الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 434
- بتاريخ: 27 - 10 - 1941
من أحاديث القهوة
- 4 -
كأننا حين كنا نجلس في لَحَق القهوة على شاطئ النهر كنا نشرف على مسرح من مسارح الفكر والشعور لا يقع في صفوه كدر من أوزار الناس، ولا قذر من أوضار المادة. فلما دفعتنا بواكر الخريف إلى داخل القهوة أحسسنا الدنيا بصخبها وشغبها، وجدها ولعبها، وصدقها وكذبها، وفشلها وغلبها؛ واستشعرنا ثقل الحياة وضعة الناس وسخف الرواية الإنسانية تمثل على أسلوب واحد كل يوم في أي مكان من الأرض صغير أو كبير، وبأي عدد من الناس قليل أو كثير.
مسرح الحياة في القهوة ضيق المجال ضئيل العدد قليل الشهود، ولكنه صورة مقاربة لمسرحها في الوجود الأكبر: ثلاث سلاسل من المناضد الرخامية امتدت في ثلاثة أروقة، قد جلس عليها هواة النرد والدومينو والشطرنج والورق: فأما النرد، ومثله الدومينو، فيمثل مذهب الحظ والتهويش في ابتغاء الربح؛ فلاعبه لا ينفك ظياش الحلم، جياش الدم، يصك الخانة بالقشاط، ويربك الخصم بالعياط والزياط. وأما الشطرنج، ومثله الورق، فيمثل مذهب الروية والأناة في محاولة الكسب؛ لذلك ترى لاعبه ساكنا ساكتا كتمثال الحكمة، تحسبه من طول تفكيره لا يعمل. ومكسب العقل أو الشطرنج بطيء ولكنه ثابت، ومكسب الحظ أو النرد سريع ولكنه متقلب.
وعلى حواشي هذه السلاسل جلست جماعات مختلفات في منهج السلوك ودرجة الثقافة؛ فهؤلاء من رجال العمل يُداهي بعضهم بعضاً في مبايعة أو مقاولة، وأولئك من رجال العلم يتنازعون الحجج في مناقلة أو مجادلة.
وفي مماشي القهوة أفراد من صعاليك الخلق يمشون وأبصارهم لا تقع إلا على النعال أو على الأرض: أولئك هم ماسحو الأحذية ولاقطو الأعقاب؛ وهم يمثلون الذين رضوا بالهُون والدون، وجهلوا أن فوق الأرض سماء، وأن مع (البراطيش) طرابيش!
ولو أردنا لوجدنا لكل طبقة من طبقات المجتمع صورة من صُور القهوة نَشَقق عليها الحديث ونعمق فيها البحث، ولكننا نقف اليوم عند صورة هذه العيون المشدودة إلى الأرض، أو المعقودة في النعال، فإنها أولى بالتفكير وأجدر بالرثاء.
هذه الصورة تمثل الفلاح ابن الأرض وعبد الأرض؛ قصر نظره على الأرض ليزرع، كما قصرت البهيمة نظرها على الأرض لترعى؛ فلا هو يطمح أن يكون إنساناً يترقى، ولا هي تطمح أن تكون طائراً يرتفع. حتى الصلاة لا يعرف الفلاح منها غير الركوع والسجود؛ أما دخوله فيها بالتكبير، وخروجه منها بالتسليم، فمعنيان ميتان في نفسه، لا يفهم من الأول صلته بالله، ولا من الآخر صلته بالناس. وإذا علمت أن هذا الفلاح في بعض الأمم الدستورية الشرقية هو الكثرة الكاثرة والسواد السائد، علمت كيف يُزوَّر فيها الرأي العام، ويُزَّيف النظام الديمقراطي!
كانت هذه الصورة في تلك الليالي مثاراً للحديث عن الفلاح وما يتحمله من سوء الحالة وقبح الجهالة؛ وكانت القهوة على ما تريد (الوقاية) مغلقة النوافذ مرخاة الستائر لا تملك لضوضائها المكبوتة وأنفاسها المحبوسة متنفَّساً ولا فرجة؛ وكان اصطكاك النرد وارتفاع الأصوات وضجة المذياع قد جعلتنا أشبه باليهود في بُرصة العقود، فلم نكد نسمع الأستاذ عدلي وهو يلقي هذا السؤال على الأستاذ توحيد:
- إذا صح أن الشعور بالنقص مبدأ الكمال، فبماذا نعلل بقاءنا في هذا الدرك الأسفل من الحياة ونحن لا نكاد نسمع في كل مكان ومن كل إنسان غير الشكوى من اختلال النظم واعتلال احكم وانحلال الخلق؟
فقال الأستاذ توحيد: أما إجماع الناس على الشكوى من سوء الحال فما أظن الواقع يؤيده. وإذا كنت تعني إجماع أهل الرأي من رجال الثقافة والصحافة، فإن شكوى هؤلاء لا تدل إلا على آلامهم هم. والقول بأن الأمة متمدنة لأن فيها قوماً يأكلون أكل الذوات، ويلبسون لبس الخواجات؛ وبأنها متعلمة لأن فيها جماعة يحملون شهادات من كل نوع، ودرجات من كل قياس؛ وبأنها طموحة لأن فيها طائفة من مرهفي الحس وعشاق الكمال يطمحون إلى خطير المساعي، ويتشوفون إلى بعيد المطامع؛ ذلك القول لا يسوغه إلا الغرور أو الهزل.
صحيح أننا كنا نقول قبل اليوم: إن المصريين أصل الناس، وإن مصر أم الدنيا؛ فلما رقَّت الأغشية الكثيفة عن العيون، كدنا نبصر موقعنا من البلاد وموضعنا من الأمم، ولكن ذلك لا يعني أننا شعرنا بالنقص، ووقفنا على العلة، وبرمنا بالجمود، ونزعنا إلى التكمل.
أن الفلاحين وهم جمهور الأمة قد مات في نفوسهم - لسبب لا أدريه - ذلك القلق الروحي
الذي يتحدى القدر ويخلق الطموح ويحقق التطور. فإذا انبثق في صدورهم ذلك النور الإلهي اهتدوا إلى الطريق الإنساني الذي أظلوه، فلا يحتاجون إلى من يبني لهم المراحيض في البيوت، أو يضع لهم النعال في الأرجل. وليس العلم شرطاً في حُبَّك النظافة وطلبك الحق وإبائك الضيم ورعايتك الصحة، فإن ذلك كله من مقتضيات الفطرة السليمة. والبدوي على عنجهيته وجهله لا يزال المثل المضروب في الاعتداد بالنفس والاحتفاظ بالكرامة. وفي يقيني أن الواجب الأول على رجال الدين وأقطاب الصحافة ورجال الإصلاح أن يقنعوا الفلاح بأنه إنسان. ذلك وحده كفيل أن يعلمه كيف يعيش، وأن يلهمه كيف يرقي!
وهنا قدح الأستاذ توحيد زِناده الفضيَّ النادر، وأشعل سيجاره التُّسكانيَّ الفاخر؛ ولم يكاد يطفئه ويستأنف الكلام حتى أُغلقتْ مفاتيح الأنوار، وأطلقت صفارة الإنذار، فخشعت الأصوات، وسكنت الحركات، واستولى على الناس شعورٌ من صريح القلق ورياء الصبر فاستحال الإصغاء وانقطع الحديث!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات
كلمات صريحة:
في التربية والتعليم
للدكتور زكي مبارك
شعار التلميذ - في مدارس البنات - ضرب التلاميذ - الغداء
في المدارس - بين النظار والمدرسين - أخطار تهدد بعض
المدارس الأهلية
شعار التلميذ
كنت اقترحت على حضرة صاحب العزة مراقب النشاط المدرسي أن يشير بأن تكون ملابس التلاميذ جميعاً من قماشٍ واحد، وبهندامٍ واحد، ليسلم أغنياؤهم من آفة الازدهاء، وينجو فقراؤهم من آفة الاتضاع، ولنضمن سلامة أولئك وهؤلاء من عوادي التنافس البغيض.
ثم مضيت فكتبت كلمة وجيزة في جريدة (الأهرام)، أردت بها التمهيد لعرض هذا الموضوع على (مؤتمر التعليم) فكيف استقبله كبار المربين بوزارة المعارف؟
اتفقوا على صواب الفكرة، ولكن معالي الوزير رأى في تنفيذها إرهاقاً للآباء في مثل هذه الظروف، فقد يكون فيهم من يعجز عن إمداد أبنائه بأثواب جديدة في العام الدراسي الجديد.
ولا ريب في أن معالي الوزير لم يرد غير الرفق بالآباء، ولكن ما رأيُ معاليه فيمن يحدثه بأن التلاميذ لن يرفقوا بآبائهم أبداً، ولن يكون فيهم من يفهم أن الناس جميعاً يعانون قسوة الغلاء؟
إن التلميذ طفل، والطفل يعتقد أن أباه على كل شيء قدير، وإذا فرضنا المستحيل وقدّرنا أن الطفل قد يراعي ظروف أبيه، فلا يكلفه ما لا يطيق في هذه الأيام، فمن يضمن سلامة هذا الطفل من الألم المكبوت، وهو يرى من بين التلاميذ من يرجعون إلى المدارس وهم في اختيال بما أعدوا للعودة المدرسية من الزينة والرَّواء؟
ليس في مصر تلميذ واحد يقدر ظروف أبيه، وإن فعل فسيشعر في قرارة نفسه بأن أباه
ضعيف الحول، وأن الدنيا بخلت عليه وعلى أبيه بما يبعد عنهما شبهة العوز والاحتياج.
وما وجودُ المصلحين إذا عجزوا عن رأب هذا الصدع بوسيلة لا تكلفهم غير قليل من الالتفات، كأن يرعوا أن التلميذ جندي والملابس واحدة لجميع الجنود؟
قد لا يخر في بال وزير المعارف أن في مصر آباءً يقتلون أنفسهم بالبلاء الذي يسمى (التقسيط)، فأولئك الآباء يزوّدون أبناءهم بما يشتهون عن طريق الدَّين، فيظهرون بمظهر الغني، مع أنهم يستعجلون الفقر بخطوات سراع!
و (شعار التلميذ) وقاية من هذا الداء، فقد يستطيع التلميذ الفقير أن يقضي العام كله بثوب واحد، ما دام يتعهده بالصيانة والتنظيف، ولن يكون في ذلك ما يحرجه أمام رفاقه، لأنه لم يلبس غير الثوب المطلوب.
ومن أعجب العجب أن نفكر في الطب لجميع أمراض المجتمع ثم ننسى الطب للأمراض التي يتعرض لها التلاميذ، وهم بحكم أسنانهم الصغيرة معرَّضون للآفات النفسية، لأنهم يعجزون عن مقاومة آفات النفوس، ولأن رفاقهم لا يعفونهم من الغمز والتلويح، إذا رأوهم في أثواب لا تعفي لابسيها من التعرض للازدراء. . . وكل ثوب لا يكون ابن يومه هو في نظر التلميذ علامة فقر وإملاق. . . وكان الله في عون من له أبناء يتعلمون في المدارس المصرية، ولو كان من الأغنياء!
وهنالك ظاهرة غريبة لا يلتفت إليها أكثر المربين، فالتلميذ الذي يستحي من شكوى حاله إلى أبيه، لا يستحي من الشكوى إلى أمه، وليس بينه وبينها حجاب، والأم امرأة لا مرؤ، وإحساس المرأة بتفاوت الأزياء أحدّ من السيف الصقيل.
فماذا تصنع الأم؟ إن بلّغت الشكوى إلى زوجها كدرته بلا موجب، لأنها تعرف عجزه عن تحقيق ما يريد ابنها (الطفل)، وإن كتمت شكواها وشكواه عاش البيت في جمر لا يطمسه غير رماد لا يحتمل عصف الرياح.
ومن المزعج أن الأغنياء لا يكتفون بإسباغ الأثواب الجميلة على أبنائهم المنعَّمين، وإنما يزوّدونهم بالمال في كل يوم، ليُقبِلوا على (مَقصف المدرسة) إقبال الأفاعي على الأوطاب. وللمنصف أن يتصور كيف يكون حال التلميذ الذي لا يجد في جيبه غير قرشٍ واحد بجانب التلميذ الذي يجد في جيبه عشرات القروش؟
ذلك تلميذ يشتري شطيرة مكونة من الخبز والفول بقرش أو نصف قرش، وهذا تلميذ يلم بجميع ما في المقصف من ألوان وأصناف، ثم يشاء له (أدبه) أن يزهد في الماء فلا يشرب غير منقوع المنجة أو الليمون.
وليكن مفهوماً أن طبقات التلاميذ في الحاضر هم طبقات الرجال في الاستقبال، ومعنى هذه اللفتة أن تناحر الطبقات في الغد توضع بذوره في المدرسة، المدرسة التي أقيمت لتشيد صروح الأخلاق!
فما أعجبَ ما نصنع بأبنائنا، وهم في أصل الفطرة أبرياء!
ثم ماذا؟ ثم يشاء الأغنياء - عفا الله عنهم - أن لا يعود أبناؤهم إلى المنازل إلا في سيارات خصوصية!
وهنا أذكر حادثاً رواه أحد المفتشين، قال:
(اتفق مرةً أن يدوم عملي في التفتيش على إحدى المدارس إلى الحصة الأخيرة، فخرجت وقد أعييت، ولم أكد أخرج من باب تلك المدرسة حتى واجه الصغير آذاني من كل صوب، فشعرت بدوار مخيف، وبدا لي لا نجاة من أخطار السيارات التي تنتظر أبناء الأغنياء. ثم جمعت ما تبدد من قواي ونظرت حواليّ فرأيت التلاميذ الفقراء يتسللون إلى الطريق في ذلة وانكسار، كأنهم طرائد لعار ورثوه عن آبائهم المساكين!)
فما الموجب لأن يرجع بعض التلاميذ إلى منازلهم في سيارات خصوصية، وفي طنطة تجّسم ما بين الطبقات من فروق لا يسكت عنها الناس إلا عاجزين؟
ما الواجب لذلك ولأكثر التلاميذ مواصلات أنفعها المشي على الأقدام ليعَّودوا مواجهة الصعاب، إن كان المشي عشرة دقائق من جملة الصعاب؟
إن سعادة سامي بك راغب وكيل وزارة المالية يصل إلى مقرّ عمله عن طريق (المترو) ثم (الترام) وكأنه في مثل حالي! ومنذ يومين صادفت الأستاذ خيري بك مراقب منطقة القاهرة حيران في ميدان باب الحديد، لأنه وجد جميع قطارات (الترام) مشغولة - ومن ذلك فهمت أنه لا يقتني سيارة - وقد اشترك مع بعض زملائه في (تاكسي) ليصل إلى وزارة المعارف في الوقت المحدد. وكبار الموظفين في مصر لا يقتنون سيارات، إلا أن يكونوا من محدثي النعمة ومن هواة الشهرة بالترف والنعيم. . . وهل أنسى أن الأستاذ نجيب بك حتاتة
حدثني أنه لم يعرف المستر دنلوب إلا في الترام، وكان المستر دنلوب في الأيام الخوالي طاغية وزارة المعارف؟
وخلاصة القول أن الأغنياء في مصر لا يعرفون ما يجنون على أنفسهم وعلى أمتهم بما يتورطون فيه من إعلان الغني والثراء.
أيكون للغني هذا البريق الذي يزيغ الأبصار والبصائر؟
ألا يرعوي بعض الأغنياء عن إعلان غناهم بتلك الطرق البهلوانية، ليقوا بلادهم شر الفتنة المخوفة من حقد الفقراء على الأغنياء؟
كل شيء جائز، إلا أن تمتد ألسنة هذه النار إلى المدارس، وهي فيما نرجو محاريب لا يتوجه إليها غير من تنزهوا عن التكبر والاستعلاء.
أما بعد فما رأي وزير المعارف؟
ما رأيه في الدعوة إلى أن تكون المدرسة كالمسجد، وفي المسجد حصيرٌ واحد لجميع المصلين، ولو كان فيهم وزراء وأمراء؟
يجب أن يكون (شعار التلميذ) واحداً لجميع التلاميذ، ولو كان فيهم أبناء فلان وفلان، لأنهم جميعاً جنود، والملابس واحدة لجميع الجنود، فإن لم يراع هذا وزير المعارف فسنسجل عليه أنه فرّط قليلاً في حق هذا الجيل.
في مدارس البنات
يظهر أنه لا مُوجب للخوف من التنافس بين تلميذات المدارس فيما يتصل بالأزياء، فالمرايل واحدة للجميع، وهي تستر ما تحتها من الملابس القطنية أو الصوفية أو الحريرية، إن صح أن عند البنات من العقل ما يكفهن عن التطلع إلى ما تحت (المرايل) من أثواب!
