المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 433 - بتاريخ: 20 - 10 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٣٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 433

- بتاريخ: 20 - 10 - 1941

ص: -1

‌لو!

للأستاذ عباس محمود العقاد

من فكاهات الصحافة الأمريكية التي اطلعت عليها أخيراً قصة موضوعة على ما يظهر، فحواها أن رجلاً صارماً من المطبوعين على حب الزجر والتنديد لقي في بعض المنازه رجلاً آخر يدخن لفيفة نفيسة، ويبدو عليه الاستمتاع بتدخينها والارتياح إلى تقليبها بين شفتيه؛ فاستباح لنفسه أن يخاطبه، وجرت بينهما المحادثة التالية:

- كم لفيفة من هذا النوع تدخن في كل يوم؟

- نحو عشر

- وكم ثمن الواحدة منها؟

- خمسة قروش على التقريب

- يا للعجب! خمسون قرشاً كل يوم تذهب دخاناً في الهواء. . . فكم سنة مضت عليك وأنت تدخن؟

- ثلاثون سنة!

إن خمسين قرشاً في اليوم تجتمع منها في ثلاثين سنة ثروة عظيمة. . . أليس كذلك؟

- بلى كذلك

- أفلا ترى تلك العمارة الجميلة التي على ركن الطريق؟

- بلى أراها!

- إنك لو لم تدخن قط لتسنى لك أن تملك تلك العمارة! قال واضع الفكاهة: وهنا عاد المسئول سائلاً وانثنى يسأل المندد الزجار:

- هل تدخن؟

فقال الرجل متأففاً مزهواً: كلا! ما دخنت قط ولن أدخن أبداً

فسأله مرة أخرى: وهل تملك أذن تلك العمارة؟

قال: كلا!. . .

قال: ولكنني أنا مالكها. . .!

هذه قصة فيها مجال طويل للتأمل واختلاف النظر بين حظوظ الحياة وضروب المتعة فيها

ص: 1

فأي الرجلين على خطأ وأيهما على صواب؟

إن واضع القصة قد سهل لنا أن نعرف خطأ المندد الزجار، لأنه أظهر لنا أن التدخين لم يحل بين الرجل المدخن وبين ملك العمارة التي تساوي تكاليف التدخين في ثلاثين سنة

ولكننا نفرض أن الرجل لم يكن مالكها؛ فهل يكون حتماً لزاماً أنه من المخطئين وأن لائمة المتصلف على صواب؟؟

إذا قيل نعم أنه لمن المخطئين لأنه فقد عمارة كان في وسعه أن يجدها أمامه، فلماذا لا يقال أن العمارة كانت مفقودة في السنين الثلاثين ولم يكن موجوداً في حسه غير لذة التدخين؟؟

نعم إن لذة التدخين لا تجتمع لبنة فوق لبنة، وطبقة فوق طبقة، وجداراً إلى جانب جدار؛ ولكن إلا يوجد الشيء إلا إذا لمسناه لمس الجدران؟ ألا يكون له أثر إلا إذا صدمنا في الطريق كما تصدمنا العمارات؟ ألا يجوز أن لحظات التدخين قد هيأت لصاحبها فرص ارتياح وثمرات حساناً من ثمرات الحياة؟ ألا يجوز أنها أرضته حيث كان وشيكاً أن يغضب؟ وأسلست آراءه حيث كانت وشيكة أن تختلط وتتعقد؟ وشجعته على العمل حيث كان وشيكاً أن يتهاون ويتراجع؟ ألا تحسب هذه اللحظات في ثلاثين سنة لأنها لا تقاس بالمتر ولا ترصد بالأرقام؟؟

تلك لعنة النقود المسكوكة، وذلك مدى تأثيرها في قواعد التفكير وفي أصول النظر إلى الأشياء فالنقود المسكوكة من المخترعات التي علمت الناس نمطاً من الفكر لم يكن مطبوعاً ولم يكن من الضروري أن يفكروا على مثاله وينظروا إلى الأمور بمنظاره لولا اختراع النقود!

وكثير من الأشياء كانت تكون لها في تقويم الناس قيمة كبرى لولا أنهم تعودوا أن يقوموا كل شيء بعدد القطع من الذهب والفضة

بل كثير من الأشياء كانت تبطل قيمته الشائعة وكان يبطل الصراع عليه والتناحر حوله لولا اختراع النقد وشيوع التقويم على حسابه

فقلّ أن يعرف الناس اليوم قيمة لشيء لا يتحول إلى كذا من الدنانير وكذا من الدراهم

ومع هذا كم في الدنيا من قيم غاليات لا تتحول إلى نقد ولا تباع بالنقد، وليس لها في سوق النقد حساب؟

ص: 2

إن لذة التدخين محسوسة، فالذي ينكرها يسهل على المدخنين أن يعرفوا خطأه أو يعرفوا الناس بخطئه ولو بعض التعريف

ولكن اللذات لا يحسها المنكرون كثيرات، وهي لو أمكن تحويلها إلى ذهب وفضة لملأت الخزائن وأدارت حركة المصارف سنوات

فواحدة من اثنتين: إما أن تتحول ذهباً وفضة لنصونها عن البخس والنكران، وإما أن تعرف خطأ الحساب الذي يدار على الذهب والفضة في تقويم قيم الحياة. ويومئذ يربح الناس خيراً كثيراً ويستريحون من عناء كثير، لأنهم لا يعرضون عن لذات نفسية أو فكرية كل ذنبها أنها لا توزن بالدرهم والمثقال، ولا يتناحرون على قنية هي في ظاهر الأمر ملك وفي باطنه حرمان واضع القصة أرانا أن المدخن كان هو مالك العمارة، وأن التدخين لم يفوّت عليه ملكها؛ ولكنّ واضع القصة كان يستطيع أن يخطو وراء ذلك خطوة فيقول لنا أن الرجل لم يكن ليملك تلك العمارة لولا تدخينه أو تدخينات زينت له رأياً من الآراء أو صفقة من الصفقات، فكانت العمارة بعض هذه الثمرات

وأقول هذا ولست أدخن الآن، ولا أنا مؤمن بضرورة التدخين لمن يفكرون

بل أقول هذا وكنت أدخن أربعين لفيفة في اليوم زمناً من الأزمان، فلا أذكر أنني أشعلت لفيفة وأنا أكتب لأستعين بها على الكتابة، وربما أطفأتها لأكتب أو اقرأ أو أقلب الرأي في مسألة من المسائل، فليس من تجاربي أن التدخين والتفكير متلازمان، وكل ما أعنيه أن السرور الذي يشعر به المدخن ينبغي أن يحسب وإن لم يتمثل في صورة الحجارة والحجرات، وهكذا ينبغي أن يحسب كل سرور

كذلك لا دخل هنا للأخلاق والموازين الأدبية في صواب التقويم والتقدير؛ فإن صاحب العمارة قد يملكها بمال مكسوب من السحت والربا الفاحش، ثم لا يقدح ذلك في قيمة العمارة عند تقويمها بين البائعين والشراة

والسرور الذي يداخل الحس قد يرجع إلى الحرام المحظور فيدان كما يدان الحرام المحظور، ثم لا ينفي هذا أنه في سرور وليس بغم ولا عذاب

ولهذا يجب أن توضع في الميزان ثلاثون سنة في المتعة التي تذهب دخاناً في الهواء ولا تتحجر لبنات وعمارات في الطرقات. والفارق بين هذه وتلك أن العمارة تنقل من مالك إلى

ص: 3

مالك ولا ينقل السرور الذي يستمتع به صاحبه أو يشتري منه بمال.

وهذه تفرقة سارية في عرف السوق؛ ولكنها ليست بسارية في عرف الحياة

فسرور الأب بابنه لا ينقل ولا يباع، ولكنه مع هذا أنفس من نفائس الأموال

وسرور العين بالجمال لا ينقل ولا يباع، ولكنه مع هذا ثروة تفلس الدنيا بفقدانها أيما إفلاس ومقياس النفاسة، صعد الاقتصاديون أو هبطوا، وصاح رجال المال أو سكتوا، هو في نهاية الأمر مقدار ما توحيه من شعور.

فالعمارة لا تساوي حفنة من تراب إذا كانت لا تنتقل من يد إلى يد ولا يصطحب انتقالها بسرور بائع أو سرور شار أو سرور مستأجر

ونفس واحد من لفيفة واحدة أنفس من جميع العمارات التي لا نترجمها شعوراً في حالة البيع أو الشراء أو حالة الاستئجار، أو في حالة النظر إليها إن كان النظر إليها باعث شعور.

أليس الاطمئنان إلى الرزق هو خير ما تقتني من أجله العمارات؟ فالاطمئنان إذن هو ثمن العمارة الصحيح، ولولا أنه شعور مطلوب لما بذلت في أضخم العمارات أرخص الدريهمات. ولكن هب مالك العمارة غير مطمئن إلى رزقه؟ وهبه خائفاً عليها من الحريق أو خائفاً عليها من إفلاس شركات التأمين؟ وهبه كثير الهواجس من جراء ملكها ومنازعات المنازعين فيها، فهي إذن فقر في حسابه وفقر في حساب كل مقتن لها يشعر في اقتنائه إياها بمثل هذا الشعور

نسي الناس هذه الحقيقة وخسروا بنسيانها، لأن العملة سكت عقولهم بطابعها فأصبحت القيمة مرهونة بما يباع بكذا من الدراهم أو كذا من الدنانير، وبطلت القيم النفسية التي هي الأساس وهي المرجع في تقويم متع الحياة

ولو بقيت لنا رغباتنا وآمالنا كما كانت قبل اختراع النقد واختراع المال على الإجمال لتغير وجه التاريخ وتغيرت هموم النفوس وتغيرت أسباب الحروب والخصومات وأسباب النضال على العروض والمدخرات

ولتقريب هذا المعنى تخيل أن العملة وبديلاتها ستبطل بعد أسبوع فماذا يكون؟ إنك لتبصر في هذه الحالة من يعطي بيتاً ليشرب قدحاً من الليمون وليس بنادم ولا معدود من السفهاء

ص: 4

أو تخيل أن كل متعة في الحياة أصبحت لا تنال إلا بهذه العملة الشائعة فماذا يكون؟ إنك لتبصر في هذه الحالة من يعطي تراث الأرض لينعم بشعاع من أشعة الشمس والقمر

أو تخيل أن كل نعمة روحية أو فنية قد أستطيع تحويلها بعد اليوم قروشاً وجنيهات فماذا يكون؟ إنك لتبصر في هذه الحالة رجلاً من أصحاب القرائح يشتري دولتين أو ثلاث دول بفكرة خالدة توحي إليه

وسيأتي لا ريب يوم يثوب الناس فيه إلى تفكير طليق من أسر العملة ومن طابع المسكوكات. فيومئذ يعرفون الغنى الصحيح ويرهبون الفقر الصحيح، لأنهم يبذلون الجهد بمقدار حقه فيدخرون كثيراً من ضائع الجهود في غير طائل، ويأخذون حسبما يبذلون، ثم لا يقومون الأشياء بمقدار صلاحها للانتقال من مالك إلى مالك في غير جدوى؟ بل بمقدار صلاحها للبقاء في الخواطر والأرواح وهي شاعرة بما تستبقيه.

عباس محمود العقاد

-

ص: 5

‌10 - أومن بالإنسان!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

زال عهد الصمت والجمود - رسالة يبعثها سر الإنسان -

ضآلة لا تبعث على الاستكانة - لا تتعجلوا النتائج - موارد

فياضة معطلة تنتظر الصنعة - السيد هو إنسان الصناعة -

بين قيادة البقر وقيادة الفولاذ - مضى زمن التخريف في الله

وبقى التخريف في الإنسان - برزخ على هوة! - سر ظهور

الدين قبل العلم - أسس خفية لحياة الاجتماع - أباطل أصلح

للحياة من الحق؟ - مم تفجر نبع الضمير؟ - حيث الأنس

بالإنسان.

قديماً كان كل شيء في الطبيعة صامتاً جامداً أيام بدء ظهور الإنسان. فلم يكن يتكلم غير هو؛ بل كان هو أيضاً أبكم محبوس اللسان لا يتكلم إلا بمقاطع ساذجة وأصوات وجدانية؛ وكانت وجوه الطبيعة صامتة مبهمة، وأبوابها موصدة. . .

والآن صارت الأشياء متكلمة محدثة طليقة الوجوه مفضوحة الأسرار. أنطقها الإنسان الذي علمه الله البيان فعلمه هو بدوره إياها وجرد منها حناجر تحدثه وتعيد عليه حديثه لتؤنسه في رحلته إلى صوب مجهول. . .!

ولقد زادت عجائب الكون بانضمام العجائب الإنسانية إلى العجائب الإلهية في الطبيعة. وكان كفر الإنسان بالله ناشئاً من ذهوله عن بدائع مصنوعاته تعالى، وكذلك صار الآن كفر الإنسان بنفسه ناشئاً عن ذهوله عن مصنوعاته هو!

ألا إن حمله على الإيمان بنفسه رسالة لا تحتاج إلى رسل يبعثهم سرّ السماء إلى الأرض، وإنما تحتاج إلى رسل يبعثهم سر الإنسان ووحي أعماله في الأرض. . .!

وقد ظل الله ربه يقول له وهو طفل جاهل قاصر عاجز: من هنا الطريق. . . إلى الحياة

ص: 6

والملكوت. افعل هذا واترك هذا. كن كذا ولا تكن كذا. . . حتى أدرك جادة الحياة الكبرى وبانت له تباشير المدنية المنشودة التي كان يحلم بها ويطلبها من الرسل كمعجزات. فأسرع إليها وغمرت حواسه دهشتها وأعاجيبها، وألهاه ذلك عن التفكير في نفسه فعاش في ضجة ما يصنع كما تعيش دودة القز في الشرنقة. . .

وقد خلى الله بينه وبين الحياة بعد أن ترك له وصاياه في الصحف الأولى. . .

قد يقول قائل: ماذا يريد ذلك الإنسان المحدود من ضجته في الأرض؟ ضجة حناجره ومصانعه ومدافعه وجراراته ودباباته وطياراته وبوارجه؟ إنه ضئيل، وإن مسرحه ضئيل. فهو شيء صغير على سطح الأرض وهي ذرة سابحة مع ملايين الملايين من النجوم والكواكب. فماذا عساه أن يصنع حتى لو ركب الأرض نفسها وصرفّ مقاليد سيرها كما يصرفّ مقاليد طياراته وجراراته؟ أليس الفناء نهايته ونهاية ما يصنع؟

فأقول لأمثال هذا: رويدكم. . . لا تتعجلوا نتائج حياة الإنسان ولا تشكوا في إنها ستكون عظيمة أعظم مما تتصورون بعد أن رأيتم من فعله ما لو رآه آباؤكم لماتوا عجبا!

إنكم تشكون فيه لأنه لم تثبت لحياته نتائج دائمة، وعندكم أن كل أعماله ملاه وسلويات في شئون خاصة كالشئون الخاصة بأي فصيلة من فصائل الحيوان

كذلك قال الذين لا يعلمون من آبائكم مثل قولكم. إذ لم يروا ميتاً يرجع ومفقوداً يؤوب. . .!

ولكن الأمر في حياة الإنسان وخلوده ليس كما تتوهمون أمراً متعجلاً، وليس ماضي عمره على الأرض طويلاً. إنه ثمرة لا بد من نضجها في زمن معلوم تظهر بعده نتائج خالدة وأسرار مخبوءة لها صلة وثيقة بالكون الطبيعي نفسه وبالروح الأكبر الذي وراء الطبيعة

وسيري الذين يذهبون الآن أنهم بعد الموت في دور انكشاف وظهور، إذ لا يعقل أن يمضي هذا الخالق الصغير إلى الفناء المطلق. . .

ثم أقول: ماذا تريدون أن يفعل إذن؟ أتريدونه ينام حالماً يدخن النارجيلة والحشيشة والأفيون كما يصنع أغلب إنسانية الشرق المضيّعة؟ أم تريدونه يجلس فارغاً ينتظر الموت وينشد الأشعار ولهو الأحاديث؟

إن عليه أن يملأ هذه الأرض بالضجة والقوة التي يستطيع تسخيرها، وأن يسلط قوى نفسه الكامنة على هذه المواد الساكنة ويثيرها أيما ثورة ليدخلها في نطاق الحركة بعد السكون

ص: 7

والحياة بعد الركود. . . ولا عليه بعد ذلك أنه ضئيل فوق زورق ضئيل يسبح في عيلم كبير. . .

فلو نظر الإنسان إلى جبروت الطبيعة وهول السماء لاستصغر جهده على الأرض مهما عظم ولم يفعل في حياته إلا ضرورات احتياجاته. وبالطبع هذا يرده ضعيفاً مستضعفاً شقياً فريسة لغيره كما كان؛ ولكنه إذا آمن برحابة نفسه وقوة فكره وقدرته على أن يفعل الأعاجيب، وأنه على ضؤولة جسده يستطيع أن يحرك الجبل وينسفه بتسليط قوة طبيعية أخرى عليه. إذاً كان هذا به أولى وعليه أنفع وأجدى، وكان هذا أشرف له إذ يجعله قوة من القوى العاملة الجبارة في الحياة

إن عليه أن يصنع ويتمتع ويتفرج بما يصنع. . . وربما يكون هناك عالم آخر يتفرج أيضاً بما يصنع الإنسان ويتمتع به كما نتمتع نحن بنتاج النحل ومنافع كل كائن أقل منا في الأرض إدراكاً واحتيالاً. . .

