الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 431
- بتاريخ: 06 - 10 - 1941
السعادة.
. .
للأستاذ عباس محمود العقاد
أرسل إلى الأديب عبد القادر محمود الذي عرف نفسه إلي بأنه (أحد الكتاب المحدثين) مقالاً عن السعادة مشفوعاً بخطاب يرجوني فيه (أن أصغي إلى حديثه قليلاً ثم أرد على صفحات الرسالة الغراء بما يروى ظمأه ويرشده إلى الحق إن كان قد حاد عن سبيله).
وخلاصة مقال الأديب أن السعادة وهم ليس له وجود، وأن بعض الأشقياء مطبوعون على الشقاء فهم به سعداء، وأن كل ما يقال عن السعادة إعادة لما قيل.
ويسألني الأديب بعد ذلك ماذا أقول؟
فلا أدري هل سأعيد قديماً بما أنا قائل في هذه الصحيفة، أو أنني مسوّغ هذه الإعادة بتصوير طريف.
ولكني لا أحسب الكاتب مطالباً باختراع الآراء التي لم يسبق إليها، ولا أرى عليه من غضاضة أن يبدي رأياً تقدم أصحاب الآراء بإبداء مثله، وإنما الشرط أن يصدر عن تجربة، وأن يروى عن خيرة، وأن يكون لكلامه لون من نفسه وحسه وتفكيره، ولا عليه بعد ذلك أن يتشابه ما يقول وما كان قد قيل.
والسعادة في رأيي لا استحالة فيها إلا كالاستحالة في كل مطلب من مطالب هذه الدنيا.
فأنت إذا أرت كسوة جميلة في نسجها ولونها وتفصيلها وثمنها ومتانتها وجدتها حيث توجد الكثيرات من أمثالها.
أما إذا أردت كسوة هي المثل الأعلى الذي لا يعلى عليه ولا يجاري في جمال النسج وجمال اللون وجمال التفصيل وسهولة الثمن وطول البقاء فقد أردت المستحيل، لأنك أردت المثل الأعلى الذي ليس له مثيل، وهو بطبيعته فوق ما ينال.
والسعادة إن أردتها سعادة لذات معهودات فأنت واجدها لا محالة في وقت من الأوقات.
أما إن أردتها سعادة العمر أو سعادة في كل شيء لا نظير له ولا انقطاع لها فتلك هي الاستحالة التي تنفرد بها السعادة، ولا فرق بين تعذرها وتعذر كل مطلوب على تلك الشريطة.
فليست السعادة بوهم، وليست الكسوة بوهم، وليست اللقمة السائغة بوهم، ولكن اللقمة
السائغة مع رخصها وخجل بعض الناس من المقابلة بينها وبين السعادة تساوى السعادة الكبرى في استحالتها إذا أنت خرجت بها من عالم المعهود وارتفعت بها إلى عالم الأحلام المأمول.
لأن الاستحالة من طبيعة الأحلام، وما من حلم يتحقق إلا بطلت تسميته بالحلم وانتقل إلى المحسوسات والمدركات
فالسعادة طبقات وأصناف.
والصنف الرخيص منها موجود وموفور ومبذول، والطبقة القريبة منها على متناول الباع الطويل والباع القصير
فإذا قيل: إن أصنافاً منها لا تبذل ولا تتوافر، فكذلك الصنف الغالي من كل شيء، حتى العدس والقطن والورق والتفاح.
وإذا قيل: إن الطبقات العالية منها لا تنال أولا تنال في كل حين ولا ينالها كل إنسان، فكذلك كل طبقة رفيعة من كل سلعة وكل ثمرة وكل موجود.
هناك لحظات سعيدة في الحياة. فهناك إذن سعادة لأمراء ولكن ليس في الدنيا أناس سعداء، لأن السعادة الملازمة للإنسان في كل حالة وكل مطلب هي المثل الأعلى، وهى الحلم، وهى الغاية التي لا تدرك، والبغية التي لا تنال.
وما هي السعادة بعد هذا؟
هل هي من عامل السكينة أو من عامل الحركة؟ وهل السعيد من لا يتحرك، أو السعيد من لا يسكن؟
هي هذا وذاك. . .!!
فللسكينة سعادتها وللحركة سعادتها، ولكنهما لا تتشابهان:
سعادة السكينة رضى وارتياح خاليان من الشوق والطموح، وسعادة الحركة تقدم ونجاح خاليان من القناعة والاكتفاء
ومن يبغ هذه لا يبغ تلك، ومن يطلبهما فليطلبهما متفرقين في زمنين مختلفين، لأنهما لا تجتمعان.
وما لنا لا نقول: إن المثل الأدنى في التعاسة نادر كالمثل الأعلى في السعادة. فأشقى
الأشقياء وأسعد السعداء في الدنيا اثنان متكافئان متعادلان، ولعلهما لا يوجدان!!
ولو خرج أحد من الرحالين ليجوب أقطار الأرض باحثاً عن أشقى شقي للزمه من الوقت والعناء قريب مما يلزمه في بحثه عن اسعد السعداء!
فلا يقل حانق على السعادة إنها مستحيلة في هذه الدنيا، لأن استحالتها من جنس كل استحالة، ولأن يسرها من جنس كل يسر، ولأن الفرق بين المثل الأعلى والمثل السائر فيها كالفرق بينهما في أكلة أو لبسة أو رشفة أو ما شئت من متع الحياة.
وهي ليست - بعد - شيئاً واحداً كتلك الجوهرة المكنونة التي يحكون عنها في الأساطير ويتخيلونها في كل يد تعثر بها على استواء، لا فارق بين يد العبد ويد السيد، ولا بين يد الجاهل ويد الخبير.
وإنما السعادة سعادات: سعادة هذا شقاوة ذاك، وسعادة إنسان في حين من الأحيان غير سعادته في غير ذلك الحين.
أتسألني عن السعادة المطلقة بالقياس إلى كل إنسان وإلى كل حين؟
تلك ليس لها وجود، وكذلك كل شيء مطلق من القيود والملابسات في عامل القصور والفناء.
ولنعلم أن اختلاف الناس في أمر السعادة إنما هو اختلاف شعور قبل أن يكون اختلافا في الرأي والنظر
فهم يشعرون بالسعادة على اختلاف، وإن فكروا فيها على اتفاق؛ وهم يختلفون في شعورهم بين عمر وبين حالة وحالة كاختلافهم في كل ما يحبون وكل ما يكرهون.
وأرجع إلى نفسي فأراني قد شعرت بالسعادة على وجوه قلما تتماثل في بضع سنوات.
في الشباب كنت أقول لها:
لا تطمعي اليوم مني
…
بالسعي خلف خيالك
فقد سألتك حتى
…
مللت طول سؤالك
وقد جهلتك لما
…
سحرتني بجمالك
فلا تمري ببالي
…
ولا أمر ببالك
أشقى الأنام أسير
…
معلق بحبالك
تلك دالة الشباب يحسب أن السعادة خليقة أن تسعى إليه، وأنه إذا أومأ إليها بيده فلم تبادر إلى لقائه فقد أسرفت عليه في الدلال، واستوجبت منه الإعراض والملال.
وبعد حين كنت أحسب السعادة في النسيان فأقول:
لذة النفس في السلافة والشعر
…
وفى الحب والكرى والغناء
خير ما في الحياة يا قلب ما أنسا
…
ك ذكر الحياة والأحياء
وتلك هي مرحلة التجربة الأولى في انتظار التجربة الثانية.
فأما التجربة الأولى فهي تجربة الفتور الذي بعقب الإلحاح الباكر:
إلحاح الشباب في الآمال.
وأما التجربة الثانية، فهي التي تعقب ذلك الفتور أو تلك الراحة، من نشاط ووثوب.
وجاءت فترة كنت أحسب السعادة في الخطر:
عش آمن السرب كما تشتهي
…
ما نحن ممن يغبط الآمنين
إن حياة الأمن في شرعنا
…
مشنوءة مثل حياة السجين
كلاهما يخفره حارس
…
مسدد النظرة في كل حين
أيتها الأخطار علمتنا
…
بأننا الأحرار لو تعلمين
وهذه هي الفترة التي كنت أرى فيها الراحة حظاً للوضيع والتعب قسمة مفروضة على العظيم.
إن الشقي الذي لا صنو يشبهه
…
وللأصاغر أشباه وأمثال
ثم تكاملت عواطف النفس فتاقت إلى نصيبها من المجاوبة الناضجة والمقابلة المستوفاة، وأيقنت أن السعادة مشهود لا يرى بعينين اثنتين بل بأربعة أعين، وعاطفة لا يحسها قلب واحد بل قلبان متفقان، فمن رامها بعينين وقلب فكأنهما يرومها شطراً مسلوخاً من جسم ميت، لأن الأجسام الحية لا تعيش شطرين.
إن السعادة لن ترا
…
ها في الحياة بمقلتين
خلقت لأربع أعين
…
تخلو بها ولمهجتين
لك مقلتان ومهجة
…
أترى السعادة شطرتين؟
والنقيب بالزهاوي رحمه الله وأنا أومن بأن السعادة حقيقة وليست بأكذوبة، فلما قال الأستاذ
الزهاوي: لا سرور في الحياة ولا لذة، وإنما اللذة عدم الألم. قلت: هذا كقولنا إن الحياة عدم الموت، والأولى أن تعكس القضية فيقال: إن الموت عدم الحياة قال: ولم تقرن اللذة بالحياة وتجعل لهذه حكم تلك في القياس؟
قلت: إن الحياة قوة إيجابية لا قوة سلبية، وكذلك الشعور بما يوافقها هو قوة إيجابية من نوعها وليس امتناع قوة أو عدمها؟
والآن؟
تسألني ما قولك الآن:
قولي الآن أنني أعرف السعادة من وجهها ومن قفاها، وفي صدقها وفي ريائها؛ ولكنني أقاربها وأنا مشفق من عواقبها، إذا أنا على يقين من كشف الحساب الذي يعقب كل نشوة من نشواتها. وكشف الحساب هذا عملة مسكوكة من المحظورات والمخاوف والشكوك، وهي العملة التي تشتري بها السعادة على اختلاف أصنافها وطبقاتها، فعلى قدر السعادة يكون الثمن، وعلى قدر النشوة يكون الحذر والألم والتنغيص!
ولا أكتفي مع هذا بأن أقول: إن الخوف لازم لأداء ثمن السعادة، بل أزيد عليه أن الخوف لازم لمعرفتها ولو بذلت لك بذل السماح، وإن الخوف حافز إليها يغريك بنشدانها. فمن لم يخف لم يسعد، وليس بالعالم الذي لا خوف فيه حاجة إلى السعادة!
عباس محمود العقاد
9 - أومن بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
استجابة
أعود إلى الكتابة تحت هذا العنوان استجابة لنداء الحياة ونداء النفس؛ فقد نادتني الحياة الإنسانية الراهنة الزاخرة إلى الإيمان به وبمستقبله برغم إثمه وشره في عصره هذا، وحملتني على ذلك بنبوتها ومعجزاتها. والحياة المدنية الحالية نبوة! نبوة شيوعية. . . أخذت جميع أمم الأرض بمعجزاتها وأخضعت أعناقهم بأدواتها المأخوذة من أسرار الطبيعة. فلنعرفها على حقيقتها. ولنعلم أنها باب الملكوت الذي وعدت به رسالات الشرق الأولى التي وجهت الإنسانية.
إنها نبوة الطبيعة وقوانينها، وحقائق الأشياء وبراهينها. . . لا نبوة الإرشاد والتربيب والكلام الذي ألقاه الرجال الآباء في سمع الإنسانية وهي في أدوار تكوين الضمير وتطبيع الأعصاب وتوجيه الأخلاق بالرحمة والإخلاص وسمو النظرة إلى الإنسان في حياته هنا وفي مصيره هناك. . . وهي صفات لا بد منها في المهود والمدارج. . .
فأن أنا لم أستجب لنداء هذا الحياة بالجسم الخفيف السريع، والفكر اللطيف اللماح الحاذق الفطن لأسرارها، الواعي لخطرها وقيمها، العارف باتجاهات قافلتها. . . كنت من المتخلفين البلداء الكافرين بنعمة الله! ولله في هذه الحياة المدنية الحالية نعم جليلة لا يكدرها إلا عنف وحماقة وطيش من بنيها.
وقد نادتني النفس التي حاولت جهدي أن أحفظ لها حدودها وطابع عالمها الخاص وألا أسمح بطغيان الجسد عليها طغيانا يجعلها تذهل عن ذاتها وتخلط بين معدنها الخاص والمعادن الأرضية إلى الإيمان بها كذلك، وحملتني على ذلك بما كشفته لي من آفاقها الخاصة التي لا دخل التعليل البيولوجي والفسيولوجي فيها.
وكنت حريا - وأنا أطلب الحق - أن أستمع للنداءين فأوفق بين نداء النفس ونداء الحياة، وأن أرى ضلال الذين عكفوا على الحياة المادية وحدها أو على النفس وحدها ولم يزاوجوا بينهما.
انتقال أسرار الطبيعة إلى الفكر - خليفة القهار - إدراك المادة ثم النفس ثم الله - لا عمق
في العالم المادي - الفكر مجال مؤقت ومجال منتظر - باب مفتوح وباب مغلق - مضى عهد مضغ الكلام - لا سدود أمام الإنسان - الطبيعة هي الحكم فيما يمكن وما يستحيل - تربية تعلم غزو الطبيعة - الطبيعة المطيعة - عصر الإحساس بقدرة الفكر - أسئلة يجب ترديدها دائماً.
ألقت الطبيعة أكثر صورها إلى فكر الإنسان، وانتقل إلى ذهنه جانب كبير من أسرارها وقوانينها، فصار يقلدها ويصنع من مواردها ما يشاء من ألوان التجسيم والتشكيل والتحريك، ويسلط بعضها على بعض، وصار له مقام معلوم ملحوظ بين عوامل التكوين والتخريب فيها. . .
وقد بنى أساس هذا التقليد على قواعدها الكلية، وبقى التنويع والتفريع الذي لا ينتهي في الجزئيات والأشكال.
وقد وصلت يده إلى منابعها ومواردها الأولية: فهو يبحث الآن في الذرّة والكهرب والأثير، لعرف المبادئ الأولى للمادة والقوة والدفعة الأولى التي ابتعثتهما ودفعتهما. . .
فماذا ينتظر الإنسان بعد فراغه من هذا التسلط؟ وما هي النتائج؟ أهي المغالبة والمنافسة والشهوة على الأساليب التقليدية الجاهلية؟ إن هذه نتائج لا تتلاءم مع عالم فكره العالي، ولا يصح أن تكون أهدافاً لهذه الصرامة والجد العظيم الذي تسير به الحياة وقوانينها في خدمته. . . وإن المغالبة والمنافسة والشهوة بأساليبها المعروفة الوضيعة، ينبغي أن تكون غير ذات خطر عنده، بعد أن عرف آفاقاً جديدة لشهوات رفيعة، وهي تحقيق أحلامه في الكشوف العلمية والانطلاق السريع بالطيران والسبح والسبق وإزالة الحواجز والسيطرة على القوى الآلية، وغير ذلك من طلائع مجده وملكوته المرتقب!
إن الله قاهر فوق الطبيعة، وهو يدرب (خليفته) في الأرض على التغلب على العقبات التي تعترض طريق أحلامه الطليقة وأفكاره المحررة من قيود المواد الثقيلة. والله أنشأه في الضرورات والآلام ليفتق هو الحيلة للخلاص منها، ويكمل وسائل السيطرة الذاتية على المادة؛ وإذا اطرد السير على منهاج تاريخه الذي عرفناه، فسوف يتغلب على كل شيء.
