الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 43
- بتاريخ: 30 - 04 - 1934
أحاديث الأسبوع.
. .
للدكتور طه حسين
كان جو القاهرة قلقاً مضطرباً أثناء الأسبوع. يذكر الشتاء المدبر فيستحضر بعض أرواح البرد، ويلمح الصيف المقبل فيسرع إلى بعض بشائر القيظ. وكان النهار ضعيف الذاكرة جداً، محى الشتاء من نفسه محواً على قرب عهد الشتاء. وكان الليل وفياً بعض الشيء، قوي الذاكرة إلى حد ما، رفيقاً بالناس بعض الرفق، كأنما كان يشفق عليهم من قسوة النهار ونسيانه للعهد، وزهده في الأمس وتهالكه على غد. فكان يثير لهم بعض هذه النسمات الهادئة الحلوة التي تغرق أحياناً في الهدوء والخفة حتى توشك أن تكون لاذعة، وحتى تلفت الناس إلى أن من الخطر أن يخونوا عهد الشتاء كما خانه النهار، وأن يتهالكوا على عهد الصيف كما تهالك عليه النهار، وأن يتخففوا من ثيابهم، ويتهاونوا في الاحتياط والحذر من هذه الأرواح القليلة الخفية المغرقة التي تتعلق بشعاع من أشعة القمر، أو بنفس من أنفاس النسيم، والتي لا تكره أحياناً أن تمس المهملين مسا خفيفاً، فتعرضهم للأذى، وتحملهم من الآلام جهداً ثقيلاً.
وكان الناس، أو بعبارة أدق، كان الأدباء يسايرون الزمان كدأبهم في كل حين وفي كل بيئة. كانوا يفترون للنهار وينشطون لليل، كانوا يثقلون للظهر، ويخفون لمغرب الشمس، كانوا يؤدون أعمالهم خامدين هامدين في الضحى، أو يتخذون شكل الذين يؤدون أعمالهم وهم لا يؤدون منها شيئاً. فإذا ألقت الشمس يداً في كافر كما كان يقول لبيد، خفت الأجسام، ونشطت النفوس، واتسعت الرئات للهواء، وتفتحت العقول والأذهان للخواطر، وانطلقت الألسنة بالحديث، ولم تكن أحاديث الأدباء في هذا الأسبوع قليلة الخطر، ولا ضئيلة الشأن، ولا هينة الأمر على المتحدثين بها من الأدباء، والمتناقلين لها من غير الأدباء، فهم قد بدءوا أحاديث الأسبوع بهذا الاجتماع الذي ختم به الأسبوع الماضي، والذي كان عند جماعة (الاسيست) وقصد به لا أقول إلى إحياء ذكر مختار، بل أقول إلى ذكر مختار ليس غير. وكان حديث الأدباء عن هذا الاجتماع طريفاً، لأنه لم يزد على أن ذكره وألم به دون أن يفسره أو يعلق عليه. وهل أحاديث غير الأدباء في مصر الآن خير من أحاديث الأدباء؟ فأنت تستطيع أن تلتمس النشاط عند رجال السياسة، أو عند أصحاب المال، أو عند غير
أولئك وهؤلاء من طبقات الناس، فأن استطعت أن تجده أو تجد صورة من صوره فأنت منصف حين تلوم الأدباء على القصور، وتعيبهم بالفتور. على أن شيئين لم يهملهما الأدباء حين تحدثوا عن هذا الاجتماع، إن كانوا قد تحدثوا عنه بالفعل أو خاضوا فيه حقا، ولم يكن هذا الحديث الذي أنقله عنهم خيالا فاترا فتور حياة الأدباء كلها في هذه الأيام. فأما أول هذين الشيئين: فهو أن هذا الاجتماع إنما كان أثراً من آثار الشباب، ومن آثار الشباب وحدهم. هم الذين فكروا فيه، وهم الذين دعوا اليه، وهم الذين ألحوا في الدعوة، فوفقوا إلى إكراه جماعة من الكهول والشيوخ على الاستجابة لدعوتهم، وظفروا من جماعة أخرى بالوعود والأماني التي لم يقدر لها الوفاء ولا التحقيق، ولم يظفروا من جماعة آخرين بوعود ولا أمنية، فضلاً عن الوفاء أو التحقيق.
وأما الشيء الثاني فهو أن هذا الاجتماع لم يحدث في الأدب حدثاً، ولم ينتج له جديداً، إلا كلمة طريفة قيمة مؤثرة، قالها صديقنا مصطفى عبد الرزاق. فأما ما دون هذه الكلمة فلم يكن شيئاً، حتى أن صديقنا مطران لم يستطع إلا أن يعيد على السامعين قصيدة رائعة بارعة من غير شك، ولكنها قديمة، أنشئت وأنشدت لاستقبال مختار حين عاد ظافراً يستقبل المجد. ثم استخرجت وأنشدت لوداع مختار حين استأثر به الموت، فولى يودع المجد ويودع الحياة والغريب أن هذا الاجتماع كان لتكريم الفن، ولتأبين المثال الأول في تاريخ مصر الحديثة، المثال الذي ابتكر من الآثار ما يقال أنه جميل رائع ينطق البكم ويثير حس الذين لا يثور لهم حس، ويفيض شعور الذين لا يفيض لهم شعور، ومع ذلك فهو لم ينطق أدباءنا - وما أكثر ما كانوا ينطقون - ولم يثر حسهم - وما أكثر ما كان يثور. ولم يفض شعورهم - وما أكثر ما كان يفيض. تساءل الأدباء عن مصدر هذا في السر أو في الجهر، في النوم أو في اليقظة، في الحقيقة أو في الخيال. فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح.
ثم مضى يوم ويوم من الأسبوع، وإذا الأدباء ينسون حديث مختار أن كانوا قد ذكروه، لأن حديثاً آخر قد فتحت لهم أبوابه، ومدت لهم أسبابه، وهو حديث صحيفة اضطرها حكم القضاء إلى الصمت. فتفرق كتابها، وانتشر أصحابها في الأرض يبتغون من فضل الله عليهم وعلى الناس، وسكت هذا الصوت، أو هذه الأصوات التي كانت تسمع مع الصباح
في كل يوم، والتي كانت تفتح للساسة والأدباء وأصحاب الاقتصاد والذين يلتمسون الأنباء فنوناً من القول وألواناً من الحديث. تحدث الأدباء عن هذا الحدث الأدبي السياسي، في السر أو في الجهر، في النوم أو في اليقظة، في الحقيقة أو في الخيال. وتساءلوا ما باله لم ينطق الأدباء بشيء، فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح.
ثم مضى من الأسبوع يوم ويوم ويوم. وإذا حفل يقام واجتماع يحتشد له الناس في ملعب من ملاعب التمثيل، وإذا خطب تلقى مختلفة ألوانها، متباينة أشكالها، وإذا شاعر يكرم بهذا الاجتماع الضخم، وبهذا الاحتفال الرائع، وبهذه الخطب الطوال. وإذا الأدباء - استغفر الله - بل الشعراء منهم خاصة، يتحدثون بهذا الحدث الأدبي، ويتناقلون أنباءه، ويفسرونها ويؤولونها، في السر أو في الجهر، في النوم أو في اليقظة، في الحقيقة أو في الخيال. ثم يتساءلون ما بال الشعراء لم يشاركوا في تكريم الشاعر، فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح.
وأنا أعترف بأني لم أكره هذا الجواب، ولم أضق به، فحب النوم والإغراق في الراحة شر، ولكن بعض الشر أهون من بعض وأنا أعترف بأني أوثر هذا الجواب على جواب آخر بغيض، لا أحب أن أسمعه ولا أن يسمعه غيري، ولا أن يكون هو المصور لحقيقة الأمر. وقد كان يهمس به بعض الناس الذين يفترون الكذب على الله وعلى الناس، فكانوا يقولون وليتهم لم يقولوا: إنما تثاقل الأدباء والمثقفون من ذكر مختار لأن ذكر مختار شيء يخاف، وكانوا يقولون وليتهم لم يقولوا: إنما سكتت أصوات الأدباء عن صمت أولئك الكتاب، لأن التعرض لصمت أولئك الكتاب أو نطقهم شيء يخاف، وكانوا يقولون وليتهم لم يقولوا: إنما ثقل الشعر على تكريم العقاد، لأن تكريم العقاد شيء يخاف من جهة، وشيء يشق على الشعراء من جهة أخرى. وقد استقر الخوف على أحد جناحي الشعر، واستقرت المنافسة على جناحه الآخر، فظل المسكين جاثماً على الأرض، لا يستطيع أن يرقى في الجو، ولا أن يسبح في الهواء.
أما أنا فلم يعجبني الجواب الأول، لأني رجل لا أحب النوم، ولا أستريح إلى الراحة، ولم يعجبني الجواب الثاني، لأنه كذب كله، أملاه سوء الظن وحب الكيد. ولهذا أعرضت عن أحاديث الأدباء في هذا الأسبوع، وتحدثت إلى نفسي، وإلى نفسي وحدها، بحديث لا صلة
بينه وبين الأدب، ولا صلة بينه وبين السياسة، ولا صلة بينه وبين شيء مما يعنى به الناس الممتازون في هذا البلاد الآن، وهو حديث المنجمين. لا تعجب وتأخذك الدهشة، فقد فكرت في المنجمين وأطلت التفكير. ألم تزعم لنا الصحف أن السلطان يطارد التنجيم والمنجمين في مصر؟ فما يعني أن أفكر في التنجيم والمنجمين وأنا أقرأ في الصحف الأوربية أن التنجيم ينهض في أوروبا بعد كبوته ويستيقظ بعد نومه الطويل، ويسترد مكانته العليا في قصور الملوك ودواوين الوزراء، أستغفر الله، بل في ميادين القتال، بل في الجامعات أيضاً. فهذه صحيفة فرنسية - النوفيل ليترير - تحدثنا بأن صاحب الجلالة جورج الملك الإمبراطور، قد عنى بالتنجيم وحديث المنجمين، فأبى أن يسافر أبنه إلى أستراليا في يوم كان المنجمون يخافون منه الشر، واحترقت فيه طيارة فرنسية كانت تحمل حاكم الهند الصينية العام.
والصحيفة نفسها تحدثنا بأن الزعيم الإيطالي العظيم يحفل بالتنجيم والمنجمين، كما يحفل بالسياسة والساسة. وهي تحدثنا بان الألمانيين كانوا قد ألحقوا بقيادتهم العليا أثناء الحرب منجمين، وكانت كلمة هؤلاء المنجمين مسموعة، وكانت وعود المنجمين لقواد الألمان أصدق من وعيد المنجمين للمعتصم بن الرشيد. والصحيفة نفسها تحدثنا بأن الألمانيين أنشئوا كرسياً للتنجيم في جامعة برلين سنة 1918. ثم الصحيفة نفسها تلوم فرنسا لأنها لا تعني بالتنجيم والمنجمين عناية الإنجليز والإيطاليين والألمان، فكيف لو علمت هذه الصحيفة أن المصريين يعدون التنجيم أثماً، ويرون المنجمين جماعة من المتشردين؟ إلا يؤذن لنا في أن نلفت السلطان إلى أنه ليس من الضروري أن يكون بيننا وبين الأوروبيين هذا الأمد البعيد فنحارب التنجيم ونعرض عنه حين يؤيده الأوروبيين ويقبلون عليه. أليس من الخير أن يكون لكل وزارة منجمها؟ بل مالنا وللوزارات ومنجميها؟ ألسنا نرى أن التحدث إلى النفس في التنجيم والمنجمين خير من التحدث أليها في الأدب والأدباء؟
طه حسين
حكمة غاندي
وضع أحد كتاب اليونان الشباب ترجمة للمهاتما غاندي أسماها (الحياة المقدسة) ونحن نقتبس منها حديثاً لغاندي يقارن فيه بين عصر الآلة وبين الحياة في عصر الصناعة اليدوية التي يحدثنا عنها في تأثر وحنين:
كانت حياتنا في الأزمنة الخالية، قبل أن يحل بيننا هذا الوحش وأعنى به الآلة، حياة إنسانية جميلة. فقد كان عندنا متسع من الوقت للتفكير والخلو إلى النفس في المعابد صباحاً، وتحت ظلال الأشجار في هجيرة الظهر، وفي أفنية المنازل مساء، حتى في أوقات العمل ونحن جلوس إلى المناسج أو قائمون في المزارع نفلح الأرض، نجد الوقت للإنشاء وللتوجه بأرواحنا إلى ملكوت الجمال والحق،
أما أخواتنا فأنهن قبل الشروع في أعمالهن في الحقول، يضفرن أكاليل الزهر ويعلقنها على قرون البقر، فلم يكن للزمن عندنا في يوم من الأيام من المعنى ماله اليوم عند الأوروبيين. ولم يعلمنا واحد من حكمائنا هذا المبدأ المنكر (الوقت من ذهب) فلم نكن من الهيام بالذهب بحيث نضحي كل وقتنا من أجله. لأن العمل في اعتقادنا هو خلق الجمال والتوجه بأرواحنا إلى الله.
وأني لأذكر أن أبوي في صغري أخذاني معهما لأشهد كيف يكون بدء اشتغال الفتى بصناعة أبيه. فقد كان الفتى أول الأمر يمضي للاغتسال في النهر ليكون لجسمه طهارة نفسه. ثم تأخذه أمه إلى المعبد. ويكون أبوه وشيوخ القرية في انتظاره حول النار المقدسة وعند ذاك يسأله أبوه:
- أتريد استئناف صناعتي؟ أتريد أنت أيضا أن تصبح حداداً؟
- نعم يا أبت.
ثم يقسم اليمين المفروضة:
(أقسم بالنار وبأجدادي، وبالله الحي القيوم، أني راغب في أن أكون حداداً، وأني راغب في خلق الجمال والمنفعة للناس) وإذ ذاك يقدم له أبوه (أخوته الصغار) ويعني بها الأدوات، لأنها له بمثابة الخلان الأوفياء في حياته العاملة الكادحة.
ويتناول الفتى محراك الجمر والمطرقة والكير والميدع من أدم وأنه يتناولها بحنان كأنها أحياء، ويقول مجدداً بيمينه:
(أقسم أني لا أدنس هذه الأدوات. وإنما استخدمها في خلق الجمال والمنفعة للناس).
ثم يستطرد غاندي في ذكرياته:
لقد عرفت العهد السعيد الذي كان فيه ناسجو الشيلان مثلاً في عداد الفنانين، أي صنو المثالين والرسامين سواء بسواء.
وكانوا يجلسون صبيانهم حول المنسج يمسك هذا كبة الصوف الأزرق، والآخر والأحمر، وذاك الصوف المعصفر، وذلك الأخضر. . .
وفي صباح كل يوم قبل البدء في العمل، يرفع المعلم الشيخ عصاه. فيسود السكون مطلقاً شاملاً. هذه آونة التأمل، ثم تعقبها الصلاة. فيبتهلون إلى الله أن يعينهم على صنع ما هو جميل ونافع للناس. فإذا فرغوا من الصلاة، أخذوا في الإنشاد على فريقين سائل ومجيب:
- ماذا تنسجون؟ ننسج السماء ونجومها
- ماذا تنسجون؟ ننسج الأرض وزهرها
- ماذا تنسجون؟ ننسج البحر وحيتانه وسفائنه
والصبيان يداولون خيوط الصوف، كل في دوره، في حركة موزونة موقعة. والمعلم جالس في وسطهم يضبط الإيقاع، وينظم بعصاه الصغيرة حركة الذهاب والإياب للخيوط المتداولة زرقاً وحمراً وخضراً. . فتتولد شيئاً فشيئاً قطعة موسيقية من النسج عجيبة التأليف من الشيات والألوان.
ويتجدد هذا العمل كل يوم بين الصلاة والإنشاد
وبعد أسابيع ثلاث يتم الشال. وإذ ذاك يستعرضه كل صبي ويقلبه بين يديه معجباً بجماله، هذا صنيعهم أجمعين. وهم يحبونه كأنه مخلوق حي لا تقوم نفاسته بثمن، فيرمقونه طويلاً بأنظارهم، ويمسحون عليه بأيديهم، ولا تكاد تطاوع أنفسهم على التخلي عنه
ويقول المعلم الشيخ: - هيا أطلقوا عليه اسماً.
فيقول الشيخ: - بل نسميه (البهيج) أليس هو وليد البهجة وصنع الفرحة والحبور؟
فيهتف الجميع استحساناً، ويمضي الشال في طريقه إلى الدنيا الواسعة، ويأخذ المعلم وصبيانه من جديد في عملهم. وهكذا في كل ثلاثة أسابيع يطلعون الدنيا آية جديدة.
عبد الرحمن صدقي
الموت والحياة
للأستاذ أحمد أمين
أبت علىَّ نفسي أن تكتب اليوم إلا في الموت، وهل نتاج الكاتب إلا قطعة من نفسه؟ يفرح فيرقص قلمه، وينقبض فيسبل قلمه بالدمع، وقد كرهت للقراء هذا العنوان فأضفت إلى الموت الحياة، ولست أدري لمَ يلطف ذكر الحياة الموت، ولا يلطف ذكر الموت الحياة
دعا إلى هذا أني فجعت هذه الأيام بموت أصدقاء كأنهم كانوا على ميعاد، وكأن لموت الأصدقاء أيضاً موسماً كسائر المواسم وإن لم يحدد زمنه ويعرف زمنه ويعرف مداه.
تنفك تسمع ما حيي
…
ت بهالك حتى تكونه
والمرء قد يرجو الحيا
…
ة مؤملاً والموت دونه
وكان آخرهم صديق استعجل الموت فأنشب في المنية أظفاره قبل أن تنشب فيه أظفاره، وقطع حظه من الدنيا قبل أن تستوفي حظها منه، لم يصبه سهم القضاء فأخذ السهم منه ورماه بنفسه في نفسه فمضى سابقاً أجله - غربت شمسه ضحى، واستكملت ساعته دقاتها قبل ميعادها
كان سريّ النفس، نبيل الخلق، طيب العنصر، يغبطه كل من عرفه على ما وهب من خلال، وما تهيأ له من وسائل الرفاهة وأسباب النعيم، وما دروا أن الأمر في السعادة والشقاء إلى ما في داخل النفس لا ما في خارجها، وأن نفوساً قد تشقى في النعيم، ونفوساً قد تسعد في الشقاء.
جزعت لموته واستكنت للعبرة، وفقدت بفقده السلطان على دمعي وقلبي، فرحمه الله ورحمني.
ولكن ما الجزع من الموت وقد طال عهدنا به، وعرفه بنو آدم منذ عرفوا الحياة. ولمَ لم يألفوه كما ألفوه كثيراً من المر حتى إعتادوه، وليس الموت في ذاكرته مراً ولا أليماً، وكما قال أحد الرواقيين (إن الموت هو وحده المصيبة التي لا تمسنا، ففي حياتنا لا موت، وإذا جاء الموت فلا حياة) وقد نظم المتنبي هذا المعنى فقال:
والأسى قبل فرقة الروح عجز
…
والأسى لا يكون بعد الفراق
ولكن أعظم الناس شأن الموت لما أحاط به من ظروف، وما أتصل به من خيالات، وأثير
حوله من رعب بالغ بعض من رجال الدين في تفظيع الموت، وهولوا من شأنه تهويلاً تنخلع له القلوب، وتقشعر منه الجلود، لأنهم رأوا في ذلك درساً قاسياً يردع المجرم عن أجرامه، ويزع الآثم عن أثمه، ولكن أخشى أن يكونوا قد أفرطوا إفراطاً شل النفس وأشاع فيها اليأس. وأنهم - وقد عهد إليهم أن يعادلوا بين الترغيب والترهيب - قد أرهقوا كفة الترهيب حتى ثقلت وهوت، وخففوا كفة الترغيب حتى شالت وعلت - ولعل هذا كان من الأسباب التي جعلتنا نتسخط الحياة ونتبرم بها. ثم ما هذه الأخلاق التي هي أشبه ما تكون بأخلاق العبيد! لا ندعى للخير إلا بالعصا، ولا تطلب منا الفضيلة إلا بالسياط؟
أليس خيراً من ذلك أن يحدونا إلى الخير الحب. لا أن يسوقنا إليه الرعب؟
ثم زاد الموت سوءاً ما أحاطه به الأحياء من مظاهر الفزع والألم، فصراخ تنفطر له المرائر، وبكاء يذيب لفائف القلوب، والناس حول الميت بين ساهم البصر، ومطرق الطرف، ومكروب النفس، وناكس الرأس، يتأوه الآهة تنقصف منها ضلوعه، ويزفر الزفرة تتصدع منها نفسه - لست أظن أن هذا وأمثاله من طبيعة الإنسان، قد يكون من طبيعته الحزن على فقد القريب والصديق، ولكن ليس من طبيعته الجزع، فلو اعتاد قوم أن يقابلوا الموت كما يقابلون أية ظاهرة طبيعية في الحياة لزال الجزع وخف الألم، كما حدث عند بعض الأمم، استطاعوا أن يضبطوا عواطفهم وينفقوا من الحزن بقدر، وأن يرددوا قول القائل (مات الميت فليحي الحي) وتفاخروا بالجلد كما نتفاخر بالجزع، وتواسوا بالثبات كما نتواسى بالهلع.
ثم كان من الأدباء ما كان من رجال الدين: حزنوا للشيب إذ فقدوا الشباب، أكثر مما فرحوا بالشباب يوم أن كان، ووقفوا في مراثيهم موقف النادبات في المآتم، يعجبون كيف كان الموت وكيف نزل، ويلهبون عواطف الناس، ويثيرون أشجانهم، ويعدون أقدرهم على القول وأقربهم إلى الإجادة من عرف كيف يستخرج الدمع ويستنزف الشؤون، فكان من هذا وذاك إفساد عواطف الناس نحو الموت ودفعهم إلى التغالي في المشاعر.
ثم أخطأ الناس في القياس، فظنوا أن النفس تألم في الحياة الأخرى بما تألم به في الحياة الدنيا. ظنوا أن القبر يوحش بعزلته كما يستوحش الحي من عزلته، وأن القبر يرهب بضيقه وظلمته، كما يتبرم الحي بضيق المكان وظلمته، وأن الميت يألم من البرد القارس
كما نألم، ويضجر من الحر القاسي كما نضجر، وغاب عنهم إدراك الفرق بين الحياتين، والاختلاف الواسع بين الطبيعتين
إذا افترقت أجزاء جسمي لم أُبَلْ
…
حلول الرزايا في مصيف ولا مشتى
أن تفظيع الموت يدعو إلى نوع من الحياة لا هو حياة ولا هو موت، ولعل كثيراً من رذائل الشرق سببه ما اعتاده قادتهم من تهويل الموت وتفظيع شأنه، وإلا فما الذي يجعلنا نرضى بالعيش الذليل بين أحضان آبائنا وأمهاتنا ولا نتطلب العيش السعيد بالهجرة والارتحال؟ وما الذي يدعونا إلى الفرار من المغامرة في شؤون الحياة، والركون إلى عيش الدعة والاطمئنان، وإلى كثير من أمثال ذلك؟ لا شيء إلا التغالي في الخوف من الموت، للتغالي في تهويل الموت.
لقد جل خطب الحياة أن كان كلما مات قريب أو صديق ذابت النفس حسرات، وأظلمت في وجهنا الدنيا، وتطرق ألينا اليأس.
لا. لا. أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وتباً لهؤلاء الذين يخلعون قلوبنا بالموت فنكون طعمة لمن يحبون الحياة.
ولنبدأ دعوة جديدة قوامها العمل للحياة و (لا بأس بالموت إذا الموت نزل).
أحمد أمين
الانقلاب الجمهوري في أسبانيا
3 -
حرب الريف إلى قيام الجمهورية
بقلم الأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت حوادث مراكش كابوس السياسة الأسبانية منذ نهاية الحرب. وكان لها أكبر أثر في تطور الحوادث التي انتهت بظفر الديموقراطية وقيام الجمهورية، وما زلنا نذكر تلك الحرب التحريرية العجيبة التي شهرها عبد الكريم زعيم الريف على أسبانيا مدى أعوام، ودحر خلالها الجيوش الأسبانية مراراً، وكاد يظفر بسحق سيادة أسبانيا في شمال مراكش لولا أن تألبت عليه قوى الاستعمار أخيراً واتحدت فرنسا مع أسبانيا على محاربته وسحقه، فكان ما أراد الاستعمار.