ومع ذلك فلا بد من أن تحرص ناظرات المدارس على النظر في هذه الدقائق، لنضمن سلامة التلميذات من التنافس في الأزياء.
والناظرة أمٌّ ثانية، وتعقبها لهذه الشؤون لا يعدْ من الفضول، وستظفر بالثناء من الأغنياء قبل الفقراء.
أما المقصف فحاله في مدارس البنات كحاله في مدارس البنين وهو مصدر شر وبلاء، ومن الواجب أن لا يباع فيه غير الأطعمة الضرورية، بحيث لا تجد التلميذة غير
(تصبيرة) تدفع الجوع الذي يطرأ قبل وقت الغذاء، أما تزويد المقصف بكل ما لذّ وطاب فهو فرصة لنمو العادات السخيفة، كالتباهي بالغنى والترف والنعيم. . .
وبدعة صبغ الوجه بالألوان قد وصلت إلى بعض تلميذات اليوم، ولعلها وصلت إلى بعض المعلمات!
فلتنظر في ذلك ناظرات المدارس، فالتلميذات سيكن في المستقبل ربات البيوت، والرياضة على إيثار اللون الطبيعي ستنفعهن كل النفع، فاللون الخمريُّ أجمل الألوان، والإبقاء عليه غاية من الغايات القومية، لأنه من خصائص هذه البلاد، ولأنه الوشيجة التي تقرّب بناتنا من أخواتهن في الحجاز والعراق. وهل استطاع السواد أن يحجب الجمال الفتان عن أخواتهن في السودان!
إن القول بأن (البياض نصف الحُسن) مدسوس على الرسول، وهو فرية أذاعها الوافدون على العرب من الأقطار الرومية، فلندفع عن اللون المصري شر الأصباغ المجلوبة من بلاد لا تعرف من الجمال غير الطلاء.
ضرب التلاميذ
العقوبات البدنية ممنوعة بأمر وزارة المعارف المصرية، وتلك العقوبات موضع خلاف بين رجال التربية والتعليم، وقد أجازها بعض الإنجليز والألمان، بحجة أنها عقوبات طبيعية.
والواقع أن بعض التلاميذ (يستأهلون الضرب) ولكن إقرار هذا المبدأ قد تكون له عواقب سود، كما شهدت الحوادث التي ساقت مجترحيها إلى القضاء.
والواقع أيضاً أن المدرس قد يكون مسئولاً عن شيطنة التلميذ في بعض الأحيان، فهو قد يحاسبه على كل لفتة وكل لفظة بأسلوب يحمله على العناد، وإذا عاند التلميذ أستاذه كان ذلك بداية الاختلال في الصفوف.
التلميذ لا يجهد نفسه وقت الدرس بقدر ما يصنع المدرس، ومعنى ذلك أن الإجهاد قد يعرّض المدرس لسرعة الانفعال، ولا كذلك التلميذ، فهو في راحة نفسية تجيز له أن يضحك من غير موجب، وقد يرسل النكتة لمنظر يراه من المدرس أو من بعض التلاميذ.
وهنا تسنح الفرصة لإبراز قدرة المدرس على ضبط النفس، ولو شئت لقلت إن من واجب المدرس أن يرحب من وقت إلى وقت بشيطنة التلاميذ، لأنها من مظاهر الحيوية، ومن
الشواهد على أنهم أصحاء.
وهل تكون المدرسة في كل أوقاتها كدحاً في كدح، ونضالاً في نضال؟
إن العلة الأساسية هي الشعور بأن التلميذ مسئول عن النظر إلى الدنيا بعين المدرس، وهذا شعور خاطئ، فالمدرسون والتلاميذ يمثلون جيلين مختلفين، ولا يتم بينهما التوافق إلا إذا روعي هذا الاختلاف.
وإذا شعر التلميذ بأن أستاذه يتجاوز عن هفواته في بعض الأحايين أضمر له الحب، وانساق إلى الطاعة بأدب وإخلاص.
أكتب هذا وتحت يدي وثائق تشهد بأن ضرب التلاميذ لا يزال مباحاً في بعض المدارس الأولية والابتدائية، أما المدارس الثانوية فتلاميذها يستطيعون الدفاع عن أنفسهم إذا اشتجر القتال!
الضرب ممنوع، ممنوع، ممنوع،
والمدرس الحق هو الذي يشغل تلاميذه عن اللهو بجذبهم إلى موضوع الدرس بحيث تضيق صدورهم من التلميذ الذي لا يراعي أدب الاستماع، ومتى صار التلاميذ من جنود المدرس أصبح من حقه أن يقول إنه من كبار المربين.
الغداء في المدارس
أكثر المدرس الأهلية والأجنبية لا تقدِّم لتلاميذها طعام الغداء، فما سبب ذلك؟
يرجع السبب إلى أن المصروفات المدرسية بدون الغداء تبدو هينة، فإذا أضيف إليها الغداء ظهرت عسيرة الاحتمال.
والمدارس التي لا تغدي تلاميذها تسمح لهم بالخروج ساعتين، ليتغدوا في بيوتهم أو حيث شاءوا. وفي أغلب الأحوال يأخذ التلاميذ من آبائهم ثمن الغداء، ثم يتغدون في المطاعم السوقية، وقد يؤثرون الجوع ليدخروا من تلك القروش ما يعينهم على قضاء بعض السهرات. . . والمهم هو النظر في الساعتين اللتين يقضيهما التلميذ بعيداً من المدرسة وبعيداً من البيت، فماذا ترونه يصنع في هاتين الساعتين؟
هل ترونه يصنع ما كان يصنع أمثاله يوم كانت الدنيا بخير، ويوم كان التلميذ يذهب إلى أقرب مسجد فيصلى الظهر ثم يراجع دروسه بشغف وشوق؟
يظهر أن الأمر لم يعد كذلك، ويظهر أن لا مفر من وصف هاتين الساعتين بالمشئومتين، ففيهما يعرف التلميذ أشياء لا تخطر للمدرسة في بال.
وإذن يجب منع التلاميذ من الخروج وقت الظهر، ويجب أن يتغدوا في المدرسة، لا في السوق ولا في البيت، وفي مثل هذه الحال تعدَّ لهم المدرسة غداءً قليل التكاليف، لتبقى السهولة في المصروفات. وأهون طعام تعدُّه المدرسة سيكون أنفع للتلاميذ من طعام السوق، وأصون لهم من الجري في الطرقات.
فإن لم تستطع هذه المدارس أن تغدُّي تلاميذها وأن تصونهم من قضاء ساعتين بلا رقابة مدرسية ولا بيتية، فيجب حتماً أن تسير على النظام الذي اختارته بعض المدارس الأجنبية، وهو قضاء اليوم الدراسي في وقتٍ موصول، بحيث ينتهي في منتصف الساعة الثانية، ثم يخرج التلاميذ إلى بيوتهم ليقضوا بقية النهار تحت رعاية الآباء.
وأرجو أن يسمع بعض خلق الله هذا الكلام، وما أحب أن أزيد.
بين النظار والمدرسين
توجد أزمة مكبوتة بين النظار والمدرسين، ومَرَدُّ هذه الأزمة إلى الوهم الذي يقول بأن الناظر هو صاحب الأمر كله في الدار المدرسية، بحيث لا يتصرف المدرسون أقل تصرُّف إلا بعد الاستئذان.
وهذه الحال تُشعر المدرس بأن الصلة بينه وبين الناظر صلة رسمية لا تعليمية، والفرق بين الصلتين بعيد، فالصلة الرسمية لا تصل بالمدرس إلى حب الدار المدرسية، أما الصلة التعليمية فتصل به إلى الشعور بأنه في داره وبين عشيرته الأقربين.
ويؤلمني أن أصرِّح بأن المدرسين لا يحبون مدارسهم إلا في أندر الأحيان، فما سمعنا أن مدرساً في قنا رفض النقل إلى القاهرة بحجة أنه يشعر بأن بينه وبين مدرسته صلة روحية، وإنما سمعنا أن المدرس يطلب النقل من مدرسة إلى مدرسة لأسباب بعيدة كل البعد عن المعاني التعليمية.
فهل يكون للصلات بين النظار والمدرسين أثرٌ في خلق هذا العقوق؟
أنا أتمنى أن يوجد عندنا المدرس الذي يرى في أحجار مدرسته شمائل قدسية، فلا يرضى بفراقها ولو كانت في الواحات.
وأتمنى أن يوجد عندنا الناظر الذي يشعر بالأبوة للتلاميذ والأخوَّة للمدرسين.
بأيديكم أيها النظار والمدرسون أن تخلقوا في الجو المدرسيّ روحانية تعوّض ما يفوتكم من المناصب المحفوفة بالبريق الخلاب، فإن غفلتم عن هذا الجانب فستظلون في الاكتواء بالمهنة التي لا تسعد غير من يُقبل عليها بصدق وإخلاص.
أخطار تهدد المدارس الأهلية
للمدارس الأهلية تاريخ مجيد، فقد عاونت على نشر التعليم، وأمدت الأمة بجمهور كبير من المثقفين.
ولكن هذه المدارس معرَّضة لأخطار قد تأتي على بنيانها من الأساس، لا قدر الله ولا سمح، فلتلك المدارس على الأمة حقوق.
هذه المدارس لا تفكر في استبقاء المدرس، ولو وثقت به إلى أبعد الحدود، فهو عندها ضيف يرحل متى شاءت أو شاء، والرباط بينها وبينه عَقدٌ يُشترى بمليمين وتخط فيه كلمات عديمة المدلول، وإلا فكيف يجوز أن يبقى المدرس بلا علاوة ولا ترقية ولو أفنى شبابه في تلك المدارس؟
هل سمعتم أن مدرسة أهلية أغنت مدرسيها عن التطلع إلى الوظائف الأميرية؟
لبعض تلك المدارس عذر مقبول، كأن تكون قليلة المال، أو مثقلة بالديون، فما عذر المدارس التي أمدت أصحابها بالثراء العريض وجعلتهم من أعيان البلاد؟
ولو كان هذا المسلك ينفع تلك المدارس لقلنا إن لها غاية اقتصادية، ولكن هذا المسلك لا يجلب عليها غير الضر، ولا يسوق إليها غير البوار. وما قيمة مدرسة يشعر تلاميذها بأن أساتذتهم ليسوا إلا معلمين ضاقت عنهم المدارس الأميرية فلم يجدوا سعة في غير المدارس الأهلية؟
لو كان لأصحاب تلك المدارس نصيب من الفهم الصحيح لقواعد الاقتصاد لجعلوا من وسائلهم إلى الثرة أن ينافسوا الحكومة في تزويد مدارسهم بأكابر المدرسين، ويومئذ تشعر الحكومة بأن لها منافسين أقوياء، فيرتفع قدر المدرس، وترتفع أقدار المدارس، ويُنقض الوهم القائل بأن التعليم (مهنة بلا مجد)
وعند الله يحتسب المدرسون جهادهم في خدمة التربية والتعليم فهو عز شأنه لا يضيع أجر
المجاهدين الصادقين.
زكي مبارك
3 - كليلة ودمنة
للدكتور عبد الوهاب عزام
ص 95 س 7: (إن أرضاً يأكل جرذانها مائة منّ من حديد ليس بمستكبر لها أن تختلف بُزاتها الفيَلة)، قال الناقد الفاضل:(ابن المقفع - فيما أشعر - لا يقول هذه الكلمة، بل يقول بمستنكر). ومما يجدر ذكره أن استكبر الشيء بمعنى رآه كبيراً وعظيم عنده، قولٌ منسوب إلى الإمام ابن جنى ولم يقله عامة اللغويين. . . الخ
أقول: هذا القول جاء من كتب اللغة كثيراً منسوباً إلى ابن جنى وغير منسوب، وهو مقيس مسموع. وأرى أن (أمُستَكبر) أولى بهذا الموضوع من (مستنكر)، لأن الاستنكار أن يعدّ الأمر نُكراً، والاستكبار أن يعدّ كبيراً، ومرجع المعنى في هذه الجملة إلى أنه مستكبر للبزاة أن تختطف الفيلة لا إلى استنكار هذا. ثم استعمل كلمة (لها) دون (عليها) أقرب إلى الاستكبار. فإن جاز أن توضع مستنكر هنا فمستكبر في رأيي اقرب إلى سياق الحديث وأخصّ في المعنى.
ص 107 س 6 (إذا جئتني يا ليل من غير نداء ولا رمى ولا شيء يرتاب به) قال الناقد: فما ذلك الرمي؟ الصواب: (ولا رمز) وأقول إن الرمي هو الصواب لأن الرمز من أغلب معانيه إشارة باليد أو غمز بالعين أو الحاجب. وهذا مما لا يبين بالليل وإنما أراد الكاتب أن ينبذ إليها شيئاً تعرف به حضوره.
ص 115 س 13 وصفحات أخرى (رأس الخنازير وسيّد الخنازير) قال: عندي أنها رأس الخبّازين وسيد الخبّازين. واستدل ببعض النسخ. وأرى أن الخنازير أقرب إلى الصواب لأن دمنة وصف هذا الرئيس بصفات الخنازير. وليس في وصفه بأنه صاحب المائدة ما يجعله خبازاً ثم تسميه رئيس الجماعة سيدهم كما يقال سيِّد الخنازير أقرب من أن يسمى رئيس الصناع سيدهم فيقال سيد الخبازين. وقد بينت اختلاف النسخ في هذه الكلمة في التعليق الحادي عشر من باب الفحص عن أمر دمنة. وعن هذا التعليق أخذ الناقد روايات النسخ التي استدل بها. ومن غريب ما وقع في هذا النقل أني قلت في التعليق (وفي نسخة شيخو والسريانية) أعني النسخة السريانية الحديثة فقال الأستاذ في النقد: (وفي نسخة شيخو السريانية). وليس لشيخو نسخة سريانية.
ص 127 س 1: (وأخفت علىّ الشبكة حتى لججت فيها وصويحباتي)؛ قال الناقد: إنما هو لحج - أي نشب - وقوله في هذا سديد جيد، أرجو أن يكون ابن المقفع أراده.
ص 133 س 15: (وكان الضيف رجلاً قد جال الآفاق) قال: والفعل جال لا يتعدّى بنفسه، والوجه جال في الآفاق. أقول: والأمر في هذا هين، فقد قيل جوّل البلاد وجول فيها ولا يبعد أن يعدّى جال بالتضمين أو ضرب من التوسع.
ص 139 س 8: (وانقلبت ظهر البطن وانجررت حتى دخلت جحري). قال: وإنما هي انحدرت - أي نزلت في سرعة إلى الجحر - أقول: كان هذا وجهاً لو كانت الجملة (وانجررت في جحري)، ولكنها:(انجررت حتى دخلت في جحري)، فقد جرّ الجرذ نفسه حتى بلغ الجحر. ولا يلزم أن نتصور الحجر في مكان منخفض، فنضع انحدر مكان اتجرّ
ص 150 س 7 (إن كان (العدو) بعيداً لم يأمن من معاودته إن كان متكشفاً لم يأمن استطراده)
قال: متكشفاً أي بادياً ظاهراً وهي لا تساير الكلام، والصواب مكثباً أي دانياً الخ.
ورأيي أن هذا ليس صواباً. فإن الاستطراد أن ينهزم المقاتل أمام قرنه ليكر عليه فهو ضرب من المكيدة يراد به إبعاد القِرن عن فريقه أو نحو هذا. ومعنى الكلام هنا أن الإنسان ينبغي أن يكون على حذر من عدوه في كل حال ولا ينخدع بالحالات التي يظن فيها العدو بعيداً أو مهزوماً فإن رأى عدوه متكشفاً ظاهراً له غير ممنوع منه أو متظاهراً بالهزيمة فلا يأمنّ أن يكون هذا استطراداً يريد أن يخدعه به ليكر عليه. فإن وضعنا كلمة (مكثياً) أي دانياً موضع (متكشفاً) اختل الكلام اختلالاً وكان معناه إن رأيت العدو قريباً فلا تفتر بقربه فلعله يريد أن يستطرد لك. وهو كلام متهافت، لأن اقتراب العدو ليس من أحوال الخداع التي يفتر بها عدوه، فيقال له: لا تفتر بقربه، فإنه يستطرد لك. ثم حالة القرب مذكورة بعد هذه الجملة:(وإن كان متكشفاً لم يأمن استطراده، وإن كان قريباً لم يأمن مواثيقه)
166: 15 (فإن الشر يدور حيثما دارت). قال: هي حيثما دُرتَ - وليست كذلك فالضمير راجع إلى الطبائع المذكورة في الجملة (أرأيتك لو أحرقناك بالنار كان جوهرك وطباعك تحترق معك؟ فإن الشر يدور حيثما دارت)
171: 4 (فابتليت ببلاء حرمت على الضفادع) قال: والجملة بهذا الوضع مبتورة ناقضة
وتمامها (حرمت على الضفادع من أجله) أي من أجل البلاء وذلك كما في صفحة 77 عن طبعة بولاق.