إن الطبيعة تغازل فكره وتثيره للعمل فيها منذ أيامه الأولى، فالطفل يبحث في محيطه ويسلط جميع حواسه على محتوياته فيراه ويلمسه ويذوقه ويتسمعه ويشمه حتى يحيط بخواصه ويثير كوامنه ويطلقها خيراً من تعطيلها وسجنها

وقد وجدنا كل ما في الطبيعة من مواردها الكبرى بسيطاً غير معقد، فياضاً بكميات كبيرة جداً، خاضعاً للتعقيد والتركيب والتأليف والتوزيع والتنويع. . . فدلنا ذلك على أن هذه المواد إنما وضعت هكذا هائلة فياضة انتظاراً لصنعة ستتناولها بها يد صناع

وكلما رأيت غزارة ماء الأمطار - وهو أصل الحياة - وكثرة المقادير التي تصبها الأنهار في البحار فتذهب من غير انتفاع إلا بجزء قليل جداً منها. . . قلت: إن هذه الكميات الهائلة إنما أفيضت لا لإخصاب السهول الحافة بها فقط، والتي تصل إليها مياهها في سهولة ويسر. . . وإنما أفيضت لإخصاب هذه الأراضي البور من الصحاري والسهوب الضمآى العقيم. . .

وكلما رأيت مناجم الأرض تمتلئ بالمعادن والركاز المعطلة وهي ذات النفع العظيم والإمتاع الدائم، قلت: هنا موارد ظلت الطبيعة تحفظها في صدرها حتى أتى يوم بعثها على يد من عرف أسرار الانتفاع بها في زمن نمو علوم الآليات والكهرباء

ص: 8

وكلما رأيت أغلب مناطق الأرض لا تزال خالية من السكان أو غير متشبعة بهم. . . قلت: هذه مساكن احتياطية لأقوام آتين ستلجئهم ضرورات الزحام إلى سكناها وتعميرها وتعديل مهودها؟ وأجوائها وإخصاب بقاعها. . .

وكلما رأيت البحار السبعة وما فيها من عوالم وعناصر وموارد للطعام والدفء والصناعة. . . قلت: هذه قدور هائلة يطبخ فيها مستقبل مجهول لهذا المخلوق. . .

فهذه المقادير العظيمة من المياه والمعادن والأراضي والغابات ظلت تفيض فيوضها بالكيل الواسع، وتدور دوراتها وترجع من غير أن ينتفع بها أحد انتفاعاً يبرز غزارتها إلى أن أتى عصر تفتح حاجات الإنسان الصناعية والعمرانية بتفتح أسرار الطبيعة لفكره، فإذا بهذه الموارد التي كان يظن البعض أن فيها إسرافاً وتبذيراً يبدو لعيون العلماء وأرباب الصناعات والأعمال أنها موزونة متكافئة مع نمو حاجات الإنسان واتساع افتنانه. . .

هذه الحياة الصناعية البارعة المعقدة كانت هي أعظم الموحيات الآخذات نفسي إلى الإيمان بالإنسان وإلى الكشف عن قوته الإبتداعية النامية المنمية. وإن بها تفرده وامتيازه بين الكائنات في إحداث الأشياء، وفي تغلبه على غيره من الحيوانات، بل وفي تغلب بعض أقوامه على بعض. وقد نمت قوته الصناعية نمواً عظيماً حتى بدت في هذه القوى الساحقة التي يستخدمها الآن في حربه. . .

ولا شك أن إنسان الصناعة هو سيد الأرض. أما إنسان الزراعة فمهما افتن فيها وهندس واجتهد فإن حياته حياة بدائية، لا تعقد الفكر ولا تترك في الأعصاب أثر القوة والابتداع والسيادة. وقد صارت الزراعة الآن خاضعة إلى حد كبير للصناعة ذات تبعية لها. . .

ولذلك رأينا الأمم الصناعية تسود الأمم الزراعية على رغم القلوب الطيبة والمثل العليا التي تشيع بين الزراعيين في العادة منتقلة إليهم من اعتمادهم بعد بذل جهودهم على منزل الغيث وباعث الخصب. . . ومن طول معاشرتهم للنعاج الوديعة والبقر المطيعة والأنعام التي تعطي ولا تأخذ، وتسام على الخسف ومع ذلك تجتر سعيدة حالمة. . .!

وطبيعي أن يتغلب من يدرب أطفاله على ركوب الحيوانات الحديدية وقيادة الوحوش الفولاذية على من يدرب أطفاله على ركوب الحمير والبغال، وقيادة الأغنام والأبقار. . .

وكل ما يحدثه الإنسان في المواد يدل على اتساع مدى نفسه وامتداد خيالها، وأخذها من

ص: 9

محيط واسع عميق، وامتياحها من ينبوع زاخر بالصور والأشكال والأنواع، وقوة تعقيد فكرها وقدرتها على إحداث نسب جديد، بين العناصر والمواد. . . وهذا ما لا وجود له في الزراعة

ولكي تدرك ما أرمي إليه، فكر في الحياة الصناعية من المسمار الصغير إلى المصنع الكبير وما بينهما. . .

يلام الإنسان على غفلته عما صنعه هو بيديه وملأ الدنيا به كما كان يلام في العصور السالفة على غفلته عما صنع الله في الطبيعة

ولقد مضى زمن التخريف والضلال في العقيدة بالله رب الطبيعة، لأن الحياة لا تحتمل الجهل به تعالى إلى الحد السخيف الذي كانت فيه عبادة الأصنام والأشخاص والنجوم وغيرها. ولا تحتمل أن تجرد الطبيعة منه تجريداً كالذي كان من المعطلين منكري القصد والإرادة والعناية فيها. ولفظت العقول الأديان التي تعتمد على غير العقل في إثبات حقيقة الوجود الأولى والحقائق التي تليها؛ وعشق الناس جمال الطبيعة وصدقها، وعرفوا من أسرار الصناعة فيها، فيبقي عليهم لتكمل عقائدهم في الحياة أن يتيقظوا دائماً لمنشئها ومديرها، ويتقربوا إليه بالفكر فيه وتكريم اسمه كما يتقربون على الأقل لأساطين علمائهم الذين عرفوا من علومه جانباً ضئيلاً. . .

ولكن جد تخريف وضلال في العقيدة بالإنسان بسبب فرض لم يثبت في نظرية النشوء والترقي، أطلق حوله كثيراً من الاعتقادات الفاسدة. ومقاومة هذا التخريف الأخير هي أهم رسالات الدين في هذا العصر.

هذا الفرض جعل كثيراً من الناس لا يريدون أن يصدقوا أن بينهم وبين الله صلة محترمة أو عناية. وكأنهم يجفلون من التكريم والإحسان اللذين يقول الدين إن الله يصطنعهما في معاملة الإنسان

وهم يقولون إن حياة الإنسان بالنسبة لله تعالى حياة تافهة ضئيلة، وإن بينهما هوة سحيقة لا عبور لها، وأن الحياة الإنسانية على الأرض لا تقدم ولا تؤخر في سير الناموس الأعظم الذي ينتظم الكون. فسواء على الله وعلى الكون أن يضل الإنسان أو يهتدي، أن يعف وأن يشره. . . فتلك شئون خاصة به خاضعة لاعتبارات مجتمعه، وسوف يفني بأخلاقه وأعماله

ص: 10

كما تفنى النمال والنحل، وكل ما لبسته الحياة من غير رُجعى أو مصير أكمل. . .

ولكن الواقع أن ضجة الإنسانية وحدها، وتغير الأرض بها وحدها، وتعقد الدنيا بها وحدها، واطراد نمو الحياة المادية وانكشاف خصائصها بها وحدها، وارتقاب غاية مجهولة منها وحدها. . . هي أمور من الحق بحيث تشغلنا عن سواها وعن شبهات ضآلة الإنسان بالنسبة لله. . . وهي ذاتها البرزخ الذي نعبر عليه تلك الهوة التي بيننا وبين الله!

فعندما ينظر ناظر لظاهر مجموع الناس يخيل إليه أنه لا صلة بين قلوبهم وأفكارهم وبين السماء، وأنهم غير مأبوه لهم من صاحب الوجود. . . وحينئذ تنطلق الاعتقادات الفاسدة والتافهة بالحياة وتنطلق وراءها الغرائز الخطرة، وتوجد (طمأنينة الكفر!) وينظر الإنسان للإنسان على أنه شيء تافه يصح سلبه واستعباده وقتله. . .

ولكن عندما ننظر للحياة الإنسانية من داخل القلب نجد النظر يخلق المنظور خلقاً آخر جليلاً، ويشعر الناظر بأن عين الله راعية وصية على هذا المخلوق. . .

فما أعظم أثر هذا في طمأنينة النفس حتى لو كان هذا باطلاً! إنه يرفع آمال النفس البشرية وأفكارها حتى يجعل منطق الله خالق الطبيعة الهائلة منطقها هي. مع أن الهوة بينها وبين الله سحيقة، إذا استسلم الإنسان للعلم وحده في عبورها لن يتمكن! إذ يجد مكانه في الوجود يكاد يكون لا شيء. . . إذ الأرض ذاتها لا شيء بجوار عظمة الكون، فما بالك بالفرد الضئيل فيها؟ هذا يجعل للنفس ثقة وإحساساً بالعظمة، إذ يجد به الإنسان لنفسه مكاناً ملحوظاً في الوجود حين يجعل علاقته مباشرة بصاحب الوجود. . .

ومن العجائب في ظهور حياة الإنسان وتدرجها، أن حياة التدين فيها سبقت حياة العلوم، فبينت حياة التعزية والثقة على الدين قبل العلم

ولو قد سبق العلم الدين إذاً لكان موقف الإنسان في الحياة موقف ابن الطريق الشريد القادر الفاجر، الذي لم يجد أباً وأماً يأخذ من حنانهما حناناً لنفسه، ويعرف أن قلبيهما منبعان غزيران لصفات الإخلاص والرحمة والحب، بل وجد نفسه مدركاً رشيداً، ذكياً قاسياً، على قارعة الطريق تدافعه زحمته، يعرف جرائم الحياة وجفاءها، وأخلاق الشوارع والأسواق، ولا يعرف روابط الأسرة ومعاملة الأخوة والنبوة ووصايا الأمومة؛ فيكون موقفه فيها موقف قاطع الطريق المسلح بالأدوات والمهارة. . .

ص: 11

علام يقوم بناء الحياة الإنسانية؟

حين أستعرض نظام مدينة أو أمة أو إمبراطورية، فأجد ناسها يعيشون في تفاهم وتعاطف ومبادلة منافع، وأجد مرافقها ومبانيها وشوارعها ومصانعها ومعاهدها تقوم في دقة وموازنة وجمال وأمانة كأنها من الطبيعة الموزونة بيد الله. . . أسائل نفسي:

من الذي أقام بناء هذه الحياة الإنسانية في تلك الأمة أو المجموعة على هذه الأوضاع العظيمة؟! ومن الذي سدد جهاد أفرادها جميعاً نحو غايات مشتركة وأهداف موحدة؟

ومن الذي أعطاها تلك الروح الاجتماعية التي تسلك في أعمالها وآمالها مسلك الروح الواحد في الجسم الواحد؟

ومن الذي هذب طباعها ورققها وجملها وصقلها وسار بها شوطاً بعيداً من عيشة الوحشية والتأبد، إلى هذه الإنسية والاجتماع؟

ومن الذي أقام هذه الأسر والعائلات على التراحم وجمع أطفالها ورجالها على الحب؟

إنه لا شك سر النبوات التي نبعت من القلوب الكبيرة التي كانت للإنسانية في مهد نشؤها كالأمومة الرحيمة المضحية المربية المسددة

إن هذا لا شك هو الأساس الأول الذي قامت عليه الحياة الاجتماعية وذهب بناؤها مطرداً في العلو والسموق

فلئن غابت الآن عن الأنظار القصيرة والأفكار المشلولة، فكما تغيب أسس الأبنية العظيمة في باطن الأرض، لا ترى ولا يعرفها إلا الناظرون في الأعماق. . .

ولقد مات الرعيل الأول من الأباء والأمهات، ولكن بقي الأبناء دليلاً متجدداً عليهم. . .

ثم نسأل: أيهما أصلح للحياة؟ أأن يعتقد الإنسان أن الله به حفي، وأن يؤمن بالإنسان فيحتفل لولادته ويقوم لجنازته ويؤثره على نفسه، ويتواضع له ويحترم دمه وعرضه، ويعيش في سجون الأخلاق التي تسمو بالحياة الاجتماعية، وتقلل الخلاف والشقاق وتنمي الحياة، وتحيط الإنسان بجو من سكينة العلم ورقة الفن، وتسخر العلم في خدمته وتخفيف ويلاته، وتضع أمامه أهدافاً مرسومة ومثلاً عليا، وفلسفة يطرد بها الوفاق؛ وبجعل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الرجال الآباء نماذج وقمماً يتطلع إليها. . . أم أن ينظر الإنسان إلى الإنسان كما ينظر للنبات والحيوان. . . فإذا ولد فكجرو الكلاب أو سخل

ص: 12

النعاج؛ يسخر ويلعب به، ولا عرض ولا ناموس ولا قيود، وحياته حياة فنّها آلي وعلمها للتدمير والغلبة، ومثلها مكيافلية. . . وإذا مات هلك وقذف به إلى ظلمة الأبد من غير رجعة أو ذكرى أو أمل في مصير أكمل؟!

أما والله لو كان دين الإنسانية هذا خداعاً باطلاً، لكان أعظم أثراً في صلاح الحياة من ضده ولو كان الحق! لأنه قانون الحياة الاجتماعية، فإذا تركه الإنسان كان عليه أن يرتد إلى حياة الغابات. . . وقد أرتد بعضه فعلاً الآن. . . ولكنه سيعود. . .

ولست أدري: ما هو غرام بعض الناس في أن يزعموا أنهم كشفوا تيارات واتجاهات في الحياة تجعل الناس يحطمون الحياة الاجتماعية التي نمت مواريث علومهم وأخلاقهم في أحضانها؟

إن كل ما يضر حياة الجماعة، فهو شر يميت الضمير وينزع منه الإيمان بالخير ويسلم إلى النكسة والارتداد

على أسوأ الافتراضات في تفاهة أصل الإنسان وضآلة مكانه في الوجود، فتفجر نبع الضمير في قلبه وطواعيته تحت تأثيره لا بد أن يكونا بوحي وضغط من عالم أعلى. . .

وهذا الروح اللطيف الذي يوجد في القلب حين الحب، أو حين مبادلة العلم والفكر، أو حين تفتح القلوب بالخير، أو حين النظر للوجود بالعين الصافية الآملة المتفائلة، أو حين استحضار المعاني الكبيرة: كالمروءة والإيثار والتضحية الصامتة، أو حين الإيمان العميق الرحب المشع. . . هذا الروح هو مكان رصد الإنسان والأنس به والأمل فيه

فلنرصده من هناك ليكون المنظر جميلاً أخاذاً، يبعث على التفاؤل والحب والسعي إلى الاكتمال. . . أولى من أن نرصده من مكان آخر يبدو منه مطموس الجمال، مقبوح الخصال، منحط المكانة، باعثاً على التشاؤم والبغض والحقد وسوء المآل!

