم يعيش الآن على كف عفريت. والظروف التي نعيش في حلقتها تشغل البال وترهق الأعصاب وتستهلك كثيراً من النشاط الذهني؛ فالإنتاج الأدبي يستلزم وقتاً أطول مما كان يستلزمه وقت الدعة والسلام. والذي نعرفه أن هذه العوامل صرفت الكثيرين من الأدباء عن التفكير في مباراة وزارة المعارف. لهذا نعتقد أننا نعبر عن رغبات الكثيرين حين نتقدم إلى معالي هيكل باشا راجين أن نتفضل ويمد أجل المباراة حتى نهاية يناير على الأقل ليتاح للأدباء إنتاج قصص ناضجة تحقق أمل الوزارة.

ق - ع - سوس

إلى الأستاذ محمود الخفيف

حرمت قراءك ومحبي الرسالة من مقالاتك القيمة، وأسلوبك الممتع. فما الذي حجبك عنا؟ أنفدت الشخصيات التي تكتب عنها، أم نسيت منظارك في القاهرة وأخلدت إلى الريف الحبيب إلى نفسك؟

أرجو أن تعود سيرتك الأولى؛ وإني أنتهز هذه الفرصة فأستوضحك عن الشخصيات التي تكتب عنها هل هي موجودة حقاً، أم هي عيوب المجتمع ألبستها هذا اللباس فكانت كما رأينا؟

(أسيوط)

زكي عبد الله

الجواب

أشكر لك يا أخي تحيتك ومودتك. أما جوابي عما جاء في كتابك عن تلك الشخصيات فهو أن عملي فيها هو كعمل القصصي الذي يخلق أشخاص قصته؛ فهي إذاً أشخاص من خلق

ص: 46

الخيال؛ وأحسب أن ذلك هو سبب ما قد يكون لها من قيمة. وما كتبت عن شخص بذاته، وإلا لما استطعت أن اكتب على النحو الذي أرى قوامه الابتكار والخيال.

الخفيف

1 -

الألقاب لا ترتجل

اطلعت على ما دار بين الأستاذين محمد عبد الغني حسن وجمال الدين الشيال حول تلقيب الأمير نجم الدين بن أيوب - بالملك الصالح - فرأيت أن أنقل كلمة فيمن لقب - بالصالح - من كتاب (نزهة الألباب في الألقاب للحافظ أبن حجر العسقلاني - من مخطوطات دار الكتب المصرية):

الصالح: أول من لقب به من الملوك: طلائع بن رزيك وزير الفاطميين. ثم الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد.

ثم الصالح أيوب بن الكامل بن العادل بن أيوب. ثم لقب به جماعة من الملوك؟

2 -

لفتة

جاء في مقال الأستاذ عبد السلام هارون في نقد (كليلة ودمنة) ببيت المنتخل الهزلي هكذا:

ويلمه رجلاً تأتي به غبناً

إذا تجرد لا خال ولا بخل

والصواب: تأبى به غبناً، على ما في (شرح أدب الكاتب للجواليقي) ص 260 حيث قال في شرح البيت: يقول تأبى به أن تظلم إذا كان معك. . . وسبب غلط الأستاذ هارون هو اعتماده على (الاقتضاب للبطليموسي) و (أدب الكاتب) حيث ورد فيهما البيت كذلك مصحفاً.

3 -

العود أحمد

قررت وزارة المعارف في تركيا إعادة طبع (كشف الظنون) عن نسخة المؤلف مع منهوات له لم تكن في الطبعات السابقة، وإكمال خرم كان فيها، والإشارة والتنبيه على أغلاط الطبعة الأوربية، وضم ذيول نادرة إليه للعلماء الآجلة: رئيس الأطباء الشيخ بهجت، والشيخ محمد أسعد صاحب المكتبة العامة المشهورة في الآستانة، والشيخ عارف حكمت شيخ الإسلام صاحب المكتبة العظيمة في المدينة المنورة، وإسماعيل باشا البحاثة

ص: 47

المعروف، والعلامة إسماعيل صائب مدير مكتبة بايزيد العامة، رحمهم الله. وقد صدر الجزء الأول منه مطبوعاً بحروف عربية ممتازة في نحو خمسمائة صفحة في كل صفحة عمودان، وأسماء الكتب في أوائل السطور ويحققه جماعة من الاختصاصيين

