المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 432 - بتاريخ: 13 - 10 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٣٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 432

- بتاريخ: 13 - 10 - 1941

ص: -1

‌من أحاديث القهوة

- 3 -

حبسني عن ندامى (الكافورة) عوادٍ من الشغل والمرض فلم أعد إلى الأنس بهم إلا بعد حين. وهذا الحين على قصره كان كافياً أن يجعل الحال ويبدل الجو غير الجو

هذه طلائع الخريف الباكر قد هيمنت على الأفق: فالرياح السوافي تنوح على عذبات الشجر الوريق فيرتعد فرقاً من نذير الجفاف والموت، والغنائم الرقاق تتجمع غبراً كخَمل النعام، أو تتفرق بيضاً كمندوف القطن، فيتعاقب من تجمعها وتفرقها الظلام والنور والظل والحرور على صفحة النهر ووجه الأرض

وطلائع الخريف تبكر في الريف فتحدث في نظام الطبيعة قليلاً من الفوضى. ذلك أن الفيضان يشارف غايته المقدورة في أوائل سبتمبر، فيترع النيل كل القنوات، ويغمر أكثر الحقول، ويكون من جراء هذا الري الطافح أن يفتر الحر، ويطرب الهواء، وينقد بخار الماء سحباً في السماء، وأندية على الأرض، فلا تجد أواخر الصيف مناصاً من الرحيل. وفي رحيل الصيف على هذه الحال اضطراب في حياة الناس والزرع. فالقطن يعوقه احتجاب الشمس عن اكتمال النضج فيفسد لوزه، والإنسان يُعجله تغير الجو عن اتخاذ الحيطة فيميل اعتداله.

سكنت الريح بعد هبة حمقاء هصرت غصون الشجر، وكشفت أغطية المناضد، وقلبت وجوه الحُدَّاث والجُلاَّس فقطعوا سلاسل الحديث، واسترجعوا رسل النظر. وكان إخواننا المصطفون قد نابهم من ثورة الريح ما ناب الناس؛ فانزوى كل امرئ عن أخيه وانطوى على نفسه. فلما سكت عن الريح الغضب عادوا يستقبلون أنفاس الموج، ويستروحون أنسام الزروع، ويستمعون إلى الأستاذ نجيب، وكان يتحدث عن مشكلات التموين ومخزيات الإدارة. والأستاذ نجيب مدرس بكلية الآداب، قضى أسابيع من عطلته عند أهله في سمنود. وكان له بجانب ذهنه معدة كمعدة الأحياء لا تفتأ تطلب القوت. والقوت اليوم بفضل الطاغية (هتلر) لم يعد كما كان مبذول المنال يأتيك على اغتماض وأنت وادع؛ إنما أصبح عزيز الدرك لا تناله إلا ببطاقة أو صداقة أو شفاعة. فكان يلقى كتابه من يده، ثم يخرج ومعه بطاقة التوزيع يسأل عن القمح فلا يجاب، ويبحث عن البترول فلا يجد.

ص: 1

نظام البطاقات محكم دقيق يضمن لكل بطاقة رصيدها، ولكل مستهلك نصيبه؛ فمن أين جاء الحرمان والخير موجود، وكيف سيطرت الفوضى والنظام قائم؟ كان الأمين الذي جعلته الحكومة على خزائن التموين قد قضى أن يكون مع بطاقة التوزيع تصريح منه لا يظفر به إلا ذو المال أو الجمال أو القربى؛ وصديقنا الأستاذ لم يؤته الحظ شفاعة من هذه الشفاعات المجابة، فبقى من جمهرة الفقراء يحتشدون كل يوم على باب الأمين يسألون فيه غير مجيب، ويسترحمون منه غير راحم. قال الأستاذ وقد نبض من الغيظ نابضه، فارتجفت شفتاه وتهدج صوته:

كان مئات من ذوي الضعف والمسكنة يتركون بيوتهم صفراً من القوت والوقود ويظلون النهار كله على باب هذا (الحاكم) قياماً وقعوداً وبأيديهم القفف والأكياس، وفي جيوبهم البطاقات والنقود، يسألونه التصريح مرة بالدعاء ومرة بالبكاء، فلا يجيبهم غير الجنود بعصيهم الملهبة، وكلماتهم الغليظة؛ حتى إذا أمسى المساء انصرف المجدودون بتصاريحهم إلى تاجر بعينه يكتالون بالسعر المقرر، وانقلب المكدودون بأوعيتهم إلى التاجر نفسه يكتالون بالسعر المكرر. ومن عرق البائسين ودموع اليتامى تنتفخ جيوب وتكتظ كروش؛ وبأمثال هذا الموظف وذلك التاجر تدول دول وتسقط عروش!

قلت: وما يدريك يا نجيب، لعل الحال في بلدك هي الحال في كل بلد! لقد فجر التاجر وهودتهم الطامع، فاحتكروا السلع، واختزنوا الأرزاق، وعموا عن طريق الحق، وصمتوا عن نداء الضمير، ولم تزعْهم خشية الله ولا سطوة الحكومة؛ لأن الله يمهل، ولأن الإنسان يهمل. والقانون من غير تنفيذ ورق مطبوع، والتنفيذ من غير خلق ظلم مسلح.

إن في مخازن الأغنياء ومخابئ التجار من الأقوات ما لو عرض للبيع المشروع لأعاد إلى الناس عيشهم الأول؛ ولكن الفقدان والحرمان سيدومان ما دام للطامع يد وليس له قلب، وللحكومة لسان وليس لها عين.

إن الحكومة قد أيقظت وعيها ورأيها لشؤون الوقاية والتموين؛ وفي سبيلها تستطيع أن تبتكر الأسلوب البارع وتسن النظام المحكم، ولكنها لا تستطيع أن تبعث النور في الحس المظلم، ولا الشعور في الفؤاد المصمت.

هذه إنجلترا تمون الجنود من نهر النيل إلى بحر قزوين، ومن أقصى المحيط الغربي إلى

ص: 2

أقصى المحيط الشرقي؛ فهل تجد مع ذلك جندياً في البر أو في البحر أو في الجو يزعم أن نصيبه الموفور من الطعام والشراب والفاكهة والخمر والحلوى والعتاد والسلاح والذخيرة لم يدركه في موعده الموقوت على أكمل نظام وأعدل قسمة؟ وهل كان هذا العمل المعجز ممكناً لو لم يكن بازائه خلق يعين على قضاء الحق، وضمير يحث على أداء الواجب؟

قال الأستاذ علي: وهل عطل الأنظمة، وعوق الإصلاح، وأوهن العلائق، وشتت الوحدة، وأشاع البؤس، غير فساد الأخلاق؟ إن ما أصابنا من نكد العيش وذل النفس وحبوط العمل، نتيجة محتومة لما أصابنا من فحش الجور وقبح الأثرة وسخف الذمة (ولو يؤاخذ الله الناسَ بظلمهم ما تركَ عليها من دابة). فقال الأستاذ توحيد: إن التعبير هنا بالدابة من معجزات البلاغة القرآنية؛ فإن الناس إذا زاغوا عن طريق العدل، وخرجوا على منطق العقل، لا يصدق عليهم غير هذا اللفظ.

وعادت الريح الباردة تهب هبوب الخلق الشموس فقطعت الحديث، وقوضت المجلس، وأنذرت القوم أن يهجروا الكافورة حتى يعود الربيع.

المنصورة في 1891941

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌الصلات الأدبية والعلمية بين مصر والعراق

للدكتور زكي مبارك

قضى سعادة الدكتور محمد فاضل الجمالي في مصر نحو شهرين كان فيهما موضع الحفاوة والترحيب من أكابر المصريين، فالتفتت الأذهان من جديد إلى وجوب توكيد الصلات الأدبية والعلمية بين مصر والعراق. ويزيد في أهمية هذا الالتفات وجاهة الغرض الذي حضر لتحقيقه هذا المربي المفضال، فقد جاء يستحث المدرسين المصريين إلى المسارعة بالتوجه لخدمة العلم في المدارس العراقية، وعددهم في هذه المرة كثير جدا بحيث يكفي لتوكيد تلك الصلات إن أدرك جميع هؤلاء المدرسين أنهم سفراء مودة وإخلاص؛ والمأمول إن يدركوا هذا المعنى أتم الإدراك بفضل ما سيلقون في بلاد الرافدين من الإعزاز والتبجيل. أسبغ الله عليهم أثواب العافية، وجعل التوفيق حليفهم في جميع الشؤون!

أما بعد فموضوع هذا المقال مستوحى من زيارة الدكتور الجمالي، وقد كان يجب أن نتحدث عنه في (الرسالة) قبل اليوم، لأنه لم يزر مصر إلا موفداً لمهمة من أشرف المهمات، وكان ذلك يوجب أن نتحدث عن قدومه ولو بعبارة وجيزة في البريد الأدبي، ولكن الدكتور الجمالي نفسه هو سبب ما وقع من السكوت، فقد بدا لي أن أوجه إليه طائفة من الأسئلة المكتوبة ليجيب عنها إجابات مكتوبة طلباً للسلامة من الخطأ والتحريف، ورعاية لمركزه الدقيق، وهو مركز لا يبيح له أن يتحدث عن الصلات بين مصر والعراق بلا تدبر ولا إمعان، فقد رأيته غضب حين قرأ في إحدى الجرائد أنه سئل عن النظام الجديد في بلاده بعد الثورة الكيلانية وأنه أجاب بكيت وكيت، فلما سألته عن سبب غضبه مع أن الجواب المنسوب إليه لا غبار عليه قال: لا يليق بمن يوفد لمهمة علمية أن يتكلم عن شؤون سياسية.

وأريد أن أقول أن الدكتور الجمالي حار في الإجابة عن الأسئلة التي وجهتها إليه، وكانت تلك الحيرة سبباً في أن تتأخر الإجابة أسابيع، فلم يقدمها إلي إلا وهو يتأهب للرحيل.

عواطف نبيلة

وقبل أن أسوق الأسئلة والأجوبة أذكر أن الدكتور الجمالي أقام برهاناً جديداً على أصالة الأريحية العراقية، فكان اهتمامه عند حضوره مقصوراً على زيارة الرجال الذين تشرفوا

ص: 4

بخدمة العلم في العراق، فزار الأستاذ محمد عبد العزيز سعيد (أول أستاذ مصري قدم العراق، ونظم دار المعلمين، وكان الدكتور الجمالي من أوائل تلاميذه في سنة 1918) وزار الدكتور السنهوري الذي رفع القواعد من كلية الحقوق العراقية؛ وسأل عن الأستاذ الزيات بلهفة وشوق فعلم أنه بعيد عن القاهرة، وتفضل فزارني في سنتريس ليرى البلد الذي قال فيه الشاعر عبد الرحمن البناء:

لبُعدك كابدتْ بغدادُ حُزناً

وإن فرحتْ بقربكِ سنتريسُ

ولن أنسى أبداً أن الأسابيع التي قضاها الدكتور الجمالي في مصر كانت من المواسم الروحية، فقد كان يسأل عني في كل يوم، كأنه رب البيت وكأنني الضيف.

أخت بغداد والألقاب

واتصلت أيام الدكتور الجمالي عندنا بفكاهات كثيرة كان يوجهها إلى أقطاب وزارة المعارف من وقت إلى وقت، منها السؤال الذي واجهني به سعادة الأستاذ شفيق بك غربال:

- سمعت أنك لم تصب بأخت بغداد، فهل هذا صحيح؟

- أصبت بالأخت الحقيقية لبغداد، وهي (ليلى المريضة في العراق) وفي هذه الإصابة مناعة من جميع العلل والأدواء.

وفي إحدى سهراتنا أعلن الدكتور الجمالي ثورته على كثرة الألقاب في مصر، فأجبت بأن الحال في مصر غير الحال في العراق، فالظاهر أن الألقاب كانت تشترى بأبخس الأثمان فيظفر بها من لا يستحقون التبجيل، ولهذا ثار عليها العراقيون؛ ولا كذلك الحال في مصر، فالألقاب عندنا لا ينالها من ليس لها بأهل، وإن كان في النحو باب يسمى باب الاستثناء.

وأردت أن أنتقم من الدكتور الجمالي فكنت أخاطبه بعبارة: يا فاضل بك؛ فلم يمض إلا وقت قليل حتى استأنس بلقب البكوية كل الاستئناس، إلى الحد الذي سمح بأن يسأل عن حظي من الألقاب الرسمية بعبارة تفيض بالعطف. وقد تحزن حين أجبته بأن الألقاب لا تمنح للموظفين إلا حين تصل مرتباتهم إلى مبلغ لا أصل إليه إلا بعد أعوام طوال، ثم أردت أن أطمئنه فقلت: ولكن لا موجب للجزع فقد تنفع المؤلفات في الظفر بالألقاب!

ومن المنتظر أن يستوحش فاضل (بك) حين ينزع منه هذا اللقب بعد وصوله إلى بغداد، ودنيا الألقاب إلى زوال!

ص: 5

الجواب المحذوف

في الأسئلة التي وجهتها إلى الدكتور الجمالي سؤال يقول: ما هي الشخصيات التي ظفرت بإعجابكم؟ وما الشمائل الأصلية لتلك الشخصيات؟

وأجاب الدكتور الجمالي عن هذا السؤال بصفحة كاملة، ثم عاد فخلط بياضها بسوادها فلم أتبين منها غير أشباح، وإن كان تفضل فأبقى العبارة الخاصة بأحد الرجال. وقد سألته عن السبب في حذف هذا الجواب فاعتذر بأنه قد يعرضه إلى محرجات.

وأجهدت عيني في تعرف تلك الأسماء فلم أهتد إلا إلى سمات خطية عرفت منها أسماء: السنهوري وغربال ومشرفة وجوهر والقباني وفهيم.

وكان قبل ذلك حدثني عن إعجابه بالدكتور سليمان عزمي والأستاذ علي بدوي.

وللدكتور الجمالي الحق كل الحق في أن يسكت عمن عرف في مصر من الرجال، فلكل رجل في مصر خصائص تتعب من يهمه التحدث عنها بإيجاز أو إطناب. وغني مصر بالرجال لا يحتاج إلى بيان، والذي يتصل بمصر وهو في مثل ذكاء الدكتور الجمالي وإخلاصه لا يستطيع النجاة من الفتون بما لرجالها من رجاحة العقل، ونفاذ البصيرة، وقوة اليقين.

أما إعجاب المصريين بالدكتور الجمالي فهو إعجاب صادق، وقد أطلعوه على دقائق النهضة العلمية والأدبية والفنية والاجتماعية. وتفردت أنا بإطلاعه على دقائق الحياة الشعبية، وذلك جانب يراه بعض الناس من المبتذلات وأراه من الطرائف، فما في مصر بقعة إلا وهي مصدر وحي أو مبعث خيال.

زرت مع الدكتور الجمالي أكثر الأحياء الوطنية، الأحياء التي نبت فيها آباؤنا وأجدادنا قبل أن يعرفوا المدينة الغربية، الأحياء التي أوحت ما أوحت من فنون الرأي والعبقرية، زرت معه (حي الخليفة) الذي نشأ فيه مصطفى كامل، وهو حي تغلب عليه البداوة ولكنه مزود بقوة الروح، وفي رحابه نشأ كثير من جنودنا الأبطال.

والأخوة التي بيني وبين الدكتور الجمالي فرضت عليه أن يرى مصر بعيني، مصر التي لم يخلق مثلها في البلاد، مصر التي ولد فيها موسى، ونشأ بها عيسى، وصاهرها محمد، وهم صفوة الأنبياء.

ص: 6

لم أر في مصر شيئاً يجب إخفاؤه عن رجل من أرباب القلوب؛ وإذا احتاجت مصر إلى الدفاع عن نفسها، فلن يكون ذلك إلا بفضل جناية الجمال على الجميل.