إن فكر الإنسان قانون ينمو ويتدرج غير واقف عند حد؛ وقوانين الطبيعة صارمة جامدة متحجرة. ونموه في ذاته يجعل الطبيعة نامية به. ألا ترى ما يستحدثه فيها من المعجبات
التي لا تنتهي؟
وأرجو أن يفهم هذا القول فهماً عميقاً، لأننا إذا فهمنا فكر الإنسان على هذا، أدركنا موضعه ورسالته في الوجود، وأحللناه محلاً رفيعاً يدفعه إلى العمل والسير في منهج محدد واضح، وحملنا ذلك على أن نحوطه دائماً بقوانين تحفظه من الارتداد والضلال، ونتدرج به حتى نستوعب كل مباحث المواد والقوى، ونستخرج به أسرارها الكامنة، وننتقل به نقلة تسلمنا إلى الوقوف على عتبات عالم آخر، لعله أن يكون عالم النفس. . .
وإن إدراك النفس لا يتأنى إلا بعد إدراكها ما في الكون المادي؛ وهذا هو سر قلقها ونبشها في الطبيعة وعدم رضاها عن ركن واحد منها؛ وكلما أخذت من الطبيعة سراً، أحست أنها تقترب به إلى إدراك ذاتها الجزئية، لتدرك من وراء ذلك علماً من الروح الأكبر!
أجل. إن إدراك الكون لا بد منه لإدراك النفس، إذ أن الفكر يرى كل عمق في الحياة المادية يصير ضحلاً بعد ترديد النظر عليه واستيعابه بالإدراك. وطبيعي أن تشعر النفس بعد هذا الاستيعاب أنها أوسع وأعمق من الموجودات المادية؛ وأن ترى آفاق الحياة المادية عديدة لا أكثر وليس لها عمق ولا نهائية؛ فهي في موجودات الطبيعة ومستحدثات الإنسان لا تتعدى اختلاف النسب التركيبية بين العناصر التي تزيد قليلاً على التسعين.
وما يخيل إلى البعض من أن هناك أعماقاً وأغواراً لا تنتهي في المادة إنما هو صورة مما يحدث للناظر إلى لوحة فنية بارعة ذات صنعة موحية مثيرة للشعور باللانهائية. حتى إذا ما كشط سطحها قليلاً تذكر أنها ليست أكثر من تمويه وتخييل وبراعة في بسط الأصباغ والأضواء والظلال وقبضها، وتكشّف له السطح الزاخر باللانهائية عن باطن محدود لا يتعدى ألوان الطيف السبعة!
إن الإنسان لم يعد يؤلمه الماء والنار والهواء والتراب ويفرغ عليها أوهام القداسة والهول اللذين كانا لها في ذهنه قديماً، بعد أن حلل عناصرها وركبها وتسلط عليها وسبر أغوارها. ولم تعد النفس العالمة التي تشرف على لجة البحر أو لجة الهواء أو أغوار التراب أو جحمة النار، ترى فيها أكثر من مواد وقوى عمياء محكومة بقوانين أخذتها النفس في حوزتها وجعلتها من مدخرات فكرها، وتستطيع أن تولد بها ناراً وهواء وماء. . .
إني أشعر حينما أقلب بصري في آفاق السماء وآفاق الأرض أن فكري لا يستطيع التعمق
فيها إلى ما لا نهاية، بل يقف عند نهايات معينة هي العناصر المحدودة التي تألفت منها مادة السماء والأرض، والنسب الهندسية والحسابية التي قام عليها بناء الأجسام وتشكيلها؛ ثم يبدأ الإحساس بفراغ وعماء لا صور فيه ولا خواطر عنه.
وطبيعي أن نظرة مثل نظرتي هذه لا يكون وراءها إحساس بخشية من الطبيعة ذاتها كما كان الأمر عند سكان الأرض القدماء الجاهليين، لأن حدودها رئيت وأسرارها عرفت وصورها طبعت في النفس، ولكن يكون وراءها إحساس بخشية ورهبة من ذلك الذي خلقها هائلة هكذا وجعلها بهذه النسب الرياضية والهندسية والقوة الدائبة الجبارة. . .
إذاً ما هو المجال الحيوي غير المحدود لهذا الفكر الإنساني الذي يرى عمق الكون المادي ضحلاً بعد ترديد النظر عليه ومعرفة أسرار تركيبه وقوانينه الهندسية والرياضية؟
إنه لا بد عالم لا نهائي لا تدركه الأبصار والمناظير ولا تحلله المخابير، ولا تسبر آفاقه المسابير والمعايير، ولا تدركه علوم الزمان والمكان!
وطبيعي أن هذا المجال الحيوي بهذا الوصف لا يمكن أن يكون للفكر الإنساني قدرة على إدراكه هنا في هذه الدار التي نعيش فيها بالحواس وقيود المواد الثقيلة الكثيفة، والفكر المحدود.
ولهذا يجب أن ينصرف الفكر الإنساني عن محاولة اقتحام هذه السبحات ويتوجه إلى المجال المحدود المؤقت الذي وضعناه فيه لندركه هو أولاً ونفرغ من استيعاب أسراره وظواهره.
وإن من يريد التعمق الآن في إدراك ما وراء الطبيعة ولا يقنع منه باللمحات والخطفات فلن يظفر بمحصول غير الشرود والخيال.
وقد برهن تاريخ الإنسان على ذلك. فالأمم التي لا تزال تطلب في هذا العصر علم اليقين بالنفس والله قبل إدراك قوانين العلم الطبيعي، والتي لا تزال تطلب الله عن طريق الشعر والوجدان وحده كالهندوكيين ولا تطلبه عن طريق البحث في أرضه وهوائه ومائه والتطلع العلمي إلى سمائه، ولا تَقُصُّ آثاره يده في صنع نماذج الطبيعة لتعرف مقدار ما عنده من العلم والإحاطة بالجزئيات والكليات، ولا تلخص أسرار صنعته وتختزلها في قوانين ومعادلات حسابية وجبرية، ولا تحاكي نماذج الطبيعة، إنما هي أمم بدائية ضالة طريق
تحقيق الأوطار والأشواق إليه، جل مجده، قليلة العلم بما عنده من أفانين تتجدد ولا تنفد، تعرفه عن طريق العواطف والرموز، لا عن طريق الفكر والوضوح.
إن الإرادة العليا مصرة على إغلاق ما وراء الطبيعة الآن أمام فكر الإنسان، ولعلها تفتحه بعد أن يفرغ من إدراك كل ما في الطبيعة أولاً.
أما الطبيعة ذاتها فقد دل تاريخ العلوم على أن أبوابها تفتح لمن تركوا اتخاذ الكلام غاية وحيدة للحياة، وعكفوا على محاريبها وأطفالها وموجوداتها يقلبون النظر والفكر واليد فيها ثم يتكلمون بعد ذلك. . .
إن الكلام وسيلة لا غاية. هو قوالب لاختزان المعاني التي تنشأ من المزاوجة بين خواطر الفكر وخواص المادة. هو أوعية الحقائق المرفوعة من الأجسام، إلى عالم التعبير والصور والأرقام. فلا يصح أن تمتلئ بتكاذيب الأماني وتخييلات الأحلام، إلا أن تكون تمهيداً من عالم الخيال والمثال لعالم الواقع. وكثيراً ما هدت سوانح الشعر إلى عالم حقائق العلم. . .
فلا يضمن أحد السدود النظرية أمام عمل الإنسان في الطبيعة ما دامت هي تلبيه وتتفتح له وتنتج. ولا يجوز حمله على السكون والركون إلى مواريث الأفكار القديمة التي تجعل الطبيعة أمام الإنسان حرماً مقدساً يجب التهيُّب من الشروع في تغيير شيء فيه أو تنقحيه بالزيادة أو النقصان. . .
فهي وحدها الحكم الذي تُرضى حكومته في العمل فيها أو تركه. . .
فما دامت تفتح له الأبواب وتهتك الأستار فليدخل وليتوغل وهو موقن بأن هذا عمله الذي خلق من أجله. . . وليس إبقاء الطبيعة كما هي بدون تغيير عبادة كما كان الزعم القديم،
ولكن صار تغيير إلى الأصلح هو العبادة. . .
والتربية الناجحة هي التي توحي للنفس ألا تتقهقر وتتضاءل وتنزوي في نفسها أمام قوى الطبيعة، بل تجعل من النفس قوة غازية موجبة غير سالبة، تؤثر في الطبيعة بالتسخير والتحويل والتنقيح. . . والتربية الشرقية على العموم لا تزال تؤول قصور النفس الناشئ عن الجهل والكسل والعجز أمام الطبيعة بتأويلات تحمل فيها الأقدار العليا أكثر مما تحتمل، وتفر من وجه السدود والعوائق تحت تأثير قناعة مصطنعة تحيكها أخيلة طفلية، ولا تأخذ ما في الحياة وإنما يأخذها ما في الحياة.
وقد كان الاعتماد على القوى السحرية هو أساس العمل لتحقيق الأماني؛ والآن صار الاعتماد على القوى الآلية في الطبيعة هو أساس ذلك العمل.
لقد قدمت الطبيعة الطاعة أمام فكر الإنسان؛ فهو يأخذ نواصي كثير من قواها بقوانينها هي، وقد عرف الأبواب الخفية التي يتسلل إليها منها فأمعن في غزوها.
وإن أعمال العلماء الطبيعيين قد اكتسبتْ من جبروت الطبيعة شيئاً من الهول والاجتياح والاتساع؛ فمدافع كروب الثقيلة البعيدة المرمى، والقنابل الشديدة الانفجار، والقلاع الطائرة، والمناطيد، والخزانات العظيمة، والمحطات الكبرى لتوليد الكهرباء، والمصانع الواسعة، والإذاعة المبثوثة باللاسلكي وتعبيد الطرق العظيمة كطريق نيويورك - ميامي مثلاً، أو إكسبريس الشرق وغير أولئك. . . كلها أعمال عظيمة تمتاز بطابع الاتساع والهول والجهد الجبار.
ولا يتوهمن متوهم أن هناك عداوة وغيظاً وحرباً ذات حقد بين الإنسان والطبيعة، وإنما للطبيعة صدر رحيب كصدر أم يمرح عليه أطفالها.
نحن بنو الطبيعة ونتاج عواملها وتأثيراتها الظاهرة والخفية، جسمنا منها وعقلنا وتجاربنا، ولكن روحنا من الله بارئها؛ ولذلك كان لنا قدرة عليها وافتنان في تنقيح موجوداتها ومحاكاتها والزيادة عليها. . . فلنبدأ عصر يقظة بالإحساس بحياتنا الممتازة، والإحساس بقدرتنا الفائقة على الأعمال العظيمة. وليكن ديننا هو حيرتنا ودهشتنا: كيف خلقنا؟ وكيف اقتدرنا؟ وكيف نعلم؟ وكيف نعمل؟
إن الراحة الدائمة هي في أن نلقى بأجسامنا على صدر الطبيعة مفكرين فيها باحثين عاملين. . . وبأرواحنا بين يدي ربها متعرفين إليه صابرين على الدهشة والحيرة والإيمان بالغيب حتى يأتينا اليقين في الآفاق وفي الأنفس. ولا بد وراء ذلك من تأويل ويقين!
قد يطير الطير في أجواز الفضاء وهو في ذهول. . . وقد يسبح الحوت في جوف العباب وهو في ذهول. . . وقد تَدْرُجُ الوحش والأنعام والبهائم على أديم الأرض وهي في ذهول. . . ولكن ابن الإنسان ينبغي له أن يتساءل دائماً: كيف أحيا؟! وكيف أفكر؟! وكيف أدرُج؟! وكيف أسبح؟! وكيف أطير؟! ثم كيف أريد وأقتدر؟!
وينبغي له ألا يغفل عن ترديد هذه الأسئلة:
ما الذي أخرج الإنسان من ركام المَوَات والجمود ومختلط القوى العمياء التي يزخر بها الكون؟
وما الذي وضع فكر الإنسان واختياره وسط الدورات الجبرية التي تتداول الأرض؟
وما الذي هيأ له مهاده الوثير المريح المستقر وسط النيران والصخور وتدافع القوى العمياء؟
إن رحلة واحدة في جوف الماء الزاخر، أو الهواء الدافع، أو النار الموارة، أو التراب الثقيل الفادح المتراكم. . . كافية أن تشير لنا إلى موضعنا وخصوصياتنا في الكون، وإلى رعاية من أخرجنا وسط هذه الأهوال والقوى العارمة المجنونة في مهاد من رحمته بين عوامل جبروته وسطوته!
عبد المنعم محمد خلاف
التصريح بعد التلميح
في توجيه الجيل الجديد
للدكتور زكي مبارك
كنت أُوهم قرائي أن غايتي من المصاولات القلمية هي إيقاظ الحياة الأدبية بعد أن طال عليها الهجود. وذلك غرضٌ نبيل ولكنه أصغر من الغرض الذي أتسامى إليه، وهو نقل المجتمع في أخلاقه وآدابه من حال إلى أحوال.
وقبل المضيّ في شرح الغرض الذي أرمي إليه بهذا المقال أذكر أن المجتمع المصري مجتمع سليم، فقد نهض بأعباء لا ينهض بها من يكون في مثل حاله من التعرض لمكاره التقلبات الدولية.
وخبرتي بطبقات المجتمع في كثير من البلاد الشرقية والغربية دلتني على أن المجتمع المصري مفطور على التماسك، وأقنعتني بأن شبان مصر على جانب من الأخلاق التي تصوغ أكابر الرجال، وإلا فكيف سَلِمتْ مصر من التصدع برغم ما تعاني من حوادث وخطوب؟
هذا حق، وإذن فلا خوف على مصر ما بقيتْ تلك المناعة من الانحلال.
ولكني مع ذلك خائف على مصير بلادي. ففي كل يوم أرى جماعات تغري الشبان بالرجعة إلى العصور السحيقة، عصور الجمود والخمود.
ومن عجيب ما يقع في مصر أن تكون الدعوة إلى الأخلاق مقصورة على أناس لا يعيشون إلا بأسندة من المجتمع، مع أن العقل يوجب أن تصدُر الدعوة الأخلاقية عن رجال أقوى من المجتمع، رجال يقيمون البراهين على أنهم في حيوية ذاتية تعصمهم من المداهنة والرياء، وتضمن لهم النجاة من مزالق التصنع والازدلاف.
الدعوة إلى الأخلاق تصدُر عن الأقوياء لا عن الضعفاء، لأن الأصل في اُخلُق أن يكون قوة روحية وعقلية وذوقية تصل بصاحبها إلى شرف الثقة بالنفس في غير ازدهاء ولا اختيال.
أما صدور تلك الدعوة عن أناس لا يستطيعون مواجهة أمواج الحياة إلا إن أمددناهم بالعون والرعاية فهو عمل لا نرضى عنه إلا إذا نوينا التصدق والافضال.
وأقول بصراحة إني لا أستريح إلى من يدعوننا في كل يوم إلى التخلق بأخلاق العصور الذواهب، بعد أن عرفتُ ما عرفت من أخبارها السود، فقد كان الرجل يُسجن وتُستصفَى أمواله بلا تحقيق، لأتفه الشبهات، وكان التاريخ يكُتَب بالأجر فيجوز فيه الكذب والتهويل بلا حساب.
في العصور الماضية وُجِد حكام ولم توجَد شعوب. . . وإني أحب أن يكون فنياً رجل مثل عمر بن الخطاب، ولكني أكره أن نعيش على النظام الذي عاش عليه عصر عمر بن الخطاب. . .
وأنا أرّحب بعودة هرون الرشيد، ولكني أكره أن يعود عصر هرون الرشيد، فما يسمح عقلي بقبول الصورة التي عاش عليها المسلمون في عهد ذلك الخليفة العظيم، وإن لوّن عهدُه بروائع الألوان.
وما رأيكم في الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي وُلد في بلادنا الغالية؟
كان غاية الغايات في إيثار العدل، وأنا أتمنى أن يعود، إن كان للأموات إلى الدنيا مَعاد، ولكني أكره أن يعود عهدُه مرةٌ ثانية، فقد كانت الأمم الإسلامية في تناحُر وشقاق، وكانت الإدارة الحكومية أضعف من أن تجمع الشمل، وترأب الصدع، وترتق الفُتوق، فكانت أيامه قنطرة تحمل أثقال الفِتن من جانب إلى جانب، بلا نِظام ولا وثاق، وهي أيام لها سوابق ولواحق، وبشؤمها المأثور هوت الأمم الإسلامية إلى المهاوي التي سجّلها التاريخ.
