المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 435 - بتاريخ: 03 - 11 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٣٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 435

- بتاريخ: 03 - 11 - 1941

ص: -1

‌مي

للأستاذ عباس محمود العقاد

كنت يوماً بمكتب صحيفة (المحروسة) فلقيت وأنا خارج منه صاحبها الأستاذ الياس زيادة والد الآنسة (مي) رحمها الله وكان من عادته إذ لقيني أن يخاطبني باسم الأديب حسين فتوح، وإذا لقي الأستاذ فتوحا خاطبه باسمي ومشى معه أو معي مسافة يصحح فيها الاسم ويتلطف بالاعتذار ويتناول بعض الأحاديث العامة. . .

وجرى الحديث إلى مؤلفات الآنسة فقلت: إنها جديرة بان تفخر بها. إنها أعظم كاتبة في العربية

قال: ولك أن تقول: أعظم كاتب

يريد أن المفاضلة والتفضيل قد يجريان بينها وبين الكاتب ولا يقتصر على الكاتبات. فقلت مزكياً شهادته: ليس زهو الأب وحده بالذي يملي عليك هذه الشهادة. إن كثيرين غيرك ليسبقونك إليها

وكان الرجل على حق في فخره وتقديره. فمثل الآنسة (مي) من يفخر بها الآباء وغير الآباء من أبناء العربية، ومنزلتها في الثقافة وخدمة الرأي منزلة فضلى بين الكتاب والكواتب، وإن كنت قد أردت أنها أعظم كاتبات العربية جميعاً منذ عرفت لغتنا الكاتبات، ولم أرد أنها أعظم الكاتبات في عصرنا هذا دون غيره.

وما تتحدث به ممتع كالذي تكتبه بعد روية وتحضير، فقد وهبت ملكة الحديث في طلاوة ورشاقة وجلاء، ووهبت ما هو أدل على القدرة من ملكة الحديث - ونعني به ملكة التوجيه وإدارة الأحاديث بين الجلساء المختلفين في الرأي والمزاج والمقام - فيكون في مجلسها عشرة: منهم الوزير والموظف الصغير، ومنهم المحافظ والمغالي بالتجديد، ومنهم المرح الثرثار والوقور المتزمت؛ فإذا دار الحديث بنهم أخذ كل منهم حصته على سنة المساواة والكرامة، وانفسح مجال القول لرأيه وللرأي الذي ينقضه ويشتد في نقضه، وأنتظم كل ذلك في رفق ومودة ولباقة، ولم يشعر أحد بتوجيهها وهي تنقل الأحاديث من متكلم إلى متكلم، ومن موضوع إلى موضوع، كأنها تتوجه بغير موجه وتنتقل بغير ناقل، وتلك غاية البراعة في هذا المقام.

ص: 1

بقيت لها هذه الملكة في أشد أيام السقم والسآمة، فلم يكن سامعها يحس فرقاً بين (مي) في إبان عافيتها و (مي) في ساعات الضنى والإعياء حين يستطرد الكلام إلى الأدب أو إلى التاريخ أإلى معارض الآراء. ولم أسمع منها قط في معرض من هذه المعارض إلا ما هو خليق بالإصغاء والتدوين.

وكانت لها فطنة للضحك تحي المساجلة وتزين الحوار، ولكن فطنها للمواقف المضحكة كانت أدق من فطنتها للنكتة واشتراكها فيها، وكانت كبيرة الإعجاب بفكاهة المصريين التي تسميها (النغاشة) أو القافية التي لا تعذر ولا ترحم!

بحث بعض أساطين الشرقيين بعد الثورة الوطنية في توحيد الزي الملائم للبلاد الحارة، وكان أحمد شفيق باشا صاحب الحوليات والمذكرات المشهورة رئيساً لجماعة الرابطة الشرقية وحريصاً على إشاعة الزي الموحد بين الأمم العربية وأمم الشرق الأدنى عامة، ولفرط حرصه على هذا لم ينتظر إقناع الناس ولبس الزي الذي ارتضاه ثم مشى به في طرقات العاصمة إلى محطتها مؤثراً المشي على الركوب ليراه السابلة في تلك الطرقات الحافلة.