عبد المنعم محمد خلاف

ص: 13

‌في الطريق إلى الوحدة العربية

للدكتور زكي مبارك

(نص الخطاب الذي أرسله الدكتور زكي مبارك ليلقى في

مؤتمر الخريجين بأم درمان)

أخي الأستاذ رئيس مؤتمر الخريجين

إليك وإلى إخواني عندك أقدم أصدق التحيات، ثم أذكر مع الأسف أن المنهاج الذي رسم لحضوري وحضور الأستاذ (الزيات) لزيارة السودان لم يظفر بالتحقيق، فقد قضى الأستاذ (الزيات) أسابيع بالمنصورة وهو مريض، ثم منّ الله عليه بالعافية بعد فوات الوقت الذي يسمح بتأهبه لحضور مؤتمركم المرموق. أما أنا فقد صدّتني شواغل لو عرفتموها لأكرمتموني بالصفح الجميل. فلم يبق إلا أن أرسل إليكم هذا البحث ليلقيه الأستاذ (محمد حسنين مخلوف) بالنيابة عني، أو يلقيه أديب من الخرطوم أو من أم درمان، وسينشر هذا البحث في (الرسالة) مع أيام المؤتمر، ليكون تحية جهرية تؤيد بها مصر جهادكم النبيل

فماذا أريد أن يذاع باسمي في ناديكم بأم درمان؟

أريد أن أتحدث عن العقبات التي تعترض السائر في الطريق إلى الوحدة العربية بلا مواربة ولا تلميح، لأني أومن بأن عندكم من الفتوّة ما يوجب الخروج على الرموز في مثل هذا الشأن الدقيق، ولأني أفهم جيداً أنكم من طلائع الجيل الجديد، ومن الإساءة إليكم أن يرسل إلى ناديكم كلام ملفوف تعوزه صراحة الصدق وشجاعة الإيمان

ثم أواجه الموضوع فأقول:

كثر التحدث في هذه الأيام وقبل هذه الأيام عن (الوحدة العربية) وذلك يشهد بأنها كادت تصبح من الغايات القومية في الشرق العربي. . . وهل يمكن أن تدور (فكرة) على ألسنة الملايين من العرب، بدون أن يكون لها في قلوب تلك الملايين مكان؟

إن هذه الفكرة لم تدر على الألسنة إلا بعد أن تأصلت في القلوب، فماذا نصنع لوقايتها من العواصف التي تثور من حين إلى حين؟

نترك السياسة جانباً، السياسة الدولية، وننظر إلى هذه الفكرة من الوجهة القومية، فمصايرنا

ص: 14

بأيدينا، والله لا يغّير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، وإذا سلمت ضمائرنا من الزيغ والانحراف فلن تستطيع أية قوة في الأرض أن تصدنا عما نريد لأنفسنا من السداد والتوفيق

والعقبة الأولى في طريق الوحدة العربية هي عقبة الجنس، فكثير من الناس يتوهمون أن الرجل لا يكون عربياً إلا إذا كان من أصل عربي صميم؛ وهذا خطأ في خطأ وضلال في ضلال، فالعربي الحق هو من انطبع على لغة العرب ولو كانت أصوله من المكسيك، ولا يجوز عندي أن ينتسب إنسان إلى العرب وهو لا يعرف من أسرار لغتهم غير أوهام وظنون، ولو قدم الوثائق التي تثبت أنه من سلالة الرسول

العروبة لغة لا جنس. العروبة لغة لا جنس. العروبة لغة لا جنس

ولو شئت لكررت هذه العبارة ألف مرة، بدون أن أشعر بأنها حديث معاد؛ لأن روحي يحس كل حرف من حروفها إحساساً قوياً، ولو كررتها ألوف المرات

وإذن فمن واجبي أن أثور على من يقسم بلادنا إلى أجناس، وبلادنا هي جميع البلاد التي تتكلم العربية في الأقطار الأفريقية والأسيوية

فجميع أهل مصر والسودان عرب، وسكان أفريقيا الشمالية عرب، والفلسطينيون والسوريون واللبنانيون كلهم عرب، والعراقيون جميعاً عرب، والهنود اللذين يتكلمون لغتنا عرب، وأهل فارس في أصولهم عرب، لأنهم نهضوا بلغتنا المحبوبة في أجيال طوال

والأستاذ سلامة موسى عربي، وإن كان يخاصمني من وقت إلى وقت حول مكانة العرب في التاريخ، بل هو سليم العروبة إلى أبعد الحدود لأنه يتجنى على العرب بلغة العرب، وعروبته أصح عندي من عروبة من صح نسبه إلى يعرب وليس له في خدمة اللغة العربية وجود

العروبة لغة لا جنس، فليفهم هذا دعاة الوحدة العربية، إن كانوا صادقين

وسيأتي يوم ندعو فيه مواطنينا إلى الاندماج في الكتلة العربية، وأريد بهم المستشرقين من أبناء الألمان والروس والفرنسيين والإنجليز والطليان والأسبان، فأولئك إخواننا حقاً وصدقاً، وإليهم يرجع الفضل في تشجيع الدراسات العربية، وإحساسهم بالعروبة أصدق من إحساس العرب اللذين غفلوا عن إدراك ماضي أسلافهم في خدمة الأدب الرفيع

ص: 15

العروبة لغة لا جنس، فليتق الله بعض الناس، وليعتبروا بحوادث التاريخ. فماذا دوّن التاريخ؟ دون التاريخ أن (إمبراطورية اللغة العربية) تمزقت بسبب الاعتزاز بالجنس، وهذا الاعتزاز الطائش هو الذي خلق الشعوبية؛ فبسببه أقسم الفردوسي لينظمن الشهنامة بدون أن يحتاج إلى لفظة عربية، وبسببه جلا سلطان اللغة العربية عن بلاد كان لها في دماء أبنائها مكان. وبسبب مقالة حمقاء كتبها كاتب أحمق في فضل العرب على الأتراك أقسم أتاتورك ليهجرن الحروف العربية. وبسبب هذا الاعتزاز الطائش عاشت لغات في المغرب والشام والعراق، لقصد الطائشين من العرب عن القول بأن لغتهم أحسن اللغات، وبأنها ستكون لغة الناس جميعاً في (دار الخلود) كان العرب وحدهم أبناء آدم، وكأن من عداهم وحوش لبسوا أثواب الرجال!!

العروبة لغة لا جنس. وهل كان جان جاك روسو فرنسي الأصل، وبفضل بيانه الساحر نهضت لغة الفرنسيين؟

العروبة لغة لا جنس. وهل كان أحمد شوقي عربي الأصل وهو من طلائع النهضة الشعرية في الأدب العربي الحديث؟

العروبة لغة لا جنس. وهل كان وهيب دوس عربي الأصل وهو أصدق من عرفت في التغني بأشعار العرب من قدماء ومحدثين؟

وهل كان مكرم عبيد عربي الأصل وله خطب طوال تذكر بخطب سحبان؟

ليتّق الله بعض الناس في ميراث العروبة، وليحذروا من أن يخربوا بيوتهم بأيديهم، عن علم لا عن جهل، وزلة العالم أبشع الزّلات

وما الموجب لأن يكون في الدنيا عرب خلص؟

لو اقتصر العرب على التزاوج فيما بينهم لبادوا وانقرضوا، فما انطوت أمة على نفسها إلا استهدفت للفناء

وهل استطاع العرب أن يسيطروا على العالم حيناً من الزمان إلا بسبب التخلص من العنجهية الجنسية؟

إن التحرر من ربقة الجنس هو البند الأول من وصية الزعيم العربي الأول، وهو محمد بن عبد الله الذي مكن العرب من سيطرة عالمية لم تخطر لأسلافهم الأقدمين في بال، وهي

ص: 16

سيطرة روحية لن يظفروا بمثلها إلا إن تخلقوا بأخلاق ذلك الزعيم الحصيف

العربي الصحيح النسب إلى يعرب قليل الوجود، وهو حين يوجد لا يكون إلا جسداً هامداً لا نفع فيه ولا غناء، لأن التزاوج بين الأجناس شريعة طبيعية، ولا يخرج على تلك الشريعة إلا من كتب عليهم الأفول

إن نبيكم صاهر أمماً لا تمت إلى العروبة بجنس ولا دين، فهل تتوهمون أنكم أهدى منه إلى سواء السبيل؟

اتقوا الله في أنفسكم وفي ماضيكم، وتمسّكوا بشمائل ذلك الرسول لتفوزوا كما فاز أسلافكم الماجدون، واتقوا حاضركم فتناً لا يتعرض لشرها إلا الجهلاء والأغبياء

العروبة لغة لا جنس، فافهموا هذه الحقيقة يا بني آدم من أهل هذا الجيل

أما العقبة الثانية في طريق الوحدة العربية، فهي عقبة الدين؛ فقد توهم قوم أن العروبة والإسلام شيء واحد، وبذلك كثر ارتيابهم في صحة الأخوة العربية، حين يتصل بها ناس من غير المسلمين.

والحق كل الحق أن العروبة والإسلام شيء واحد، على شرط أن نفهم المراد الصحيح لهذا التعبير المريب

الإسلام هو أصدق أثر صدر عن العرب، ولولا الإسلام لبادت لغة العرب منذ أزمان طوال وإذن، فمن واجب العرب من غير المسلمين أن ينظروا إلى الإسلام بعين الرفق والعطف لأنه صوتهم وصوت آباءهم وأجدادهم فيما غبر من الأجيال، وإن لم تأنس آذانهم بذلك الصوت الجميل بفضل تناحر المذاهب والديانات، وهو تناحر لن يقدر على طمر ذلك الينبوع الفياض ذلك واجب العرب من غير المسلمين، فما واجب العرب من المسلمين؟

واجبهم أن يفهموا أن النصرانية واليهودية ديانتان عربيتان. وهل نكون أعقل وأحكم من النبي محمد وقد نظر إليهما بعين الإعزاز والتبجيل، ولم يحارب غير من شوهوا النصرانية واليهودية بالتزوير والتحريف؟

للإسلام والنصرانية واليهودية مسرح واحد هو بلاد العرب؛ وهذه الديانات هي سلطاننا الأدبي في الشرق والغرب؛ وهي حجتنا يوم تطلب الحجج على تفوق بعض الشعوب على بعض. ولعل هذا هو السبب في أن أكابر المسلمين في العصور الخوالي لم يفّهم أن يدونوا

ص: 17

ما في التوراة والإنجيل من حكم وأمثال

إن من المعجزات أن تكون أعظم الديانات المسيطرة على العالم ديانات عربية الأصل، فمن طاب له أن يغمز إحدى هذه الديانات فهو عربي مدخول، لأنه لا يعرف أثرها في التنويه بمجد العرب في العالمين

الرأي عندي أن الروحانية العربية تطورت من حال إلى أحوال فانتقلت من الموسوية إلى العيسوية ثم إلى المحمدية. فهي قد تغيرت في الفروع، مع الاحتفاظ بالأصول. والأصل الأصيل عندنا وعندهم هو التوحيد، والتثليث الذي أنكره القرآن على النصارى لم يكن إلا صورة حرفية من صور الإغراق الذي أولع به بعض أنصار المسيح، وهو إغراق ينكره النصارى المستنيرون في هذا الزمان

إن القرآن يلاطف مخاصميه فيقول: (إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)

وعقيدة التثليث لم توجد بعد عدم، فهي في الأصل عقيدة مصرية، وعلى ذلك تكون جزءاً من ماضينا، ونحن لن نتنكر لأجدادنا أبداً وإن قيل في عقائدهم ما قيل

ثم أثب إلى الغرض الذي أرمي إيه فأقول: إن الإسلام يحكم بالكفر الموبق على من يمس شخصية موسى أو عيسى بسوء؛ فمتى ننتظر أن تكون شخصية محمد شخصية قدسية في البيئات المسيحية والإسرائيلية؟ متى؟ متى؟ ومحمد أوصى أصحابه بأن ينظروا إلى موسى وعيسى بعيون لا ترى غير الجميل

وخلاصة القول أن اختلاف الديانات لن يعوق الأخوة العربية إذا صحت النيات، لأنه اختلاف أراده صاحب العزة والجبروت، وله في إيقاظ الحيوية العربية تاريخ أو تواريخ

قد يصير العرب جميعاً إلى دين واحد بعد جيل أو جيلين أو أجيال، فليكن لهم منذ اليوم أدب واحد هو التآخي الصحيح؛ فمن المؤكد أن المسلمين لن يسمحوا بهدم كنيسة أو كنيس إن تمّ لهم الفوز المطلق، لأن معابد النصارى واليهود عنصر أصيل من عناصر الروحانية العربية، ومن قال بغير ذلك فهو آثم في حق (الوحدة العربية) وهي فكرة دعا إليها نصارى الشام والعراق قبل أن يدعو إليها المسلمون، ولذلك أسباب فصلتها قبل اليوم بإسهاب

قيل ألف مرة: (إن الدين لله والوطن للجميع) ولو تدبرتم لعرفتم أن الدين لنا أيضاً، والله لا ينظر إلى الصور ولا إلى الأعمال، وإنما ينظر إلى القلوب

ص: 18

وخلاصة الخلاصة في تحرير هذه القضية أنه يمكن للرجل أن يكون عربي اللسان والذوق والعصبية، ولو كان من أعداء الدين، لأن العروبة لغة وليست بجنس ولا دين، وإن كان من المفهوم أن القرآن هو سفير اللغة العربية إلى مختلف الشعوب. ومن واجب العربي غير المسلم أن يفرح لسيرورة القرآن في المشرقين، لأن سيرورته من أقوى الحجج في نصرة القضية العربية.

والقائلون بأن اللغة العربية لغة المسلمين لا يخدمون الإسلام بهذا القول، وإنما يبعدون عنه أنصاراً أمدته بهم جاذبية اللغة العربية. والشواهد تنطق بأن النصارى من العرب والمستعربين أدوا للإسلام خدمات يعرف أقدارها عقلاء الرجال

في الدنيا معنى يسمى الديبلوماسية السياسية، فلم لا يكون عندنا ديبلوماسية إسلامية كالذي كان عند أسلافنا الأمجاد، يوم كانت عقولهم تدعوهم إلى تألف من يخالفونهم في الدين؟

أما العقبة الثالثة في الطريق إلى الوحدة العربية فهي اجترار حوادث التاريخ، ولتوضيح هذه النقطة أقول:

كان أبناء العرب قد اختلفوا في أشياء مذهبية وسياسية وجنسية، وهو اختلاف مشؤوم عاد عليهم بالوبال، وكانت له عواقب في الأقطار المصرية والمغربية والسورية والعراقية، ونال من قوة العروبة أضعاف ما نالت فوادح الخطوب؛ فمن واجبنا أن نبالغ في تناسي ذلك الاختلاف إلى أن ننساه، فإن لم نستطع فلننظر إليه بعين العقل، ولنفهم أنه اختلاف قضت به ظروف لا يصح أن نحمل جرائرها بحال من الأحوال

كان بين الأقباط والمسلمين في مصر نزاع وقد محته الأخوة الوطنية، فما الموجب لإحياء ذلك النزاع؟ وكان بين السنة والشيعة في العراق شقاق، وقد محته الأخوة القومية، فكيف يستبيح عاقل إحياء ذلك الشقاق؟ وكان في البلاد السورية خلاف أثارته النزعات المذهبية، وقد خمد ذلك الخلاف بفضل الأخوة العربية، فكيف يصح لإخواننا هناك أن يوقظوا ذلك الخلاف؟ وكان في الأقطار المغربية قتال أرّثت ناره العصبيات الجنسية، ثم أخمدته الأخوة الإسلامية، فكيف يجوز بعث أسباب ذلك القتال؟

إن من الجرائم المنكرة أن نرى نعيق المفسدين يتصايح من وقت إلى وقت بدون أن نقضي عليه بحزم الرجال!

ص: 19

يجب أن نفهم المفسدين أنهم حبائل الشيطان، وأننا لا نجهل السر في حرصهم على إذاعة ما يدعون من مبادئ وآراء؛ فهم جماعات من العاجزين عن طلب الرزق من وجهه الصحيح، ومن كانوا كذلك فمن واجبهم نحو بطونهم أن يلبسوا ملابس الدعاة إلى الحق، والحق منهم براء!

كل دعوة إلى الفرقة لها سبب تعرفه أمعاء المفسدين، والرجل الصادق في الدين والوطنية لا يرضيه أبداً أن يثور بين قومه خلاف يصل إلى تمزيق الأواصر والصلات

ولن نستطيع رفع القواعد من بناء الوحدة العربية إلا إن ضمنّا السلامة من مكايد اللذين يؤذيهم أن تزول أسباب الخلاف، ومن الخلاف تمتلئ بطونهم الخاوية، قاتلهم الله أنى يؤفكون!