جمالُكِ فاتنٌ والحسنُ ذنبٌ

لأهل الحُسنِ في شرع الذئِاب

فما شكواكِ من ظلماَء طالت

وتلك جنايةُ المجد اللُّباِب

إن استباح السفهاء من أهل البغي أن ينالوا مصر بسوء، فسيكون لهم من وراء البغي ألوان وصنوف من غضب صاحب العزة والجبروت.

مصر التي لم يهتف بمثلها شاعر ولا كاتب ولا خطيب، مصر التي لم يتفتح الزهر في أرض أكرم من أرضها ولا أخصب، مصر التي لم يتخطر على ثرى ثراها أسرابٌ لا ترى مثلها العيون في شرق ولا غرب

مصر الجميلة الغالية ليس فيها ما يعاب، فمن حقي أن أطلع على خفاياها من يشاء، فإن صح أن فيها ما يشوك، فهو سواد الخال في الخد الأسيل

بكاء غريق الألطاف

البكاء محرم على الرجال إلا في مقامين اثنين: مقام الشوق إلى الله، وقام الحزن لفراق الأحباب. وللمقام الثاني صورة لا ينجيني من أطيافها المزعجات إلا تدوينها على القرطاس، فإن الإنشاء كالبكاء يخفف ما تعاني القلوب من لواعج وأحزان. وكيف نعيش لو حرمنا الخلوة إلى القلم من وقت إلى وقت، وقد أقفرت الدنيا من الصديق الذي ننفض بين يديه ما في صدورنا من أشجان وكروب؟

والصورة الآتية من صور البكاء تستحق التسجيل، فهي واضحة الدلالة على أن الأخوة العربية قد انتقلت من حال الشرح والتفسير إلى حال الذوق والإيمان. فما تلك الصورة من البكاء؟

في الأيام الأخيرة لإقامة الدكتور الجمالي بالقاهرة جدت

شواغل منعتني من الأنس بهذا الصديق الغالي، وهي الشواغل

التي تصحب افتتاح العام الدراسي، ومع ذلك عرفت أنه

سيغادر القاهرة في عصر هذا اليوم (11041)

ص: 7

وقبل الموعد المحدد لقيام القطار بنحو خمسين دقيقة كنت في الفندق الذي نزل فيه لأصحبه إلى محطة باب الحديد، ولكني لم أجده هناك، ثم حضر بعد لحظات، فكانت تحيته: لطفك يا دكتور! وحدق في وجهي لحظة ثم قال: هل تعرف أني قضيت مساء الأمس وصباح اليوم في البكاء لفراق القاهرة؟ فابتسمت وقلت: الجروح قصاص، فمن واجب القاهرة أن تصنع بك بعض ما صنعت بي بغداد، وأنا بكيت لفراق بغداد حتى رحمني أعدائي، فاشرب قطرة من الكأس الذي شربته حتى الثمالة. واحترس من التزيد على المحبين!

ولم يقع في الوهم إلا أن الدكتور الجمالي يلاطفني بالحديث عن تحزنه لفراق القاهرة، فهو من بلد له تقاليد في مراعاة الآداب الإخوانية، ولكن لم نكد نفارق الفندق في طريقنا إلى المحطة حتى غلب الرجل على وقاره، وأخذت دموعه تبلل خديه على ما يصاب به المتيمون.

ورأيت من الحزم أن أتجاهل ما يعانيه، لئلا يزداد عناء إلى عناء، فأخذت أشاغله بالسؤال عن معالي الدكتور سامي شوكت وسعادة الأستاذ طه الراوي، وانطلقت فسردت له عشرات من الأسماء التي أحبها في أرجاء العراق، ولم أطو عنه إلا أسماء من صادقت من رجال الجيش، فقد خشيت أن أسمع أن فيهم من قتل في الحرب التي دامت ثلاثين يوماً. وكان لي في الجيش العراقي أصدقاء لا يفدون بغير الأرواح، كتب الله لهم العافية من مكاره الصروف في هذه الأيام!

ثم بلغنا محطة باب الحديد وقد جفت دموع الدكتور الجمالي، فرأينا هنالك طوائف من الإخوان ينتظرون باسمين، فسرى عنه بأسرع من لمح البرق، وأخذ يحاور ويناضل بعزيمة لا تعرف البكاء.

وأراد الإخوان أن يصارحوه بحزنهم لفراقه فأشرت إليهم أن يكفوا، فسكتوا وقد فهموا أني أعرف من أمره ما لا يعرفون؛ والمصري أقدر الناس على فهم خطرات القلوب ولمحات العيون.

وكان الدكتور الجمالي مع هذا مهدداً برجعة البكاء، فقد كان يرى ناساً لا ينتظر أن يراهم في الساعة الثالثة بعد ظهر يوم من أيام رمضان، فكان يقول لمن يراه: غريق ألطافكم! غريق ألطافكم!

ص: 8

وتمت الأعجوبة حين رأى أقطاب وزارة المعارف يفدون لتوديعه وهم رجال لا تسمح شواغلهم بأداء هذا الواجب في مثل هذه الأيام المثقلة بالتكاليف.

وقد تأثر الدكتور الجمالي بهذا المنظر فكاد يبكي من جديد، ثم صده حضور صاحب الفخامة نوري باشا السعيد، فقد أخذ يسألني عن صحة ليلى بعبارات لا تخلو من فكاهة ومزاح.

ودوى صفير القطار فتحاجز المودعون، وانخرط الدكتور الجمالي في البكاء، البكاء الذي لا يجيده في مثل هذا الموقف غير كبار الرجال.

وما الذي يمنع الدكتور الجمالي من البكاء لفراق القاهرة، وقد عاش فيها شهرين بعين المحب وقلب الصديق؟

لو كان الدكتور الجمالي من الشعراء ونظم في توديع القاهرة ألف قصيدة لكان تعبيره عن أساه أقل بياناً من تلك الدموع النبيلة وقد جاد بها قلب نبيل.

الثقافة المصرية

حدثني الدكتور الجمالي قال: (شغلت عن مسايرة الثقافة المصرية نحو عشر سنين، بسبب التفاتي إلى الثقافة الإنجليزية، ثم كانت هذه الزيارة فتحاً جديداً، وقد اشتريت من المؤلفات المصرية ما ملأ حقيبتين كبيرتين، فحبي القديم لمصر أضيف إليه حب جديد، كنت أحبها للأخوة العربية، فصرت أحبها الأخوة العلمية، وإعجابي بتقدم مصر العلمي جاوز ما كنت أقدر من الفروض)

ومع أنه زار مصر في أشهر العطلة المدرسية فقد عرف كيف يدرك ما عندنا من مذاهب الحياة التعليمية، بفضل صلاته الوثيقة برجال التعليم، وفضل ما فطر عليه من حب الاستقصاء.

وليس معنى هذا أن مصر وصلت إلى ما لم يصل إليه أحد في العالمين، ولكن معناه أن الرجل شغل بالمحاسن عن العيوب، فلم تقع عيناه في مصر على شيء غير جميل.

وهذه النظرة الودية هي أساس التعارف الصحيح، والداعون إلى الوحدة العربية فاتهم هذا الجانب، وهو الابتداء بخلق صلات روحية وذوقية تصل العربي عن طريق الحب الصفاء.

ص: 9

أسئلة وأجوبة

لم يبق إلا أن نذكر بعض ما دونه الدكتور الجمالي بخطه، مكتفين بالأهم، لضيق المجال

س - ما هي الصفات التي يجب أن يتحلى بها المصر حين يخدم العلم بالعراق؟

ج - كل ما نريده للمصري الذي يأتي لخدمة العراق هو أن يشعر بأنه في بلاده وبين أهله وإخوانه، ومتى شعر بأنه يخدم أبناء قومه فلا أشك في أن عمله سيكون مثمراً أطيب الثمر. وإني لأنصح لمن يشتغل بالتعليم في العراق أن يبتعد عن البحث في القضايا السياسية والأمور المذهبية، فما دخلت هذه البحوث في دور العلم إلا أفسدتها.

س - أتراك مطمئناً إلى صحة القول بأن مصر صلة الوصل بين الشرق والغرب؟

ج - إن مصر خير مثال لبلد تمسك بشرقيته ثم غذاها بالنتاج الثقافي الغربي، فمصر عربية في روحها، إسلامية في تقاليدها، وهي مع ذلك تأخذ عن الغرب أساليبه العلمية، وأنظمته الصناعية والزراعية والتجارية، فهي بودقة تصهر ثقافتي الشرق والغرب، ونرجو أن تخرج منهما ثقافة موحدة لمحاسن كلتيهما، وإذ ذاك تصبح مصر ومن ورائها البلاد العربية صلة الوصل بين الشرق والغرب حقاً.

س - ما الذي تحب أن ينقل من شمائل بغداد إلى القاهرة ومن شمائل القاهرة إلى بغداد

ج - احب أن تنقل بعض شمائل القاهرة إلى بغداد، لا سيما ما يتعلق بتنظيم العمران وفتح الشوارع وتشجيرها وإكثار من الميادين والحدائق العامة، ولا أرى مل يمكن نقله من بغداد إلى القاهرة.

س - هل اتسع وقتك للنظر في الفروق بين المناهج المصرية والمناهج العراقية؟

ج - هناك فروق بين مناهج التعليم في مصر والعراق، وهذه الفروق ناتجة من أمرين: الأول أن العراق حديث في نظامه التعليمي، ولم تتولد له مشاكل تاريخية بعد، ففي وسعه أن يطبق أحدث النظريات الفنية التعليمية بدون أن تكون في الطريق عقبات خلفها له الماضي. أما أنظمة التعليم في مصر فلها تاريخ بعيد نسبياً. فلا يمكن الأخذ بما هو صالح من الجديد إلا بالتدريج. والأمر الثاني هو أن العراق قد اعتنق الفكرة العربية منذ تكوينه الجديد بقيادة المغفور له الملك فيصل الأول، فهذه الفكرة متغلغلة في كل برامج التعليم، ولم تصل هذه الفكرة في مصر إلى صميم التعليم بعد كما هو الحال في العراق.

ص: 10

س - أنت زرت تركيا وكتبت عن التعليم فيها تقريراً مفصلاً، فهل ترى وقد زرت مصر أننا قريبون أو بعيدون من الأتراك من الوجهة الثقافية؟

ج - لا أستطيع أن أتحدث عن الثقافة التركية اليوم، لأني لم أتتبع التطورات الأخيرة في معارف تركيا منذ وفاة المغفور له أتاتورك. أما الثقافة التركية كما عرفتها في سنة 1937 فكانت تختلف عن الثقافة في مصر اختلافاً أساسياً وهي بعيدة عنها كل البعد. أولاً لأن الأتراك في ثقافتهم قطعوا صلتهم بالماضي ووضعوا لأنفسهم أسساً جديدة واضحة وجهت الثقافة بموجبها، فهم أخذوا كل ما راقهم من المبادئ الغربية وتركوا الثقافة الشرقية وراءهم. وثانياً لأن الانقلاب التركي جاء شاملاً وسريعاً، بينما مصر تسير على الأساليب الديمقراطية التدريجية، فهي تبقى الجيد من القديم وتضيف إليه الحديث، ولذلك أرى أن الشقة الثقافية قد بعدت بين البلاد العربية والبلاد التركية. هذا ما بدا لي سنة 1937 ولا أعرف ما هو الوضع اليوم هناك.

(انتهى ما اخترناه من أجوبة الدكتور الجمالي)

أما بعد فقد فرغت من كتابة هذا المقال في لحظة قدرت فيها أن الدكتور الجمالي لم يصل إلى الحدود المصرية ليجتازها إلى فلسطين، فليكن مقالي هذا تحية ثانية إلى الصديق الذي ودع القاهرة بدموع الوفاء، وليتفضل فيذكر أن القاهرة لا تنسى أحبابها أبداً، ولو بعدت الدار وقدم العهد.

وإذا كان الدكتور الجمالي قد تلطف فدعاني لزيارة بغداد مرة ثالثة فليعرف أني ما فارقت بغداد، ولا غاب عن عيني محيّاها الجميل.

سيَسألُ قومٌ من زكيٌ مباركٌ

وجسميَ مدفون بصحراء صماء

فإن سألوا عني ففي مصر مرقدي

وفوق ثرى بغداد تمرح أهوائي

زكي مبارك

ص: 11

‌كيف يكتب التاريخ

للدكتور حسن عثمان

مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب

- 5 -

نقد الأصول

أهمية النقد، التزييف والانتحال واثبات صحة الأصول

قد عرفنا أن التاريخ يدرس بواسطة الأصول كالوثائق وآثار ومخلفات الإنسان من الزمن الماضي. وحوادث التاريخ يمكن أن تعرف عن طريقين: عن طريق مباشر بملاحظة ومشاهدة الحوادث أثناء وقوعها، أو عن طريق غير مباشر بدراسة الآثار المتنوعة التي خلفتها هذه الحوادث. فالمعلومات عن حادث زلزال مثلاً يمكن معرفتها بطريق مباشر من بعض شاهدي العيان، أو بطريق غير مباشر بملاحظة آثار التدمير التي خلفتها الهزة الأرضية، أو بقراء وصف كتابي سجله أحد الناس عنها سواء بطريق المشاهدة أو بطريق الرواية. وهذا ينطبق تماماً على حوادث التاريخ. والحوادث والأوصاف التي يسجلها الرحالة المعاصر مثلاً تمتاز بإعطائها دقائق وتفاصيل، وبتصويرها روح العصر، وذلك ما لا يتاح للكاتب المتأخر. ولكنا نلاحظ أن وجود الكاتب في العصر الذي يسجل حوادثه ليس معناه أنه يمكنه الإحاطة بجميع نواحيه وإجادة الكتابة عنه. وذلك لعدة عوامل، لاحتمال تحيزه للتيارات المتنوعة التي تسيطر على الفكر الإنساني، أو لتأثره في كتابته باتباع المصلحة لوصول إلى أغراض شخصية أو لتجنب الاضطهاد في بعض الأحيان؛ وكذلك لعدم إمكان حصوله على جميع الأصول التاريخية، بالرغم من عيشه في العصر الذي يدرسه، والتي تظل خافية وممنوعة من التداول سنوات عديدة سواء لدوافع سياسية، أو للرغبة في عدم إذاعة الأسرار الخاصة في حياة بعض الناس. فالأفضل دائماً أن يكون المؤرخ بعيداً عن العصر الذي يكتب عنه لكي تظهر الأصول والأسرار والخفايا بعد أن تتبلور حوادث التاريخ خلال الزمن الغابر.

فحوادث التاريخ تعرف بصفة أساسية عن طريق غير مباشر بدراسة آثار الإنسان المختلفة

ص: 12

التي تحفظ من الضياع. والمؤرخ في أغلب الأحوال لا يرى الحوادث نفسها، وإنما يرى ويدرس آثارها. فآثار ومخلفات الإنسان المتنوعة هي نقطة البدء، والحقيقة التاريخية هي الهدف الذي يتوخى المؤرخ الوصول إليه. وبين نقطة البدء والهدف يوجد طريق معقد متشابك تعتوره الأخطاء والمصاعب والعقبات العديدة، والتي قد تبعد الباحث عن الهدف وعن الحقيقة التاريخية. والمؤرخ لا يجد غير هذا الطريق للوصول إلى غرضه. ودراسة وتحليل الأصول التاريخية في هذه المرحلة من أهم أدوار طريقة البحث، وهي عبارة عن ميدان نقد الأصول التاريخية.