وخلاصة القول أن (للسّلف الصالح) لا يتمثل في غير الحكام العادلين، وهم آحاد أو عشرات، أما الشعوب في تلك العهود فلم يكونوا يحتكمون إلى غير السيف، وقد كان وحده الفَيْصل في أكثر ضروب الخلاف.
ماذا أريد أن أقول؟
أريد النص على أن التعلق بأهداب العصور الماضية ضلال في ضلال، وأن الذين يريدون أن يردّونا إليها ليسوا إلا أحياءَ يحملون قلوب الأموات، وإن تردّوا بأردية الصالحين والأتقياء!
لم يكن للشخصية الفردية وجود صحيح في العصور الخوالي، ولا كان أحد يجرؤ على مواجهة الحكام بنقد ما يقع في أعمالهم من جور واعتساف، إلا نوادر من المعارضات قام
بها أفراد من الزهاد والصوفية. نوادر فَرِح بها عشاق الصراحة والعدل فسجلوها بطنطنة وتهليل، لأنها كانت في أنظارهم من جملة الغرائب والأعاجيب. . . وهل يُنَصّ على شيء إلا إن كانت فيه غرابة توجب الالتفات؟
وخلاصة القول أني أدعو إلى مدينة العصر الحديث، فهي آخر ما اهتدت إليه العقلية الإنسانية، وإن لم تخلُ من نقائص وعيوب. وسنساير هذه المدينة إلى أن تجئ مدينة أفضل منها وأنفع، على فرض أن العقل الإنساني يرتقي من يوم إلى يوم.
ولعله يكون كذلك بفضل ما يرتطم فيه من مآثم الطغيان الدولي؛ وهو طغيان يخلُق النفرة من البغي والعدوان، ويؤرّث نار الثورة على الظلم والظالمين.
والحق أن عيوب المدينة الحديثة ليست بشيء بجانب مزاياها الأساسية، وإنما يقع الخطأ من الغفلة عما لها من محاسن، والوقوع فيما لها من عيوب. ولو كان لنا جميع فضائل الأقوياء وجميع مساويهم لتبدّل الحال غير الحال وصرنا على جانب من المَنَعة نصاول به من نعاصر من كبار الشعوب، ولكن الخوف يساورنا من ناحية واحدة، هي صعوبة التسلح بالفضائل وسهولة التردي في العيوب.
وهنا نقطة دقيقة لا أحب أن يَغفُل عنها قرائي، فقد يتوهمون أني أنهاهم عن اتباع ما ورثوا من محمود التقاليد، - وهذا وهمٌ فظيع - ففي التقاليد القديمة أشياء وأشياء تستحق الإعجاب. وليس عندي ما يمنع من أن يكون فينا من يساير المحمود من تقاليد القرن الثالث أو الرابع، على شرط أن يحسّ تلك التقاليد إحساساً يمنحها قوة الفاعلية الأخلاقية، أما متابعة السلف بلا وحيٌ ولا إحساس فذلك ضربٌ من الجمود البغيض، لأنه يرّدنا إلى الحيوانات التي تسير في طريقها المرسوم بلا تبّصر ولا إدراك. وبالإشارة يكتفي اللبيب!
لك أن تساير ما تشاء من المبادئ الأخلاقية، ما دمت تؤمن بالمبدأ الذي ارتضيته منهاجاً لحياتك. . . وقد أصل إلى أبعد الحدود فأقول: إنه لا خوف عليك من التخلق بأبغض الأخلاق في نظر المجتمع، على شرط أن تكون اقتنعت في سريرة نفسك بأنك على هدّى وأن معارضيك في ضلال. فالذي نشكوه هو ضعف العزيمة الُخلُقية، كأن نرى جماهير تسير سير القطيع بلا إرادة ولا تمييز، وتلك بداية الخذلان.
يجب حتماً أن تكون لك إرادة صحيحة فيما تنصرف عنه وما تُقبِل عليه. ولا قيمة
لطواعيتك لآداب المجتمع إن خَلَتْ تلك الطواعية من النية. . . وهل يثاب من يقرأ القرآن على طريقة الببغاء؟
لقد أنكر قومٌ صحة الصوم بالنسبة إلى من لا ينوي الصيام. فما معنى ذلك؟ معناه أن العمل بلا نية ضياع في ضياع
وأنت قد رأيت ناساً تأدبوا بأفضل ما أُثِر من آداب المجتمع، ثم ظلوا متخلفين. ورأيت ناساً ثاروا على المحمود من تقاليد المجتمع، فما ضرَّهم ذلك ولا فاتهم شيء من الطيبات. فهل تعرف سرّ هذه الظاهرة الحيوية؟
يرجع السرّ إلى أن النية هي الأصل في موجبات الضر والنفع؛ فالذي يساير التقاليد الحميدة خضوعاً للمجتمع بدون أن يكون له في الإيمان بها نصيب يظل طول عمره ضعيف الكفاية الأخلاقية؛ وقد يُنسى فلا يشهد يوم الحساب، لأنه صار أداة آلية، ومن كان كذلك فلا مكان له بين من يستحقون الحمد، ومن يستأهلون الملام. . . والذي يثور على المجتمع وهو مؤمن بأنه على حق - وإن كان في الواقع من المبطلين - هذا الثائر قوي جداً من الوجهة الأخلاقية، وهو أقرب إلى الله ممن يسايرون التقاليد الحميدة وهم غافلون عن مدلولها الصحيح.
وهنالك طبقة منحطة أبشع الانحطاط، وهي الطبقة التي تثور على التقاليد المحمودة بلا نية ولا إرادة ولا عزيمة، وإنما تصنع ما تصنع على سبيل التظرف السخيف، لأنها سمعت أن الثورة على تقاليد المجتمع تعد أصلاً من أصول التمدن الحديث، وهذه الطبقة هي التي تعوَّق الوثبات الإصلاحية، وهي التي تعطي الحجة لأهل البلادة من دعاة الخضوع لقديم التقاليد، بلا تفريق بين الزائف والصحيح.
وهؤلاء المتظرفون السخفاء هم خصومنا الألداء. فإليهم يرجع السبب في نفرة الجمهور من الوثبات الإصلاحية، وإن كان حالهم أقل بشاعة ممن يسايرون القديم على علاته ليسرقوا ثقة المجتمع الغافل عن مسالك أهل الرياء.
والرأي عندي أنه لا قيمة لأي عمل إن لم يَصدُر عن النفس بحرارة وإيمان، وإن كان في ذات نفسه من جلائل الأعمال، لأن القيمة الأخلاقية ترجع في جوهرها إلى النية الصحيحة.
فيما نأتي وما ندع، بغض النظر عن الاهتداء إلى طريق الصواب. وقد ينتفع المخطئ أعظم الانتفاع بما يزاول من أخطاء، لأن الله لا يحاسب من يقعون في الخطأ عن جهل، ولأن أعمالهم حين تتسق مع ضمائرهم تصون الشخصية الخُلقية من الانحلال، ولا كذلك من يعملون الصالحات بغير نية أو عقيدة، فأعمالهم لا تقدم ولا تؤخر.
وفي رياضة النفس على التطبع بكرائم الأخلاق أواجه الموضوع بعبارة أوضح وأصرح فأقول:
إن عندنا اليوم جمهورين يقتتلان حول القديم والحديث من التقاليد، ولكنه اقتتال غير منبعث عن عقائد راسخة الجذور في الصدور، ومن أجل هذا ظل عديم الجدوى في إيقاظ الحياة الأدبية والاجتماعية، وقد ينقضي هذا العصر بدون أن نشهد ثورة فكرية تحل عقال الأفئدة والعقول كالثورة التي شهدها من عاصروا محمد عبده وقاسم أمين.
ولكن ما أسباب هذا الجمود الدميم؟
ترجع الأسباب إلى نوع الحياة التي يحياها المفكرون في هذا الجيل. وهم فريقان: فريق يعيش في ظل الوظائف الحكومية، وفريق يعيش في ظل المنافع السياسية.
أما الفريق الأول فأسير للمثل المغربي: (صاحب الوظيف وصيف) وانطباق هذا المثل على الموظفين لا يحتاج إلى بيان.
فالموظف في مصر يهدَّد في رزقه وأرزاق أبنائه حين يتعرض لغضب المجتمع؛ والمجتمع يغضب لأضعف الأسباب؛ وهو يريد أن يكون الموظف أداة حكومية كالأداة التي تسجل حضور الموظفين في الصباح بدون أن تعرف ما تصنع، فإن استباح الموظف لنفسه حرية الفكر والقول فله الويل!. . . أليس في الدنيا أناس يحرَّضون الرؤساء على مرءوسيهم بالخطابات السرية أو بالغمز المرذول في بعض المجلات؟
وعلى هذا يكون الأمل ضعيفاً جداً في انبعاث الحياة الفكرية من بيئات الموظفين، مع أنهم صورة الاستنارة الفكرية في جميع البلاد، بفضل حظوظهم من التثقيف والتهذيب.
وأما الفريق الذي يشتغل بالسياسة من أهل الفكر والعقل فالأمل في ثورته على غفلة المجتمع أضعف من الضَّعف، لأن هذا الفريق يفكر دائماً في المعارك الانتخابية، وهي معارك لا يفوز فيها من يتعرض للقال والقيل، ولو كان من أكابر الحكماء السياسي لا ينجح
أبداً إلا إذا راعى أهواء المسُوسين، وفيهم الأحمق والعاقل، والبليد واللبيب، على تفاوت في هذه الصفات لا يسرني أن أقول رأيي فيه بغير التلميح.
وعلى هذا يضعف الأمل في انبعاث الثورة الفكرية من بيئات السياسيين، كما ضَعف الأمل في انبعاث تلك الثورة من بيئات الموظفين.
فإلى أين تسير بلادي الغالية؟ وكيف يجوز أن يمرّ بها زمن طويل أو قصير وهي محجوبة عن أقباس الحرية الفكرية؟
هذا رجل يظاهر التمدن القديم ليقتات من فُتات الرجعيين، وذاك رجل يظاهر التمدن الحديث لينتفع بجاه أدعياء التجديد، وذلك مخلوق يساير أولئك وهؤلاء بلا بصيرة ولا يقين، لأنه في حقيقة أمره حيران، أو لأنه أَلِف السمسرة في ميدان الأخلاق!
الرجعي المؤمن بالرجعية غير موجود، وإنما هو شبَح يتوهم أن له منفعة في مؤازرة الرجعيين المزيفين.
والمجدَّد المؤمن بالتجديد موجود، ولكنه غير مزوَّد بالشجاعة الوافية، بدليل أنه يترك أخاه دَريئةً لسهام السفهاء، فلا يدفع عنه كلمة البهتان، ولا يمدّ إليه يد المواساة حين ينتاشه الأغبياء!
إلى أين تسير بلادي الغالية؟ إلى أين؟ إلى أين؟
لم ينبغ في عصرنا مؤمن في مثل حماسة الغزالي، ولا صوفي في مثل روحانية أبن الفارض، ولا مرتاب في مثل عقل أبى العلاء، ولا فاجر في مثل ظرف أبي نؤَاس. . . فبأي وجه نلقي الله وقد خلا وادينا العزيز من أمثال هذه المعاني؟!
أتقدَّم إلى الله حطبَ جهنم وهم المذبذَبون بين القديم والحديث؟!
وكيف نجيب إذا هتف هاتفٌ يوم القيامة بأن المصريين في بعض عهودهم لم يراعوا حقوق واديهم الجميل؟
قد يقال: إن عندنا رجالاً يثورون على ركود المجتمع من وقت إلى وقت؛ وهذا حق، ولكن ثورتهم في أغلب أحوالها من الحديث المُعاد، فهي في ضعف المبتذلات؛ فالنائب الذي صاح مرة بأن المصريين مختلفون في الأزياء لم يأت بجديد، فقد سمع الناس هذه الصيحة قبل أعوام تُعدَّ بالعشرات. وهذا النائب نفسه لا يستطيع أن ينكر أن اختلاف الأزياء لم
يعوّق (السلف الصالح) عن النهوض؛ فما سمعنا أبداً أن الأزياء توحدت في أمة إسلامية في العصور التي يلقبونها بالعصور الذهبية، حتى يصح القول بأن اختلاف الأزياء هو السبب في تخلف الأمة المصرية، والأستاذ الذي أتعب نفسه في الكلام عن انحلال الأغاني الشعبية لم يأت بجديد، فقد قيل هذا الكلام ألوف المرات، ولم يكن توكيده في احتياج إلى صيحة من عميد إحدى الكليات!!
وأرجع فأقول إني أكره أن يعيش الجيل الجديد بلا بصيرة ولا يقين، لأن هذا الضرب من العيش ليس إلا ضرباً من الموت، وإليكم أسوق بعض الشواهد:
كثر القول في الدعوة إلى إصلاح الأزهر والمعاهد الدينية، وقد شغلت نفسي بهذا الموضوع حيناً من الزمان؛ ثم انصرفت عنه كل الانصراف، حين شعرت بضعف الأساس الذي رجوت أن يقام عليه البناء.
ولتوضيح هذا المعنى أقول: إني رأيت الأزهر بين لا يثقون بمعهدهم إلا ثقة صورية، ولو شئت لصرحت بأنهم يثورون عليه ثورة لا يسترها غير الكبت، بدليل أنهم لا يلتفتون إليه حين يجدون فرصة للتحرر والانطلاق.
كانت مشيخة الأزهر إلى الشيخ سليم البشري، ومع ذلك رّبى جمهور أبنائه مدنية لا دينية. ثم كانت إلى الشيخ أبى الفضل الجيزاوي، ومع ذلك ربى أبنائه تربية مدنية لا دينية. ثم كانت إلى أستاذنا الشيخ الأحمدي الظواهري، وقد ربى أبنائه تربية مدنية. وشيخ الأزهر اليوم هو أستاذنا المراغي؛ وقد ربى أبنائه تربية مدنية، وأبنه مرتضى وكيل محافظة القنال وليس شيخاً لمعهد طنطا أو دسوق؛ فماذا ترون في مغزى هذا الشاهد الطريف؟ ألا يدلكم على أن الأزهريين لا يثقون بمعهدهم إلا ثقة صورية؟
وإن كان الأزهر هو المثل الأعلى في إعداد الشبان للحياة الدينية والدنيوية فكيف يفوت شيوخه الإجلاء أن يصونوا أبناءهم بالالتجاء إلى حصنه الحصين؟
وإن لم يكن صالحاً لتربية هؤلاء الأبناء فكيف يفوت أولئك الآباء أن يصارحوا الأمة برأيهم فيه وهم هداتها إلى الدنيا والدين؟
كان يتفق لبعض كبار العلماء أن يوزعوا أبناءهم بين المعاهد الدينية والمدارس المدنية، كما صنع الشيخ محمد شاكر والشيخ عبد المجيد اللبان؛ ولكن هذه الظاهرة قد انقرضت ولم
يبق من الأزهريين من يربي أبناءه تربية دينية وهو يجد الوسيلة إلى تربيتهم على الطريقة المدنية. . . أليس لهذا المسلك من المعاني ما يوجب التفات من يسجلون التطورات الإجماعية؟ أليس هذا بشيراً أو نذيراً بأن الأزهر يريد أن يتحول؟
وما يقال في الأزهريين يقال في كثير من الطبقات: فالمدرسون في جملتهم لا يرضون أن يصير أبناؤهم إلى احتراف التدريس، كأنهم يتوهمون أنه مهنة لا تمنح صاحبها أهلية الغنى والمجد. فكيف يؤدي المدرس واجبه تأدية حسنة وهو ينظر إلى مهنته بعين الاستخفاف؟
والموظفون الذين ينشرون الثقافة الزراعية عن طريق المقالات والمحاضرات لأبنائهم أن يكونوا فلاحين، ومع أن الفلاحة هي أساس الثروة المصرية.
يجب أن تؤمن كل طبقة بأنها شريك أمين في الهيئة الاجتماعية. ويجب أن نحترم جميع أعمالنا احتراماً يصل إلى الحب لنتذوق طعم القيام بالواجب في صدق وإيمان، ولنسترد ما أضعناه من المنافع بسبب الفهم الخاطئ لاختلاف الطبقات، وهو اختلاف لا يتم بدونه وجودٌ صحيح.