أقول هذا الاعتراض وأشباهه يسيرٌ على من يريد أن يغير أسلوب الكتاب إلى الأسلوب المألوف المعروف كما فعل الكتّاب بنسخ الكتاب الأخرى. ولكني أزعم أن أمامنا نصاً آخر جديراً بالبحث وأن أسلوب ابن المقفع لا يخلو من أثر الفارسية ولعل هذه الجملة من شواهد هذا التأثير فليس في الجملة الفارسية عائد على الموصول أو الموصوف. لهذا أثبتها كما وجدتها غير عادل عنها إلى روايات النسخ الأخرى.
هذا إجمال الجواب عما يحتاج إلى جواب مما جاء في المقال الثالث من مقالات الناقد الفاضل، وموعدنا بالجواب عن المقال الأخير العدد الآتي إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام
الفن الجميل
في القرآن الكريم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
يخطئ من يظن أن دين الله تعالى زهد محض، وتقشف بحث، ورهبانية لا تعنى بزينة الدنيا وزخرفها، وتصوف مظهره لبس المرقعات، فلو صح ذلك لم يكن دين الله عاماً صالحاً لكل الناس، وملائماً لكل زمان ومكان، بل يكون خاصاً بطائفة من البشر، تؤثر التقشف على التنعم، والزهد في زينة الدنيا على التمتع بها. وليس كذلك دين الله تعالى، لأنه دين عام صالح لكل الناس، وملائم لكل زمان ومكان، ولهذا جعل الزهد في الدنيا وزينتها مباحاً لمن يريده، وأحل التمتع بتلك الزينة لمن يريدها، حتى لا يكون فيه حرج على أحد في هذه الحياة، ولا تضيق به طائفة من طوائف البشر، وتسير الحياة في نظامها الصالح بدون إفراط أو تفريط.
وعلى هذا الأساس جاء القرآن الكريم بالفن الجميل من البناء والنحت والتصوير والغناء وغير ذلك، وذكر الله لنا فيه عهد ازدهار تلك الفنون في بعض ما أنزل من الشرائع، وأقام من الملك، وحكى ذلك في أسلوب يفيض مدحاً وإطراء بما ظهر من آثار تلك الفنون في هذه العهود، ويدل على روعة تلك الآثار وجمالها، وأنها كانت أية في الإبداع، ومعجزة من معجزات الفن الجميل، ومفخرة من المفاخر الباقية الذكر.
وقد ازدهر من ذلك في عهد سليمان عليه السلام فنون كثيرة، فبلغت فيه فنون البناء والنحت والتصوير أوج عظمتها، ووصلت إلى أرقى ما وصلت إليه عند الأمم المتحضرة في العصور القديمة، وقد ظهرت آثارها الرائعة فيما بنى سليمان من المساجد والقصور، وفيما شيد من المدن والحصون، وإلى هذا يشير الله تعالى في قوله:(ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر، وأسلنا له عين القطر، ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير، يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب، وقدور راسبات، اعملوا أل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور). 12، 13 من سورة سبأ.
وكان بيت المقدس أعظم ما تجلت فيه تلك الآثار، وتبارى في زينته أرباب الفنون الجميلة؛
وكان داود عليه السلام قد ابتدأ بناء ذلك البيت لعبادة الله تعالى، ثم مات قبل أن يتم بناءه، فلما ملك سليمان عليه السلام من بعده مضى في إتمام ذلك البيت العظيم، وعمل على أن يكون في عصره آية الآيات، ومعجزة فنون البناء والنحت والتصوير؛ فجمع له أرباب تلك الفنون من سائر الجهات، وخص كل طائفة منهم بالعمل الذي تعرفه، وأحضر الرخام والبلور من أماكنهما، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفائح لتتلاءم مع ذلك البيت الذي يريد تشييده، ويكون واسطة العقد وقلادة الجيد، وقد جعلها أثنى عشر ربضاً، وأنزل في كل ربض سبطاً من أسباط بني إسرائيل، ثم شرع في تشييد ذلك البيت العظيم وأحضر الذهب والفضة والجواهر واليواقيت والدر الصافي والمسك والعنبر والطيب، وأتى من ذلك بشيء كثير لا يحصيه إلا الله تعالى، أتته به أساطيله التي كانت تمخر عباب البحار، وتتنقل فيها شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، ثم أحضر المهرة من الصناع وأمرهم أن ينحتوا تلك الأحجار ويجعلوها ألواحاً، وأن يصلحوا الجواهر ويثقبوا اليواقيت واللآلئ، فبنى ذلك البيت بالرخام الأبيض والأخضر والأصفر، وعمده بأساطين البلور الصافي، وسقفه بأنواع الجواهر الثمينة، وفصص سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزح، فلم يكن على وجه الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك البيت، حتى كان يضئ في الظلمة كالقمر ليلة البدر.
وقد زاد في زينة ذلك البيت ما نقش فيه من الصور الجميلة، وما أقيم فيه من التماثيل البديعة، وكان بعضها مصنوعاً من النحاس وبعضها مصنوعاً من الرخام وبعضها مصنوعا من الزجاج، وكان منها ما يمثل صور الملائكة ومنها ما يمثل صور الأنبياء، ومنها ما يمثل صور الصالحين، ومنها ما يمثل صور السباع والطيور وغيرها. وكان من معجزات تلك التماثيل تمثالا أسدين كانا موضوعين تحت كرسي سليمان عليه السلام، وتمثالا نسرين كانا موضوعين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط له الأسدان ذراعيهما، وإذا جلس على كرسيه أظله النسران بأجنحتهما.
وإن ننس لا ننس حديث الصرح الذي شيده سليمان لبلقيس ملكة اليمن، وأشار الله تعالى إلى عجيب شأنه في قوله (قيل لها أدخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، قال إنه صرح ممرد من قوارير، قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان
لله رب العالمين) - 44 - من سورة النمل.
فهذا الصرح كان آية من آيات الفن الجميل، وهو يدل أكبر دلالة على عظم ازدهاره في ذلك العهد، وكان سليمان قد شيد ذلك الصرح لبلقيس ليريها عظمة ملكه، ويطلعها على براعة أرباب الفنون في دولته، فأقامه من الزجاج الأبيض كالماء، وأجرى الماء تحته، وألقى فيه السمك والضفادع وغيرهما من دواب البحر، ثم وضع سريره في صدر المجلس وجلس عليه، فلما أقبلت بلقيس قال لها سليمان ادخلي الصرح، فحسبته لجة أي ماء عظيما، وكشفت عن ساقيها لتخوضه إلى سليمان في صدر المجلس، فقال لها أنه صرح ممرد من قوارير، فحينئذ سترت ساقيها، وعجبت من ذلك غاية العجب، وعلمت أن ملك سليمان من الله تعالى، فأسلمت لله رب العالمين.
وكذلك ورد فن الغناء في القرآن الكريم منسوباً إلى داود عليه السلام، وإليه الإشارة بقوله تعالى:(ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد) 10 من سورة سبأ، ولهذا يقال - نغمة داود - مثلاً في طيب الصوت، وكان عليه السلام إذا قام في محرابه يقرأ الزبور عكفت عليه الوحش والطير تصغي إليه، ويقال أيضا - مزامير داود - لأنه فيما قيل كان له مزامير يزمر بها إذا قرأ الزبور، فكان إذا اجتمع عليه الإنس والجن والوحش والطير أبكى من حوله. وقال المبرد:(مزامير آل داود كأنها ألحانهم وأغانيهم)، وقال غيره:(إن طيب صوته ونغمة نغمته شبها بالمزامير ولا مزامير ولا معازف هناك)
وكان عثمان بن عفان أول من عنى بتلك الفنون بالإسلام، ولهذا أخذ عليه أعداؤه أنه بدل الإمارة على المسلمين من زي النسك إلى زينة الملك. وقد نقل ذلك أبو نصير العتبى في كتابه (اليميني عن رسالة ألبستي في الترجيح بين الصحابة)، وهذا شيء نراه مفخرة لعثمان رضي الله عنه وإن رآه أولئك المتنطعون في الدين مذمة له - وقد أخذ عثمان يهتم بتزيين المملكة الإسلامية بعد أن استقر أمرها، وتغلبت على دولتي الفرس والروم؛ فلم يعد من اللائق أن تبقى على مظاهر البداوة، وقد دان له من دان من أهل الحضارة.
وكان مسجد المدينة أول ما عمد إلى تشييده، فهدمه وبناه بالجص والحجارة، وأحضر له مهرة البناءين من المملكة الإسلامية الواسعة. ثم أتى الوليد بن عبد الملك فأرسل إلى عامله
على المدينة عمر بن عبد العزيز، فزاد في المسجد شرقاً وغرباً وجنوباً، وبنى له أربع مآذن، وفرش أرضه بالرخام، ووشّى جدرانه بالفسيفساء، وكسا سقفه بالذهب، وجعله أساطينه من المرمر.
فيا رب هذا دينك جميل كل الجمال، وليس فيه شيء من ذلك الحرج الذي أفسد أذواقنا، وأغلظ طباعنا، وعكس موازين الحسن والقبح بيننا، حتى صرنا نرى الحسن قبيحاً، والقبيح حسناً. ولا شك أن الفنون الجميلة هي التي تهذ الوجدان، وترقق العاطفة، فلا يسع أي دين أن ينكر فضلها، أو يغض من شأنها. وقد ذكرنا من أمرها في القرآن ما فيه الكفاية لبيان شأنها فيه.
عبد المتعال الصعيدي
اتجاهات الاقتصاد النازي
للأستاذ فؤاد محمد شبل
كلمة عامة
من المبادئ الأساسية للحزب الوطني الاشتراكي أن صالح المجموع يجبَّ صالح الفرد، وهذا يعني خضوع مصالح الأفراد لما تعتبره القوة الحاكمة في الدولة مصلحة للجماعة. ويتخذ القائمون على شئون ألمانيا اليوم هذا المبدأ ستاراً لتدخل الدولة في الشئون الاقتصادية للأفراد تدخلاً غير محدود المدى.
وإنه وإن كان النظام الاقتصادي النازي يتلقى في جوهره مبدأ (إدارة الدولة) إلا أنهم في الواقع قد بسطوا إشراف الدولة والمجالس البلدية على كثير من المشروعات. ومن المفارقات أن رجال النازي رغماً من ذلك ينادون باعتناقهم المبدأ القائل بأن الحياة الاقتصادية يجب أن يكون قوامها الحافز الفردي والمشروع الفردي بمعنى الملكية الفردية لأدوات الإنتاج، وتحمل الفرد لأخطار المشروع، لكنهم يطالبون بخضوع الفرد لإشراف الدولة وتوجيهها. وليس هناك ما يغضب الألمان أكثر من تشبيه نظامهم الاقتصادي بالنظام الاقتصادي السوفييتي، ونراهم يقولون في معرض تفسيره والدفاع عنه أن نظامهم في جوهره لا يعتبر نهجاً اقتصادياً إذ ليس ثمة هيئة مركزية عليا تشرف على تنفيذ النهج، ولا نهج تسعى هذه الهيئة لتحقيقه على نحو المتبع في مشروع الخمس سنوات الذي تتبعه روسيا. فمشروع السنوات الأربع الأولى في ألمانيا كانت الغاية منه القضاء على التعطل والثانية لتحقيق الاستكفاء الاقتصادي للبلاد والاستعداد للحرب.
ويسود الحياة الاقتصادية الألمانية نظام يدعونه نظام الزعامة، مبناه أن يقوم على كل جماعة منتجة (زعيم) تأتمر الجماعة بأمره، وهو مسؤول عن توجيه الإنتاج الخاص للجماعة إلى خير الوجهات التي تتفق والسياسة العليا المرسومة. على أنه قد خفف من قوة ضغط نظام الزعامة هذا في الصناعة، فعدل في السنوات الأخيرة بأن أوجدوا سلطة عليا تستأنف إليها آراء الجماعة عند اختلاف أعضائها وعدم وصولهم إلى قرار حاسم، هذا ويوجد جيش من الموظفين الرسميين مهمته التحقق من نفاذ قوانين الحكومة التي لا عد لها ولا نهاية، ويتجلى هذا التدخل بنوع خاص في كل ما يتعلق بالبيوت التي تعمل في التجارة
الخارجية أو التي تطلب تصاريح للحصول على مواد أولية.
وإذا استقرينا النظام الاقتصادي الألماني وجدناه يعوزه كثيراً وجود الارتباط بين أجزائه المختلفة، مما أفضى إلى نشوء كثير من المتاعب، وسبب خسارة في سجايا الفرد وكفايته الطبيعية. وليس أبعد عن الحقيقة من تصور الاقتصاد الألماني يسير ويعمل كالساعة دقة ونظاماً. فهذا النظام صورة براقة خلابة، لكنها زائفة مستعارة. وليس أدل على ذلك من التصريحات الكثيرة التي يذيعها قادة ألمانيا والمتكلمون عن سياستها الاقتصادية من أن هذا التدخل البعيد المدى في الحياة الاقتصادية والتنظيم الدقيق أمر وقتي وغير طبيعي نتيجة للضروريات التي تجتازها ألمانيا ولا يلبث أن يذهب بذهابها.
وإننا في هذا المقال سنجلو بعض الحقائق عن هذا النظام ثم نتبعه ببيان أساليب ألمانيا التجارية التي تعتبر إحدى صور هذا النظام التطبيقية.
1 -
هيمنة الدولة على جميع العمليات المالية
تمكن الألمان بفرضهم رقابة قوية فعالة على التبادل الخارجي، أن يجعلوا اقتصادياتهم بمنأى من تأثير التغيرات التي تأخذ مجراها في بقية أنحاء العالم، فإنه وإن كان في قدرة العوامل الخارجية أن تحدث أثرها في حجم تجارة ألمانيا الخارجية، إلا أنها لا تستطيع أن تنشئ تبايناً واسع المدى بين قيمة كل من الواردات والصادرات عموماً؛ ونتيجة لهذا تمتعت ألمانيا منذ عام 1933 إلى عام 1937 ما خلا عام 1934 بميزان تجاري موافق، فاستطاعت تسديد جزء كبير من ديونها للخارج التي ما فتئت تحد من حريتها في علاقاتها التجارية مع البلاد الأخرى. وثمة نتيجة أخرى لتقييد التبادل الخارجي، وهي فصل النظام النقدي الألماني والأسعار الداخلية عن الأسعار المالية التي أصبحت بعيدة عن تأثير الذهب؛ ومما يتصل بتقييد التبادل الخارجي وضع قيود شديدة على خروج الأموال ولا سيما العملات الأجنبية من البلاد.
ولقد أصبح النظام النقدي في داخل ألمانيا قائماً على المبدأ العام الآتي، وهو أن حجم النقود والائتمان الموجود في التداول يجب أن يتمشى مع الزيادة في الإنتاج والمحصول السلع والخدمات، وهذا ما يعبرون عنه بقولهم: وبعبارة أخرى يرمي الأمان إلى أن يكون نشاط الأحوال الاقتصادية مماثلاً في حجم الإنتاج، لا القيمة الناجمة عن ارتفاع السعر.
وكما أعار الألمان اهتماماً فائقاً للحقيقة الاقتصادية الآتية: وهي أن المنبع الحقيقي لثروة جماعة ما هو العمل والإنتاج فحسب، واعتبروا النقود شيئاً ثانوياً بالنسبة لهم، وإن لم يغفلوا دورها الهام في تمويل المشروع في جميع أشكاله، كما اعتبروا الإنتاج الصناعي أهم أنواع الإنتاج.
ولقد طبقوا في عملهم سياسة تبدو لأول وهلة أنها سياسة تضخم، وذلك أن بنك الريخ خاصة، والبنوك الأخرى عامة، أنشأت أدوات المبادلة (سواء أكانت نقوداً ورقية أم اعتمادات) قبل عملية إنتاج الثروة، إذ الأصل أن يتبع حجم النقود المتداولة حجم الثروة المنتجة. ولقد أظهرت التجربة أن خلق النقود يحمل معه ارتفاعاً تضخمياً في الأسعار، ما دام أن هناك قدراً كبيراً من مصادر الثروة العاطلة وجزءاً من الطاقة الإنتاجية لا يستغل في الوجوه المنتجة المثلى. ولكي تتفادى أخطار التضخم ورزاياه يجب توفر شرطين: الأول ثبات مستوى الأجور ثباتاً جوهرياً. والثاني ألا يصحب عملية خلق النقود بحال ما تصدير رأس المال على نطاق واسع، وهذا ما سعت ألمانيا إلى تحقيقه عن طريق تدخل الدولة.