وكما عرفنا نجد أن آثار الإنسان قد تكون أبنية وتماثيل ومصنوعات مادية ملموسة، أو قد تكون آثاراً كتابية سجلهاالإنسان عن الحوادث. فالنوع الأول أسهل في الدراسة لأنه توجد علاقة واضحة بين الآثار الماثلة أمام المؤرخ، والتي يلمسها بحواسه، وبين أسباب وجودها وارتباط ذلك بحوادث التاريخ. ولكن الكتابات التي يدونها الإنسان عن حوادث تاريخية معينة هي أثر عقلي سيكولوجي وليست الحادث التاريخي في ذاته؛ فهي لا تزيد عن أنها رمز وتعبير عن أثر تلك الحوادث في ذهن الإنسان. فالآثار الكتابية تنحصر قيمتها في أنها عمليات سيكولوجية معقدة وصعبة التفسير، لأن الإنسان نفسه على وجه العموم معقد مركب متضارب وصعب الفهم، فلا ريب في أن تكون حوادثه والتعبير عنها على ذلك الغرار. وللوصول من الأصل التاريخي المكتوب إلى الحوادث ينبغي تعقب سلسلة العوامل التي أدت إلى كتابته؛ فلا بد من أن يحي المؤرخ في خياله سلسلة الحوادث التي قام بها كاتب الأصل التاريخي منذ أن شاهد وجمع معلوماته عن تلك الوقائع المعينة حتى دونها في الأصل المكتوب والماثل أمام المؤرخ، لكي يصل إلى الحوادث الأصلية. ويلاحظ المؤرخ قبل البدء في نقد الأصل التاريخي وخاصة إذا كان مخطوطاً هل هو نفس الحالة التي وجد عليها من قبل؟ ألم يبل ويتآكل وتضيع بعض أجزائه؟ لكي يرممه ويجعله أقوى على البقاء والحفظ.

وتوجد عدة أدوار ومراحل للنقد. فالنقد الخارجي أو الظاهري يتعلق بعدة أمور مثل إثبات صحة الأصل والخطأ والمؤلف؛ والنقد الداخلي أو الباطني ويبحث الحالات العقلية التي مر خلالها كاتب الأصل التاريخي، فيحاول أن يعرف ما الذي قصده الكاتب؟ وهل كان

ص: 13

يعتقد في صحة ما سجله؟ وهل توفرت المبررات التي جعلته يعتقد صحة ما كتبه؟. . . وأساس النقد والحذر والشك في معلومات الأصل التاريخي، ثم دراسته وفهمه واستخلاص الحقائق من ثناياه. والناس يتكلمون عن ضرورة النقد ولكن من الناحية النظرية فقط؛ وهم في الغالب لا يميلون إلى تطبيقه عملياً. والإنسان في أحوال كثيرة ينقد الغير ولكن لا يجب أن يذكره الغير إلا بالمديح والثناء! والإنسان في أحوال كثير أيضاً أميل إلى الكسل والإهمال. والإنسان في حياته اليومية قد يكون أميل إلى تصديق ما يصادف هوى في نفسه، وأبعد إلى تكذيب ما يصطدم بعواطفه ورغباته.

والإنسان في حياته اليومية أيضاً لا يستطيع أن يقبل أقوال جميع الناس بنفس الثقة وبنفس التقدير، لأن الناس جميعاً لهم قيم وأغراض وأهواء مختلفة. وأصحاب النفوس الزائفة يكذبون وينافقون ويغررون للوصول إلى الأغراض والمطامع. أو ليس ذلك أدعى إلى الخداع والعبد عن الحقيقة السافرة؟ فإذا كان هذا هو حال فيما يتعلق بالحاضر فما بالنا بحوادث الأمس، والأمس البعيد؟ ولقد استخدم المؤرخون في الزمن الماضي الأصول التاريخية بدون نقد أو حذر فوضعوا تعميمات خاطئة. وإنه لأسهل على الإنسان أن يصدق بغير مناقشة وأن يوافق بدون نقد وأن يجمع الوثائق والأصول التاريخية بغير تقدير أوزن دقيق ولكن لا يستطاع الوصول إلى الحقيقة التاريخية بدون نقد الأصول كل على حدة وبدون الموازنة بينها وتحديد العلاقة بين المعلومات الواردة في كل منها، ويستغرق ذلك زمناً طويلاً ولكن البحث العلمي التاريخي لا يمكن أن يكتب بدون ذلك. وليس هناك ما يضطر الباحث لأن يعمل فوق طاقته، بل عليه أن يقصر عمله على النقطة التاريخية المحددة التي يستطيع أن يأتي في بحثها بعمل أصلي جديد مبتكر بالنسبة للعلم كله. والباحث في التاريخ كالباحث في أي فرع من أنواع المعرفة، إذا عرف بإخلاص قيمة البحث العلمي الصحيح الذي يستوفي شروط الزمان والمكان لن يرضى بغيره بديلاً مهما كانت الظروف.

وأول مرحلة من مراحل نقد الأصول التاريخية هي إثبات صحة أو بطلان تلك الأصول. فإذا كان المصدر أو الأصل كله أو جزء منه مزيفاً أو منتحلاً فإنه لا يمكن الاعتماد عليه. وصحيح أن تزييف الأصول والوثائق اليوم أصعب منه في الزمن الماضي، ولكن دوافع

ص: 14

التزييف والدس لا تزال قائمة كالمطامع والأهواء والكسب وحب الشهرة. والانتحال والتزييف يوجدان في كل أنواع الأصول والمصادر. فالآثار المادية تزيف من أجل الكسب في أحوال كثيرة. ومن الأمثلة على ذلك ما حدث من وجود مجموعة من الأواني والأدوات الفخارية في أورشليم في 1872؛ وقد دل على وجودها سليم العربي الذي كان يعمل في خدمة بعض المنقبين عن الآثار في تلك الأنحاء، واشترى بعضها متحف برلين، ولكن البحث العلمي أثبت أن هذه الآثار مزيفة. وفي الغالب كان سليم العربي نفسه هو صانعها بقصد الكسب. ومن الأمثلة على الكتابات المزيفة مجموعة من الخطابات والتواريخ والأشعار طبعت في إيطاليا بين سنتي 1863 و 1865 على اعتبار أنها قد كتبت عن جزيرة سردينيا في الفترة بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر للميلاد.

ولقد أثار ظهور هذه المجموعة دهشة كبيرة في الأوساط العلمية، لأنه كان مجهولاً وجود حضارة في سردينيا من هذا النوع في ذلك العهد. وبعد نشر هذا الكتاب، وضعت الأصول الخطية في كتبة كالياري في سردينيا، وحدثت مناقشات طويلة عن هذه الآثار، فعرضت الأصول الخطية على أكاديمية العلوم في برلين لدرسها، ففحص بعض العلماء الخطوط التي كتبت بها هذه الأصول، وبحث البعض الآخر اللغة والأدب، كما ناقش آخرون المعلومات التاريخية، ووجدوا أن كل ما جاء بها لا ينطبق ولا يشابه ما عرف عن خطوط وكتابات وأدب وتاريخ سردينيا في تلك القرون، وقرر العلماء أن هذه الآثار الكتابية مزيفة.

ومن هذا النوع أيضاً نجد ملحق مذكرات (بايي) عمدة باريس وأول رئيس للجمعية الوطنية في حوادث الثورة الفرنسية وأسمه: ونشر لأول مرة في (1804) على أنه من وضع أحد أعضاء الجمعية التأسيسية في باريس بدون تحديد الإسم؛ وعندما أعيد طبع مذكرات (بايي) في (1822) اعتبر هذا الملحق من تأليف (بايي) نفسه. إلا أن الدكتور فلنج أستاذ التاريخ الأوربي بجامعة نبراسكا في أمريكا استطاع أن يكشف مع بعض تلاميذه في الجامعة عن حقيقة هذا الملحق؛ ووجدوا بالمقارنة الوافية أن فقراته شديدة القرب في اللغة والأسلوب والمعلومات مما ورد في بعض الجرائد التي كانت تصدر في باريس في (1789)، مع تغيير ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم في بعض الأحيان، لكي يتفق ذلك مع مذكرات (بايي) الأصلية. ولو أن جامع هذا الجزء قد أشار إلى المواضع التي استقى منها

ص: 15

مادته، لكان ذلك عملاً نافعاً لمن لا يستطيع الوصول إلى إعداد تلك الصحف النادرة. وهذا الجزء يعتبر مثالاً لكيفية الانتحال، وتحذيراً للباحثين بعدم قبول أي مصدر بثقة عمياء.

والملكة (ماري أنطوانيت) من الشخصيات التاريخية التي دست عليها رسائل لم تكتبها، وهذا مما يجعل عمل المؤرخ صعباً. ولقد نشرت مجموعات من رسائلها تحتوي على الصحيح والمزيف منها؛ ولجأ المزيفون إلى الاقتباس من رسائلها الصحيحة وتقاليدها من حيث الخط والأسلوب. ولقد نشرت مجموعة من هذه الرسائل في باريس في (1858)، وتحتوي على رسالة لم تنشر من قبل بتاريخ 20 يونيو 1789، تبين أن ماري أنطوانيت اعتقدت أن أسلم سياسة ينبغي أن يتبعها لويس السادس عشر، هي الانضمام إلى الشعب. فهل هذه الرسالة صحيحة أم مزيفة؟ ولم يمكن العثور على أصلها المخطوط، وهذا مما يجعل البحث صعباً. وبالدراسة المقارنة نجد أن ماري أنطوانيت كانت ميولها ضد الشعب، وهذا يميل بالباحث إلى الشك في صحة هذه الرسالة. إلا أنه من الجائز أن ماري أنطوانيت كان لها هذا الرأي المخالف لما عرف عنها، إنقاذاً للموقف؛ وهكذا لا يصل المؤرخ أحياناً إلى رأي قاطع في صحة بعض الأصول التاريخية.

وأخيراً نعرض لمثال درسه الدكتور أسد رستم. فإنه عندما ثارت مشكلة البراق بين المسلمين واليهود، وقدمت اللجنة الدولية لدرسها، ظهرت وثيقة في مصلحة المسلمين. ولكن اليهود عارضوا في صحة هذه الوثيقة، فعرضت على الدكتور رستم لفحصها من الوجهة الفنية التاريخية، فوجدها أنها عبارة عن رسالة صادرة من محمد شريف باشا حكمدار بر الشام في عهد الحكومة المصرية إلى السيد أحمد أغا دزدار متسلم القدس بتاريخ 24 ربيع أول 1256هـ (27 أيار 1840) يخبره فيها بصدور إرادة شريفة خديوية من محمد على باشا بمنع اليهود من تبليط البراق مع إعطائهم حق الزيارة (على الوجه القديم). وفحص الدكتور رستم هذه الوثيقة بوسائل النقد الظاهري والباطني، فوجد أن الوثيقة مكتوبة على ورق صكوكي قديم تركيبه الكيماوي وأليافه من نوع أوراق الحكومة المصرية في مصر والشام في ذلك العهد؛ والمداد الذي دونت به هو مداد استانبولي. وأثبت التحليل الكيماوي والفحص بالمجهر أنه مزيج من الكاربون التجاري والصمغ والماء؛ وأثبت المجهر أيضاً من أثر القلم على الورق أنها كتبت بقلم قصبي مما كان شائع الاستعمال في ذلك العصر.

ص: 16

وكان الخط هو السائد في دواوين مصر والشام. وفاتحة الرسالة: (افتخار الاماجد الكرام ذوي الاحترام. . .) وخاتمتها: (لكي بوصوله تبادروا الإجراء العمل بمقتضاها. . .) تتفق مع أسلوب عهد محمد علي. ثم عدم مراعاة قواعد اللغة العربية ووجود ألفاظ أعجمية الشيء الذي كان منتشراً في مصر والشام في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ثم تذرع الدكتور رستم بأدلة أخرى، فتأكد من محفوظات عابدين أن شريف باشا كان حاكما عاماً على الشام من أوائل 1248هـ إلى أواخر 1256هـ. وعرف من سجلات المحكمة الشرعية بالقدس أن أحمد أغا دزدار كان قائماً بأعمال المتسلمية في القدس في ربيع الأول سنة 1256هـ. وتثبت أيضاً من أن محمد باشا كان يسيطر على جميع حكام مقاطعات الشام ومن بينهم متسلم القدس أحمد أغا دزدار، ومن أنه كان يتلقى الأوامر من محمد علي باشا وإبراهيم باشا لكي يبلغها للجهات المختصة. ووجد الدكتور رستم أيضاً أن محتويات هذه الوثيقة تتفق مع المعلومات المعروفة عن علاقة اليهود بالبراق وموقف المسلمين منهم من ناحية إباحة اليهود زيارته وتساهل حكومة محمد علي الذي جعلهم يتطلعون للحصول على الإذن بتبليط البراق. وانتهى بحث الدكتور أسد رستم بإثبات صحة هذه الوثيقة من الوجهة الفنية التاريخية سواء من ناحية الورق والحبر والقلم وعادات المراسلة واللغة والأسلوب، أو من ناحية شخص المرسل والمرسل إليه، أو من ناحية مطابقة واتفاق معلوماتها مع الظروف التاريخية.

وهذه أمثلة عملية تبين أهمية وطريقة نقد الأصول التاريخية من ناحية إثبات صحتها وأصالتها وخلوها من الدس والتزوير والانتحال؛ وبغير ذلك لا يستطيع المؤرخ أن يعمل لأنه إذا بنى أبحاثه على الأصول المزودة خرج بنتائج بعيدة عن الحقيقة ومخالفة للواقع التاريخي. وسوف نبحث في المقالات التالية نقد الأصول من نواح أخرى

(يتلى)

حسن عثمان

ص: 17

‌الوعاظ والخطباء

للأستاذ علي الطنطاوي

تواردت الخواطر والأقلام (في أجزاء الرسالة الأخيرة) على نقد أساليب الوعاظ في الدعوة إلى الله، فساء بعض الواعظين عندنا، ولو فكروا في مغزاه وما يلزم منه لسرهم، ولعلموا أنه لولا الاعتراف بخطر الوعظ وأهله، ومنزلتهم من الأمة، وعلو قدرتهم عند العامة، ما كتب في (الرسالة) عنهم، ولا استغل الكتاب بنقدهم. ثم إن أولى ما ينبغي أن يتحلى به الواعظ أن يبدأ بنفسه فيعظها، وأن يخلص قوله لله وعمله، وأن يفرغ من شهوات نفسه، فلا تملكه شهوة الشهرة والجاه، ولا شهوة الغنى ولا شهوة النساء، وأن يكون في فعله أوعظ منه في قوله، فلا يأمر الناس بالزهد ثم يخالفهم إلى ما زهدهم فيه فيزاحم المتكالبين عليه، ولا يتظاهر بالدين ابتغاء الدنيا وتوصلاً إليها، فيجمع من حوله العاملين على الكسب الحلال، والجادين في جمع المال من حله، ليأخذ من أموالهم ما يتعالى به عليهم، وليذيق لذائذ العيش من عطاياهم، وليسلبهم فوق ذلك حريتهم وعقولهم وكرامة أنفسهم عليهم، فيصرفهم في مآربه، ويسيرهم حيثما شاء، ويذلهم بين يديه ليستكبر عليهم، ويجعل الدين وسيلة إلى ذلك، فيجعل طاعة نفسه من طاعة الله، بل ربما جعل نصيبها من هذا الشرك أكبر، والعياذ بالله من ذلك. ولقد حدثني من أقطع بصدقه أنه سمع مرة واعظاً من هؤلاء (يقص) على تلاميذه قصة مريد سمع شيخه يقول: يا الله، ثم يمشي (زعم القاص) على وجه الماء الجاري، فسأله أن يتبعه، فقال له الشيخ: قل يا شيخي فلان (يعني الشيخ نفسه) ثم اتبعني فإنك تمشي مثلي. ففعل المريد ذلك، وتابعه أياماً، ثم خطر له (يقول الواعظ) أن يقول:(يا الله)، مكان قوله:(يا شيخي) فقالها فغرق في الماء، ومات. . .