أما بعد، فهذا مقال لم أرد به غير وجه الحق. وأنا أدعو جميع الكتّاب إلى الاهتمام بأمثال هذه الشؤون في صراحة لا يصدها تهيب ولا احتراس، وليثقوا بأن الشعب المصري يقبل جميع الآراء ما صدرتْ عن نزاهة وإخلاص.
الشعب المصري لم يخذل داعياً من دعاة الحق، ولم يصمْ أذنيه مرة واحدة عن كلمة الصدق، فقد استجاب لجميع المصلحين، وحفظ لهم منازلهم في التاريخ، فما تهيُّبُ بعض الكتاب من عرض ما يجيش في صدورهم من الآراء الصحاح؟
أقدموا غير هَّيابين. فما فاز غير المزوَّدين بفضيلة الشجاعة ونعمة الإيمان.
زكي مبارك
شاعر الجرمان الأعظم
يحيى ولفغنغ غوث
لأستاذ جليل
طالع (يحيى ولفغنغ غوث) ناظم معاني (إن بالشعب. . .) باللسان الجرماني على الدنيا سنة 1749 وغاب سنة 1832
وشعر ونثر - وقد هذب الدهر لغة القوم - فحير وبهر.
وقد روى الراوون محققين وصادقين أنه قَرزمَ وهو ابن ست سنين! (يا يحيى، خذ الكتابَ بقوة، وآتيناه الحكم صبيّا).
وهو ثاني أثنين في الأقاليم الغربية لا ثالث معهما، وان يكون الثالث. . . وإن سبق صاحب (هملت) في القريض بجملة أقواله فقد بذَّ غوثٌ شكسبير بفوست. ليست لشكسبير شبيهة فوست.
وغوث هذا هو ذو المنقبتين أعني العبقريتين: العبقرية الشعرية، والعبقرية العلمية. وهما عبقريتان لا تلتقيان عند إنسان. فأعظمْ بدماغ لف هاتين القوتين، وألّف بين الَّضرتين! أعظم به ثم أعظم!!
ولقد ظاهرت مؤلفات هذا العبقري مقالات الوحديين والنشوئيين وأشياعهم كما ظاهرهم قريضه - أيمّا مظاهرة.
وقال في (التحول) في مباحثه ذات القدر في النبات والحيوان مستقرياً مدققاً، ومفصلاً موضحاً، وهادياً أولى النهى إلى تلك القرابات الواشجات قبل أن يقول ابن لامرك، وقبل أن نسمع ابن دروين. ويدُ هَذين العلّمين العلامتين في تينك المقالتين المشهورتين بما بسطا في شرحهما ذا البسط وبتلك الإحاطة - مذكورة مشكورة لا تكفر. وللسلف الصالح كلمات في هذه المعاني مختصرة متفرقة في المصنفات مبثوثة في المواضع المختلفة، وفي بعضها ما يلاقي تصريح بخنر وهيكل وهكسلي.
وفي (الرسالة) ذات الرقم255 ص848 جملة ابن خلدون المجملة في تدريج التكوين. إنها
سنة الله في إنشاء الكائنات (ولن تجد لسنة الله تبديلا)
والأستاذ (أرنست هيكل) يذكر في أكثر كتبه أعظم شعراء الجرمان ومفكريهم - كما يصفه - مفخماً ومتقوياً بأقواله في مقالته (الوَحدية) ومباحثه المحكمة المحققة النشوئية. وقد أورد في كتابه (تأريخ الخلق الطبيعي) في الباب الرابع نصوصاً أو شذرات من مؤلفات (غوث) تعلن سبقه رجال (المذهب) في الاهتداء إلى ما هداه الله إليه.
وكان نابغة الجرمان، سيد الجرمان يجل قائدنا وهادينا (أبا القاسم) إجلالاً كبيراً. ولن تغشّى حسناتٍ لغوث تخاليطُ في (رواية). وقصيدته في يوم النصر، يوم الفصل، يوم (بدر) وشهدائه المؤمنين الخالدين الأبطال - شمس تضيء، شمس مضيئة أو سورة. وإن قوله في (القرآن) لهو القول. إنه يراه قد أعطِى فيه كل مقام حقه، وأخذ كل معنى من مقاصده لفظه كما يراه قوياً (إشْتْتِرْنكْ) عظيماً سامياً متعالياً (إرْهابِنْ) رائعاً مهيباً (فورْشْتْبارْ) قد خرق العادة؛ فلا غرو أن يبلغ أثره في العالم حيث بلغ.
يا كتاب محمد، يا كتاب عظيم الدنيا، يا أعظم كتاب في هذا الكون، يا خالق هذى الأمة، يا باني ذاك المجد، هل يعرفك حق معرفتك إلا العبقريون، إلا الأقطاب الأغواث (الغوثيون)؟!
هل يعرفك الجهلاء الأغبياء البله العمهون؟
هل يعرفك العوام أو أشباه العوام من الأدبيين والمعمعيين؟
هل يعرفك الشعارير أو المتشاعرون والكوتبيون الصغيرون الحقيرون الأّمعون؟
هل يعرفك كل وغد نغل (مزور) مائن من المضللين الوقحين؟
ألا إن القرآن في الكلام مثل محمد في الأنام، فإن وجدت لمحمد خطيراً ألفيت للقرآن نظيراً (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).
وكان الأستاذ الأكبر (أرنست هيكل) يجهر كذلك بتبجيل (أكبر معاني الكون وصفوة النوع الإنساني)، وبتفضيل شرعته
- والإسلام يعلو ولا يُعْلى - على تينك النحلتين. وذكره معظماً في كتابه (أحاجي الكون) أو معضلات الكون - وفي غيره من كتبه - وأظهر في ذلك الكتاب الهادي أثر زيارته
مساجد في نفسه حينما جاء الشرق (سنة 1873) مادحاً هدوءاً وخشوعاً وسكينة فيها، وهاجياً ضجيجاً وعجيجاً وشعبذة في معابد أقوام وملة سماهم وسماها، ولا أرى أنا أن أسميهم أو أسميها قي هذا المقام حتى لا يغضب أصحاب لنا وأحباب.
وغوث مطوق بفضل علمه وأدبه أجياد جميع الجرمانيين، ولم يتفلت من قيد إحسانه متفلت منهم. فكل جرماني - كما يقول أحد الجرامنة - إما أن يكون قد درس مؤلفات غوث فاستفاد منها، أو استفاد ممن درس مؤلفات غوث. ففضلُ (ذي المنقبتين) قد عم القوم قاطبة - عموماً.
وإن شئت فقل: إن أمة غوث تتلو صحفه كما يتلو أهل الحنيفية (الكتاب) وكما يقرأ القراءون من اليهود والنصارى التوراة والإنجيل.
وكتبه عند الجرمانيين ثروة كريمة جسيمة، وقد أربت على أكثر من مأتي مؤلف.
وغوث هو شائد الوحدة الجرمانية الحق؛ فلغته وأدبه هما اللذان جمعا كلمة أولئك الأقوام المتفرقة، وألفا بين قلوبهم المتوزعة.
ولو أقامت (سياسة بسمرك) ألف سنة تجد في الضم والتأليف ما ألفت بين قلوبهم، ولكن غوثا ألف بينهم. إن سلطان الأدب والأديب واللغة في الأمم لقوى عظيم.
وصيت هذا العبقري ومكانته في غير أمته من الغربيين مثلهما في أمته. وخلقه العالي وفضائله أعظم من شعره العجيب وعلمه. قال له كبير ذات يوم: يا غوث، لقد أفاد الناس سلوكك، وسيرتك أكثر مما استفادوا من علمك وأدبك. وأدبه وعلمه هما ما علمت.
وإن بلاغة غوث وبراعة شكسبير لتعجزان عن أن تبينا فضائل تلك السيرة مزاياها وعجائبها، فالجأ إلى التوهم واسجن في عالمه.
وقال نابليون بونابرت وهو يومئ بيده إلى القطب الغوث (غيث): هذا رجل!
ولو أنصف هذا الملك لقال: هذا ملك.
إنما غوث ملك: ما هذا بشراً، إنْ هذا إلا مَلكٌ كريم! وإن غوثاً وأمثال غوث من العبقريين العظيميين الكرام الكاتبين الكاملين، لمستغنون جد مستغنين عن شهادات الممجدين وإطراء المطرين من النابوليين وأشباه النابوليين.
إنه الشمس تبدت ضحوة، نورها الباهر خير الشاهدين. . .
شخصيات تاريخية
2 -
تيموستوكل
للأستاذ محمد الشحات أيوب
مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب
كان اليونان إذن مهددين في عام480 ق. م إذ علموا أن أجرزسيس سير جيشه الجرار من قلب آسيا الصغرى وأسطوله الضخم محاذياً السواحل الآسيوية والأوربية المحيطة بمضيق الهيلليسبونت لغزو بلاد اليونان، طامعاً في أن يقوم بما لم يستطع أن يقوم به أبوه من قبل وهو الانتقام من أثينا بل وإخضاع بلاد اليونان عامة، فما كان عقله يصدق أن بلاداً صغيرة كبلاد اليونان تجرؤ على أن تقف في وجه أعظم عاهل على وجه البسيطة حينذاك وهي على ما هي عليه من فرقة وانقسام وتباين واختلاف.
وقد اختلف المؤرخون القدماء والمحدثون في تقدير عدد الجيوش الفارسية واليونانية، ولكنهم إن اختلفوا في هذا التقدير نجدهم يجمعون على أن جيش أجرزسيس كان عظيم العدد جداً، وعلى أن جيش اليونان كان دونه بكثير.
جاء الفرس بهذه الجيوش الضخمة ووصلوا إلى شمال بلاد اليونان بعد أن عبروا ما عبروا من بحار، وجابوا ما جابوا من سهول ووديان، وتسلقوا ما تسلقوا من تلال وجبال، وهم واثقون كل الثقة أنهم لا بد غالبون هذا الشعب بل هذه الشعوب الإغريقية المختلفة على أمرها مقامرين على انقسام اليونان وضعف اليونان وفقر اليونان، وقد غاب عنهم أن اليونان كانوا يعرفون بلادهم تمام المعرفة ويثقون بقوادهم الذين سيقودونهم إلى النصر لأنهم يدافعون عن أعز شيء في الحياة وهو الحرية والاستقلال.
وكان تيموستوكل على علم بحركات الفرس كلها. لذلك أعد بلاده خير إعداد، وجهزها بما كانت تحتاج إليه من وسائل الدفاع كبناء الأسوار والجدران، ومن وسائل الهجوم كالسفن التي عمل على بنايتها لتكوين الأسطول مما جعله يصمد أمام الأعداء ولا يتزعزع أمام هذه الغزوة الجريئة.
ويعمل اليونان على توحيد الصفوف والاستعداد لملاقاة الأعداء فيعتدون مؤتمراً هو مؤتمر
الجامعة اليونانية الثاني (في أوائل ربيع عام480 ق. م) وفيه يقرون إرسال حملة للدفاع عن وادي ثمبي في الشمال بعد أن وعدهم سكان تلك الجهة ببذل المعونة والمساعدة لهم، وسارت الحملة عن طريق البحر وعلى رأسها قائد أسبرطي يساعده في القيادة آخر أثيني هو صاحبنا تيموستوكل، ووصلت هذه الحملة إلى تلك الجهة ولكنها لم تجد معونة ولا مساعدة فرجعت بخفي حنين.
ويتفق اليونان أيضاً في هذا المؤتمر على تنظيم خطوط دفاعهم فيجعلونها أربعاً. الأول عند وادي ثمبي السابق الذكر، والثاني عند الثرموبيل، والثالث عند وسط اليونان (ببوسبا وأثيكا) والرابع عند برزخ كورنث ويقررون التراجع عن الخط الأول إلى الخط الثاني وعن الخط الثاني إلى الخط الثالث وهكذا حتى الخط الرابع إذا لم يستطيعوا الاحتفاظ بأي خط من هذه الخطوط.
وهم لم يستطيعوا الاحتفاظ بخط دفاعهم الأول على نحو ما رأينا منذ حين، لذلك نراهم يقررون، عندما علموا بخبر زحف الفرس إلى أواسط بلاد اليونان، والوقوف عند خط الدفاع الثاني أي عند أراض الثرموبيل براً، وعند رأس (الأرثيميزيون) بحراً، والنقطتان تكمل كل منهما الأخرى، ويوجهون نحو الأولى حملة برية بقيادة الملك الإسبرطي الشهير ليونيداس، ونحو الثانية أسطولاً بقيادة رجل إسبرطي هو إيريبياد ويساعده في القيادة تيموستوكل. وقد تلاقى الجيشان جيش الفرس وجيش اليونان عند الثرموبيل، وكان ما كان من أمر هذه الهزيمة الساحقة التي منى بها ليونيداس وأتباعه، حيث أبيد اليونان كلهم عن بكرة أبيهم في هذا المكان الضيق بعد أن أظهروا من الشجاعة ما خلد اسمهم على صفحات التاريخ - أما عند النقطة الثانية فقد التحم الأسطولان، والأسطول اليوناني كامل العدد والعدة، أما الأسطول الفارسي فقد هبت عليه زوبعة قبل معركة (الأرثيميزيون) ودمرت ما يقرب من ثلثه تقريباً، لذلك لقي الأسطول اليوناني نجاحاً بادئ الأمر، ولكنه لم يستطع أن يصمد أمام حركة تطويق قام بها جزء من الأسطول الفارسي نحو الجنوب إذا أراد الالتفاف حول جزيرة أيوبيا ليأخذ الأسطول اليوناني على غرة من الخلف، ولحسن حظ هذا الأسطول نجده يتمكن من الإفلات والنجاة من هذا المأزق الحرج فيرجع عند خط الدفاع الثالث أي عند وسط بلاد اليونان، وقد دهش الفرس عندما رأوا الأسطول اليوناني يتراجع
بعد هذا النجاح النسبي الذي ناله، ولكن اليونان فهموا أن هزيمة جيشهم في الثرموبيل قد قضت على خطتهم الدفاعية وجعلتهم يخافون على قواتهم من الفناء، من أجل هذا تراجعوا نحو الجنوب لأن هذه الفرصة الوحيدة لإنقاذ جيشهم وللاحتفاظ به للمستقبل.
من هذا يتبين أنه لم يكن لثيموستوكل موقف ظاهر واضح في هذه المعارك وعلى الأخص في الحملة البرية الأولى عند أرض ثمبي، وفي الحملة البحرية الأولى عند رأس الأرثيميزيون، ولكنه بالرغم من ذلك موقف عظيم الخطر والأهمية، لأنه كان هو الروح الذي ينبعث في الجيش الحمية والحماس، وفي الأسطول الرغبة والإقدام على الهجوم، إذ كان يقف إلى جانب القائد الإسبرطي موقف المرشد الناصح الأمين الذي يجعل مصلحة بلاده فوق أي اعتبار. وكان هذا القائد الإسبرطي يوافق على آرائه بالرغم مما فيها من خطورة وجرأة؛ لأنه كان ينصح دائماً بالهجوم، سائراً على هذا المبدأ الذي أخذ به نابليون من بعده وهو (الهجوم خير وسيلة للدفاع)؛ وكان إلمامه التام بحالة الفرس وبحالة اليونان خير مشجع له للإقدام على الهجوم؛ فهو يعلم أن اليونان أقلية في العدد بالنسبة للفرس - ولكنهم أكثرية في نواح أخرى - إذ كانوا أكثر تجانساً من أعدائهم، (فلم يكن بينهم نفر من الأجانب، على حين أن جيش الفرس يتكون في أغلبيته من أفراد الشعوب العديدة الخاضعة لهم) واكثر اتفاقاً فيما بينهم، فهم يحاربون بطوعهم واختيارهم لأن مثلهم الأعلى هو المحافظة على استقلال بلادهم وإحاطة حريتهم وحرية بيوتهم وعائلاتهم وأراضيهم بسياج من المنعة والقوة. أما الفرس أعداؤهم فإنهم يسيرون بالسياط ويحاربون مجبرين، لا لتحقيق مثل أعلى وإنما تنفيذاً لرغبة عاهل جبار استحوذ الطغيان منه على فؤاده واستولى الكبر على قلبه وعقله حتى شبه نفسه بالآلهة، فساق هذه الجموع الزاخرة سوق الأنعام والماشية. ثم إن اليونان بعد هذا وذاك يفوقون أعداءهم في الأسلحة التي كانوا مجهزين بها وفي القيادة التي كانوا يخضعون لها. وإلى جانب ذلك كله كان تيموستوكل على علم تام بحركات الأعداء، يوقفه عليها هؤلاء الجواسيس ونقلة الأخبار الذين كان يبثهم بين أعدائه مثل هذا الملاح الماهر سكيلياس الذي أتى له بمعلومات عن الأعداء قبل موقعة الأرثيميزيون؛ فأوقفه على ضعف الروح المعنوية فيهم، وعلى انعدام المثل الأعلى بينهم، وعلى عدم الانسجام بين وحداتهم المختلفة، وعلى التنافر بين عساكر الجيش والأسطول
الذين هم عناصر جنسية مختلفة، وكذلك على الكوارث التي أصابت الأسطول الفارسي كهذه الزوبعة التي هبت عليه قبل الأرثيميزيون فدمرت أربعمائة سفينة.