ولم تك ألمانيا بإنتاجها هذه السياسة مسيرة بالاعتبارات المؤسسة على الفكرة والتحليل الاقتصادي فحسب، ولكنها اضطرت إلى ذلك تحت ضغط الظروف التي ألفتها محيطة بها في عام 1933، ففي هذا الوقت هبط إنتاج السلع الصناعية إلى مستوى غير عادي، وكانت البلاد تعاني أزمة حادة للعاطلين، بعكس صناعات الاستهلاك التي كانت تسير سيراً حسناً نسبياً، وكانت هذه الحالة تعمل على رفع مستوى الأثمان في داخلية البلاد، ولتفادي هذا رأت الدولة ضرورة ازدهار سلع الإنتاج التي أصابها الكساد أكثر من غيرها، ولا سيما أن نمو الاستهلاك ينتج عنه زيادة في المستورد من المواد الأولية الخام التي لا يمكن تدبير وسائل تمويلها لافتقار البلاد إلى صكوك الدفع الأجنبية التي بها تدفع هذه الواردات. وعلى ذلك حصرت الدولة مجهودها في تنشيط الإنتاج وتدبير العمل للعمال بتشغيلها في الأعمال العامة وعلى الأخص التي تعتبر إنتاجاً رأسمالياً لا استهلاكياً.
وبينما كان الإنعاش يقام مباشرة على اتساع الاستثمار الحكومي الذي أتخذ في مبدأ الأمر شكل أعمال عامة ثم أصبح التسلح بعد ذلك المسحة التي تغلب على الأعمال العامة، كان
ثمة أمر من الأهمية بمكان غدا يهيمن على حجم الاستثمار الخاص وطابعه. فقد حل مكان الرغبة في اجتناء الربح هذه الغريزة التي تحفز الفرد على الاستثمار والمخاطرة في نظام اقتصادي حر تنظيم متقن محكم رسم في مبدأ الأمر لغرض الحيلولة دون اكتظاظ صناعات خاصة بالراغبين في الاستثمار ثم انتقل بعد ذلك إلى أن أصبحت الغاية منه توزيع الاستثمار لأغراض الدولة.
ولقد حسد تماماً من وظيفة سعر الفائدة كمقياس لتوزيع الاستثمار بما اتخذته الدولة من تدابير تعمدت فيها إنزال سعر الفائدة إلى مستوى يعتبر واطئاً بالنسبة لما يمكن اجتناؤه من توظيف رأس المال لو كان هذا حراً. وتتجلى هذه النزعة في قانون صدر بمنع توزيع حصص فائدة على الأسهم والسندات تربو على 6 %، وهذا القانون مضافاً إليه السيطرة على الإصدار الجديدة لرؤوس الأموال كان له أبلغ الأثر في تقليل أهمية البورصة كثيراً وإن بقيت لها وظيفتها في التعامل في الأوراق المالية القديمة.
2 -
تثبيت الأجور والأسعار
ظل المستوى الأدنى لمعدلات الأجور على حالة لم تتغير منذ عام 1933 رغماً عن زيادة دخول العمال الذين يعملون بالساعة ولا سيما دخول ذوي الأجور الأسبوعية وخاصة الذين يعملون منهم في الإنتاج الصناعي؛ وهذه الزيادة تغزى إلى أسباب منها: زيادة الكفاءة الإنتاجية، قلة لعمال بالنسبة لكثرة الأعمال، ذيوع أسلوب الأجر بالقطعة، العمل الإضافي. . . الخ.
ولقد أخضعت الأسعار لرقابة كانت آخذة في الشدة من حين لآخر حتى توجت بقانون (وقف الأجور) الذي صدر في نوفمبر سنة 1936 والذي وقف حائلاً أمام كل زيادة في الأسعار تحدث دون موافقة مندوب الريخ لمراقبة الأسعار. ومنذ عام 1933 هوت طائفة كبيرة من الأسعار بفعل تدخل الدولة. بيد أنه ظل كثير منها في ارتفاع. ومهما يكن من الأمر فقد كانت النتيجة الخالصة زيادة مقدارها 13 % فحسب في الرقم القياسي العام للأسعار بين 1933 ومارس 1938.
إبعاد الزراعة عن نظام الأتمان المعتاد
اعتبرت الزراعة الألمانية كلها وحدة تامة منفصلة عن مناحي الإنتاج الأخرى ونظمت على أنها كذلك، وأصبح الإشراف تاماً على الإنتاج والتوزيع في كل مرحلة من مراحلهما من وقت وجود المحاصيل في يد الفلاح إلى وصولها إلى المستهلك. ويختلف مدى الإشراف على عمليات الزراعة كثيراً؛ ففي حالة الإنتاج يكون الإشراف غير مباشر عادة ويتم من طريق تنظيم الأسعار وإسداء النصائح للمزارعين والدعاية. أما التوزيع فيتم مباشرة غالباً. وليس هناك سعر أعلى أو أدنى يحصل عليه الزارع لقاء محصوله، ولكنه يحصل على سعر تضمنه الحكومة. وفي جميع المراحل التالية حتى وصول المحصول إلى المستهلك، يتخذ ثمن الإنتاج أساساً لتحديد السعر على أن يسمح بتاجر الجملة والتجزئة والصانع الخ بالحصول على ربح عن طريق وضع معدل نسبي لكل.
وفي خلال عامي 1933 و 1934، انتشلت أسعار المنتجات الزراعية من الوهدة التي كانت قد تردت فيها في سني الكساد. ثم ثبتت الأسعار إلى مستوى حقق في حينه عائداً مناسباً؛ بيد أن هذه الأسعار لم تعد تغل ربحا في عامي 1936 و 1937 بسبب ارتفاع تكاليف الزراعة وأسعار المنتجات الصناعية؛ وكانت الغاية من ذلك التحديد حماية الزارع من تقلبات الأثمان العادية للسوق، وتوفير أسباب الطمأنينة الاقتصادية له حتى يمكنه أن يتوفر على أداء واجبه في إمداد الشعب الألماني بمطالبه الغذائية الأساسية ولا سيما في وقت الحرب.
ولاعتبارات اجتماعية وسياسية وحربية نظر إلى الزارع نظرة خاصة. فعد جديراً بحماية الدولة ومساعدتها واعتبرت الزراعة طريقة للحياة لا وسيلة من وسائل عدة لاكتساب العيش. وأوحي إلى الزرّاع أنهم رمز نقاء العنصر الجرماني وقوته. ولقد توجت هذه الآراء المتطرفة بقانون الوراثة الزراعية الذي عمل على خلق عدد كبير من الملكيات الزراعية من الأب إلى الابن مجردة عن احتمال وقوعها في الرهن والدين في المستقبل.
القضاء على التعطل
أخذ الحزب النازي بعد أن تولى السلطة على نفسه عهداً أن يضمن لكل مواطن ألماني عملاً. ويتفرع عن اعتراف الدولة بحق كل فرد أن يجد عملاً، حق الدولة في إلزام كل فرد
بالعمل. وهذا المبدأ غير محدود المدى، إذ قد يعني أن للدولة الحق أن تقرر للفرد نوع العمل ومكانه وساعاته ومقدار الأجر. مهما تنافى هذا مع مصلحته الخاصة ويباين ميوله ورغباته. وقد يكون لهذا الإجراء مبرر في أوقات الحرب، ولكن تطبيق هذا الرأي في أوقات السلم أمر يتعارض مع حرية الفرد بجميع أشكالها، وهو يدل دلالة لا ريب فيها على رغبتها في الحرب واستعدادها لها والتهيؤ لها اقتصادياً على نحو ما يظهر لنا من استعراض تاريخ ألمانيا - الاقتصادي خاصة - منذ عام 1933.
وفي عامي 1933 و 1934 عندما كانت البلاد ترزح تحت عبء مشكلة المتعطلين، أوجدت الحكومة أعمالاً لكثير منهم أعمالاً خلقتها الدولة خلقاً لدرء العطل عن العمال. وكان العمال في هذه الأعمال يعملون عملاً مرهقاً، ولا يتناولون لقائه سوى مصاريف جيبهم وغذاء ومأوى. ولم يكن لهم محيص من القبول إذ لو لم يوجد لهم هذا العمل لكانوا يتناولون الإعانة الضئيلة المخصصة للعاطلين فقط.
وفي خلال السنوات 1935 - 1937 انتهى الأمر إلى هذا النوع من أعمال الترفيه عن العاطلين إذا استوعبت الأعمال الإنتاجية الجديدة كل العمال تقريباً. وإنه وإن كانت معدلات الأجور قد ثبتت بالنسبة لمستوى 1933 - 1934 إلا أنه لم يكن ثمة ما يمنع رب العمل من عدم دفع أجر أعلى لعماله، أو العامل من تغيير عمله إذا أمكنه الحصول على أجر أفضل في مكان آخر. ولقد حرم الإضراب وحتم عرض النزاع بين العمال وأصحاب الأعمال على التحكيم الإجباري؛ كما ألغيت نقابات العمال واستبدل بها جبهة العمل التي كانت عظيمة النشاط في حماية مصالح العمال. وكان ثمة نوع من تمثيل العمال في جميع الصناعات عدى الصغير منها.
بيد أنه كانت ثمة تغييرات عميقة الأثر في علاقة الدولة بالعمال أخذت مكانها ابتداء من صيف 1938، فزيادة توتر الموقف السياسي في أوربا نتيجة لنزاع ألمانية مع تشكوسلوفاكيا حمل الحكومة الألمانية على أن تقرر تحصين جبهة البلاد الغربية بأقصى سرعة ممكنة، ولتسرع في إنجاز برنامج تسلحها على وجه العموم. ولما كانت البلاد قد انتقى منها التعطل تماماً ولم يعد ثمة عمال يزيدون على الحاجة لتشغيلهم في أعمال جديدة فقد صدر مرسوم في 28 يونية سنة 1938 يخول الدولة الحق في دعوة أي مواطن ألماني
داخل البلاد، ليعهد إليه القيام بأي عمل تعتبره الدولة ذا أهمية خاصة عاجلة بالنسبة أليها. وفي ظل هذا القانون نزع مئات الألوف من العمال من أعمالهم الأصلية بعد انتهاء حالة هذه الضرورة.
ومهما يكن من الأمر فواضح أن الدولة في ألمانيا تجمع في يديها الآن سلطات لا حد لها على عمالها، وهذه السلطات هي مما لا شك فيه حق من حقوق الدولة، ولكن مما يميز حالة ألمانية أنها استعملت في أوقات السلام منذ تسلم النازي أزمة الحكم، في حين أنها في غيرها من الدول لا يلتجأ إليها إلا في الأوقات الغير العادية. وهنا يتبادر إلى ذهننا السؤال الآتي: هل تبقى هذه السلطات في ألمانيا في المستقبل بعد الحرب، وبذلك يظل العامل الألماني مسلوب الحرية فاقد الإرادة في اختيار نوع ومكان العمل الذي يروقه؟ هذا سؤال نترك الرد عليه لما يأتي به الغد. على أنه يمكننا أن نقرر مستندين في ذلك على آراء الثقاة الذين زاروا ألمانيا قبل الحرب ودرسوا أحوالها، أن الحالة هناك وصلت إلى درجة التشبع فيما يختص بتشكيلات الدولة المالية، وأن إضافة شيء جديد منها إلى الموجد منها فعلاً أمر لن يقابل بالارتياح من لدن الرأي العام الألماني.
5 -
تحقيق الاستكفاء الاقتصادي
تحت ألمانية قبل الحرب نحو توفير المواد الغذائية والمواد الأولية في بلادها التي يكون طلبها غير مرن، أو التي تقطع عنها عند نشوب الحرب، أو كوسيلة للضغط الاقتصادي أو السياسي إذا تعرضت البلاد للانهيار. بيد أن ألمانيا لا تصبو إلا إلى تحقيق الاستكفاء الاقتصادي التام الذي ينتج عنه توقف تجارتها الخارجية، فما دامت لا تستورد فهي لا تصدر، إذ أن غاية ألمانيا من التجارة الخارجية زيادة صادراتها لتدفع بأثمانها ما تشتريه من الخارج.
أما فيما يختص بالمواد الأولية، فقد وجهت السياسة الاقتصادية نحو إحداث تغيير أساسي في أسس الصناعة من حيث اعتمادها على المواد الأولية النادرة الوجود في ألمانيا أو التي يلزم استيرادها من الخارج، بأن تستبدل بها مواد أخرى يمكن إنتاجها في ألمانيا بما يكفي حاجات الصناعات أو معظمها، أو مواد يمكن استيرادها من الأقطار المجاورة لألمانيا التي لن تشترك في الحرب طوعاً أو كرهاً. وتحقيقاً لذلك نرى المواد البديلة تأخذ مكان الحديد
وغيره من المعادن، والزيادة الكبيرة في إنتاج الألومنيوم والمغنزيوم والحديد الخسيس النوع، وحلول المطاط الصناعي محل المطاط الطبيعي، والاستعاضة بالألياف الصناعية عن القطن والصوف، وابتكار البزين الصناعي. . . الخ.
ولقد عملت هذه الخطة على إضافة أعباء جسيمة جديدة إلى النظام الاقتصادي الألماني؛ فسوق الاستغلال أصبحت مكتظة بالمشاريع المختلفة، فأصبح الاستثمار ينوء بما ألقى على عاتقه من تمويل صناعات الاستكفاء، ولأنه يزيد من الطلب على العمال في وقت أصبحت فيه ألمانيا في عوز تام إليهم، وأصبحت مشكلة توفرهم في البلاد من أخطر المشاكل التي تعتبر عاملاً يحد من نشاط الاقتصاد الألماني. وفضلاً عن ذلك، فإن هذه الصناعات تعتبر عملاً خاسراً من الوجهة التجارية، إذ تتضمن ارتفاع في تكاليف الإنتاج يؤدي إلى خفض مستوى معيشة السكان. بيد أن ألمانيا لم تراع سوى شيء واحد، هو توفير أسس الفوز في حرب قصيرة الأجل يستطيع تحملها الاقتصاد الألماني.
6 -
تفريق الصناعة والسكان
يعتقد الاقتصاديون الألمان أن تصميم المدينة الصناعية في الوقت الحاضر وما تحشده جنباتها من عدد عديد من العمال تسكن في حجر ضيقة أمر فظيع لا يمكنهم قبوله. فهم يرغبون أن تقوم سياسة تفريق الصناعة عوضاً عن تركيزها وتجميعها بأن تنشأ مدن صناعية صغيرة موزعة في أنحاء البلاد.
ولقد شرعت ألمانيا منذ تولى النازي أزمة الحكم في تنفيذ فكرتهم وكان الغرض الحربي هو الغاية الأساسية لتفريق البيوت الصناعية. بيد أن تفريق الصناعة أوجد مشاكل عدة لحياة البلاد الاقتصادية خصوصاً للزراعة. ولقد أنشئ في برلين معهد أسموه (مجلس النهج المركزي) على اتصال بجميع الجامعات والسلطات الإقليمية للتشاور في كل المسائل المتعلقة بإنشاء الطرق والمساكن والمصانع والمباني المختلفة على وجه العموم. واختص المجلس المركزي برسم خطوط سياسة البناء والتعمير العامة للدولة بأجمعها. . .
فبينما كان الجزء الأكبر من نشاط بناء المساكن في ألمانيا منذ عام 1933 آخذاً شكل بناء منازل في المدن الكبرى التي كانت في عوز شديد إلى المساكن، كانت هناك حركة بناء مساكن للعائلات الصغيرة في الضواحي والأرياف. ولقد كانت هذه الحركة مظهراً من
مظاهر تنفيذ مشروع السنوات الأربع الثانية إذ أنه اتصل بحركة إنشاء المصانع الجديدة الخاصة بتحقيق الاستكفاء الاقتصادي للبلاد.