وهنالك عقبة رابعة هي غفلة الصحافة عن رعاية الوحدة العربية، وفي شرح هذه النقطة أضرب بعض الأمثال:

كاتب مصري يقول: إن مصر أفضل الأمم العربية

وكاتب سوري يقول: إن المصريين ليسوا بعرب وإنما هم فراعين

وكاتب عراقي يقول: ليس للعروبة وطن غير العراق

فأمثال هؤلاء الكتّاب يجب صلم آذانهم بدون ترفق، لأنهم دعاة الفرقة والشتات

وأنا أقبل أن يجرح المصري مصر، ولو بسوء نية، ولكني أرفض أن يجرحها أحد إخواني في الشام أو العراق، ولو بحسن نية، وكذلك الحال هنالك، فالسوريون والعراقيون يقول كل منهم في بلده ما يشاء، ولكنه يغضب ويثور حين يغمز بلده في جريدة مصرية، ولو كان الكاتب أصدق أنصار الوحدة العربية

وفي هذا المقام أذكر أني عاديت رجالاً من أهل لبنان لأنهم قالوا في مصر كلاماً لا يقاس إلى بعض ما أقوله فيها من حين إلى حين

وقد أطلعت وأن طالب في السوربون على جريدة لبنانية تشكّك العرب في مركز مصر الأدبي، فحفظت تلك الجريدة، ونقلتها مع أمتعتي من باريس إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى بغداد، وقد مزقت ما مزقت من الجرائد والمجلات لأخفف العبء عن مكتبتي بعض التخفيف، ثم ظلت تلك الجريدة في أمان من التمزيق، لأرد عليها بعنف حين تسمح

ص: 20

الظروف

يقع مني هذا الحمق، مع أني أدعي لنفسي حرية العقل، فكيف يكون الحال عند إخواني في سائر الأقطار العربية إذا تعرضت بلادهم لكلمة سوء تصل من خارج الحدود الجغرافية؟

من المؤكد أنني لم أتفرد بهذه النزوة العقلية، فالعراقي يقبل أن تشتم بلاده في جريدة عراقية، ولكنه يرفض أن تغمز في جريدة سورية أو مصرية. واللبناني يجرّح وطنه من وقت إلى وقت، ولكنه يثور على ذلك التجريح إذا صدر عن جريدة مصرية أو فلسطينية أو عراقية

هذه نقطة حساسة جداً فلنرعاها أتم المراعاة في جميع الظروف، ولنفهم أن إخواننا في غير مصر لهم قلوب يؤذيها التحامل ولو بالرمز والإيماء

أما العقبة الخامسة فهي انصراف أبناء العرب بعضهم عن بعض، في الظروف التي توجب التعاضد والتساند والمواساة، ولو بالكلام، وهو لا يكلفنا كثيراً ولا قليلاً من العناء

إن كلمة وجيزة تكتب في جريدة مصرية طّبا لجرح تعانيه إحدى البلاد العربية يقع موقع البلسم الشافي لذلك الجرح، فما بخلنا بمثل تلك الكلمة، وهي أهون ما في الدنيا من تكاليف؟

وقد تلطفت المجلات السورية واللبنانية والعراقية فأخرجت أعداداً خاصة في التنويه بالثقافة المصرية، فماذا صنعت مجلات مصر في رد ذلك الجميل، بل ماذا صنعت هذه المجلات في التنويه بمؤتمر الخريجين في السودان، والسودان أخو مصر الشقيق؟

يجب أن ترفع غشاوة الغفلة عن بعض العيون، ليصح لمصر أن تقول إنها الدعامة الأساسية للوحدة العربية، وهي كذلك لو أرادت، فهل تريد هذه الأخت الظلوم؟

مصر تعمل ولا تتكلم، فهي بالفعل سناد الوحدة العربية، وهي بالفعل حصن العرب الحصين، فكيف تبخل بكلمة تعلن بها أن أرض مصر ملك ورثه العرب عن الفراعين؟

يستطيع أي بلد أن يكفر بالعروبة حين يشاء ألا مصر؛ فما يجوز لها أن تتخلى عن مجد بنته بأيديها في عصور الظلمات، حين كانت العروبة من خيالات الأوهام والظنون بعد سقوط بغداد بأيدي المغول

أما بعد فهذه كلمتي إلى مؤتمر الخريجين في السودان، وهي كلمة تلخص آرائي في العقبات التي تعترض طريق الوحدة العربية، وقد أوردتها صريحة منزهة عن الرمز والتلميح،

ص: 21

لأنها ستلقى على فتيان صراح هم شبان السودان، أعزني الله بودهم الوثيق وهل تستطيع هذه الكلمة أن تغفر ذنوبي في التقصير نحو ذلك القطر الشقيق؟

ذلك جهد المقل، وجهد المقل غير قليل، وسأزور ناديكم بعد أسابيع، فما يرضى الله أن أعيش بعيداً عن مصادر الوحي في أعالي النيل

زكي مبارك

ص: 22

‌2 - كليلة ودمنة

للدكتور عبد الوهاب عزام

كتب الأستاذ عبد السلام هارون مقالات أربعا في كتاب (كليلة ودمنة) كما نشرته. وقد عجلت جواب المقالة الأولى في العدد 426 من (الرسالة)، ثم بدا لي أن أنتظر فراغ الأستاذ من بحثه. فلما فرغ شغلتني شواغل عن البدار إلى الإجابة، فأرجو أن يقبل الأستاذ الناقد والقراء عذري في تأخير الإجابة التي انتظروها

وإجمال الكلام في المقالات الثلاث أن كلام الأستاذ فيها ضروب، منها ما هو تفسير لكلمة غامضة، أو توجيه للفظ يبدو في السياق غريباً؛ ومنها ما هو إجازة لوجه آخر غير الوجه الذي جرى عليه الكلام في الكتاب. وهذا الأضرب من التفسير والتوضيح والتجويز يشكر عليها الأستاذ وأوافقه عليها ومنها بحث في أساليب ابن المقفع، وهو موضوع يحتاج إلى مقدمات في كتاب (كليلة ودمنة) لم تستوف كلها، وللأستاذ رأيه فيه واجتهاده

وأما الضرب الذي يقتضي الجواب، فهو ما أخذه الناقد على كلمات أو جمل جاءت في الكتاب وعدها غلطاً، أو ظن غيرها أقرب منها إلى الصواب. وأنا أعرض على القراء آرائي في مآخذ الأستاذ على النسق الذي أجرى عليه الكلام:

8 -

216: 4: (إن الملوك وغيرهم جدر أن يأتوا الخير إلى أهله) أخذ الأستاذ على هذه الجملة أن جدر جمع جدار لا جمع جدير قال: (وجمع فعيل صفة على فعل نادر سمع منه نذير ونذر وجديد وجدد وسديس وسدس

والجواب أنه يجوز أن يكون الكاتب قد أجرى جدير مجرى نذير وغيره، والأولى مع هذا أن يتبع الكثير المعروف فيجمع جدير على جدراء

والمأخذ الثاني في هذه الجملة أن الأستاذ ظن أن يأتوا في الجملة بمعنى يعطون فقال: (الصواب يؤتون من آتى) وليس هذا من الصواب في شيء، والمراد في الجملة إتيان الخير بمعنى فعله ولو غيرت الجملة برأي الأستاذ إلى (يؤتوا الخير إلى أهله)، لكان فيها مأخذان: الأول تعدية آتى بعلى وهي متعدية بنفسها كما في القرآن: وآتوا اليتامى أموالهم - ولا تؤتوا السفهاء أموالكم - والثاني: أن يعدل بالجملة من أتى الخير بمعنى فعله، وهو استعمال شائع، إلى آتى الخير بمعنى أعطاه وهو استعمال غير معروف في الكلام الفصيح.

ص: 23

فعبارة الكتاب صحيحة واضحة لا يكون تغييرها إلا إفساداً لها

الضبط النحوي

عدد الأستاذ تحت هذا العنوان مآخذ

1 -

ص 18س11 (فيعلم سر نفسه وما يضمر عليه قلبه): قال وأضمر يضمر بمعنى أخفى يخفى فما يكون المعنى في أن يخفى قلبه عليه؟ الصواب قلبه بالرفع لأن القلب هو الذي يضمر الأسرار والنوايا: (والجواب أن من اليسير أن يضمن الكاتب (يضمر) معنى يطوي أو يطبق أو نحوه. وتحويل قلبه من المفعولية إلى الفاعلية يجعل معنى الجملة (يخفى عليه قلبه) فهل يرى الأستاذ أن هذه العبارة أسد من الأولى؟

2 -

14: 41 (وشبهت الجرذين بالليل والنهار، وقرضهما دأبهما في إنفاد الآجال) قال: يصح أن تقرأ وقرضهما دأبهما باستمرار التشبيه الخ. والجواب أني رجحت الرفع لأن في النصب إخلالاً بنسق الجملة، بتعدية الفعل (شبهت) بالباء في المفعولين الأولين (الجرذين بالليل والنهار) وتعديته بغير حرف في المفعولين الآخرين (وقرضهما دأبهما) فالاستئناف برفع قرضهما أرجح

4: 122 (فأعادت ذلك عليه مراراً كلّ ذلك لا يلتفت إلى قولها) وقال الأستاذ: ولا وجه للرفع هنا؛ والوجه كلّ ذلك على الظرفية الزمانية ولا يصح أن يكون كل مبتدأ. وذلك لأن الضمير العائد عليها محذوف تقديره (فيه)، والبصريون يمنعون حذف الضمير العائد على لفظ كل إذا كان مبتدأ. ولذلك حكموا بشذوذ قراءة ابن عامر (وكلّ وعد الله الحسنى)

وليست الظرفية هنا حتما، بل يجوز أن يكون المعنى: كل ذلك القول لا يلتفت إليه، فالإشارة للقول لا للزمان وقد وضع الكاتب الاسم الظاهر موضع الضمير فقال:(إلى قولها) بدل (إليه) والجملة على الوجهين ليست من الأساليب العربية المختارة

ص 2: 179 (ولم أذكر ما ذكرت ألا أكون أعرف منك الكرم والسعة في الخلق) قال: الوجه إلا لكوني أعرف منك وأقول ليس هذا وجهاً. فإن المعنى: لم أذكر ما ذكرت جهلاً بكرمك. فهو اعتذار عن الكلام السابق الذي يشعر بأن الغيلم يشك في كرم القرد. ويؤيد هذا أن بعد هذه الجملة: (ولكن أحببت أن تزورني في منزلي) وهو استدراك حسن في الجملة التي أثبتناها في الكتاب، وهو إثبات بعد نفي: لم أجهل كرمك ولكني أحببت، ولا يحسن

ص: 24

هذا الاستدراك إذا أجرينا الكلام على الوجه الذي رآه الأستاذ فجعلناه: (ولم أذكر ما ذكرت إلا لكوني أعرف منك الكرم ولكن أحببت الخ) والتأمل في سياق الكلام يبين أن لا وجه إلا ما جاء في متن الكتاب

199: 3 (لم تدر أيّهما تأخذ) قال: والصواب أيّهما بالنصب. وصدق، فالنصب أقر وأرجح وإن يكن للرفع وجه فما قصدته

في تحقيق النص

أورد الأستاذ تحت هذا العنوان مآخذ:

ص26 س10: (مثل الحراث الذي يثير الأرض ويعمرها ابتغاء الزرع لا العشب). قال: (فما وجه العمارة في طلب الزرع؟ الصواب يغمرها أي بالماء). وأقول: (إن الزرع ضرب من عمارة الأرض لا ريب). وما أحسب الكاتب إلا حاكي الآية القرآنية: (وأثاروا الأرض وعمروها). ولا يعتبر عن سقي الأرض بغمرها؛ فكلمة يغمرها بعيدة من سياق الكلام هنا

ص38 س3: في الحديث عن الجنين: (منوط قمع سرّته إلى مريء بأمعائها). قال الناقد: وهو كلام متهالك مضطرب؛ فما العلاقة بين سرة الجنين وأمعاء الأم؟ إلى أن قال: (أما كلمة مريء فعجيبة أيضاً). وانتهى إلى أن صواب الجملة: (منوط بمعي من سرته إلى مراقّ رحمها)

إن كان الأستاذ يريد أن يغلط الكاتب الذي كتب باب برزويه فليجادله في التشريح كما يشاء؛ وإن كان يريد أن في الكتاب تحريفاً لم نهتد إلى صوابه فلست أرى رأيه. عبارة الكتاب: (منوط قمع سرّته إلى مريء بأمعائها يمص به من طعامها وشرابها وبذلك يعيش ويحيا) وظاهر أن الكاتب يرى أن الجنين يصل بين سرته وأمعاء أمه مريء أي مجرى للطعام كالمريء الذي بين حلق الإنسان ومعدته؛ وأنه يتغذى من طعامها بهذه الصلة. فالكلام بيّن معرب عن مراد الكاتب صواباً أم خطأ. وفي نسخة شيخو (منوط من سرته إلى سرة أمه وسلك السرة يمص من طعامها وشرابها) وفي نسخة طبارة (منوط بمعي من سرته إلى سرة أمه ومن ذلك المعي يمص ويقتبس الطعام) فالفرق بين نسختنا وهاتين النسختين أن سرة الجنين تفضي بهذا المعي أو المريء إلى سرة الأم أو أمعائها. وعبارة الطعام والشراب تدل على أن الاتصال بواسطة سرة الأم أو بغير واسطتها ينتهي إلى الأمعاء،

ص: 25

وهذا الذي تدل عليه عبارة نسختنا. وأما فرض الأستاذ أن أصل العبارة (منوط بمعي من سرته إلى مراق رحمها) فندع الكلام في صحته للأطباء. ومهما يكن رأي الأطباء فيه فلن يجيز الأدباء الأمناء على نشر الكتب أن يحولوا نص الكتاب إلى العبارة التي يقترحها الأستاذ مع بعدها عما في النسخ كلها. ولو أبحت لنفسي التصرف في متن الكتاب لما تركت به عبارة تقبل اعتراض النقاد

614 (وأصبح الرضا مجهوداً مفقوداً) يرى الأستاذ أن كلمة مجهود محرفة عن مجهول ويستشهد النسخ الأخرى، وله الحق؛ فكلمة مجهول أقرب إلى ظن القارئ من كلمة مجهود؛ ولكني لم أستحسن تغيير الكلمة لسببين: الأول أن مجهوداً تفيد معنى في الجملة غير الذي تفيده كلمة مفقوداً، وأن كلمتي مجهول ومفقود تؤولان إلى معنى واحد. والثاني أن الكاتب في هذا الفصل وصف الأمور المعنوية بأوصاف تجعل القارئ لا يستغرب أن يوصف الرضا بأنه مجهود كما قال: وكأن القدر أصبح مستيقظاً والوفاء نائماً، وكأن الكذب أصبح غضاً والصدق قاحلاً، وكأن الحق ولّي عاثراً والإنصاف بائساً الخ

7044 (كالكحل الذي لا يؤخذ منه إلا مثل الغبار) قال صوابه إلا مثل غبار الميل. وأقول لا يكون هذا صواباً لأن الذي يؤخذ من الكحل ليس غباراً ولكنه يشبه الغبار. وإذا قلنا مثل غبار الميل فقد جعلنا ما على الميل غباراً، والغرض أن يشبه بالغبار، ثم جعلنا ما يؤخذ من الكحل مثل غبار الميل وهو غبار الميل نفسه فكلمة مثل لغو. والظاهر أن النسخ الأخرى زادت كلمة الميل توضيحاً للعبارة لأن الكحل يؤخذ من المكحلة بالميل. ونسخة شيخو توافق نسختنا. وفي النسخ الأخرى إلا غبار الميل. فالعبارة (مثل غبار الميل) لا توافق العقل ولا النقل

75، 12 (مثل المكارى كلما ذهب واحد جاء آخر مكانه) قال الأستاذ هي في الأصل ونسخة شيخو ونسخة بولاق:(مثل البغي كلما. . . الخ) ثم أخذ على الناشر تغيير الأصل واشتد في هذه المؤاخذة.

وأنا قد بينت الأصل في التعليق ويكون القارئ على بينة مما فعلت، وأما حكمة التغيير التي سأل عنها الأستاذ فيدركها من تأمل فعرف المشبه في هذه الجملة وتبين أنه لا يليق أن يجمع بين طرفي التشبيه هذين في كتاب كهذا الكتاب ينشر في مثل هذه الأحوال

ص: 26

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 27

‌من أخلاقنا!

للأستاذ علي الطنطاوي

أعرف رجلاً أنعم الله عليه بسعة المال، وفطره على صدق الود وبسط اليد، فأباح إخوانه ماله، يغترفون منه اغترافاً، ويأخذون منه علاَّ ونهلاً، قرضاً حسناً لا يطالبون برده، وهدية لا يسألون المقابلة بمثلها، وهبة لا يرتقب منهم عوض عنها، ولا يسمعون كلمة منّ أو تذكير بها. وفتح لهؤلاء (الإخوان) - وما كان أكثرهم - داره، وأفرد لهم جناحاً فيها لا يدخله أحد من حرمه وأهله، وأقام عليهم خادماً وطاهياً، وانقطع فيه لاستقبالهم قادمين بالبشاشة والترحيب، وإيناسهم مقيمين وخدمتهم، وتوديعهم راجلين مشيعاً إياهم بالكرامة، شاكرهم على (تفضلهم) بالزيارة، سائلهم (التكرم) بالعودة. . .

ولبث هذا الرجل على ذلك حتى أضاع ماله كله، فباع الدار وأثاثها، وغدا فقيراً يحتاج إلى (الورقة السورية)، فلا يجد في كل أولئك (الإخوان) من يدفعها إليه، لا وفاء دين، ولا مقابل هدية، ولا عوضاً من هبة، ولا قرضاً حسناً إلى أيام السعة، اللهم إلا بربا، ولا يرضى المرابون أن يقرضوا مفلساً. . .