وكانت أسبانيا تعاني في بلاد الريف (شمال مراكش) منذ احتلالها متاعب جمة من جراء ثورة القبائل وتضطر دائماً إلى الاحتفاظ بجيش ضخم، ولكن أول نكبة حقيقية نزلت بالجيش الأسباني في بلاد الريف، وقعت في أنوال سنة 1921، ففيها هاجم عبد الكريم زعيم الريف مراكز القوات الأسبانية في تلك المنطقة، وكانت تبلغ زهاء تسع عشرة ألفاً، فمزقها واستولى على مراكزها وذخائرها، وقتل منها نحو ستة عشر ألفاً، وفر الباقون في مختلف الأنحاء، وانتحر قائدها الجنرال سلفستر. وكان محمد بن عبد الكريم الخطابي من أبناء بني أراغيل، رباه أبوه تربية حسنة، ودرس اللغة الأسبانية، والتحق بوظيفة في الإدارة الأسبانية بمليلة؛ وفي سنة 1919 وقعت بينه وبين الجنرال سلفستر مشادة حادة وأهانه القائد، ففر من مليلة وهو يعتزم الانتقام ولحق به أخوه (محمد أيضاً) وهو مهندس درس في أسبانيا وكانت القبائل يومئذٍ تتحفز للانتقاض، وكانت قد تلقت أيام الحرب كثيراً من الأسلحة والذخائر التي هربت بواسطة الألمان، فكان ذلك أكبر عون لها على مقاومة القوات الأسبانية وإزعاجها من وقت لآخر. فلما فر عبد الكريم من مليلة داعياً إلى الثورة ألتف حوله عدة مئات من الرجال الأشداء، واستطاع بهذه القوة الضئيلة أن يدبر ذلك الهجوم الجريء على المراكز الأسبانية في أنوال وأن ينزل بها تلك الكارثة الفادحة (يوليه سنة 1921)، واستولى عبد الكريم على كميات هائلة من الأسلحة والذخائر مكنته من المثابرة في الحرب أعواماً. وكان للنكبة وقع عميق في أسبانيا، فاضطرم الرأي العام سخطاً
واضطرت وزارة سالازار إلى الاستقالة، وألفت وزارة محافظة برياسة السنيور مورا. ولكن الرأي العام ظل على اضطرامه، وارتفعت الصيحة بطلب التحقيق في الكارثة، وحملت الدوائر العسكرية على البرلمان باعتباره مسئولاً عما وقع من الاضطراب والخلل في الخطط والتدابير العسكرية، وأرسل إلى مراكش جيش ضخم يبلغ مائة وأربعين ألفاً لتدارك الموقف وإنقاذ القوات المحرجة، وانتدبت الوزارة لجنة للتحقيق، ولكنها اضطرت إلى الاستقالة قبل أن تقوم اللجنة بمهمتها، فقامت وزارة محافظة أخرى برآسة السينور سانكيز جويرا، ثم تلتها وزارة حرة برآسة جراسيا بريتو؛ وفيها تولى وزارة الحربية موظف مدني هو الكالا زامورا الذي يتولى اليوم رآسة الجمهورية الأسبانية، ولكنه استقال غير بعيد وخلفه جندي هو الجنرال ايزبورو، وكان من أنصار العسكرية الرجعية وحلفائها، ومن خصوم النظام الدستوري، فأخذ يعمل بكل ما وسع لتوطيد النفوذ العسكري في شئون الحكم، وكان هذا النفوذ يشتد يوماً فيوماً، تغذية حوادث مراكش، وما أثارته من الاضطراب.
وفي خريف سنة 1923 تمخض النضال بين العسكرية والديموقراطية عن نتيجة حاسمة. وذلك أن الدون مجويل بريمو دى رفيرا حاكم قطلونية العسكري أعلن الثورة ضد الحكومة وهدد أعضائها، وأيدته السلطات العسكرية في مدريد وسرقسطة، وأذاع في البلاد منشوراً نادى فيه بتحرير البلاد من الساسة المحترفين الذين يحملون تبعة ما أصاب البلاد من محن، وأعلن قيام إدارة عسكرية في مدريد، لإقالة البلاد من عثراتها وحل المسألة المراكشية (أوائل سبتمبر سنة 1923). وكان الفونسو الثالث عشر يعتقد أنه يستطيع انتهاز هذه الفرصة لإقامة الحكم المطلق واستئثار القصر بجميع السلطات ومن ورائه الجيش، ولكن زعماء الجيش أصروا على أن يتولى زعيم الثورة الجنرال دي رفيرا الحكم. وفي 15 سبتمبر دخل دي فيرا مدريد، واحتل دور الحكومة، وسيطرت العسكرية في الحال على كل شيء، وأنشئت الإدارة العسكرية وعلى رأسها دي رفيرا، وأعلنت أن البلاد في حالة حرب، واتخذت إجراءات شديدة لسحق كل معارضة، وعطلت البرلمان، وفرضت الرقابة على الصحف، وذهب وفد من زعماء الساسة الأحرار والمحافظين إلى الملك يناشده صون الحياة النيابية فرد، بخشونة. وقد وصف هذا الطغيان العسكري الجديد يومئذٍ بأنه
(نظام يقوم على القوة بأكثر ما يقوم على السلطة، ذو نزعة مركزية قوية، يعتمد على مؤازرة الجيش، ويميل إلى عناصر الأحبار والكنيسة، ويصادق كبار الملاك، ويعطف على الاشتراكية في خصومتها للحركة النقابية) وتولى الجنرال دي رفيرا جميع السلطات والوزارات على مثل السنيور موسوليني وقضى على جميع الحريات الدستورية التي تمتعت بها أسبانيا أكثر من قرن، واستقبلت أسبانيا عهداً جديداً من الحكم الحديدي.
وكانت مسألة مراكش أهم وأخطر المسائل التي عنيت بها الإدارة العسكرية؛ وكان مركز أسبانيا يزداد حرجاً في الريف، وتستنزف مواردها تباعاً، ويتساقط جندها أمام هجمات عبد الكريم فرأى دي رفيرا أن يلجأ إلى الصراحة والجرأة في حل المسألة المراكشية، وقرر أن تنسحب القوات الأسبانية من المناطق الداخلية وأن تمتنع فيما يلي الشاطئ؛ وهكذا استطاع عبد الكريم أن يسيطر على إقليم الريف كله ما عدا تيطوان ومليلة، واجتمعت حوله القبائل، وأضحى قوة يخشى بأسها في شمال مراكش؛ ولم يبق استقلال الريف أمنية مستحيلة، ولم تبق على تحقيقها سوى مرحلة يسيرة، ولتكن الحوادث تطورت بشكل لم يكن يتوقعه عبد الكريم ولم تكن تتوقعه أسبانيا ذاتها. ذلك أن الفرنسيين تقدموا من حدود الريف الجنوبية، وخشى عبد الكريم عواقب هذا التقدم، فرأى أن يحول شطراً من اهتمامه إلى هذه الناحية. وفي سنة 1925 نظم عبد الكريم هجوماً شديداً على مراكز تازة ووجده داخل الحماية الفرنسية، وأثخن في بعض القبائل الموالية للفرنسيين وهدد مدينة فاس، فارتاعت فرنسا لتلك المفاجأة، وكانت لا تزال تلقى في مراكش متاعب جمة؛ واعتزم الجنرال ليوتي حاكم مراكش العام أن يسحق تلك القوة الخطرة؛ وفاوضت فرنسا أسبانيا في تنظيم العمل المشترك في مراكش ورحب دي رفيرا بهذه الفكرة، ونظمت الدولتان خطة مشتركة لتطويق عبد الكريم وسحق قواته وبعثت فرنسا أثنين من أعظم قوادها وهما بتان ونولان إلى مراكش على رأس جيشه قوامه نحو مائتي ألف مقاتل مجهز بأحدث الوسائل والعدد، وأنزلت أسبانيا جيشاً كبيراً في الحسيمة، ونظم الجيشان بادئ بدء خطة الاتصال. وهكذا طوق الزعيم الريفي في مراكزه ولم يك ثمة شك في مصير تلك الحرب التي تثيرها دولتان أوربيتان على زعيم محلى يعتمد على آلاف قليلة من البدو ويستمد موارده وذخائره من أيدي عدوه، وأدرك عبد الكريم من شدة المعارك الأولى أن المضي في القتال عبث، وأن
الدائرة دائرة عليه بلا ريب، ففاوض الفرنسيين في التسليم بلا قيد ولا شرط، وفي 30 مايو سنة 1926 سلم نفسه إلى الجنرال بويشيت، ودارت بشأنه مفاوضة بين الحكومتين الفرنسية والأسبانية انتهت بتقرير نفيه مع أسرته إلى جزيرة رينيون من أعمال مدغشقر؛ وانهارت تلك الحركة التحريرية البديعة التي نظمها هذا الزعيم البربري الباسل، وعاد الاستعمار الأسباني فوطد سيادته في الريف، ووطد الاستعمار الفرنسي سيادته في شمالي مراكش؛ وخسرت الدولتان في تلك الحرب آلاف الرجال وملايين الأموال، ولكن الاستعمار لم يكن ليحجم عن بذل مثل هذه التضحيات الهائلة في سبيل القضاء على ثورة تحريرية تهدد مستقبله في تلك الأنحاء.
وهكذا حلت المسألة المراكشية. وكان حلها عاملاً قوياً في تأييد نفوذ الدكتاتورية العسكرية وهيبتها. وفي عهد الدكتاتورية أيضاً تحسنت الأحوال الاقتصادية. ولكن وطأة هذا النظام المطلق لبثت تثقل كاهل الشعب الأسباني؛ وكان ظمأه إلى الحريات الدستورية التي تمتع بها مدى قرن، يشتد كلما اشتد ضغط الطغيان العسكري؛ وكان هذا السخط ينفجر من آن لآخر في قطلونية وبعض الأنحاء الأخرى عن ثورات محلية كان دي رفيرا (أو المركيز دي استيلا كما لقب بعد) يقمعها بمنتهى الشدة والقسوة؛ وكانت الدكتاتورية مع ذلك تقوم دائماً على بركان مضطرم، حتى أن دي رفيرا أضطر أن يضع أسبانيا تحت الأحكام العسكرية (سنة 1926). وفي أوائل سنة 1927 حاول زعيم قطلونية المنفى الكولونيل ماشا أن يعبر الحدود الفرنسية مع جماعة كبيرة مسلحة من أنصاره ليسير إلى قطلونية؛ ولكن قبض عليه وعلى كثير من أصحابه عند الحدود. ورأى دي رفيرا أن يهدئ السخط العام بتخفيف وطأة النظام. وأن يعود إلى ظاهر من الحكم الدستوري، فأصدر في سبتمبر سنة 1927 قانوناً بإنشاء جمعية للشورى. ولكن هذه الجمعية لم تكن لها أية سلطة حقيقية، ولم تكن إلا ستاراً فقط تستر من ورائه الإدارة العسكرية. وعلى ذلك فقد فشلت هذه المحاولة، ولبثت المعارضة على شدتها واضطرامها. وكان الجيش أيضاً قد بدأ ينقلب على دي رفيرا، أولاً لأنه لم يوافق على مسلكه في المسألة المراكشية حيث قرر الانسحاب أولاً عن المناطق التي كان يحتلها الجيش، ثم تساهل بعد ذلك في الاتفاق مع فرنسا، وثانياً لأنه كان يبالغ في الاستئثار بالأمر ولا يرى في الجيش سوى أداة لتحقيق سياسته؛ وكان
الفونسو الثالث عشر من جهة أخرى يشعر بوطأة هذا النظام الذي نزع العرش كل سلطاته. ومنذ سنة 1928 أخذت بوادر السخط والانتقاض تبدو في الجيش؛ وفي سنة 1929، ثارت فرق المدفعية بزعامة السينور سانكيز جويرا الزعيم المحافظ الذي تولى رياسة الوزارة فيما قبل؛ وانتهز الفونسو الثالث عشر هذه الفرصة فأصدر أمراً بعزل بريمودي رفيرا وحل الإدارة العسكرية؛ ولم يجد دي رفيرا سبيلاً للمقاومة فأذعن وغادر منصة الحكم بعد أن لبثت ستة أعوام يثقل كاهل الشعب الأسباني بطغيانه وعسفه. وفي مستهل سنة 1930، ألفت حكومة جديدة برياسة الجنرال برنجير، لتعمل على إعادة الحكم الدستوري؛ وهنا تنفس الشعب الصعداء، وتقدم زعماء الأحزاب المعارضة (المحافظون والأحرار والجمهوريون) بطلب إجراء الانتخابات العامة، فعارضت الحكومة في أجرائها. واشتد السخط حينما رأى الشعب أن الحكومة الجديدة لم تأت إلا لتستمر في تأييد نظام الطغيان والحكم المطلق. وفي ديسمبر سنة 1930، شبت ثورة جديدة، ولكن الجنرال برنجير استطاع أن يسحقها في الحال بيد أنه لم يلبث أن استقال؛ وخلفه الجنرال آزنار على رأسه حكومة شبه عسكرية أيضاً؛ وهنا تقدم الكونت رومانونيس زعيم الأحرار الذي تولى رياسة الوزارة مراراً من قبل، إلى الوزارة الجديدة، بنصيحة رآها كفيلة بحل الأزمة وتهدئة الخواطر، وهي أن تجرى الانتخابات البلدية على الأقل ما دام إنها لا ترغب في إجراء الانتخابات العامة؛ فنزلت الوزارة عند هذا النصح، وأجريت الانتخابات البلدية في جميع أسبانيا في العاشر من أبريل سنة 1931. وكان يوماً حاسماً في تاريخ أسبانيا في العاشر من أبريل سنة 1931. وكان يوماً حاسماً في تاريخ أسبانيا الحديث؛ ففيه خرج الجمهوريون في جميع الدوائر بأغلبية ساحقة، وغمر التيار الجمهوري كل شيء في البلاد، فاستقالت الوزارة في الحال. ورأى الفونسو الثالث عشر أنه لم يبق سبيل للمقاومة، ولم تبق للعرش قوة يستند إليها، فبادر بمغادرة مدريد مع أسرته وخاصته، وعبر الحدود إلى فرنسا قبل أن تمتد إليه يد خصومه؛ ولكنه لم ينزل عن شيء من حقوقه. وفي الحال نودي في أسبانيا بسقوط الملكية وقيام الجمهورية؛ وأقيمت حكومة جمهورية احتياطية برياسة الكالا زامورا وزير الحربية السابق ورئيس الشعبة المحافظة في الحزب الجمهوري؛ وأعلن في الوقت نفسه قيام جمهورية في قلطونية على رأسها الكولونيل ماشا؛ وفي 28
يونيه أجريت الانتخابات البرلمانية العامة، فأسفرت كذلك عن أغلبية جمهورية ساحقة، وتوطدت دعائم الجمهورية الجديدة بتأييد البلاد كلها.
وهكذا انهارت دعائم الملوكية الأسبانية العتيدة؛ التي هي أقدم الملوكيات الأوروبية، والتي سطعت خلال قرون مديدة، وأخرجت ثبتاً حافلاً من الملوك العظام - ملوكية فرديناند الخامس وشارلكان وفيليب الثاني؛ تلك الملوكية التي لبثت تغالب العرب في أسبانيا ثمانية قرون، والتي انتهت بالقضاء على دولة الإسلام في الأندلس واسترجاع الوطن القديم كله. وهكذا ظفرت الديمقراطية الأسبانية ممثلة الشعب الأسباني باسترداد الحريات الدستورية كاملة شاملة بعد أن كاد يقضى عليها القضاء الأخير. وكان أول ما عنيت به الحكومة الجمهورية هو أن تضع لأسبانيا دستوراً جديداً لحماية المبادئ الجمهورية والحريات الشعبية، واضطلع الكورتيز (البرلمان الأسباني) بهذه المهمة منذ 14 يوليه وأتمها في ديسمبر؛ وكان من أهم المشاكل التي عالجها مسألة النظام الاتحادي الذي نشأ عن مطالبة قطلونية بالاستقلال الداخلي؛ وقد أقر الدستور هذا المبدأ، واعتبر أسبانيا جمهورية اتحادية واعترف باستقلال قطلونية الداخلي. وثمة مسألة خطيرة أخرى هي مسألة الكنيسة والدولة، وقد انتهى البرلمان بالموافقة على فصل الكنيسة عن الدولة (أكتوبر سنة 1931) ولكن هذا القرار أحدث أزمة وزارية، فاستقال السينور الكالا زامورا، وقامت وزارة جديدة برياسة الدون مانويل أزانا. وعانت أسبانيا خلال هذه الفترة كثيراً من المتاعب من جراء الثورات والمظاهرات المختلفة التي دبرتها أحزاب اليسار المتطرفة - الشيوعيون والاشتراكيون - ومن الاعتصابات العامة التي نظمت في كثير من أنحاء البلاد؛ وعانت الجمهورية الجديدة من جراء معارضة الكنيسة ودسائس الأحبار وفلول الملوكية؛ ولكن الحكومة الجمهورية أبدت حزماً وصرامة في قمع الفتن الشيوعية، وسحق دسائس الأحبار؛ وثار بين أسبانيا والفاتيكان خلاف كبير من جراء نزع أملاك الكنيسة ومطاردة الأحبار. وأصدرت الحكومة قانوناً خاصاً لحماية الجمهورية (20 أكتوبر) - وفي نوفمبر صدر قانون خاص باعتبار الفونسو الثالث عشر خارجاً على القانون وبوجوب مثوله ومحاكمته: وفي العاشر من ديسمبر أجريت الانتخابات لرآسة الجمهورية، فانتخب السينور أل لا زاموار أول رئيس للجمهورية الأسبانية الثانية. . وقد اضطرمت أسبانيا في الفترة الأخيرة بعدة ثورات وفتن
محلية ودبرت عدة مؤامرات ملكية، ولكنها أخفقت جميعاً: وفي العهد الآخر رأت حكومة الجمهورية أن تستعين على قمع الفتن بالتشريع الصارم فأصدرت قانوناً بإعادة عقوبة الإعدام، وكان من جراء ذلك جدل حاد في البرلمان بين الحكومة والمعارضة بزعامة السينور مورا وكادت تحدث، أزمة وزارية جديدة، ولكن السينور ليرو رئيس الوزارة الحالية استطاع أن يتلافى الأزمة، وصدر التشريع الجديد، وما زالت الجمهورية الفتية سائرة في طريقها تغالب كيد خصومها من قبل الملوكية والأحبار الذين قضت على سلطانهم وامتيازاتهم. ولا ريب أن في ظفر الديموقراطية بأسبانيا إبان تلك الأزمة العصبية التي تعانيها في بلاد أخرى مثل ألمانيا والنمسا، دليلاً على أن الديموقراطية ما زالت تتمتع بحيوية كبيرة وأنها إنما تجوز أزمة وقتية لا تلبث أن تعود بعدها إلى سابق توطدها وازدهارها.
محمد عبد الله عنان المحامي
هل لمصر طراز؟
للأديب حسين شوقي
يجب أن تكون أبنيتنا الخاصة والعامة على طراز وطني. إما على الطراز العربي وإما على الطراز الفرعوني، ولو أني أفضل الطراز العربي بنقشه الدقيق الأشبه بالدانتلا، وزجاج نوافذه الملون الجميل، لأن القاهرة الآن حاضرة العالم العربي أجمع. . كما أن الطراز الفرعوني لا يظهر بهاؤه إلا في البنايات الكبيرة الشاهقة؛ أما في المساكن الصغيرة فقد يضيع فيه حسنه. . والطراز العربي قابل جداً للتطور مع مقتضيات العصر من مراعاة الإضاءة والتهوية دون أن يفقد شيئاً من رونقه، فقد شاهدت في أسبانيا منازل خاصة بنيت على الطراز العربي المستحدث آية في الذوق. . أما الآن فنحن في فوضى - في تشديد الدور - تجد هنا بناء على الطراز الفرنسي، كما تشاهد بجانبه بناء على الطراز الإنكليزي. . وترى إلى جانب هذا وذاك بناء على الطراز الحديث. . قد تكون هذه الطرز كلها جميلة في ذاتها، ولكنها لا تناسب طبيعة البلاد ولا تقاليدها.
إن تعدد أشكال البناء في القاهرة يقضى على جمالها وعلى طابعها الشرقي الرائع. .
يجب إلا يكون تقليدنا للعرب تقليداً أعمى. . لماذا لا نحذو حذو اليابان التي تأخذ عن الغرب مخترعاته ومستحدثاته، دون أن تنزل عن تقاليدها؟ كم صدق الكاتب الفرنسي الشهير بيير لوتي الذي كان صديقاً حميماً للمرحوم مصطفى كامل باشا حين قال يحذرنا تقليدنا للغرب:
(تجنبوا الحثالة الغربية التي يغمرونكم بها حين تذهب جدتها عندنا. . حافظوا على آثاركم وعاداتكم ولغتكم الجميلة. . .)
هناك مشكلة أخرى. . مشكلة البنايات الأثرية القائمة في وسط القاهرة التي تعوق حركة العمران. . رأيي أن يحفظ منها الشيء النفيس ويحاط بمتنزه صغير أو ميدان. أما الباقي فيهدم بعد أن يؤخذ له شريط سينمائي دقيق يكون وثيقة تاريخية عن هذه الأحياء للأجيال القادمة. .
أما الفن الحديث وله أنصار كثيرون، فلم يستقر على حال بعد، ولا يزال فنانوه يتخبطون، ينقضون اليوم ما أبرموه بالأمس. وأوروبا نفسها تشكو من المبالغات التي حدثت في الفن
الحديث التي لا يقبلها ذوق ولا منطق. . واليك هذه الفكاهة التي قرأتها في إحدى الصحف الفرنسية نقداً لهذا الفن الحديث:
عرض أحد المصورين منظراً يمثل عبور بني إسرائيل البحر الأحمر، فسأله صديق له شاهد الصورة فلم يجد غير منظر البحر: ولكن أين بنو إسرائيل؟ قال لقد انتهوا من العبور، قال؛ وجند فرعون الذين يطاردونهم؟ قال لم يأتوا بعد!
حسين شوقي
الفلسفة في مهدها
للأستاذ زكي نجيب محمود
لم تكد تقذف الحياة بهذا الإنسان فوق ظهر الأرض ضعيفاً خائراً، حتى دأب المسكين يسعى ويلح في السعي كلما ألحت عليه ضرورة البقاء، ولم تكن الحياة حين ألقت به رحيمة كريمة فلم تبسط يدها في العطاء بحيث تمنحه من قوى التفكير والغريزة ما يرد به غائلة الضرورة واعتداء الطبيعة في سهولة ويسر، بل كانت مقترة مغلولة اليد، واكتفت من ذلك بالحد الأدنى الذي يحتمه مجرد البقاء، فجاء الإنسان وكل بضاعته من التفكير شعاع خافت ضئيل، يعينه على جمع القوت وإقامة أسباب الحياة.