ولقد وجه إلى حركة إنشاء مسكن العمال ولا سيما التي تقوم على إنشائها المنشئات الصناعية كثير من أوجه النقد، إذ أن هذا من شأنه زيادة اعتماد العامل على مخدومه. والواقع أن خطة الدولة الألمانية تجاه عمالها ذات وجهين، فهي من جهة تجعل من العمال شبه أرقاء لا حول لهم ولا قوة، فترهقهم بالعمل وتحدد لهم أجورهم وساعات العمل ونوعه ومكانه كما تشاء وإذا بها من الجهة الأخرى تعتنق بعض الإصلاحات الاجتماعية التي يقوم بها المجتمع الرأسمالي اليوم.
ومن الخير أن تقرر أن طموح ألمانيا نحو هجرة صناعاتها من المدن الكبيرة ونقل العمال إلى الريف لم يتحقق إلا على نطاق ضيق وإن كان ما زال غرضاً نسعى لتحقيقه.
هذه هي المعالم الأساسية للنظام الاقتصادي النازي؛ وتلك هي الاتجاهات التي يسير فيها، يبدو من تقصيها مدى الفراغ الواسع الذي يفصل بينها وبين النظم الاقتصادية الحرة التي تسير عليها دول كبريطانيا العظمى ومصر وفرنسا والولايات المتحدة. وعلى الذين ينظرون إلى هذا النظام من حيث النتائج التي حققها من انتقاء التعطل من ألمانيا ونشاط جهازها الاقتصادي أن يستعرضوا الظروف التي أحالت بقيامه ثم وجوده، والأسباب التي عملت على وصوله إلى النتائج التي وصل إليها. وفي مكنة الدول الأخرى أن تستفيد من دراسته وأن تأخذ ببعض أساليبه التي حققت فوائد لألمانيا، على أن يلاحظ في تطبيق هذه النواحي أتم الحيطة والحذر، فألمانيا تخالف في روحها ونظمها وتقاليدها الشعوب الحرة الأخرى. فالأخذ بالنظام الاقتصادي الألماني وتطبيقه على علاته كما يبدو لبعض قصار النظر من الناس أمر لن ينتج منه سوى هدم كيان بلادهم وزعزعة نظمها الاقتصادية والاجتماعية وتعريضها للانهيار.
فؤاد محمد شبل
مفتش تموين إسكندرية
شخصيات تاريخية
4 -
تيموستوكل
للأستاذ محمد الشحات أيوب
مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب
لعل من الغريب أن نرى الديمقراطية الأثينية لا تفي تيموستوكل حقه من المجد والسلطان بعد انتصاره في معركة سلامين، بل على العكس من ذلك تنكرت له. ونحن لا نستطيع أن نبخسه حقه كما فعلت معه الديمقراطية الأثينية، فشأنها في هذا ربما لا يختلف في قليل ولا كثير عن شأن الديمقراطيات الأخرى في القديم أو الحديث. ويحدثنا هيرودوت أنها ذهبت إلى أبعد من هذا فعملت على أن تتخلص منه، فأرسلته في بعثة إلى إسبرطة ليطلب إليها أن تمد يد المعونة الحربية إلى أثينا في أقرب فرصة ممكنة، ولكنه فشل في هذه البعثة وعاد إلى وطنه فاستقبله مواطنوه استقبالاً فيه شيء كثير من الفتور، وأخذ عليه الأثينيون بوجه خاص كبرياءه وغطرسته، وحان وقت الانتخابات فلم يظهر اسمه من بين المنتخبين ليكونوا الاستراتيج العشرة وهم المشرفون على الحكم في الدولة، وأبعدوه عن الحكم وفضلوا عليه زعيم المحافظين وهو أرشيد. ولعل هناك وجهاً للمقارنة بين هذا الموقف وموقف الديمقراطية الفرنسية غداة انتصارها في الحرب العالمية الكبرى الماضية، إذ تنكرت هي الأخرى لزعيمها وصاحب الفضل في انتصارها وهو كليمنصو فلم تنتخبه رئيساً للجمهورية؛ بل فضلت عليه شخصاً دونه في العبقرية، بل إنه يعد في حكم المتوسطين. وتعليل هذا بسيط: ذلك أن الديمقراطية تخاف على نفسها من هؤلاء الأبطال الذين يحرزون لها هذا النصر ويشيدون لها هذا المجد أن تحدثهم أنفسهم أن يحكموها عن طريق العنف والاستبداد ككل دكتاتور يستبد بالسلطة بعد اشتداد أمره وازدياد أتباعه، أو بعد نصر يصيبه في معركة التحم فيها أو بعد نجاح في بعثة أوفد إليها. ومن الطبيعي أن يكون عدم عرفان الجميل على هذا النحو سبباً من الأسباب التي أدت إلى حفيظة تيموستوكل ضد بني قومه، فكانت هذه الغلطة في نظرنا أولى الخطوات التي أدت إلى تطور ثيموستوكل من جانب اليونان إلى جانب الفرس حتى جعلته يقلع عن خدمتهم إلى
خدمة أعدائهم.
وبالرغم من هذا يتجاهل تيموستوكل كل هذا التنكر وينسى نفسه ومطامعه ومصالحه الشخصية فيتفق مع خصمه ومنافسه الزعيم أرسيتد على برنامج للإصلاح القومي الغرض منه بعث أثينا وإعادتها إلى الحياة بعد أن كانت قد أوشكت على الفناء على أثر غزوة أجرزسيس لها، وذلك ببناء ما دمر من بيوتها وإصلاح ما خرب من أراضيها، وكان أساس هذا البرنامج العبارة اليونانية الشهيرة التي مؤداها أن يجعل أثينا تعتمد على ميناء بيريه، وكذلك الأرض تعتمد على البحر.
وهذا البرنامج واسع شاسع لا يمكنه أن يتمه في يوم وليلة؛ لذلك نجده يفضل الأهم على المهم، والضروري على الزائد عن الحاجة، فيشجع على البدء أولاً بإقامة التحصينات اللازمة للدفاع عن الدولة بعد تخريب الفرس لها، أما بناء البيوت وإزالة الخرائب والأنقاض عنها؛ وأما إقامة المعابد الجميلة التي تناسب الآلهة فإنه يعمل على تأخيرها إلى فرصة أخرى مناسبة؛ ثم نراه يحث قومه على الإسراع في بناء هذه التحصينات حتى يتموها في شهر واحد تقريباً، وكانت نتيجة هذا كله أن أصبحت أثينا محاطة بسور متين بلغ طوله 9 كيلومترات.
وأنت لا تستطيع أن تظن أن تنفيذ هذا البرنامج سهل يسير، كلا ثم كلا! ذلك أن أعداء أثينا واقفون لها بالمرصاد، مثل الدول المحيطة بها، كأريجينيا وميجارا وكورنث. وقد فهمت هذه الدول القصد الذي ترمي إليه أثينا، فأخذوا يتربصون لها ويحقدون عليها، وعلى الأخص بعد موقعة سلامين، لأنها كانت تعتبر صاحبة الفضل الأول في إحراز النصر لليونان جميعاً، وقد طلبت هذه الدول إلى إسبرطة التي كانت على رأس الحلف البيلوبونيزي أن تعمل على هدم هذه الأسوار، فهي تخاف من أثينا أن تستطيع وحدها الوقوف على أقدامها فتنجح في الدفاع عن استقلالها ضد كل دولة تحدثها نفسها بغزو أرضيها؛ فإذا تمكنت من الدفاع عن هذا الاستقلال والمحافظة عليه ربما أمكنها أن تلعب دوراً مهما في البيلويونيز وفي غير البيلويونيز. وقد لبت إسبرطة هذا النداء وأرسلت سفراء من لدنها يتكلمون باسمها أمام المجالس الأثينية، ولكن تيموستوكل يفسد عليهم خطتهم بسلوكه مسلك الختل والخداع؛ فهو يحرص قبل كل شيء على أن تقام هذه
التحصينات في أقرب وقت مهما كلف ذلك من جهد وعناء، فتمكن من أن يحصل من مجلس (البولي) على قرار بإرساله هو على رأس سفارة إلى إسبرطة لمفاوضة أهل الحل والعقد هناك، وفي الوقت نفسه طلب إلى أعضاء سفارته هذه أن لا يبرحوا أثينا حتى يتم بناء هذه التحصينات؛ ثم ذهب إلى إسبرطة وأخذ يفاوض ويفاوض ويماطل في المفاوضة حتى فطن إلى ذلك أعداؤه وأعداء بلاده، فنبهوا إسبرطة إلى هذا الخداع وطلبوا إليها الإسراع في العمل على تنفيذ رغبتهم حتى لا يفلت الأمر من يدهم ويدها. فترسل إسبرطة سفارة ثانية إلى أثينا ولا تكاد تصل هذه السفارة إلى هذه المدينة حتى تكون الأسوار قد تمت بفضل تفاني جميع المواطنين من شيب وشبان ونساء وأطفال في إتمامها، فاستطاع بعد ذلك أعضاء وفد تيموستوكل مبارحة أثينا والانضمام إليه في إسبرطة، فلما رآهم قد أصبحوا إلى جانبه خلع النقاب وكشر عن الأنياب ورفع الصوت عالياً معلناً لكل من يريد أن يستمع له أن بلاده لا تخضع لوعيد ولا لتهديد، وأنها إذا أرادت أن تأتي أمراً في داخل بلادها فهي وحدها صاحبة الأمر في ذلك، وهي حرة التصرف في شؤونها الداخلية لا تقبل من أية دولة ولا من أية جهة أن تتدخل في أمورها؛ لذلك فإنها ترفض طلب إسبرطة وحلفائها. وما استطاع تيموستوكل إعلان هذا الرأي إلا بعد أن رأى أن وطنه قد استطاع الظفر في الحرب ضد الفرس، بل وأن هذا الظفر يرجع قبل كل شيء إلى جهود بلاده وتضحياتها، فإن كانت الدول اليونانية الأخرى قد ساهمت في إحراز هذا النصر العام فإن هذه المساهمة ضئيلة لا تعد شيئاً مذكوراً إلى جانب ذلك المجهود الجبار الذي بذلته أثينا، فالعدو قد ضرب أراضيها وأنتهك حرمة معابدها وأراضي آلهتها، والأثنيون بعد ذلك شردوا أيما تشريد، وهاجروا من وطنهم إلى بلاد سلامين على نحو ما ذكرنا في المقال السابق، والأرض الأثينية كانت الميدان الذي قاسى الأهوال، وتحمل الكوارث والمصائب. أما البلاد الأخرى في البيلوبونيز فلم تقاس شيئاً من أهوال هذه الحرب. أفهل يحق لها بعد ذلك أن تقسو على أثينا، وأن تطلب إليها أن تكون مجردة من كل وسيلة من وسائل الدفاع، وخاصة وأن تيموستوكل ومعه الأثينيون ما يزالون يعتقدون أن الحرب لم تنتهي وأن الفرس ربما يربحون مرة أخرى لغزو بلادهم؟ كلا! إن ذلك لا يمكن أن يحدث بعد الآن فالدولة الأثينية قد أصبحت رشيدة تستطيع أن تدافع عن مصالحها وحقوقها، بل وأن تذهب
إلى أكثر من ذلك فتتسامى عن السياسة الذاتية إلى السياسة العامة، وهي سياسة الدفاع عن جميع بلاد اليونان قاطبة. لم يسع إسبرطة أمام هذا الإصدار إلا أن ترضخ فتركت أثينا وشأنها. وقد لامها حلفاؤها وعابوا عليها هذا المسلك فوصفوه بأنه ينم عن الضعف والتخاذل والإهمال، لأنه من غير شك سيساعد أثينا على المضي في طريقها بعد أن رأت إن أكبر الدول اليونانية لا تستطيع أن تمنعها من تحقيق سياستها، فتشجعت ونهضت بعد هذا البعث الجديد وتمكنت من أن تسير قدماً إلى الأمام لتنفيذ سياستها الإمبريالية وهي سياسة التوسع والفتوح.
نجح إذن تيموستوكل في هذه المهمة، وهي إحاطة أثينا بالأسوار والتحصينات، ولكنه لم يهدأ له بال بعد ذلك إذ رأى أن هذه الأعمال الدفاعية لا تحقق الغرض منها إلا إذا أكملت بأعمال أخرى في ميناء بيريه. فيوجه إلى هذا الميناء كل جهوده لاعتقاده الجازم أن هذه الأعمال كلها مرتبطة ببعضها تمام الارتباط، فلا يصلح عمل منه دون أن يتم العمل الآخر، وهو كثيراً ما نادى - على نحو ما رأينا في ما سبق - أن مستقبل أثينا على البحار، لذلك لم يكن من الغريب أن تكون سياسته كلها موجهة نحو البحر، بل مرتكزة على البحر، فالبحر في نظره عماد كل شيء كما قال في تلك العبارة الشهيرة التي أوردناها منذ حين:(أن الأرض الأثينية تعتمد على البحر والمدينة تعتمد على ميناء بيريه). وتنفيذاً لهذه السياسة يعمل على إحاطة ميناء بيريه هي الأخرى بسور، وقد تم ذلك فبلغ طوله عشرة كيلو مترات بعد أن بناه من الأحجار الضخمة التي استخرجها من المحاجر المجاورة. بل ربط تيموستوكل هذا الميناء الجديد بالميناءين المجاورين وهما (زيا) و (موتخيا) وجعلها كلها ميناء واحدة ومدينة واحدة، وشجع الناس على أن يفدوا إليها من الخارج، أي من البلدان القريبة منها، فأقبلوا زرافات ووحداناً، بعد أن رأوا أنفسهم قد أعفتهم هذه المدينة من الضريبة الثقيلة المسماة وهي التي كانت تفرض على كل أجنبي يريد أن يقيم بها، فكثر سكانها وازدحموا ازدحاماً عظيما حتى أصبحت بعد ذلك أهم ميناء في البحر الأبيض المتوسط، واعتبرت قلب الإمبراطورية الأثينية النابض. ففيها يرسو الأسطول وهو عماد الإمبراطورية الأثينية البحرية، ومنها تصدر الصادرات الأثينية وإليها ترد الواردات من الخارج، كالقمح والخشب والمعادن من البلاد المحيطة بالبحر الأسود أو من آسيا الصغرى
ومصر، وكذلك من طريق الغرب من صقلية وبلاد اليونان الكبرى في جنوب شبه جزيرة إيطاليا.
سار الشعب الأثيني وراء تيموستوكل واتبع نصائحه ونفذ إرشاداته وتوجيهاته ولكن إلى حين؛ ثم سحب بعد ذلك ثقته من هذا البطل ومنحها لخصومه زعماء الحزب الأرستقراطي، وكان من أبرزهم في ذلك الوقت أرسيتد الذي طالما ذكرنا اسمه وشخصية أخرى جديدة ظهرت إلى جانبه ثم حلت محله بعد ذلك في زعامة هذا الحزب، هي شخصية الشاب الأرستقراطي سيمون بن مليتاد بطل ماراتون. وكانت هذه الشخصيات الثلاث عبارة عن ثالوث يوجه شؤون الدولة ويدير دفتها في هذه الحقبة من التاريخ.
تتغلب هاتان الشخصيتان الأرستقراطيتان، أرستيد وسيمون، في عالم السياسة الأثينية بقدر ما تتواري شخصية تيموستوكل ويأفل نجمه، وتتفق هاتان الشخصيتان على السياسة الخارجية وهي تقضي بالانصراف إلى شؤون حلف ديلوس والاهتمام بأمره حتى يكمل تنظيمه فيستطيع حينئذ أن يحقق الغرض الذي من أجله أسس وهو الدفاع عن اليونان في بحر إيجه وفي غرب آسيا الصغرى ضد الفرس، وهما لا يترددان، في سبيل تنفيذ هذه السياسة عن الاتفاق مع إسبرطة وتقسيم مناطق النفوذ معها؛ فلها البر ولأثينا البحر. أما تيموستوكل فيقول بغير هذا، يقول بتوجيه الاهتمام إلى حلف ديلوس ولكن على أن يكون هذا الحلف هو القوة المسيطرة وحدها في بلاد اليونان جميعاً، فيجب أن تكون لأثينا السيادة في جميع أجزاء العالم اليوناني، وهو يعلم تمام العلم أنه لا يستطيع تنفيذ هذه السياسة وإسبرطة قائمة على رأس حلفها، لذلك نادى بضرورة الاتفاق مع الفرس حتى يكون لأثينا الغلبة والسيادة، وبذلك تغيرت سياسة تيموستوكل الخارجية تغيراً يكاد يكون تاماً بعد معركة سلامين. ألم نره ألد عدو للفرس وهو الشخص الذي كان روح المقاومة وبطل الاستقلال؟ ألم نره قد عمل على التوحيد بين اليونان جميعاً لصد الفرس وردهم عن البلاد؟ تغيرات إذن هذه السياسة، فلم هذا التغيير؟ الجواب على هذا السؤال بسيط لا يحتاج إلى كبير عناء، فتيموستوكل لا يفكر إلا في وطنه وفي مصلحة وطنه، ويكاد يكون هذا التفكير شاغله الأعظم، فهو يريد لأثينا الزعامة على بلاد اليونان كلها والسيادة في البر والبحر معاً، والآن وقد زال الخطر الفارسي لم يبق أمام وطنه إلا الخطر الإسبرطي، وقد اعتقد
اعتقاداً جازماً لا يخامره الشك أن الفرس بعد هزيمتهم الساحقة، في معركة سلامين، قد أصبحوا أقل خطراً من قبل. لذلك وجه سياسته إلى الاتفاق معهم حتى يتفرغ لمحاربة إسبرطة، بخلاف الزعيمين السابقي الذكر، أرستيد وسيمون، فهما أرستقراطيان، تكاد تتفق ميولهما وتربيتهما مع الميول والتربية الإسبرطية، فنزعتهما أرستقراطية لا تختلف عن النزعة الإسبرطية في قليل ولا كثير. وقد كانت هذه السياسة هي سياسة الحزب الأرستقراطي طول القرن الخامس ق. م. أما تيموستوكل فهو ديمقراطي تختلف نزعاته عن نزعات إسبرطة، وتختلف ميول الحزب الديمقراطي عن ميول الدولة الإسبرطية، لذلك اصطدمت سياسة هذا الحزب بسياسة إسبرطة حتى كان ذلك من العوامل القوية التي دفعت أثينا إلى الحرب مع إسبرطة في النصف الثاني من القرن الخامس ق. م. وذلك في عهد بركليس.