أحمد صفوان

القاموس السياسي

في الوقت الذي زخرت فيه الصحف بالمباحث السياسية، واتصلت فيه الحوادث اتصالاً سريعاً بما قبلها من نقط التاريخ الفاصلة، ومعاهدات الأمم ومواثيقها، وأسماء الكبار من الساسة، وحركات المذاهب المتوازية والمتعارضة، اصدر باحث مصري مدقق (قاموساً سياسياً) يكون في هذا الظرف، وفي كل الظروف بالطبع، رائد المهتمين بهذه الشؤون والمباحث، ومعيناً لهم على اختصار الوقت، وضبط المعلومات، وإدراك الغاية مما يتلمسون البحث عنه في غيابه المراجع العربية أو في تيه المصادر الأجنبية

فالقاموس السياسي قد أخذ محله كما أراد له الأستاذ أحمد عطية الله في صدر المكتبة العربية، أو في (جيب) صدارها كما يقول أصدقاؤه، وأصبح بداية طيبة في تاريخ هذه المكتبة لنظم الكثير الصالح من أمثال هذا المعجم في كثير من الأغراض والأبواب

ولسنا نغمط الأستاذ عطية الله حقه إذا قلنا إن هذا القاموس الذي أصدره وإن يكن قد صار اليوم مرجعاً سريعاً للباحث أو القارئ، إذا ما اعترض أحدهما شأن من الشؤون العامة، فإن افتقاره إلى زيادة العناية بالشؤون العربية، وإلقاء الضوء على الكثير من تلك الروابط القوية التي تجمعها وتحركها ويجعل من حق الذين قدروا جهده في هذا السبيل أن يلفتوا نظره إلى تلافي هذا النقص عند إعادة الطبع إن شاء الله

ويبدو أن شبهة عدم الانسجام في (الشؤون العربية) في القاموس ظاهرة أيضاً في بعض ما تناوله من المسائل الدولية والأوربية. على انه ليس من شك مطلقاً في أن مثل هذه الشوائب في كتاب يصدر في مثل هذا الظرف، لتغني به المكتبة العربية في مثل هذا الباب - كانت متوقعة لأي كاتب، وذلك لحداثة التأليف في هذا الموضوع وقلة المراجع، وصعوبة الحصول عليها. فهذا العمل الذي قام به الأستاذ عطية الله سيظل مشكوراً على كل حال

ص: 48

(أ. ص)

ص: 49

‌القصص

الليلة الثانية بعد الألف

سهرة المليونير

قصة عصرية على طراز ألف ليلة وليلة

للأستاذ محمد علي غريب

فلما كانت الليلة الثانية بعد الألف قالت شهرزاد: سأقص عليك أيها الملك السعيد قصة سهرة المليونير، قال الملك شهريار:

- ومن هو المليونير يا شهرزاد! أهو ملك قبيلة في الجان، أم تاجر لؤلؤ في جزائر واق الواق؟!

وتبسمت شهرزاد فكشفت عن أسنان كأنها الدر المنظوم، ثم قالت: لا هذا ولا ذاك أيها الملك السعيد، فالمليونير هو صاحب مليون من الدنانير فأكثر

- مليون من الدنانير! ما هذه الأحاجي أيتها الجارية! وكم هو عدد المليون؟

- يعني ألف ألف دينار يا مولاي. كل من ملك ألف ألف عد مليونيراً. ولنبدأ القصة من أولها. فقد زعموا أنه كان في مصر شاب أسمه الشاطر (ممدوح) توفى والداه في حادث قطار بخاري و. . .

- قطار بخاري؟ ما هذا الكلام المبهم!

- القطار البخاري يا مولاي مركبات تقودها آلة، وهذه الآلة تتحرك بقوة البخار وتأكل الفحم، ويسمع لها دوي هائل وهي تسير؛ فإذا تعرض لها أحد سحقته سحقاً. وقد وقع لأبوي الشاطر (ممدوح) ذلك فأكلهما القطار البخاري كأنهما قطعتان من الفحم

- وهل القطار البخاري يا شهرزاد منسوب إلى بخارى، وهل تجره خيول أم بغال؟

- كلا يا مولاي إنه منسوب إلى البخار: بخار الماء حين يغلي، ولا تجره خيول ولا بغال، ولكنه يسير على قضيب من حديد. ولنعد إلى الشاطر (ممدوح) فقد أصبح وحيداً في هذه الدنيا حتى عثرت به سائحة أمريكية

- تقولين أمريكية! من أي بلاد هي يا شهرزاد؟

ص: 50

- أمريكا يا مولاي بلاد بعيدة يسكنها الكفار، وظلت مجهولة حتى عثر عليها رجل أسمه (خريستوف كولمبس)، وهو كافر أيضاً. وقيل إن العرب كشفوا عنها قبله بدليل وجود مسلمين توطنوا هذه البلاد في جزر (الفلبين)

وقد ربته هذه السائحة أحسن تربية، ثم سافرت فأخذته معها إلى أمريكا، وهناك أيفع واستوى، فلما ماتت الأمريكية أوصت له بجميع أموالها إذا لم يكن لها أهل يرثونها

- وتوفر الشاطر ممدوح على تنمية ثروته، فساهم في صناعة (الأتومبيلات)، وكان هو الذي أعان مخترع (الفتوغراف) على إتمام اختراعه، وأنشأ محطة للراديو و. . .