وكان يوم ثلاثاء ونحن في مجلس الآنسة مي والزوار كثيرون وأقبل بعض الفضلاء يبتسم كمن يغالب ضحكة جامحة. فسألته: مم الضحك؟ فقال: كنت اللحظة أعبر بار اللواء فناداني أمين واصف بك وسألني: أرأيت شفيق باشا في زيه الجديد؟ والله لقد حسبته مسجوناً مسوقاً إلى محطة العاصمة لتسفيره إلى الليمان!!

هي تعرف شفيق باشا وتعرف أمين بك، وتعرف أن الأول رئيس الثاني في جماعة الرابطة الشرقية، ومع هذا لم يرحمه حين جاء في طريق القافية!

فلا أنسى كيف غلبت ضحكا لهذه المفارقة (المصرية) وهذا التشبيه العابث، واندفعنا جميعاً نضحك وهي تضحك حتى اغرورقت عيناها بالدموع، وحتى قال الأستاذ مصطفى عبد الرزاق بحيائه المعروف: ما بالنا أيها الأخوان نضحك هذا الضحك وننسى وقار المجلس؟

فهتف به الأستاذ خليل مطران مداعباً: اضحك اضحك يا أخي! من الذي يجد الضحك ويفرط فيه؟

وكانت سهرة ضاحكة من سلامها إلى وداعها، وكانت (مي) في تلك الليلة كأحسن ما كانت

ص: 2

بشاشة وأنساً وغبطة وإقبالاً على الحديث والمسامرة. . . رحمها الله. ما رأيتها بعد ذلك في صورة آنس من تلك الصورة، وتلك البشاشة كلها، وذلك الذكاء كله الآن في التراب، بعد سنوات مسحت فيها النضرة، ورانت الغمة، ونضب معين الأمل والغبطة، وطال الألم والعذاب!

ألا ما أسخف الحياة!

لقد كان مصابها بأمها بعد أبيها في أشهر قلائل صدمة محطمة زلزلت كل ما بقى في جنانها من يقين وسلوى.

لكنها كانت قبل ذلك قاسية على نفسها كثيرة الانطواء على دخيلتها. وكان يخيل إلى أن احترمها المفرط خصلة عميقة في سريرتها لازمتها من ريعان شبابها، لأنها كانت قليلة الأمن والطمأنينة إلى الناس، وكانت على دماثتها لا تدع الحواجز بينهم وبينها، ولا تفتأ وراء سور من الحيطة والكتمان

وكنت أشفق من فرط احترامها وكلفتها؛ فقلت لها يوماً مجترئاً على مصارحتها: أنا على رأيك يا صديقتي في أن الناس لا يؤمنون، ولكني لست على رأيك في نفع الحذر وجدوى الاحتراس. بل عندي أن عناء الاحتراس أضر من كل عناء يصيبنا به ترك الحذر وقلة المبالاة. فلا تبالي ولا تحترسي وانطلقي في حياتك فذلك أخف الضررين

قالت: كأنك تعيد علي ما قاله الأستاذ داود بركات

قلت: وماذا قال!

فقصت علي حديثاً جرى بينهما في السفينة وهما عائدان من أوربا، وكانت في السفينة سهرة راقصة والليل رائق والبحر ساج والطرب غالب على المسافرين. ورآها الأستاذ داود منزوية في ركن من الأركان كأنها تأبى أن تشاركهم أو تشارك الطبيعة في فرصة الصفاء. فناداها كالزاجر المندد: ما بالك تعكفين على نفسك عكوف العجائز؟ تعالي أرقصي وأطربي مع هؤلاء الفتيات والفتيان فمنهم من هو أكبر منك وكلهم يسبقونك في مجال السرور

قلت: وبماذا أجبته؟

قالت: تضايقت منه!

ص: 3

ثم أومأت إلي منذرة باسمة وقالت وهي تقتضب الحديث: فإن أردت أن أتضايق منك فعد إلى نصيحتك ونصيحته. . . وإياك أن تعو!