(يتبع)
محمد الشحات أيوب
جولة في أسرار الناس
(مهداة إلى الدكتور زكي مبارك)
للأستاذ م. دراج
حقاً لقد صدق الذي قال: (إن الإرادة الحازمة لا تعرف المستحيل) فمن ذا يصدق أني أكتب هذا المقال بعد انتصاف الليل بساعات قضيتها أرقاً أفكر في الناس والمجتمع وكيف أن الغش والكذب والمخادعة هي الأصناف الرائجة بل هي الوحيدة التي يتجر فيها تجار السياسة وسماسرة الأحزاب والمضاربون في سوق المنافع والفرص (الذهبية). كان رأسي مملوءاً بالخواطر المغلقة والصور تحتشد أمامي، والحقائق تندفع من وراء مخابئها تهتك أسرار مجرمي الجمعية التي أعيش ويعيش فيها ملاين من أبناء وطني مقيدين بأغلال الفقر الأسود الذي فرضه علينا دجالو السياسة والاجتماع والاقتصاد، حتى لم أعد أطيق البقاء في فراشي فنهضت أعالج ضوء مصباحي الخافت ففشلت في جعله صالحاً للكتابة فيه، وعدت أفتش عن قلم أسطر فيه خواطري اليقظة فلا أجد غير بقية لا تصلح، وليس لي مكتب أجلس إليه، وكلها عقبات كفيلة أن تثني رجلاً في مثل حالي عن الكتابة. فلست من المبرزين في رجال المجتمع حتى تتهافت الصحف على كتاباتي، ولا أنا ممن أوتوا حظاً من المال أذلل به عقبات النشر، وليس لي بين الصحفيين أصدقاء يهتمون بأفكاري حق الاهتمام، ومع ذلك أجد يدي قد امتدت إلى المصباح فوضعته قرب الوسادة، وظفري قد نبش القشرة الخشبية حتى ظهر سن القلم إذ لا سلاح لدي، ثم أنبطح على الفراش والورقة أمامي كما ينبطح الجندي في ساحة القتال. كل هذا من أجل من؟ أللناس أكتب أم لنفسي؟ وهل كان يجدر بي أن أكتب هذه المقدمة لو أنني كنت فيما أكتبه للناس مخلصاً؟ هكذا قلت لنفسي:
على أية حال لقد تبينت في نفسي رغبة خفية للكتابة، والناس أسرار. ألا ترى أننا نحب دائماً أن نسمع رأي الناس فينا؟ ومع ذلك نكره منهم النقد ولو كانوا في نقدهم محقين؟ بل أكثر من ذلك نحب أن نطلع على خبايا نفوسنا عند دعاة العلم بالغيب ممن يفتحون (الكتاب) ويضربون (الرمل) ويقرؤون في الكف الماضي والحاضر والمستقبل أيضاً، ونحن نعلم أنهم يرجمون بالغيب؟ أليست كل هذه الشعوذات عناصر أكذوبة ضخمة جازت
على عقول المفكرين في هذا المجتمع المريض؟ مر بخاطري ذلك الصحفي الذي يملأ صحيفته بالحديث عن نفسه وكيف قضى يومه بين زيارات وحفلات وسهرات، وعجبت كيف يفرض على الناس أن يهتموا بسهراته ومقابلاته وأحلامه؟ إن مثل هذا الصحفي يلقبونه أحياناً (صحافياً عبقرياً) لماذا؟ ألا إنه يعلم أن في وطنه آلاف المشكلات التي تستحق عنايته ككاتب يعبر عن آلام الشعب وأمانيه، ثم يصرفهم عن الجد بالهزل ويحول بينهم وبين المطالبة بحقوقه بأمثال هذه (الطرق الأمريكية)؟ وأتى دور المحامي الشهير الذي أعلن قريباً (أن العلاج الناجح لمثل هذا الوطن المنكوب بملايينه الجائعة العارية المريضة الجاهلة هي الاشتراكية، ونسى أنه من الأثرياء الذين لا يحسنون فهم الروح الاشتراكية، وأن الاشتراكية نفسها تأبى جمع المال بمثل هذه الوسائل بل وتحاربها أيضاً. ثم تقدمت صورة طبيب ملأ الجشع نفسه حتى لم يجد من العار أن يساوم المريض على فراش الخطر وأن يبهظ قدرته على الصرف بإطالة أسباب العلاج، غير مراع في ذلك حرمة المهنة ولا الضمير الإنساني.
هؤلاء الأطباء يدعون أنهم خدام الإنسانية! وتذكرت فجأة أني ركبت تراماً وسمعت بعض الذين أشقتهم أزمة الغلاء وعدت على قوتهم الضروري يقولون: ليت الذين ينصحوننا بالصبر والقناعة ويوصوننا بعدم الإسراف، يعلمون أن في بيوتنا جياعاً لم يتذوقوا الطعام. الطعام الذي ينصحوننا بالاقتصاد فيه) وهل خفف هؤلاء الناصحون من مظاهر ترفهم أو رقوا لحال من يعملون في مزارعهم أو قصورهم أو مصانعهم أو متاجرهم؟
الجواب دائما: لا ثم لا!!
هؤلاء الحكام والسياسيون يستطيعون في كل وقت أن يصنعوا شيئاً لهذا البلد، ومع ذلك لا يفعلون؟ إنهم حينما يرون كسب عطف الفلاح أو العامل بات أمراً جوهرياً لبقائهم لا ينفكون يتوددون إليه بشتى ألوان الوعود والأماني العذاب، حتى إذا تم لهم ما يريدون، نسوا أو تجاهلوا ما كان.
هل يمكن لمثل هذه الملايين البائسة أن تمنحهم ثقتها بعد أن ضيعوا عليهم ربع قرن من الزمان في منازعات حزبية شخصية غايتها اقتسام المنافع واقتسام المناصب والسلطان؟ وهل تغتفر لهم ضياع فرص قد يعز على المستقبل أن يجود بمثلها؟؟ هذا سؤال سترد عليه
الأيام المقبلة.
كان في نيتي أن أستيقظ لأسرار الناس، وأطيل التأمل في حياة الجمعية التي تعيش فيها، ولكن بعد ما مضيت قليلاً عثرت على مفتاح هذه الأسرار فوجدت فيه الجشع المادي الذي لا حد له قد سيطر على عقول أفرادها فما يشفيها منه إلا طبيب ماهر جرئ يعرف موطن الداء ويعرف كيف يقضي عليه بالمصل المضاد. . . ثم ألقيت قلمي ونمت مع أفكاري جنباً لجنب!
م. دراج
نفسية المحارب
للدكتور محمد حسني ولاية
قبل أن أخوض في هذا الموضوع أقول إن السادية هي النزعة إلى إيلام شخص آخر أو القضاء عليه، مصحوبة بشعور لذيذ. وهذا الألم إما أن يكون وليد عامل مادي كالضرب بالسوط، أو معنوي كالتوبيخ والاحتقار. أما الماسوشية فهي على النقيض من هذا، لأنها تنطوي على استعذاب العذاب والألم مادياً كان أو معنوياً.
إن الذي يدعو الإنسان إلى قتل أخيه الإنسان هو النزعة السادية المتحكمة في نفوس البشر جميعاً؛ وليست هذه النزعة غريبة عن نفوس النساء، بل هي مستقرة في أعماقهن بدليل ظهورها في بعض العصبيات، وأحياناً في اللاتي بلغن سن اليأس.
ويحمل كل إنسان - رجلاً كان أو امرأة - نزعة السادية متوازنة مع نزعة الماسوشية؛ ويُبقى الرجل جانباً كبيراً من ساديته في وعيه، فيتسلط على المرأة ويتحكم فيها، ويحاول التسلط على ضعفاء الرجال، والتغلب على صعوبات الحياة. على أنه يكبت في عقله اللاواعي (العقل الباطن) معظم النزعة الماسوشية.
ويحدث عكس هذا في المرأة، لأن وعيها يحملها على الخنوع والاستسلام لبقاء معظم النزعة الماسوشية فيه. وكثيراً ما تبرز النزعة السادية في المرأة عندما تصادف منافسة لها في حب الرجل فتعمد حينئذ إلى الانتقام من أحدهما أو كليهما.
تعني السادية أن يهدم الإنسان سواه ليخلو له الجو ويستأثر بالحياة. فهي نزعة مقترنة بالرغبة في الحياة والسيطرة. أما الماسوشية، فتعني أن يهدم الإنسان نفسه. فهي وثيقة الصلة بغريزة الموت، وتستقر غريزة الحياة في عقلنا الباطن جنباً إلى جنب غريزة الموت؛ ولهذا الجانب من التمثيل المعنوي جانب مادي يقابله، فغريزة الحياة تمثلها الغدد الجنسية التي تفرز العناصر الحيوية الأولى. أما غريزة الموت، فيمثلها الجسد الذي مآله إلى البلى!
ولا يلجأ الإنسان إلى عداء الإنسان إلا إذا أمعن في كبت النزعة الماسوشية، وأبرز في الوعي كل الطاقة النفسية المتعلقة بالسادية.
يؤدي العرف في أوقات السلم إلى أن يكبت الرجل شطراً من ساديته لينسجم مع المرأة
والبيئة. أما في زمن الحرب فتتحكم السادية في العقل الواعي وحينئذ يتحرك الحيوان الرابض في الأعماق ليقضي على فريسته. وليس هذا الحيوان سوى الإنسان البدائي الذي ما زال متمتعاً بكامل قوته وعدته.
وحين تسير الجيوش لملاقاة العدو يتناسى كل جندي شخصيته ويعود إلى ماضيه الفطري ويعمل كما كان يعمل آباؤه الأولون. وهو في هذه الحالة يشعر بأنه ليس طوع نفسه، ولكنه رهن الإرادة البشرية الأزلية التي تسيطر على سرائرنا جميعاً. أما إذا أمعن الجندي في وعي ذاته - وشعر بأن شخصيته قائمة بذاتها لم تستطع روحه الاندماج مع الروح التي تقود زملاءه الجنود إلى التلاحم مع العدو.
ويصيب بعض الجنود مرض الهستريا أو القلق العصبي بتأثير الحرب؛ ففي الحالة الأولى قد يعتري الجندي شلل في إحدى ذراعيه أو كلتيهما، أو في إحدى رجليه أو كلتيهما، كما قد يغتابه العمى الهستيري بتأثير الغازات الخانقة مثلاً، أو الصمم بتأثير القنابل، وكل هذه الأعراض نفسية يمكن شفاؤها بالعلاج النفسي.
ويشعر المريض بالقلق العصبي بالخوف وخفقان القلب واهتزاز لأعضاء وغير ذلك، أما شفاؤه فليس بعسير.
وقد وجد أن بعض المصابين بمستهل جنون المراهقة أشد ثباتاً وأرسخ نفسية من بعض زملائهم لانطفاء انفعالاتهم وعواطفهم، فلم لا يلمون بالأخطار المحدقة بهم، ويسيرون في الصفوف كالبهم السائمة.
محمد حسني ولاية
الصراع الأمريكي الياباني
للأديب محمد شاهين الجوهري
يتخذ الصراع الأوربي كل يوم مظهراً جديداً، وتطغي الحرب
الأوربية على كل ما عداها، فاشتداد وطأتها وسرعة تطوراتها
قد أكسباها خطورة، وحولا إليها اهتمام العالم وتفكيره.
وإلى جانب هذا الصراع نضال آخر قد اتصلت أسبابهما: ذلك هو النضال القائم بين أمريكا واليابان، وإنه وإن لم يكن قد دخل للآن في طور القتال إلا أنه على أشده. ووراء هذا النضال برنامج من التسلح لا يقف عند حد. فالأمتان تستبقان في هذا الميدان. وإذا عرفنا أنهما دولتان بحريتان يؤلف الأسطول خط دفاعهما الأول، فسيكون البحر مسرحاً فسيحاً لنضال عنيف بين الأسطوليين يرغم فيه القوي الأضعف على التخلي عن الميدان تاركاً له السيادة والسيطرة.
ولذا نجد جل اهتمام الدولتين وجهودهما مركزاً في تقوية بحريتهما، فكلتاهما تخصص الملايين لزيادة أسطولها وتقويته وجعله أكثر تفوقاً على خصمه. وليس أدل على هذا الاهتمام من أنه لم تكد تمضي ساعتان على توقيع الرئيس روزفلت اعتماد خمسة ملايين دولار لتعزيز البحرية الأمريكية، حتى أعلن القائمون بأمر التنفيذ أنه قد تم التعاقد مع الشركات التي ستتولى بناء السفن.
أخذت اليابان في السنوات الأخيرة تقفو آثار السياسة الأوربية وتتبع خطاها، واضعة نصب عينيها أن يكون لها من وراء كل أزمة أوربية ربح ومغنم. وأخذت أمريكا ترقب عن كثب تطورات السياسة الأوربية، مسترشدة بها في توجيه سياستها. وهكذا رأينا الدولتين تسيران حسب ما تمليه عليهما تلك السياسة، ولكن هناك تباين واضح بين السياستين.
فالولايات المتحدة دولة قد خلت سياستها من كل مطمع استعماري، ويهمها أن يسود السلام بقية الدول، حتى تجد فيها أسواقاً رابحة لتجارتها. وقد رأت أيضاً أن مبادئها التي طالما نادت بها في الحرب الكبرى الماضية كقواعد ثابتة للسلم لم يحققها رجال السياسة الأوربية،
فضلاً عن أنها لم تسترد ما لها من الديون عند الدول التي اقترضت منها في الحرب الماضية. أضف إلى ذلك أن الشعب الأمريكي شعب قد أشبعته سياسة بلاده بمبادئ السلام، فاتجه بجهوده وتفكيره إلى ميادين العمل السلمية، فضرب بسهم رابح في نواحي النهضة المختلفة علمية كانت أم فنية؛ وساعده على ذلك ما تتمتع به بلاده من ثروة طبيعية ومالية. لذلك كانت سياستها بعيدة عن التوسع والاستعمار.