ولكن الزمان الذي يغير كل شئ قد أخذ بيد الإنسان فأخرجه قليلا قليلاً من تلك الحياة التي كانت تقنع من الغنيمة بدفع الخطر، وما زال به حتى شحذ مواهبه ووسع من نطاق إدراكه، فمرن على القيام بأعباء الحياة بحيث لم يعد يصدر ذلك عن شعور ووعي يستنفذان كل ما يملك من قوة ومجهود، ثم لا يبقى له من دهره شيء. بل أصبحت شئون العيش عادة آلية يديرها اللا شعور. وبذلك استطاع أن يظفر بشيء من الفراغ في الحين بعد الحين، ينعم به بعد جهد العيش الجهيد، فأخذ يلهو بهذا الكون الذي يحيط به، والذي يبعث في النفس اللذة والخوف في آن، ولكن ماذا عساه أن يقول عن ظواهر الكون لكي يرضي خياله الساذج الغرير، سوى أقاصيص ينسجها له الوهم فيرويها لتكون له دينا وأدبا وعلما وما شئت من فنون الإنتاج، وهكذا كانت الميثولوجيا أول الأمر، ثم يمضي الزمن ويمعن في مضيه، فيدفع معه في تياره الجارف هذا الإنسان، فإذا الخيال تضيق دائرته وتضيق. وإذا العقل يتسع ويتسع، ثم إذا بالإنسان قد هانت عليه أعباء الحياة وخفت أثقال البقاء، وبرد الهوب السوط الذي كانت تسلطه عليه ضرورة الحياة ليدأب في جمع القوت ورد الخطر، واستقبل الإنسان عهدا جديدا رأى فيه اللذة والفراغ جنبا إلى جنب مع عناء العمل، وانتقل من حياة تملؤها الضرورات القاسية، إلى حياة يمازجها شئ من ترف الفكر وإبداع الفن، وعندئذ تغير موقف الإنسان، فلم يعد عبدا يذله قانون الحياة وكفى، عليه أن يستمع لإملائه فيطبع، بل اخذ يفكر في خلق السموات والأرض ويسأل نفسه لماذا يكون هذا هكذا؟ وكيف يجيء ذلك كذلك؟ فبدأت بذلك الفلسفة
وكان مهدها الذي تدرجت في كنفه طفلة عابثة، مستعمرة يونانية في آسيا الصغرى على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، حاضرتها مدينة تدعى مليتس، وفي ذلك البلد أضاءت شعلة الفكر خافتة أول الأمر، ثم شاء لها الله أن يمتد نورها ويتوهج حتى يكون في أرض اليونان فلسفة عميقة كانت أساس البناء، جذرا للدوحة التي امتدت فيما بعد قوية مثمرة
في مليتس - في القرن السابع قبل ميلاد المسيح - نهض الإنسان فحطم أغلال الضرورة التي كبلته حينا طويلا من الدهر، وخص شطرا من حياته للتفكير المجرد، الذي يقصد جمع القوت وتوفير أسباب العيش، ولكن فيم عسى أن يفكر ذلك العقل الناشئ؟
بديهي أن يتجه إلى هذه الطبيعة التي يزخر عبابها بالكائنات، والتي تحتويه في غمارها وتملأ عليه شعاب نفسه وحسه، ولم تكن الطبيعة موضوع فلسفته فحسب، بل كان قصيدا ينشد في حماها الخلاب، وكان دينه تسبيحاً لقوتها وجبروتها، وأية غرابة في هذا؟ أليست سنة الحياة أن يبدأ الطفل حياته الفكرية بما يقع تحت الحس ثم يتدرج صاعدا إلى الفكر المجرد؟
وأول ما استرعى منه النظر واستدعى أعمال الفكر هو هذا التغير الذائب والتحول المستمر الذي يطرأ على الأشياء، فها هو ذا كل شئ، كائنة ما كانت مرتبته في الحياة، يجيء إلى الوجود ليبقى حينا ثم يمضي ويترك الوجود، ولكن يستحيل على الفكر الناضج أن يظن أن هذه الأشياء تأتي من العدم وتنحدر إلى العدم، فليست تدل الظواهر على أن هذا الشيء المعين حينما جاء إلى الوجود، قد بدأ حياة لا يربطها بالماضي سبب من الأسباب، أو حينما يذهب وينقضي قد زال أثرهو تلاشت مادته، إنما تدل الدلائل جميعا على إنها مادة موجودة يطرأ عليها التغيير فتكون اليوم حجرا، وتصبح غدا نباتا يحيا، وقد تكون أنسانا يفكر ويسعى بعد غد، فليت شعري، أو ليت شعر الفلاسفة الأولين، ماذا عساها أن تكون تلك المادة التي تملأ الكون وتبدو في صور مختلفة متباينة؟ تلك هي المشكلة التي حاول فلاسفة أيونيا أن يلتمسوا لها جوابا يقنع ويرضي
وإذا التمس الفكر الإنساني مادة تكون أصلا لكل ما يشمل الوجود من ظواهر، فانه لن يصادف إلا عددا قليلاً من ألوان المادة التي يجوز لها أن تكون كذلك، إذا لا بد لهذه المادة الأولية المنشودة إلا تكون محدودة الصفات والخواص، وأن تكون مرنة شديدة المرونة في
قابليتها للتشكل في صور مختلفة، وماذا تكون تلك المادة الأولية عند قوم يتاخمون البحر، فترسخ في نفوسهم صورته ويدوي في أسماعهم هديره كلما أمسى مساء أو اصبح صباح، غير الماء؟! فهو أدناها عند العقل الأيوني مأخذا، وأقواها حجة. فليس عجيبا إذ أن ينهض طاليس، أول فيلسوف عرفته الدنيا وأجمع على فلسفته المؤرخون، وهو في طليعة الباحثين عن تلك المادة التي نشدها العقل، والتي تتركب منها الأشياء جميعا، وتنحل أليها الأشياء جميعا، ويعلن أن الماء هو قوام الموجودات بأسرها، فلا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر، الهم إلا اختلافا في كمية الماء التي يتركب منها هذا الشيء أو ذاك، أليس الماء يستحيل إلى صور متنوعة فيصعد في الفضاء بخارا، ثم يعود فيهبط فوق الأرض مطرا، ثم يصيبه برد الشتاء فيكون ثلجا؟ وإذن فهو غاز حينا، وصلب حينا ثالثاً، وكل ما يقع في الوجود لا يخرج عن إحدى هذه الصور الثلاث.
رضى العقل بادئ بدء بالماء جوهرا للكون، ولكنه ما لبث أن أدرك انه مهما يكن للماء من مرونة وحيوية، فان صفاته محدودة، ضيقة، لا يمكن أن تسع كل ظواهر الوجود، وإذن فلا بد للعقل أن يبحث ويجد في البحث عن مادته الأولية التي ينشدها فجاء انكسمندر وقرر حقا أن كل مادة يكون لها صفات بعينها لا تصلح مطلقا أن تكون أصلا للكون، لأن مجرد الاعتراف بصفة ما هو دليل قاطع على وجود نقيضها، فلا يمكن عقلا أن تفهم معنى الحرارة إلا إذا اقترنت ذهنك بالبرودة، ولو تلاشت هذه لذهبت في أثرها تلك، وأذن فيستحيل إن تصف مادة بخاصة معينة إلا إذا كان ثمت مادة أخرى لها صفة مناقضة، وينتج من هذا انه لا يمكن أن يكون الوجود مركبا من مادة تميزها صفات، وإذن فلم يتردد انكسمندر في القول بأن الأشياء جميعا، إنما تفرغت عن مادة لا تمدها حدود، وليس لها صفات، اللهم إلا صفة واحدة هي الثبات وعدم التجول؛ أي الخلود. ولعلها في عنصرها وسط بين الهواء والماء. هكذا يغريك انكسمندر بتصديق منطقه، ولكن ما لبث الإنسان أن وجد في هذا المنطق الخلاب مغمزا وثغرة. إذ كيف تنشأ هذه الفروق الشاسعة بين صفات الأشياء، إذا كانت كلها مشتقة من مادة واحدة لا صفة لها، فبديهي أن تجيء أجزاء هذه المادة الأولى على نسقها وغرارها؛ فلا تكون للأشياء الجزئية صفات كذلك، وأذن فليستأنف العقل بحثه عن ضالته
هنا نهض انكسمينس فخطا بالعقل خطوة ثالثة: إذا كانت مادة طاليس لم تصادف من العقل اطمئنانا، لأنها ليست من الشمول بحيث تسع بأسره، وإذا كانت مادة أنكسمندر قد أصابها الرفض لأنها تخلو من الصفات التي تدرك في أجزائها، فما يمنع انكسمينس أن يقع اختياره على مادة ثالثة، فيها الشمول الذي ينقص الماء وفيها الصفات التي تعوز مادة انكسمندر: إلا وهو الهواء، فهو ذو صفات معروفة لا تنكر، وهو في نفس الوقت يشيع في كل أنحاء الوجود، يغلف الأرض ويملأ جوانب السماء، بل ويتغلغل في الأشياء والأحياء مهما دقت الأبدان والأجسام. أليست الحياة أنفاسا من الهواء تتردد في الصدر شهيقا وزفيرا؟ أليس الهواء يملأ الفضاء ويغمر الكائنات ويستحيل إلى صور متنوعة، وهو فوق ذلك أسبق من الماء إلى الوجود، فالهواء إذن هو الجوهر الأول الذي صدرت عنه جميع الكائنات، يتكاثف حينا فيكون هذا الشيء، ويتخلخل حينا فيكون شيئا آخر.
فأنت ترى من هذا أن الفلسفة في أول صورها كانت لا تعدو في بحثها ظواهر الأشياء وأجسامها المادية، وكيف تريدها على أن تجاوز الظواهر المادية وهي لم تعترف بما وراء المادة من حياة وفكر؟ فالحياة عندها أنفاس مادية لا أكثر ولا أقل
وكان طبيعيا إلا يجمد العقل عند هذه المرحلة من التفكير والنظر، فجاوزها في البحث عن جوهر الوجود وكنهه، لا يأبه كثيرا بالصور المادية التي يتخذها ذلك الجوهر لبوساً مختلفة يظهر فيها للحواس وبعبارة أخرى فقد خلفت الفلسفة وراءها مرحلة طبيعية، لم تكن تنشد فيها إلا مادة ولم تعترف لغير المادة بوجود، واستقبلت مرحلة ميتافيزيقية، تعترف فيها بوجود شيء وراء المادة يدرك بالفكر المجرد دون الحواس. وان كانت الشقة بعيدة بين هذين النقيضين - بين تلك الفلسفة الطبيعية وهذه الفلسفة الميتافيزيقية - لا أن هذه قد اعتمدت على أساس تلك، لأنه إذا كان الخلاف بين الأشياء، هو فرق ما بين التكاثف والتخلخل، إذن فلا يفضل مخلوق مخلوقا آخر إلا من حيث الكمية المادية فحسب، وبعبارة ثانية، فالذي يفرق بين الكائنات اختلاف الحكم، أي في العدد، وإذن فكنه الوجود وحقيقته هو الأعداد، فالكون سلسلة من أعداد تتجمع وتتفرق حينا. ومن هنا نشأت المدرسة الرياضية الجديدة التي كان زعيمها فيثاغورس، فقد ذهبت طائفة الفيثاغوريين إلى اعتبار الأعداد جوهر الكون وأساسه. ومن الواحد خرجت جميع الإعداد، وأن تكن مختلفة متباينة،
إلا إنها لا شك تنطوي جميعا تحت ذلك الفرد. وقد يستوقفك هذا التباين بين الأشياء، فتسأل كيف يمكن أن تجتمع هذه النقائض كله تحت أصل واحد، وأن يكون هذا الأصل هو الواحد الرياضي. كيف يكون هذا الحيوان وذلك الماء وهذه الشمس وما إلى ذلك أشباها تلتقي عند جوهر واحد؟ ولكن هذا الشتيت المتضارب في الظاهر إنما هو أجزاء هذه الوحدة التي أحدثك عنها، أو يحدثك عنها الفيثاغوريون، كما يكون إصبعك وعينك وشعر رأسك وسائر أجزاء بدنك - وهي متنافر الصورة لا يشبه بعضها بعضا - وحدة لا شك في تماسكها واتحاد أجزائها، وتكون في النهاية واحدا
وأحب أن أضع إصبعك على هذا الضرب الجديد من التفكير الفلسفي، لتدرك تطور الفكر مرحلة بعد مرحلة. فالفيثاغوريون لم يعودوا يفكرون في أجسام مادية، هم لا ينشدون مادة الأشياء الاولية، كما فعل طاليس وأنكسمندر وانكسمينس، ولكنهم كما ترىيضربون في الأعماق ويجاوزون هذا الغشاء المادي ليصلوا بتفكيرهم إلى جوهر الكون
ولكن مذهب الفيثاغوريين بدورة لم يسلم من النقد، فهو يبالغ في الإكبار من شأن الواحد، ويصر على أن تكون الأعداد جميعا - أي الأشياء - أجزاء. من ذلك الواحد يحتويها ويشملها كما يحتوي الكل أجزاءه، ولكن إذا كان الفرق بين الأصل وما يتفرع عنه فرقاً عدديا فقط، فبديهي أن يكون الأصل وفروعه في منزلة كيفية واحدة، ولا يكون أمامنا مبرر لتفضيل هذا على ذاك إلا بالفرق في الحكم، أعني انه يجب أن يكون التعدد أصلا وجوهرا تفرع عنه الواحد. إذن لابد للعقل أن يتناول هذا المذهب بالتهذيب والتعديل حتى يتخلص مما يشوبه من تناقض.
نهض اكزنوفنس بشيء من هذا التهذيب المنشور، فليس واحد الفيثاغوريين عنده واحد حسابيا، بل هو الكون بأسرة هو الله الذي لا يعتريه تغيير ولا تبديل ولا فناء، هذا الكون بل هذا الإله لا يتعدد، وهو يصلك عن طريق الحواس، فلا تراه عيناك، ولا تسمعه أذناك، إنما هو حقيقة مجردة تصل إليك عن طريق الفكر المحض.
ثم تبعة بارمنيدس فسار في طريق سلفة اكزنوفنس، وجاوز حده، فلم يكتف بأن يكون الواحد المجرد - أي الله - مصدراً لجميع الكائنات، بل لم يعترف لهذه الكائنات نفسها بوجود الموجود، في الوجود شيء. واحد: هو الله، فليس ثمت مصدر وصادر، ليس ثمت
خالق ومخلوق، إنما الجميع الشيء واحد، هو الله هذا الكائن المطلق، هو وحدة الحقيقة ولا حقيقة سواه، فكل ما ليس إلهاً لا حقيقة له في الوجود. وبديهي أنه لا يتعدد ولا تحده حدود من مكان، ولا يمكن أن يكون خارج نطاق عقل مفكر بحيث يتخذ من هذا الكائن موضوعا للتفكير. ومعنى هذا أنه ينكر على الإنسان أن يضن نفسه حقيقة موجودة مفكرة، كلا بل هناك شيء واحد يفكر ويكون موضوعا للتفكير في وقت معا. فهو لا نهائي، ولهذا لا يجوز عقلا أن يكون هناك من الفراغ ما يشاغله شيء آخر أو إله آخر. وهكذا كانت فلسفة بارمنيس هذه ضربة قاتلة قضت على الآلهة المتعددة التي كان يعبدها معاصروه.
لا حقيقة إذن لهذه الأشياء المتباينة التي يخيل إلينا إنها تملأ الكون، ليس ثمت إنسان ولا حيوان ولا نبات ولا أرض ولاسيما، كل هذه أوهام خلقتها الحواس خلقا من عدم، وأنشأتها إنشاء. باطلا لا يرتكز على صورة خارجية، وهو لا يعلل لنا هذا الخداع الحسي الذي يصيب أفراد البشر جميعاً، ولكنه يأسف لهذا النقص الذي يصور لنا الباطل حقا.
وقد أيد هذا المذهب بعد بارمنيدس فيلسوفان، لم ينتجا جديدا، ولكنهما اكتفيا بالدفاع والتأييد، وهما مليسس، وزبنو، ولكن العقل الذي لا يقنع بقليل ولا كثير، أبي هذه المرة أيضا أن يستكين لهذا الرأي زمنا طويلا، إذ بدا له في منطقة الضعف والتناقص.
لقد علمت الآن أن الفلسفة قد اعترفت بوجود واحد، وكل ما عداه وهم وباطل اختلقته الحواس اختلقا. وليت الدفعة قد وقفت عند هذا الحد، بل جاء هرقليطس، فسار في هذا الاتجاه شوطا بعيدا، فأنكر وجود حتى هذا الموجود الواحد! وله في هذا الإنكار منطق، إلا يكن مقنعا، فهو لا يخلو من ظرف كثير قال إن هذا الكون وما يشتمل عليه من كائنات، في حركة متصلة دائمية، لاتنقطع ولا يصيبها الجمود لحظة واحدة، هو كسيل يهوي من قمة الجبل إلى هاوية السفح، كله تغير وحركة وانتقال، فكلما فتحت ناظريك على هذا المجرى رأيت صورة لم تراها من قبل ولن تراها بعد، لان الماء لا ينتظرك حتى ترسل إليه البصر مرة ثانية، وإذن ففي كل لحظة ينشأ مجرى جديد. ولعلك تدرك خطورة هذا الرأي، فلو صح لذهب علمي وعلمك هباء منثورا. إن كل ما نعلم خيال منحول ووهم ملفق، لأنه إذا كان العالم الخارجي لا يستقر على حال ثابتة، فكيف تصدر على شيء منه حكما من الأحكام، انك أن علمت شيئا عن الكون فما إلا في لحظة بعينها، ولا يجوز أن يكون ذلك
العلم صحيحا على الكون في كل آن. فان الكون سينقلب كونا آخر قبل أن ينطق لسانك بالحكم، كلا، بل قبل أن تدور في رأسك الخلجة الفكرية. انك ترى ملايين الأكوان المتعاقبة، كون يجيء في أثر كون، وإذن فمن الشطط أن تقرر حكما عن شيء من الأشياء لأنه لا يستقر على صفة ولا ولا يبقى على حال. الأمر في ذلك كفلم سينمائي تمر صورة مرا سريعا متداركا، فلا تلبث أن تقول إني أرى الآن صورة كذا حتى تفر مسرعة لتخلي المكان لما بعدها، وإذن فليس في الوجود ثابت كما يزعم الفلاسفة من قبل
هنا نشأت طائفة جديدة - أعني جماعة الذريين - وجاهروا برأي جديد يلائم هذا الموقف الذي خلفة هرقليطس، هم يقررون معه أنه ليس هناك موجود ثابت إذا نظرنا إلى الكون من وجهة الشكل والصورة، ولكن الثبات والخلود في كمية المادة التي يغص بها الكون، فثمت عدد لا يحده الحصر من العوالم، تتكون جميعها من ذرات متشابهة، ولكنها تكون بعد تركيبها كائنات متباينة، كما تتألف الكتب المختلفة من حروف هجائية بعينها، ومع ذلك فليس هي بالمتشابهة. هذه الذرات لا تفتأ تجتمع فتكون هذا الجسم أو ذلك، ثم تنحل وتالف في أسلوب جديد فتحدث كائنا جديداً على هذا الأساس يمكنك أن تدرك معنى التغير والحدوث في الصورة والثبات والخلود في المادة. وبناء على هذا يكون كل شيء في الوجود مؤلفا من ذرات مادية، حتى الروح الذي يدب في الأحياء. فهو عندهم مكون من ذريات دقيقة غاية الدقة، مستديرة أو قريبة من المستديرة. وليست عملية التنفس إلا اكتساب لذرات جديدة من نوعها تسبح في الفضاء. ولما كانت هذه الذرات مبثوثة في أنحاء الكون، فليس من شك في أن الحياة تدب في الكائنات جميعا
بدأت الفلسفة إذن بالبحث عن المادة الأولى التي تتألف منها الأشياء جميعاً، ثم أدركت أن للوجود جوهراً وراء المادة، فالتمسه الفيثاغوريون في الواحد الحسابي، ثم التمس من جاء بعد الفيثاغوريون من فلاسفة آيونياً (جنوبي إيطاليا) في الإله الذي خلق الكائنات، ثم أنكرت الكائنات وبقى الله وحده موجوداً لاوجود لسواه، ثم حام الشك حول ثبات الكون على صورة واحدة، وأخيراً قرر الذريون أن الكون متغير في صورته، خالد في مادته. . . .
تطور سريع في الفكر كما ترى، اسلم العقل إلى حال من الارتياب والشك، ارجوا أن أحدثك عنها في فصل تال.
زكي نجيب محمود
معهد الطفيليات
للدكتور محمد عوض محمد
. . . سار بي (الأستاذ) سيراً حثيثاً، ليطلعني على ما اشتملت عليه تلك الجامعة الهائلة من دور ومن فصول، ومن مدارس ومعاهد، فلم نزل نتنقل من بناء شامخ إلى قصر مشيد، إلى أفنية فسيحة، إلى مغان ذات طباق بعضها فوق بعض. . .
ثم وقف بي أمام دار فخمة ضخمة ذات صروح وأبراج، ولها باب عظيم ذو عمد من الرخام وسلالم من المرمر الأملس.
وقد انفتح المصراعان، وبدأ لنا من ورائهما دهليز كبير تحف به عمد رفيعة موشاة بالذهب والأحجار الكريمة؛ ومن فوقها سقف مزين بأبدع النقوش وأبهى الألوان
فقال صاحبي: (الآن أريك اجمل شيء في هذه الجامعة الجيلة، ان هذا البناء العظيم الذي تراه أمامك هو (معهد الطفيليات). قد عنيت الجامعة بتشييده وإعداده، ولم تال جهداً ولا مالاً في زخرفته وتأثيثه، ليكون منه مرتع خصيب للطفيليات: تمرح فيه ما شاء لها المرح، وتنعم فيه بكل ما تشتهيه نفوسها التي لا يرضيها القليل، ولا تنفع إلا بالغالي النفيس
(وسأمضي بك الآن إلى المتحف العظيم، الذي حشدنا فيه ما استطعنا حشده من طفيليات هذه الأرض؛ وما احسب أن لجامعة من الجامعات متحفاً كهذا المتحف، شاملاً لما اشتمل عليه من طفيليات عزيزة نادرة به، حقيقة أننا لم نستطيع أن نجمع هنا كل ما في الأرض من هذه الكائنات! إن هذا مرام بعيد. ومن ذا الذي يستطيع للطفيليات عدا. فضلاً عن جمعها. وإيوائها، وتربيتها، وتغذيتها، وتأديبها؟ لكننا نستطيع أن نفتخر - بحمد الله - أن ليس في القارات كلها جامعة بها من الطفيليات ما بجامعتنا هذه
(فلنفتش الآن بين هذه الصناديق الزجاجية. وليكن سيرنا غاية في الهدوء والتؤدة. فأن هذه الطفيليات رقيقة المزاج جداً. فلا تكاد خطرات النسيم تجرح خديها فحسب، بل تقتلها قتلاً. وهي علينا جد عزيزة. ويجب أن نحرص عليها غاية الحرص، أمش إذن برفق لكيلا يسمع لنعليك صوت، ولكيلا ترتج لوقع أقدامنا هذه المنازل البديعة التي آوت إليها الطفيليات.
(والآن فلأشرح ما اغلق عليك من أمر هذه الكائنات! إنك يا صديقي من الأدباء. ولديكم في
الأدب طائفة أظنك تعلم من أمرها ما اعلم - من كل كويتب أو شويعر. عاجز كل العجز عن أن يخرج من صدره أو قلبه أو رأسه رأياً أو خاطرة أو فكرة. يفتش في نفسه فيلقيها خلاء بلقعا قفرا. فيعمد إلى دواوين القدماء وكتبهم، يستخرج منها القصيدة أو الرسالة، ولا يزال بها يحاكيها ويقلدها، ويحذف لفظا ويضيف لفظا، حتى يتم له مسخها وتشويهها ثم يلصق في أخرها اسمه الكريم فإذا به قد اصبح ذا شأن وخطر، وإذا النوادي تتحدث بأمره. والصحف تنوه باسمه، والمحافل تتلقاه بالإكرام والترحيب، وإذا صورته لفخمة تطالعك من صدر كل صحيفة سيارة وغير سيارة لتنبئك، وتنبئ الجاهلين أن قد نبغ في هذا الزمان الأخير أديب خطير، وشاعر كبير!
(ونحن يا صديقي في عصر قد علا فيه كعب هؤلاء وعظمت دولتهم، وقويت شوكتهم. ولا تحسب انهم وقف عليكم أهل مصر بل أن لدينا منهم في مملكتنا هذه خلقا كثيرا. وفي وسعك أن تقسمهم إلى قسمين عظيمين: الأول طائفة الطفيليات القومية أو الوطنية وهم الذين يعيشون متطفلين على قومهم العرب مثلا وأمتهم العربية.