وكنا نتبادل الرأي كثيراً ونختلف كثيراً ولا نستغرب هذا الخلاف ولا نكف عن تبادل الآراء؛ لأن الخلاف بين كل أنثى وفيه لطبعها وكل رجل وفي لطبعه أمر من البداهة بمكان. فهي تنظر بعين حواء إلى حقائق الدنيا وهو ينظر بعين آدم، وكلاهما مخلص في خلافه ومستفيد

على أنها كانت ترى في اللغة العربية واللهجة العامية مثل ما أراه، وكانت على تربيتها الأوربية وأحاطتها بخمس لغات أجنبية تغار على عربيتها غيرة البداوة، فلا تجاري الذين يميلون إلى مجافاة الفصحى وتبديل التهجئة والكتابة وتذهب في هذا مذهباً قريباً من مذهب المحافظين المتشددين

وأسمها (مي) اختصار لأسم (ماري) باختيار أول حروفه الميم وآخرها الياء، ولكنها أحبت الاسم لعربيته لا لاختصاره، فان اسم ماري نفسه ليس بالاسم الطويل ولا الكثير الحروف

تذاكر الأدباء في مجلسها يوماً مناقب رجل من أعظم رجالات المصريين فشاركتهم إعجابهم به وثناءهم عليه، واستأذنت بعد ذلك أن تلومه أمامهم في أمر صغير

قالت: كنت في الجامعة المصرية فقدمني إليه الأستاذ لطفي السيد وتفضل فأطرى كتاباتي العربية والإفرنجية بما شاء له فضله وتشجيعه

ثم قالت: فلا أدري لماذا نسى الزعيم العظيم أنني عربية وأنني كاتبة عربية وأختار أن يخاطبني بالفرنسية ويصر على مخاطبتي بها مع إجابتي له بالعربية على كل سؤال

وبدا عليها حقاً أنها غضبت لعربيتها من أن يخاطبها مصري عظيم بغير لغته ولغتها، وهي هي التي تتقن خمس لغات وتكتب بكل لغة كتابة يرضاها القراء من أبنائها. ولقد تكون الواحدة من بناتنا وما تحسن لغة واحدة كلاماً فضلاً عن الكتابة، ثم لا تزال ترطن بها في البيت والطريق مع أبناء جنسها كأنها لا تفهم لغة غيرها.

وواجب لي في عنق العربية أن تغار على أدبها كغيرة مي على نسبتها إليها. فما عرفت العربية كاتبة أفضل من مي واقدر وأجلى، وليس فضل الندرة هنا بأقل من فضل الإحسان والإتقان.

ص: 4

حياها الله في ذكراها

عباس محمود العقاد

-

ص: 5

‌11 - أومن بالإنسان

للأستاذ عبد المنعم خلاف

آلهة وحيوانات - عمل الطبيعة في تكوين الإنسان الواحد - أزهرت الأشجار وأدركت الثمار - مدينة خالدة ذات سلطان عجيب وشامل - جئنا لنحيا لا لنموت - الحياة بالفكر في المجاهل والمعامل - عبقرية المادة وعبقرية الروح - الذكاء البطر الجموح - إلى أحضان الأمم الكبرى.

إذا جردنا الإنسان مما أسبغته عليه الحياة المدنية من أفانينها وأنواعها وأشكالها ظهر لنا أن البون بعيداً جداً بين الإنسان الذي أخرجته الطبيعة، وهذا الإنسان الذي غيرته الصناعة وتعقيد الفكر. وظهر لنا بأن حياته الصناعية عالم مستقل منفصل خلقه هو. ولكنه عالم غير خالد ولا متوالد إلا باطراد تقدم الإنسان. بخلاف مخلوقات الله في الطبيعة فإنها أبدية دائمة تعمر بها الطبيعة.

وكلما فكرت في الفرق العظيم بين حياة رجل على الفطرة وبين حياة رجل ألماني أو إنكليزي أو أمريكي وعقدت موازنة بينهما المأكل والملبس والملهى والمركب والمعمل والإنتاج والفكر والإحاطة بآفاق الدنيا والتسلط على الطبيعة ظهر لي أن الأول يكاد يكون في صفوف نوع آخر غير الإنسان، وأن الثاني ينقصه الروح والعدل ليكون الإنسان المنشود البار بوصايا الله؛ لأنه هو الذي أحسن الأخذ عنه وخلفه في الماديات خلافة واسعة ونمت على يده الحياة وتنوعت وتشققت مجاريها وتوسعت. . .

ولا يجوز عقلاً أو شرعاً أن يعطى الأول الحياة وعزتها، وأن يتسلط على الثاني ما دام كل منهما على حالته. كما لا يجوز لحيوان أن يسخر إنسانا

وكلما استعرضت معارف الإنسان المدني المدونة في كتبه وصحفه وألواحه وأرضه وآثاره أدركت مبلغ ما حمله من أمانات الحياة. وأسرار الدنيا ذات الصمت والعمل.