- حسبك أيتها الجارية! ما هذه الرطانة التي تذهب العقل؟

- الأتومبيل يا مولاي سيارة تجري بقوة النفط المكرر

- وحدها!؟

- وحدها. . . كالقطار البخاري تماماً، ولكنها لا تسير على قضيب من حديد. والفتوغراف صندوق يوضع فيه قرص من الشمع الأسود المنقوش، وهناك إبرة ممغنطة تدور حول القرص فتسمع الصوت الذي سجل، فإما غناء وإما موسيقى وإما حديثاً يروى. والراديو آلة تلتقط الأصوات من مكان بعيد، فلو كان هنا راديو لأمكنك أن تسمع الهمس الذي يدور في القصر المسحور وراء السبعة بحور

- إن كان هذا من صنع الجن فلا غرابة

- كلا يا مولاي! لم تعد للجن هذه القدرة على الخلق والإبداع، وملك الجان نفسه أصبح عاجزاً عن أن يكون شيئاً إلى جانب أي عالم من أولئك العلماء المخترعين

- تقولين علماء؟ أهؤلاء المخترعون رجال فقه ولغة ودين؟

- حاشاك الخطأ يا مولاي. فالعلم في هذا العصر الذي أحدثك عنه لم يعد وقفاً على ذوي اللحى والعمائم، ولكنه أصبح عنواناً على غيرهم. . . حتى أولئك الكفار! ولنعد إلى الشاطر ممدوح فبعد أن أغتنىي وأضحى ذا ثروة طائلة، تذكر وهو في بلاد الغربة أن له أختاً تكفل بها أحد أقاربه ولم يكن يعرف عنها شيئاً؛ فلما طغت عليه موجة الذكريات أنشأ يترنم بهذه الأبيات:

اذكرونا مثل ذكرانا لكم

رب ذكرى قربت من نزحا

ص: 51

واذكروا صباً إذا غنى بكم

شرب الدمع وعاف القدحا

ثم فاضت دموعه حتى أصبحت كالأنهار. . . وأخيراً قرر أن يسافر إلى مصر فأعد عدته وركب الباخرة

قال الملك:

- وما هي الباخرة يا شهرزاد؟ أهي القطار البخاري؟

- قالت شهرزاد:

- أجل يا مولاي. . . قطار بخاري يسير في الماء ويتسع لمئات من الراكبين دون قلوع ولا مجاديف. وقد اختار الشاطر ممدوح جناحاً له في الباخرة على أفخم ما يكون من الروعة والجمال؛ فلما وصل إلى مصر ذهب إلى فندق (الكونتننتال)

- قوليها مرة أخرى! يخيل أنها رطانة يا شهرزاد!

الكونتننتال يا مولاي! اسم خان ولكنه فخم كأنه بيت وزير من الوزراء، وينزل فيه الملوك والأمراء والعظماء، وتملكه شركة من الأجانب يعرفون كيف يستغلون خيرات مصر دون أهلها الفقراء. وقد نزل الشاطر ممدوح في هذا الفندق وتقاطر عليه مندوبو الصحف من كل مكان

قال ملك:

- مندوبو الصحف! وما هي الصحف يا شهرزاد؟؟

قالت شهرزاد:

- هي جرائد يا مولاي تطبع كل يوم حاملة الأنباء والمعلومات والطرائف؛ أما كيف تطبع فقد اخترعوا آلة لطباعة الكلمات

- عجباً يا شهرزاد؟ كأنني أستمع إلى أقصوصة عن الجان!

- حاشاك يا مولاي! فالإنسانية في هذه الأيام التي أحدثك عنها تقدمت، والعقل البشري نضج فأصبح مخترعاً، ولكنه لم ينج من الجمع بين الخير والشر في اختراعه

- وكيف كان ذلك

- لقد اخترعوا كل ما يضمن أسباب الراحة والهناءة للإنسان، ولكنهم اخترعوا كذلك المدمرات والمهلكات. . . فإن قنبلة في حجم الكف قادرة على أن تدمر بناء من عشرين

ص: 52

دوراً. وهناك غازات سامة ما يكاد الإنسان يستنشقها حتى يموت، وقذائف من كل صنف تحملها الطائرات في الجو والسابحات في البحر

- وي! كأني أسمع عما يحدث في يوم القيامة. . .