غذاؤهم وحياتهم بما يمتصونه أو يبلعونه أو يمسخونه من شعر القدماء ورسائلهم. ناهيك أن في أدبكم العربي أسفارا لا تزال مودعة في خزائن مظلمة في دور الكتب؛ مخطوطة لا يصل إليها إلا الباحث الجليد. . . وما اولع الطفيليين بالبحث والتنقيب، وما اشد صبرهم وجلدهم! فهم يجدون في هذه الأسفار المنسية ضالتهم، ويصيبون منها الغذاء الذي يكسبهم الشهرة والعظمة. ومنهم من لا يكلف نفسه عناء البحث في خزائن الكتب، بل يعمد إلى الشائع المتداول من كتب القدماء والمحدثين، فلا يزال بها يحولها ويحورها، ويربعها ويدورها، حتى يرى فيها الطعام شيئا مخترعا، وأدبا مبتدعا. . . ولعل هذا الطراز ابرع من الأول واقدر، لأنه يعتمد على مقدرته الهائلة في المسخ والتشويه، بينما الأول يعتمد - قبل كل شيء - على بحثه وتنقيبه عن المجهول من الكتب، والخفي المستور من كنوز الأدب.
(تلك إذن طائفة الطفيليات القومية. تعتمد كما ترى على تراث قومها. أما الطائفة الثانية فهي جماعة الطفيليات الغربية؛ ننعتها بهذا الاسم لا لأنها جاءت من الغرب. بل لأنها تتغذى من الثمار الغربية. وتعيش على أجساد الكتاب من أهل الغرب والكاتبات، الأحياء
منهم والأموات.
(وهذه الطائفة قد استفحل أمرها، واشتد دراسها، منذ انتشر في بلادكم تعليم اللغات الغربية، فوجدت أمامها أودية خصبة ومروجا ممرعة، لا يكاد الطرف أن يدرك مداها. فأقبلت عليها في شره لا يعرف شبعا، ونهم لا يعرف حدا. إذ رأت أن المجد الأدبي قد دنت قطوفه، وسهل تناوله. . . فجعلت تجني من ثمار الغرب ما شاءت وما شاء لها الجشع؛ ثم مسخته قليلاً أو كثيرا، ثم جلته للعيون الشرقية، على انه من ثمارها ومن نتاج روحها. فأكبر الناس تلك الثمار، وسبحوا بحمد تلك الطائفة. ورفعوها على الأعناق، وبوموها مقاعد السيادة في الآداب أو في العلوم. . .) عند ذلك قاطعت الأستاذ، وقد تملكني الضجر، وقلت:(أعن هؤلاء تريد أن تحدثني؟ وهل هؤلاء هم الذين أودعتموهم في معهدكم هذا؟ اللهم أني لفي غنى عن رؤية أمثال هؤلاء، وما جئت سائحا في بلادكم العظيمة، لكي تطلعني على تلك المناظر التي طالما أقذت عيني وأحرجت صدري!)
قال: (لا تخف! فهيهات أن نجد مكانا في معهدنا هذا - على ضخامته وسعته لكل تلك الطوائف! كلا يا صديقي! وما ذكرت لك أمر هؤلاء إلا لأنك ممن يعنون بالأدب. ولاني أريد أن تفهم عني أمر الطفيليات التي حشدناها هنا! فأردت تقريب الأمر إلى ذهنك متنقلا بك مما تعرف إلى ما لا تعرف!
(وخلاصة الحديث يا صديقي، إن الطفيليات هذه هي كائنات - اجل وأني لمضطر لان ادعوها كائنات - لا تستطيع أن تحيا وأن تعيش من نفسها وجهودها. بل لابد لها من كائن آخر، تستمد حياتها من حياته، وكثيرا ما تكون حياتها سببا في فنائه. وهي على كل حال لابد لها من أن تضعف الجسم الذي يمدها بالحياة حتى تورده موارد الدمار. . .)
(هذه الكائنات لا تكد ولا تكدح في طلب الرزق، بل تدع السعي والطلب إلى غيرها، وليس لها أسنان تمضغ، أو معدة تهضم، أو أجهزة تحيل الطعام الخشن والشراب، إلى غذاء وحياة، بل تبقى كامنة في الأجسام الحية، ثم تنتظر حتى تكد هذه وتعمل، وتجمع الرزق من نواح شتى، وحتى تتناول طعامه وتهضمه وتمثله، وتحيل إلى تلك العناصر التي ثوت فيها القوة والحياة، عندئذ تبادر الطفيليات، فتمتص منها الحياة والغذاء، من غير جهد ولا عناء. . . هذه الطفيليات لا تحسن عملا، ولا تجيد صنع شيء؛ الهم إلا شيئا واحداً، هو:
الالتهام)
(تأمل قليلا في هذا الكائن البديع، القرمزي اللون! انه لا يعيش إلا في الشرايين، لا يحلو له أن يتناول إلا الدم الطاهرالزكي: يستقيه سائغا شهيا حين يقذفه القلب إلى كل شريان. . وهذه صورة رجل قد حلت بجسده هذه الكائنات! أن وجهه الشاحب قد علته صفرة الموت. وعينيه الغائرتين تجدان كفايتهما من الدم المغذي. وعلى عظامه الناتئة جلد رقيق، يوشك أن يكون شفافا. . . أن حياة مثل هذا لن تطول. فان هذا الضرب من الطفيليات من أقتلها وأفتكها بمن يعيش في جسده.
(انتقل بنا الآن إلى هذا الكائن الأبيض المنتفخ! إن خطبه ايسر من خطب الأول. ودأبه أن يعيش وسط الدسم والشحم.
فهو لا يسكن من الجسم إلا حيث الدهن متراكم متكدس. فإذا رأيت من بني آدم من أضخمته النعمة، وأشحمه الغنى، فأن هذا الشقي لن يلبث طويلا حتى تتألب عليه هذه الكائنات الشرهة، ترتع في نعمته، وتمرح في شحمه ودهنه، وما تزال مكبة عليه تمتص منه وتلتهم، حتى تذره نحيلا هزيلا. قد وهى عظمه، ورق جسمه حتى لم تبق منه إلا بقية ضئيلة، لا تلبث أن تذهب، فيهلك الجسم وتهلك معه تلك الطفيليات.
(وأظنك تشاطرني الرأي أن ليس بمستغرب أن تتجمع الطفيليات على مثل هذا المخلوق السمين، حيث المرعى الخصيب، والخير الوفير، والنعمة السابغة. . .
ولكن ما بال هذه الطائفة - التي تراها عن يمينك - قد تألبت على غير ذي دسم، وتجمعت على غير ذي نعمة، ولا يحلو لها أن تمتص الحياة والرخاء إلا من كل بائس شقى، قد عضه الفقر من جانب. والجوع من جانب، ممن يقضي حياته في كد وكدح، من اجل اليسير من الزاد، والزهيد من القوت، لا يكاد يصل إليه إلا باهراق عرق الجبين، وبذل الجهد الجهيد، وإيراد الروح موارد العذاب. ثم يغدو المسكين وإذا قوته ودمه يذهبان غذاء سائغا شهيا لهذه الطوائف النهمة من الديدان الملتوية.
(ومن عجب إن ليس في الطفيليات كلها ما هو اشد نهما واكثر شراهة من هذه الكائنات، التي تعيش وسط الفقر المدقع، فتراها غنية وسط الفاقة، سعيدة وسط الشقاء، مدلة بنفسها عزا وكبرا برغم ما يحيط بها من الذل والضعة، وهي إلى هذا كله قصيرة النظر، لا تكاد
أن ترى شيئا، لأنها لو استطاعت أن تبصر لعلمت أن ليس في عيشها ذاك ما يبعث الكبر والغرور، ولأدركت حقارة شأنها بين الكائنات.
والآن انتقل بك إلى هذه المجموعة الفريدة؛ إنها ستبدو لك لأول نظرة كأنها ديدان لما بها من الالتواء والانحناء؛ لكنها في الحق ليست بديدان، بل حشرات طفيلية جميلة الصورة، حسنة الهندام؛ أما هذا الالتواء والانحناء، فراجع إلى طبع غريب مغروس في نفوسها، ذلك إنها مولعة أبدا بالركوع حينا والسجود حينا: مغرمة بتمريغ الجبين في مواطئ النعال. فهي تبدي للجسم الذي تمتص خيره وبره عبودية وخضوعا. وتتملقه تملقا بديعا. وما تنفك تهتف باسمه. وتسبح بحمده: ولا يحلو لها الزاد الذي تمتصه وتتغذى منه، ما لم يصحبه كل هذا الركوع والسجود، والتملق والخنوع. . . . . وهذه الحشرات لا تعيش إلا في الجسم القوي ذي البأس الشديد، والعزة والجبروت. ولقد يحلو لهذا الجسم أن يؤدي هذه الحشرات، وان تمتص من خيره ومن رحيقه، لأنه يعجبه منها هذا الخضوع الظريف، وهذا التملق الساحر. وهذا الركوع الدائم والسجود. ولا يرى على نفسه بعد ذلك بأسا في أن تأكل هذه الحشرات من مخه ومن دمه، ومن لحمه ومن عظمه. لأنه قوي مدل بقوته، بئيس مفاخر بأسه، يظن أن كنوز قوته لن تنفذ مهما كبر ذلك الجيش الجرار من الحشرات. فتراه يستكثر منها ويستزيد ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
(ومن عجب أن هذه الحشرات قد تحل بها حشرات أخرى أحقر منها، لكي تعبدها وتتزلف إليها، وتمتص خيرها؛ وهذه أيضا على حقارتها تنمو حولها طائفة أخرى أحقر منها، وهلم جرا، ولن تستطيع أن ترى هذا كله بالعين العادية، بل لابد لك من التحديق في المجهر: انظر هاهنا! وأمعن التحديق حتى تعتاد عينك رؤية هذا العالم الطفيلي المدهش! أرأيت كيف تتابعت هذه الكائنات تتابعا مطرداً: من الكائن الأكبر إلى الأصغر فالأصغر حتى تبلغ إلى الحقير التافه الذي لا تكاد تراه حتى بالمجهر!
(وبرغم ما تراه في هذا الجيش العرمرم من مظاهر القوة والنشاط، والحركة الدائمة، فان هذا مظهر خداع. ولا بد أن يدركه الفناء في لمحة الطرف. ولا بد للمسكين من يوم تدول فيه دولته وتذهب ريحه، وينظر فإذا قوته قد فنيت وبأسه قد زالوإذا هو صريع وسط تلك الجيوش الجرارة من الطفيليات التي أفنته وأفناها.)
وألتفت (الأستاذ) إلي، فرأى الدم يتصاعد إلى وجهي، فقال: (أحسبك قد نال منك التعب، ولا جرم فأن عالم الطفيليات عالم عظيم جسيم. ولكن لن تبرح حتى ترى هذه الحشرات السوداء التي لا تعيش إلا على جثث الموتى. وتخشى الأحياء وترهبهم. ألا تراها تذكرك بأصحابك الذين يغيرون على شعر القدماء، وأدب القدماء. ولا حياة لأمثال هؤلاء إلابما يدره أولئك الموتى!
والآن تأمل هذه الكائنات الدميمة التي تراها عن يسارك! وقل لي هل رأيت في حياتك أشد منها دمامة، وأقبح منها منظر؟ وهي مع ذلك لا تعيش إلا حيث يوجد الحسن والبهاء! ولا تحيا إلا على كل من رزق الوسامة، وضرب في الجمال بسهم، وحيثما رأت الشباب الغض والحسن الباهر تر هذه الكائنات الدنسة. قد تراكمت من حوله وتألبت عليه. . . لكن أراك قد تصاعد الدم إلى وجهك، وأحمت عيناك وانتفخت أوداجك، فهل تحس ألماً أو دوار، أو تراني قد أتعبتك بكل هذا الشرح الطويل؟
قلت: (ليس ما أحسه الآن تعبا أو ألما، ولكنه الغيظ قد استولى علي وأخذ يحرق صدري، ويوقد النار في دمي، وبودي لو تناولت عالمك هذا كله بالتحطيم والتدمير، فلا أدع فيه دودة ولا حشرة، قائمة أو قاعدة، راكعة أو ساجدة!)
قال: (من حسن الحظ أنا تركنا عصينا بالباب، فهلم بنا لنخرج من هنا، قبل أن يذهب بك الجهل مذاهب الطيش والنزق فأن هذه الطفيليات أعز على الدهر من أن نعرضهات لسخط الحمقى، الذين لا يعرفون ما لها من المنزلة الفريدةوالمكانة العزيزة في نظام هذا الكون الأبدي.)
ثم انطلقنا، وصاحبي يبتسم، وأنا أكاد أتميز من الغيظ.
محمد عوض محمد
التعاون في التأمين على الحياة
يعمل الرجل وهو في مقتبل الشباب ممتلئاً صحة وقوة، ويخيل إليه أن الدهر سيظل له على الدوام مسالماً، فيسرف في أنفاق كسبه غافلاً عما يكنه المستقبل في طياته من المفاجآت. فإذا لم يعترضه مرض أو حادث يعجزه عن العمل والكسب، فأنه قلما يسلم من الخضوع لسلطان الطبيعة البشرية وسحرها، تجتذب حواسه وتأسر لبه حتى تسوقه طوعاً إلى شريكة في الحياة؛ يرزقه الله منها الأبناء، فيشعر في أعماق قلبه بذلك الشعور الذي لا يدرك كنهه سوى الزوج المخلص والوالد الرحيم، وهذا الشعور ينطوي على رغبة صادقة في أن يهيئ لهم أسباب السعادة في ظل حياته، ويعد الوسائل التي تسهل لهم سبل العيش بعد مماته.
ولا تقف مسئولية الرجل العائلية عند حد الزوج والأبناء، بل قد تتناول أبويه والقاصرين من اخوته المحتاجين لمساعدته. فأن حق عليه أن يكفل زوجه وأبناءه بعين رعايته، فأن من واجبه الشرعي والاجتماعي أن يشمل أبويه بعطفه وحنانه. فإن فعل فإنما يسدد ديناً عليه. فقد ضحيا من أجله راحتيهما ومالهما في سبيل تربيته وتعليمه حتى بلغا به طريق الرزق - قد يكونان ذهبا في التضحية إلى حد نفاد مواردهما - فحق لهما أن يجنيا ثمار تضحيتهما بمساعدته لهما في شيخوختهما.
وخلاصة القول أن الرجل في هذه الحياة مسئول عن سعادة أبويه وأخوته، كما أنه مسئول عن هناء زوجه وأبناءه. فإن كانت عائلته تعيش من كده وجهاده، فهو بمثابة رأس مال لها. يقف رأس المال العائلي هذا عن الإنتاج إذا إنتاب الرجل العامل المرض أو اعترضه العطل، ويفقد مقدرته الإنتاجية إذا أقعده العجز أو الشيخوخة عن العمل، ويفنى إذا وافاه الأجل؛ فالرجل المتزن العاقل هو الذي يتبصر في عواقب الأمور، ويتسلح للطوارئ، فيعمل على تهيئة أسباب السعادة لعائلته في مختلف أطوار الحياة، بأن يستجمع في شبابه من المال ما ينعم به في شيخوخته، وما يتركه لذويه يستعينون به على صروف الدهر بعد وفاته. وقد يبتدئ فعلاً بتدبير المال عن طريق الادخار. فأن عاجلته المنية قبل أن يكون لعائلته المال الذي يعيشون منه فأنه يتركهم عرضة للتسول وقد يدفعهم الإملاق إلى اقتراف الرذائل وارتكاب الجرائم.
تلك هي النتائج الاجتماعية التي يجب أن يتوقعها الرجل الذي يعيش من كسبه، ولا يدخر
لشيخوخته ولأهله من بعده ما يقيهم شر الحاجة وذل السؤال. ومما يؤسف عليه أن أولئك الذين تلهيهم سعة الحاضر عن مفاجآت المستقبل كثيرون في بلادنا، وضحاياهم عديدون، نصادفهم كل يوم فلا يثيرون في نفوسنا غير الإشفاق والرثاء.
قال المرحوم أحمد بك لطفي أحد أبطال التعاون (هل في مقدور الجمعيات الخيرية مساعدة كل هؤلاء، والعناية بتربية أولادهم والصرف على بيوتهم؟ وهل يمكن أن يعيشوا من مد يدهم للناس وإراقة ماء وجوههم للغير؟ ليست هذه الأحوال خاصة بمصر، فإنها وجدت خلال القرون الأخيرة في غيرها من البلاد الغربية، ولم ينجح فيها استعمال الإحسان والصدقة، ذلك لأن الإحسان وإن كان من الفروض الدينية، إلا أنه بحسب القوانين الوضعية ليس إلزامياً، بل هو متروك لمروءة الإنسان، فلا عطاء بغير مقابل، ولا وسيلة لإرغام الناس على القيام به. لذلك لجأ الناس هناك لنوع من الإحسان يتحقق فيه الإلزام بأجلى معانيه، وهو تبادل الإحسان بين الفرد والجماعة بنظام مخصوص يجعله محققاً، ويسهل تنفيذه بغير أثقال على النفس ولا بتضحية كبيرة. وهذا العلاج وهو ما يسمى بالتعاون).
يقوم التعاون على مبدأ تبادل المنفعة بين الفرد والجماعة. فإذا ما أتحد عدد كبير من أرباب الأسر الذين يعيشون من كسبهم على تأليف جمعية تعاونية على أساس أن يؤدي كل واحد من كسبه اشتراكاً دورياً لصندوق الجمعية، وأن يستثمر جزء كبير من الأموال المتجمعة في أوراق مالية أو عقار على أن يصرف للعضو عند مرضه أو عطله ما يعالج به نفسه ويقوم أوده مدة عطلته من العمل، ويصرف لورثة من يتوفاه الله منهم مال أو معاش يستعينون به على الحياة، وإذا أقعدته الشيخوخة يصرف له مبلغ معلوم من المال أو يخصص له مدى الحياة معاش، أمكن تبادل المساعدة والمنفعة بغير أضرار بالفرد ولا بالجماعة.
ولتثبيت نظرية التعاون في الأذهان نضرب المثل الآتي:
أتفق جماعة من الأفراد عددهم خمسمائة من أعمار مختلفة تتراوح بين الثلاثين والخمسين سنة على تشكيل جمعية تعاونية، على أساس أن تدفع الجمعية خمسمائة جنيه لورثة العضو منهم إذا توفى قبل بلوغه سن الستين أو عند بلوغه هذه السن إذا ظل حياً، مقابل أن يؤدي
العضو للجمعية اشتراكاً شهرياً يختلف باختلاف سنة عند التعاقد، وينقطع دفع الاشتراك بالوفاة أو عند بلوغ سن الستين. ولكي يتيسر للجمعية القيام بتعهداتها يجب أن تكون الاشتراكات التي يدفعها الأعضاء مبنية على أساس علمي يراعي فيه احتمال الوفاة واحتمال بلوغ السن المعينة، وعلى هذا الأساس يصح أن تكون الاشتراكات على النحو الآتي:
السن عند التعاقد
الاشتراك الشهري الذي يدفعه العضو بالقروش
30
112
31
116
32
121
33
127
34
133
35
139
36
146
37
153
38
162
39
170
40
180
41
191
42
203
43
217
44
232
45
250
46
269
47
292
48
319
49
250
50
287
ويجب أن يكشف طبياً على كل من يريد الالتحاق بالجمعية على ألا يقبل غير الأصحاء
لكي لا تتعرض الجمعية لخطر عاجل قبل تكوين أموال كافية لمواجهة الطوارئ، فأن متوسط معدل الوفيات بين فئات السن من 30 إلى 50 هو 60 في المائة، أو بمعنى آخر أن عدد الوفيات التي يحتمل حصولها خلال السنة الأولى بين أفراد الجماعة المذكورة المكونة من خمسمائة عضو هو ثلاثة. فعلى أساس هذا الحساب يمكننا أن نقدر التعويضات التي يحتمل دفعها في السنة الأولى بمبلغ 1500 جنيه، على اعتبار أن المبلغ الذي يدفع لورثة العضو المتوفى هو خمسمائة جنيه.
ويجب أن الجمعية لا تحتفظ في صندوقها أو في البنك الذي تعامله مما تحصله من الأقساط في أول كل شهر إلا بقدر ما يلزم لتغطية المصروفات ومواجهة التعويضات المحتمل دفعها خلال الشهر، بل تقتني به أوراقاً مالية سهلة التداول، فأن المبلغ الذي يحتمل تحصيله في السنة الأولى من الأقساط وفوائد استثمارها، يقرب من 8500 جنيه. وقد خرجنا بهذه النتيجة على أساس حساب الاحتمال، بعد أن استبعدنا طبعاً الأقساط التي حرمت منها الجمعية من المتوفين أثناء المدة التي تجري بين الوفاة وآخر السنة، وكذلك فائدة الاستثمار التي كانت تعود على الجمعية لولا دفع التعويضات والمصاريف الإدارية أثناء السنة. .
أما النفقات الإدارية، فأن جمعية تعاونية مكونة من خمسمائة عضو كالتي ذكرت، لا تحتاج لمسك دفاترها (بطريقة الفيش) والقيام بالأعمال الكتابية إلى أكثر من كاتب واحد يمكن أن يتقاضى مرتباً سنوياً 120 جنيهاً. أضف إلى ذلك قيمة مطبوعات ونفقات نثرية 80 جنيها، فيكون المجموع 200 جنيه بالقياس إلى نفقات جمعية تعاون موظفي البريد التي تضم نحو 4300 عضو مع حفظ الفارق.
أردنا مما تقدم أن نثبت في أيجاز أن دخل الجمعية من أقساط وفوائد استثمار لا يفي بدفع تعويضات الوفيات وتغطية المصروفات فحسب، بل يترك فائضاً. ولا غرو فإن مبلغ الدخل في السنة الأولى هو 8500 جنيه، في حين أن التعويضات هي 1500 جنيه، والمصروفات الإدارية 200 جنيه، فيكون الفائض 6800 جنيه، يحول جزء منها إلى الاحتياطات التي يجب تكوينها لاستخدامها فيما بعد في سداد التعويضات التي تستحق الدفع عند حلول أجل العقود للباقين أحياء، وما بقى من الفائض في نهاية كل سنة بعد تغذية الاحتياطات يصح توزيعه على الأعضاء ويقال له (العائد) إلا أن أكثر الجمعيات لا توزعه
على الأعضاء إلا مرة كل خمس سنوات مضافة إليه فوائد استثماره؛ أما في حالة الوفاة فأنها تصرف لورثة المتوفي زيادة على المبلغ المؤمن به، حصته في العائد المتكون لحسابه حتى نهاية السنة السالفة للوفاة.
وكلما تيسر للجمعية استثمار أموالها بفائدة كبيرة، كبرت
حصة العضو في العائد. وإن السوق المصرية لهي من
أخصب الميادين لتوظيف الأموال، ولا جرم فأنه يوجد 52
قرطاساً، أي ما يزيد على ثلث عدد القراطيس المتداولة في
برصتي القاهرة والإسكندرية، تربى غلتها على 21 4 %
على أساس الفوائد والأرباح الموزعة خلال ثلاث السنوات
الأخيرة، وسعر البورصة في نهاية كل سنة، بعد أن أجرينا
عمليات التصحيح التي تلزم في هذا المقام.
إن ما عليه حال العمال وطبقة صغار موظفي الحكومة والبنوك والمصالح الأهلية من قلة المرتب، يجعلهم يقاسون آلاماً مبرحة إذا ما نزلت بهم نازلة من المرض، أو الإصابة بحادث، أو البطالة، أو الشيخوخة، أو الوفاة. وقد يصل بهم العسر إلى عدم توافر نفقات العلاج أو ثمن الدواء أو تكاليف الدفن. فهم يستهدفون لاستشراء الأمراض لقصر ذات اليد. وقد يبلغ الإملاق بأسرهم من بعدهم حد التسول وإراقة ماء الوجه. فلدرء تلك العواقب انتشرت جمعيات التعاون للتأمين على الحياة في الأمم الراقية لتخفف عن أعضاءها وأسرهم ما يخبئ لهم الدهر من الويلات.