ولعلّ الرجل أخطأ حين عمد إلى هذا (الكرم الجاهلي) فأخذ به، وترك التأدب بأدب القرآن الذي يقول:(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط، فتقعد ملوماً محسوراً)؛ والذي جعل المبذرين إخوان الشياطين. ولعله لقي جزاءه. . . فما سقطت القصة للحكم عليه، وإنما قصصتها لأنها ذكرتني بطائفة (من أخلاقنا)، هي كالداء في جسم الأمة، لا يجمل بالكتّاب وحملة الأقلام السكوت عنها والرضا بها، وهم أطباؤها وأساتها، وعندهم دواؤها

ذكرتني بما نكاد نراه كل يوم من الحوادث وما يكاد يعرف له كل قارئ شبيهاً ومثيلاً، حين يأتيك الرجل من أصدقائك أو جيرانك متذللاً متواضعاً، مظهراً للتقي والأمانة، يسألك أن تقرضه مالاً قد تكون أنت في حاجة إليه في يومك أو غدك ويذكرك الكرم والثواب؛ وربما استعان عليك بمن لا يرد طلبه عندك فتعطيه ما يريد، تضعه في كفه خالياً به، تستحي أن تشهد عليه شاهداً، أو تأخذ به كتاباً، مع أن الله أمر بكتابة الدين إلى الأجل المسمى أمر ندب واستحباب، لا أمر إيجاب وافتراض، فيأخذه منك ويذهب شاكراً فضلك، مثنياً عليك

ص: 28

ثناء يخجلك ويضايقك؛ ثم لا تراه بعد ذلك ولا تبصر له وجهاً فتفتش عنه لتسأله رد المال وقد انقضت مدة الدين، وتجددت حاجتك إليه، فيروغ منك، وينأى عنك. . . فتطرق بابه، فيقال لك هو غائب عن الدار، فتعود إليه في الصباح فيقال هو نائم، فترجع بعد ساعة فيقال خرج. . . فتبتغي إليه الوسائل وتتشفع إليه بالأصدقاء. . . فيلقاك شامخ الأنف مصّعراً خده، يقول:(يا أخي، أزعجتنا بهذا الدين. . . ما هذا الإلحاح الغريب؟ أتخاف أن آكله. . .!) وينتهرك وأنت تداريه. . . ثم إن كان (رجلاً طيباً) دفع إليك الدين، ولكن قرشاً بعد قرش، و (ورقة) بعد (ورقة)، فتريق في استيفاء دينك ماء وجهك، وتنفق فيه الثمين من وقتك، ثم لا تنتفع منه بشيء. وإن لم يكن (صاحب ذمة) أكل الدين كله، وصرخ فيك حيثما لقيك:(مالك عندي شيء. اشتك للمحاكم!)، وهو يعلم أنه لا سند في يدك، ولا بينة لك عليه. . . وهبك أخذت منه كتاباً بدينك، أفتصبر على طول المحاكمة ومتابعتها وتأجيلها وتسويفها، و (رسومها ومصارفها). . . إن ضياع المال أهون من إقامته الدعوى به

ومثل هؤلاء المقترضين (الأفاضل) مستعيرو الكتب، أولئك الذين تركوا في قلبي غصصاً حلفت بعدها بموثقات الأيمان أني لا أعير أحداً كتاباً. ولم أنج مع ذلك منهم، ولم يرد لي إلى الآن كتاب (كشف الظنون) الذي نسيت من استعاره مني منذ إحدى عشرة سنة. . .

ولهؤلاء المستعيرين نوادر شهدت منها العجب، منها أن أستاذاً محترماً في قومه جاءني مرة يلتمس إعارته جزءاً من تفسير الخازن من خزانة كتبي، ليراجع فيه مسألة ويرده إلي عاجلاً، ففعلت؛ وانتظرت أربع. . . أربع سنوات - والله - ثم ذكرته به؛ فغضب وقال:(لإيش العجلة يا أستاذ، لم أراجع المسألة بعد. . .)!

والذي يذكر منهم صاحب الكتاب ويتنازل فيرده إليه، يرده مخلوع الجلد، ممزق الأوصال. وأنكى منه المستعير المحقق المدقق الذي يرمي في الكتاب موطناً يحتاج إلى تعليق، فيكتب التعليقة التي يفتح الله بها عليه على هامش كتابك بالحبر الصيني الذي لا يمحى ولا يكشط، ويذيلها باسمه الكريم!!

وشر من هؤلاء جميعاً الثقيل الذي يتظرف ويتخفف، فيرى أن من الظرف سرقة الكتب، فإذا زارك وتركته في المكتبة وخرجت لتأتيه بالقهوة أو الشاي أخذ كتاباً فدسه تحت إبطه، أو وضعه في جيبه ثم ذهب به وأنت لا تدري. . .

ص: 29

وربما كان هذا المدين المماطل، وذلك الذي يأكل الدين وينكره، والذي يستعير الكتاب ويمسكه، ربما كانوا عند العامة من أقطاب الوقت وأولياء الله الكبار؛ ذلك لأن الناس جهلوا حقيقة التقى وبدلوا معناه، فكان التقي في صدر الإسلام هو الذي يتقي المحارم والمظالم ما ظهر منها وما بطن، ولا يدخل جوفه ولا جيبه إلا طيباً حلالاً، ويفر من مواطن الشبهات، ولا يطلب المال إلا لإمساك الرمق ونيل القوام. والعيش عيش القناعة والرضا، ولا يأخذه إلا من حلّه. ولم يكن الرجل ليشهد للرجل بالتقوى إلا إن صحبه في سفره، أو عامله في مال؛ فصار التقي اليوم من يكبّر عمته، ويطيل لحيته، ويوسع كمه، ولا تفارق يده سبحته، ولا يقف لسانه عن ذكر؛ ومن يتوقر ويطيل المكث في المساجد. وهذا كله حسن لا اعتراض عليه، غير أن حسنه ينقلب قبحاً أبشع القبح إذا اتخذه صاحبه أو حبولة يصطاد بها الدنيا، كذلك الذي كان وصياً على أيتام ضعاف لا يملكون حيلة، اغتر أبوهم بلحيته وسبحته فوصى بهم إليه، فجرعهم كؤوس المذلة والجوع، ونشأهم في الأزقة نشأة اللصوص، وأكل أموالهم وهو يقرأ كل يوم بصوته الجميل:(إن اللذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً)، وهو مع ذلك لا ينقطع عن الأذكار وحلقاتها، ويجهر بالبكاء إذا سمع الموعظة. . . وينكر أشد الإنكار على من يهمل السنن فيشرب بشماله أو يحلق لحيته، والناس يتبركون بلثم يده. فكيف السبيل إلى إفهام هؤلاء الناس ما هي حقيقة التقي كيلا يعظموا اللص ويجعلوه ولياً مباركاً، ولا يغتروا بالصلاح المجاني الذي لا يكلف صاحبه مالاً بل يجمع به المال، ويعلموا أن الله الذي وضع في نفوس الشباب شهوة الجسد وضع في نفوس (هؤلاء) المشايخ (لست أعني المشايخ كلهم) شهوة المال، وإنه لا فضل لأحدهما على صاحبه؛ وأن الشيخ التقي هو الذي لا يقيم للمال وزناً، ولا عبرة بغضه البصر عن النساء واتباعه سبيل العفاف؛ وأن الشاب الصالح هو الذي لا تغلبه على نفسه تلك الشهوة ولا عبرة يبذله المال. . .

لقد انحدرت أخلاقنا حتى صار الشاب منا حين يخوض خضم الحياة، ويرى الاختلاف بين ما علموه من الأخلاق في المدرسة، وما تواضع عليه الناس في الحياة، يقف حائراً مدهوشاً لا يدري ما يأخذ وما يدع؛ فلا هو يرتضي لنفسه التفريط في أخلاقه: صدقه وأمانته وعزة نفسه، ولا هو يرتضي الحرمان من المتع واللذائذ والمناصب العالية والمرتبات الكبيرة

ص: 30

يناله جزاء تمسكه بما علّموه من الأخلاق. حدثني صديق لي أنه أنتسب في شبابه إلى الشرطة، فجعلوه رئيس مصلحة السير في بلدة من بلاد الشام، وكان ذلك منذ خمس وعشرين سنة أو في من ذلك، وكان مقره في (مخفر) في ظاهر البلد، فمر عليه رتل من السيارات فيه حجاج آيبون، وكان نظام تلك الأيام أن سيارة لا تجتاز على مخفره إلا بوثيقة وإذن، لا أدري ما صفتهما فقد نسيت دقائق حديثه، ولم يكن معهم ذلك (الإذن) فوقفهم ومنعهم من المرور إلا به. (قال) فغاب السائق هنيهة ثم عاد وفي يده صرة وضعها على مكتبي فيها أربعون ريالاً مجيدياً، وقال هؤلاء حجاج آيبون يريدون التعجيل بالوصول. . . وهذه الصرة ثمن (فنجان قهوة) رجاء السماح لهم الخ. . . فلما سمعت ذلك قفّ شعري وصحت به: أتريد أن ترشوني يا كذا وكذا، وأمرت به فوقف، واستلمت الهاتف (التلفون) أهتف بمدير الشرطة أرفع إليه الأمر وأنا أرى أنه سينزل به أشد الجزاء، فإذا به يأمر بإطلاقه، ويأذن للسيارات بأن تسافر على خلاف النظام، وأن يبعث إليه بالمال ليجري التحقيق. (قال صديقي) وذهب المال ولم يعد، وتركت العمل. ولو أني بقيت لطرحت على عاتقي ثقل الأخلاق التي تجعلني غريباً بين زملائي، وتحرمني من الغنى، وتكسبني غضب الرؤساء فلا يصيبني ترفيع، ولا يصل إلى خير. وليست هذه القصة فريدة في بابها، ولا هي نادرة من النوادر، بل هي قصة كل يوم، وهي الداء الذي يزداد ويسيطر والأساة عنه غافلون. وأين أساته وأهل السياسة مشغولون بالقتال على كراسي الحكم، هي الدنيا لهم وهي الأخرى، وأهل الأدب بين نائم يستمتع بشهي الأحلام، ومستيقظ قد ألهاه هواه، فهو يملأ الدنيا بكاء ونحيباً لأن صاحبته أسهرته يعد النجوم ولم تأته. . أو أنها قد وعدته بقبلة ثم وجدت أجمل منه أو أفسق فأعطته إياها. وأهل العلم يعيش أكثرهم على هامش الحياة لا هم له إلا مرتبه يقبضه من (دائرة الأوقاف) في مطلع كل شهر، ثم لا تراه ولا يراه أحد إلى الشهر الذي بعده، أو (حاشية) يقرؤها ويعيدها على من حضر مجلسه، قراءة تبرك لا قراءة تحقيق، فلا يرجع ولا ينتقد ولا يقابل قانوناً على قاعدة فقهية، ولا ينظر في مشكلة من مشاكل العصر ليرى حكمها. ومن اشتغل منهم بالمسائل العامة أخذ نفسه بالاهتمام بأمر لا يقدم في الدين ولا يؤخر، ولا يتوقف عليه إيمان ولا كفر. والشباب الناشئون لجهلهم حقائق الإسلام، وبعد ما بينهم وبين المشايخ، وقصر أيديهم وإفهامهم عن

ص: 31

نيل الكتب (ذات الشروح والحواشي) قد زهدوا في كل ما هو شرقي واستهانوا به، وعظموا ما يقابله من كل حماقة دعيت مذهباً اجتماعياً، وكل سفسطة سميت فلسفة، وكل كفر بالدين والعرض دعي أدباً، وأعانهم على ذلك أن أكثر المدرسين من اللذين لم يقدر لهم فهم علوم الإسلام والغوص على كنوز كتبه. ولست أطلق القول وأجنح إلى التعميم، فإن في كل فئة من هؤلاء الطيبين المصلحين، ولكن الكثرة على نحو ما ذكرت. فمن أين يرجى إصلاح أخلاقنا وأوضاعنا؟

ومن أين يرجى لأخلاقنا صلاح، ولم نتفق بعد على (الأخلاق) التي ينبغي أن نتخلق بها، فمنا من يرى المثل الأعلى في أخلاق الجاهلية: كرم إلى حد التبذير، وشجاعة إلى حد التهور، كصاحبنا الذي استهلك بحديثه هذا المقال، وعامة طائفة (الزكرت) في الشام، (وهي أشبه بالفتوة في مصر) وأكثر البدو. ومنا من يميل إلى التخلق بأخلاق أجدادنا في القرن الماضي على ما كانت عليه بلا زيادة عليها أو نقصان منها، ومن يخالفهم مخالفة الضد للضد فيرى أن نقتبس الأخلاق الغربية برمتها. ويتشعب بهؤلاء الرأي فيميل كل إلى الأمة التي تعلم في مدارسها أو رحل إلى أرضها؛ ومن يرى اقتباس الجيد النافع من كل أمة من غير أن يحدد أو يعين. ولا دواء لهذه الفوضى في رأيي، ولا صلاح لأخلاقنا، إلا بالرجوع إلى الإسلام الصحيح الذي جاء به سيدنا وسيد العالم محمد صلى الله عليه وسلم، لا الإسلام الذي يفهمه الحشويون والمتاجرون بالدين، ولا الذي تفهمه العامة. فإذا فعلنا فثمة كل خير، ولا يكون ذلك إلا إذا شمر العلماء وحققوا المسائل، ودرسوا المشكلات، وألقوا عن المصنفين الأولين رداء التقديس، واستمدوا الأحكام من موردها ثم ترجموا هذه الكتب القديمة إلى لغة العصر، فأين من ينتدب نفسه لذلك؟

علي الطنطاوي

ص: 32

‌الصحافة والدولة

للأستاذ زين العابدين جمعة

المحامي

(هنري وبكهام اسنيد الذي نترجم له هذا الفصل من كتابه

(الصحافة) صحافي ثبت وكاتب علم. درس دراسة واسعة

وخبر الصحافة خبرة طويلة ناجحة؛ إلى أن كان مراسلا

لصحيفة التيمس في برلين وروما وفينا، وأن انتهى إلى رياسة

تحرير هذه الصحيفة. والرجل مفكر عبقري لا يتهيب أن

يرتجل رأيه ويصارح الناس به. وقد تناول الصحافة الحاضرة

في كتابه من مختلف نواحيها؛ وكان من سياق تحقيقه العلمي

والعملي أن أفاض فيما للصحافة من أثر حاسم فيما ينعم به

الناس من حرية القول وحرية الرأي وحرية العمل، وما صار

يتهددها على يد الحكام المستبدين.)

زين العابدين

عقب أن تولى هتلر زمام الحكم في ألمانيا بأشهر قلائل سألني النصح صحافي ألماني فيما يكابده من أمر ضرورة ملحة. ولقد عرفته رجلاً طيب الخلق نقي الصفحة؛ قضى سنين الطوال وهو يخدم إحدى الصحف اليومية الألمانية المهيبة الجانب لما امتازت به من نباهة الشأن واستقلال الرأي. وكان آنئذ قد تلقى بلاغاً ينبئه أن مركزه، وبالتالي أرزاقه، قد صار معلقاً بما يظهره من استعداده لإبرام ذلك الميثاق الذي (ينظمه) في سلك الاشتراكية الوطنية أو جماعة النازي التي لا يرى رأيها ولا يذهب مذهبها

ص: 33

لقد شق عليه الأمر ومرت برأسه خواطر متشعبة: أيبرم الميثاق فيضيع على نفسه ما تنعم به من كرامة الذات واستقلال الرأي، أو يأبى عليهم التوقيع فلا يبقي له شيء يعيش عليه إلا ما يعتز به من احترام النفس واحترام النفس وحده. ثم أخذ يسألني عما يجمل به أن يختاره من مصير

والحق أنه لم يشق علي النصح مثلما شق علي من أمره. فهل كان يسعني أن أقول له: (لا توقع، وسأرى أنه ما من ضير يصيبك أو ينتظرك في هذا السبيل؟). نعم لقد كان مثل هذا القول سهلاً ميسوراً؛ ولكن يا لها عندي من شجاعة رخيصة أن أقول لرجل كن مقداماً جريئاً فأحمله على أن يجازف بمقومات حياته وأسباب عيشه من غير أن أهيئ لغيرها السبيل!! والحق أني كابدت من أمر (قضيته الوجدانية) نصيباً لا يقل عما يكابده فيها من نصيب

ولعله كان بسبب ما يعوزني من شجاعة أدبية أن حاولت إعفاء نفسي من نصحه. وبدلاً من أن أتقدم برأي سألت سائلي أن يخبرني عن حقيقة مشاعره، ثم ناقشت معه جميع الفروض والاحتمالات المرتبطة بالقبول أو المترتبة على الرفض. وإذ علمت من أمره أنه قد عقد النية على ألا يبرم الميثاق وأجمع رأيه على أن يحمل لهم حياته في كفه تاركا للمقادير أن تفعل به ما تشاء، فقد رأيت أن ألبس في تفنيد حججه ثوب الدفاع. وعرضت له القضية من ناحية أخرى هي ما يصيب الشعب الألماني من ضرر إذا ما اجتثت من تربة الصحافة الحرة جميع الدوحات المباركة، وحرمت الصحافة الألمانية من رجالها الأمناء النابهين. فاستحال عليهم في المستقبل القريب أو البعيد ترقب النهزة واغتنام الفرصة لمعاودة الجهاد وإصلاح المعوج وتقويم السبيل. والحق أني ما حاولت أن أحمله على العبث بوجداناته إلا لأرفه عن نفسه عبء ما يشق عليها من مسئولية أدبية لما يتهدده وينتظره إذا لم يلب الدعوة ويبرم الميثاق. وكان أكبر همي أن أنقذه من نفسه فلا أدعه في ثورته النبيلة وغضبته العادلة يقرر لنفسه مصيراً عساه يلومها عليه فيما بعد