فهل يشك مسلم في هذا الوعظ مخالف للإسلام مباين له؟ وهل يغضب الواعظ العالم الصادق أن ينتقد الواعظ الجاهل المُمَخْرِق الكذاب؟ أو ليس من دأب الواعظ الصادق أن يتقبل النصيحة ويشكر عليها ويعمل بها؟ وأن يتخلص من شرور نفسه قبل أن يتصدر للوعظ والإرشاد، حتى يكون الإسلام هو الذي يتكلم على لسانه، وحتى يتوهم السامعون أن ملكا هو الذي يعظهم، أو جسداً إنسانياً ضم روح ملك من الملائكة قد ارتفع عن شهوات الأرض ليتصل بكمالات السماء، وأنه لا يزهدهم في دنياهم ليحوزها من دونهم؛ فإن أنسوا

ص: 18

منه غير ذلك زهدوا فيه هو وفي وعظه. . .

كان في مسجد من مساجد دمشق خطيب جهير الصوت، طلق اللسان، معتزل مستور، يعتقد الناس إخلاصه ودينه وتخطيه أهواء نفسه ماشياً قدماً على صراطه المستقيم، صعد المنبر جمعة من الجمع، فاستهل خطبة بآية من القرآن فيها وعيد للكافرين شديد، ومضى من بعدها يبرق ويرعد، ويسوق الجمل آخذاً

بعضها برقاب بعض، وكلها من مادة (كفر يكفر. . .) حتى إذا ظن أنه أقنع وأشبع، وملأ نفوس السامعين سخطاً وغضباً، عمد إلى التصريح بعد التلويح، فإذا الذي انصبت عليه هذه الحمم، ونالته رجوم الشياطين، (رجل تجرأ على دين الله، فتكلم في الداعين إليه، والداعين عليه، ومن رضى عنهم الله وعقلاء خلقه: خطباء المساجد). فلما قضيت الصلاة استقرى الناس الخبر فإذا هو صاحب جريدة كتب مقالاً معتدلاً في الدعوة إلى إصلاح الخطب المنبرية، فبعث الخطيب بمقالة يرد بها عليه فلم ينشرها وإنما أشار إليها، فكان جزاؤه أن تكون الخطبة كلها في ذمه وتكفيره. فانصرف الناس من يومئذ عما كانوا يعتقون في الخطيب ولم يعد وعظه ذلك المبلغ من نفوسهم، وجعلوا يرون فيه خطيباً له (نفس)، وهيهات بنفع واعظ أو خطيب له (نفس). . .

فتعالوا أنبئوني من الذي جعل المنبر ملكاً لهذا الخطيب، يتصرف فيه تصفه بثوبه ودابته، ويجعله سلماً له إلى شهرته وشهوته، وهذا المنبر إرث رسول الله، والخطيب خليفته في الدعوة إلى دين الله واطراح النفس والهوى؟ ألم يرو الرواة أن علياً أمير المؤمنين رضي الله عنه كان يتبع مشركاً (في معركة) ليقتله، فلما أيس المشرك من الحياة تلفت إلى علي فبصق على وجهه، فكف عنه علي، فقيل له، فقال رضي الله عنه: كنت أنوي قتله لله وحده، فلما بصق عليَ خفت أن يكون قد داخلني غيظ منه، فخشيت أن يكون قتليه انتصاراً لنفسي، فلذلك كففت عنه. أليس في هذا الخبر (وإن لم يأت عن الثقات) عبرة وأسوة للواعظين؟ وكيف أستطيع الاتعاظ بالخطيب الذي جاء في خطبته مرة بحديث موضوع، فلما انتهت الصلاة وتفرق الناس أقبل عليه شاب من المشتغلين بالحديث والمنقطعين إليه فذكره بان ذلك الحديث موضوع لا أصل له، فما كان منه إلا أن رجع من الجمعة المقبلة، فجعل خطبته في هذا الشاب وأصحابه (الوهابيين أعداء الرسول. . .) وأثار عليهم العامة

ص: 19

حتى نالهم شر وأذى. فأين مكان الإخلاص من نفس هذا الخطيب؟

إن أول شرط للواعظ أو الخطيب أن يكون مخلصاً في وعظه لله، والشرط الثاني أن يكون عالماً بالعربية، عارفاً بالتفسير والحديث روايته ودرايته، والفقه أصوله وفروعه، وإلا كان وبالاً على الدين وأهله. ولقد أدركت والله من العامة من كان يكور العمامة، ويطيل اللحية، ثم يعقد للتدريس في مسجد دمشق الجامع فيقول ما شاء له الجهل والهوى ويجعله ديناً، والمفتي والقاضي والعلماء يمرون عليه أو يعلمون به فلا يتكرون عليه، ولو اعتدى هذا الرجل على جبة أحدهم لأقام عليه الدنيا. أفكان الدين أهون على أحدهم من جبته؟ وأدركت عامياً آخر ذكيا خدع طائفة من أذكياء البلد وعلمائه فاعتقدوا به، وتأدبوا بين يديه، وأخذوا عنه تفسير الآثار. وأعجب من هذا رجل يدعي النبوة يقيم الآن في غوطة دمشق، وقد آمن به أكثر فلاحي قرية (حرستا). ولقد خبرني من شهد صلاته بأصحابه أنهم يقهقهون ويكركرون كلما جاءت آية نعيم، ويتصايحون مستبشرين ويهنئ بعضهم بعضاً، وأنهم يبكون منتحبين مولولين كلما سمعوا في الصلاة آية عذاب؛ وربما (أخذ بعضهم الحال) فقفز في الصلاة أو صاح أو التبط بالأرض. ولهذا المتنبي أو (المتعهدي) ضريبة دائمة على أصحابه يؤدونها إليه باسم الزكاة فيشتري بها العقارات والحقول. . .

والشرط الثالث حسن الأسلوب في الوعظ، ومخاطبة الناس على قدر عقولهم، وابتغاه طريق اللين واللطف. وللواعظين أسوة في ذلك بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم من سيرته قدوة صالحة، فأين هم عنها؟ وما لأكثر من عرفنا منهم لا يعرفون إلا طريق العنف والقسوة الذي يبعد الناس عن الدين، ويغلظ قلوبهم عليه، وينفرهم منه. فلا يرون في مجالسهم شاباً من تلاميذ المدارس مثلاً إلا جعلوا الموضوع في تفسيق من يحلق لحيته، ومن يتشبه بالنساء، وأمثال ذلك، حتى تأكل هذا الشاب الأنظار، فيغرق في عرقه خجلاً؛ ثم لا يعود إلى المسجد أبداً؛ ولو أنهم حاسنوه وجاملوه لكان من المتقين. حضر درس الشيخ (بدر الدين) رحمه الله تعالى شاب حليق حاسر من شبان (المودة)، وكان الشيخ (على عادته) مطرقاً. فقال له أحد الثقلاء من الحاضرين:(سيدي، ما حكم الشبان الذين يتخنثون ويتشبهون بالنساء ويتزينون بزي الكفار). فأدرك الشيخ بذكائه النادر أن في المجلس غريباً، وفرع رأسه فلمح الشاب، فدعاه فأجلسه بجواره وأكرمه، وقال للسائل مؤنباً

ص: 20

بأسلوبه الناعم: (يابا. . . هذا يتبارك به) يعني أن شاباً مثله يطلب العلم ويؤم مجالسه ويستهدي الطريق إلى الله، أهل لأن يتبرك به أمثال ذلك الثقيل الذين (قطعوا الطريق) إلى الله بغلظتهم وغباوة قلوبهم.

والشرط الرابع هو أن يعلم الواعظون أنه ليس في الإسلام طبقة هي أولى بالله من طبقة، وليس بين العبد وربه وسيط، وأن الإسلام ليس فيه (رجال إكليروس)، فإذا علموا ذلك اقتصدوا في تكفير الناس لأتفه الأسباب، وراجعوا الآثار الواردة ليعلموا حقيقة الكفر والإيمان، فلا يرمون بالكفر كل من خالفهم في رأي أو ناقشهم في مسألة قد يكون لها وجوه، ولا يصدرون مثل الكتاب الذي أصدره منذ بضع سنين عالم معروف في دمشق - كان أصدره قبله بأكثر من عشر سنين كتاباً آخر - كفر فيهما كل من يقول بحركة الأرض، وكفر الشيخ محمد عبده والسيد رشيد باشا رضا؛ ورد أشنع الرد على ابن حزم والشيخ محمد بخيت المطيعي، رحم الله الجميع. وأخذ بقوله بعض خطباء المساجد فكفروا على المنابر من يقول إن الأرض دائرة حول الشمس. ولا نسمع أحداً يجعل قيامك للضيف يدخل عليك كالسجود له سواء حكمهما، لأن كلا منهما (على دعواه) من أركان الصلاة استويا في ذلك. ونسى أن القعود أيضاً من أركان الصلاة، أفيحرم قعودك بين يدي صديقك أو أستاذك؟؟

والخطابة يوم الجمعة من أكبر أبواب الوعظ، فإذا صلحت صلح بصلاحها فساد الأمة، وإن فسدت أفسدت. فمتى يتم تنظيم الخطابة، بحيث يختار لها الكفو العالم ويعدل عن طريق الوراثة فيها، فلا تنتقل بعد الخطيب إلى ابنه الصغير الذي لا يدري ما يكون منشؤه ومرباه، ويقام له وكيل رسمي؛ بل يعلن عن الخطابة الحالية، ويجعل بين الطالبين سباق وامتحان، ثم ينتقي أقدرهم عليها وأصلحهم لها. ولو كانت وراثة لورثها أبو بكر ابنه ولدفعها عمر إلى ولده. فمن أين جئتم بهذه القاعدة الواهية؟

فإذا تم الاختيار على ما ترتضي المصلحة الإسلامية، أخذ الخطيب بنوع رقابة أو إشراف يمسكه أن يحيد فيختار من الموضوعات ما يؤذي المسلمين، أو يكون فيه منفعة للخطيب شخصية، ويجعله ينتقي أقرب الموضوعات لأحداث الأسبوع، فيبين فيها حكم الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بشرط أن يقوم بهذه الرقابة العلماء أنفسهم، وألا تمنع إلا ما

ص: 21

يخالف الإسلام ومصلحة المسلمين، وألا تمس حرية الخطيب فيما عدا ذلك، وإذا تم الحصول على هذه الثمرات من غير رقابة أصلاً فذلك هو الأولى، وهو ما عليه المسلون من قديم الزمان.

هذا وإن الموضوع خطير، ومجال القول فيه ذو سعة، والواعظون العالمون الصادقون أحق الناس بالكتابة فيه، فإن صاحب الدار أدرى بما فيها، وأحسن شيء يعطى القوس باريها، وإننا نسأل الله أن يجعلنا من أهل الإخلاص.

علي الطنطاوي

ص: 22

‌شخصيات تاريخية

3 -

تيموستوكل

للأستاذ محمد الشحات أيوب

مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب

(تابع)

تحتم إذن وضع خطة جديدة لمجابهة هذا الموقف الجديد، فمن لليونان بقائد ماهر يستطيع وضع هذه الخطة؟ لم يبحث اليونان كثيراً، إنما نظروا إلى صفوفهم فوجدوه بينهم يحثهم على أن يتراجعوا ويتماسكوا، فلما رأوه وكله ثقة واطمئنان إلى نتيجة النزاع وهي النصر الحاسم سرت الثقة بينهم وتجمدوا في أماكنهم كالثلج الذي وقع على الأرض لا يريد أن يبرحها وقد تركوا أمروهم إليه وأسلسوا له القياد فوضع هذه الخطة التي كانت أساساً لما أحرزه اليونان من نصر عظيم في موقعة سلامين الشهيرة. وأظنك أيها القارئ بعد هذا لم يخف عليك أن هذا القائد صاحب هذه الخطة إنما هو بطلنا تيموستوكل العامل الرئيسي في إحراز النصر والاحتفاظ باستقلال اليونان كاملاً.

اقتضت هذه الخطة أن يهجر الأثينيون مدينتهم إلى جزيرة سلامين القريبة من أرض وطنهم وأن يقف الأسطول اليوناني في المضيق البحري الذي يفصل بين أثينا وسلامين، وهو مكان ضيق جداً، إلى شماله تقع سواحل أثيكا، وإلى جنوبه وغربه تقع سواحل سلامين، وقد اختار تيموستوكل هذا المكان لضيقه لأنه عقد العزم على أن تكون الموقعة الفاصلة في البحر، وشجعه على ذلك هذا النجاح الذي أحرزه في الموقعة البحرية السابقة موقعة الأرتيميزون، وفي هذا المكان الضيق تنعدم الميزات الناشئة عن كثرة العدد وعما يمكن أن يقوم به العدو من حركات التفاف وتطويق بالنسبة لأسطوله الزاخر بالسفن. واختار هذا المكان أيضاً لقربه من جزيرة سلامين وإليها هاجرت الأسر الأثينية، وهي بإقامتها في الجزيرة بالقرب من الأسطول لا شك خير مشجع لكل أثيني بل لكل يوناني على الأستماتة والاستبسال في سبيل الدفاع عن أرض الوطن واستقلال البلاد؛ ونحن نعلم ما كان للأرض عند اليونان من حرمة وقداسة فهي رمز لكيانهم في الحياة وفي الممات.

ص: 23

لم ينل تيموستوكل بسهولة هذا القرار القاضي بإلزام الأسطول اليوناني ساحل جزيرة سلامين الشمالي وإنما ناله بعد كبير عناء، لأن اليونان كانوا مترددين جد التردد في التزام هذا المكان. وكان القائد الأعلى وهو إيريبياد متردداً هو الآخر، بلغ تردده حداً عظيماً لأنه كان غير واثق من النصر من ناحية، ولأنه كان يريد التراجع نحو الجنوب للدفاع عن بلاده وهي شبه جزيرة البيلوبونيز من ناحية أخرى. وقد عقد القواد ثلاثة مجالس حربية ظهر فيها هذا التردد بأجلى معانيه، لذلك لم يكن أمام تيموستوكل إلا أن يسلك سيبل التهديد والوعيد، فهدد بترحيل العائلات الأثينية إلى بلدة سيريس في جنوب شبه جزيرة إيطاليا واتخاذها مقاماً للأثينيين جميعاً. وهم بهذه الهجرة يتركون الإسبرطيين وبقية اليونان وحدهم، فلم يستطع القائد الإسبرطي بعد هذا إلا أن يسلم بوجهة نظر تيموستوكل وهو صاغر للنصيحة ومستسلم لهذا الإرشاد، آملاً انتهاز فرصة مقبلة لتنفيذ رأيه القاضي بالتقهقر والتراجع، وهو قد رأى هذه الفرصة قد أقبلت حينما علم بحركات الأعداء وقرب إقدامهم على الهجوم، فعزم على التراجع نحو الجنوب من جديد. وتفسير ذلك أن أجزرسيس عاهل الفرس جمع قواده في فالير واستشارهم فيما يجب أن يتخذوه من أمر لأنفسهم في هذه المعركة، فأشاروا كلهم بضرورة الهجوم ما عدا الملكة أريتميز ملكة الدوريين في جنوب غرب آسيا الصغرى، وحجتهم في ذلك أن المكان ضيق فهم يستطيعون إذن القضاء على أسطول اليونان إذا ما هاجموه هجوماً عنيفاً، وقد غاب عنهم أن المكان ضيق لا يبيح لهم القيام بحركات تطويق أو التفاف أو انقضاض، وإنما يحتم عليهم أن ينبسطوا انبساطاً، وبذلك تنعدم الفائدة عن التجمع والتركيز فيسهل لسفن الإغريق الصغيرة الحجم أن تتسلط على سفنهم الكبيرة فتحاصرها في هذا المكان الضيق وتصليها ناراً حامية.