فما أحوجنا إلى نشر مثل هذه الجمعيات بين طبقات الموظفين والعمال وصغار التجار والزراع. ومن الميسور أن يضحي كل منا بعشرة قروش شهرياً في سبيل أن يضمن لنفسه ولعائلته الدواء ووسائل العلاج بتأسيس جمعيات تعمل على إبرام الاتفاقات، مع طائفة من ذوي القلوب الرحيمة من الأطباء والصيادلة ومديري المستشفيات لمعالجة الأعضاء بأتعاب
معقولة، وتقديم الدواء بأثمان معتدلة، وقبول المرضى بالمستشفيات بأجور مخفضة، تقوم بدفعها الجمعيات من الاشتراكات التي تحصلها من الأعضاء.
كما أنه من الميسور أن يضحي الرجل منا من مرتبه الشهري بقيمة الاشتراك الذي سبق أن أوضحناه بالجدول على سبيل المثال، ليضمن لأولاده ولذويه مالاً أو معاشاً، يقتاتون به إذا ما عاجلته المنية، حتى ولو حصلت بعد أداء القسط الأول، وليضمن لنفسه معاشاً ينعم به في شيخوخته لكي لا يصبح حميلة على غيره، بعد ما كان في شبابه عاملاً مفيداً للمجتمع.
وواجب على الشباب المتعلم أن يبث الدعوة بين طبقات الموظفين والعمال وفقراء التجار والزراع لتشكيل الجمعيات التعاونية.
وأني على استعداد لإبداء النصح والإرشاد عن طيب خاطر لكل هيئة تتألف لتأسيس جمعية للتعاون في التأمين على الحياة، لأني ممن يدينون بمبدأ التعاون، ويعتقدون صلاحية المنشآت التعاونية لإنقاذ الطبقات العاملة الفقيرة من شتى المخاطر التي يستهدفون لها.
وليس بكاف أن يوجد في مصر أربع جمعيات تعاونية للتأمين على الحياة، تعمل كل واحدة منها في دائرة ضيقة، فلا تحتضن إلا عدداً قليلاً من الأعضاء. وأقدمها جمعية تعاون موظفي البريد التي أسسها المرحوم يوسف سابا باشا في سنة 1893، ثم تبعتها جمعيتا تعاون الصيارفة والمساحين. وجمعية تعاون موظفي الصحة التي أسسها حديثاً الدكتور شاهين باشا في فبراير سنة 1934. ولقد أخذت الجمعيات الثلاث الأخيرة نظامها عن جمعية البريد.
وليس هذا مجال نقد أنظمة تلك الجمعيات، وإنما نكتفي بالإشارة إلى إنها لا تقوم على أساس علمي صحيح في تحديد الأقساط وتوزيع المكافآت، بل على طريقة فطرية لا تتمثل فيها العدالة بين جميع الأعضاء وتعرضها لخطر الإفلاس، بالرغم أن موازينها تبدو لغير الفنيين في مظاهر اليسر. فأن خطر الإفلاس لا يمكن أن يدرك مداه في جمعيات التعاون في التأمين غير الفنيين، خصوصاً وأن موازين تلك الجمعيات لا تبين القيمة الحالية لتعهداتها إزاء أعضائها. ونأمل أن تسرع هذه الجمعيات إلى إصلاح نظامها على أساس القواعد العلمية الحديثة قبل فوات الأوان.
ولا يزال المجال متسعاً لمن يزيد أن يسجل التاريخ أسمه بين أبطال التعاون في مصر، فأن من يقوم بتأسيس من جمعية تعاونية في التأمين على الحياة، على أساس التعاليم الحديثة، يقدم للإنسانية خدمة جليلة، ويسدي لأمته خيراً كثيراً.
طه عفيفي عضو بعثة التأمين سابقاً
2 - بين المعري وداني
بقلم الشيخ محمود النشوي
في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة
تحدثنا فيما سبق عن رسالة أبن القارح، وأن أسلوبها أثار في نفس المعري رغبة في الضرب على غرارها، والاتجاه مع تيارها. بيد أن المعري أرانا أفانين من الخيال مما يحدونا أن نقول: إن رسالة أبن القارح وإن تكن أثارت لديه فكرة نقد الشعراء، ومحاورة الرواء والأدباء. . فلا يدور بخلدنا إنها كونت فيه روحاً ليست عنده، أو ألهمته فكرة لم يكن هضمها من قبل. على إنها وإن ذكرته الحوار والنقد فأن ثوب الخيال الذي ألقاه أبو العلاء على رسالة غفرانه يتسامى عن طوق أبن القارح وآلاف مثله. وما كان أبن القارح ليستطيع أن يتخيل تلك الرحلة العجيبة في طبقات الجنان، وبين دركات الجحيم.
ولدينا برهان قوي على أن المعري لم يسلك سبيلاً عبدها له أبن القارح، وأن رسالته ما كانت غير سبب مباشر، نبه من المعري فكرة راسخة. ذلك البرهان هو رسالة الملائكة التي نرى فيها خيال المعري يطوف بالجنة وبالنار يقرع أبوابهما، ويمزح مع الخزنة والحراس والملائكة في محاورة تستهوي اللب، وتضحك أشد الناس عبوساً. إذ يحاور عزرائيل حين يزوره زورة الموت، فيقول له: أمهلني ساعة حتى أخبرك بوزن عزرائيل. ولكن ملك الموت إذا جاء لا يؤخر عمله، فيستل روحه من بين جنبيه، ثم بقذف به إلى القبر فيلقى منكراً ونكيراً. وبدلا من أن يجيب سؤالهما. يبتدرهما هو بالسؤال فيقول: كيف جاء اسماكما عربيين منصرفين وأسماء الملائكة كلها أعجمية مثل إسرافيل وجبرائيل وميكائيل؟
فيقولان هات حجتك. . وكأني بأحدهما يهوي إليه (بالارزبة) فيتملقها قائلاً. قد كان ينبغي لكما أن تعرفا وزن ميكائيل وجبرائيل على اختلاف اللغات إذ كانا أخويكما في الله عز وجل. فلا يزيدهما ذلك إلا غيظا. . ثم يتخيل أنه تلاقى مع (مالك) خازن النيران فيحاوره لا في العذاب ولا في الزبانية. ولكن في أوزان الأسماء وجموعها فيقول له: أخبرني - رحمك الله - ما واحد الزبانية؟
فيعبس مالك لما يسمع ويكفهر. ثم يسائله عن (غسلين) قائلاً أهو مصدر أم واحد أم جمع؟.
ويحاوره في (جهنم) سائلاً: هل النون في جهنم زائدة؟ فيجيبه مالك بقوله: ما أجهلك وأقل تمييزك؟ ما جلست هنا للتصريف ولكن جلست لعقاب الكفرة والمشركين والقانطين. ثم يذهب في جماعة من الأدباء إلى رضوان خازن الجنان فيناديه بعضهم قائلاً. (يا رضؤ) بالترخيم. فيقول له ما حاجتكم؟ فيقول بعضهم نسألك أن تكون واسطتنا لدخول الجنة فأنهم لا يستغنون عن مثلنا: فقبيح بالعبد أن ينال هذه النعم وهو إذا سبح الله لحن. . ولعل في الفردوس قوماً لا يدركون أحرف (الكمثرى) أكلها أصلية أم بعضها زوائد فيبتسم رضوان ويقول: أن أهل الجنة اليوم في شغل فاكهون. هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون:
فانصرفوا - رحمكم الله - فقد أكثرتم الكلام فيما لا منفعة فيه، فيطلبون لقاء (الخليل بن أحمد) فيطل عليهم قائلاً: ماذا تريدون؟ فيعرضون عليه مثل ما عرضوا على رضوان فيقول لهم: إن الله جلت قدرته جعل من يسكن الجنة ممن يتكلم بكلام العرب ناطقاً بأفصح اللغات كما نطق بها (يعرب بن قحطان أو معد بن عدنان) فاذهبوا راشدين - إن شاء الله - فينصرف الأدباء وتنتهي رسالة الملائكة. تلك التي نتلمس من أسلوبها وخيالها أن رسالة الغفران أينعت في نفس أبي العلاء فأرسلها تحمل صنعته على الرواة الذين صحفوا أحاديث الشعراء. وعلى الشعراء الذين نجوا من عذاب الله دون عمل يسلك بهم سبيل النجاة (في رأيه).
وأما دانتي فقد علمنا أنه عذب وشرد في الآفاق. . وحكم عليه بالإعدام حرقاً. ثم كان محباً من قبل ذلك لبياتريشي وتفتحت أزهار حياته الأولى على أيدي القديسين والرهبان يغرسون في نفسه بذور التفكير في الجنان والنيران. وعذاب العصاة ونعيم الطائعين. فلما أوشك أن ينطفئ سراج حياته، وأذنت شمسه بالمغيب قبيل وفاته بأسابيع قلائل نظر وراءه فرأى قوماً اضطهدوه وشردوه ورأى حباً مضاعاً لم يستمتع به ثار في نفسه ما يثور في كل نفس عجزت عن نيل الأماني فعمدت للخيال تحقق به ما أضلته في الحقيقة. وتخيل رحلته في الجحيم وفي النعيم يلقى في جهنم من شردوه وعذبوه ويلقى فيها البابا بونيفاشيو الذي كان السبب في تشريده وتشتيت شمله، يراه في الدرك الثامن من جهنم في ثلة من المعذبين أمثاله غرست رؤوسهم وأكتافهم إلى الأسفل في حفر عميقة. وأما بقية أجسامهم
فقد ظلت معرضة لوابل النيران التي كانت تنصب عليها جزاء على اتجارهم بالدين. واتخاذهم من أسم الله ذريعة لجلب المنفعة لأشخاصهم، ويرى فيها الكونت جويدو منفيلترو الذي خدعه البابا بونيفاشيو. . ويرى بياتريشي حبيبته في طبقات الجنان مستمتعا عن طريق الخيال بما لم يستطعه لدى الحقيقة. ووصف استقبالها عند باب الجنان وصفا هو أخصب ناحية في أدبه. وسنذكر ذلك الوصف كاملاً غير منقوص حين الحديث عن الموازنة بين الخيالين عند الشاعرين. أفرأيت إذن كيف كانت الحوافز النفسية الخاصة تدفع كلا من الشاعرين أن يتخيل تلك الرحلة العجيبة؟ نعم كل منهما كان في نفسه نزوع لما كتب.
هل سرق دانتي رسالة المعري؟
مسألة طال حولها الحوار والجدل، ولم نر دليلاً مادياً على السرقة أو على البراءة منها. ولكن قوما يردونها. . فقد قال الأستاذ محمد كرد علي إن أعمى المعرة كان معلماً لنابغة إيطاليا في الشعر والخيال. وبعض الباحثين من المستشرقين في أوروبا على أن دانتي في روايته الإلهية قد اقتبسها - ولا سيما الجحيم - من رسالة الغفران للمعري.
وقال جورجي زيدان: إن المعري توفي سنة 449هـ ودانتي توفي سنة 720هـ، وملتن الإنجليزي توفي سنة 1084هـ. فلا بدع إذا قلنا باقتباس هذا الفكر عنه. وأقدمهما (دانتي) لم يظهر إلا بعد احتكاك الإفرنج بالمسلمين والإيطاليان أسبق الإفرنج إلى ذلك.
ذلك هو رأي جورجي زيدان توسع فيه حتى أدخل ملتن أيضاً في الاقتباس من المعري وحجته تأخر الزمن بدانتي وملتن واحتكاك الإفرنج بالمسلمين، فهل ذلك كله ينهض دليلاً على اقتباس الفكرة أو يكفي برهانا على الأخذ؟ المسألة لا تعدو الحدس والظن. وأما لنرى البراهين تنحاز دانتي فتبعده عن الأخذ وعن الاقتباس.
فقد بدأ حياته يتعلم الدين، يكفل ثقافته القديس فرانشكو
ولقد كان عصره عهده قوة سلطان الباباوات والكهنة. ولن يقوم لهؤلاء سلطان إلا بقوة النزعة الدينية. وإبان ذلك تتكاثر صور الجنة والنار واردة في أخيلة الناس وأذهانهم. أليس في نشأته الدينية، وفي عهده المليء بالتعصب الديني ما يكفي في أن ترد الجنة والنار في خياله؟ على أن فكرة الجنة والنار والنعيم والجحيم تدور برؤوس الناس منبلج الصباح
وأفول الشمس في كل يوم. فهي حق شائع لجميعهم لا يعده الأدباء أخذاً. ولم أنهم عدوه لكان كل شعرائنا وأدبائنا سراقا. ولكان امرؤ القيس سارقا لأنه بكى الديار كما بكاها أبن حذام من قبله، إذ يقول امرؤ القيس
عوجا على الطلل المحيل لعلنا
…
نبكي الديار كما بكى أبن حذام
وإنما الذي يعده الأدباء سرقة هو أخذ الفكرة النادرة التي ينفرد واحد بها. أو الترتيب الذي لا يستطيعه إلا الشواذ والأفذاذ فهل سرق دانتي الترتيب من رسالة الغفران؟ اللهم لا
فحراس الجحيم في خيال المعري ملائكة، وفي خيال دانتي شياطين، وأشخاص الرواية عند المعري شعراء ورواة. وعند دانتي رجال دين وعصاة ومذنبين، والجنة عند دانتي تسعة أقسام لكل قسم طائفة عملوا الخيرات كل على حسب عمله. وعند المعري ثلاثة أقسام (جنة الجن) وجنة (الرجاز) والجنة الأصلية.
وقد بلغ المعري أسمى خياله لدى وصفه الفردوس. كما كان أخصب النواحي خيالا عند دانتي هو وصف الجحيم
وسنعرض لذلك بالموازنة التامة (إن شاء الله)
على أنه إن كان لا بد من أن نتهم الشاعر الطلياني بالاقتباس. فأولى أن نعتقد أخذه من فرجيليو الذي كان دليله في رحلته وهاديه في ظلمات الجحيم. ولفرجيليو هو الآخر رحلة في أعماق الجحيم هي أقرب لخيال دانتي من رسالة الغفران.
ولقد كانت لدانتي أحلام فيها ملائكة وفيها موتى، هي إرهاص ومقدمة لرسالته العتيدة.
فقد رأى في حلم من الأحلام أنه ضل في غابة موحشة فأطلت عليه محبوبته بياتريشي في سحابة من الملائكة وعليها لهب قرمزي كأنه اللهب المتأجج. وخيل إليه أنه يتغلغل في عالم الأموات.
كما تحدث في بعض أشعاره قائلا: ها أنذا جالس في مكاني أذكرها وأذكر أيامها السعيدة فيلوح لي كأن ملائكة من السماء تهبط من عل وتأخذ أماكنها على المقاعد الموجودة حولي.
فإذا ضممنا لذلك كله أن حبه ألهمه خيال الجنة ليستمتع بمن أحب، وأن بغضه لمن حاربوه ونفوه وشردوه يوحي إليه أن يتخيلهم في دركات الجحيم، وأن تلك طبيعة النفس تشره لنيل آمالها ولو عن طريق الخيال. عرفنا براءته من السرقة.
يتبع
محمود أحمد النشوي
4 - بديع الزمان الهمذاني
للدكتور عبد الوهاب عزام
عاش أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني أربعين عاماً أمضى شطرها نائياً عن بلده وعشيرته في طلب المجد والغنى، فبلغ ما أراد. نبه ذكره واتصل بمعظم الأمراء والوزراء في الشرق: شمس المعالي قابوس بن وشمكير، وخلف بن أحمد، وبني قريفون، وبني ميكال والسلطان محمود، والصاحب بن عباد، والفضل بن أحمد، وأبي نصر من وزراء الدولة الغزنوية. وعرف كثيراً من رؤساء نيسابور، وطوس، وسرخس، ونسا، وبلخ، وهراة. وصار مطمح أصحاب الحاجات يتوسلون به إلى أولى السلطان والجاه، يتبين ذلك في كثير من رسائله. وقد قال في رسالة الشيخ أبي النصر في أمر بعض الفقهاء:(وهؤلاء الصدور، يرون الشمس من قبل أن تدور.) يعني أن الناس يرونه قادراً على تيسير حاجاتهم. وكان له عناية بالأمور العامة يبذل فيها من عقله وجاهه. كتب إلى الوزير الفضل بن أحمد مع وفد من هراة ذهبوا إليه يلتمسون تخفيف الخراج عن أهل مدينتهم، وكتب إلى رئيس هراة في أموال رأى جبايتها حراما، وكتب إلى وزير السلطان محمود في قتل رجل أسمه أبو عثمان: (والله لئن سكن السلطان العظيم وتغافل، وتسامح الشيخ الجليل وتساهل، أن الله بالانتصاف لملى، وأن الله على الانتقام لقوي، والمحنة أدام الله عز الشيخ الجليل في ذهاب ذلك العالم المسلم، دون المحنة في بقاء هذا الظالم المظلم، ولئن ساغ لهذا الفاسق ما فعل ليرخص نجم المسلم، وليراق دم العالم، وليصيرن كل سكين منشور ولاية، ثم ليتسعن الخرق على الراقع، وليس دم المسلم بيسير عند ربه، ولزوال الدنيا على الله أهون من صبه، أليس الله تعالى يقول: من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا: وأنا أعيذ بالله هذه الدولة من أن توصم بتعطيل الحدود، أو توسم بإهدار الدماء، وعسى الله أن يوفق الشيخ الجليل لتدارك هذا الأمر، أن ذلك على الله يسير.
ويقول في الرسالة نفسها: (ورد على خادم الشيخ الجليل كتاب من أقصى خراسان والعراق بحديث تسيار فلان وصاحبه فلان وذكروا معرفتهما بأحوال الثغور، وممارستهما لما يعرض بها من الخطوب، وأن أعين المرابطين والغزاة طامحة إلى نصره، من السلطان العظيم أعز الله نصره وقد بعثوا بهما وفدا وقدرا أنهما يجدانني بالحضرة فأكون لهما لسانا،
وتنجزا إلى كتابا ليعلماني، ولو أمكنني النهوض لاحتسبته لهما وإذا لم ينهض قدمي، فقد أستثاب قلمي، والشيخ الجليل يرى عالي رأيه في تفريبهما لنصرة الله والاصغاء المثوبة إن شاء الله تعالى.
وفي هذا ما يبين عن مكانته بين الناس واهتمامه هو بأمورهم.
ونجده أحيانا يكتب للإصلاح بين فريقين متحاربين. وقد مكنته هذه الهمة العظيمة من دفع المفسدين عن نيسابور، وكان إذ ذاك في مستهل صيته ومبدأ نباهته، يقول في رسالته إلى أبيه بعد إن وصف ما كان بخراسان من هرج ومرج: لا ولا شيء إلا السلاح والصياح وكل شيء إلا السكون والصلاح، وأنا إذ ذاك حاضر نيسابور وداري بين القبة الرافضة وكل يوم تهديد، ورعب جديد، فقلت:
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا
…
به الخطب إلا وهو للقصد مبصر
فلقيت صدور نيسابور وقلت حتام هذا البلاء والعلاج قريب ليأخذ، وهلا نفر من طائفة الغزاة؛ إلى هؤلاء الغواة، وآزارهم أهل الصلاح وأنا من دعا إلى هذا الأمر وأجاب إليه وبذل فيه وأنفق عليه، ففعلوا وما كان سواد ليلة حتى علت كلمة الحق وباد أهل الفساد، إن جرح الجور، قريب الغور، وإن نار الحلفاء سريعة الانطفاء، وأن كيد الشيطان ضعيف، ثم أسمع الآن بهمذان من خراب واضطراب، وبأموالها من ذهاب وانتهاب، وبأسواقها من فساد وكساد، وبأسعارها من غلاء، وبأهلها من جلاء، أفليس فيهم رجل رشيد يجمع كلمة أهل الصلاح؟ عجبا من تعاون المفسدين على أخذ ما ليس لهم، وتخاذل المسلمين عن منع مالهم.
أخلاق الهمذاني
أظهر أخلاق أبي الفضل بديع الزمان، الأنفة والعظمة، ومن أجل ذلك يكثر في رسائله عتاب الأمراء والرؤساء على التفريط في جنبه أو إنزاله دون منزلته. كتب إلى أبي جعفر بن ميكال حين آنس منه التقصير في الحفاوة به: (وأعرفه إني ما أطوي مسافة مزار إلا متجشما، ولا أطأ عتبة دار إلا متبرما، ولست كمن يبسط يده مستجديا، أو ينقل قدمه مستغذيا فإن كان الأمير الرئيس أطال الله بقاءه يسرح طرفه في طامح أو طامع، فليعد للفراسة نظرا.
فما الفقر من أرض العشيرة ساقنا
…
إليك ولكنا بقرباك تبجح
وكتب إلى الأمير خلف بن أحمد وهو الذي اصطفاه بأحسن مدائحه: (كتابي أطال الله بقاءك وقد كنت نذرت إلا أخاطب حضرته ثم روى لي القاضي حديثاً طرق إلى نقض ما نذرت طريقا وسمعت منشداً ينشد:
لحي الله صعلوكاً مناه وهمه
…
من العيش أن يلقى لبوسا ومطمعا
فقلت أنا معنى هذا البيت، لأني قاعد في البيت، آكل طيب الطعام وألبس لين الثياب، ويفاض على نزل، ولا يفوض إلى شغل، ويملأ لي وطب، ولا يدفع بي خطب. وهذا والله عيش العجائز والزمن العاجز. . . . ولعل جرما تصور، أو رأيا تغير، أو اعتقادا أخلف، أو ظنا اختلف. فأن لم يكن شيء مما سردت وأوردت فالغلط في صدر القصة كان، وفي عجزها بان. وإن كان كذا فبالله ما أرضى، ولو صارت السماء أرضا، ولا أريد، ولو انقطع الوريد. وأني لأستحي من الله أن أرى لي المثل الأدنى، وفي القوس منزع أبا، وإن لم أكن بالعراق أمير البصرة، وببخارى زعيم الحضرة، فما أزعجني عن همذان فقر إلى جوع وعرى، ولا ساقني إلى سجستان طمع في شبع ورى، وإنما نحوم حول المراد،
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة
…
كفاني ولم أطلب قليل من المال.
لا يكثر الأمير على من خلعه وصلاته. فوالله لو علمت أن قصارى أمدي سجستان أليها، وضياعها أقتنيها، وغلمانها أشتريها، وأموالها اتسع فيها، ولا مطمع في زيادة بعد لآثرت الزهد على الطلب.)
وكتب إلى عامل البريد: ولكنك طفقت لا تهاب سلطان العلم، فأعلمناك أن سلطان العلم لا يهابك. ولو اتصلت بالسماء أسبابك) وكتب إلى الوزير أبي نصر بن بريدة وقد قدم رجلا عليه: قدم اليوم على فلانا ولست أنكر سنه وفضله، ولا أجحد بيته وأصله، ولكن لم تجر العادة بتقدمه لا في الأيام الخالية، ولا في هذه الأيام العالية، وشديد على الإنسان ما لم يعود) إلى أن يقول: (أنا لا ألبس الشيخ الجليل على هذه الخصلة، ولا أحتمله على هذه الفعلة.
فأما أن تكون أخي بحق
…
فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني
…
عدوا أتقيك وتتقيني
لا أعدم كريما، ولا يعدم نديما. ولي مع هذا الماء حالان لا واسطة بينهما، إن صفوا
بأشربه، أو كدرا فلا أقربه، والسلام.
وكان البديع ذا همة عالية، ومروءة عظيمة، يعطف على الناس ويرثى لهم، ويصغي لأصحاب الحاجات، ويشفع فيهم. وقد مر بعض ذلك. ومما يدل على نبالة نفسه وسمو همته ما كتبه حين هنأه بعض الناس بمرض الخوارزمي، وما يظهر في رثائه الخوارزمي من حزن صادق.