أما اليابان، فإمبراطورية حديثة النشأة. الاستعمار أهم عوامل نهضتها، كما أن صغر مساحتها بالنسبة لعدد سكانها أملى عليها ضرورة إيجاد مساحات جديدة لهذا العدو المتزايد. وإذا كانت أمريكا قد ارتضت مبدأ (أمريكا للأمريكيين)، فإن اليابان يعز عليها أن تجد في آسيا شعوباً غريبة عنها، فينادى ساستها كذلك أن (آسيا للآسيويين). ناهيك بأن اليابان لا تجد في بلادها كثير من الخامات التي تلزم صناعتها. لهذا رأيناها توجه سياستها إلى الناحية الاستعمارية. فإذا كانت هذه هي سياسة اليابان، فإنه لم تكد تخلق لها الحوادث الأوربية فرصة إلا اقتنصتها وخطت في سبيل تحقيق سياستها خطوات واسعة. ففي يونيو سنة 1940، حين انهارت المقاومة الفرنسية وبقيت بريطانيا بمعزل تواجه أشد الغارات الألمانية، كانت هذه - بلا شك - فرصة سانحة لليابان لتحقيق مآربها. فأظهرت لبريطانيا رغبتها في إقفال طريق بورما الذي يأتي منه المدد لجنود الجنرال الصيني شان كاي شيك، وطلبت منها أيضاً سحب جنودها من المدن الصينية؛ واتبعت في تنفيذ رغبتها العنف، واضطرت بريطانيا في ذلك الوقت أن تنزل على رغبتها، فأجابتها إلى ما طلبت. ولم يمض على ذلك وقت طويل حتى عادت اليابان فطالبت الحكومة الفرنسية باحتلال بعض مناطق الهند الصينية والسماح لجيوشها بالمرور منها إلى الصين. وبعد مناوشات واصطدامات ومفاوضات خضعت الحكومة الفرنسية للمطالب اليابانية، فزحفت قوات اليابان إلى الهند الصينية لمهاجمة جنود الجنرال شاي كاي شيك في ميدان جديد، كما اتخذت بعض الوحدات اتجاهها نحو سيام فهددت بذلك القواعد الإنجليزية في سنغافورة، وكذلك جزر الهند الشرقية الهولندية التي تعتمد عليها الولايات المتحدة في استيراد المطاط والقصدير اعتماداً كبيراً، كما هددت جزائر الفليبين الواقعة تحت الحماية الأمريكية والتي لا تبعد عن الهند الصينية أكثر من ستمائة ميل.
وفي سبتمبر سنة 1940 أمضت اليابان المحالفة العسكرية الثلاثية مع ألمانيا وإيطاليا، وينطوي هذا التحالف على أن تشترك الدول الثلاث المتحالفة في الحرب ضد أية دولة - ومنها الولايات المتحدة - ورمت اليابان من وراء ذلك إلى ضمان اشتراك ألمانيا وإيطاليا معها إذا اشتبكت في حرب مع الولايات المتحدة وفي أكتوبر سنة 1940 ألقى وزير خارجية اليابان بياناً أوضح فيه سياسة بلاده حيال الولايات المتحدة فقال:(إنني أوجه هذا التحدي إلى الولايات المتحدة، فإنها إذا رأت أن تؤثر الإقدام في عمى وتعصب على أن تعمل ما من شأنه إحداث تغيير في الحالة الراهنة في المحيط الهادي نستقدم على محاربتها)
تلك هي سياسة اليابان التي اتبعتها والخطط التي انتهجتها فما هو رأي الشعب الأمريكي حيال هذه السياسة؟
يمكننا تلخيص آراء الأمريكيين في رأيين:
أحدهما يرمي إلى إتباع سياسة سلمية في كل علاقة بين بلاده واليابان.
والرأي الآخر يرى أنه لا بد من مقاومة المطامع اليابانية ووقفها، بل القضاء عليها بالقوة قبل أن يتسع نطاقها وتطغى على أمريكا وتصبح أمام خطر يهدد كيانها ويصعب مغالبته. فعلى أمريكا أن تأخذ أهبتها لمقاومة هذا الخطر. وفي هذا يقول ليبمان الثقة الأمريكي (إن خير وسيلة للدفاع عن الجزر ليست مجرد حشد الأساطيل حول سواحلها لحراستها وارتقاب هجوم العدو، ولكن بمباغتته في عقر داره وتحطيم الموانئ التي يأتي منها الغزو وتأمين المسالك البحرية)
وبعد انهيار المقاومة الأوربية وسيطرة الدول الديكتاتورية على أوربا أخذ الرأي العام الأمريكي يميل إلى مساعدة الدول التي تناهض الديكتاتورية حتى ولو أدى ذلك إلى تدخل أمريكا الفعلي في الحرب. ويقول أصحاب هذا الرأي إنه ليس على الولايات المتحدة أن تتجاهل ما تقوم به اليابان في الشرق الأقصى، كما أنه ليس في الإمكان تهدئة اليابان وتسوية المشاكل القائمة تسوية سلمية ما لم تقبل أمريكا ما تمليه عليها اليابان.
فاليابان ترغب في أن تنفض أمريكا يدها من النزاع القائم بينها وبين الصين وأن تكف عنها المساعدة، وبمعنى آخر تتخلى أمريكا عن مبدأ حرية التجارة، وعلى ذلك تصبح الصين بمعزل عن المعونة الخارجية مما يسهل مهمة اليابان في القضاء عليها. ولكن كيف
تنفذ الولايات المتحدة رغبة اليابان وتتركها تقضي على الصين - وهي بمثابة خط دفاعها الأول - ولذا ينادي أصحاب هذا الرأي بوجوب قطع التجارة مع اليابان، لأن اليابان تنفق ثمن ما تصدره من الحرير إلى الولايات المتحدة على جيوشها في الصين، فإذا ما قطعت التجارة عنها أصبحت اليابان عاجزة عن مواصلة هذه الحرب، كما يرون ضرورة تصدير المؤن والذخائر إلى الصين لتكون أقدر على الدفاع عن نفسها وإنهاك قوى اليابان. ويرون كذلك أن اليابان - إذا لم تقف الولايات المتحدة في وجهها - ستحتل جزر الهند الشرقية الهولندية؛ وعندئذ تقطع عن أمريكا ما تستورده من المطاط والقصدير وتملي عليها ما تشاء من الشروط في سبيل الحصول على حاجتها من هاتين المادتين. وهناك نقطة أخرى وهي أن الشعب في الولايات المتحدة ومن ورائه الشعوب الأمريكية اللاتينية يؤيد السياسة القائلة بمساعدة الصين؛ فإذا ما كفت الولايات المتحدة عن هذه المساعدة ثارت روح الاستياء في الرأي العام الأمريكي. كذلك إذا تركت الولايات المتحدة أمر جزر الفليبين التي تعتمد على حمايتها وتثق بها، فإن هذه الجزر ستكون بلا شك عرضة للغزو الياباني وهذا ما يسبب حنق الشعوب اللاتينية أيضاً وهو ما يخشاه رجال الحكم في الولايات المتحدة، وينقسم أنصار السياسة السلمية إلى فريقين: فريق يرى أن قوة اليابان وخطرها على الولايات المتحدة أمر مبالغ فيه، إذ أن اليابان منهمكة بكل قواها في الحرب الصينية وليس في مقدورها محاربة الولايات المتحدة أو تهديدها تهديداً فعالاً؛ فليس على أمريكا أن تشغل نفسها بمشاكل الشرق الأقصى إذ يمكنها أن تستعيض عن المطاط الذي تستورده من جزر الهند الهولندية الشرقية بمطاط صناعي؛ ويمكنها أيضاً استيراد ما تحتاجه من القصدير من أمريكا الجنوبية كما أن كلتا الدولتين سوق رابحة للأخرى ليس من المصلحة الاستغناء عنه.
ويرى الفريق الآخر أن المحالفة العسكرية الثلاثية بين اليابان وألمانيا وإيطاليا قد وضعت أمريكا أمام مشكلة الحرب في المحيطين الهادي والأطلنطي؛ وليست أمريكا الآن على استعداد لهذه الحرب حتى يتم بناء أسطولها الجديد. لذلك يرون وجوب حل المشاكل القائمة بين الولايات المتحدة واليابان حلاً سلمياً والعمل على تركيز جهود الأسطول الأمريكي في المحيط الأطلنطي ضد ألمانيا وإيطاليا.
ويقول ليبمان: (ليس البحر وحده ضماناً ضد الغزو، فإن الجزر البريطانية التي لا تبعد سوى عشرين ميلاً من أوربا لم تتعرض للغزو منذ مئات السنين، بينما تجد أمريكا التي تبعد عن أوربا بآلاف الأميال عرضة لكثير من غزوات الأوربيين. إذن فليس البحر هو الذي يحمي بريطانيا أو أمريكا وإنما تحميها القوة التي تسيطر على هذا البحر)
لذا نجد أمريكا واليابان يخصان الأسطول بأكبر نصيب من ميزانية الحرب لبناء قطع حربية جديدة تضاف إلى أساطيلهما.
ويظهر لنا البيان الآتي صورة واضحة عن قوة الأسطوليين
الولايات المتحدة
اليابان
النوع
ما تملكه الآن
ما تشرع في بنائه
المجموع
ما تملكه الآن
ما تشرع في بنائه
المجموع
بارجة
15
17
32
10
4
14
حاملة طائرات
6
12
18
6
2
8
طراد
37
48
85
44
6
50
مدمرة
197
171
368
مدمرات
135 وقوارب
طوربيد
10
145
غواصة
103
82
185
69
13
82
المجموع
358
330
688
264
35
299
وهنا يجدر بنا إجراء مقارنة بسيطة بين الأسطوليين: فالبوارج الأمريكية أقل سرعة من مثيلاتها اليابانية، ولكن مدافعها أقوى وأبعد مدى؛ وتفوق حاملات الطائرات والطرادات والمدمرات الأمريكية مثيلاتها اليابانية في القوة والسرعة والحجم، وبالأسطول الياباني قوارب طوربيد ولا بد أن تكون البحرية الأمريكية قد عملت لها حساباً، وبجانب تقوية الأسطول ترى الولايات المتحدة في الدول المناهضة للديكتاتورية خطاً رئيسياً للدفاع عنها وعن مصالحها. لذا أسرعت بتقديم كل مساعدة ممكنة لهذه الدول، لأنه إذا انهارت بريطانيا أصبحت اليابان حرة في توجيه ضرباتها في الشرق الأقصى، وأنه ما دامت بريطانيا تحارب، فسوف تبقى المصالح الأمريكية بعيدة عن أي خطر أو تهديد، كما أن استمرار الحرب الصينية معناه جعل اليابان في موقف لا يساعدها على مناهضة أمريكا في الشرق الأقصى، أو تقديم أية معونة فعالة لألمانيا أو إيطاليا من شأنها إضعاف بريطانيا التي تعمل الولايات المتحدة جادة على إبقائها، بل زيادة قوتها.
ولتنفيذ هذه السياسة أصدر الرئيس روزفلت أمره بحظر تصدير الحديد إلى اليابان. ويجب أن نذكر أنه قبل أن يصدر الرئيس هذا الأمر كان قد وافق على اعتماد مبلغ 25 ، 000 ، 000 ريال لحكومة الجنرال شان كاي شيك، وكان الغرض من هذا القرض في الظاهر شراء بعض المواد الخام من الصين، وحقيقياً مضاعفة جهود المقاومة الصينية ضد اليابان،
كما طلبت الولايات المتحدة من بريطانيا إعادة فتح طريق بورما، حتى يمكن توصل سيل الإمدادات إلى الصين.
ودأبت الولايات المتحدة على مد روسيا بأدوات الحرب اللازمة حتى تتمكن من تقديم مساعدتها للصين عن طريق روسيا ولتساعد روسيا أيضاً في حربها ضد الدول الديكتاتورية. ولا تألو الولايات المتحدة جهداً في سبيل تلك المساعدة؛ وليس أدل على هذا مما اتخذه الرئيس روزفلت والمستر تشرشل من قرارات في اجتماع المحيط، ووصول مندوب الرئيس روزفلت الخاص إلى مؤتمر الحلفاء بموسكو.
وهناك بعض اقتراحات ترى الولايات المتحدة الأخذ بها إذا جد ما يدعو لها وهي إرسال سفن حربية أمريكية إلى قاعدة سنغافورة وبعض القواعد الأسترالية. ويرى الخبراء الفنيون أن اتخاذ الأساطيل المشتركة لهذه القواعد سيقضي على كل محاولة تقوم بها اليابان للاستيلاء على جزر الهند الشرقية الهولندية إذ أن وجود ثلاثة أساطيل مشتركة - الأمريكي والبريطاني والهولندي - يجعل اليابان في حذر، وخصوصاً وإن على الأسطول الياباني عبء ضرب الحصار على السواحل الصينية وتموين الجيش الياباني بالصين. وإذا ما عملت أمريكا بهذا الاقتراح فإنها ستنقل نقط الدفاع البحرية الرئيسية للولايات المتحدة من جزر هاواي إلى سنغافورة التي تبعد عن هاواي بمقدار 6. 000 ميل، وهذا ولا شك سيسهل مهمة الأسطول الأمريكي في حماية جزر الفليبين واتخاذها قاعدة لإصلاح السفن وتضمن له حماية جزر الهند الشرقية الهولندية.
ولكن تعترض هذا الاقتراح عقبات منها أن ذلك قد يكلف الأمريكيين ثمناً أغلى مما يستفيدونه من هذه الجزر، إذ عليهم أن ينفقوا ملايين الدولارات على أسطول يخوض غمار معارك بحرية تقع على هذا البعد الشاسع من مراكز البحرية الأمريكية الرئيسية في المحيط الهادي.
تلك هي الخطوات التي قطعتها كلتا الدولتين في هذا الصراع وهو كما ترى صراع قد اتصلت أسبابه بالصراع الأوربي، صراع في أجلى معانيه بين الديمقراطية والديكتاتورية.
محمد شاهين الجوهري
معهد الصحافة العالي بالجامعة الأمريكية
أغنية الحب!
للشاعر (هايني)
للأستاذ علي محمود طه
يا رِفاقي غنت الفرحة ' في كل مكان!
إن هذا زمن ' الحب، فضِجُّوا بالأغاني!
ارفعوا الأقداح ملأى، واشربوا نَخْبَ الحِسان
فالربيع السَّمْحُ يدعوكم إلى أكرم حان!
الربيع المرِحُ الجذلان يختال فَخورا
إنه الحسن الذي يملأ بالحب الصدورا
كيف لا نقطف منه الثمر الحلو النضيرا؟
أنت يأتيها الشمس املئي الآفاق نورا!
يا رفاقي قد دعانا زمن الحب فهيا
أطلعَ الروضُ جَني الكرمةِ والزهرَ النَّديَّا
اقطفوا الأزهار منه واعصروا الكَرْمَ الجنَّيا
يا رِفاقي قد دعانا زمن الحب فهيا!. . .
علي محمود طه
مضى أمسى.
. .
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
مضَى أمسي بأحلامي
…
فمنْ يخلُقُ لي أمسى
وغاضَ مَعينُ أوهامي
…
فمن يَرْوي صَدى حسي
مُنىً كَمْ أفعمتْ جامي
…
بهَنَّ، ذهْبن أشتاتا
ورحن بسحر أيامي
…
وما عَودٌ لما فاتا
وفي قلبي مآتُمهُ
…
على أمسِ الذي ماتا
وقد دَرَسَتْ معالمُهُ
…
فهل ترجعُ؟ هيهاتا
ويومي راح هادِمُهُ
…
يهيبُ بيَ: انظري لغدِ
غدٌ خفيتْ معالمه
…
فدعني، ما غدي بيدي
غدي في حُجُبِ الغيبِ
…
فلا تكشفْ ليَ الحجْبا
يثيرُ الروْعَ في قلبي
…
تَوَهُّمُ أن أرى الغيبا
أخاف أخاف أن يُرْبى
…
غدي جرعهَ إتْعاسي
وما أُسْقيتُه حسبي
…
فنحِّ صُبابةَ الكأس
أخافُ خفَّيةَ الأقدارْ
…
وما أَجْرَى ليَ القلمُ
وهذا الفلكَ الدوَّارْ
…
وفيه التيهُ والعدمُ
كؤوسٌ للقضاءِ تُدارْ
…
على الشَّرْب وهمْ لاهون
لئن عدموا لهنَّ خُمارْ
…
فآذنْهمْ، غداً سيكون
نفضتُ يديَّ من حُلُمِ
…
نعمتُ به إلى حينِ
طوتهُ مجاهلُ العَدَمِ
…
وعدت أتخسر مغبونِ
وكم أفعمتُهُ بدمي
…
أقَرَّبُ من دمي زُلفَى
عسى يبقى، فَوَا ندمى
…
تُخُطِّفَ من يدِي خطفا
لكمْ تصبو له نفسي
…
وكم أشتاقُ أطيافَهْ
تجي وتروحُ في حسّي
…
وضاََء الحسنِ رفّافة
تلاشَي بعدهُ أُنسي
…
وأٌزهِقَ إثْرَهُ روحي
فما أُصبحُ أو أُمسي
…
سوى أنفاس مذبوحِ
(نابلس)
فدوى طوقان
مذبح الحب.
. .
للأديب محمد عبد السلام كفافي
باتت به الناسُ أَسْرَى وهي أحرارُ
…
وحَفَّهُ من دَمِ العُشَّاقِ أَنْهارُ
يخاله من يراه جنةً عَجَباً
…
لكنَّه للذي يرتادُه ناَرُ!