لقد عقد النية على التضحية بمادته والاحتفاظ بمثله؛ وكانت له الخيرة بين القبول المغني والرفض المفقر. فآثر الرفض على القبول، وتأبى عليهم في عزة وأنفة إبرام العهد، وكان قدراً مقدوراً أن فقد مركزه وضاعت أرزاقه. ومنذ ذلك الحين أخذ يضرب في الأرض

ص: 34

هائماً على وجهه لا يلوي على شيء إلا ما عساه أن يظفر منه بمرتزق جديد، فلا يصيب من ملتمسه إلا ما يتبلغ به

ولقد قدر لي لعهد غير بعيد أن أجتمع به ثانية في قطر أجنبي حيث كان يبحث عن مرتزق ثابت وعيش مأمون. ويا له من شأن لا أقضي من نبله العجب أن أراه وما تبدر لي منه بادرة آنس منها انه ارتاب يوماً في عدالة منهجه أو أنه أصبح في شك من صواب رأيه فاتهم نفسه في صدق اختياره

يا لها من أمنية طيبة أن أراه في مستقبل العمر وقد اعتذر له الدهر عن خطيئته ووافاه الزمن بجزائه العادل؟

إن منهج هذا الصحفي الحر ومنهج غيره من الصحفيين الذين لا يقلون عنه تضحية ولا إقداماً لما يجعل سلوك هؤلاء الصحفيين، من غير جماعة النازي، اللذين استكانوا وأبرموا الميثاق على كره منهم ومنهجاً مهيناً قدراً. ألم يصبحوا مجرد أداة لا وزن لها ولا تقدير لمجهوداتها؟ ألم يمسوا مجرد أبواق للدعاية التي هي من صميم كيان الحكومة النازية الاستبدادية؟ ألم يقتصر أمرهم في التحرير على أن يستخدموا ما توفر لهم من كتابة وما تهيأ لهم من مواهب في تنظيم ما يتلقونه من الدكتور (جيبلز) أو (قلم المخابرات السرية) من موضوعات يؤمرون بكتابتها ويجبرون على إذاعتها؟ ألم يهيئوا لهم طابعاً رسمياً من ثياب عسكرية ليكون ذلك شاهداً على استرقاقهم وآية على عبوديتهم؟ أيظل هؤلاء صحفيين بما تحمله كلمة الصحافة من معنى، أم صاروا وقد جمدت قريحتهم وسقم وجدانهم تبعاً مستضعفين وعبدة مستعبدين؟

إن الجواب على ذلك مدرج في مسائل أخرى أبعد مدى وهدياً إذا كانت الصحافة المقيدة المستعبدة تعتبر صحافة أصلاً بما تحمله كلمة الصحافة من معنى، وإذا كانت الأمم الاستبدادية تفسح للصحافيين في ميادينها مكانة كتلك المكانة التي يعرفها الناس لها في الأمم الحرة

إن (الصحافة) الألمانية أداة حكومية خصت بأن تلعب الدور المنوط بها وفقاً للأسلوب النازي وتبعاً لوجهة النظر النازية في طبيعة الأمور، وأولئك الذين يعنون بحرية الصحافة البريطانية كمظهر من مظاهر الحرية السياسية البريطانية على العموم يجب أن يفهموا

ص: 35

ماهية هذه الأداة وعلاقتها بالنظام النازي

فلقد عرف الهر (ولهلم والدركرش) وجهة نظر النازي في الصحافة بأسلوب واضح يدعو إلى الإعجاب في مؤلف ألماني عنوانه: (واجب الصحافة السياسي) قائلاً: (إن جماع ما يسعنا أن نفهمه من واجب الصحافة السياسي هو أن نسلم تسليما مطلقاً وأن نعترف اعترافاً قاطعاً لا يحده وصف ولا يقيده شرط بما (للزعامة) من شأن في الدولة وبما هو لزام عليها من تأييد الزعيم في رواج خططه تأييداً طليقاً من أي قيد أو تحفظ. وإن الصحافة بأوسع ما ينطوي عليه عملها السياسي من دلالة، مباحة لأن تكون من الاستسلام والخضوع بحال يتيسر معها أن تتضافر جهود الصحف الألمانية جميعاً على تدعيم أسلوب التجديد الناضج في الحياة السياسية. وبوسع الصحافة الألمانية بما تؤديه أو تخفق في تأديته أن تؤثر تأثيراً فعالاً ذاهباً إلى أبعد مدى في كيان الحكومة الألمانية. وهنا مبعث الاهتمام في إدراك ماهية العمل السياسي للصحف. ولقد كان من بواعث الغبطة وحسن التوفيق أن اختفت اختفاء تاماً من ميدان حياتنا الاجتماعية تلك الأغراض المتشبعة والمقاصد الملتوية والغايات المتنوعة، كما اختفت أيضاً الصحف التي لم يكن يعنيها إلا أن تخدم المقاصد والأغراض الحزبية من غير أن تلقى بالاً لما انطوى عليه العنصر الألماني (من المزايا الجنسية والقيم المعنوية). ولقد أصبحنا الآن ونحن لا نسمح لأية صحيفة أن تجعل لها سياسة خاصة بها، أو أن تدلي من وجهات النظر والآراء ما من شأنه أن يعرقل سبيل القيادة في الدولة. وقديماً تهيأ للنقد ميدان واسع الأرجاء بعيد المدى، وكان بوسع الناقدين أن يجري في خاطرهم أنهم يخدمون المصلحة العامة؛ إلا أن الرقباء الغيورين قد رأوا بثاقب فكرهم في ذلك الزمن بعينه ما يلازم أمثال تلك الآراء من الزيف والخديعة، وما يجب أن ننتهي إليه من إفساد وضلال. لقد أصبحنا اليوم ونحن نفهم فهماً تاماً أن العهد الجديد بحاجة إلى رأس جديد، وأن الحكومة قد وطدت العزم على أن تحتفظ في يدها بقيادة الدولة، وعلى الصحف أن تدرك مقتضيات هذا الشأن فستعمل بكل الوسائل على تأييد خطط الحكومة

ولقد جهر الهر (ولدكرش) أن يؤثر في نفوس مواطنيه وأن يلبس آراءه ثوباً جذاباً فعالاً فاقتبس لها عبارات متنوعة من كلام الزعيم بحروفها، وهي عبارات تلح في أن الثورة لا يسعها أن تنجح ما لم يتهيأ لها أن تطبع بطابعها الشعب بأسره؛ فإن لزاماً على الدولة

ص: 36

النازية أن تنشئ نشأً جديداً. وإن رسالة الصحافة هي أن تطبعهم بالطابع الحقيقي) أو بعبارة هتلر: (إن الصحافة هي الوسيلة إلى تهيئة المجموع لأن يربي نفسه وأن يتثقف على ضوء ما يراه ويختطه الزعيم الذي يقود الدولة) ولقد أدلى بهذه الآراء الدكتور (جيبلز) الذي اقتبس عنه الهر (ولدكرش) مؤيداً نظره ومستصوباً رأيه. فصرح بأن ما يسمح به من رخص للكتاب مقيد بذلك الالتزام الماثل في أن تكون وقفاً على خدمة الدولة

والذي يخلص من أمر هذه الحقائق ومن سائر الحقائق الأخرى الملموسة هو أن جماع ما يتصور للصحافة من حرية، بل وما يظن للفرد نفسه من حرية، قد حذف من منحى السياسة الألمانية؛ فلم تعد الصحافة الألمانية قادرة على أن تكون عنصراً من عناصر التعبير عن (الرأي العام)، إذ فرضوا عليها أن تطبع في رءوس الجمهور ما جرى به قضاء زعيم الدولة أن يكون موضع التفكير العام. وكم يحتاج الأمر في بريطانيا - وفي البلاد الأخرى التي لا زالت الصحافة فيها تنعم من حريتها بمثل ما تنعم به في إنجلترا - من جهود عقلية للإحاطة بكامل ما انطوت عليه تلك الثورة من معنى، ولإدراك أن ما للصحافة المستعبدة (المتماثلة في الدرجة والأسلوب) من قوة، لأكثر مثولاً فيما تكف عن قوله أو لا تجترئ على نشره منه فيما يتسنى لها نشره أو يطيب لها إثباته وإبرامه

ولو أن الأمور المؤكدة قد تصبح موضع ريبة ومبعث شك إذا لم تؤيدها الحقائق المماثلة في طبيعة الأشياء أو ينهض الدليل بحجتها، إلا أن ما صادف الحقائق التي لها أثرها في تهيئة عقول الأفراد وتكوين آرائهم من ضياع أو تشويه، قد صيغ بأسلوب ماكر قوي، من شأنه أن يعطل النقد وأن يحول دون نمو الآراء المعارضة

وبهذه الطريقة امتدت عملية (الأسلوب الواحد) الإجبارية - التي خضعت لها الصحف الألمانية منذ عام 1933 - إلى الشعب بأسره، وكان ذلك من طريق تشويه الصحف للحقائق كما كان ذلك من طريق ما طبعته في رؤوس قرائها في أوامر الزعيم ونواهيه

ولقد صار من مقتضيات التعامل مع ألمانيا - كما هو الحال مع الأمم الأخرى المحكومة حكماً استبدادياً - أن أصبح رجال السياسة والصحافة في الأمم الحرة يواجهون في الشؤون الدولية حالة لم يسبق لها مثيل، فقد تغير بين الدول مقياس الصلات السياسية والعقلية، ولم يعد هناك تكافؤ في تبادل الآراء العامة بين الأمم المحكومة حكماً استبداديّاً والأمم التي لا

ص: 37

زال الرأي فيها حراً؛ ولم يعد هناك أيضاً من شكوى ترفع أمام قضاء الشعب من نظام حكومته الاستبدادية

والأمر على النقيض من ذلك في الأمم الحرة؛ إذ بوسع صحافة الحكومات الاستبدادية ووكالاتها الأخرى الخاصة بالدعاية والنشر - بل وكثيراً ما وسعها كما أيدتها التجارب - أن تتقدم بشكواها إلى الرأي العام في الأمم الحرة، وأن تكون هذه الشكوى أحياناً ضد نظام ومصالح هذه الأمم الحرة؛ إلا أن هذه المعاملة الكريمة لا يسمع لها صدى في الأمم المحكومة حكماً استبداديّاً، حيث لا تكافؤ في المعاملة ولا تعادل بين ما يعطى وما يؤخذ، ولا ترقب للإقناع والقبول بالدليل القاطع أو البرهان الدافع ما دامت الحكومة وحدها في الأمم الاستبدادية هي صاحبة الكلمة العليا والقضاء المبرم، وما دام الشعب قد قدر له أن يجهل كل شيء من شأنه أن يهيئه لأن يتأبى على الزعيم قبول سياسته - والواقع أن الفاشية في إيطاليا والشيوعية في روسيا السوفياتية، بل وحتى القيصرية في روسيا القيصرية، كل أولئك يعتبر موطناً للحرية إذا ما قورن بالنازية في ألمانيا. فلم تكن الرقابة التي فرضها قيصر الروس على الصحافة، ولم تكن الرقابة التي بسطتها عليها (البيروقراطية) الباطشة القوية، أو الإدارة السرية، لتبلغ من التوفيق والنجاح ما بلغته النازية من إسكات ستة الصحف الكبرى، وهذا النظام الاستبدادي الذي يفرض على الشعب بأسره ما تبدعه الدولة وتصبو إليه من النظر والرأي يعتبر حدثاً جديداً وأمراً ثورياً وطابعاً مشئوماً وقالباً معكوساً في العالم الجديد

(للكلام بقية)

زين العابدين جمعة

المحامي

ص: 38

‌10 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل الثاني

يلاحظ في مصر أن القليل من المال يكفي لإعالة ذرية كثيرة وأسرة كبيرة. ومهما يكن تدليل الأطفال والولوع بهم عظيما، فهؤلاء يكنون ويظهرون لأبويهم احتراماً عميقاً خليقاً بالمدح. ويعتبر المسلمون العقوق من أعظم الخطايا. وهم يضعونه لجسامته مع الكبائر الست الأخرى، وهي الشرك بالله وقتل النفس وقذف العفيفات بالزنا وأكل أموال اليتامى والربا الفاحش والتخلف عن جهاد العدو. وقلما ترى في مصر أو في العرب من لا يطيع والديه. ويصطبح الطفل، في الطبقات الوسطى والعليا، بتقبيل يد أبيه، ثم يقف أمامه باحترام وخشوع حتى يصدر إليه أمراً أو يسمح له بالانصراف. ولكن العادة جرت أن يقبل الأب ابنه ويلاطفه. ولا يقل احترام الطفل لأمه عنه لأبيه، وكذلك احترام أفراد العائلة الآخرين بمقتضى سنهم وقرابتهم ومركزهم. ومن هنا تنشأ في الطفل السهولة واللباقة في تصرفاته خارج الحريم، كما تنشأ فيه الطاعة والولاء اللذان كثيراً ما يعدان، من غير حق، نتيجة الحكم الاستبدادي في الشرق. ويندر أن يجلس الأبناء أو يأكلوا أو يدخنوا في حضرة الأب إلا إذا سمح لهم بذلك. وكثيراً ما يقومون أيضاً على خدمته وخدمة ضيوفه عند تناول الطعام وفي المناسبات الأخرى. ويظل الأبناء كذلك حتى بعد أن يصبحوا رجالاً. وقد دعيت مرة في شهر رمضان إلى الإفطار على مائدة تاجر مصري أعدّت أمام داره. وكان يدعو كل شخص يمر بالقرب منا، مهما كان فقيراً، إلى مشاركتنا الطعام. ومع ذلك كان يقوم على خدمتنا اثنان من أولاده أكبرهما يبلغ الأربعين. وقد لاحظت أنهما لم يتناولا بالرغم من صيامهما طول اليوم غير جرعة ماء؛ فرجوت الأب أن يسمح لهما بالإفطار

ص: 39

معنا، فأجاب رجائي في الحال؛ ولكنهما رفضا. وتتمتع الأم بأكبر قسط من عطف أطفالها ولكنها لا تتمتع مثل الأب بأكبر قسط من الاحترام. وقد رأيت خدماً كثيرين يعطون أمهاتهم ما يدخرون من أجرهم، وقلما كنت أرى من يدخر شيئاً لأبيه

ويلاحظ أن الأطفال المصريين، ما عدا أطفال الأغنياء، يظلون دائماً قذري الشكل ممزقي الثياب، مع أنهم في محل الرغبة وموضع التفكير. وقد يشمئز الأجانب من رؤيتهم، ويسرعون في الحكم على المصريين بأنهم شعب قذر دون أن يبحثوا عن سبب آخر لذلك. ومن الملاحظ أيضاً أن أكثر الأطفال تدليلاً وعناية، أقذرهم جسما وأحقرهم ثيابا. وليس من الغريب أن ترى السيدات الجميلات في شوارع القاهرة متئدات في مشيتهن، معطرات الجو بعطر المسك، مراعيات في زينتهن الكاملة دقة النظافة ومنتهى الرقة، معتنيات بكحل عيونهن، مخضبات الأصابع، بينما يرافقهم طفل قد يكون الوحيد، وهو ملطخ الوجه ملوث الثياب. ومن الأشياء التي أثارت عجبي عند قدومي إلى هذا البلد مناظر من هذا القبيل؛ وقد لفتت نظري لغرابتها وتناقضها، فأخبرت أن الأم الحانية على أطفالها تهمل هندامهم فتتركهم بلا نظافة، وتلبسهم أحقر الملابس عمداً، وعلى الأخص عندما يرافقونها في الخارج خوفاً من شر العين. ويخشى من الحسد بصفة خاصة على الأطفال لأنهم يعتبرون نعمة عظيمة ويشتهيها الجميع. ويرجع للسبب نفسه حجز الأطفال في الحريم طويلاً؛ حتى أن البعض يلبسن الذكور من أطفالهن ملابس الإناث لأن البنت أقل تعرضا للحسد. وأطفال الفقراء ما زالت هيئتهم بعد أكثر إهمالاً. فهم فضلاً عن قلة ملابسهم وحقارتها أو تمام عريهم قذرون إلى أقصى حد. تغشى عيونهم الأدران والذباب دون أن يكترثوا لذلك. ويعتبر المصريون أن غسل العين أو حتى لمسها عندما يسيل منها الصديد الذي يجذب الذباب، مضر بها. ويؤكدون أن فقد البصر قد ينتج من كثرة لمس العين أو غسلها عندما تصاب بهذا السيلان، غافلين عن أن الغسل إنما يلطف الألم

ويختن الولد في سن الخامسة أو السادسة، وأحياناً بعد ذلك وقبل الختان يحتفل القاهريون وغيرهم من الحضريين، إذا توفر لديهم مال، بزف الولد في موكب يمر بالشوارع المجاورة للمنزل. وكثيراً ما يحتفلون بزفة الختان مع زفة عرس في الوقت نفسه تقليلاً من نفقات الاحتفال. وفي الحالة الأخيرة يتقدم الموكب الولد وحاشيته. والمحتفل به يلبس أحياناً عمامة