ويؤخذ من رسائله أنه كان جوادا: كتب إليه صديق يؤذنه بقدومه إليه ويسأله أن يستأجر له داراً فأبى إلا أن ينزله معه في داره، وكتب إلى صديق له مات أبوه فحذره من أن يقتر على نفسه ويحرم نفسه المتعة بماله كما حذره أن ينفقه في اللهو واللعب. ومن رسالته إلى الأمير أبي الحارث محمد مولى أمير المؤمنين:(وأما الدرهم والدينار فدفعهما ونزعهما من يدي سواء. لا أشكر واهبهما ولا أشكو سالبهما. إن لي في القناعة وقتا وفي الصناعة بختا)
يشهد لهذا ما أرسله إلى أبيه من المال وما أرسله إلى أقاربه وأصدقائه من الهدايا.
وبديع الزمان على حسن معاشرته، وحلوة حديثه، وما ينزع إليه من الفكاهة في كتابه، كان في طبعه الانقباض، والنفرة من الناس والتشاؤم، يظهر هذا حين يصف الزمان أو يرثى الموتى أو يهجو رجال عصره من القضاة والكتاب، وأصحاب الأعمال. وحسبك من رسالته التي أجاب بها شيخه أبن فارس حين كتب إليه يذم الزمان:(نعم أطال الله بقاء الشيخ الأمام، أنه الحما المسنون، وإن ظنت الظنون. وأن الناس ينسبون لآدم. وإن كان العهد قد تقادم، وارتبكت الأضداد، واختلط الميلاد، والشيخ الأمام يقول: فسد الزمان أفلا يقول متى كان صالحاً؟ إلى أن يقول: وما فسد الناس، وإنما أطرد القياس، ولا أظلمت الأيام، وإنما امتد الظلام. وهل يفسد الشيء إلا عن صلاح، ويمسي المرء إلا عن صباح؟)
ويقول في الديوان:
كذاك الناس خداع
…
إلى جانب خداع
يعيثون مع الذئب
…
ويبكون مع الراعي
ولعل من هذا المزاج المنقبض كانت شدته في الهجاء، وإفحاشه في الذم أحياناً، وميله إلى العرلة، ولذلك كان أحسن شعره ونثره ما كتب في الرثاء أو التعزية أو الوعظ.
ويؤخذ من رسائله أنه كان عزوفاً عن اللهو، يعاف الخمر، ويتجنب المحرمات. وفي
رسالته التي كتبها لأبي الطيب سهل بن محمد يقول عن نفسه والخوارزمي: (ونحن في كل حال، على طرفي محال، هو خوارزمي ولست من خوارزم. وهو شاعر ولعن الله النظم؛ وخمري ولا أشرب الخمر، ونائي ولا أسمع الزمر، وعودي ولا أسمع النقر، ونردي ولا ألعب القمر.
ويؤخذ من رسائله كذلك أنه كان متألها يلتزم السنن جهده.
وقد بلغ من الورع أنه كتب وصية يأمر فيها بأتباع السنة في تجهيزه ودفنه، وينهى عن البكاء عليه، وهي مثبتة مع رسائله.
ونجد في رسائله مع هذا أنه يجيز الكذب أن كان في الكذب خير يقول. في رسالة إلى بعض وزراء الغزنوية. (زعم أدام الله تمكينه أني أخلف المواعيد، وأرد العذر البعيد. ومتى ادعيت أن قولي يكتب في المصاحف أو يتلى في المحاريب؟ ومتى تبرأت من الأحاديث. والله أني لأكذب الكذبة أظنها لحسنها صدقا)
وفي رسالة أخرى: (وقد زورت على الشيخ تزويرا آمل أن ينفعه الله به في الدارين، وغدا أعرفه الحديث)
يتبع
عبد الوهاب عزام
من طرائف الشعر
البهال
للشاعر الحاج محمد الهراوي
هُم الناس قد ألقوا عليَّ حمولهم
…
على علمهم أني أضجُّ بأحمالي
ويبلغُ ظن المرء منهم جهالة
…
بأني أنا وحدي له وحدَه خالي
فعِّمي وعماتي، وخالي وخالتي
…
وأبناءُ أعمامي، وأبناءُ أخوالي
وآلي، وأصحابي، وآل صحابتي
…
ومن ليس من صحبني وليس من آلي
يكلفني قومي ثمانين حاجة
…
ولم يحملوا منهنَّ ذرةَ مثقالِ
كأنيَ فيهم، والحوائجُ جمةً
…
وقد أثقلوا ظَهري، مطية أثقالِ
لئن سرَّهم مني خلائق عائلِ
…
لقد ساءني منهم خلائق بُهَّالِ
الهوى والشباب
تعالَى نعْش في ربيع الشبابِ
…
خلِيِّينِ من حَزَنٍ والتياحْ
ونُسبغْ على الكون ظِلَّ الرجاء
…
فيغدُوَ طلقاً كثير السماحْ
ونُصغِ إلى هاتفٍ في الغصونِ
…
طروبِ الغناءْ، شجيِّ النواحْ
ونجني مَلذَّاتِ فجرِ الحياةِ
…
فأن الشبابَ سريعُ الرَّواحْ
تولى زمانُ الأسى والرَّنين
…
وأشرقَ عَهدُ الهوى والمِراحْ
وزخرفتِ الأرض كَفُّ الربيع
…
ولفَّتْ بِبُردِ الجمالِ البطاحْ
ورف على الزهر قَطرُ الندى
…
رفيفَ الضُّحى فوق ماء قَراحْ
فهيَّا امرحي وابسمي للحياةِ
…
وحيِّي الربيعَِ، نجىَّ المِلاحْ
له الله من عبقري الفتونِ
…
صَناع البنان، ظليل الجناحْ
تراءى عليْهِ رداء النعيم
…
فيا حُسنه مُجتلى، حيث لاحْ
أطلَّ فأسفرَ بِشرُ الوجوهِ
…
وآبت بشاشةُ ثَغرِ الصباحْ
ومَّستْ يداهُ يَبيسَ الحقولِ
…
فعاد غزيرَ الجني والنفاحْ
وآوى إلى ظله اللاغبون
…
وألقوا هنالكَ عبَء الكِفاحْ
تعالى إلى روضةٍ بَرةٍ
…
وظِلِّ ندٍ، وصفاءٍ مُتاحْ
تعالى أبثَّكِ نجوى الفؤادِ
…
وأسِمْعِك شِبهَ أنين الرياحْ
تغلغل حبكِ بين الضلوعِ
…
وخالطَها مِثلَ ماءٍ وراحْ
فأحيا خيالي حتى استفاض
…
وأضحى بعيدَ مَجالِ السراحْ
جماَلكِ أوحى إليَّ القصيدَ
…
وما كنتُ قبلَكِ جَمَّ الصُّداحْ
نَعشتِ فؤادي بالذكرياتِ
…
وهَدْهدتِه بالمنى فاستراحْ
وعلَّمتِهِ من نشيدِ الحياةِ
…
لحوناً تَفيضُ بِروحِ الطِّماحْ
جراحُ الهوى، كالمنى، لذَّةً
…
فيا حُبِّ أيقظ دفين الجراحْ
دمشق
حلمي اللحام
الجدول الحالم
تدفق كشعري بالحنان، ولا تكن
…
شحيحاً، فهذا الزهر نشوان من ضمَّكْ
ووقَّعْ أناشيد الحياة على الحصى
…
ودع صادحات الطير نثمل من لثمك
وسر حالماً ما بين عشبٍ منمق
…
وبين شجيراتٍ تضاحكن من حُلمِكْ
تدفق، لأنتَ النايُ يُلهِبُ خاطري
…
وأنت شبيهي في صداكَ وفي وسمكْ
تدفق، وُثرْ، وأبعث أغانيكُ حرةً
…
ولا تخشى مأفوناً يلوم ولا يدري
ألا إنما الألحان تملك منطقي
…
ولحنُك أولى أن يُغَني على شعري
ولحنك آلامي، ثَوَتْ مِلَء خافقي
…
سنين إلى أن رُعتَها أنت من فكري
ووثبك بين الرمل، وثبي لدى الصبي
…
وعهد الصبي أغلى الذي فات من عمري
ألا حبذا كوخٌ لديك ومرتعٌ
…
بشطك أقضي فيه أسعدَ أيامي
لقد ضقتُ ذرعاً بالحياة وأهلها
…
وشَردتُ في بحبوبة العمر أحلامي
ونفسي تخاف الناس، حتى كأنني
…
أعاشر عجماواتِ تسعى لإعدامي
منعت يميني عن تحية فاجرٍ
…
مخافة أن تدمى بمخلبه الدامي.!
الجدول الحالم
تدفق كشعري بالحنان، ولا تكن
…
شحيحاً، فهذا الزهر نشوان من ضمَّكْ
ووقَّعْ أناشيد الحياة على الحصى
…
ودع صادحات الطير نثمل من لثمك
وسر حالماً ما بين عشبٍ منمق
…
وبين شجيراتٍ تضاحكن من حُلمِكْ
تدفق، لأنتَ النايُ يُلهِبُ خاطري
…
وأنت شبيهي في صداكَ وفي وسمكْ
تدفق، وُثرْ، وأبعث أغانيكُ حرةً
…
ولا تخشى مأفوناً يلوم ولا يدري
ألا إنما الألحان تملك منطقي
…
ولحنُك أولى أن يُغَني على شعري
ولحنك آلامي، ثَوَتْ مِلَء خافقي
…
سنين إلى أن رُعتَها أنت من فكري
ووثبك بين الرمل، وثبي لدى الصبي
…
وعهد الصبي أغلى الذي فات من عمري
ألا حبذا كوخٌ لديك ومرتعٌ
…
بشطك أقضي فيه أسعدَ أيامي
لقد ضقتُ ذرعاً بالحياة وأهلها
…
وشَردتُ في بحبوبة العمر أحلامي
ونفسي تخاف الناس، حتى كأنني
…
أعاشر عجماواتِ تسعى لإعدامي
منعت يميني عن تحية فاجرٍ
…
مخافة أن تدمى بمخلبه الدامي.!
تدفق؛ وأنشدْ، إنني وحدي الذي
…
يعي كلَّ ما تلقيه من وَحي قيثاركْ
وغيري من الأحياء ألهتهمُ الدُنى
…
فصُموا جميعاً عن قريضي وأشعاركْ
لئن كنتَ مغموراً، فلحنك خالد
…
وكم ذائع الآثار يعنوُ لآثارك
شدونا كلانا يا غديرُ، فلم أصِبْ
…
مُصيخاً، ولم تُلف المذيعَ لأسرارك!
عبرتُ إليك اليوم، والضوء ضاحك
…
بصفحتك الخجلي، وقد قاض بشره
وقد هبط النسمُ الجريءُ للثمها
…
حدوباً، عظيمَ الشوق، يُسكرُ نُشْرُه
وغرَّدَ عصفورٌ على غصن دوحةٍ
…
أغاريد عربيد تزايدَ سُكرُهُ
وصفَّقَ قلبي في الضلوع محاولاً
…
عناقَكَ، كي يَهمي بمائكِ شعرُهُ
ألآقل عن الذكرى، وحدِّث عن الهوى
…
ولو أنَّ في ذاك الحديث شجيِ قلبي
وقُصَّ الذي تدريه عن ملعب الصبي
…
وعن حيرة النجوى، وعن لوعةِ الحب
وقُل عن عهود الغيد ما قد وعيته
…
لعل بما ترويه تنفى جوى الصَبِّ
وحَدِّثْ عن الأولى حديثاً مُفصلاً
…
فأنيَّ منها فزتُ بالأمل العذبِ
تدفق، وقل يا جدولي، هاهو الضحى
…
قد أنساب منه النورُ فوقك كالتبر
تبسم، فهذا النسمُ هبَ مداعباً
…
مياهَك، فياضَ الطلاقة والبشر
وإن كنتَ لا ترضى عن الحسن والهوى
…
لأنك تلقى فيهما غاية الشَرِّ
فكن ثائراً، وارفع بألحانك النهى
…
إلى عالم سام من الطهر والبِرِّ. . .
أيَا جدولي المجهول، رَدِّدْ خواطري
…
ففيها شفاءٍ النفس من بعض أسقامي
ويا رُبَّ لحنٍ عاثرٍ متكاسلٍ
…
يُثيرُ نبوغي، أو يُحَفِّزُ إلهامي. .!
لَكَمْ نحت والإعصارُ يعوي مُدَمِّراً
…
بشطْيكَ، والأمواه تلطم أقدامي
وقد لاح في جوف الزعازع وأمضٌ
…
تألق نوراً من ذُرى الكوكبِ السامي
إلا فْلنُغَنِّ الآن للنجم، عَلَّةُ
…
يُضيءُ لنا ليلاً فتمضي المخاوفُ
لقد عشتُ مجهولاً بشطكِ مُهمَلاً
…
يُضيءُ لنا ليلاً فتمضي المخاوفُ
نزفتُ دمائي في مياهكَ كُلها
…
بربك قل لي ما عسى أنا نازف؟
عسى أن يشق النجمُ أسدافَ ليلنا
…
فتنقذنا الدنيا، ويُجْدِي التعارفُ!
مختار الوكيل
من الأدب الفرنسي
والحب. . .؟
لأناتول فرانس
قرأت فيما قرأت كتيباً ألمانياً عنوانه (على هامش سفر الحياة) للأستاذ جرهار دامنتور، فيه عرض قوي صادق لمعيشة النساء اليومية المضنية، وقد ترى معي أن الحزن باد على هذا الجانب المظلم من الجنس اللطيف:(في سبيل مطالب الأسرة وحاجات الزوج والأولاد تفقد ربة البيت سناء جمالها، وتذهب غضارة وجهها، وتستهلك قوة بدنها، وتنخر مخ عظامها. فهذا السؤال الخالد المعاد (ماذا عسى أن نطبخ اليوم من طعام، ونهيئ من أدام) وذلك الاضطرار الملح إلى مسح البلاط، وتنظيف الغرف، ونفض الثياب، وغسل الأواني إنما، هما قطرة من ماء تتساقط دائمة دائبة، لا تفتأ تعمل في بطئ على انحلال جسد المرأة وعقلها حتى لا تبقى منها شيئاً، ولا تذر لها أثرا، وأمام الموقد المشبوب، في المطبخ المشؤوم يستحيل هذا المخلوق الصغير، الناصع الوردي، ذو الضحكة الساحقة البلورية إلى مومياء هزيلة سوداء تبعث في الرائي الكآبة والألم!! وبين يدي ذلك الوجاق الأدخن الأسخم، يطبخ عليه اللحم في القدر تناثرت ضحايا كريمة:(الشباب، الحرية، الجمال، اللذة).
هذه عبارات جرهار دامنتور، وهذا حظ الكثرة الغامرة في الدنيا من بنات حواء. فأن الحياة عسيرة ملتوية عليهن كما هي عسيرة ملتوية على الرجال، كل يئن من وعوثة الطريق ويرفع عقيرته بالشكوى والصراخ! ولو راح باحث يستعلم وجه العلة في ذلك لأيقن أن ليس في الإمكان أن يكون غير ما كان، وأن الحياة لا بد أن تكون مضنية لأن جميع مقوماتها ضئيلة تندر فوق كوكب صعب إنتاجه واستثماره؛ ولن يرجى تخفيف عبء الشقاء لأن أسباباً عميقة متغلغلة مصدرها شكل الأرض، وطبيعة تركيبها، ونوع نباتها وحيوانها تحتم وا أسفاه دوام هذا الحال، وتقتضي عسر المعاش إلى يوم القيامة. ومهما يكن من أمر توزيع العمل في الناس فأن جمهرة الرجال وعامة النساء لتنوء كواهلهم بحمل أعبائه، ولن ترى غير امرأتين أو ثلاث قد خلصن من متاعب البيت ثم تسللن إلى مواطن اللهو وخرجن إلى باحة الحياة ينشرن الظرف والجمال، على مواطن العطر الندى واللذة
المتجددة، ويدخلن إلى النفوس الأماني والأحلام!! وإنما اللوم كله لا شك عائد على الطبيعة وحدها والحب، ما عسى أن يكون مصيره؟
لا نريد أن نعرف مصيره المنحدّر إليه ما دام الجوع عدوه اللدود وخصمه العنيد. ومن الواقع الذي لا يتطاول إليه الريب أن النساء جائعات أبداً، قد وكل إليهن أمر الطبخ في القرن العشرين كما وكل إليهن أمره في القرن التاسع عشر، اللهم إذا لم يرجع عهد هاتيك العصور النائية حين كان الصيادون يلتهمون فرائسهم ساخنة نيئة، وحين كانت فينوس - آلهة الحب والجمال - تجمع العشاق جميعاً وسط الإحراج ثم تفيض عليهم من وحيها ما شاءت لها العاطفة المشبوهة أن تفيض! يومئذ، ويومئذ فقط، كانت المرأة حرة طليقة قد تنصلت من تكاليف الحياة وخرجت على حدود الأسر والانكماش.
وهاأنذا أعترف إليكم بما يدور في خلدي، فاستمعوا لما أقول: لو كنت أنا خالق الجنسين من ذكر وأنثى لأبدعتهما على نحو يباين ما نعهده الآن فيهما من فقاريات لبون. كنت لا أخلق الرجل والمرأة على غرار القردة، وإنما أنشئهما على صورة الحشرات التي تكد وتعمل إذ تكون ديدانا، صغيرة ثم تنقلب إلى فراش جميل طائر يحيا حياة التشرد والهيام، لا شاغل له غير أن يحب وأن يحب! وكنت أضع طور الطفولة والشباب في آخر مراحل الوجود البشري. والواقع أن نوعاً معلوماً من الحشرات أثناء نموه وتطوره تبيد منه المعدة وتقوي الأجنحة، فهو إنما جاء إلى الدنيا بهذا الشكل المهذب ليتمتع منها ساعة أو ساعتين ثم يموت!
أجل! لو كنت إلهاً (أو أُليها (بالتصغير) لأن فلسفة الإسكندرية تعزو صنع هذا الكون إلى آله صغير أو شيطان مبدع) لو كنت أُليها لما اتخذت غير هذه الحشرات نمطاً أنسج على منواله الإنسان، وكنت أجعل المرء يتم جميع أموره المعيشية الغذائية وهو جنين، وفي هذا الطور الابتدائي لا أثر للغريزة الجنسية البتة ولا جوعيغشى الحب أو يلتهم معالمه، ثم أدفع الحياة إلى حيث يطير الرجل والمرأة على أجنحة رفافة، يتنقلان فوق الزهور، ويتذوقان ما يشتهيان ثم يموتان في معانقة وتقبيل. . . وهكذا أكون قد أكسبت الحياة الفانية جزاء وفاقا، ووضعت الحب تاجا على رؤوس الأحياء من بني آدم. ولعلك توافقني على أن ذلك خير وأبقى!!
بيد أنني وا حسرتاه لم أخلق الكون، والإله المبدع لم يشاورني في الأمر، وأنا أشك فيما بيني وبين نفسي أن يكون قد استشار أحدا من الفلاسفة، ورجالات العلم والمعرفة.
حمص
محمد روحي فيصل
تذكار الشاعرة الكونتس دي نواي 1876 - 1933
للأستاذ خليل هنداوي
خلاصة مقال نشرته مجلة في تموز الغابر للأديب (موريس را)
دي نواي والطبيعة
يقول (جابريول) إن الشاعرة الفتاة - صديقة الحدائق - قد تأثرت كثيرا بالشاعر الكبير (جامس) وقد وضح هذا التأثر في ديوانها (القلب الذي لا يمكن تعديده) فهناك تشابه قريب بين الروحين وبين الفنين. فمقطوعات الشاعر (جامس)(الآس البري الأزرق) و (شجرات الجوز ذات الأزهار البيضاء) و (طيب الغصون المبتورة قبل الشتاء، وهو ينتشر كالمحزون في أجواء الغابة) قد ألهمت (دي نواي) كثيرا. وهب أن (جامس) لم يكن مترنماً بهذه المقاطع، فهل كان باستطاعة (دي نواي) أن تستنزل ذلك الإلهام، وأن تخترق بروحها ما اخترقت من تلك الآفاق الواسعة. قد يكون الجواب لا، ولا ريب! ولكن مالنا ننكر على (دي نواي) براعتها وخصائصها، فهبها إنها كانت حميلة على (جامس) في كي ما أنتجت وأخصبت، فأن للشاعرة وراء هذا كله مجداً وبراعة خاصة. لقد أغارت على طائفة من معاني (جامس) إغارة روحية لا أدبية، ونظمت ما تلجلج فيه (جامس) نظماً رقيق الحواشي، لطيف التعبير، زاخراً بالعاطفة، جرت فيه على الأسلوب العاطفي، أسلوب (هوجو ولامرتين). أما هوجو فقد كان كثير الرؤى والأحلام و (بودلير) كان يعبث بالطيوب عبثا، أما (الكونتس) فقد فتحت قلبها للصباح وودت أن تلمسه وتذوقه بحاستي اللمس والذوق، كما تقول:
(أفتح فمي للهواء الذي ترطبه الانداء)
وفي موطن آخر تراها لا تشبعها الطيوب ولا الألوان ولا الألحان، تتذوقها وتظل جائعة نهمة، فتعلن أنها تود أن تلمس العالم والطبيعة بيدها، فنقول بلهجة صادقة:
(أريد أن ألمس عذوبة هذا الفضاء، هذه العذوبة الندية الزرقاء حيث العصافير السكارى تثب وتنفذ في مساربه كما تشاء)
فهي تريد أن تتذوق وأن تتروح وأن تلتمس وأن تلتهم جمال الصباح، هي تستطيع أن تقول مع (سانت انطوان) بنأليه الكون. (أريد أن يكون لي أجنحة، وأن أدخل في كل
شيء، وأن أكون في كل شيء. أنتشر كالطيوب، وأنمو كالنبات، وأجري كالماء، وأرن كالألحان، وأسطع كالنور وأوتى جميع الأشكال، وأنفذ في كل شيء وهيئة، وأغور في أعماق المادة، وأكون بعد هذا كله - المادة. . .)
ودت الشاعرة أن تكون المادة بذاتها، فدنت منها وامتزجت مع الأشياء وقالت (سيكون جميلا وحقا إيماني. . . بأن قلبي المتوقد هو كهذه الكمثرى التي ينضج جلدها رويداً تحت أشعة الشمس). وتمنت أن تكون أحد الكائنات في الغاب، فقالت والجشع غالب عليها:
(من أين جئت؟ إن الوجود لم يحل العقدة التي تجمعني بهذا المرأى.
أنا بنفسي، أفق، وجدول، وكوكب، وغابة).
على أن رغبتها قد تثور فتأبى أن تماثل جسدها الهالك بكل أشياء هذا الوجود، ويهيج نهمها الذي لا يشبع فتخاطب الزمن قائلة:
(وأنا مثل الزمن. أنا قبل مصر العتيقة. وقبل اليونان. كنت في عهد الماء)
على أن مثل هذا الهذيان الخيالي قد يدعو إلى الابتسام، وإذا كانت الشاعرة - في واديها الذي هامت فيه - لم تخلص نفسها من تأثير أترابها الشعراء فيها، ولم تجد لمسراتها التي تفننت بها ألحانا جديدة قوية، فأنها قد جارتهم وبزتهم في كثير من مقاطعها، وابتدعت لنفسها أفقا جديدا، وإذا أدرك الشعراء الطبيعة وفهموا معانيها ورأوا ألوانها، وتنشقوا أريجها، فهي قد تروحت هذا الأرج وأصغت إلى ألحان الطبيعة التمتامة، ولمست أشياءها وأكلتها وشربتها.
أليس هذا نهمها الشعري يبدو في ثنايا سطورها؟
وهكذا أجدني أستطيع أن أطرح بيدي للا نهاية فإذا كل شيء دان من فمي، لا يمتنع عنه شيء)
وإذا ما هبت النسائم العاطرة تروحت شذا خمور (آسيا)
(وهذه الريح المهيمنة. . .
المزودة بالسماء والفضاء، والمناظر الواسعة
هي شبيهة بهذه الخمور القادم شذاها من (آسيا)
وإذا ما جنحت الشمس للغروب وكان الأفق هادئا جميلا، خيل لها أن الطبيعة نفسها قد
استحالت كلبة جميلة أمينة مستوية على حضنها).