ولكن من أين لتيموستوكل هذا الهجوم وهو يكاد يكون الفرصة الوحيدة التي تجبر اليونان على التزام أماكنهم وإجبارهم على القتال؟ لم يجد تيموستوكل أمامه إلا المكر والخداع، وذلك بأن يحث الفرس على المضي في حركاتهم الهجومية، بل والإسراع فيها، فأرسل إلى ملكهم رجلاً من أتباعه يثق فيه كل الثقة - هو الخادم سيكينوس - لإبلاغه أن اليونان يحاولون الهرب من المضيق نحو الجنوب، ولإيقافه أيضاً على حالة اليونان وتصويرها

ص: 24

على أنها تنم عن انقسام في الرأي وتشعب في المصالح واختلاف في الرغبات؛ فإذا أراد القضاء التام على أسطول اليونان فليس له إلا أن يقوم بهجومه هذا، بل ويسرع فيه؛ وقد اقتنع ملك الفرس بهذا الرأي، ووقع في الفخ وأسرع في الهجوم، فاضطر اليونان إلى أن يلزموا أماكنهم ولا يبرحوها، وبذلك نجح تيموستوكل في حمل اليونان على البقاء في مضيق سلامين والقتال فيه!

ثم التحم أسطول الفرس بأسطول اليونان، وانتصر اليونان انتصاراً عظيماً كان له دوي هائل في البلاد المتحضرة حينذاك، وليس لنا أن نتحدث هنا عن تفاصيل هذه المعركة البحرية الحاسمة التي كان لها شأن في تقرير مصير بلاد اليونان لمدة قرنين على أقل تقدير، وإنما لنا أن نقرر هنا أن الفخر في إحراز هذا النصر الحاسم إنما يرجع أولاً وقبل كل شيء إلى تيموستوكل القائد الأثيني العظيم. من أجل هذا، لا نعجب إذا علمنا أن جائزة عظيمة منحت له لجسارته وشجاعته وحسن توجيهه للمعركة.

وهذه المعركة تعد في نظرنا أهم عمل أتاه تيموستوكل في حياته فهي من المعارك الحاسمة في التاريخ، إذ على إثرها زال الخطر الفارسي عن بلاد اليونان أو كاد؛ وقد كانت هزيمة الفرس شنيعة جداً، وبقدر ما كانت هذه الهزيمة ساحقة، بقدر ما كان نصر اليونان عظيماً وحاسماً. ولقد اضطر أجزرسيس بعد ذلك إلى ترك بلاد اليونان، ورجع إلى بلاده في غير إبطاء ولا تمهل، لأنه كان يخشى عواقب هذه المعركة، ومر بمضيق الهيلليسبونث، وهناك رأى الجسور التي كان قد بناها من قبل قد اقتلعتها الزوابع والأعاصير، والشعوب التي كان قد أخضعها وهو في طريقه إلى أثينا قد قامت بالثورة ضد سلطانه ونفوذه؛ فلم يجد أبداً من أن يترك ببلاد اليونان جزءاً من جيشه للاحتفاظ بسلطان الفرس على هذه البلاد، ولانتهاز فرصة ربما تسنح في المستقبل للتغلب على اليونان.

أما اليونان، فقد انقسموا على أنفسهم بعد زوال الخطر عنهم، فاعتقد الإسبرطيون كما سبق أن اعتقدوا من قبل هم وغيرهم من بقية اليونان بعد موقعة ماراتون، أن معركة سلامين نهائية، لا يجسر الفرس أن يأتوا بعدها إلى بلادهم لغزوها. ورأى الأثينيون غير هذا الرأي، إذ كانوا أكثر من الإسبرطيين حصراً وتبصراً بعواقب الأمور، فاعتقدوا أن الفرس لا شك سيعيدون الكرة من جديد، وقد كانوا على حق في ذلك، لأن الفرس لا زالوا ببلاد

ص: 25

اليونان يأتمرون بإمرة قائدهم ماردونيوس الذي قادهم في العام التالي إلى موقعة (بلاثية)، وفيها التحموا بالجيش اليوناني وعلى رأسه الإسبرطي بوزانياس، وكان أن انتصر اليونان من جديد، وكان الانتصار عظيماً أيضاً.

ولقد أسهبنا في الحديث عن مقدمات معركة سلامين لأن النصر فيها راجع إلى تيموستوكل قبل أن يرجع إلى أي شخص آخر، ولم نخض في تفصيلاتها الحربية التي لها مجال آخر غير هذا المجال وكنا مضطرين اضطراراً إلى هذا الإسهاب لأن هذه المعركة من أهم المعارك التي أثرت على عقلية اليونان، ذلك أن اليونان لضعف أمرهم ولصفو شأنهم لم يؤلموا أن يحرزوا هذا النصر الحاسم ضد أكبر دولة قوية في هذا العصر وهي دولة الفرس لذلك كان هذا الانتصار انقلاباً عظيما في بلاد اليونان ووضعها بالنسبة للدول الأخرى، من أجل هذا قويت نشوة الفرح والسرور عندهم وزادت ثقتهم بأنفسهم؛ وكان لهذه المعركة أيضاً دوي عظيم وتأثير كبير على العقلية اليونانية إذ ألهمت أحد كبار الشعراء وهو (إشيل) فجعلته يكتب، وقد كان شاهد عيان للمعركة، وتراجيدية رائعة هي تراجيدية الفرس في أسلوب قوي فتان رفع من شأن اليونان وقوى الثقة بأنفسهم بقدر ما وضع من أمر الفرس وعاهلهم (أجرزسيس) فزادت حماسة اليونان وقوي شعورهم بأنهم أصبحوا دولة جديدة سيكون لها شأن خطير في التاريخ. لذلك كانت هذه المعركة بداية لعصر جديد هو عصر ازدهار الحضارة الإغريقية وفيه وصلت الآداب اليونانية إلى القمة وتطورت العلوم والفنون، بل ونظم الحكم التي حققت ما ترنو إلى تحقيقه الحضارة الأوربية الحديثة من حرية ومساواة، فكانت الديمقراطية الأثينية في عصر بركليس وكانت الآداب اليونانية في عهد إشيل وسوفوكليس.

واعتزت أثينا بعد ذلك بهذا النصر، فاعتبرها اليونان صاحبة الفضل في إبعاد الخطر الفارسي عنهم، فالتفت حولها الدويلات اليونانية الصغيرة وعلى الأخص البحرية منها التي توجد في بحر إيجه وطلبت إليها أن تدافع عنها ضد غزوات الفرس وتهديداتهم، فكانت هذه الحركة بداية لتكوين حلف ديلوس الشهير، وهو أساس الإمبراطورية الأثينية في القرن الخامس قبل الميلاد.

ونحن لا يهمنا بعد أن بينا فضل تيموستوكل على هذا النحو، أن يحاول هيرودوت أبو

ص: 26

التاريخ الغض من شأن تيموستوكل والإقلال من أمره، فكل ما أثاره حوله من ريبة وشكوك لا نثق فيه مطلقاً. وقد عرفت أيها القارئ الكريم من المقالة الأولى أن هيرودوت كان شديد التحامل على بطلنا هذا حتى قسا عليه قسوة شديدة. والغريب أن هيرودوت يتهم تيموستوكل بالخيانة العظمى نحو قومه، ويحاول أن يقنعنا بأنه أرسل إلى ملك الفرس من يخبره بأنه لن يتعقبه هو وأسطوله، بل على العكس من ذلك سيحتفظ بالأسطول اليوناني في جزيرة سلامين، وليس هناك من شك في أن كلام هيرودوت مناقض للواقع. صحيح أن الأسطول لم يتعقب الأسطول الفارسي أثر الموقعة مباشرة. وسبب هذا راجع إلى أن اليونان كانوا في غفوة هي غفوة الانتصار، ذلك أن الانتصار كان عظيماً جداً بحيث أدخل على قلوبهم الفرح والسرور فلم يصدقوا أنفسهم أنهم أحرزوا هذا النصر الحاسم، ولكنهم بعد أن أفاقوا من هذه الغفوة تعقبوا الأسطول الفارسي حتى جزيرة أندروس فوجدوه قد لاذ بالفرار فلم يعد بإمكانهم الالتحام به لإبادته والقضاء عليه؛ ونحن نرد هذا الاتهام أيضاً لأن أعمال تيموستوكل خير شاهد على أنه كان يخدم وطنه بصدق وإخلاص، فقد كان هو الوحيد الذي عمل على أن يلزم الأسطول اليوناني سواحل جزيرة سلامين للدفاع عن الأسر اليونانية المكدسة في هذه الجزيرة وعن أرض الوطن المقدسة، فكيف يجوز لعقولنا إذن أن تصدق، إن كان لها منطق سليم تفكر به أن بطلاً قومياً هذا شأنه في العمل على القضاء على عدوه بكل الطرق والوسائل يخون قضية وطنه وهو لم يدخر في سبيل ذلك وسيلة إلا اتخذها كالمكر والخداع حينما أوقع ملك الفرس في فخه فأوهمه أن اليونان ينقسمون على أنفسهم وعلى وشك الهروب من المكان الضيق الذي كانوا به عند سلامين بعد ما علموا من بدء تحرك الفرس وإقدامهم على الهجوم، مما حفز عاهل الفرس على الإسراع في هجومه، وكان هذا الإسراع من أسباب فشله، ومن العوامل التي ساعدت تيموستوكل واليونان على إحراز هذا النصر الحاسم.

ليس هناك من شك في أن تيموستوكل بطل يوناني عظيم خدم القضية اليونانية بكل صدق وإخلاص؛ وهو وإن كان قد تخلى عن هذه القضية القومية فإن ذلك كان يعد موقعة سلامين وهو لم يلتجئ إلى هذا إلا بعد خطوات، إذ الواقع أن سياسته تطورت جد التطور، فبعد أن كان يأخذ صف اليونان ويدافع عنهم بشدة، نجده يسير رويداً رويداً نحو جانب الفرس حتى

ص: 27

يصبح من أتباعهم والخاضعين لهم والقائمين بخدمة سلطانهم ونفوذهم، وأمرْ هذا التطور عجيب له قصة شائقة سنعرضها عليك أيها القارئ الكريم في مقالة مقبلة إن شاء الله.

محمد الشحات أيوب

ص: 28

‌من كتاب (البحث عن المستقبل)

إمبراطورية ابن السعود

للأستاذ روم لاندو

بقلم الأستاذ حسن السلماني

طيف ملك

المفروض أن السفارات الأجنبية والمفوضيات السياسية أنها تنقل البلاد التي تمثلها إلى قلب عاصمة الإنجليز. فمن (بلجريف سكوير) تفوح روائح سيام، ومن (بورتلند بليس) تهب نسائم شيلي. ولكن مما يؤسف له أن أغلب هذه السفارات تستبدل بعادات بلادها عادات الأقطار التي أرسلت إليها، وهذه لعمري نقص كبير في التمثيل. أما في المفوضية العربية بلندن فلا تجد مظاهر الحياة الأوربية متسعاً لها.

لقد تعرفت بالشيخ حافظ وهبة وزير المملكة لعربية السعودية المفوض بأحد المؤتمرات التي عقدت بلندن والتي اشتركنا سوية بها. ومعرفتنا هذه أدت إلى توحيد العلاقات الودية بيننا فزالت الحجب وصرنا صديقين حميمين.

ولم تكن البساطة الظاهرة في مقام الشيخ حافظ ولا النكهة الطيبة في القهوة العربية التي يكثر تقديمها لزائريه مما جعلتني أكثر التردد على المفوضية العربية، وإنما شوقي لزيارة المملكة العربية السعودية هو الذي كان يدعوني إلى ذلك. والحقيقة أن طيف بن السعود ملك البادية المخيم على تلك المفوضية كان يجذبني دائماً إلى قاعة الاستقبال في (إيتون بليس)

وعندما طلبت التأشير على جواز سفري أفهمت أن أمر ذلك بيد جلالة الملك وحده. وليس للوزارة الخارجية أو المفوضيات إلا تقديم طلبات الراغبين بزيارة البلاد له، وهو وحده الذي يجيز لهم الدخول للمملكة، وجلالته يسمح لمن يشاء ويرفض من يشاء. ومن حسن حظي أن الشيخ حافظ وهبة كان على أهبة السفر إلى المملكة العربية السعودية فاغتنمت تلك الفرصة ورجوته أن يقدم طلبي بنفسه لجلالة الملك.

وبعد عشرة أسابيع من مغادرة البلاد الإنجليزية دعيت إلى المفوضية العربية وأخبرت بموافقة سيد الجزيرة العربية على زيارتي لبلاده.

ص: 29

وتتجلى الروح العربية بأجلى مظاهرها في المفوضية العربية بالقاهرة. فبناء المفوضية من الطراز القديم، وغرفة السفير بسيطة خالية من الطنافس الأوربية الغالية، والقائم بشؤون المفوضية يرتدي الملابس العربية البدوية؛ وإن نظراته الحادة النافذة إلى أعماق قلوب زائريه وسمرة محياه واسوداد لحيته توحي لزائريه صورة من صور البادية وساكنيها.

ولا يتحدث السفير لزائريه إلا باللغة العربية، لا لأنه يعجز عن التكلم بلغة أخرى، ولكن لأن العرف العربي يحتم عليه ذلك. ويشعر المتحدث إليه لأول وهلة بأن نفسه تتوق لخيل الصحراء، وتصبو لجمال الرمال، وتشتاق لخيام البادية؛ ولولا ما تقتضيه التقاليد لعاف ما يحيط به من أثاث أوربي لا يلتئم وطبعه، ولاستبدل به الفراش العربي الوثير. وعندما قابلته المرة الأولى تردد في التأشير على جوازي، ولم يفعل ذلك إلا بعد أن أبرق إلى مكة طالباً موافقة جلالة الملك. فلما جاءته الموافقة زاد في إكرامي واعتبرني من ضيوف جلالة سيده. وفي زيارتي الأخيرة للمفوضية أقام لي وليمة عربية فاخرة اختتمها بحديثه الشيق عن الدور المهم الذي لعبه لورنس في الحجاز، ولم نفترق إلا ونحن صديقان حميمان.

جدّة

كانت الباخرة التي أقلتنا من السويس إلى جدة باخرة إيطالية صغيرة لم تر منذ أن أنزلت إلى البحر شيئاً من العناية أو الاهتمام. وكأن الخدم الصوماليين اعتادوا الإهمال حتى فيما يرتدون من ملابس بيضاء. وكانت ابتساماتهم الكثيرة وحسن تصرفهم لا تعوض عن رداءة الطعام. ويبدو لي أن الدعاية الإيطالية أغفلت البواخر الصغيرة المخصصة لنق المسافرين من إيطاليا فجدة فالحبشة. ويعزى سبب ذلك، حسبما أعتقد، إلى أن أغلب راكبي تلك البواخر من الإيطاليين أو المصريين أو العرب.

وكان من بين المسافرين القلائل شاب في قبيل العمر عرفت منه أنه ابن لأحد أغنياء المدينة المنورة قادم من اسطنبول حيث كان يدرس الطب بجامعتها. وكان يرتدي هذا الشاب الملابس الإفرنجية ويتكلم اللغة الإنجليزية والفرنسية، ويكثر من تدوير جرامافونه الصغير. وفي أحد الأيام دعاني إلى سماع جرامافونه في حجرته (قمرته) وما كادت رجلاي تتخطيان عتبة تلك الحجرة حتى شعرت بأن جميع المتناقضات اجتمعت في ذلك الشاب، وأن معالم المدينة الغربية وعالم الطب الحديث لا أثر لهما في تلك الحجرة

ص: 30

الصغيرة. فالمقاعد والكراسي، وحتى قاع الحجرة مغطاة بالرزم وبالصناديق وبالعلب، وكأن أحواض الغسيل خصصت لحفظ الموز والبرتقال، والرفوف عملت للطعام ولتعليق اللحم. والويل لمن أراد التنقل في تلك الحجرة الضيقة، فإن قدميه لا بد أن تصطدما بقدر أو بآنية ملقاة على الأرض، أو قد تزلان من أثر قشرة موز أو قطعة من البرتقال أليس هذا من المتناقضات؟ أو ليس بغريب أن تجد شاباً يدرس الطب بجامعة اسطنبول يستطيب طهي الطعام بنفسه وأكله على الطريقة العربية وحده؟

ومن الغريب حقاً أن ذلك الشاب لم يتردد في تقديمه الخمر والسجاير لمعارفه وهو عليم بأن قانون بلاده يحرم ذلك. إن في أفعال هذا الشاب يتجلى كرم المسلمين ممتزجاً بالملاذ التي لا يبيحها الدين الإسلامي. وكنت طوال سفري أسائل نفسي: أكان هذا الشاب مثالاً لشباب بلاده، أم قدر لي أن ألاقي في المملكة الوهابية ما لاقيته في مصر؟

و (جدة) بلد غريب كأنه مجموعة من البيوت الخالية في التناسق قذفها اليم إلى شاطئه المقفر المغطى بالرمال. فمياه البحر أمامها، والتلال الجرداء خلفها، والرمال تغطي الميمنة منها والميسرة. ومما يزيد في غرابة منظرها اختلاف أشكال أبنيتها: فبعضها مرتفع متعدد الطبقات، وبعضها واطئ يقتصر على طابق أو طابقين. وجميع هذه الأبنية مطلية بالجير المطفأ. والمدينة محاطة بسور قديم يضم تلك (الناطحات) البيضاء. أما أزقتها فضيقة، وهذا ما يجعل المنازل تبدو أعلى مما هي عليه من ارتفاع.