ص: 40

من الكشمير الأحمر، وقد يرتدي لاعتبارات أخرى ثياب أنثى، فيلبس إليلك والسلطة والقرص والصفا وغيرها من حلي النساء، ليجذب العين الحاسدة إليها ويلهيها عن شخصه. وتستعار هذه الملابس عادة من بعض السيدات الموسرات، وتكون من أفخر الملابس وأبهاها كما تكون كافية السعة لتلائم الولد. ويستعار كذلك حصان جميل العدة ليركبه المحتفل به. ويمسك الولد بيده اليمنى منديلاً مطرزاً مطوياً يضعه باستمرار أمام فمه ليحجب بعض وجهه اتقاء شر العين. ويتقدم المحتفل به صبي الحلاق الذي سيقوم بعملية الختان، وثلاثة من الموسيقيين أو أكثر؛ وآلاتهم لا تتعدى المزمار والطبول، كما ترى في (شكل 31). فالشخص الذي يتقدم الموكب هو صبي الحلاق - كما ذكر - ويحمل (الحمل) وهو صندوق خشبي نصف أسطواني ذو قوائم أربع قصيرة، يزين وجهه قطع من المرايا ومن النحاس البارز النقش، ويغطي ظهره بستار. وهذا الحمل وهو شعار الحلاق. ويحمله الخادم بالطريقة المبينة في الرسم ثم يتبعه الزمار والطبالان (وقد يتقدم بعضهم الحمل)، ثم الولد يقود جواده سائس؛ وأخيراً يمشي خلفه الكثير من القريبات والصديقات. وكثيراً ما يحتفل بختان ولدين مما وقد يحملهما حصان واحد. أما موكب العرس الذي كثيراً ما يتضمن موكب ختان كما سبق فسنتكلم عنه في حينه. وسنذكر أيضاً وصفاً لبعض العادات الأخرى المتعلقة بالختان وبالأخص واحدة منها أقل شيوعاً وأكثر وجاهة، في الفصل المتعلق بمختلف الأفراح والأعياد الخاصة

وقلما يبذل الأبوان كثيراً من وقتهما أو انتباههما في تربية الطفل تربية ذهنية، قانعين بتثبيت بعض المبادئ الدينية في ذهنه الصغير، فإذا كانت لديهم المقدرة، يعهدون به للمدرسين. ويلقن الطفل في سن مبكرة بقدر الإمكان الشهادتين وحب الإسلام. وأكثر أطفال الطبقات العليا والوسطى، وبعض أطفال الطبقات الدنيا يتعلمون في الكّتاب القراءة وتلاوة القرآن أو ترتيله؛ ثم يتعلمون بعد ذلك أغلب قواعد الحساب الشائعة

والكتاتيب كثيرة العدد لا في العاصمة فحسب، بل في كل مدينة كبيرة، كما يوجد في كل قرية كبيرة مدرسة واحدة - على الأقل - ويلحق بكل مسجد وسبيل وحوض في العاصمة كتّاب يتعلم فيه الأطفال بأيسر الأجور؛ إذ يتناول (الشيخ) أو (الفقي) كل خميس من أب الطالب نصف قرش أو أي شيء آخر. ويتناول مدرس المدارس الملحقة بالمساجد أو

ص: 41

بغيرها من مباني العاصمة العامة سنوياً طربوشاً وقطعة من الموصلي الأبيض للعمامة وقطعة من الكتان وحذاء. كذلك يتناول كل ولد طاقية من الكتان وقطعة من نسيج القطن طولها أربعة أذرع بلدية أو خمسة، وقد يأخذون نصف ثوب من الكتان مقداره 10 أو 12 ذراعاً بلدياً وحذاء، وأحياناً يعطون قرشاً أو نصف قرش؛ وهذه الخلع تؤخذ من أموال موقوفة على المدرسة وتقدم في شهر رمضان. ولا يحضر الأولاد إلا ساعات الدرس ثم ينصرفون إلى منازلهم. ويكتب الدرس عادة على ألواح من الخشب المصبوغ بالأبيض، تمسح بعد كل درس ويكتب عليها الدرس الجديد. وتعّلم الكتابة أيضاً على اللوح نفسه. والعادة أن يجلس المدرس وتلاميذه على الأرض وكل تلميذ بيده لوحه أو نسخة من القرآن، أو جزء من أجزائه الثلاثين، توضع على كرسي من الجريد، ويلقي الأولاد جميعهم درس القراءة أو ينشدونه بصوت واحد عال، هازين رؤوسهم وأجسامهم هزاً لا ينقطع إماماً وخلفاً؛ وكذلك أغلب قراء القرآن يتبعون تلك العادة ظناً أنها تساعد على التذكر، وليتصور القارئ أي ضجة يحدثونها.

وأول ما يتعلم الأولاد حروف الهجاء، الشكل، ثم يتعلمون القيمة العددية لكل حرف من حروف الهجاء. وقد جرت العادة قبل وصول التلميذ إلى تلك المرحلة الثالثة في تعليمه أن يزين المدرس اللوح بالحبر الأسود والأبيض والصبغ الأخضر، ثم يكتب حروف الهجاء بترتيبها العددي ويرسلها إلى والد التلميذ، فيعيدها هذا إليه وعليها قرش أو قرشان. وهكذا يكرر ذلك في مراحل التعليم اللاحقة، وفي كل مرة يكتب الدرس التالي على اللوح. وعندما يحفظ الولد القيمة العددية لحروف الهجاء يتمرن على قراءة الكلمات السهلة، مثل أسماء الرجال، ثم صفات الله التسع والتسعين، وبعد ذلك يحفظ الفاتحة فيكررها حتى يعيها تماماً، ثم يشرح في حفظ السور الأخرى. ويندر أن يتعلم الأولاد الكتابة إلا عندما يخصصون لبعض الوظائف التي تتطلب معرفتها. وفي هذه الحالة يتعلمون الكتابة والحساب كذلك على يد (قباني، وهو الشخص المنوط به وزن البضائع في السوق على القبان. أما الذين يسلكون أنفسهم في النظام الديني أو في أي مهنة علمية فيتبع غالبهم تعليماً منتظماً في الجامع الأزهر

وأغلب معلمي الكتاتيب قليلو العلم والاطلاع. والقليل منهم من تتعدى معرفته القرآن

ص: 42

وبعض الأناشيد والأدعية، فيؤجرون لتلاوتها وتلاوة القرآن في المناسبات الخاصة. وقد حدثوني أخيراً عن رجل لا يحسن القراءة والكتابة نجح في شغل وظيفة مدرس؛ فقد كان يحفظ القرآن كله ولذلك سهل عليه الإصغاء إلى الأطفال وهم يسمعون الدرس. أما تعليمهم الكتابة فقد كان يستخدم فيها (العريف) مدعياً ضعف النظر. وبعد شغله هذا المنصب بأيام جاءته امرأة فقيرة ليقرأ لها خطاباً جاءها من ابن لها ذهب للحج. فتظاهر الفقي بالقراءة ولكنه لم يفه بحرف واحد. فاستوجست المرأة من سكوته شراً واستنتجت من هدوئه أخباراً سيئة فقالت له:(هل أصوات؟) فأجابتها (نعم) وسألته: (هل أمزق ثيابي) فأجابها: (نعم). فرجعت المسكينة إلى منزلها وأقامت هي وصاحباتها مناحة ومأتماً. ولم يطل عليها الزمن حتى عاد ولدها، فسألته ماذا يعني بهذا الخطاب الذي يخبرها بموته؟ فلما شرح لها ما في الخطاب ذهبت إلى المدرس وطلبت منه أن يوضح لها لماذا قال لها أن تصوت وتمزق ثيابها ما دام الخطاب يقرر أن ابنها بخير وأنه في طريق العودة؟ فأجابها غير مضطرب:(إن الله عنده علم الغيب. فمن أين لي أن أعرف أن ولدك سيعود سليما؟ وكان خيراً لك أن تظنيه ميتاً حتى لا تنتظري عودته، وقد يخيب انتظارك). فصاح بعض الجالسين مادحاً حكمته: حقا إن (فقينا) الجديد رجل ثاقب البصر حكيم. وهكذا بين عشية وضحاها ارتفعت شهرة الرجل لغلطة غلطها. وبعض الآباء يجعلون لأولادهم شيخاً يعلمهم في المنزل. والعادة أن يعلم الأب ابنه الوضوء والصلاة وغير ذلك من الواجبات الدينية والأخلاقية على قدر إمكانه. وقد أمر الرسول (صلعم) أن يعّود الصلاة من يبلغ السابعة ويضرب من يمتنع منهم عند العاشرة، كما أمر أن ينام الأولاد كل وحده في هذه السن. ومع ذلك يندر أن يقوم المصريون بواجب الصلاة قبل البلوغ.

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 43

‌رسالة الشعر

ليالي القاهرة

من (ن) إلى (هـ)

للدكتور إبراهيم ناجي

طلَبتِ الكِتاَبةَ يَا جَنَّتي

وَمَاذَا تُرِيِدينَ أنْ أكْتُباَ؟

وَمَا في الجَوَانِح خَافٍ عَلَيكِ

وَقَلبُكِ يَعلَمُ مَا غُيِّبَا!!

سَأَكتُبُ أنَّكِ أنْتِ الرَّبيعُ

وَحُسنُكِ أنْضَرُ مَا فِي الرُّبَى

وَأنْتِ الحَيَاةُ وَأنْتِ الجَماَلُ

وَفَجْرُ الشَّباَبِ وَحُلمُ الصِّباَ

أُنَادِي بِاسْمِكِ عِنْدَ الصَّبَاحِ

وَأطْوِي عَلَى ذِكرِكِ المَغْرِباَ

إبراهيم ناجي

ص: 44

‌الوردة الذابلة

للأستاذ محمود عماد

قالت وقد ألفتْ على وجهها

غبرةَ هَمّ لم تكد تنجلي:

إن تذبل الوردة ظلت لها

بقية من عطرها الأولِ

قلنا وطيّ النفس ما طيّها

لو شاءت الوردة لم تذبل

لو شاءت الوردة كنا لها

ندي إذا الأنداءُ لم تنزل

لو شاءت الوردة كنا لها

شوكاً يقيها عبث الأنمل

لو شاءت الوردة كنا لها

أرضاً مُوطًأة على جدول

لو شاءت الوردة كنا لها

شمساً تريقُ الضوَء في معزل

فظلّ للوردة ما أعطيت

من ناضر الحسن وغالي الحُلِي

لكنها اختارت لها مغرساً

بمثلها في الورد لم يجمل

حيث الثرى سمّ وحيث الندى

هَمّ وحيث الضوءُ لم يُرسَل

فكان حقاً أن ترى حسنَها

يزوي وألا تعجب المجتلي

وإن تعزت ببقايا الشذى

فهو عزاءُ الكحل للأحول

محمود عماد

ص: 45

‌أحلام الموتى

للأستاذ علي شوقي

مَتى أنا نازلٌ نُزُلَ الرِّجامِ

ومبِلَغتي الوفاةُ حِمى الحِمامِ

فأغدو ظاعناً من دار هُونٍ

مُزايَلَها إلى دار السلام

أراني والعَوادي عائداتي

وواهبتي أضاميمَ السَّقام

كطفلٍ ملّ من ثديٍ سقيم

فمال عن الرضاع إلى الفطام

وما عَشق الحياَة سوى محبٍ

قضى منها لُباناتِ الغرام

ومن رضىَ المقام بها فإني

لأمرٍ ما رغبت عن المُقام

لئن آنستُ تحت الشمس ظلماً

فمالي لا أفِرُّ إلى الظلام

فيا داراً سأبرحُها، سلامي

عليك وإن صَغُرتِ عن السلام

ويا أرضاً غداً ستكون قبري

ألا أعجلْتِني قبل التمام

لعلي إن أمُتْ تبكي عيونٌ

تُرَوّى من مدامعها عظامي

عيون طالما أمهرت جفني

عليها وهي تنعم بالمنام

وتذكرني شفاهٌ كنت حيناً

أدِين لها بمأثور الكلام

وتندبني سُويعاتٌ تقضّت

خضبت أكفّها بدم المدام

رأيت العيش معنى كل شر

وهذا الناس معنى للرغام

وما هذي الحياة سوى أمانٍ

تَدَاولُ بين أحلام الأنام

علي شوقي

ص: 46

‌البريد الأدبي

إلى الأستاذ أحمد أمين

كنت أشرت فيما سلف من الأحاديث إلى أني سمعت كلاماً منسوباً إلى أحد المفكرين من الأجانب في محاضرة ألقاها الدكتور إبراهيم ناجي، ثم قرأت الكلام نفسه في (الثقافة) بعد يومين بصورة تشهد بأنه من مبتكراتك، وكانت الأمانة العلمية توجب أن تذكر النص الذي نقلت عنه، وفقاً لقواعد (الدراسة الجامعية)

واليوم أذكر أن جريدة (الوفاء) التي تصدر في شرق الأردن نشرت مقالاً عنوانه (عدالة العمل) بتاريخ 19 أغسطس سنة 1941، وفي التاريخ نفسه نشرت مجلة الثقافة التي تصدر في مصر مقالاً عنوانه (العدالة) وذلك توارد غريب!!

وعند الموازنة بين المقالين تبين أن الأصل واحد، فهما منقولان عن كتاب (البشرية الكاملة) للمؤلف الأمريكي فرانك كراين

ولكن بين المقالين فرقاً بسيطاً جداً، فالأستاذ صبحي زيد الكيلاني صاحب جريدة الوفاء نص على أن المقال مترجم عن الإنجليزية بقلم صبحي جلال القطب؛ أما الأستاذ أحمد أمين صاحب مجلة الثقافة فقد نص على أن المقالة من إنشاء أحمد أمين!

فهل لك أن تتفضل فتدلني على وجه (العدالة) في هذه القضية؟ وهل لك أن تذكر أن الدنيا فيها ناس يقرئون وينقدون ما يقرئون؟

يجب أن يفهم حضرة الأستاذ أن (الدراسة الجامعية) لا تمنح أصحابها حتى انتهاب الأفكار والآراء؛ فإن أجاب بأنه (ترجم بتصرف) فأنا أقول بأن النص على الأصل واجب ولو كانت الترجمة بتصرف

وبالنيابة عنه أعتذر لمن شكاه من فضلاء عمان، والصديق ينوب عن الصديق في بعض الأحيان

زكي مبارك

عبر كذا. . .

اطلعت على ما كتبه الأستاذ الفاضل محمد محمود رضوان في العدد 432 من (الرسالة)

ص: 47

في نقد ما ذهبت إليه من أن استعمال الكّتاب الآن لكلمة (عبر) - مصدر عبره - ظرفاً غير صحيح فقال الأستاذ: قد جاءت هذه الكلمة في شعر إسلامي لسواد بن قارب الكاهن، حين وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً)

ثم ساق حكاية سواد كما رواها صاحب الجمهرة، وفيها أبيات له، منها:

فشمرتُ عن ذيلي الإزار وأرقلتْ

بيَ الدعلب الوجناء عَبْر السباسب

وبعد ذلك قال: (ومن ثم يرى الأستاذ الكبير أن الكلمة صحيحة كما يستعملها الكتاب على عهدنا) فكأن الأستاذ ارتضى استعمال (عبر) ظرفاً أخّذا بظاهر عبارة الشاعر التي تنطبق في صورتها على استعمالات الكتّاب لهذا العهد. وكأنه يتوهم أنها منصوبة على الظرفية (بأرقلت)

ولكن الواقع أنها صفة ثالثة للناقة لا غير؛ فإن الشاعر في مقام تعديد محاسن ناقته وما فيها من مزايا يقتدر بها على السرعة في أداء مهمته، فهو يصفها بالفتاء والقوة، وبأنها قادرة على شق السباسب، تمضي بها وتجرؤ عليها

ويؤيدني في أن الوصفية وحدها هي الوجه الواجب أني لم أجد لمعنى الظرفية في (عبر) أثراً فيما قرأت من كتب اللغة وراجعت وبحثت، وإن كانت الكتب التي بين أيدينا لا تحوي كل شيء، بل قد فاتها كثيراً جداً، كما نعترف بذلك جميعاً

ثم ترقى الأستاذ في تفنيد مذهبي في هذا الموضوع فقال:

(ولو أننا أردنا تخريج الكلمة على وجه الصحيح لوجدنا أكثر من وجه، خلافاً لما يقوله الأستاذ. وأقرب هذه الوجوه عندي أن تكون (عبر) مصدراً مراداً به اسم الفاعل، فتكون حالاً مما قبلها، ويكون التقدير:(مرور قواتها عابرة شمال الهند. . . الخ) و (أو جاءت إلى هنا عابرة الأطلنطي).

أقول: يكفي في الرد على هذا أن أذكر الأستاذ أنه من المقرر أن المصدر قد يقع حالاً (إذا كان نكرة). فالتنكير شرط لازم، نحو:(ثم ادعهن يأتينك سعياً) و (ينفقون أموالهم سراً) و (جاء بغتة) و (قتله صبراً) و (حضر سرعة) و (أقبل ركضاً) و (كلمته مشافهة). . . إلى غير ذلك.