(وكنت أحس أن هذا المساء الأنيس
يهرع إلى من كل صوب ومن كل طريق لينام بين يدي)
فيالها من ساحرة نهمة لا تشبع، ويالها من غادة مجوسية - كما دعاها مارسيل بروست - هذه الغادة النهمة التي لا تقنع بإرسال طرفها في الكون، ولا بالإصغاء إلى أصواته، ولا بتروح شذاه، فهي تعمل على أن تلمس وأن تلتهم الوجود إلتهامة الشره. ولهذه الرغبة الملتهبة والصور القوية المكتنزة يعود سر استعمالها للألفاظ (اللحمية) في شعرها، ودي نواي الشاعرة هي التي كتبت (لأندريه جيد) عن الأطعمة الترابية - بكل ما في معنى الكلمة حتى أنزلت الطبيعة والحياة عندها منزلة (راحة الحلقوم)(إن الهواء الحار يحمل إلى أريكة تتهافت عليها روحي وفجاجة هذا المرج الأخضر هي في عيني مائدة فاخرة)
لكن إغراقها كثيرا في التشابيه والمجازات قد يضل القارئ عن أغراض المقطوعة وعن قصد الشاعرة.
قد تكون وجهتها في شعرها وجهة (جامس) في شعره، فأن (جامس) قد تغنى بجبال (البيرية) التي حنت على طفولته وشدا بجمالها الساحر بألحان صادقة سامية رائعة، و (دي نواي) قد تغنت بحدائق (فالوا) الفينانة، وبدت شرقيتها في كل ما نظمت هذه الشرقية المغمضة، فكانت تتروح عطور المشرق وتجد ألوان جزائر (الأرخبيل) وتذكر الأرض وقد حالت عند المغيب شعلة ملتهبة، هذه المناظر وهذه الأكوان قد آثرتها على كل شيء ووصفتها وحبتها بالألوان والشذا وبكل تلك الخاطرات السامية التي تموج في قلبها.
قال أحد نقادها بعد وفاتها (إن دي نواي قد أحبت التراب القدسي الذي يولد منه كل شيء، وإليه كل شيء يعود، هذا المعبد الذي تتعاقب عليه الفصول الأربعة تعاقبا متشابها. أحبت في الأرض تلك المرضع التي يفيض قلبها رأفة وحنانا، والتي تسمو عن الإنسان القاسي على الضعفاء)
وإذا تأمل قارئ (دي نواي) في شعرها يدرك أن هذا رأي خاطئ، لأن الشاعرة لم تقدس الأعمال ولا الأيام. لكنها كانت كإحدى كاهنات (أدونيس) أو (باخوس) تحمل في صدرها ملذات حساسة متيقظة. وهي لا تتخذ الطبيعة موضوعا لها، بل تتخذ موضوعها نفسها،
وإذا ما خرجت عن نفسها لتتحد مع النجوم الساهرة، أو لتمتزج مع الأطياف التي تخلقها بخيالها، فإنما تريد من وراء هذا كله أن تنمي وجودها، وتستخلص من الوجود مسراتها النادرة.
وهي القائلة عن نفسها: (قد أكون غير مجدية، ولكن فراغي لا يملؤه أحد)
(يتبع)
خليل هنداوي
العلوم
ويسألونك عن الأهلة
للدكتور أحمد زكي
- 2 -
ملعوب القمر
نظر الإنسان من قديم إلى القمر، فوجد بعض سطحه نيِّرا كثير النور، وبعضه قاتما قليل القتومة، فتخيل عنه الأخيلة.
وجاء التلسكوب فنظر إليه منه فزاد تفصيل ما كان يراه أجمالا، فرأى مناطق الأنوار قد اتسعت، ومناطق الظلال قد امتدت، وتداخل النور في الظل، وتداخل الظل في النور، وتمثلت في ذهنه صورة الكرة الأرضية ببحارها الواسعة وقارَّاتها المديدة، وعرف البحر يدخل في الأرض، وعرف الأرض تدخل في البحر؛ وعلم أن الأرض تكون بها الجبال العالية الرواسي فتظهر في الشمس للرائي البعيد واضحة وضاءة، وتكون بها الوديان المنخفضة المستورة فتظهر في الشمس للرائي البعيد قاتمة معتمة، فطبق الإنسان علمه الأرضي على ما أرتاه في القمر من ظلال وأنوار، ورسم الرسامون خرائط لوجه القمر كثيرة دقيقة، فأما المناطق التي برزت بنصاعتها فأعطوها أسماء فلاسفة معروفين، أو فلكين مشهورين، لأنهم خالوها جبالا شواهق خالة فتخلد أسماءهم، وأما المناطق التي امتازت بحلوكتها فحسبوها بحار أو محيطات فأسموها البحر الحبيس والمحيط العاصف.
وغير ذلك من أسماء تسلس في السمع وتجوز في الإفهام وزاد الإتقان في صناعة التلسكوبات فاحتد بها بصر الإنسان ودقة ملاحظاته، واستخدم التصوير الشمسي في التقاط ما يرى من صور، فعلم من أمر القمر ما لم يكن يعلم، ومع ذلك احتفظ علم الفلك بالأسماء الرنانة التي وضعت قديما أعلاما على مناطق القمر.
ويظهر إن الإنسان عز عليه فقدان هذا الحلم العزيز، فلما قام صوت يجدده ويحييه منذ مائة عام وجد له آذانا تصغي وقلوبا تؤمن. ذلك إن العالم الفلكي المعروف الدكتور جون هرشل ذهب في بعثة إلى جنوب أفريقيا لدراسة النجوم في وسط السماء الجنوبي كما درسها في
نصفها الشمالي، ولما وصلها أنطلق قلم بعض الكتاب يصف ما وجدت البعثة من العجائب وما كشفته في القمر من غرائب، وذلك على صفحات جريدة بالولايات المتحدة ذات مكانة رفيعة وحرمة معروفة أسمها (شمس نيويورك) ذكر الكاتب كيف اهتدى الدكتور (هرشل) بعد مناقشة علمية طويلة بينه وبين العالم الفيزيائي السير دافيد إلى صنع تلسكوب جديد يستخدم فيه الضوء الصناعي في توضيح الصورة البؤرية للمرئيات، وأفاض في تفصيل تلك المناقشة وذكر فيها كثيرا من نظريات الضوء وقواعده ومعقداته، وقدَّر العالمان نفقه هذا المخترع الجديد فكانت سبعين ألفا من الجنيهات، فبعثا إلى صاحب الجلالة الملك وليم الرابع بجملة الأمر، وكان جلالته يهتم بالبحار أكثر من اهتمامه بالأقمار، فسأل هل يفيد هذا المنظار الجديد الملاحة؟ فكان الجواب نعم، فأمضى لهما حوالة بيضاء يرقمان فيها المال الذي يريدان. وصنع المنظار وجاء دور الرؤية فكانت رؤيا. نظر (هرشل) إلى القمر لأول مرة فماذا رأى؟ (أخذ أول الأمر يتفقد أراضي القمر وآفاقه أحمالا فرأى من ذلك عجبا؛ رأى بلورات لامعة تشع منها ألوان مختلفة جميلة كالتي تشع من الجواهر والأحجار الكريمة، إلا إنها ذات جرم هائل، فهي أشبه شيء بأعمدة (الاستالا كتيت) البديعة التي تتدلى من سقوف الغيران. ورأى رواسب الذهب تغمر السفوح والقيعان) ثم دار بمنطاده فوقع على غابة قمرية (بها أشجار عظيمة اختلفت أجناسها ولمعت أوراقها وتلونت أزهارها، وطالت بعض فروعها العالية وتدلّت حتى نالت الأرض. ونمت هذه الغابة إلى جانب بحر ذي ضياء سحري كأنما سكنته الحور. . .) وأخيرا وقع على حيوانات القمر فرأى (قطيعا من ذوات الأربع سمراء اللون أشبه شيء بثيران البيسون، يتميز بغشاء من اللحم نما كالمظلة على العينين وامتد حتى اتصل بالأذنين، هو لا شك وقاية من صنع الطبيعة أرادت بها حفظ أبصارها من ضوء يشتد على هذا الجانب من القمر حتى يبهر العين ويؤذيها. واتضح بعد نظرات عديدة أخرى أن حيوانات القمر كلها تشترك في حمل هذا الحجاب الساتر) ثم دار (هرشل) بمنظاره هنا وهنا، وبعد لأي (رأى جماعة من الطير تهبط إلى جانب غابة صغيرة، ولما مست أرجلها الأرض اختفت أجنحتها واستقام عودها ومشت مشية الإنسان) وذات يوم استيقظت البعثة على صوت هاتف يهتف: النار النار. فهرعوا إلى ناحية الصوت فوجدوا أنهم كانوا في الليل غفلوا عن أن يوجهوا
المنظار غير وجهة المشرق، فلما طلعت الشمس أصابت عدساته فتركزت على ما وراءها فأحرقته وأحرقت المرصد بما فيه، وأدهى من ذلك وأنكى إنها أساحت زجاج المنظار نفسه وأتلفت مراياه فخيم على المعسكر يأس شديد)
هذه كلها بالطبع قصة من خلق كاتبها، أطالها ومدد فيها واستعار لها لغة العلم، وقواعد العلم، ونقاش العلم، فسبكها وحبكها وأطلعها على الناس من فوق منبر معروف، فجرت الشائعة فيهم بالتصديق. ولم تلبث أن جرت فيهم بعد حين شائعة أخرى بالتكذيب. وأسماها التاريخ (ملعوب القمر
وكلن لهذا الملعوب معان كثيرة، وكان له عبر كثيرة، وكانت له مغاز كثيرة، أقلها أن الناس أسرع ما يكونون إلى تصديق الخيال الكاذب الملون منهم إلى الإيمان بالحقيقة العاطلة القاسية.
أما الحقيقة، فليست أدرى أهي عاطلة أم قاسية، فهي أن القمر بلقع أجرد، لا ماء فيه ولا نبات ولا حياة.
يتبع
أحمد زكي
القصص
السهم الأعظم
أوسكار وايلد
ترجمة الأستاذ بشير الشريقي
كانت الحفلات في كل مكان لأن أبن الملك على أهبة الزواج، لقد انتظر عروسه، وهي أميرة روسية، عاما كاملا؛ وأخيرا جاءته مجتازة إليه المسافة الطويلة من (فنلاند) على زحافة يجرها ستة دببة، تشبه في شكلها إوزة كبيرة من الذهب، وبين أجنحة هذه الإوزة اضطجعت الأميرة الصغيرة ملتفعة ببرنس من الفرو يصل إلى قدميها، وعلى رأسها قبعة من الدمقس الفضي، وكانت في صفرة وجنتيها تشبه قصر الثلج الذي عاشت فيه، حتى أن الشعب كان كلما رآها تجتاز في عربتها شوارع المدينة يهتف معجبا:(إنها كالوردة البيضاء) ويرمي عليها الأزهار من الشرفات.
وعند باب القصر وقف الأمير ينتظر عروسه، تزين وجهه عينان عسليتان حالمتان، وشعر كالذهب المصقول، حتى إذا رآها جثا على ركبته وقبل يدها متمتماً (كم كانت صورتك جميلة، ولكنك أجمل بكثير من صورتك) فاحمرت وجنتا الأميرة الصغيرة حياء. .
قال وصيف إلى رفيقه - كانت من قبل كالوردة البيضاء - ولكنها الآن (كالوردة الحمراء) وعم القصر السرور.
مضت ثلاثة أيام على مجيء الأميرة، وكل شخص في المملكة كان يردد خلالها (الوردة البيضاء، الوردة الحمراء، الوردة البيضاء). كما إن الملك قد أمر بمضاعفة رواتب الوصفاء والوصيفات. ولما كان الوصيف لا يأخذ راتباً لم يثر ذلك اهتمامه إلا من ناحية أن أمر الملك الذي نشر في جريدة القصر، كان بذاته شرفاً عظيما له.
وكان اجتماعا حافلا هذا الذي سار فيه العروسان ويد كل منهما في يد الآخر، تحت مظلة من القطيفة الأرجوانية الموشاة باللآلئ.
ثم كانت وليمة الدولة التي دامت خمس ساعات، وقد جلس فيها الأمير والأميرة في صدر القاعة الكبيرة، وشربا في كأس من البلور الصافي لا يشرب فيها إلا المحبون المخلصون،
لأن شفاء الغدر لا تمسه حتى يأخذها القتام والتلبد.
قال الوصيف الصغير: - من الواضح أنهما متحابان، ذلك واضح وضوح البلور، فضاعف له الملك راتبه للمرة الثانية.
صاح رجال البلاط - ياله من شرف عظيم!
وبعد الوليمة كان الرقص، وكان على الأمير والأميرة أن يرقصا معا (رقصة الوردة) ووعد الملك أن يعزف بالناي، ولكنه لم يحسن العزف أبدا، ولم يجرؤ أحد أن يخبره بذلك، لأنه الملك لم يكن عارفا إلا بنغمتين اثنتين، وقد ظل حائرا أيهما يختار، مع أن الأمر أهون من ذلك إذ ما من شخص إلا كان على استعداد لأن يصيح مهما كان عزف الملك - هذا هو السحر. هذا هو السحر!
وكان آخر ما في البرنامج استعراض الأسهم النارية عند منتصف الليل. ولم تكن الأميرة الصغيرة قد شاهدت انطلاق هذه الأسهم من قبل. لذلك أمر الملك صاحب الأسهم النارية الملكي أن يكون على استعداد ليلة الزفاف.
سألت العروس الأمير - ماذا تشبه الأسهم النارية؟
قال الملك وكان يحب دائماً على الأسئلة الموجهة إلى غيره - إنها تشبه شفق الصباح، ولكنها أكثر بساطة؛ أنا شخصيا أفضلها على النجوم، إنها مبهجة بقدر ما يبهج عزفي على الناي؛ من المؤكد أنك سوف ترينها.
وهكذا انصبت منصة كبيرة عند نهاية حديقة الملك، وحالما وضع صاحب الأسهم النارية الملكي كل شيء في مكانه الخاص أخذت الأسهم النارية تكلم بعضها بعضا.
صاح صاروخ صغير - حقا أن العالم جميل، وأني لمغتبط لأني قد تنقلت. أن الترحال يروح القلب، ويريض العقل، ويمحو ما كمن في النفس من تعصب.
قالت شمعة رومانية كبيرة - أن حديقة الملك ليست العالم أيها الصاروخ الغبي. . العالم مكان واسع جدا، ولتشاهده تماما تحتاج إلى ثلاثة أيام بطولها.
هتف دولاب كثير التفكير قد ثبت إلى صندوق قديم - أي مكان تحبه فهو العالم عندك - ولكن الحب لم يعد رائجا في هذه الأيام، لقد قتله الشعراء الذين تكلموا عنه كثيرا حتى لم يعد يصدقهم أحد. . المحب المخلص يتألم في صمت. . وأني لأذكر أيام ألـ. . ولكن ليس
من الضروري الآن. . الحب شيء جميل عرفه القدماء. .
قالت الشمعة الرومانية - كلام هراء! الحب لا يموت أبدا، إنه كالقمر، وسيعيش إلى الأبد. أضرب لك مثلا: العروسان، أنهما متحابان كل الحب، لقد علمت هذا الصباح كل شيء عنهما من ورقة سمراء حدث أن كانت في نفس الدرج الذي كنت فيه: وهي تعرف آخر أخبار البلاط.
ولكن الدولاب القديم هز رأسه وتمتم - مات الحب، مات الحب، مات الحب؛؛. لقد كان من هؤلاء الذين يظنون أنك إذا أعدت الشيء الواحد مرارا عديدة يصبح في النتيجة حقيقية.
وفجأة سمع سعال خشن رنان، فالتفت الجميع ليعرفوا مصدره فإذا به آت من سهم طويل له منظر المتشامخ قد ربط إلى نهاية عصا طويلة، وكان من عادته أن يسعل قبل أن يبدي أية ملحوظة، وذلك ليسترعي الأسماع.
قال - أهيم أهيم وأصغى الجميع إلى الدولاب المسكين الذي ظل يهز رأسه - متمتما (مات الحب). صاحت مفرقعة - النظام. . النظام.) لقد كانت سياسية من بعض النواحي وكان لها دائما عمل معلوم في الانتخابات المحلية، لذلك عرفت كيف تستعمل التعابير البرلمانية الخاصة.
قال الدولاب في خفوت - مات الحب ثم أخذه النوم.
ولما عم الصمت، وانتشرت السكينة، سعل السهم للمرة الثالثة وأنشأ يتكلم، لقد تكلم بصوت هادئ جداً وواضح جداً كما لو كان يملي أفكاره إملاء. وكان ينظر دائما إلى أعلى أكتاف الشخص الذي يخاطبه؛ وفي الواقع كان أسلوبه رائعا. .
قال - من حسن حظ أبن الملك أنه سيتزوج في نفس اليوم الذي سأنطلق فيه! حقيقة رُب صدفة خير من ميعاد؛ ولكن الأمراء موفقون دائما.
قال الصاروخ الصغير - يا عزيزي أظن الأمر على العكس تماما، فأننا سوف ننطلق على شرف الأمير.
أجاب - قد يكون ذلك صحيحا بالنسبة إليك. بل أني لا أشك فيه، ولكن الأمر معي يختلف جداً. . أنني سهم عريق في المجد. . وقد تحدرت من أبوين نبيلين، كانت أمي أعظم (عجلة) في عصرها، وكانت مشهورة برقصها البديع، وقد عاشت معللة بأحسن البارود،
وكان والدي شبيها بي، ومن أصل فرنسي، إذا أنطلق ارتفع جداً حتى كان الناس يخشون أن لا يعود إليهم. . ولكنه كان يعود، وكثيراً ما كتبت الصحف عن أعماله بعبارات الإطراء والإعجاب. وفي الحق أن جريدة البلاط قد لقبته ببطل (الأسلم النارية). قال الضوء البنغالي - تريد أن تقول (الأسهم النارية. . الأسهم النارية. .!)
أجاب السهم بلهجة خشنة - حسن، لقد قلت الأسهم النارية، ثم استمر في حديثه. . لقد كنت أقول. . لقد كنت أقول. . ماذا كنت أقول!؟
أجابت الشمعة الرومانية - كنت تتحدث عن نفسك
- طبعاً أنا أعلم بأني كنت أبحث في موضوعات طلية حينما قوطعت بكل وقاحة. . أنا أمقت الوقاحة والرديء من الصفات، لأنني حساس بأوسع معاني هذه الكلمة. . ما أظن أن في العالم من هو أقوى شعوراً مني. . أنني متأكد تماماً من ذلك.
قالت المفرقعة للشمعة الرومانية - من هو الشخص الحساس!؟
أجابت الشمعة الرومانية في همس لا يكاد يسمع - هو الذي يطأ دائما أصابع أقدام الآخرين.
فانفجرت المفرقعة عن هدير من الضحك.
السهم محنقاً - أرجوك، علام تضحكين! أنا لست أضحك أجابت المفرقعة - أنني أضحك لأنني مسرورة.
قال السهم غضبان - أنه لعذر أقبح من ذنب. يدل على أنانيتك المفرطة، قولي ما الذي يجيز لك أن تكوني مسرورة. . يجب أن تفكري في الغير، بمعنى أنك يجب أن تفكري في: أنني أفكر دائما في نفسي، وأني لأتوقع من كل شخص أن يفعل فعلي، ذلك ما يسمونه (الأثرة) وأنها لنعم الفضيلة، لنفترض على سبيل المثال، أنه قد حدث لي مكروه الليلة فكيف يكون حال كل واحد؟
الأمير والأميرة لن يسرا بعد ذلك، وستنقلب حياتهما الزوجية رأساً على عقب، وكذلك الملك فأن اضطرابه سيكون عظيما أيضاً. حقيقة أني لا أكاد أبداً في تصوير خطر مركزي حتى تغلبني الدموع
فصاحت الشمعة الرومانية - أرى الأفضل لك إذا كنت تحب الخير للغير أن تبقى جافاً.
وهتف الضوء البنغالي - بالتأكيد، هذا ما يقضى به الشعور العادي. .
قال السهم في استهزاء - الشعور العادي. . حقاً لقد نسيتم بأني غير عادي، وأني عظيم جداً. . لماذا. كل شخص يمكن أن يكون ذا شعور عادي ولكن يكون محروم الخيال، أما أنا فخيالي لأني لا أنظر إلى الأشياء كما هي أبداً. . أني أفكر فيها من ناحية بعيدة عن الحقيقة. حقاً لا يوجد بينكم من يحمل قلباً. . أنكم تضحكون وتلهون كأن الأمير والأميرة لم يقترنا الساعة.
هتف منطاد ناري صغير - حسن حقاً. . ولماذا لا نضحك ولا نلهو. . إنها خير فرصة نغتنمها للسرور، لقد صممت أن أخبر النجوم عن ليلتنا، حين احلق في الهواء. . وسوف تراها تتلألأ حين أحدثها عن العروس الجميلة. .
قال السهم - آه ياله من رأي سخيف. . ولكن هذا ما كنت انتظره. . لا شيء فيك، أنك منتفخ فارغ. . لماذا. . قد يذهب الأمير والأميرة ليعيشا في بلاد يجري فيها نهر كبير. . وقد ينجبان ولداً وحيدا ذا شعر جميل وعينين عسليتين كعيني الأمير، وقد يخرج في أحد الأيام يسير مع وصيفته، وقد تذهب الوصيفة لتنام تحت الشجرة الكبيرة الضخمة، وقد يسقط الولد الصغير في النهر العميق ويغرق، أن من المصائب الهائلة، أيها الناس المساكين أن يفقد الأمير والأميرة ولدهما الوحيد.
قالت الشمعة الرومانية - ولكنهما لم يفقدا ولدهما الوحيد ولم يحدث لهما مكروه.
أجاب السهم - أنا لم أقل أنه قد حدث ذلك لهما، بل قلت أنه قد يحدث لو أنهما فقدا حقيقة لما كان من ضرورة للبحث في الموضوع، أنني أكره الذين يبكون على الحليب المراق، ولكن حين أفكر أنهما قد يفقدان ولدهما الوحيد أشعر بألم عظيم.
صاح الضوء البنغالي - حقيقة تشعر بألم عظيم بمعنى أنك أرق شخص عرفته في حياتي.
قال السهم - إنك أغلظ شخص عرفته في حياتي. وإنك لا تستطيع أن تفهم صداقتي للأمير.
فزمجرت الشمعة الرومانية قائلة - ماذا؟ أنت لا تعرفه معرفة مجردة
أجاب السهم - أنا لم أقل أبداً بأنني أعرفه. . وأني أعلن بكل جرأة بأني إذا عرفته سوف لا أكون صديقا؛ إنه لأمر جد خطير أن يعرف المرء صديقه؛
قال المنطاد الناري - حقاً أن من الأفضل لك أن تظل جافاً، هذا هو الأمر المهم.
أجاب السهم - مهم جداً بالنسبة إليك - أنا لا أشك في ذلك، أما أنا فسأبكي حين أشاء؛ وبالفعل تفجرت منه دموع حقيقة، جرت على عصاه كنقط المطر. فأغرقت خنفستين صغيرتين في اللحظة التي كانتا فيها تفكران في بناء بيت لهما وتفتشان عن بقعة جيدة جافة تعيشان فيها. قال الدولاب - يجب أن يكون ذا طبيعة خيالية حقيقية لأنه يبكي من دون أن يكون هنالك موجب للبكاء أصلا. . ثم صعد زفرة عميقة:
عندئذ طلع القمر أشبه شيء بدرع فضي عجيب؛ وأخذت النجوم تتلألأ؛ وأصوات الموسيقى تتعالى من القصر.
كان الأمير والأميرة يرأسان الرقص؛ ولقد بلغ من جمال رقصهما أن السوسن الأبيض الطويل أطل من النافذة يتفرج، والخشخاش الأحمر العظيم مد رأسه يمتع ناظريه ويتسلى.
ثم دقت الساعة العاشرة فالحادية عشرة، فالثانية عشرة، وعند منتصف الليل خرج كل شخص إلى الشرفة الواسعة ثم أرسل الملك في طلب صاحب الأسهم النارية الملكي.
قال الملك له - أطلق أسهمك النارية.