وتظهر (جدة) للقادم بأبنيتها الطينية العالية كأنها صورة ممسوخة لمدينة (نيويورك)، لكن ما يكاد يقترب المسافر من الشاطئ، حتى تظهر له الشرفات الخشبية التي يدعوها الناس هناك (بالمشربيات)، ويستطيع تمييز النقوش الجبسية المقتبسة من الفن الفارسي أو الطراز التركي التي تزين أبواب المنازل، والتي لا تعبر عن ذوق أو عن دقة في الصنعة أو مهارة في العمل.

ولا يفصل الصحراء عن المدينة إلا سور قديم كثير الأبواب عديد المسالك. وتحتل الأسواق والمقاهي وميادين بيع الحيوانات محلاً وسطاً بين المنازل. أما المفوضيات الأجنبية، فليست ببعيدة عن الأسواق والمحلات التجارية. ولولا كثرة الذباب وانتشار الغبار وضيق الطرق وقذارتها، لصح أن يقال: إن (جدة) مدينة جميلة. وتبدو المدينة أثناء الليل -

ص: 31

وبالأخص في الليالي المقمرة - أكثر روعة وجمالاً مما هي عليه في النهار. وإن المتجول في أزقتها الضيقة، ليحسب نفسه خلال تلك الليالي النيرة في عالم غريب أو في مدينة خالية. . .

الله أكبر. . .

وصلت (جدة) خلال موسم الحج لمكة. وتبعد مكة هذه خمسة وخمسين ميلاً عن جدة مينائها المهم والموضع الذي يضع الحاج ركبه فيه بعد طول السفر، وبعد ما قاسى من صنوف المشاق ما قاسى. وهي المرسى الذي ترسو فيه البواخر المقلة للحجاج من أقصى الأرض ومن أدانيها: من جاوة وسومطرة، من الهند وزنزبار، من السودان ومراكش، من الهند الصينية والصومال.

وقد بلغ عدد الحجاج في ذلك العام نيفاً ومائة ألف ازدحمت بهم الشوارع، واكتظت بهم الأسواق، وضاقت بهم المدينة. وكانوا يمثلون جميع الأجناس البشرية ومختلف ألوان الناس، ففيهم السيدات الجاويات الرشيقات اللاتي يسترن أجسامهن المستدقة بالساري الحريري الجميل، ويتجولن في الشوارع والأسواق جنباً لجنب مع أبناء البادية أصحاب النظرات الشزرة والشعور الكثة المغبرة، والأصوات الخشنة العالية؛ وفيهم الصينيون بعيونهم اللوزية، واليمانيون بجفونهم المثقلة، والنجديون بسيمائهم الناطقة بشدتهم وخشونتهم، والذين سرحوا شعورهم وضمخوها بالطيوب، وكحلوا عيونهم بالكحل، الفاحم، وبينهم من وضع حول عنقه قلادة مرجانية أو عقداً زجاجياً، وبينهم من تدلت من بيد أصابعه مسبحة كهرمانية طويلة، وفيهم من تجلبب بالملابس الكثيفة، ومن ترك جسمه عارياً إلا من قطعة قماش صغيرة تستر ما يجب ستره.

وفي اليوم الذي وصلت فيه (جدة) كان بعض الحجاج في عودته من مكة، وبعضهم يتأهب للسفر لزيارة قبر النبي (ص). ومنذ أن وطئت قدماي أرض الحجاز، أخذت أسائل نفسي عن العوامل التي توحد بين هذه الأقوام المختلفة خلال أيام الحج. ولكنني لم أقض بينهم أيام حتى أدركت أن قدسية البيت بمكة وحرمة القبر بالمدينة أقوى العوامل في التأليف بين قلوب هذا العدد العديد في المسلمين، وفي توجيههم وجهة واحدة على ما هم عليه من تباين في القومية واختلاف في العنصرية. ومع أنهم لا يتخاطبون فيما بينهم بلغة واحدة، ولا

ص: 32

يتبعون تقاليد متماثلة، ولا تجمعهم رغبات موحدة، فإن وحدة إيمانهم خلقت بينهم ألفة ومحبة تعجز عن خلقها أي وحدة سياسية أو مبدأ اقتصادي آخر.

وفي جميع زياراتي للحجاز لم أشاهد أو أسمع عن شجار واحد وقع بين أهل تلك البلاد وبين إخوانهم الحجاج، مع أن جل أولئك الناس كانوا من الذين لا يضعون حداً لمشاكلهم ولاختلافاتهم إلا بالسيف والخنجر. ولا يرجع هذا لشدة بأس الحكومة وقوة شكيمتها فحسب، بل إلى تغلغل العقيدة في نفوسهم، واستقرار الإيمان في أعماق قلوبهم.

ولا نعني بهذا أن ليس من خلاف بين الطوائف الإسلامية، ولكن الذي يمضي لزيارة الحجاز أثناء موسم الحج يؤمن معي أن في الدين الإسلامي قوى تؤلف بين معتنقيه أشد وأقوى من تلك التي تفرق بينهم. والذي ينعم النظر ويطيل التأمل في أولئك الحجاج لا بد أن يشعر بأنهم بمجيئهم إلى هذه الأرض المقدسة قد طهرا أنفسهم من أدران النفعية الداعية لكل خلاف والمسببة لكل تفرقة. وكأن القبلة التي يتجهون إليها طهرت نفوسهم وألانت قلوبهم، فصيرتها أكثر تسامحاُ وأقل قساوة مما كانت عليه قبل أن تطأ أقدامهم تربة الحجاز.

ولا أدري، أيحق لنا - نحن أبناء الغرب - أن نستمر في تبجحنا بأن المسيحية تستطيع أن تؤلف بين طوائفنا المتباينة وأقوامنا المتناحرة، فتضع بذلك أسس الإخاء وتشيد أركان المحبة في أوربا المسيحية؟ متى يا ترى نؤمن. وقد كثرت اختلافاتنا فأثرت في نفوسنا الخيلاء والفخار بأن الدين أشد القوى التي تستطيع الوقوف بوجه ما يهدد كياننا الاجتماعي من أخطار؟

يعتقد المسلمون أجمعون أن الحج للبيت أعظم ما يقومون به من عمل في حياتهم. وجلهم يؤمن بأن هذه الفريضة الدينية أكثر أهمية وأوفر أجراً من كل ما يأتيه المسلم من شعائر دينية أو من طقوس مذهبية. فالحج فريضة على كل مسلم ومسلمة، وفيه يمتحن الخالق عباده المؤمنين. ويندر بينهم من لا يعلل نفسه ويمنيها بزيارة الأرض المقدسة، ما دام أول الحج عبادة وآخره عيداً.

والغريب من أمر هؤلاء المسلمين أنهم يتهافتون على الحج على ما فيه من مصاعب ومتاعب وأهوال. وهم شاعرون بأن تلك الجهود والشدائد قد تودي بحياتهم كمال أودت بحياة الألوف من إخوانهم من قبل، فكانت خاتمة حياتهم رقدة هادئة بين طيات التربة

ص: 33

المباركة أو بجوار البيت المقدس. ومن حسن حظ المسلمين أنه منذ أن وضع ابن السعود يديه على أرض الحجاز ساد البلاد أمان وعمها رخاء، وأخذ الحجاج يتمتعون باستقرار واطمئنان بعد ما ظلوا سنين طويلة يقاسون، فضلاً عن أهوال السفر ومشاق الطريق، اعتداء البدو من سكان الحجاز ونهبهم لأموالهم وأمتعتهم وطمع الموظفين الحجازيين فيهم.

وما تكاد تطأ قدما الحاج أرض الحجاز ويمتع بصره بمنظر جبالها الجرداء ووديانها القاحلة حتى يشعر بزوال ما كان يقاسيه من عذاب أثناء سفره الشاق. فكأن رؤية شواطئ البلاد المقدسة تذهب التعب عن نفسه، وتزيل المصاعب من سبيله، وتنسيه ما ينتظره من متاعب عند ما يعود إلى وطنه. وكم كان عجبي شديداً عندما شاهدت في صباح يوم وصولي إلى جدة جماعة من الحجاج شاخصين نحو تلك التلال الجرداء التي تخفي وراءها فبلة المسلمين وأمنية كل فرد منهم. وكانت عيونهم تشع بنور الفرح، وأفواههم صامتة حائرة، وقلوبهم خافقة واجفة من وقع ذلك المنظر الذي كان يوحي إليهم السر الإلهي والإيمان الصادق.

والله وحده يعلم ما سيشعرون به عندما يقفون خاشعين نادمين على ما اقترفوا من ذنوب وما آتوه من آثام حيال الكعبة المقدسة بكسوتها الموشاة بالذهب، أو عندما يستلمون بأيديهم المرتعشة الحجر الأسود المبارك، وعندما يضعون شفاههم عليه؛ ذلك الحجر الذي جاء به جبريل من السماء لإبراهيم الخليل، والذي ظل المسلمون يقدسونه طوال القرون الثلاثة عشر الماضية.

إن الأيام التي يقضيها الحاج بمكة والتي لا تزيد على خمسة عشر يوماً تمر كالحلم عليهم، وفي هذه الأيام القلائل ينصرفون إلى عبادة الله متناسين ما في الأرض من متاع زائل، كاظمين ما في قلوبهم من أحقاد، كابتين ما في نفوسهم من شهوات، متغاضين عن جميع الاختلافات العنصرية، والفروق المذهبية، والمطامع الفردية؛ كأنما اجتمعت أرواحهم جميعاً تحت سماء الكعبة التي سطرت على غطائها آيات القرآن وأحاديث الرسول.

وكم من الحجاج يستطيع التعبير عن شعوره أثناء وقفته تلك؟ إن ذلك اليوم هو اليوم الذي تنتصر فيه الروح على الجسد؛ وإن تلك الوقفة في ذلك الحرم المترامي الأطراف لوقفة تقرب المسلم من المسلم، وتجعله يسعر نحو أخيه في الدين بأعظم ما يشعر به نحو ابن

ص: 34

أمه.

البصرة - العراق

حسن السلمان

ص: 35

‌9 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي إدورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل الأول

وملابس أغلب الموسرات من الطبقة الدنيا تتألف من سروال كشنتيان السيدات الراقيات، إلا أنه من أبيض القطن أو الكتان الواحد الشكل؛ وقميص أزرق ن الكتان أو القطن لا يكون بسعة قميص الرجال، يصل إلى القدمين؛ وبرقع أسود من غليظ الكريب؛ وطرحة زرقاء قاتمة من الموصلي أو الكتان. وبعضهن يلبسن فوق القميص أو بدلاً منه ثوباً من الكتان كثوب السيدات الراقيات (شكل 26)، وبعضهن يلبسن قميصاً قصيراً تحت القميص الطويل ويضفن إليه أحياناً صديرياً أو عنترياً. وتشمر أكمام الثوب فوق الرأس حتى لا تضايق الشخص أو لتحل محل الطرحة. وقد يتدثر بعضهن فوق هذه الثياب بمعطف ذي مربعات شطرنجية يشبه الحبرة ويلبس مثلها أو مثل الطرحة ويتكون من قطعتين من القطن المنسوج أشكالاً مربعة زرقاء وبيضاء، أو خطوطاً متشابكة تصبغ أطرافه بصبغ أحمر. ويسمى (ملاية)(شكل رقم 27). ويزين أعلى البرقع بلآلي زائفة، وقطع صغيرة من النقود الذهبية، وبعض الحلي الذهبية الصغيرة المسماة (برق) وأحياناً بخرزة من المرجان تحتها قطعة من النقود الفضية وبعض النقود الذهبية وغالباً بحبات من النحاس أو الفضة تسمى (عيون) تعلق في الأطراف (شكل رقم 28). وتلف الرأس بمنديل أسود يسمى (عصبة) بحاشية حمراء وصفراء، يطوى منحرفاً ويعقد عقدة واحدة من الخلف (شكل رقم 29). وقد يلبس الطربوش والفاروديه بدلاً من العصبة. وأحس الأحذية التي ينتعلها نساء الرعاع تكون من الجلد الأحمر المراكشي المنثني الطرف ولكن يغلب أن يكون طرفها مستديراً. والبرقع والنعال شائعا الاستعمال في القاهرة والوجه البحري. أما

ص: 36

في الصعيد فقلما يستعملان وعند الضرورة يستبدل بالبرقع إسدال الطرحة على الوجه. والملاحظ أن نساء الطبقات السفلى حتى في العاصمة لا يتنقبن. والثياب الشائعة في معظم القطر المصري هي القميص الأزرق أي الثوب، والطرحة. أما في أقاليم الصعيد الأقصى، وعلى الأخص ما فوق مدينة أخميم، فأغلب نسائها يتغطين بقطعة من الصوف الأسمر القاتم تسمى (هلالية) تلف حول الجسم وتضم أطرافها فوق الكتفين (شكل رقم 30) وتستعمل قطعة مثلها كطرحة. وهذا الثوب القاتم اللون بالرغم من جماله يشوه هيئتهم كالوشم الأزرق الذي يرسمنه على شفاههن. والكثير من نساء الطبقة الدنيا يتحلين بحلي زائفة مختلفة من أقراط وعقود وأساور ومن خزام الأنف أحياناً، وبعضها موصوفة ومصورة في ملحق الكتاب.

ويرى المصريات أن واجب تغطية الرأس وما خلفه أولى من تغطية الوجه، وحجب الوجه أولى من حجب أكثر أجزاء الجسم. وكثيراً ما رأيت في هذا البلد نساء لا تكاد تسترهن أسمالهن الحقيرة، وأخريات في زهرة الشباب أو في متوسط العمر لا يحملن على أجسادهن غير خرقة ضيقة تشد حول الوركين.

الفص الثاني

الطفولة وتربية الأطفال

يسترشد المسلمون في تربية أطفالهم والاعتناء بهم بأوامر الرسول (صلعم) وتعاليم الأئمة. ومن أول الواجبات عند ولادة الطفل التأذين في أذنه اليمنى، ولا بد أن يكون المؤذن ذكراً. ويقرأ بعضهم الإقامة، وهي تشبه الآذان تقريباً، في الأذن اليسرى. والغرض من ذلك حفظ الطفل من الجن. وقد يتلى للغرض نفسه عبارة:(باسم الرسول وابن عمه علي)

وكانت استشارة المنجمين قبل تسمية الطفل واتباع ما يختارونه له، عادة شائعة في مصر والبلاد الإسلامية الأخرى. وقلما يتبع أحد الآن تلك العادة القديمة فيختار الأب لابنه اسماً من غير احتفال ولا تكلف؛ أما تسمية البنت فتكون عادة باختيار الأم. وكثيراً ما يسمى الأولاد بأسماء الرسول (صلعم)(محمد، أحمد أو مصطفى) أو أهل البيت (علي، حسن، حسين الخ. . .) أو أصحابه الأفاضل (عمر، عثمان، عمر الخ. . .) أو الرسل والأنبياء

ص: 37

مثل: (إبراهيم، اسحق، إسماعيل، يعقوب، موسى، داود، سليمان الخ. . .) أو يسمون عبد الله، عبد الرحمن، عبد القادر وما شابه ذلك. . . أما البنات فكثيراً ما يسمين بأسماء نساء الرسول أو ابنته الحبيبة أو غيرهن من نساء عائلته مثل خديجة، عائشة، أمنه، فاطمة، زينب أو يسمين بأسماء تعني محبوبة، مبروكة، نفيسة الخ. . . أو بأسماء الزهور أو أي معنى لطيف آخر.