وقد رأيت أن (عبر) في الأمثلة الثلاثة التي أتيت بها للتوضيح في مقالي السابق معرفة

ص: 48

بالإضافة. وكذا الحال في جميع ما نراه من ذلك كل يوم في الصحف والمجلات؛ لأن استعمالها لا يكون إلا هكذا في أساليبها.

فلا يمكن إذاً أن تعرب (عبر) حالاً. فقد بطل تخريج الأستاذ

أما المصدر المعرف فمجيئه حالاً نادر. والمسموع منه قليل جداً. وهو لا يعدو أن يكون علم جنس، كقولهم: جاءت الخيل بداد، أو معرفاً بال، نحو: أرسلها العراك.

بقى قول الأستاذ: (والمصدر يقع في موضع اسم الفاعل. . . الخ كلمة)، فهذا مما لسنا بسبيله.

(ا. ع)

الأستاذ كرد علي في بيت المقدس

لبى الأستاذ محمد كرد على دعوة الإذاعة الفلسطينية، فتوجه إلى القدس وذهب من توه إلى بيت صديقه أديب العربية الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

وكانت أولى محاضراته: (هل تمدنا) قرر فيها الأستاذ أن الأمم العربية قطعت شوطاً بعيداً في المدنية منذ نصف القرن الماضي، وتمنى لو تلقفنا من الغربيين عاداتهم وتقاليدهم فهي بالجملة خير من عاداتنا وتقاليدنا؛ ولم ينس الأستاذ أن يذكر المرأة الشرقية وخروجها سافرة في العصر الحديث بعد أن كانت مكبلة بسلاسل يسمونها خلاخيل، وأنها نالت قسطها الوافر من المدنية وتشبهت بأختها الغربية بمنافسة الرجل في مختلف ميادين الحياة.

وفي المحاضرة الثانية تكلم الأستاذ في موضوع: (الشاميون والتاريخ) قصر حديثه على سرد أسماء المؤرخين الشاميين ومؤلفاتهم وتاريخ وفاتهم؛ وعلل الأستاذ وفرة المؤرخين في الشام لكونها كانت عاصمة العرب، وفي العاصمة يتمثل ازدهار المدنية أكثر من سائر البلدان

وفي المحاضرة الثالثة حكى عن (طرائف فارس) وخصص كلامه في مخطوط يسمى (طرائف الطرف) فكشف عن قيمته التاريخية ثم ختم كلامه بالقول: إن في إيران مخطوطات عربية قيمة تفوق المخطوطات الموجودة في القاهرة وفي دمشق وذكر أن في مكتبة العلامة الإيراني (نصر الله) خمسين ألف مجلد عربي، ويؤكد الأستاذ أن كثيراً من

ص: 49

أغنياء إيران يهمهم أن ألا تخلو مكتباتهم من التآليف العربية فإن ذلك يدل - في عرفهم وتقاليدهم - على السراوة والنبل

وكان موضوع محاضرته الأخيرة: (بقية ما ترك لنا الأجداد) فافتتح كلامه بالأسف الشديد على أن فقدت المكتبة العربية كثيراً من المخطوطات الثمينة ثم قصر كلامه على التحدث عن (أبي حاتم بن حيان البستي) وذكر أنه لا يقل عن ابن ماجة في أهمية أسانيده للحديث، ثم أعلن أسفه بأن أحداً من المترجمين العرب لم يذكره في تآليفه، ولولا ياقوت الحموي لكان نسي كما نسي كثير من العلماء. ثم رجح الأستاذ أن نسبه ينتهي إلى (إياس بن مضر) وقال أن حياة هذا العالم الجليل قد انتهى بأن قتله خليفة المسلمين لتلبسه جريمة الاشتغال بالعلوم الرياضية.

عبد القادر جنيدي

إلى الكتاب

يجدّ الردى فينا ونحن نهازله

ونغفو ولا تغفو فواقاً نوازله

كنت أتحدث مساء يوم من الأسبوع الماضي عن (معركة الإصلاح الاجتماعي) مفتتحاً العام الدراسي الخامس لمدرسة الخدمة الاجتماعية، فجال بخاطري وأنا أعرض وجوه المعركة أن أتساءل: أين كتابنا في مركز القيادة، وأين هم في صف الجنود، وأين هم في مجال الدعاية والإرشاد؟ وهل وضعوا خطة وبرنامجاً لعلاج مشكلاتنا الاجتماعية الكبرى ثم تهيئوا لخوض غمار المعركة حاملين علم الجهاد، أو أنهم آثروا حياة الدعة وعيشة السكون، والتزموا الحيدة المطلقة تلقاء هذه المعركة التي شنت فيها الآفات الاجتماعية الغارة علينا بغير رفق أو هوادة؟

ثم ألقيت نظرة على ما طوى التاريخ من أحداث اجتماعية غيرت أوضاع الحياة، فبصرت بأقلام الكتاب ولها السبق في ميدان الدعاية إلى المبدأ وبث الفكرة وحفز الهمم ومناصرة التجديد والإصلاح في نضالهما مع قوى الرجعية، وأحسست صولة القلم تسبق صولة السيف، ورأيت مهمة التمهيد لمعركة الإصلاح يضطلع بها نفر من أئمة الكتاب يشقون الطريق للجنود ويرسمون الخطط للقادة، ورأيت صرح الإصلاح وقد استقر على دعائمه

ص: 50

الراسخة يحيط به سياج من أقلامهم

ثم شهدت ما حشدته الأمم للإصلاح من قوى فبصرت بقوة الأقلام يصول بها الكاتب القدير في الميدان، ويشق ببريقها الظلام المخيم على العقول والقلوب، ويدفع بها النفوس إلى المثل العليا وهنا ألقيت نظرة على مصر، فإذا بمعركة الإصلاح خامدة، وإذا الروح المعنوية متخاذلة يعوزها القادة والخطة والجنود وقوة الإيمان، مع اتساع الميادين وفداحة الخطوب وعظم المشكلات وقلة الزاد ووعورة الطريق، تكتنفنا عوامل الانحلال التي تقربنا إلى الهوة بخطوات واسعة. وشعرت أننا نسير في الظلام، وقد خبت الأضواء، واختفت مصابيح السماء، فصحت في نفسي والألم يحزها: (أين كتابنا من هذا النضال؟ هل آثروا العزلة في بروجهم العاجية، يشرفون علينا من عل، فيعبسون حيناً ويبتسمون أحياناً، ثم يقهقهون ملء أشداقهم، ثم يخلدون إلى متعتهم من الفن وروعة الخيال، يغذون بها روحهم، ويستوحون منها فيض أقلامهم؟

ألم يقض هؤلاء الكتاب فترة من سني حياتهم الناعمة في قرى الريف، فتثور نفوسهم لمشاهدة الحياة فيها، فيستلوا أقلامهم ليخوضوها معركة حامية في سبيل هؤلاء التعساء اللذين ضن المترفون عليهم بقسط يسير من مقومات الحياة الإنسانية الكريمة؟ ألم يستشعروا ما يحيط بهم من مآسي الحياة المصرية؟ هل فكروا في وجوه الإصلاح ونصيب الكتاب في الدعوة إليه والنضال في سبيله؟ لقد حباهم الله بخيال خصب وروح اجتماعي سام ينم عنهما ما تزخر به مؤلفاتهم وبحوثهم من شذرات وخواطر، فكيف السبيل إلى استغلال هذه المواهب في توجيه قوى الخير لمكافحة عوامل الشر؟

يخيل إلي أن أدباءنا ينعمون بأنانية منقطعة النظير، هيأتهم لأن يعيشوا لأنفسهم، وأن يفكروا حين يفكرون، ويكتبوا حين تتحرك أقلامهم، لمتعة الروح وإرضاء الخيال، دون نظر لما تقتضيهم حقوق الوطن من التزامات تحتم عليهم أن يكونوا في مركز القيادة، وأن يتولوا مهمة الإرشاد

أين إنتاج أدبائنا مما توحي به الحرب، وما يتطلبه تنظيم الحياة الاجتماعية بعد الحرب؟ ألم يروا كيف نهض الكتاب في البلاد الغربية يعالجون المشاكل الاجتماعية التي أوجدتها الحرب، والتي ستتمخض عنها الحرب عندما تخبو نارها، فاستخلصوا العبرة، ووصفوا

ص: 51

العلة، ورسموا الطريق للمستقبل؟!

يجب أن يتغير وجه الحياة المصرية في طرائق التفكير وأسس الثقافة ومعايير الإصلاح وروح التشريع، نتيجة لتلك الهزة العنيفة التي توشك أن تتداعى منها جوانب الحضارة القائمة، وأن يكون الكتاب قادة المعركة الإصلاحية التي تطالعنا كتائبها. فمكانهم منها في الطليعة، ولو عرضوا أنفسهم ليكونوا أول ضحاياها.

محمد العشماوي

نائب رئيس رابطة الإصلاح الاجتماعي

ص: 52

‌الكتب

(أرواح شاردة)

تأليف الأستاذ الشاعر علي محمود طه

بقلم الأديب محمد فهمي كمال

هذه (الأرواح الشاردة) في تيه المرح والعذاب والحب، يحتفل بها شاعرنا علي محمود طه في كتابه الجديد احتفال الشاعر الهائم الذي تضطرب حياته في خضم هذا الكون العظيم، حيث تتوارى المعالم وتتلاشى الآفاق وتغيب الشطئان. ولقد وسم نفسه في عالم الأدب بالتيه والشرود، فهو (ملاح تائه) يهيم إثر (أرواح شاردة)، يجد لذته ومتعته في شروده وهيامه، حتى لكأنه أحد أولئك الشعراء البوهيميين الذي كتب عنهم (هنري برجير)، فهو ممن نلتمس عنهم غذاء الروح وري القلب في البيان المصطفق والخيال المنطلق والنغم المتسق!

ومن نعم الأيام أن يصدر هذا الكتاب الجديد في زمن تصطخب فيه الآذان وتضطرب الأذهان بأنباء أفظع مجزرة بشرية تمثلها روح الشر على مسرح الوجود، بل نحن في محنتنا هذه أحوج ما نكون إلى أمثال هذه الكتب المختلفة بالذوق الجميل والفن الرفيع، أكثر من حاجتنا إلى كتب العلم والمعرفة والحكمة والفلسفة التي لو شئنا شيئاً منها لالتمسناه في الكتب التي نقل عنها المؤلف أو تأثر بها، وفي غيرها مما لم ينقل عنه أو يتأثر به، ولكنا نحب هذا المزاح البديع من فن الشاعر الثائر علي محمود طه الذي عشقناه وفتنّا به في قصائده الفرحة وغنائياته المرحة!! فهذا الشارد الحائر بين معالم الجمال ومفاتنه في مصر والبندقية وبرن وروما وفرساي وانسبروك، سعيد بأن يلتقي بجماعة من الشاردين الحائرين أمثال: فيرلين ورامبو وبودلير وشلي ودي فيني وموسيه وجورج سان وشو وويلز، ممن تناولهم بالدراسة، أو عرض لهم ولآثارهم عرضاً سريعاً

فأما بول فيرلين فحديثه ممتع، ألمّ فيه المؤلف بسيرة هذا الشاعر الذي كان أرخم صوت صدح به الشعر الفرنسي في القرن الذي أنجب هيجو ولا مارتين وموسيه وجوتيه وسنت بيف ومالارمي وليكونت دي ليل وأناتول فرانس وغيرهم من الأعلام والعباقرة الأفذاذ

ص: 53

ولقد تناول المؤلف في حديثه هذا أصول الفن مطوّقاً بالمصادر التي استمدت منها شاعرية فيرلين ألوانها الباهرة، واستلهمت أنغامها الساحرة؛ ثم تناول شخصية فيراين بالاستقراء والتحليل، هذه الشخصية التي قال أناتول فرانس في صاحبها:(إنه سقراطي بالفطرة أو خير من ذلك، مخلوق خرافي، حيوان غابة، نصفه إنسان، ونصفه حيوان، نصفه وحش ضار، ونصفه إله، هائل كقوة طبيعية غير خاضعة لشريعة ما. . .)

ولقد وفق المؤلف في تفصيل ذلك كله وكان رائعاً ومتواضعاً في ترجمته لقصيدة فيرلين في الخريف، بل إن أمانة النقل تبلغ في هذه الترجمة مبلغاً عظيماً مع الاحتفاظ بالروح الغنائي المرح الذي يفيض به شعر فيرلين

وفي عشرات الكتب والدراسات التي وضعت عن فيرلين تجد المؤلف قد ألم بالكثير من الآراء، وقرّب هذه الشخصية العجيبة إلينا، ولو أضاف إلى ما كتبه رأي (فرنسوا بوشيه) في علاقة فيرلين برامبو لانتهى إلى الحقيقة ولما قال إنها لا تزال موضع تحقيق النقاد والمؤرخين

أما بودلير فقد عرض المؤلف لفنه وللعوامل الموضوعية والذاتية في شاعريته أكثر مما عرض لسيرة حياته، وإن كان لم يهمل ما رآه متصلاً أوثق الاتصال ببحثه القيم النفيس، فقد تناول جانباً من حياة هذا الشاعر يلقي ضوءاً على المؤثرات التي عملت عملها في شذوذه وغرابة طباعه وأطواره وحماسته في عبادة شهواته، وكان حديثه رائعاً عن نشأة بودلير ورحلته إلى جزائر الهند، وعن أوكار الحشيش والأفيون، وهذه الأجساد التي تنضح بشهواتها وتسترق أنفاسها من دخان العطور الشرقية المخدرة؛ كما كان حديثه بليغاً وبديعاً عن هذه الفتاة السوداء التي نصبها بودلير إلهة للجمال بجسدها المعتل السقيم الذي يملأ الكلف أو البقع أديمه وهو يتخلع في ثوب مهلهل خلق. . .

ومن الحق أن نسجل في هذا الفصل للأستاذ المؤلف قوته البيانية وطلاقته الفنية وحرارة تعبيره وإن كنا نأخذ عليه الإيجاز في محاكمة بودلير مع أنه عرض لها أكثر من مرة في فصله هذا مما يدلنا على إلمامه بدقائق هذه المحاكمة وخاصة عندما نوه بزعيم الإبداعيين فيكتور هيجو ودفاعه عن بودلير كفنان، وقد كان على المؤلف أن يشبع الموضوع بتفاصيل هذا الدفاع

ص: 54

أما الكلمة التي نقلها المترجم عن الكاتبة (ربيكا) في الأدب الإنجليزي الحديث فهي من أدق وأوفى الدراسات التي كتبتها هذه الأديبة العظيمة فقد اشتغلت بالتأليف الأدبي مدى ثلاثين عاماً، وحسبنا هذا ثقة بآرائها في الأدب المعاصر

وقد وفق علي محمود طه في ترجمة قصيدة شلي ودي فيني وقصائد ماسفليد وسيتول و (فنست ملاي) توفيقاً عظيماً وخاصة في الثلاث قصائد الأخيرة فإنه يبلغ الذروة في الدقة والرقة والقوة أما قصيدته في قبرة شلي فقد جمعت كل ما سكبه قلب الشاعر الإنجليزي العظيم من الحلاوة والحرارة والصفاء وكل ما جادت به شاعرية المترجم من فنون التصوير والغناء وسعة الخيال وحسن الأداء، ولقد قدم المترجم لقصيدتي شلي ودي فيني بكلمتين عن الشاعرين ولم يصنع ذلك في بقية القصائد، ولو كان صنع ذلك لحمدنا له صنعه

وما أحسب أن الملاح التائه قد أهمل عن عمد تعريفنا بملاح غير تائه هو جون ماسفيلد شاعر العرش البريطاني الذي بدأ حياته ملاحاً صغيراً يعمل في البحر وهو في الرابعة عشرة من عمره

أما القسم الأخير من كتاب أرواح شاردة، فأنا شديد الإعجاب به، مفتون بالصور التي رسمها المؤلف لرحلاته في أوربا، مشغوف بالحوار الذي أجراه علي محمود طه على ألسنة الأشخاص اللذين التقى بهم في طريقه؛ فليست هذه المقالات مجرد وصف وتزويق من الخيال، بل هي ضلال وأضواء من الفن والعلم والأدب محتفلة بالرشاقة والعذوبة وخفة الروح، ممثلة لهذه العناصر أبدع تمثيل، كأقدر كتاب الأقصوصة، حتى لتشيع فينا ألواناً من الطرب الروحي ساعة من زمن أو لحظة من وقت كما يشيع إشراق الكأس المترعة طرب الّشرب ومرح الندمان؛ وحبذا لو أتحفنا علي محمود طه بكتاب يفرده لهذه الذكريات مضيفاً إليها ما أظنه لم يجد وقتاً لكتابته أو بالنسبة لحجم كتابه (أرواح شاردة)

أما القصيدة التي ختم بها المؤلف كتابه والتي أنشأها في محنة باريس وطلعت بها (مجلة الرسالة) على العالم العربي، فهي مثال من الحسرة والعبرة التي عرفناها في شعر شوقي في مثل هذه المناسبات!

فليهنأ عالم الأدب بمّلاحنا التائه، وليهنأ هو بأرواحه الشاردة

ص: 55

محمد فهمي كمال

ص: 56