ثم يتابع أجرزسيس سيره نحو الجنوب حتى يصل إلى أواسط بلاد اليونان، وهو لا يحجم عن تخريب ما يلاقيه في طريقه من قرى ومدن، ولا يتردد عن انتهاك حرمة المعابد والأراضي المقدسة، ولا يتأخر عن تدمير ما يقابله من محاصيل زراعية أو تماثيل للآلهة، حتى ألقى الذعر في قلوب بعض اليونان، فخضعت له البلاد اليونانية الوسطى والشمالية ماعدا مقاطعة أثيكا. وكان من الأشياء المقررة عند اليونان أن يقف الجيش اليوناني عند الجبال التي تفصل بين مقاطعتي أثيكا وبيوسيا للدفاع عن المقاطعة الأولى، ولكن هذا الجيش تراجع حتى برزخ كورنث ووقف هناك ينتظر ما سيجابهه من حوادث. أما الأسطول فكان هو الآخر مصوباً وجهته نحو الجنوب، وقائده الإسبرطي يريد به التراجع نحو شبه جزيرة البيلوبوينز للدفاع عنها، ونحن لا ننسى أن هذا القائد، وهو إيربياد، اسبرطي يضع مصلحة بلاده فوق كل اعتبار؛ ولكن تيموستوكل يتمكن بعبقريته وبشخصيته القوية من أن يقف في وجه هذا القائد حتى يتغلب عليه ويوجه الأسطول كما يريد هو لا كما يريد هذا القائد فينجح في تلك اللحظة الرهيبة في حمل اليونان على اتخاذ قرار خطير، ذلك هو القرار القاضي بأن يقف الأسطول اليوناني عند جزيرة سلامين، من أجل هذا رأى اليونان أنهم مجبرون بعد هذا القرار الجديد على أن يرسموا خطة جديدة تضمن التعاون بين الجيش والأسطول للدفاع عن بلادهم وصد الغزاة.
زحف أجرزسيس بجيوشه وزحف حتى وصل إلى أبواب أثينا، وكذلك كان الأسطول الفارسي متقدماُ في سيره نحو الجنوب حتى لا يبتعد كثيراً عن الجيش، وخطة الفرس على ما نعلم تقضى بأن يتعاون الأسطول مع الجيش؛ من أجل هذا لم يجد الأثينيون أمامهم - والعدو على أبواب وطنهم - إلا أن يهجروا مدينتهم، فأصدر الشعب الأثيني مجتمعاً في مجلس (الأكليزيا) مرسوماً يأمر بإخلاء المدينة على ألا يبقى بها إلا نفر من الشيوخ للدفاع عنها. أما الفقراء من أفراد الشعب الذين لا يستطيعون أن يتحملوا نفقات الهجرة فقد نص هذا المرسوم بإعطاء كل شخص منهم مبلغاً من المال ليساعده على الرحيل؛ وذهبت أغلبية الأثينيين بأبنائهم ونسائهم إلى جزيرة سلامين حتى يروا ما سيقضى الله من أمر. أما
الفرس فقد دخلوا المدينة ووجدوها قد خلت من سكانها إلا هذا النفر الضئيل من الشيوخ. وهذا النفر بالطبع لم يستطع أن يثبت في وجههم فتغلبوا عليهم، وصعدوا إلى قمة الأكروبول وأقاموا هناك حيث توجد معابد الآلهة.
(البقية في العدد القادم)
محمد الشحات أيوب
في سبيل العروبة
مصر والعلم العربي
للأستاذ عمر الدسوقي
لا شك أن الحرب التي تدور رحالها اليوم ستتمخض عن انقلابات تاريخية وإقليمية ذات بال. ونحن - وإن لم نخض غمارها - متأثرون بنتائجها؛ وكل أمة تيقظ فيها الشعور القومي ترى لزاماً عليها أن تفكر في مصيرها، وتحدد هدفها؛ حتى تسير قدُماً نحو غايتها حين تضع الحرب أوزارها.
ومصر قد سلكت حتى اليوم مسلكاً رشيداً، وأتبعت سياسة ناضجة حكيمة إزاء هذه المحنة العالية، وكانت وفية صادقة لحليفتها، برة بوعودها، ولكنها لم تستغل هذا الموقف الشريف لخيرها وخير شقيقاتها العربية، التي تنظر إليها بعين ملؤها الرجاء والأمل. وعندي أن القضية العربية هي من أهم المسائل الحيوية التي يجب أن تدرسها مصر دراسة جيدة، وتوجه إليها عنايتها، وتبذل في سبيلها الجهود الصادقة.
أجل! إن مصر تتمتع في العالم العربي بمنزلة رفيعة، فقد حباها الله موقعاً جغرافياً هيأ لها التجارة النامية والثروة الطيبة، وجعلها صلة بين الشرق والغرب، وسخر لها النيل يفيض على واديها بالخصب والنماء، ويغدق عليها النعمة والثراء، فتصورها الناس في كل وادٍ أرض الكنوز المطمورة، والخيرات المتدفقة؛ ثم إنها أكثر البلاد العربية سكاناً وقد سبقت شقيقاتها في حمل مشعل النهضة على يد عاهلها الكبير محمد على باشا وخلفائه، وخطت خطوات واسعة في سلم الحضارة والعلم، فأصبحت ذات سلطان قوي على الرأي العام في البلاد العربية بما تملك من صحافة غنية منظمة، ومجلات أدبية وعلمية تعد الغذاء الروحي لعدد كبير من أبناء العروبة يفتقدونها إذا تأخرت، ويكبون عليها بشغف ونهم إذا أقبلت؛ وبأزهرها العتيد وجامعتها الحديثة؛ وبمطبعتها الخصبة التي ما فتئت تحي القديم وتظهر الجديد من المؤلفات القيمة والكتب الثمينة؛ وبكتابها الذين يزيدون في ثروة التراث العربي، ويتمتعون بشهرة واسعة في كل مكان تسود فيه لغة الضاد لغزارة أفكارهم وجودة أساليبهم، وتنوع كتاباتهم؛ وبالغناء المصري الذي يتردد على كل لسان في ربوع العروبة ويهتز له الشيخ الكبير والحدث الصغير على الرغم مما به من نقص، ولكن حسبهم أنه غناء مصري
حتى يفتنهم.
كل هذا جعل من مصر قبلة الأمم العربية، ومثالً تنسج على منواله وتترسم خطاه، وتتنسم أخباره بلهفة وشوق، حتى صار أبناؤها يختلفون فيما بينهم تبعاً لاختلاف الأحزاب المصرية، ويعرفون عن وادي النيل كل صغيرة وكبيرة.
فماذا كان موقف مصر من هذه البلاد التي تحبها حباً صادقاً لم يشتر بالمال ولم يبتذل في سبيله دعاية؟
لقد تقاعست مصر عن القضية العربية في الماضي - وهذه كلمة صريحة يجهر بها مصري مخلص لبلاده - ولم تعمل على جذب هذه القلوب التي تهفو لها حباً وإخلاصاً!
إي وربى! تقاعست مصر حتى كاد يفلت من يدها الزمام، وحتى قام من يناهضها ويعمل على تقويض سلطانها المتمكن في الأفئدة، بالدعاية الباطلة والإفك الصريح، مؤولاً تقاعس مصر بالكبرياء، وإعراضها بالغطرسة، ومصر - يشهد الله - مما يقولون براء.
أجل! لقد شغلت القضية المصرية والكفاح على سبيل الاستقلال كل أفكار وادي النيل، ولكن لم تمنعهم هذه القضية عن الانتصار للحبشة مثلاً بالمال والنفوس والدعاية، مع أن قطراً عربياً آخر كان ينكأ كل يوم بجراحات مثخنة مميتة، ويجاهد جهاد المستبسل المغوار في سبيل حياته، ومصر تنظر وكأن الأمر لا يعينها، حتى قبض الله لها رجلاً لا يوجد في الألوف مثله ذكاء وعبقرية وإقداماً، قدم لهذا القطر العربي المساعدة المالية السخية التي تكفكف دموع اليتامى والأيامى، ودفع بمصر في سبيل العروبة حاملاً بنفسه علم الدفاع، ولكن أبت الأقدار إلا أن تناوئه فانزوى عن الميدان.
كان لعمله هذا أثر محمود عند كل عربي، وأخذت الأعناق تشرئب إلى مصر تنظر ماذا تفعل، ولكن مصر رجعت إلى سابق عهدها من الصمت والتغافل ثم أشعلت نار الحرب وشغل كل امرئ بنفسه، إلى أن أصبحت حليفة مصر - بريطانيا العظمى - مسيطرة على الموقف في الشرق الأدنى، وصرح رئيس وزرائها مستر تشرشل - مثال الصبر والجلد والبطولة في الكفاح - بعطفه على القضية العربية، فهل آن لمصر أن تعطف على القضية العربية وهي أولى الناس بهذا الأمر؟
إن مصر عربية قلباً ودماً ولحمة وسدى! وكل من يقول غير هذا فهو مأفون الرأي. سائلوا
التاريخ عمن حفظ اللغة العربية وهي تحتضر في كل مكان إلا مصر! سائلوا التاريخ عن تلك الهجرات المتتابعة من ربوع العروبة إلى مصر منذ الفتح إلى اليوم!
إن بين مصر وبين البلاد العربية وشائج من الدم واللغة والتاريخ والأدب والعاطفة تحتم عليها أن تتبنى القضية العربية.
وهنا أوجه كلمة صريحة إلى جماعة من الكتاب في مصر أخذوا يتجادلون حول القضية العربية والقضية الإسلامية. مصر عربية إسلامية وعروبتها تحتم عليها أن تهتم بالقضية العربية وتتألم لنكبات الأمم العربية، وتفرض عليها الاشتراك في الحلف العربي، وإسلامها من جهة ثانية يتطلب منها أن تنظر بعين العطف إلى القضايا الإسلامية في جميع أنحاء المعمورة، ولا اختلاف بين الجهتين، ولا تناقض بين الميدانين: القضية العربية قومية، والقضية الإسلامية دينية، وفي استطاعة الإنسان العاقل أن يكون وطنياً مخلصاً لوطنه مجاهداً في سبيله، وأن يكون متديناً ورعاً قائماً بواجبات دينيه، دون أن يكون هناك تناقض بين جهتي الإخلاص أو بلبلة في أفكاره.
وهنا أيضاً عتاب أوجه إلى كتاب مصر عامة، وإلى العلامة الدكتور زكي بصفة خاصة بأنهم يستعملون كلمة (شرقي) بدلاً من (عربي)، والبلاد الشرقية الشقيقة بدلاً من البلاد العربية الشقيقة، فكأن الصلة التي تربطهم بأبناء العروبة هي أنهم جميعاً شرقيون فحسب. هذه نقطة دقيقة طالما أثارها محبو مصر في البلاد العربية، وطالما خجلنا منها ونحن بين ظهرانيهم. فهل الدكتور زكي مبارك مستعد منذ الآن أن يستعمل كلمة عربي بدلاً من شرقي وعربية بدلاً من شرقية، فإنه ملوم بخاصة لخبرته بالبلاد العربية وتمتعه فيها بشهرة طيبة.
وهاك عتاباً آخر لا أوجه في هذه المرة إلى الدكتور زكي مبارك، فقد أدى ما عليه وزيادة، ولكن أوجه إلى كتاب مصر وإلى جمهرة القراء بها: يلوموننا في البلاد العربية لعزلتنا الأدبية، واعتزازنا بثقافتنا، وعدم إقبالنا على ما تنتجه المطابع العربية، وينشئه أو ينظمه حملة الأقلام بها. وهذا عتاب لعمر الحق في محله، ولقد كانت خطوة موفقة وسعياً محموداً ما قررته وزارة المعارف المصرية من دراسة الأدب العربي الحديث في الأقطار العربية على بعض الأساتذة، ولا عجب، فالدكتور هيكل باشا جد عليم بشعور أبناء العروبة في هذه الناحية، وهو خبير بما عندهم من أدب رفيع وخيال خصب وإنتاج طيب قلت: إن الدكتور
زكي مبارك قد أدى ما عليه في هذا الميدان، إذ كتب عدة مقالات في (الرسالة الغراء) عن الأدب العراقي، تعد مقدمة طيبة لدراسة عميقة مستوفاة. أما الأدب السوري - بما في ذلك السوري واللبناني - فسآخذ على نفسي عهداً بدراسته على صفحات (الرسالة) إن شاء الله حينما أفرغ من هذا النداء الذي يعبر عن عواطف أبناء العرب وشعورهم حيال مصر العزيزة.
(للحديث بقية)
عمر الدسوقي
وكيل كلية المقاصد الإسلامية ببيروت
حول المسابقة على الثانوي
للأستاذ سيد قطب
قرأت في عدد الرسالة الأخيرة ما كتبه الدكتور زكي مبارك خاصاً بمذكرة (الستة) المقدمة إلى وزارة المعارف لإعفاء (أشخاصهم) من التقدم إلى امتحان المسابقة. حسبما روى الدكتور والعهدة عليه فيما رواه.
ولا أحب أن أتحدث عن امتياز هؤلاء الستة - في صدد الحديث عن هذه المسابقة - فتلك مسألة تافهة لا يجوز لها أن تتدخل في تقرير مبدأ من المبادئ العامة كمبدأ امتحان النقل إلى المدارس الثانوية.
ولكني أحب أن أتناول تناولاً موضوعياً، فأذكر أنني تقدمت في العام الماضي بمذكرة لحضرات كبار المسؤولين في الوزارة خاصة بموضوع اليوم، لا أرى ضرراً من تلخيصها هنا والزيادة عليها بما جد لي من الرأي حولها، ولا أجد حرجاً في التصريح بأنها لقيت اقتناعاً بالأسس التي تضمنتها.
لم أحاول أن أنكر مبدأ المسابقة في ذاته، فقد يكون أسلم المبادئ لتحقيق العدالة وإبراز المواهب، والحد من المحسوبية والتحرر من ضغط الصلات الشخصية بين الرؤساء والمرءوسين سواء كانت طيبة أم رديئة.
ولكني أنكرت شكل المسابقة وقواعدها الحالية ونتائجها العملية، ووجوه إنكاري لها هي هذه:
أولاً: أن المسابقة تتجه اتجاهاً خاطئاً إلى اختبار محفوظات المدرسين وتحصيلهم العلمي، دون أن تتجه إلى اختبار ثقافاتهم وعقلياتهم ونمو شخصياتهم من جميع نواحيها.