ولما كان الاسم لا يتحتم توارثه على العموم، فقد جرت العادة أن يميز الشخص بعلم أو أكثر: إما (كنية) مثل (أبو علي)، (ابن أحمد). . . الخ. أو (لقب) مثل (نور الدين)، (الطويل) الخ. . . أو (اسم) يتعلق بالبلد أو المولد أو الأصل أو المذهب أو التجارة أو الحرفة. . . الخ. مثل: الرشيدي، الصباغ، التاجر. وكثيراً ما يتوارث بعض هذه الأعلام وعلى الأخص الألقاب والنسب فتصبح لقب العائلة.

أما ملابس أطفال الطبقتين الوسطى والعليا فهي كملابس الوالدين، ولكنها قذرة غير مهندمة. ويلبس أطفال الفقراء إما قميصاً وطاقية من القطن أو طربوشاً، وإما أن يتركوا عراة حتى سن السابعة أو ما بعد ذلك. وقد لا يصعب عليهم الحصول على خرقة تستر بعض الجسم كما في أغلب القرى. ويلاحظ أن البنات الصغيرات اللاتي لا يملكن إلا قطعة من رث النسيج لا تكفي الجسم والرأس معاً، يفضلن تغطية الرأس، وأحياناً يدفعن الدلال إلى حجب الوجه بفضلة من النسيج بينما يترك الجسم كله مكشوفاً. أما الراقيات في سن الرابعة أو الخامسة، فيلبسن كأمهاتهن النقاب الأبيض. ويحلق رأس الولد، حينما يبلغ الثانية أو الثالثة أو قبل ذلك، وتترك له خصلة في وسط الرأٍس وأخرى فوق الجبهة. وقلما يحلق رأس البنات. ويحمل الأطفال فوق أكتاف أمهاتهم ومربياتهم على هيئة ركوب الخيل، أما إذا كانت المسافة قريبة فيحملون فوق الورك.

لا تظهر الموسرات في تربية أطفالهن تسامحاً زائداً وشفقة مفرطة، ولكن الفقيرات لا يبذلن نحوهم إلا العناية القليلة بقدر ما تقتضيه الطبيعة من الحاجة الضرورية. وقد جعل الشرع تمام الرضاعة حولين كاملين إلا إذا وافق الزوج على غير ذلك، فيفطم الطفل عادة بعد السنة الأولى أو بعد سنة ونصف سنة. وينشأ الطفل - ذكراً أو أنثى - في الأوساط الموسرة، بين جدران الحريم، أو على الأقل داخل المنزل. ويستمر هكذا - تحت رعاية

ص: 38

النساء - حتى يعهد به إلى معلم يعلمه القراءة والكتابة كل يوم. ومن المهم ملاحظة أن ما يتعلمه الطفل في الحريم من واجبات الاحترام المشوبة بالعطف والمحبة نحو الوالدين وكبار السن، يهيئه للاتصال بالعالم الخارجي كما سترى بعد قليل.

وكثيراً ما يصطحب النساء أطفالهن عند الخروج للزيارة أو للتنزه؛ فتحمل كل جارية أو خادمة طفلاً أو تجلسه أمامها على الحمار، إذ جرت العادة أن تركب الخادمات مثل سيداتهن الحمير. وكان النساء إذا ركبن الحمير أدلين كل ساق علىجانب ولكن قلما ينعم الأطفال الأغنياء بهذه التسلية الهينة؛ فقد أثر على صحتهم طول الحجاب وشدة العناية وإفراط التغذية؛ فيصبحون لذلك كثيري التقلب، متكبرين، أنانيين. ويندر كذلك أن يشتد نساء الطبقة الوسطى في تربية أطفالهن. ويتوقف تقدير الزوج لزوجه أو تقدير الناس لها إلى درجة كبيرة على كثرة النسل والعناية بالأطفال؛ لأن الشرقيين رجالاً ونساء، أغنياء وفقراء، يعتبرون العقم لعنة وعاراً. ومن الشائن أن يطلق الرجل امرأته بلا سبب ما دامت قد ولدت له طفلاً وما دام الطفل حياً. فالمرأة الولود تكون موضعاً لحب الزوج واحترام الناس، وبيتها يكون مثابة للسرور والإيناس.

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 39

‌ليالي القاهرة

بين الشاعر والريح

للدكتور إبراهيم ناجي

الشاعر:

لَسْتُ أَنْسَى أبَداً

سَاعَةً في الْعُمُرِ

تَحْتَ رِيحٍ صفَقَّتْ

لاِرْتقاَص الْمَطَرِ!!

نَوَّحَتْ لِلذِّكرِ

وَشَكَتْ لِلْقَمرِ

وَإِذا ما طَرِبَتْ

عَرْبَدَتْ في الشَّجَرِ

هَاكَ مَا قَدْ صَبَّتِ الري

حُ بأُذْن الشاعرِ

وهْيَ تُغْرِي القَلْبَ إغْرَا

َء النَّصِيحِ الفاجرِ

الريح:

أوَ كلُ الُحْب في رَأ

يكَ غُفْرَانٌ وَصَفْحُ

أيُّهَا الشَّاعرُ تَغْفُو

تَذْكُرُ الْعَهْدَ وَتَصْحُو

وَإِذا مَا التَامُ جُرْحٌ

جَدَّ بالتَّذْكاَرِ جُرْحُ

فَتَعَلمْ كيفَ تَنْسَى

وَتَعلمْ كَيْفَ تَمْحُو

هَاكَ فَانْظُرْ عدَدَ الرَّمْ

لِ قُلُوباً وَنَساءْ

فَتَخَبَّرْ مَا تَشاءْ

ذَهَبَ الْعُمْرُ هَباءْ

ضَلَّ في الأَرْضِ الذي يَنْ

شُدُ أَبْناء السَّمَاءْ

أيُّ رُوحَانيةٍ تُعْ

صَرُ مِنْ طِينٍ وَمَاءْ

الشاعر:

أيُّها الريحُ أجَلْ لَكنَّمِا

هيَ حُبي وَتَعِلاْتي وَيَأسي

هِيَ في الْغَيْبِ لقلْبي خُلقَتْ

أَشْرَقَتْ مِنْ قْبلِ أَنْ تُشْرِقَ شَمسي

فَعَلَى تَذْكاَرِهَا أطْبَقْتُ عُيَنْي

وَعَلَى مَوْعِدِها وَسَّدْتُ رَأسِي

يَا لَها مِنْ صَيْحَةٍ مَا بَعَثَتْ

عنْدَهُ غَيْرَ أَلِيمِ الذكرِ

ص: 40

أَرِقَتْ في جَنْبهِ فَاسْتَيْقَظَتْ

كَبَقَايَا خِنْجَرٍ مُنْكَسرِ

لَمَعَ النَّهْرُ وَنَادَاهُ لَهُ

فَمَشَى مُنْحَدراً لِلنَّهرِ

ناَضِبَ الزَّادِ وَمَا مِنْ سَفَرٍ

دُونَ زَادٍ غَيْرُ هَذا السَّفرِ

الشاعر:

يَا حَبيبي كلُّ شيْء بقَضَاءْ

مَا بِأيْديِنَا خُلِقْنَا تُعَسَاءْ

رُبَّما تَجْمَعُنَا أَقْدَارُنَا

ذاتَ يَوْمٍ بَعْدَ مَاعَزَّ اللقَاءْ

فَإذا أَنْكَرَ خلُّ خِلهُ

وَتَلَافَيْنَا لِقَاَء الْغُرَبَاءْ

وَمشَى كلُّ إِلى غَايِتِهِ

لَا تَقُلْ شِئْناً وَقُلْ ليَ الَحْظُّ شَاءْ

إبراهيم ناجي

ص: 41

‌صرخة!!

للأديب عبد الرحمن الخميسي

عَلامََ أَضْحَكُ وَالآفاقُ بَاكِيةُ

وَالشَّمْسُ تَحْجُبُهَا الأنَواءُ وَالظُّلمُ

وَالريحُ قُد دَمْدَمَتْ في السَّهْلِ فَاختَنَقَتْ

بِهَا الأزَاهِرُ صَرْعَى وَهْيَ تَبْتَسمُ

وَالسَّيلُ يُجَرْفُ مِنْ يَلقَاهُ مُؤتَلقاً

حَيَّا وَيَتَركُ من أَحْرَى بهِ الْعَدَمُ

وَالنَّارُ تأكلُ ما اخضَرَّتْ مْناَبتهُ

أمَّا الَهِشيمُ فَتُبْقِى عُمْرَهُ الرمَمُ

عَلامََ أَضْحَكُ يا رَباهُ مِنْ زَمَنِي؟

وَشاطئَي فَوْقَهُ الأَهْوَالُ تَرْتَطمُ!

لَكِنهَا ضحْكةُ البُرْكانِ قَاَذفةً

مِنْ قلبيَ النَّارَ أَذكى أصْلَهَا الأَلمُ

إني أَقُولُ لهذا الدَّهرِ في صَلَفٍ:

إشْرَبْ دِمائيَ وَاثمَلْ أيُّها النهِيمُ!

وَخُذْ فَهذا فُؤادِي في يَدِيَ قَلقٌ

واشبعَ فيهاتَ يغشَى مُهْجَتي السأَمُ

هَيهاتَ تَبْلغُ إذلالِي وَتُخضِعُني

إني عَتِيٌ قَوِيٌ ثَائِرُ بَرِمُ!

وَإنْ تَمزقْ ضُلوعي منكَ صَاِئَبةُ

فَفي فَمِي مِنْْ جِرَاحي بَسْمَةُ وَدَمُ!

عبد الرحمن الخميسي

ص: 42

‌البريد الأدبي

حول كلمة (هناء)

سبق للأدباء أن قتلوا لفظة (هناء) بحثاً منذ ست سنوات ولا بأس من إيراد طرف من أقوالهم تعميماً للفائدة:

قال الأستاذ أسعد خليل داغر: إن الهناء صحيح، لأنه اسم مصدر من هنأ بتشديد النون كالسلام من سلم والعزاء من عزى والكلام من كلم

وقال الأستاذ يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء: اشتهر في هذه الأيام التي كثر فيها الاجتهاد وشغف الناس بالانتقاد أن الواجب أن يقال هناءة لا هناء، وهذا من قصور الاطلاع. ففي كتاب الهمز لأبى زيد الأنصاري المطبوع ببيروت صفحة 25 ما يفيد صحة ذلك ووروده. وكذلك في كتاب (الفلك المشحون) ليونس المكي المتوفى في القرن الثامن ما يفيد ذلك أيضاً (ص163) ومثل ذلك قول الأديب الكبير ابن نباته:

هناء محا ذاك العزاء المقدما

فما عبس المحزون حتى تبسما

وقول إمام العربية محمد بن مالك في حروف الزيادة ذلك البيت المشهور:

هناء وتسليم تلا يوم أنسه

نهاية مسئول أمام وتسهيل

وهو الذي قال: إني قرأت صحاح الجوهري فلم أستفد منه غير كلمتين

وقال الأستاذ محمد الدسوقي صاحب كتاب (الألفاظ العامي): الهناء والهناءة بمعنى - جاء صحيفة 24 من الجزء الرابع من المخصص: هنأني يهنئني والاسم الهناء.

وقال الأستاذ وحيد بأهرام 561935: إن الهناء لفظ عربي

وكفى ذكر وروده في تاج اللغة وصحاح العربية جاء فيه: هنأ

يهنئني بفتح فسكون، ويهنئوني فتح فسكون هنأ وهناء.

ترى أيكتفي اللغويون والمتأدبون بما تقدم فيدعو كل منهم لأخيه بالهناء، أم سوف يقوم قائم منهم بعد ست سنوات أخر فينكر هذا اللفظ؟

يجمل بالجمع اللغوي أن يهتم بمثل هذا الصواب المخطأ ويذيعه في نشرات على الناس، فمن الخير تصحيح الخطأ، أما تخطئة الصواب، فجريمة لا تغتفر.

ص: 43

(القناطرة الخيرية)

محمد فتح الباب

إلى الأستاذ الكبير أ. ع

ذكر الأستاذ الكبير (أ. ع) في العدد 424 من الرسالة أن الكتاب والبلغاء يخطئون في استعمال كلمة (عَبْر) في نحو قول الصحف (ومن زمن قريب ادعت اليابان لنفسها حق مرور قواتها عَبْر شمال الهند الصينية) وقولها: (كلما فرغت مصانعنا من إخراج طائراتنا الضخمة أو جاءت إلى هنا عبر الأطلنطي) وقال إنها ترجمة خاطئة لكلمة إنجليزية ذكرها

وإن الكتاب جعلوها في نسج الكلام ظفراً كما يصنع الإنجليز بكلمتهم فأخرجوها عن معناها ووضعها اللغوي بلا مسوغ مطلقاً.

قلت: قد جاءت هذه الكلمة في شعر إسلامي لسواد بن قارب الكاهن حين وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً

روى صاحب الجمهرة أن سواداً قال لعمر بن الخطاب: إن نجياً من الجن أتاه في ثلاث ليال متتابعة وبشره بظهور نبي يدعو إلى الحق. قال سواد: (فلما أصبحت يا أمير المؤمنين أرسلت لناقة من إبلي وأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وبايعت وأنشأت أقول):

أتاني نجّي بعد هدء ورقدة

ولم يك فيما قد عهدت بكاذب

ثلاث ليال قوله كل ليلة

أتاك رسول من لؤي بن غالب

فشمَّرت عن ذيلي الإزار وأرقلتْ

بيَ الدعلبُ الوجناء عَبْر السباسب

(مقدمة جمهرة أشعار العرب ص26)

ومن ثم يرى الأستاذ الكبير أن الكلمة صحيحة كما يستعملها الكتاب على عهدنا.

ولو أننا أردنا تخريج الكلمة على وجه صحيح لوجدنا أكر من وجه خلافاً لما يقول الأستاذ، واقرب هذه الوجوه عندي أن تكون عَبْر مصدراً مراداً به اسم الفاعل فتكون حالاً مما قبلها ويكون التقدير (مرور قواتها عابرة شمال الهند الخ) و (أو جاءت إلى هنا عابرة الأطلنطي)

والمصدر يقع في موضع اسم الفاعل كما قال الله عز وجل: (إنْ أصبحَ ماؤكمُ غوراً) أي غائراً، ويقال رجل عدل أي عادل ويوم غمُ أي غامُ، كما يقع اسم الفاعل في موضع

ص: 44

المصدر نحو قول الشاعر:

ألم ترني عاهدت ربي وإنني

لبين رتاج قائماً ومقام

على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً

ولا خارجاً منِ فيَّ زور كلام

وبعد. فلعلي أتيت الأستاذ الكبير بما يطمئن به قلبه والسلام.