قُيُدُه من صَميم السحر قد صُنِعَتْ
…
والوجدُ سكينُه والحسنُ عقَّارُ
يا مَذْبَحَاً لم يكُنْ إلا لَدَي خلَدِي
…
له بِناَءٌ عَلَا حَاطَتْه أسْوَارُ
بُسْتاَنُه ناَضِرٌ ضاَفيِ الجمالِ به
…
ماءٌ وظلٌّ وأنسامٌ وأزِهارُ
لم يَسْقِه مَطَرُ لكنَّما هَطَلَتْ
…
عليه من أَدْمُع العُشَّاقِ أمْطَارُ
ولم يعَطَّرْهُ زَهرُ فوق أَغْصُنِه
…
لكنَّه بعهودِ الحبَ مِعْطَارُ
وما شَدَا فيه طَيْرٌ إنما سَجَعَتْ
…
عليه من أَنْفُسِ العُشَّاقِ أطياَرُ
أَضَحتْ وقد أُطلِقَتْ من سجنها ولها
…
في الحبِّ وصلٌ وفي الجنَّاتِ أوْكاَرُ
من عهدِ آدمَ قد شِّيدتَ وانفتلتْ
…
تُعْلِيِ بناََءك أَجْياَلٌ وأدهارُ
فكنْتَ بيتاً صغيراً ثم صِرْتَ وقد
…
شِيدَتْ على صَفْحَةِ الدُّنْيا لك الدارُ
كم من قتيلٍ بلا ذنبٍ أرقتَ له
…
دماً وكم ذلَّ في ناديك جَبَّارُ
وكم ببابك تنصبُّ الدموعُ وكمْ
…
تُهدَى إليك أغاريدٌ وأشعارُ
وكم تُقَامُ صلاةُ فيك خاشعةٌ
…
تُتْلَى بها من كتابِ الحبِّ أسطارُ
أسديتَ للفنَّ آلاءً مخلّدَةً
…
تَرْوِى عُلَاهاَ على الأيام آثار
كم قد أَذَعْتَ حديثاً في الورى عجباً
…
شدا به الشعر أو غَنَّتْهُ أوتارُ
وكم تماثيلَ تجلوها وكم صُوَرٍ
…
تَلَقَّت الوحيَ فيها عنك أفكارُ
يا مذبحاً يتراَءى للعيون وما
…
يَبِينُ منه لِعَقْلِ الناس أسرارُ
حدِّثْ عن الزمن الخالي فكم طُوِيَتْ
…
به من الوَجدِ في ناديك أَعْمَارُ
ولي ذَوُوها ولكن لا تزال لهم
…
ذكرى على الدهر لا تَفنَى وَإكْباَرُ
صدقُ الوفاء وإن أوْدى بصاحبه
…
حديثُهُ خالد في الكون سَّيارُ
محمد عبد السلام كفافي
البريد الأدبي
وفاة الآنسة (مي)
في يوم الأحد التاسع عشر من هذا الشهر استوفت الكاتبة الكبيرة (مي) أنفاسها في مستشفى (المعادي) وكانت قد نقلت إليه على أثر إغماء غشيها ثلاثة أيام وهي في بيتها لا يعلم بها أحد، حتى فطن إلى ذلك بواب المنزل فأبلغ أمرها إلى الشرطة. والسنوات الأخيرة من حياة (مي) كانت مأساة يرتاع لها الضمير ويلتاع القلب. وقد أشارت الرسالة إلى بعض فصولها في أعدادها السابقة.
والآنسة (مي) تنتمي إلى أسرة زيادة من قضاء كسروان في لبنان، وقد ولدت هي بالناصرة حيث كان يعمل والدها المرحوم إلياس زيادة، وتلقت علومها الابتدائية بمدرسة عين طورة، ثم جاء بها والدها إلى مصر فاستكملت ثقافتها وتميزت بالذهن البارع والذوق السليم، والمشاركة في سائر العلوم، وحذقها للغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية والأسبانية. ثم أخذت تنشر فيض قريحتها الخصبة في المحروسة ومجلة الزهور والمقتطف والهلال والأهرام والسياسة والرسالة؛ وغذت المكتبة العربية بطائفة من الكتب الممتعة موضوعة ومنقولة. ومنذ بضع سنوات توفى والدها ثم والدتها فظلت بعدهما حزينة وحيدة، ثم مالت إلى العزلة وانقطعت عن الكتابة والتأليف. ثم أصابها مرض نفسي ساعد على ضعف أعصابها وانحلال قواها، فنقلوها إلى لبنان تستشفي فيه، حتى إذا أحست روح العافية رجعت إلى مصر فألقت محاضرة في الجامعة الأمريكية أعادت إلى الذاكرة وقفاتها على المنابر. ثم عادت صحتها فساءت في الأيام الأخيرة حتى توفاها الله. وفي عدد قادم ستقول الرسالة في الفقيدة الكريمة كلمة الإنصاف.
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
كنت أحب أن أعفى نفسي من دراسة الكتب التي قررتها وزارة المعارف في مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية، بعد الذي عانيت من المتاعب في دراسة الكتب التي قررتها الوزارة في السنة الماضية، وإنما يتعبني هذا النوع من الدراسة لأنه يوجب النزاهة المطلقة في إصدار الأحكام الأدبية، وليس هذا بالشيء الهين، فأكثر أصحاب هذه الكتب أحياء، وقد تكون بيني وبين فريق منهم تراث وأحقاد، وتخليص النفس من الهوى مطلبٌ شاق، ولن
أستطيع القول بأني مبرأ من الأهواء.
ولكن الرغبة الكريمة التي أبداها بعض كبار المربين من أمثال الأستاذ أحمد نجيب هاشم ناظر مدرسة فاروق الأول الثانوية، والأستاذ سامي عاشور ناظر مدرسة شبرا الثانوية، والأستاذ حبيب إسكندر مدير مدارس التوفيق القبطية، هذه الرغبة الكريمة قوّت عزيمتي وأعانتني على صد هوى النفس في معاملة بعض خصومي من رجال الأدب الحديث، فأنا ماض بعون الله في درس الكتب المقررة لمسابقة هذه السنة بالنزاهة التي التزمتها في السنة الماضية، لأن مقامي في نقد هذه الكتب مقام المدرس، والمدرس لا يجوز له أن يواجه تلاميذه بغير الصدق، وإن كان في الصدق ما يجرح هواه.
وقد أرسلت الوزارة منشوراً بالكتب المقررة إلى جميع المدارس الأميرية والأهلية والأجنبية، فلا موجب للنص عليها في هذه الكلمة الوجيزة. وهل يفوت المدرسين الأوائل أن يبلغوها إلى جميع الصفوف؟ إنما يهمني أن أنص على أن كتاب (المنتخبات) لأستاذنا أحمد لطفي السيد باشا مقرر تحريرياً على جميع المتسابقين، وليس عندي ما أقوله في هذا الكتاب بعد الذي قلته في العدد 388 من مجلة (الرسالة)، ويستطيع الطلبة أن يجدوه في مكتبات المدارس الأميرية والمكتبات العمومية.
فإلى العدد المقبل، وسأبدأ بتشريح كتاب (الأخلاق عند الغزالي) فلي بمؤلفه صلة شخصية، وإن كنت أخشى أن يفسد النقد ما بيني وبين المؤلف، وهل جاملتُ صديقاً حتى أجامل هذا الصديق.
زكي مبارك
1 -
شكر ووعد
قرأتُ ما تفضّل بكتابته الأستاذ محمد عبد الغني حسن، في العدد 426 من الرسالة الغراء، فشكرتُ لحضرته وافر أدبه وحسن ظنه بي. وأود أن أذكر الآن، أنني بعثت اليوم إلى هذه المجلة بمقال يحتوي على ما أمكنني الوقوف عليه من ترجمة جميل تخلة المدور. فعساي قمت ببعض الواجب نحو رجلٍ خدم الآداب العربية خدمة جليلة.
أما طلبه الكتابة في (قصور سامرا)، فذاك بحثٌ وفّيناه حقه من العناية في بعض الملحقات
التي أضفناها إلى كتاب (الديارات) للشابشتي، ذاك الكتاب الذي نرجو من الله أن يوفقنا لنشره بالطبع في وقت نرجو أن يكون قريباً.
2 -
كتاب الشعور بالعور
بينما كنت أقلب فهرس المخطوطات العربية المصونة في خزانة كتب برلين، وقع نظري على ذكر نسخة من كتاب (الشعور بالعور) لعلامة عصره صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي المتوفى سنة 764 للهجرة. وهذه النسخة برقم 9867 من قائمة أهلوردت فتذكرت حينئذ أنني قرأت نبذاً منشورة في مجلة الرسالة. ولما رجعت إليها ألفيتها خمساً، كتبها ثلاثة أفاضل في شأن هذا الكتاب ونسخه المعروفة. ويؤخذ من الفهرس المشار إليه أن نسخة برلين تقوم في (112) صفحة متوسطة، في كل منها 27 سطراً، وأنها كتبت قبل نحو من مائتي سنة وبذلك، تكون النسخ المعروفة لهذا الكتاب ثلاثاً، وهي:
1 -
نسخة المغفور له أحمد زكي باشا، المصورة عن مخطوط في بعض خزائن استانبول.
2 -
نسخة الخزانة الخالدية في بيت المقدس، وتاريخها سنة 841 هـ.
3 -
نسخة برلين، وهي التي ألمعنا إليها في هذه الكلمة
(بغداد)
كوركيس عواد
تأبين الأستاذ يوسف أسعد
أقام شعراء المنصورة وأدباؤها في الأسبوع الماضي حفلة تأبين بنادي الأرز للأستاذ يوسف أسعد الشاعر الذي توفى في الشهر الماضي. وقد كانت هذه الحفلة صورة لوفاء الشعراء والأدباء في الدقهلية نحو شاعر هتف بأعذب الشعر في جميع المناسبات القومية والاجتماعية والخيرية، وكان له أقوى الأثر في تشجيع النهضة الأدبية بالدقهلية.
وقد ولد المرحوم يوسف أسعد في لبنان، وأتم علومه بمدارسها، واشتغل في أول أمره مدرساً لعلوم البلاغة في المدرسة الوطنية اللبنانية؛ ثم اشترك في تحرير مجلة الحقيقة التي كان يصدرها المرحوم نعيم بك صوايا بلبنان؛ ثم هاجر إلى مصر، واختار المنصورة داراً، واشتغل بالتجارة والزراعة، فنجح فيهما؛ إلا أن ذلك لم يصرفه عن قرض الشعر ومعالجة
الأدب، وقد كان أميل إلى الحكم والمواعظ، وله في هذا المعنى كتاب قيم اسمه (رأس الحكمة مخافة الله). رحمه الله رحمة واسعة، وألهم أهله الصبر عليه، وعوض أمته الخير من فقده.
(المنصورة)
علي عبد الله
الأسود بن قنان
ورد هذا الاسم في كتاب مسهب بليغ بين النثر والشعر، للأمير أبي عبد الله بن الأحمر الغرناطي، بعث به إلى سلطان فاس متوسلاً مستغيثاً متوجعاً من بني الأسبان ومناكرهم! وهو من إنشاء الشاعر الناثر أبي عبد الله محمد ابن عبد الله العربي العقيلي، وقد سماه (الروض العاطر الأنفاض، في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس)
وفي ثنايا الكتاب يقول مادحاً السلطان المذكور: (. . . أعز جاراً من أبي دُوَاد، وأحمي أنفاً من الحارث بن عُباد. . . إن أغاث ملهوفاً فما الأسود بن قنان يذكر، الخ)
فمن هو الأسود بن قنان؟
يقول الأساتذة الإجلاء (السقا والإيباري وشلبي) الذين قاموا بضبط وتحقيق كتاب (أزهار الرياض في أخبار عياض) تعليقاً على هذا الاسم في الهامش: لم نجد شيئا عن الأسود ابن قنان هذا في المظان التي رجعنا إليها.
وللإخوان الكرام كل العذر، فالأسود بن قنان لم يسعده الحظ بالشهرة مع ما أوتيه من فتوة وأربحية وبأس ونجدة.
وقد عناني أن أعرف هذا الرجل الهمام الذي وصفه العقيلي بأكرم خلة يتصف بها إنسان: وهي إغاثة الملهوف! وخيل إلىّ أنني مررت بهذا الاسم فيما قرأت وإن غاب عني المصدر، حتى كنت ذات ليلة أتصفح (ديوان المعاني لأبي هلال العسكري) فبعثرت به مصادفة في فصل المديح من كتاب المبالغة.
قال أبو هلال رواية عن أبي الحسن البرمكي عن محمد ابن ناجية الرصغاني، قال: كنت أحد من وقعت عليهم التهمة أيام الواقعة بمال مصر، فطلبني السلطان طلباً شديداً، حتى
ضاقت علىّ الأرض برجها! فخرجت إلى البلاد مرتاداً رجلاً عزيزاً منيع الدار أعوذ به وأنزل عليه، حتى انتهيت إلى بني شيبان بن ثعلبة، فدفعت إلى بيت مشرف بظهر رابية منيعة، وإلى جانبه فرس مربوط ورمح مركوز يلمع سنانه، فنزلت عن فرسي وتقدمت فسلمت على أهل الخباء، فرد على نساء من وراء السجف، يرمقنني من خلل الستور بعيون كعيون أخشاف الظباء! فقالت إحداهن:
اطمئن يا حضري، فقلت: وكيف يطمئن المطلوب أو يأمن المرعوب! وقلما ينجو من السلطان طالبه، والخوف غالبه دون أن يأوي إلى جبل يعصمه، أو معقل يمنعه. فقالت: يا حضري، لقد ترجم لسانك عن قلب صغير وذنب كبير، قد نزلت بفناء بيت لا يضام فيه أحد، ولا يجوع فيه كبد، ما دام لهذا الحي سَبد أو لبَد. هذا بيت الأسود بن قنان، أخواله كلب، وأعمامه شيبان، صعلوك الحي في ماله، وسيدهم في فعاله، لا ينازع ولا يدافع، له الجوار وموقد النار وطلب الثار، وبهذا وصفته أمامة بنت الجلاح الكلبية حيث تقول:
إذا شئت أن تلقي فتى لو وزنته
…
بكل مَعَدِّيٍَّ وكل يماني
وفي بهمُ حلماً وجوداً وسؤدداً
…
وبأسا فهذا الأسود بن قنان
فتى كالفتاة البكر يصفر وجهه
…
كأن تلالي وجههِ القمرَان
أغرّ أبرْ ابنيْ نزارٍ ويعرُب
…
وأوثقهم عقداً بكل لسان
وأوفاهمُ عهداً وأطولهم يداً
…
وأعلاهمُ فعلاً بكل مكان
وأضربهم بالسيف من دون جاره
…
وأطعنهم من دونه بسنان
كأن العطايا والمنايا بكفه
…
سحابان مقرونان مؤتلفان
فقلت: الآن ذهبت عني الوحشة، وسكنت الروعة، فأنَّى لي به؟! قالت: يا جارية، اخرجي فنادي مولاك، فخرجت الجارية فما لبثت إلا هنيهة حتى جاءت وهو معها في جمع من بني عمه، فرأيت غلاماً حسناً قد أخضر شاربه، واختط عارضه، وخشن جانبه. فقال: أي المنعمين علينا أنت؟ فبادرت المرأة فقالت: يا أبا مرهف، هذا رجل نبتْ به أوطانه، وأزعجه سلطانه، وأوحشه زمانه، وقد أحب جوارك، ورغب في ذمتك، وقد ضمِنا له ما يضمنه لمثله مثلك! فقال: بلَّ الله فاك! قال: فأخذ بيدي وجلس وجلست؛ ثم قال: يا بني أبي وذوي رحمي، أشهدكم أن هذا الرجل في ذمتي وجواري، فمن أراده فقد أرادني، ومن كاده
فقد كادني، وما يلزمني من أمره في حال إلا ويلزمكم مثله: فليسمع الرجل منكم ما يسكن إليه قلبه، وتطمئن إليه نفسه. قال: فما رأيت جواباً قط أحسن من جوابهم؛ إذ قالوا بأجمعهم ما هي أول منة منَنتَ بها علينا، ولا أول يد بيضاء طَوَّقتناها، ومازال أبوك قلبك في بناء الشرف لنا ودفع الذم عنا، فهذه أنفسنا وأموالنا بين يديك!
ثم ضرب لي قبة إلى جانب بيته، فلم أزل عزيزاً منيعاً حتى صنع لي السلطان ما أملت فانصرفت إلى أهلي.
إذاً فالأسود بن قنان من شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب ابن علي بن بكر بن وائل من ربيعه.
علي الجندي