ولا شك أن الإنسان العادي الذي يقرأ صحيفة يومية يحمل ذهنه من قضايا العالم وأخباره في الصباح والمساء ما لم يكن في حسبان أحد من السابقين ووجدانه. . .

ولا شك كذلك أن هذا كله قد ترك أثره الواسع الشامل في تكوين الذهن الإنساني الحالي وتكييف أعصابه وإحساسه بالحياة، غير ما كان عليه الناس في زمن المواصلات والثقافات

ص: 6

المحدودة.

إن الأقدار تصنع عقل الإنسان الحديث وقلبه صناعة تشترك فيها كل معارف الحياة العصرية.

ومن الأعمال العظيمة التي تقوم بها الطبيعة الآن عملها في تكوين الإنسان الواحد الخاضع لمؤثرات الواحدة. ونحن الذين يقع علينا تأثير أعمالها العظيمة ونعيش في غيبوبة عن خطواتها بنا لا يدرك منا هذا التأثير إلا الراصدون المسجلون الذين تجعلهم الأقدار مخصصين لرصد خطوات الحياة وتسجيل ظواهرها. وهؤلاء يكادون يكونون نادين عن حبال الشبكة التي تلف غيرهم من أبناء الحياة.

لقد تركزت المعلومات فصارت القارات كالقرى. . . وملايين الجنود كأصابع اليد. . . والدبابات كالنعال. . . والطائرات كالعصافير. . . وأخبار العالم كله كأخبار الحي الواحد. . .!

وهكذا تتركز الحياة وتتلخص في فكر الإنسان وتختزل صورها العظيمة في أرقام وحروف. . .

هذا العصر جدير أن يسمى (عصر الفوران والغليان) - على سبيل التشبيه بسطح ماء في وعاء على نار - فقد لبث سطح الحياة ساكناً في عصورها السالفة لا يتحرك إلا حركات موضعية. كما يلبث سطح الماء أول ما يوقد عليه في النار. حتى إذا ما وصلت حرارته إلى درجة الغليان هدر وفار وأشتد وقذف وتبخر وتحول. . .

إن عوامل الحرارة كانت تحته من قديم، ولكنها لم تصل معه إلى درجة الإنضاج والحركة السريعة والتحويل إلا أخيراً. وكذلك عصر الإنسانية الحالي هو عصر ظهور كوامن أسرارها وأسرار الطبيعة ظهوراً شديداً متلاحقاً.

وقد انكشفت حيوات جميع الناس للناس؛ فعلموا أنواعهم ولغاتهم وأديانهم ومذاهبهم في الحياة.

وقد كانوا ضائعين مغمورين تائهين كأسرة مفرقة فرقها حادث. . . ثم جمعتهم الظروف مرة ثانية. . .

أني أتخيل صورة الدنيا في عقول ساكنيها الأولين، وصورتها الآن في عقول بنيها

ص: 7

المثقفين، فيصيبنا دهش مشوب بفرح وبهجة وشكر لله على تسديده الإنسان إلى غاية ابتدأت تنكشف وجوهها.

وكان الأنبياء والحكماء القدماء وحدهم هم المدركين وجهات الحياة. وكانوا في الناس وما يكون البصير بين عميان، والأب الكبير بين صبيان، والراعي بين قطعان. وكان قليل من الناس هم الذين يدركون ما يشيرون إليه. ولكن الآن صار العلم والدين والإدراك الصحيح شيئاً مشاعاً كالهواء والماء، تقاربت فيه المعتقدات والآراء.

أجل، هذا زمن حصاد جهود الإنسانية؛ فقد أزهرت الأزهار وأدركت الثمار، وظهر الحقل مستوى السوق مستغلظ الأعوام، قد أينعت فيه عُلب الأسرار وحان قطافها!!

انظر في بقاع الأرض جميعها تجد إنسانية تفتح عيونها وتستيقظ من غفلاتها لتدرك الحياة الحديثة وتشترك فيها وتتلاقى مع غيرها في خدمتها. وقد زال الانبهام والغموض اللذان كانت تحسمها عقول الإنسانية والمتوسطة في ظواهر الحياة. وصار الإنسان معتمداً على نفسه وحسابها الدقيق وأخذها بأساليب الطبيعة في الإنتاج والاختراع، وترك الاعتماد على الأماني، فضاقت دائرة الاعتماد على الأقدار. . .