ووجه الخطأ في هذا الاتجاه أنه تثبيت وتوكيد (لعقلية الامتحانات) التي نشكو منها بالقياس إلى التلاميذ، ونعمل على التحرر من قيودها، بانتهاج طرق (المدارس الناهضة) وطرق التربية الحديثة التي اهتدى إليها المربون في القرن الأخير فامتحان المسابقة في شكله الحاضر نكسة للعقلية التعليمية تضمن للعقلية القديمة والاستمرار فترة أخرى أطول مما كان مقدراً لها بعد النهضة الحديثة.
فكان هذا الشر يجد مبرراً لو أن الوزارة قبل وضع المسابقة هذا الوضع قد قامت
بإحصائية من تقريرات حضرات المفتشين المختصين عن خمس سنوات أو عشر أو بأية وسيلة أخرى. فتبين لها أن أغلبية المدرسين أو عدد كبير منهم ضعفاء في المادة العلمية وحينئذ تتجه اتجاهاً معقولاً إلى تقوية التحصيل في أوساط المدرسين.
ولكنها لم تقم في هذا الإحصاء، والظواهر جميعها لا تشير إلى ضعف الأساتذة في مادتهم العلمية، وإن كانت هناك في بعض الحالات نواح من الضعف في الثقافة العامة وفي مسايرة المجتمع والعالم في خطواته وفي نمو الشخصيات المطرد في أوساط المدرسين منشأها مراعاة الأقدمية وحدها في النقل إلى المدارس الثانوية، وتسرب المحسوبية إلى المدارس على حساب الكفايات العلمية كذلك!!
ثانياً: أن المسابقة في وضعها الحاضر لا تضمن النمو المطرد في ثقافات الناجحين وشخصياتها، طالما أنها لم تعن بهذه الناحية أية عناية. وليس ما يمنع هؤلاء أن ينسوا هذه المعلومات التي حفظوها بعد نجاحهم ووصولهم إلى ما يبتغون من النقل إلى التعليم الثانوي، كما يصنع التلاميذ الذين نحشو أدمغتهم حشواً بالمعلومات على طريقة المسابقة سواء بسواء!
ولو أن المسابقة وجهت همها إلى اختبار الثقافة والعقلية والتأكد من نمو الشخصية لضمنت استمرار صلاحية المدرسين فالشخصية النامية لا تتغير بل يزيدها الزمن نمواً وثقافة، ولأن حوافزها إلى المعرفة والاطلاع حوافز شخصية قد تذكيها المسابقة ولكنها أصيلة على كل حال.
وأصحاب هذه الشخصية هم الذين تضمن بهم رقى الثقافة ونهوض التعليم في المدارس الثانوية وسواها، ونضمن ألا ينتكسوا بعد اجتيازهم حوافز السباق!
وقد كان يصح للستة الذين روى عنهم الدكتور زكي، أن يستندوا إلى مثل هذا الرأي فيعدوا اشتغالهم بالتأليف والتحقيق العلمي قبل المسابقة دليلاً على أصالة هذه الحوافز في نفوسهم وضمانتها لصلاحيتهم؛ لولا أنهم آثروا أن تستهويهم هالات موهومة حول شخصياتهم الكريمة!
ثالثاً: أن النتائج العملية للمسابقة - على فرض أنها ستؤدي إلى اختيار أصلح العناصر - تؤدي في الوقت ذاته إلى نتيجة سيئة على التعليم الابتدائي الحكومي والتعليمين الابتدائي
والثانوي في المدارس الحرة.
وتفصيل ذلك أنها تستنفد بالتدريج كل العناصر الصالحة في المدارس الابتدائية الأميرية والثانوية الحرة - أولئك الذين ينجحون في المسابقة - فتعنيهم الوزارة في مدارسها أو تنقلهم إلى التعليم الثانوي. ولا يبقى بعد هؤلاء إلا العاجزون - فرضاً - عن النجاح؛ فينحط مستوى التعليم الابتدائي عامة ومستوى التعليم في المدارس الحرة التي تنهض بعبء كبير في ميدان التعليم.
هذا كله من ناحية، ومن ناحية أخرى أن المدرس الذي يشغل وقته بتحصيل ما في هذه الكتب المطولة الكثيرة العدد، لا يستطيع أن ينهض بواجبه في خلال العام المدرسي لتلاميذه وقد يرسب فيعاود الكرة في عام آخر. والتلاميذ هم الذين يؤدون ثمن الاستذكار الدائم لمعلومات متفرقة لا يزيد تحصيلها شيئاً في مقدرة المدرس الثقافية في جميع الأحوال. ولا في مقدرته العلمية في كثير من الأحول.
هذه العيوب الأساسية في نظام المسابقة الحاضر يمكن التفادي منها بأتباع قواعد أخرى:
أولاً: أن تتجه المسابقة إلى اختبار ثقافة المدرس ونموها الدائم واختبار عقليته في الوقت ذاته. وهذا الاتجاه يقتضي أن يكون الأساس الأول للاختبار رسالة علمية أو أدبية في علوم اللغة العربية وآدابها القديمة أو الحديثة، يناقش صاحبها فتبين مقدرته وتقاس ثقافته وعقليته. ولا ضرر - إذا لم يكن بد من قياس التحصيل - أن يتبع نظام (التعيين) الأزهري القديم في بعض المواد لمعرفة المعلم على التحصيل والاطلاع في مختلف المؤلفات.
ثانياً: أن يمنح الناجح في هذه المسابقة درجة علمية تبرز الجهد المبذول فيها تقابلها درجة مادية تحفز الهمة وتقوي العزيمة. ويمكن الاستدلال من رسالته على الناحية التي يبرز فيها فتستغل خير مواهبه في تدريس هذه الناحية ولا سيما في الفرق الثانوية المتقدمة!
ثالثاً: ألا تكون نتيجة النجاح الحتمية هي النقل إلى التعليم الثانوي. وأقول النقل لا كما تسميه وزارة المعارف ترقية، فهذه الترقية لا وجود لها. بل توزع هذه الكفايات بعد منح أصحابها الدرجة العلمية والدرجة المادية على كل فروع التعليم. فتتوازن خطواته وتتعادل دعاماته. وليس التعليم الثانوي بأجدر من التعليم الابتدائي بالعناية والكفايات العلمية.
رابعاً: أن تنظم الوزارة في العطلات الصيفية محاضرات عامة للمدرسين، وتجعل لنسبة الحضور فيها وزناً في المسابقة وفي نظرتها لهؤلاء الأساتذة. ونظام المناطق يسهل على الوزارة هذا الأمر ويقسم جماعات المدرسين على المناطق وييسر إلقاء المحاضرات في كل منطقة.
وتلك مادة دائمة للثقافة المتجددة يجب أن ينال المدرسون نصيبهم منها وهم أجدر طوائف الأمة بها. وهي ضمانة أكيدة لاستمرار الثقافة وتجددها.
بقيت مسألتان على هامش ما كتب الدكتور زكي مبارك، أمر بهما كارهاً في هذا المجال أولاهما: تلك الطعنة التي وجهها الستة الكرام - إذا صح ما روى عنهم - إلى ألف ومائتين من الزملاء، اختصوا أنفسهم دونهم بما زعموه من امتياز، ليس هذا مكان مناقشته وامتحانه.
2 -
انزلاق الدكتور زكي مبارك - وهو يؤيد المسابقة - إلى غمزات لا تليق، كقوله:
(وقد أجريت المسابقة بين المدرسين في الأعوام الأخيرة، فكانت فرصة لمراجعات نحوية وصرفية وبلاغية وأدبية، (غفل عنها أكثر مدرسي اللغة العربية).
فالواقع - كما قلت - أن هذه المراجعات لا قيمة لها، وأن ما له قيمة لم يغفل عنه أحد، أو على الأقل لم تقم الوزارة بالإحصائية التي تؤيد هذا الزعم، والأساتذة في المدارس لا يجوز التجني عليهم إلا بعد تثبت وتحقيق.
أما غمزاته لأعضاء اللجان، فذلك شأنه الخاص، ولعل نقائص هذه اللجان كلها تنتفي عنها لو أتيح له أن يكون عضواً فيها، وذلك مطلب لا أدري، أقريب هو أم بعيد على الدكتور؟
(حلوان)
سيد قطب
من بحوث مؤتمر التعليم
التعليم الأولي والإلزامي
للأستاذ مصطفى شكري بك
المراقب العام للتعليم الأولي
(أستهل الأستاذ مصطفى بك شكري المراقب العام للتعليم الأولي تقريره عن هذا التعليم ببيان مدى اهتمام الدول المختلفة به وما خصته به من اعتمادات كبيرة، وتدرج من ذلك إلى ضرورة العناية به في مصر والعمل على ترقيته).
مراحل التعليم الأولي
أستطرد التقرير فذكر المراحل المختلفة التي مر بها هذا النوع من التعليم في مصر منذ تولت أموره وزارة المعارف وهي ثلاث مراحل: أولها مرحلة الكتاتيب التي انحصرت مهمتها في تحفيظ القرآن وتعليم القراءة والكتابة، ثم المرحلة الثانية التي صدر فيها قانون مجالس المديريات، وأباح لها إنشاء المدارس الأولية؛ وفي نفس هذا العصر قامت الوزارة بإنشاء مدارس المعلمين والمعلمات الأولية.
ثم ذكر المرحلة الثالثة وهي التي بدأت بصدور الدستور عام 1923، وما جاء فيه من أن التعليم الأولي إلزامي ومجاني بالمكاتب العامة، وما تلا ذلك من إنشاء 127 مدرسة أولية سميت (مدارس المشروع)، وكانت مجانية، والدراسة فيها طوال اليوم، وكانت كالمدارس القديمة مع اهتمام يجعلها في أمكنة جديدة، وتأثيثها تأثيثاً حسناً.
وبعد ذلك قامت الوزارة باستعراض جميع النظم التي سبق التفكير فيها لتعميم التعليم الأولي، وعدلت خطتها في تعميم هذا التعليم تعديلاً أساسياً، وقررت مشروع التعليم الإلزامي الحالي على أساس أن نحو خمسة آلاف من المكاتب العامة تكفي لتعليم الأطفال من سن 7 إلى سن 12، باعتبار أن اليوم المدرسي نصف نهار، لتستعمل غرف الدراسة لطائفتين من الأطفال قبل الظهر وبعده، وأن نفقات المعلمين تخفض إلى أدنى حد ممكن، وقد قدرت نفقات هذا المشروع بما لا يتجاوز ثلاثة ملايين من الجنيهات، ووزعت نفقاته على 23 سنة (من سنة 1925 إلى سنة 1948)، على أن تقوم الوزارة كل سنة بإنشاء
عدد معين من المكاتب وتحول مدارسها القديمة ومدارس المشروع بالتدريج إلى النظام الجديد (نصف اليوم)، على أن تتحمل الوزارة نفقات إعداد المعلمين ومرتباتهم ومرتبات الخدم وثمن الكتب والأدوات ونفقات التفتيش زيادة على نفقات ما ينشأ من هذه المكاتب في المحافظات. وتتحمل مجالس المديريات نفقات الأماكن وأعدادها، وكذلك الأثاث، وتتولى إدارة هذه المكاتب لجنة فنية تسمى:(لجنة التعليم الإلزامي) مكونة من بعض أعضاء المجالس وبعض موظفين يمثلون الوزارة.
ولما صدر قانون التعليم الأولي لسنة 1933، بدأت الوزارة بتحويل جميع مدارسها (عدا مدارس البنات في المحافظات)، إلى نظام التعليم الإلزامي، وأشارت على مجالس المديريات بأن تنحو هذا النحو في مدارسها. وقد أدى التوسع في التعليم وانتشاره إلى عجز ميزانيات المجالس عن تحمل نصيبها من النفقات، فاضطرت الوزارة إلى أن تتحمل هذه النفقات.
وفي أكتوبر سنة 1934 أنشأت الوزارة في الأقاليم 720 مكتباً عاماً. وقد نص قانون التعليم الأولي بأن تتكفل مجالس المديريات بالتعليم الأولي في المديريات، وتتكفل به وزارة المعارف في المحافظات.
وفي سنة 1935 لاحظت الوزارة أن نظام المكاتب العامة لا يؤهل من يرغبون في التعليم الابتدائي للحاق بمدارسه في سن مبكرة، وأن رياض الأطفال غير كافية لتحقيق هذا الغرض؛ فأعادت إنشاء مدارس اليوم الكامل وجعلت التعليم فيها بالمصروفات، ووضعت لها خطة خاصة تخالف خطة المكاتب العامة وأباحت قبول الأطفال في سن الخامسة.
وقد بدأ تنفيذ القانون المشار إليه في نوفمبر سنة 1936، ثم صدرت لائحة تنفيذية لذلك القانون في نوفمبر سنة 1940.
وهي وإن كانت قد وسعت نطاق إشراف وزارة المعارف على التعليم الأولي بالأقاليم - إلا أنها لا تكفل تنظيم التعليم التنظيم الواجب - ولا تمكن الوزارة من النهوض به إلى المستوى الذي تنشده.
اقتراحات المراقب لإدارة التعليم الأولي والإلزامي
تم ذكر التقرير جملة اقتراحات قدمها الأستاذ المراقب لما يجب أن تكون عليه إدارة التعليم
الأولي وهي:
1 -
أن تتولى وزارة المعارف دون غيرها أمر الإشراف الفني والصحي والإداري على التعليم الأولي والإلزامي في جميع أنحاء المملكة، وأن يكون الإنفاق عليه من خزانة الدولة وفق الميزانية التي تضعها الوزارة على أن تضم النسبة المخصصة للتعليم الأولي بميزانيات مجالس المديريات إلى خزينة الدولة.
2 -
تنظيم المراقبة العامة للتعليم الأولي تنظيماً يتفق مع أهمية هذا النوع من التعليم حتى تتمكن من مواجهة حركة الإصلاح بخطى ثابتة حاسمة.
3 -
يلغى النظام الحالي لمديري التعليم ونظام تفتيش المناطق للتعليم الأولي وتستبدل به وظيفة (مدير التعليم الأولي) بكل مديرية ومحافظة على أن تتبع مراقب المنطقة التعليمية. ويشرف هذا الموظف على سير التعليم الأولي والإلزامي وعلى تنفيذ الإلزام وفقاً لحاجة كل مديرية أو محافظة، ويتبع كل مدير تعليم هيئة تفتيش لإرشاد رؤساء ومعلمي المدارس والمكاتب العامة على أن يشجع المبرزون منهم بإفساح مجال الرقى لهم.
4 -
تنظيم هيئة التفتيش الصحي على التلاميذ.
5 -
إنشاء هيئة إدارية تخصص بكل منطقة لإنجاز الأعمال على وجه السرعة.
ثم أشار التقرير إلى ما يجب أن يكون عليه الغرض من التعليم الإلزامي وهو تثقيف الطفل تثقيفاً عاماً إلى جانب محو الأمية، على ألا يكون التثقيف سطحياً، بل مؤسساً على دعائم ثابتة متينة.
ويرى المرقب أن تبقى سن التلميذ كما هي الآن، أي بين 7 سنوات و12 سنة على أن تكون المكاتب على نظام اليوم الكامل، وأن تكون مدة التعليم 5 سنوات.
نشر التعليم الإلزامي
دنت الإحصاءات على أن نسبة الأطفال المقيدين بالمدارس الأولية والمكاتب العامة تتراوح بين ثلث ونصف الذين في سن الإلزام، وإذا سلمنا جدلاً بإمكان إعداد العدد اللازم من المعلمين والمعلمات لتعميم التعليم فإن تدبير الأماكن الصحية المناسبة وإعداد الأثاث والأدوات للتلاميذ ليس بالأمر الهين كما أن انتزاع هذا العدد من الأطفال من حياتهم اليومية مدعاة لتذمر الأهلين وهم لم يؤمنوا بعد بفوائد التعليم. ويرى التقرير - كأجراء تمهيدي -
أن يقتصر التوسع في تعليم الأطفال الذين في سن الإلزام على المدن المتوسطة التي ازدهرت فيها بعض الصناعات. أما فيما يختص بالمحافظات والمدن الكبيرة فإن الحالة تستمر فيها كما هي الآن حيث الإقبال على التعليم فيها مكفول بطبيعة الحال، وأما فيما يختص بالقرى فإن التوسع فيها يكون بالتدريج.