- هذا هو الواقع يا مولاي. فالمدنية التي استحدثها الفرنجة تحمل عناصر هدمها. . . ولنعد إلى الشاطر ممدوح فإنه لم يكد يستقر به المقام حتى بث العيون والأرصاد تفتش له عن أخته التي تركها صغيرة

وبعد أيام عاد إليه عين من عيونه التي أطلقها يقول. . .

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح

فلما كانت الليلة الثالثة بعد الألف قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن عيناً من عيون الشاطر ممدوح عاد إليه يقول: إنه عرف مكان أخته (نفيسة)، ولكنه يعتذر عن التفوه بكلمة مما بلغه عنها

وعندئذ غضب الشاطر ممدوح واشتد غيظه، فأمسك بالجاسوس من رقبته يريد أن يخنقه قائلاً:

- أن لم تقل لي - أيها الكلب - ما هنالك قذفت بك من النافذة. . .!

وخاف الجاسوس على حياته عندما رأى روح الشر في المليونير فوعده بأن يقول. ثم راح يتحدث قائلاً: أنه لم يصر على الصمت إلا رغبة منه في عدم إزعاج الشاطر ممدوح، فإن أخته بعد وفاة والديها، تولى تربيتها أحد أقربائها، وقد ظلت في كفالته خمس سنوات ذاقت فيها الويل والعذاب من زوج قريبها التي كانت تضربها لأتفه الأسباب. . . وأخيراً، هربت من ذلك الجحيم، سارت على وجهها حتى لقيها ذئب بشري. . . فاختطفها وراح يعلمها السرقة، وهي صغيرة لا تكاد تميز. . . ثم كبرت ونضجت أنوثتها. . . فتزوجت أفاقاً راحا معاً يغامران في الحياة ويتظاهران بالوجاهة والأناقة. . .

وبعد أن سمع الشاطر ممدوح هذه المعلومات استغرق في سبات عميق. . . ثم انهمرت دموعه على خديه، وأصبح كالمجنون لا يستقر على حال. وأخيراً فكر في طريقة، فدعا إلى مأدبة ساهرة، وما حل موعدها حتى كانت الموائد قد نسقت، وأقداح الشراب قد اعتدت. . . شراب: الكونياك والويسكي والشمبانيا والبيرة وما هنالك من أصناف. . .

ص: 53

قال الملك:

- ما هذه الأسماء يا شهرزاد؟

- أسماء لأشربة يا مولاي اخترعها الفرنجة للخمر وكلها مسكر والعياذ بالله. ثم زين مكان الحفلة بالثريات الكهربائية، والأوراق الملونة، ووقف الخدم في ثيابهم الزاهية. . . وما حان الموعد حتى توافد المدعوون من كل جانب في ثياب السهرة. . .

- وكانت السيدات مزدانات بالحلي، وقد كشفت كل واحدة عن مفاتنها، فبدا جسدها العاري وصدرها المكتنز. . .

- قال الملك:

- أمام الناس!

- أجل يا مولاي أمام الناس، فما من ضير في هذا بعد أن شاع السفور وتواضع الناس على اختلاط الجنسين، وحتى المصريات كن بهذه الأزياء. ثم دار الرقص فتخاصر الجنسان كل رجل مع سيدة يرقصان (الرومبا) و (الفوكس تروت)

قال الملك:

- عجب!. . . وهل يرقص الرجال!

- فأجابت شهرزاد:

- نعم!. . . إنهم يرقصون طوعاً للمدنية الحديثة التي ترى في الرقص نوعاً من أنواع الرياضة

وعندئذ أشار الجاسوس للشاطر ممدوح على سيدة ومعها رجل يرقصان. وقال له:

- هذه أختك. . . والذي معها زوجها وهو أكبر محتال في الوجود

وأقترب ممدوح من أخته، فجأة أطفأت الأنوار، وبعد قليل أضيئت، وتفقد سيدات كثيرات حليهن فلم يجدنها، وكان ممدوح قد رأى أخته وهي تخفي في حقيبة يدها حلياً، فحار في أمره لا بد أن تفتش، ولا بد أن تظهر أنها سارقة، فهل ينقذها. ويعمل على خلاصها لأنها أخته، أم يتركها تفضح دون أن يكشف لها عن حقيقة نفسه!

تنازعته عواطف مختلفة وتآمرت عليه الانفعالات الشديدة هل ينقذها؟ هل يتركها؟ هذان هما السؤالان البارزان في رأسه؟ وأخيراً راح يعمل على تنفيذ أحد الاقتراحين اللذين

ص: 54

عرضا في ذهنه

وأدرك شهرزاد الصباح فسكت عن الكلام المباح.

محمد علي غريب

ص: 55