فانحنى الرجل إلى الأرض وسار إلى نهاية الحديقة وبرفقته ستة معاونين قد حمل كل منهم مشعلا مضيئا معلقا في رأس عمود طويل.
لقد كان استعراضا، بديعا موفقا فقد نجحت كل الأسهم إلا السهم الأعظم فقد كان مبتلا بالبكاء لدرجة أنه لم يتمكن من الانطلاق أبدا؛ كان خير ما فيه البارود، وهذا تشبع بالدموع حتى أصبح بلا فائدة.
قال السهم - يغلب على ظني أنهم احتفظوا بي لأمر خطير وبدا أكثر تعجرفا من قبل.
جاء العمال في اليوم الثاني ليعيدوا كل شيء إلى مكانه.
قال السهم - هؤلاء على ما يظهر - هم الوفد، وأني سأقابلهم بما يجب من العنجهية، وهكذا وضع أنفه في الهواء وقطب حاجبيه كأنما يفكر في أمور خطيرة؛ ولكنهم لم ينتبهوا إليه إلا في اللحظة التي هموا فيها بمغادرة المكان؛ عندئذ رآه أحدهم فصاح ياله من سهم رديء ورمى به إلى الخندق من أعلى الحائط.
قال وهو يتقلب في الهواء - سهم رديء سهم رديء! مستحيل. . سهم عظيم. هذا ما
قاله الرجل. . رديء وعظيم لهما وقع واحد في الأذن، وحقيقة أنهما - في الغالب - شيء واحد وسقط في الرجل. . فأبدى هذه الملحوظة:
أنه ليس بالمكان المريح. . ولكن مما لا شك فيه أنه مكان على (المودة!) وأنهم قد أرسلوني إلى هنا لاستعيد قواي؛ حقيقة أن أعصابي محطمة، وأنني في حاجة إلى الراحة.
حينئذٍ سبحت إليه ضفدعة صغيرة ذات عينين لامعتين وظهر أخضر أرقش.
قال الضفدعة - أرى قادما جديداً. . حسناً، بعد كل شيء لا يوجد مثل الوحل. . . أعطني جواً ممطرا وخندقاً فأكون جد سعيدة، هل تظن أن السماء ستمطر بعد الظهر؟ إني آمل ذلك، ولكن السماء زرقاء صافية.
قال السهم - أهيم أهيم وأخذ يسعل، فصاحت الضفدعة - إن لك صوتاً جميلاً. . أنه أشبه شيء بالنقنقة؛ والنقيق طبعاً أرق موسيقى في العالم، سوف تسمع أغاني نادينا هذا المساء، أننا نقيم في بركة البط القديمة بالقرب من بيت الفلاح، ولا يكاد يطلع القمر حتى نبدأ غناءنا، أنه يؤثر في النفس لدرجة أن كل شخص يتمدد في الفراش يقظا ليصغي ألينا، بالأمس فقط سمعت زوجة الفلاح تقول لأمها: أنه لم يغمض لها جفن طوال الليل بسببنا. أنه لما يبهج النفس أن يجد المرء نفسه مشهوراً بهذا المقدار.
قال السهم مغضباً: - أهيم! أهيم! ولم يزد. لقد بلغ به السخط مبلغا عقد لسانه.
الضفدعة مستمرة - حقاً أنه لصوت جميل. . آمل أنك ستأتي إلى بركة البط. . أنا ذاهبة أفتش عن أخواتي. . إن لي ست أخوات جميلات، وأني لأخشى أن يصادفهن (الكركي)، أنه وحش كاسر وسوف لا يتردد في أن يتغذى بهن. . وداعا. . أنني جد مسرورة من محادثتنا، وأظنك كذلك.
قال السهم - محادثة. . حقا. . لقد احتكرت الحديث كل الوقت، أن ذلك ليس بمحادثة.
أجابت الضفدعة - واحد يجب أن يصغي. . وأنا أحب أن أستقل بالحديث. . أن في ذلك اقتصاداً في الوقت وحيلولة دون الجدل.
قال السهم - ولكني أحب الجدل.
قالت الضفدعة بأدب - ما أظن ذلك. . الجدل دليل الوحشية، لأن كل أعضاء الهيئة الاجتماعية الراقية يحملون أفكاراً واحدة. وداعا للمرة الثانية. . أني أرى أخواتي من بعيد،
وسبحت الضفدعة الصغيرة مبتعدة.
قال السهم - أنت جد مزعجة: وجد جاهلة، أني أمقت الذين يتحدثون عن أنفسهم - كما تفعلين - حين يود أحدهم أن يتحدث عن أحد الأشخاص - كما أفعل أنا - وهذا ما أسميه أنانية؛ والأنانية أمر لا يطاق: خصوصا على من كان في مزاجي، لأنني معروف بحسن العطف على الغير؛ كان عليك أن تعتبري بي؛ أنك لن تجدي أنموذجا أفضل مني؛ والآن وقد حصل لك شرف التعرف إلى، يجد بك أن تغتنمي الفرصة لأنني عائد إلى البلاط حالا؛ أنني محبوب جدا في البلاط؛ وقد اقترن الأمير والأميرة على شرفي؛ أنت طبعاً لا تفقهين شيئا من هذه الأمور لأنك قروية.
قال يعسوب كان جالسا على ورقة كبيرة سمراء من ورق البردي: لا فائدة من مخاطبتها؛ لا فائدة أبداً. . لأنها قد ذهبت. . أجاب السهم - حسنا، إن في ذهابها خسارة لها لا لي: أنا لا أقف عن محادثتها لمجرد إنها غير مصغية إليَّ. . أني أحب أن أسمع نفسي أتكلم دائماً. وهذا من أبهج المسرات عندي، كثيرا ما تراني أحدث نفسي أحاديث طويلة دون أن أفقه كلمة واحدة مما أقوله. وهذا دليل الذكاء المفرط. .!
قال اليعسوب - أذن تكون محاضرا في الفلسفة في مثل هذه الحال، ونشر جناحيه الجميلين الرقيقين وحلق في السماء.
قال السهم - إنها لسخافة منه إلا يمكث هنا؛ أنا أعتقد إنها فرصة ثمينة له قل أن يقع على مثلها؛ تفيده إضاءة في عقله؛ وعلى كل فهذا لا يهمني، من المؤكد أنه لا بد وأن يعرف الناس يوما ما قدر العبقري الذي يكون مثلي. وغاض قليلا في الوحل. .
وبعد قليل جاءت تتهادى إليه بطة كبيرة بيضاء، ذات سيقان صفراء، وأقدام غشائية.
قالت - كواك. كواك. كواك! أن لك شكلا غريبا. هل لي أن أسألك هل ولدت على هذا الشكل أو هو شكل طارئ؟
فأجاب السهم - من الواضح أنك أنفقت عمرك في الريف، وإلا لعرفت من أنا، وعلى كل فأنا أغفر لك جهلك، من الظلم أن تطلب من الغير أن يكون مثلك عظيما.
أنا لا أشك في أنك ستدهشين حين تعلمين بأني أستطيع أن أطير إلى السماء وأن أهبط الأرض في مظهر الغيث الذهبي.
قالت البطة - أنا لا أهتم كثيرا بهذا؛ لأنني لا أجد فيه أدنى فائدة لأحد الآن؛ إذا كنت تستطيع أن تحرث الحقل كالثور؛ أو تجر عربة كالجواد؛ أو تحرس الأغنام كالكلب الإسكتلندي: هذا يمكن أن يكون شيئا!
فصاح السهم في غطرسة وتعجرف - أرى أنك تنتمين إلى طبقة وضيعة، شخص في مركزي لا يفيد أبدا: لنا أعمال معلومة، وهذا فوق الكفاية، أنا شخصيا لا أميل إلى نوع من الصناعات، خصوصا هذه التي نوهت لي بها، ساعة من ساعات تفكيري هي بالصناعات كلها.
قالت البطة - وهي بطبيعتها مسالمة، ولم تتورط في مجادلة أحد - حسناً. حسناً. لكل رأيه. أكبر ظني أنك ستقيم هنا، في هذا الخندق.
صاح السهم - أوه، كلا يا عزيزتي. لست أكثر من زائر، زائر ممتاز. حقاً لقد أضجرني هذا المكان حيث لا جمعية راقية ولا واحدة آمنة، على الأرجح أني سأعود إلى البلاط. .
قالت البطة - أني أفكر في دخول الحياة العامة يوماً ما. . وعليًّ الآن أن أذهب إلى البيت واعتني بعائلتي.
قال السهم - لقد خلقت للحياة العامة، وكذلك جميع أقربائي، نثير الاهتمام حيثما وجدنا! وعلى ذكر الحياة العائلية أقول إنها تهرم الإنسان بسرعة وقبل الأوان، وتصرف العقل من الأفكار السامية.
قالت البطة - آه. . الأفكار السامية: ما أنفسها، إنها تذكرني بما أشعر به من جوع، وسبحت إلى أسفل الغدير وهي تقول: كواك. . كواك. . كواك
زعق السهم - أرجعي. أرجعي. عندي أشياء كثيرة أريد أن أقولها لك ولكن البطة لم تصغ أليه: قال لنفسه: أنا مسرور لأنها ذهبت، لا ريب إنها صغيرة العقل جداً. ثم غاص في الوحل قليلاً أيضاً، وفي الوقت الذي أبتدأ يفكر فيه بوحدة العبقري ظهر فجأة ولدان صغيران يركضان نحو الشاطئ في قمصان بيض يحملان قدراً أو أعواداً.
قال السهم - هؤلاء يجب أن يكونوا الوفد. وعمل على أن يظهر بمظهر العظيم.
صاح أحد الولدين - تعال. أنظر إلى هذا العود العتيق أني لاستغرب ما لذي جاء به إلى هنا وأخرج السهم من الخندق
قال السهم - عود عتيق، مستحيل؟! عود من ذهب عود من ذهب، هذا أحسن أنواع المديح. .
قال الولد الآخر - دعنا نضعه في النار، أنه سيساعد على غليان القدر.
وهكذا كدسا الأعواد بعضها على بعض، ووضعا السهم في الذروة، وأشعلا النار.
صاح السهم - هذا بديع! إنهم يودون إطلاقي في وضح النهار لكي يراني كل إنسان.
قال الولدان - أنا نذهب لننام الآن، وحين نستيقظ تكون القدر قد غلت؛ واضطجعا على الحشيش وأغمضا عيونهما.
كان السهم مشبعاً بالماء، لذلك احتاج احتراقه إلى وقت طويل؛ وعلى كل حال فقد بلغته النار أخيراً.
صاح - الآن سأنطلق. . يقينا أني سأعلو على النجوم، سأعلو على القمر، سأعلو على الشمس، بمعنى أني سأعلو. . .
- ويز، ويز، ويز، وحلق في الهواء. . .
صاح: هذا مبهج! سأظل في هذا الصعود إلى الأبد؛ ياله من نجاح عظيم! ولكن لم يره أحد.
ثم أخذ يحس بشعور غريب يستولي عليه فصاح: الآن سأنفجر، وسأحرق الأخضر واليابس، وسأترك دويا يظل حديث الناس أعواما طوالا، وفعلاً أنفجر! بم! بم! بم؛ لقد خرج البارود، ولا شك في ذلك؛ ولكن لم يسمعه أحد، حتى ولا الوالدان الصغيران، لأنهما كانا يغطان في نومهما. وهكذا لم يبق منه إلا العصا، وهذه سقطت على ظهر إوزة خرجت تتنزه إلى جانب الخندق. عندئذٍ صاحت الإوزة - يا إلهي أن السماء تمطر عصيا؛ واندفعت نحو الماء.
لهث السهم - لقد علمت من قبل أنني خالق شعوراً عظيما!
شرق الأردن
بشير الشريقيالمحامي
الكتب
حاضر العالم الإسلامي
تأليف لوتروب ستودارد الأمريكي
ترجمة الأستاذ حجاج نويهض وتعليق الأمير شكيب أرسلان
لنا في كل يوم مثل جديد ينهض دليلا قاطعا على أن النهضة الفكرية الحديثة جادة لا هازلة، قوية لا تعرف الخور، ثابتة الأصول لا يخشى على بنائها من الزلل والسقوط، فهي نهضة تستمد الوحي من ماضيها الناصع المجيد، ثم لا تقف عند ذلك راثية باكية، إنما هي تتخذ من ذلك الماضي عدة. وعماداً لمستقبل تنظر إليه بعين يملأها الأمل، وقلب يحدوه الرجاء. وأن نهضة لا تقيم صرحها فوق هام ذلك العماد الركين، لهي هباء يسبح في الهواء، لا يتصل بالأرض ولا يرتفع إلى السماء. لأنها عندئذٍ تكون هائمة في عزلة زمنية، لا تعرف لشوطها مبدأ ولا نهاية، كما يخبط ذو السبيل الجائر في بيداء موحشة مقفرة، يرى الموت جاثماً في أحضان كثبانها أنى سار.
وإنا نضرب لك مثلاً أوروبا حين قامت تنفض عن نفسها غبار القرون الوسطى ونهضت تشيد حياة جديدة زاهرة، فلم تنشئ جديداً من عدم، ولا هي أولت القديم ظهرها مزدرية له ناقمة عليه، بل نظرت إلى الوراء قبل أن تبدأ السير إلى الأمام، واستلهمت التاريخ - تاريخ الإغريق والرومان - لتستقي من معينة الدافق ماء الحياة التي تريد.
من أجل هذا، يحق لنا أن ننظر إلى نهضتنا نظرة فيها ثقة ورجاء، لأننا نلاحظ فيما نلاحظ اتجاهاً إلى تاريخ العرب والإسلام، يزداد سعة وشمولاً في اطراد لا ينقطع، وأقل ما يقال في هذا الاتجاه، أنه يشحذ الهمم الخامدة، ويهدي نهضتنا سبيلاً سواء.
فبين يدي الآن مجلدات أربعة، كتبت في حاضر العالم الإسلامي، ألفها الكاتب الأمريكي لوتروب ستودارد ثم نقلها إلى العربية الأستاذ حجاج نويهض وفيها فصول وتعليقات وحواش مستفيضة عن دقائق أحوال الأمم الإسلامية وتطورها الحديث بقلم الأستاذ الكبير والمجاهد العظيم الأمير شكيب أرسلان، وقد يظن القارئ - وله عذره في هذا الظن - أن الكتاب المترجم هو الأصل، وأن ما كتبه الأمير شكيب حواش متناثرة هنا وهناك، ولكن
الواقع نقيض ذلك، فالفصول المترجمة لا تتجاوز خمس المقدار، وأربعة الأخماس الباقية هي حواش للأمير، وأنه ليخيل إلي أن كتاب لوتروب أتخذ تكأة لنشر هذه الفصول الكثيرة القيمة التي دبجتها يراعة الأمير شكيب أرسلان في شئون المسلمين والإسلام.
فأما الفصول المنقولة إلى العربية التي استأثرت بعنوان الكتاب فهي تسع كلها بحث دقيق في حالة الشعوب الإسلامية في العصور الحديثة، فهو يحدثك في تحليل ممتع عن اليقظة الإسلامية، والجامعة الإسلامية وسيطرة الغرب على الشرق، والتطور السياسي، والعصبية الجنسية والتطورين، الاقتصادي والاجتماعي، ثم يختم فصوله يبحث فيما يسود تلك الشعوب من قلق يدفعها إلى الثورة والانقلاب.
أما حواشي الأمير فليس إلى حصرها من سبيل، وكلها شيق ممتع ولكنها - عندي - قد خرجت بالكتاب عن وحدته وتجانسه، بل خرجت بالكتاب عما يجب أن تكون عليه الكتب من تركيز في موضوع بعينه، وأدنته من دوائر المعارف التي من شأنها أن تجمع بين دفاتها شتيتاً من ضروب العلم والمعرفة، وهو يعترف بذلك في المقدمة إذ يقول عن هذا الكتاب أنه لم يصل بعد إلى الدرجة المنشودة من السعة والشمول، وانه يرجو أن تتسع يوماً ما حتى (يصح أن يقال أن في اللغة العربية إنسيكلوبيديا إسلامية أشبه بموسوعات العلوم التي عند كل أمة من الأمم الراقية التي يقتدي بها) ثم يستطرد فيحفز همة الحكومات لوضع تلك (الإنسيكلوبيديا فيقول (وهذا الأمر وهو وضع معلمة إسلامية وافية ضافية لا يجوز أن يغيب عن نظر الحكومات الإسلامية التي تبغي الفلاح، وتنشد الرقي والطيران إلى النجاح بجناح. . .)
ومهما يكن من أمر هذه الفوضى في التأليف لا نطمئن إليها ولا نرضاها، فهو كتاب جليل القيمة كبير النفع، ويجدر بنا أن نقتبس لتقديمه إلى القراء عبارة الأمير التي صدر بها الكتاب (أما كتابنا هذا في أجزائه الأربعة فأنه يجوز أن يقال إنه معلمة إسلامية صغيرة، بل هو في المباحث الجغرافية والتاريخية والإحصائية عن أقطار الإسلام النائية وبقاعة المجهولة فذ في بابه، وكذلك يمتاز هذا الكتاب بالمباحث السياسية التي قيض لمحررها أن يعلمها. من عين صافية، وأن يقف على الرواية الوثقى منها بطول خبرته، وقرب سنده، واستمرار مزاولته لهذه الأمور 47سنة، وفيه بعد تراجم وأخبار، لم يسجلها كتاب ولا جرى
بها قلم، فلا يجدها الناشد في غيره إذ هي نتيجة مشاهدات الكاتب وما رآه بالعين وما سمعه بالأذن، وما كان له فيه أخذ ورد. وعلى كل حال ففي هذا الكتاب من الطريف ما لا يسع إنكاره الجاحد، ولا يضير مراء الحاسد. ولا شك في أن الأمة الإسلامية الناهضة إلى تجديد تاريخها، النازعة إلى النماء بجميع فروعها وشماريخها، ستتفطن إلى كل ما يعوزها من هذه المقاصد الجليلة، ومن جملتها تأليف المعلمة الكبرى التي هي من ضرورات رقيها وأشراط نموها).
زكي نجيب محمود
قلب جزيرة العرب
تأليف الأستاذ فؤاد حمزة
لسنا نشك في أن الشرق العربي يجتاز اليوم عصرا ذهبيا زاهرا لا يكاد يدنو من غباره كل ما سلف من عصور، وكأني بالحياة قد دبت في أعضائه المتزايلة، فأخذت تنهض وتسعى إلى النشاط والحركة، بعد رقدة طال أمدها، حتى حسبناها ضجعة الموت والفناء، وهاهو ذا ينهض ويستقيم على قدمين راسختين، يشاطر أوروبا في الحركة الفكرية ويبادلها إلى حد ما إنتاجا بإنتاج. وما زالت تزداد حركة التأليف في كل يوم قوة وسعة وانتشارا بعد أن كنا إلى عهد قريب لا نصادف في المكتبة العربية ما يشبع للباحث حاجة أو يسد له رمقا - كائنا ما كان موضوع البحث - وكنا نقابل ذلك العقم والأجداب بالأسى والأسف، فليس يسيرا على النفس الفنية الأبية أن تظل متكئة على عكازة الغرب في كل ما تطرق من بحوث، حتى ما يمس منها حياتنا في اللب والصميم.
وأنا نسوق اليوم لهذه النهضة التأليفية مثلا جديدا هذا الكتاب الجديد: قلب جزيرة العرب الذي دبجته يراعة قديرة ونسقه فكر قدير.
ولقد كان أول ما اختلج في نفسي من خواطر، حينما تناولت يدي هذا الكتاب، دهشة عميقة، فيها كثير من السخرية بالماضي، وفيها كثير من الأمل في المستقبل، فقد تساءلت: أفهذا أول كتاب حديث يكتب عن جزيرة العرب وهي تلك الديار التي تنزل منزلا ساميا من العقول والقلوب جميعا، والتي تضطرب لها كل نفس بأدق المشاعر وأجمل الذكريات؟!
عجيب لعمري أن يظل هذا النقص دون أن ينهض من الكتاب من يسد ثغرته، وإذن فقد ملأ هذا الكتاب الذي نحن بصدده فراغا شاسعا وأكمل نقصا معيبا شعر به المؤلف الفاضل الأستاذ فؤاد حمزة، وشعرنا به جميعا، فقد حمله على وضع كتابه هذا شعوره (بنقص خزانتنا العربية وافتقارها إلى مؤلف جامع لأحدث المعلومات الجغرافية والطبيعية والاجتماعية عن البلاد العربية، وحاجة الجمهور إلى مرجع حديث، سهل التناول، يجمع ما تفرق من المعلومات العامة في الكتب العربية القديمة، وكتب المستشرقين والرواد الأوروبيين مما لا وجود له في اللغة العربية. والحقيقة أن جميع الذين يعنون بالشئون العربية ويتبعون تاريخ التطورات الحديثة والنهضات الوطنية في بلاد العرب، يشعرون بهذه الحاجة، ويدركون الصعوبات الجمة في التنقيب في بطون الكتب العديدة، عن معلومات مبعثرة هنا وهنالك في طيات الصحف القديمة أو ثنايا التفاصيل المملة التي يسردها الرواد في سياق رحلاتهم)
قرأت هذا السفر الجليل، فألفيته صورة قوية رائعة للبلاد التي كتب من أجلها، وهو يقوم على أثاث متين من الأسلوب العلمي الصحيح، يبدأ البحث بالبيئة الجغرافية فيتناول أطرافها جميعاً بالدراسة والتحليل، ويصف لك في أطناب سطح البلاد العربية ومناخها، في أسلوب لا يصدمك فيه جفاف الحقائق العلمية، بل يخيل إليك وأنت تتلو هذه الصفحات أنك تستمع لرجل يحدثك حديثاً عذباً عن بلاد جاس خلالها وارتحل بين أرجائها، وأن كنا نأخذ على المؤلف في هذا القسم الجغرافي بعض الهنات الهينات، التي ما كنا لنذكرها لولا رغبتنا الصادقة في أن يبلغ هذا المؤلف حد الكمال، ومن أمثلة ذلك أنه يعلل جفاف الإقليم بانخفاض السطح (وعدم وجود الجبال العالية التي تمسك الأبخرة وتحتفظ بها لتتبرد وتنهمل مطراً إلا في الجهات الغربية منها) والواقع أن جفاف شبه الجزيرة يرجع إلى وقوعها في مهب الرياح التجارية التي تفد من الشمال الشرقي جافة لا تنزل المطر. هذا وقد جعل المؤلف عنوان الفصل السابع من هذا القسم (الحرارة والمناخ) كأن الحرارة ليست جزءاً من المناخ! وقد جاء في صفحة 60 هذه العبارة (رياح المونسون) وقد كان أجدى أن تذكر بما عرفت به في الكتب العربية وهو الرياح الموسمية.
ثم ينتقل بك إلى القسم الثاني من الكتاب وهو تصوير دقيق لحياة السكان في تلك البلاد،
فيقص عليك دقائق المعيشة اليومية: ماذا يأكل القوم وماذا يشربون ويلبسون، وكيف يتزين النساء منهم والرجال. كيف يقيمون المآتم والأفراح، كيف يتعهدون أطفالهم بالتربية في الحواضر ويطلقونهم إطلاقاً في البادية، وفي أي المنازل يسكنون؟ هذا فضلاً عن تصويره للغة العربية في حالتها الراهنة، ويقدم لك نموذجاً مما ينطق به أدباء اليوم من شعر ونثر، إلى آخر تلك الحقائق التي أكسبت البحث شيئاً من الحياة النابضة.
فإذا ما انتقلت إلى القسم الثالث وجدت نبتاً مفيداً في القبائل العربية وأنسابها، ولعله أشد فصول الكتاب جفافاً على غير سكان الجزيرة من القراء. أما القسم الرابع فهو عرض قوي موجز لتاريخ البلاد منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا، وهو أطول الفصول وأكثرها فائدة ولذة.
هذه الثروة الزاخرة يحويها كتاب (قلب جزيرة العرب) وفوق هذا فهو متقن الطبع، جيد الورق، جميل التنسيق.
ز. ن. م