وتقدر مدة تعميم التعليم الإلزامي على هذا الأساس بما لا يقل عن 15 سنة.
مناهج الدراسة
وذكر التقرير جملة مقترحات لإكمال ما في مناهج الدراسة الحالية من نقص وهي تتلخص في جعلها مرنة حتى تناسب البيئة التي بها المدرسة وحذف بعض الموضوعات التي لا تتناسب وإدراك التلاميذ ووجوب الاهتمام بتدريس الأشغال اليدوية والتدبير المنزلي كما يرى تعين بعض مدرسات رياض الأطفال في المدارس الأولية للبنات.
نظام نصف اليوم
وانتقد تقرير نظام نصف اليوم ونادى بضرورة إعادة نظام اليوم الكامل لجملة أسباب: منها أن المقصود من التعليم الأولي هو إعداد الناشئين إعداداً حسناً لا أن يكون تعليمهم سطحياً وإلا كان في ذلك إسراف دون فائدة. ثم أن نظام اليوم الكامل يؤدي إلى مواظبة التلاميذ وخصوصاً في القرى وبذا تقل قيمة ما يتكلفه الواحد منهم في المتوسط.
وزيادة على ذلك فإن المنهج الحالي هو الحد الأدنى لما يجب أن يتلقاه التلميذ، ولا يمكن تلقينه له في أقل من خمس سنوات كاملة، كما أن هذا النظام ييسر أداء كل من التلميذ والمعلم لعمله ويدفع التلميذ إلى الإقبال على المكتب ويحببه فيه. ويرد التقرير على ما يمكن أن يوجه من اعتراض على نظام اليوم الكامل بأنه يباعد بين التلميذ والعمل في الحقل أو المصنع فخلص بأن ذلك وإن كان صحيحاً في القرى الزراعية إلا أنه ليس كذلك في الجهات الصناعية لأن الصغير لا يصلح للأعمال الصناعية في مثل هذه السن المبكرة.
إعداد المدرسين ورفع مستواهم
وختم المراقب تقريره بذكر حالة المدرسين وسوء إعدادهم لوظائفهم وضآلة مرتباتهم التي تتراوح بين ثلاثة وستة جنيهات مما يؤثر في حالتهم المعنوية وإقبالهم على عملهم.
واقترح أن يرفع مستوى مدرسي الإلزام وزيادة ثقافتهم العلمية، وذلك أثناء إعدادهم في مدارس المعلمين والمعلمات الأولية، كما يجب الاهتمام برفع مستوى المدرسين الحاليين بإرشادهم، والنهوض بهم علمياً وفنياً واجتماعياً، كما نادى بوجوب تأمين المدرس على حالته ومستقبله، حتى يعلم أن ترقيته لن تكون إلا نتيجة اجتهاد فقط، كما يجب تخفيض عدد الدروس التي يكلف بها كل مدرس، حتى لا تتجاوز 34 درساً، وهي الآن 46 درساً في المتوسط، كما رأى ضرورة مرتباتهم، حتى يليق بعملهم وتوازي ما يبذلونه من مجهود شاق.
8 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الأول
هناك عادة أخرى لا تختلف كثيراً عن عادة الخضاب شائعة بين نساء الدهماء في مدن الريف وقراه، وفي العاصمة بدرجة أقل: تلك هي عادة الوشم (الدق)، يكون في الوجه وغيره أو على الأقل أعلى الذقن وظهر اليد اليمنى، واليسرى أحياناً، وعلى الذراع اليمنى أو الذراعين معاً، وفي القدم، ووسط الصدر، والجبهة، وأغلب علامات الذقن والكفين شيوعاً بينها الشكل 22. وطريقة الوشم أن يوخز الجلد بمجموعة من الإبر تكون سبعاً في العادة على الشكل المراد رسمه، ثم يدلك الموضع بمزيج من سناج الخشب أو الزيت ومن لبن امرأة. ثم بعد أسبوع، قبل أن يبرأ الجرح، يوضع عليه معجون من أوراق السلق الطازجة أو البرسيم فيكسبه لوناً أزرق أو مشرباً بالخضرة؛ أو بدلاً من ذلك يدعك مكان الإبر بالنيلج. وتوشم الأعضاء عادة في سن الخامسة أو السادسة وتقوم بعمله نساء النور. ويلاحظ أن أغلب نساء الصعيد الأقصى وهن يمتزن بلونهن القاتم يشمن الشفاه ليكسبن أسنانهن بريقاً. إلا أن ذلك يشرب لونهن القاتم زرقة لا يقبلها الذوق الأوربي.
ومن مميزات المصرية الواجب ذكرها قوامها الممشوق ومشيتها الجميلة. وهذه الصفة تشاهد خصوصاً في الفلاحة. ولا شك أن سبب ذلك ما تحمله على رأسها من جرار الماء وغيرها من الأثقال.
أما ملابس نساء الطبقتين الوسطى والعليا فتمتاز بجمال نسيجها وأناقة زيها (الشكل 23) وقميص المرأة كقميص الرجل فضفاض، ولكنه قصير فلا يكاد يصل إلى الركبتين. وهو أيضاً من النسيج نفسه، أو من الكريب أسود أو غير أسود. أما السراويل، وتسمى (شنتيان)
فهي واسعة، وتكون من الحرير أو القطن المفوّف أو المطبوع أو المطرز أو من الأبيض الواحد الشكل. وتشد بتكة حول الوركين تحت القميص أما أطرافها السفلي فتشد إلى أعلى وتربط تحت الركبتين تماماً، إلا أن طولها يهبط بها حتى القدمين وغالباً إلى الأرض. ويلبس فوق القميص والشنتيان سترة طويلة تسمى (يلك) من نسيج الشنتيان، تشبه القفطان، ولكنها أكثر التصاقاً بالجسم والذراعين، وأكمامها أطول. واليلك له أزرار تشده إلى الجسم، من الصدر إلى ما تحت الحزام حتى لا يتهدل، كما هو الحال في القفطان. وهو مشقوق الجانبين من أعلى الورك إلى أسفل، ويشق عادة بحيث يكشف عن نصف الصدر لولا القميص. ولذلك كان الكثير من النساء يرتدين قميصاً واسع الصدر. ولا بد أن يكون اليلك طبقاً لأحسن الأزياء ضافياً حتى الأرض أو يكون له ذيل قصير.
وقد يستبدل به صدرة قصيرة تسمى (عنتري) تصل إلى ما تحت الوسط بقليل وتشبه اليلك المقطوع الأسفل. وبمنطق الوسط بشال مربع أو بمنديل مطرز يطوي منحرفاً ويربط في استرخاء ويتدلى طرفاه خلف الظهر. وقد يطوي طبقاً للزي التركي، مثل حزام الرجال، وإنما يكون أكثر استرخاء. وتوضع فوق اليلك جبة من الجوخ أو المخمل أو الحرير مطرزة بالذهب أو الحرير الملون. وهي تختلف عن جبة الرجال بعدم سعتها، وبالأخص في مقدمتها؛ وتكون بطول اليلك. وكثيراً ما يستعمل بدلها سترة تسمى (سلْطة) من الجوخ أو المخمل مطرزة على غرار الجبة. ويتكون غطاء الرأس من طاقية وطربوش ثم منديل مربع يسمى (فارودية) من الموصلي الموشي أو المطبوع، أو من الكريب، يلف حولهما بقوة ويسمى هذا (رْبطة). وكانت هذه المناديل تستعمل منذ قريب، ولا زالت تستعمل أحياناً لربط عمائم النساء التي تكون مرتفعة مستوية بخلاف عمائم الرجال. وهناك نوع من التيجان يسمى (قرصاً). وبعض الحلي الأخرى توضع على غطاء الرأس. وقد ألحقت بهذا الكتاب فصلاً خاصاً بحلي النساء وصفها وصورها. وهناك أيضاً (الطرحة) وهي قطعة طويلة من الموصلي الأبيض محبوكة الطرفين بالحرير الملون والذهب، أو من الكريب الملون المرصع بأسلاك الذهب وصفائح ذهبية كفلوس السمك (ترتر)، تطرح فوق الرأس وتتدلى على الظهر حتى تكاد تداني الأرض أحياناً.
أما الشعر، فيضفر ضفائر، من إحدى عشرة ضفيرة إلى خمس وعشرين عادة، على أن
يكون العدد فردياً؛ ويضاف إلى كل جديلة ثلاثة خيوط من الخيوط، يعلق بها قطع ذهبية صغيرة تسمى:
(صفا) وهي موصوفة في ملحق للكتاب.
ويقص الشعر فوق الجبهة وتتدلى منه على الصدغين خصلتان غزيرتان حلقاً أو جدائل والقليل من سيدات مصر يلبسن الجوارب، غير أن أكثرهن ينتعلن المز (أي الحذاء الداخلي) وهو من الجلد المراكشي الأصفر أو الأحمر المطرز بالذهب أحياناً. وينتعلن بابوجاً من الجلد المراكشي الأصفر، مرتفع الطرف الأمامي مدببة، عندما يمشين على البسط والحصر، أو يستعملن قبقاباً يعلو إلى تسع بوصات ولا يقل عن أربع، ويزين بالصدف أو بالفضة. . . الخ؛ والقباب يستعمله الرجال والنساء في الحمام دائما، ولا يستعمله النساء في المنزل؛ إلا أن بعضهن ينتعلنه حتى لا يسحبن ذيل الثوب على الأرض، وبعضهن يتخذنه ليبدون طويلات. . .
تلك هي ملابس السيدات داخل المنزل؛ أما ثياب الخروج، فتسمى (تزييرة)؛ فالسيدات كلما يخرجن من المنزل يتدثرن
- علاوة على الملابس السابق وصفها - بدثار كبير فضفاض ضاف (يسمى (توب) أو (سبلة)، يكاد عرض كميْه يعادل طوله، ويكون من الحرير الوردي أو البنفسجي؛ ثم يضمن بعد ذلك (البرقع) - أي غطاء الوجه - وهو عبارة عن قطعة طويلة من الموصلي الأبيض تحجب الوجه كله ما عدا العينين، وتسقط حتى القدمين. ويشد البرقع إلى الرأس بشريط ضيق يمر على الجبهة، ويخاط مع طرفي النقاب الأعليين بعصابة تلف حول الرأس، ثم يرتدين (الحبرَة). وحبرة السيدة المتزوجة تتكون من نسجين من الحرير الأسود اللامع، ويوجد في أعلى الحبرة من الداخل - على بعد ست بوصات من طرفها - رباط ضيق من الحرير الأسود يربط حول الرأس. ويبين الشكل رقم 25 طريقة لبسها. إلا أن البعض يقلدن تركيات مصر فيضممن مقدم الحبرة، بحيث تخفى الملابس كلها ما عدا جزءاً من النقاب يعلو اليدين. أما غير المتزوجات فيرتدين حبرة من الحرير الأبيض أو شالاً. وبعض نساء الطبقات الوسطى لا يستطعن اقتناء الحبرة فيلبس عوضاً عنها (إذاراً) - وهو قطعة بيضاء من نسيج القطن على شكل الحبرة ويلبس مثلها. أما الحذاء، فهو (خف) من
الجلد الأصفر يدخل في بابوج.
وثياب الخروج متعبة مربكة عند المشي، وهي وأن كانت محتملة لدى سيدات الطبقة الراقية اللائي قلما يشاهدن راجلات، فقد يرتديها غيرهن ممن لا يملكن أجرة الركوب. وإعداد هذه الملابس لإخفاء زينة المرأة وكل ما فيها من جاذبية أو ملاحة لا عيب فيه، إذا أن الثوب ذاته يعوزه الكثير من الأناقة. إلا أن هناك اعتباراً يقتضينا أن نلاحظ عدم ملاءمة هذه الثياب لغرضها الأصلي، وهو أن العيون التي تكاد تكون دائماً جميلة يزيدها جمالاً حجب تقاطيع الوجه التي يندر أن يبلغ جمالها جمال العين؛ ثم إنها تجعل الأجنبي يتصور الوجه الجذاب وجهاً معيباً دميماً لاختفائه وراء القناع. ويرجع استعمال النقاب إلى قديم الزمن، غير أن الظاهر من نقوش الفراعنة ورسومهم أن المصريات في ذلك العهد كن سافرات، ولكنهن في الوقت الحاضر - حتى الخادمات منهن - يتخذن من فضل طرحتهن قناعاً يخفين وراءه الوجه، إلا عيناً واحدة، كلما وجدن في حضرة رجال العائلة التي يخدمنها.
(يتبع)
عدلي طاهر نور
غَاِليَةُ. . . فِي لُبْنَانُ
للأستاذ أنور العطار
أَتَدْرِينَ أَنَّكِ أَحْلَامِيَهْ
…
وأَنكِ أَعذَبُ أَنْغَاِميهْ
وأَنَّ خَيالَكِ في خَاطِرِي
…
يَرِفُ كَزَنْبقَةٍ نَادِيهْ
َوأنكِ أشْعَارِيَ الهاجِساتُ
…
بنفْسِيَ في العُزْلَةِ الْقَاسِيهْ
ذَكَرْتكِ والقلْبُ نهْبُ الفُتُونِ
…
رَهِينُ الرُّوَى الُحلوَةِ الوَافِيهْ
و (لُبناَنُ) يسَبحُ في نَشوةٍ
…
مِنَ السحرِ وُالحبَّ وَالْعَافيِهْ
تَوَشحَ بِالْعَبَقِ الُمْسَتطَابِ
…
وَغلْغَل في الْبَهجةِ الضَّافِيهْ
وَناَم على شُرُفاتِ الْغَمامِ
…
وَطاَفتْ بهِ الخُضرةُ الحَاليهْ
تَناَثُر فَوْقَ الرَّوابي قُرَاهُ
…
كَمَا تَتَناثَرُ آمَالِيهْ
عَلَى كلَّ مَائِسَةٍ صَادِحٌ
…
وَفي كُلَّ وَارِفةٍ شَادِيهْ
وتَصُغِي الوِهادُ إلى قِصَّةٍ
…
منَ اُلحْبَّ تَسْرُها السَّاقيهْ
وقَدْ أنصَتَ الكَوْنُ الإصَدى
…
يُرَدَدُ أنشُودَةَ الرَّاعِيهْ
تَطَلَّعُ في زَهْوِها الرَّاسيِاتُ
…
حنِيناً إلى عَوْدةِ الثّاغِيَهْ
وَنمَّ على الدَّرْبِ سِحْرُ الغِناءِ
…
فأغْفى على النَّغْمةِ الشَّاجِيهْ
وَظلَ المَساءُ يَحُومُ عليهِ
…
وَيرعَاهُ بِالمُقْلَةِ الرَّانيِهْ
وَفي خَلْوةِ الوَادِ نَبْعٌ حَبِيبٌ
…
يُهدْهدُ أوْجاعَهُ الْبَاكِيهْ
كَمأنَّ على النَّبعِ قيثاَرةً
…
تنُوحُ مُلوَّعةً شاكِيهْ
و (بَيرُوتُ) نائمةٌ في السفُوح
…
تُتّمُ أحْلامَها الزّاهيِهْ
تَرامَتْ على الْبحْرِ مأخُوذةً
…
تُناجِيهِ حَاِنَيةً صَابِيهْ
قَصائِدُ حَافِلةٌ بالطُّيُوبِ
…
يَموجُ بِها السّهلُ والرّابيَهْ
تغَنّى اللّياليِ بألَحْانِهَا
…
فتَغْرقُ في سَكرةٍ باَقيِهْ
رَأيتُكِ (لُبْنانِي) المُشتْهَى
…
وَجَنتّهُ اللّذةَ الشّافِيهْ
وَأبْصْرتْ وَجهَكِ يَطْفوُ عَليْهِ
…
وَيَغْمُر أرْجاَءهُ النَّائِيهْ
. . . فَغَابتْ مَسَارِحُهُ الْغَالِياتُ
…
وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُكِ ياَ (غَالِيَهْ)
(عاريا - لبنان)
أنور العطار
أغنية البحيرة
(مهداة إلى ناظم (أغنية الجندول) وملحنها البارع)
للأديب حسن أحمد باكثير
إن رأيتِ الصبح يبدى لكِ سحره
…
فاذكريني واذكري يوم البحيرهْ
يوم أقبلتِ وفي يمناكِ زهره
…
قد حكت من وجهك الوضاح ثغره
ونسيم الصبحُ يهدى لكِ عطره
…
والندى يكسو وجوه الزهر نضره
فعرتني - حينما سلْمتِ - حيره
…
أأداري القلب أم أعلن سره؟
وأواري الحب أم أظهر أمره
أنتِ يا من وشحتْ بالزهر عمري
…
وأضاءت بشعاع الطهر صدري
اذكريني واذكري يوم البحيرة
لم أعد أذكر إلا أن نظره
…
أشعلت في قلبيَ الولهان جمره
وأطارت من حنايا الصدر زفره
…
وأسالت من سواد العين عبره
وجَنَت للروح تهياماً وحسره
…
يا لَسحر الحب! ما أفتك سحره!