(بني سويف)

محمد محمود رضوان

المدرس بالمدرسة الابتدائية

حول تقرير مراقب التعليم الأولي

كان تقرير الأستاذ مصطفى شكري بك المنشور بعدد 431 من (الرسالة) بمثابة اعتراف صريح ببراءة المعلم من تبعة إخفاق التعليم الإلزامي، وإلقاء هذه التبعة على كاهل الذين وضعوا أصوله ورسموا فصوله، وأسسوا قواعده، وشرعوا مناهجه! وأهم هذه الحقائق التي وردت في التقرير هي: عدم صلاحية النظام النصف يومي، وعدم كفاية الزمن لدراسة مواد المنهاج، وإرهاق المعلمين بتدريس 48 حصة في الأسبوع، وضآلة المرتبات، وعدم العدالة في الترقيات، وتنازع السلطة بين الوزارة ومجالس المديريات. . .

هذه حقائق لا مراء فيها، ولا يستطيع أحد أن ينكر أثرها في فشل هذا التعليم، كما لا يستطيع أحد أن يحمل المعلم تبعة شيء منها، لأنها ليست من عمله، وقد رفع صوته منادياً بإصلاحها فلم يسمع له أحد قولاً. . .!!

وقد أشار التقرير إلى ضرورة العناية بإعداد المعلم، وعندي أن الوزارة قد أهملت المعلم من ناحيتين:

الأولى عدم استقرار المناهج في مدارس المعلمين، وعدم موافقتها لمقتضى الحال. والثانية إهمال مكتبات المدارس الإلزامية وعدم تزويدها بالكتب النافعة المفيدة التي يمكن للمعلم أن يرجع إليها ويستعين بها على توسيع ثقافته. فليس في مكتبة المدرسة الإلزامية غير مختار الصحاح وتفسير الجلالين!!

أما علوم اللغة والدين والفقه والتاريخ والأدب وغيرها، فليس فيها منها ولا كتاب واحد!

ص: 45

على أن هذا لم يمنع الكثير من المعلمين من الاعتماد على أنفسهم في اقتناء الكتب المختارة والمجلات النافعة. فاستطاعوا بفضل ذلك أن يظهروا على غيرهم، وأن يحصلوا على الشهادات العالية من منازلهم.

ومن غريب المفارقات أن الوزارة بينما تبخل على المعلم الإلزامي حتى بالكتاب الذي يستفيد منه، تعطى الكثير من الكتب لمكتبات مدارسها الثانوية والابتدائية، وهي تعلم أن هذه الكتب ستبقى كما هي لا تقلب صفحاتها يد، ولا تنظر إليها عين، وأن شأنها شأن القرط عند مقطوعة الأذنين!

فعسى أن يكون لتقرير الأستاذ المراقب عند الوزارة من الأثر العملي ما يرتجيه المشفقون وما يقدره المخلصون.

(المنصورة)

علي عبد الله

حول نقد كتاب (كليلة ودمنة)

ستصدر ابتداءً من العدد المقبل بقية مقالات الدكتور عبد الوهاب عزام في الرد على نقد الأستاذ عبد السلام هارون في كتاب (كليلة ودمنة)

ص: 46

‌القصص

حوار عند الغروب

للقاص الفرنسي بيير لويس

للأديب عبد الغني العطري

(بيير لويس شخصية أدبية فذة لها مكانتها الرفيعة في عالم الرواية والقصة والفكر. ولو لم يكن لهذا الكاتب سوى روايته الخالدة (آفروديت) التي تجري حوادثها في مدينة الإسكندرية، ولو لم يكن له من أبطاله سوى (كريزيس) صاحبة تمثال (حياة خالدة) لكان ذلك كافيا لجعله في مقدمة زعماء الرواية العبقريين.

وكما برع لويس في الرواية فقد برع في القصة والأقصوصة أيضاً، وله في ذل مجموعة نفيسة سماها قصص مختارة، والقطعة التي نقدمها اليوم لقراء الرسالة الزهراء تحتل المكان الثاني في هذه المجموعة الرائعة. ولعل أقوى ميزات هذه الأقصوصة الحوار الطريف (الساذج) الذي أجراه الكاتب على لسان راعية وراع.

(ع. ع)

أركاس - أيتها الفتاة. . . يا ذات العينين السوداوين

مليتا - لا تمسني!

- لن أمسك. . . سأظل بعيداً عنك - كما ترين - يا أخت آفروديت ويا ذات الشعور الجميلة المعقدة على شكل عناقيد من العنب. هأنذا أقف على جانب الطريق دون أن أستطيع الذهاب، لا إلى الذين ينتظرونني، ولا إلى الذين خلفتهم ورائي

مليتا - أذهب! أذهب! إنك تتكلم عبثاً، وتفوه بما لا طائلة تحته أيها الراعي من غير غنم، ويا جواب الطرق المشبوهة الوعرة إذا كنت لا تستطيع بعد سلوك الطريق العام فاذهب إذن عن طريق الحقول، على ألا تطأ قدماك مرجي المخضوضر. أنت الذي لا أعرفه. . . وإلا ناديت واستغثت

- من عساك تنادين في هذه الوحدة؟

- الآلهة التي تسمعني

ص: 47

- إن الآلهة يا فتاتي الصغيرة بعيدة عنك الآن أكثر مما أنا بعيد عنك بكثير ولو كانت على مقربة منك لما منعتني من إبداء إعجابي بجمالك وسحرك، لأنها تفخر بوجهك الصبوح وتزدهي وتعلم أنه تحفتها الرائعة

- صه أيها الراعي صه! إليك عني. لقد حظرت أمي عليَ الإصغاء إلى أقوال الرجال. إني في هذا المكان أرعى نعاجي الكثيرة الصوف وأحافظ عليها إلى أن تتضيف الشمس ثم تأوي إلى مرقدها. يجب عليَ ألا أصغي إلى أصوات الفتيان الذين يمرون بهذا الطريق، مع أنسام المساء والغبار المتطاير

- ولم ذلك؟

- لست أدري السبب، غير أن أمي تعرفه بدلاً مني. . . لم يمض بعد ثلاثة عشر عاماً على ولادتها إياي فوق سريرها المصنوع من ورق الشجر، وسأكون عاقة لها إذا لم أصدع بكل ما تأمرني به

- لم تفهمي يا فتاتي مقصد أمك الرءوم. . . إن أمك طيبة عاقلة، حسناء محترمة. . . لقد حدثتك إذ حدثتك عن البرابرة الذي يجوبون الحقول والأرياف وهم يحملون المجان في يسراهم والسيوف في يمناهم. . . هؤلاء يا فتاتي يستطيعون إيذاءك لأنك ضعيفة وهم أقوياء. . . لقد قتل هؤلاء الأشرار في المدن التي احتلوها خلال الحروب البغيضة كثيراً من العذارى الحسان اللواتي يضاهي جمالهن جمالك. ولئن عثروا بك في طريقهم فلن يشفقوا عليك. . . أما أنا فأي أذى أستطيع إلحاقه بك، ولست أحمل سوى جلد الخروف على كتفيَ، وهذه العصا في يدي. . . انظري إلى ملياً. . . أمخيف أنا إلى هذا الحد؟. . .

- لا أيها الراعي. . . لست مخيفاً. . . إن ألفاظك عذبة ناعمة، لذا يمكنني أن أصغي إليها طويلاً؛ ولكنهم حدثوني فقالوا: إن أعذب الكلام وأحلاه أكثره إمعاناً في الغدر والخداع، وذلك حين يغمغم به شاب في أذني واحدة منا نحن الفتيات. . .

- أأفوز منك بجواب إذا وجهت إليك سؤالاً؟

- أجل. . .

- بم كنت تفكرين تحت الزيتونة السوداء عندما مررت؟

- لا أريد أن أخبرك به. . .

ص: 48

- ولكني أعرفه!

- قله لي. . .

- إذا سمحت لي بالدنو منك، وإلا فسألزم جانب الصمت، لا أستطيع أن أقوله إلا همساً. . . في أذنك، لأنه سرك وليس سري. . . أتأذنين لي بالدنو. . . وأن آخذ يدك بين يدي. . .؟

- قل. . . بم كنت أفكر؟

- في نطاق زفافك. . .

- ولكن. . . من أنبأك بهذا؟ أكنتُ أتحدث بصوت مرتفع؟ أأنت إله أيها الراعي فتقرأ من مسافة بعيدة ما يجول في خواطر العذارى؟. . . لا تنظر إلى هكذا. . . لا تحاول أن تقرأ أفكاري في هذه اللحظة. . .!

- كنت تفكرين بنطاق زفافك وبالرجل المجهول الذي سيحل عقدته ببعض من ألفاظه المعسولة العذبة التي تخشينها الآن. . . تُرى، أتخلو هذه أيضاً من الخيانة والغدر؟

- إني لم أستمع إليها بعد. . .

- ولكنك تستمعين إلى كلماتي، وتنظرين إلى عيني. . .!

- لا أريد بعد أن أراهما. . .

- سترينها في الحلم. . .

- أيها الراعي. . .!

- لماذا ترتعشين عندما آخذ يدك في يديّ. . .؟ لماذا تنحنين عندما أضمك إلى صدري. . . ولم يبحث رأسك الكليل عن كتفي. . .؟

- أيها الراعي. . .!

- أكان في الإمكان أن أضمك هكذا بين ذراعي وأنت شبه عارية. . . لو لم أكن زوجاً لك على وجه التقريب؟

- ولكن لا. . . لست زوجاً لي. . . دعني. . . دعني. . . إني خائفة. . . إليك عني فأنا لا أعرفك. دعني، إن يديك تؤذيني. . . دعني. . . فلست أريدك!

- لم تتحدثين إليَ أيتها الطفلة بلسان أمك؟

ص: 49

- لا ليست هي التي تتحدث إليك، بل أنا التي أتحدث، إني عاقلة مفكرة. إليك عني أيها الراعي فأنا أخجل أن آتي بمثل ما فعلته (تاييس) أو (فيليرا) أو (كلوي) اللواتي لم ينتظرن يوم زفافهن، بل تعلمن أسرار (آفروديت) وأخذن ينسلن أولادهن في الخفاء!. . . لا. . . لا. . . لن أستسلم! في إمكانك أن تمزق قميصي فلن أستسلم إليك أيها الراعي! سأخنق نفسي بيدي هاتين قبل أن تنال مني مأرباً

- ولِمَ كل ذلك؟ بل ماذا صنعت؟ لقد لمست قميصك ولم أمزقه. . . ولثمت نطاقك دون أن أفك عقدته. ليكن ما تشائين! سأتركك تذهبين حيث أردت. . . هيا اذهبي. . . اذهبي. . . لم لا تذهبين؟

- دعني أبكي

- لعلك تحسبين أن حبي لك قليل ضئيل حتى أسلبك من نفسك ثم أدعك تستسلمين إلى أحزانك؟ أكنت أتحدث إليك هكذا مطولاً لو أني لم أكن راغباً منك بغير ساعة من اللذة البهيمية التي تستطيع أية فتاة راعية أن تمنحني إياها؟ أما أنبأتك عيناي بما أريد؟ ولكنك لا تنظرين إليهما أبداً. . . وإنك تحجبين عينيك، وترسلين عبرتيك

- أجل. . .

- ولكن. . . لو شئت لوددت أن أقضي عند قدميك حياة مفعمة بالحب والهوى، ولغمرتك بألفاظي العذبة الناعمة، ولكنت طوقتك بذراعي هاتين، ووضعت رأسي على نهدك، وفمي على ثغرك، ولكنت أرسلت شعرك الجميل يداعبني برفق وحنان؛ ونحن نتناغى ونتبادل القبل. اصغي إلي قليلاً يا فتاتي! لو شئت لصنعت لك كوخاً من أغصان خضر مزدهرة وأعشاب طرية ملأى بالجنادب المغردة والجعلان الذهبية التي تشبه الجواهر في قيمتها!. . . في ذاك المكان تنفردين بي طوال الليالي على فراش أبيض واحد هو معطفي الممدود، وهناك يخفق قلبانا إلى جانب بعضهما إلى الأبد

- دعني أبكي أيضاً

- بعيداً عني؟

- بين ذراعيك. . . وأمام ناظريك!

- أي حبيبتي. . . إن الظلام أخذ ينتشر، وبدأ الليل يرخي سدوله، وشرع النور يتوارى

ص: 50

في السماء كطائر مجنح لقد أصبحت الأرض بادية الظلمة. لم يعد يُرى من بعد سوى مجرى الجدول الفضي الطويل الذي يتلألأ كأنه نهر كبير من النجوم حول حقلنا. . . فيا له من نور عظيم!

- بلى إنه لعظيم. . . والآن هيا، قدني

- تعالي. . . إن الغابة التي سندخل الآن بين غصونها المتمايلة التي ستعانقنا جد عميقة، ولعله يصعب على الآلهة نفسها أن تقطعها في رائعة النهار دون أن تصاب بشيء من الرعشة والخوف. وفي تلك الممرات الضيقة لا ترى آثار حوافر آلهة الغابات المزدوجة متقفية آثار الإلهة الغابات. وكذلك لا ترى بين الأوراق عيون آلهة الغاب الخضر، محدقة بأنظار الرجال الفزعة. ولكننا لن نخشى شيئاً ولن نفرق أبداً ما دمنا نحن الاثنين معاً:(أنت. . . وأنا)

- لا، لن نخاف، إني أبكي بالرغم عني، ولكني أحبك وسأذهب معك. إن في قلبي إلهاً! هيا حدثني. . . حدثني كثيراً. . . إن صوتك لينطوي على إله أيضاً!

- أرسلي شعرك الجميل حول عنقي، ولفي ذراعك حول نطاقي، وضعي وجنتيك على وجنتي. انتبهي واحذري. يوجد هنا حجارة. اخفضي بصرك. . . يوجد هنا جذور. . . الأرض ندية رطبة، والعشب تحت أقدامنا العارية. غير أني أشعر بحرارة نهدك تحت يدي

- لا تبحث عنه، إنه. . . صغير، إنه. . . فتيّ، إنه. . . غير جميل. في الخريف الماضي لم يكن أكبر منه ولا أنضج من يوم ولادتي. وكثيراً ما كان صديقاتي يسخرن مني بسبب ذلك. لقد بدا نموه في الربيع مع براعم الأزهار. لم يعد في طوقي مواصلة المسير

- تعالي. . . إننا نمشي في الظلام. . . في الدجنة، لم أعد أرى وجهك. لم نعد نظهر، لقد لفنا الظلام واحتوانا الليل. تعالي نذهب إلى تلك الدوحة الكبيرة، أمام أشعة القمر. إن ظلها لكبير. . . إنه يمتد إلى حيث نحن. هيا. . . تعالي!. . .

- إنها ضخمة. . . إنها في حجم قصر!

- قصر زفافك الذي يفتح أبوابه لاستقبالنا نحن الاثنين في جوف هذا الليل المقدس

- إني أسمع ضجيجاً. . . إنه حفيف النخيل

- تخيل حفلة الزفاف الصخَّاب

ص: 51

- وهذه النجوم؟

- إنها المشاعل

- وهذه الأصوات؟

- إنها الآهة

- أيها الراعي، لقد دخلت هذا المكان وأنا عذراء مثل (أرتميس) التي يسطع علينا نورها من بعد. . . من خلال الأغصان السود، والتي قد تكون مصغية إلى حديثنا الآن. لست أدري أأحسنت في مجيئي معك إلى هذا المكان، أم لم احسن، ولكني كنت أحس أن روحاً بين جنبي تنبعث وأنا معك، روحاً قدسية بعثها صوتك في أعماقي. لقد منحتني السعادة الكاملة إذ منحتني يدك

- أيتها الفتاة. . . يا ذات العينين السوداوين، لم يَسْعَ أبوك ولا أبي إلى لمِّ شملنا وتهيئة هذه السعادة لنا، أمام مذبح مواقدهم وأنا أستبدل ثروتي بثروتك. نحن فقيران فنحن حران إذن. إذا كان أحد قد سعى إلى زواجنا في هذا المساء فارفعي عينيكِ، إنهم الأولمبيون حماة الرعاة

- أي زوجي. . . ما اسمك؟

- أركاس. . . وما اسمك؟

- مليتا.

(دمشق)

عبد الغني العطري

ص: 52