يأسر القلب وما أعذب أسره!
…
إن أكن أُنسيت ما أُنسيت ذكره
ليتني - إذ ذُقته - ما ذُقت مُرّه
أنتِ يا من وشحت بالورد عمري
…
وأضاءت بشعاع الخلد صدري
اذكريني واذكري يوم البحيرة
واذكري إذ قلتُ: هذا اليوم غُره
…
في جبين العمر فانشتفَّ بِشره
وانثري من ثغرك الفتان دُرّه
…
وانشري من شعرك الوسنان عِطره
أو دعيني أرتشف من فيك خمره
…
أو أقبلْ خدَّك الوردي مَره
فتصاممتِ كما لو كنتِ صخره
…
وصرت في وجهكِ الأخاذ حُمره
طرباً أخفقتِ إذا حاولتِ ستره
أنت يا من عطَّرَت بالحب عمري
…
وأضاءت بشعاع القلب صدري
اذكريني واذكري يوم البحيرة
واذكري الزورق إذ أوقفتُ سيره
…
بعدما اجتاز بنا عرض البحيره
فانتَحَيْناَ مجلساً تحت شُجيره
…
مجلساً حُفَّ بماء وبخصره
وبأزهارٍ حباها الفجر طهره
…
ومروج تلهم الشاعر شعره
فكسرنا عنده بالحب سكره
…
لم تدم إلا كما تخطر خطره
آه لو عادت وعادت ألف مره
أنت يا من عطَّرّت بالحب عمري
…
وأضاءت بشعاع القلب صدري
اذكريني واذكري يوم البحيرة
حسن احمد باكثير
البَريُد الأدبي
جواب
وأجيب عن السؤال الثاني بأن (الهناء) في (تاج اللغة وصحاح العربية) من صحاح اللسان العربيّ، دام الهناء للسائل الفاضل.
وحيد
هما لابن عبد ربه
سأل الأديب أحمد حسن علي شعيب في (العدد 429) عن مقطوعتين من الشعر نسبتا في اليتيمة إلى حبيب بن أحمد الأندلسي وعزاهما ابن عبد ربه إلى نفسه في (العقد). والذي نرجحه أنهما لابن عبد ربه، لأن الفتح بن خاقان ذكرهما مع شعر لا بن عبد ربه في ترجمته من (مطمح الأنفس) ص58، ولأنه عرف عن الثعالبي أنه ينسب شعراً إلى غير قائليه، وقد نبه على ذلك الأستاذ الصاوي في كتابه (المراجع العربية) عند الكلام على (يتيمة الدهر) وأورد أمثلة (ص45 و46) منها نسبته شعراً إلى سيف الدولة. قال ابن رشيق إنه لابن الرومي، وأبياتاً أخرى لسيف الدولة أيضاً.
قال ابن خلكان إنه رآها في ديوان عبد المحسن الصوري. بل إنه - أي الثعالبي - عزا مقطوعة لأبي المطاع الحمداني ذي القرنين، ثم نسبها بعينها إلى ابن طباطبا الرسي المصري، وهي تروى ليزيد بن معاوية وغيره، انظر ص32 المراجع العربية. وإنا لتحقيق الأستاذ النشاشيبى لمرتقبون.
أحمد صفوان
تحقيق في نسبة حديث
جاء في مقال غزوة حنين (العدد 417) من الرسالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخوارج: (أكفارهم أم منافقون)؟ فأجاب: (من الكفر فروا). لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراّ). فكتبت في العدد (422) أستبعد نسبة هذا الكلام إليه، وقطعت بأنه من كلام علي بن أبي طالب.
فجاء الكاتب الفاضل صاحب المقال يسأل في العدد (423) عن المصدر الذي نسب هذا القول إلى علي، ويذكر أن مصدره هو:(السيرة الحلبية ج 3 ص140). ويقول في ختام كلمته: (ليس هناك ما يمنع صحة هذه النسبة إلى النبي على سبيل القطع)
فمن الخير أن نبين ما يمنع صحة هذه النسبة:
1 -
كانت نشأة الخوارج بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من ربع قرن وعرفوا بهذا الاسم لخروجهم على علي في حرب صفين.
2 -
إذا جعلنا صدور هذا الكلام عن النبي من باب الإخبار بالمغيبات اعترضنا أمران: الأول أن الأحاديث المأثورة في هذه الباب تذكر صفات عامة ولا تسمى أشخاصاً ولا فرقاً بأسمائها.
والثاني أن الصحابة الكرام لا علم لهم بالمغيبات، فكيف وقع إليهم اسم (الخوارج) حتى يسألوا عنه. ونحن نعرف أحاديث كثيرة يجعلها المحدثون في باب الكلام على الخوارج، إلا أنها جميعاً ليس فيها هذا الاسم؛ حتى أن ابن عمر وغيره كانوا إذا سئلوا عن الخوارج (بعد سنة 36هـ طبعاً) حدثوا هذه الأحاديث التي فيها صفات قد تنطبق عليهم باجتهاد الراوي. وانظر في ذلك ما جاء في كتب الحديث بدلالة (مفتاح كنوز السنة: الخوارج) في أكثر من عشرين موضعاً.
3 -
هذا الكلام المنسوب إلى رسول الله، المنقول من السيرة الحلبية يناقض ما قبله وما بعده فيها من الأحاديث الصحيحة كل المناقضة: فبينا يورد صاحب هذه السيرة (140: 3) أحاديث في كفرهم ووجوب قتالهم نرى هذا الكلام ينفى عنهم الكفر والنفاق صراحة.
4 -
لو صح عن النبي شيء فيهم بصراحة، ما وسع علياً أن يقول موصياً فيهم:(لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من صاحب الحق فأخطأ كمن طلب الباطل فأدركه)، ولو صح ذلك ما جاز لابن عباس أن يقول فيهم لعلي:(والله ما سيماهم بسيما المنافقين وإن بين أعينهم لأثر السجود وهم يتأولون)، وإنما المعقول أن يستشهدا بما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ولو صح ذلك أيضاً لما جعلهم المحدثون (البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجدْ) ممن تنطبق عليهم أحاديث المروق اجتهاداً منهم. أما سندي في عزو هذا الكلام إلى صاحبه علي بن أبي طالب فهو العقد الفريد وقد سهوت فذكرت الخوارج في العدد
(422)
وإنما هو أصحاب الجمل وراى على في الخوارج هو نفسه في أصحاب الجمل على ما ذكرت لك آنفاً في وصيته فيهم. جاء في العقد الفريد: (ج 3 ص105 المطبعة الأزهرية) سنة 1928. سئل علي عن أصحاب الجمل: (أمشركون هم؟) فقال: (من الشرك فروا) قال: (فمنافقون؟) قال: (إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً) قال: (إخواننا بغوا علينا).
ولعل أطرف الأشياء وأعجبها السند الجديد الذي أظفرني به السائل. إن سندي في نفي هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم هو السند نفسه الذي أحتج به في نسبته إليه، وسأنقل الفقرة نفسها مع ما قبلها ليتبين الحق على وجهه. جاء في السيرة الحلبية (ج 3 ص120) ما نصه:(وقد قاتلهم (يعني الخوارج) علي كرم الله وجهه وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الخوارج (أهم كفار) فقال: (من الكفر فروا) فقيل: (أمنافقون؟) فقال: (إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً وهؤلاء يذكرون الله كثيراً) فقيل: (ما هم؟) فقال: أصابتهم فتنة فعموا وصموا) فلم يجعلهم صلى الله عليه وسلم كفاراً لأنهم تعلقوا بضرب من التأويل.
ألا يرى معي الكاتب الفاضل والقراء الكرام أن صلى الله عليه وسلم الواردة بعد (سئل) وبعد يجوز أن تكون (يجعلهم) خطأ من ناسخ أو طابع، وأن الكلام يستقيم بدونها ويتجه إلى الصواب، فيكون من كلام علي ويطابق ما جاء في المصادر الصحيحة كلها. وذلك من أغرب ما يوقع به سهو أو خطأ.
وسيبقى هذا خطأ حتى يثبت بطريق صحيح يشتبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
(دمشق)
سعيد الأفغاني
حول نقد كليلة ودمنة
طالعت باهتمام ما كتبه الأستاذ عبد السلام هارون في نقد وتعليق على الطبعة الأخيرة لكتاب (كليلة ودمنة) وقد رأيت أن أعلق على تعليقه الثالث المنشور بعدد (الرسالة) رقم 428 على نقاط ثلاث لم يصحبه التوفيق فيها:
الأولى: (إذا جئتني بالليل من غير نداء ولا رمي، ولا شيء يرتاب به)؛ يتساءل الأستاذ
بعدها بقوله: (فما ذلك الرمي؟) ويرجح أنها مصحفة (من الرمز)، والحقيقة أن كلمة (الرمي) صحيحة وملائمة، وليس هناك ما يحمل على العدول عنها، بل يوجد ما يوجب التمسك بها، فالرمي بحجر أو حصاة وسيلة معروفة من وسائل التنبيه عند القدامى والمحدثين وهو أدعى إلى الارتياب، ويفسر له ذلك ما روى في نوادر ابن أبي عتيق:(عبد الله ابن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) قيل: وتعشى عبد الله ليلة ومعه رجل من الأنصار، فوقع حجر الدار، ووقع آخر وثالث؛ فقال للجارية: اخرجي فانظري أذَّنوا المغرب أم لا؟ فخرجت وجاءت بعد ساعة وقالت: أذَّنوا وصلوا؛ فقال الرجل الذي كان عنده: أليس قد صلينا قبل أن تدخل الجارية!؟ قال: بلى، ولكن لو لم أرسلها تسأل عن ذلك لرُجمنا إلى الغداة أفهمت؟ قال: نعم قد فهمت!
وواضح من هذا أن صديقاً للجارية كان يدعوها بالرمي الثانية: (رأس الخنازير) و (سيد الخنازير)، يرجح الأستاذ أنها (رأس الخبّازين)؛ ولا أدري لمن يخبز هذا الخباز ومن الذي سيأكل خبزه من السباع الضاربة!؟ ويؤيد الأستاذ ظنه بأنه قد أشير إليه في بعض النسخ بعبارة (صاحب المائدة)
وهذا دليل لا يقدم ولا يؤخر، فما المانع من أن يكون (رأس الخنازير) هو (صاحب المائدة) في نفس الوقت، وهذا هو الواقع، وهو من دلائل الحبكة القصصية عند المؤلف، حيث جعل الأسد يأمر بعزله عن وظيفة القيام على مائدته بعد ما تحدث (دمنة) عن قذارته ودمامته، ولا أفهم كيف تدل كلمة (صاحب المائدة) على الِخبازة، ومائدة الأسد معروفة ألوانها؟ وقد التفت إلى ذلك الأستاذ المرصفي في طبعته المصورة فقال:(وسيد الخنازير هذا كان خادماً على مائدة الملك، كما يفهم مما بعد. . . الخ).
الثالثة: (وانقلبت ظهراً لبطن، وانجررت حتى دخلت جحري) ويسأل حضرته قائلاً: (فماذا جره حتى انجر؟ إنما هي: وانحدرت) ونحن نسأله على طريقته (ماذا قلبه حتى انقلب؟ وماذا حدره حتى انحدر؟)، فهذا الفعل المطاوع لا غبار عليه البتة، وأمثاله كُثْرٌ في اللغة، وهذا الفعل بالذات تقول عنه المعاجم: وقد جَرّت الإبل تجر جراً إذا رَعَتْ وهي تسير، أو الجرُّ أن تركب الناقة وتتركها ترعى، وقد جرها يجرها (كالانجرار) فيهما، وأنشد ابن الأعرابي:
(إني على أَوْنِي وانجراري)
وهذه الأفعال المطاوعة - كانتشر وانكمش وانتقل - مطاوعة لعامل ذاتي لا لعامل خارجي، أي تتجاوب مع عاملٍ طبيعي فيها، فهو قد قلب نفسه فانقلب، وجر نفسه فانجر، وحدر نفسه فانحدر.
هذا ما وجدته حرياً بالتنبيه عليه حتى لا يتهم الأستاذ الفاضل بالتكلف أو التحامل. . . وأُعيذه منهما.
حسين منصور
حول كتاب (محمد فريد) أيضاً
في العدد 429 من الرسالة وفينا هذا الكتاب القيم حقه من التقدير، وأشرنا إلى أن المؤلف الفاضل قد تعقب زعيماً بعينه في مواضع لم يكن التعقب فيها حتماً عليه. وقد أنكر علينا أديب في العدد الماضي هذا القول وطالبنا بالمثال. ونحن نكتفي بأن ندله على الصفحات الآتية من الكتاب وهي صفحات: 188 و 260 و 355 و 356 و 388 و 412، فان فيها مقنعاً لمن يريد أن يقتنع.
لبيب السعيد
محنة التعليم
أخي الأستاذ علي عبد الله
قرأت في العدد 423 كلمتك في محنة التعليم الإلزامي، فلم أعجب للفوضى التي وصفتها فيه، والنظم الجائرة المطبقة عليه؛ ذلك لأن المصيبة عندنا في نظم التعليم وأساليبه ليست بأقل من مصيبتكم فيه إن لم أقل أشدو أفدح. أما العدل فلا عدل، أما التقدير فلا تقدير. ترى المعلم النشيط ذا الوجدان الطاهر يلقى دروسه على طلابه من الصباح إلى المساء، باذلا من الجهد ما يضنى جسمه، مجرباً كل الوسائل الممكنة لإفهام الطلاب تنشئة صالحة قويمة، وترى إلى جانبه المعلم الجاهل يقضي نهاره في راحة ودعة، لأنه فقد الضمير والوجدان. فماذا تجد؟
يحزنني والله أن أخبرك أن الأول مظلوم مهمل مغضوب عليه، وأن الآخر مرضى عنه
حائز ثقة رؤسائه، يزيد مرتبه على مرتب ذاك زيادة قد تبلغ الضعف أحياناً. ولملك تستغرب هذا وتود أن تعلم السبب في ذلك:
هناك أسباب كثيرة أجدرها بالذكر أن الأول لا ينافق ولا يمارى، ولا يتملق أولى الأمر، وأن تقدير قيمة المعلم وقيمة عمله متوقف على تقارير المفتشين، ولا أكتمك أن في هؤلاء المفتشين من برع في الرياضيات والطبيعيات براعة فائقة، ولكنه لا يعرف من اللغة العربية إلا مبادئ لا تغنيه. ولو أن وزارة المعارف ولتهم تعليم ما اختصوا به لما عدت سبيل الحق، ولأفاد الناشئون منهم ومن علمهم.
وناحية أخرى، هي أن قيمة المعلم - لدى أولى الأمر - لا بعلمه وفضله، ولكن بما يحمل من شهادات! فكلما كانت شهادته أكثر كان أعلم وأفضل، وهذه طريقة لا نراها عادلة كل العدل - وعلى الأخص في دروس اللغة العربية.
وأنا مشفق بعد هذا - مثلك - من أن أذكر كل ما أعرف، فلا تحزن يا صاحبي، وليكفك أن وجدانك مستريح وان ثوابك غداً عند الله لا في هذه الدنيا.
(دمشق)
ناجي الطنطاوي