ولنتلفت إلى الماضي كثيراً لندرك مدى ما كسبناه وحصلناه من محصولات الحياة كإنسانية واحدة وضع كل شعب وكل حضارة لبنة في بنائها، حتى خرجت هذه الحضارة العالمية المشتركة التي أقحمت كل قطر وكل مدينة في الأرض، وصارت كقدر الله الذي لا مرد له ولا مفر منه.

إنها حضارة باقية خالدة لن تبيد ولن تفنى ولن ترتد! إذ أن بذورها ألقيت في كل مكان ونبتت فيه. فلئن ذهبت أوربا إلى الخراب والدمار لسوف تبقى أمريكا. . . ولئن ذهبتا معاً لسوف يحمل المشعل أمم الشرق وتلك الأمم المنثورة في أرض الله وجزر المحيطات وغيرهم ممن اقتنعوا بأن هذه المدنية هي نبوة الطبيعة ذات المعجزات الدائمة التي لا مفر من الإيمان بها والعمل لها وأن هذا العصر هو أوان حصاد الغلال وجني القطاف التي زرعها وتعهدها الأقدمون، وزادت كل أمة في ميراثها حتى صار فيها من كل قطر وردٌ ومن كل أمة مدد ورفدٌ.

إن هذه مدنية فرضت نفسها فرضاً على الناس جميعاً. فرضت آلامها وشرورها كما

ص: 8

فرضت إسعادها وخيراتها وعلومها، وصار الناس لا يستطيعون منها فراراً بعد ما دخلت عليهم أقطارهم قسراً واقتداراً.

هي قدر لازم لا فكاك منه كأنها الرياح والأمطار والأشعة ومما يؤكد أنها خالدة مؤبدة انتشارها في كل مكان وليست كالمدنيات السالفة الموضعية ذات العصبية القومية. لأنها قامت على العلم الذي لا تتناقض حقائقه بتعدد الأماكن والأجناس، بل تتلاءم وتتوافق بتوافق قوانين الطبيعة الواحدة

وكانت المدنيات السابقة تجارب وجذوراً متشعبة لجذع عظيم هو هذه المدنية الحالية

ولم يحدث في الماضي أن صبغت مدنية الناس جميعاً كما فعلت هذه المدنية، فخضع لها الموحد والوثني والملحد والمؤمن والزنجي والإسكيمي والشرقي والغربي

ولم يحدث أن وجدت ميادين كثيرة مشتركة بين الناس جميعاً كما وجدت ميادين النشاط العلمي والآلي والصناعي والسياسي والأدبي في رحاب هذه المدنية.

ولم يحدث أن اشتبكت مصالح الناس جميعاً كما اشتبكت الآن بفعل السرعة وسهولة الانتقال وتبادل المنافع وتشعب الاحتياجات.

ولم يحدث أن درست ثقافة واحدة في مدارس الأمم جميعاً كما درست هذه الثقافة العصرية.

فأي مكان نجا من سلطان مدنية الزمان؟

أي طريق لم تجس خلاله سيارة؟ وأي جو لم تخفق فيه الطيارة؟ وأي بلد لم يستصبح بنور الكهرباء؟

إن هذه المدنية تحيط بالإنسان في كل أفق من آفاق حياته. وإني استعرض الآن كل ما يحيط بي وأنا أكتب فأجد جميع ما تقع عليه عيني قد اشتركت فيه آلاف العمليات الإنسانية المعقدة. وقد صار إحساسي بها كإحساسي بضرورات حياتي. وأكاد لا أرى شيئاً خالصاً من يد الطبيعة وحدها إلا جسمي. . . وحتى هو لم يسلم من هندسة الحلاق و (رتوشه)!

ويمكنك أن تجرد الأرض مم فعله الإنسان فيها وما عقده وركبه، لتدرك مدى الحياة الأرضية من غيره ومدى العالم الذي أحدثه هو. . . وإذا ألقيت نظرة على شارع في نيويورك أو لندن أو القاهرة فإنه يروعك أن ترى ما في مخازنه ومناظره وآثار الأيدي التي عملت فيه، حتى لا تستطيع بعض الأذهان أن تتخيل الدنيا خالية منه من طول الألفة

ص: 9

وطول الغفلة عن التفكير في مبادئ الحياة. . .

طوفوا في شوارعكم أيها الناس بقلب ذاكر للطبيعة مدرك لمباديها لتعرفوا مقدار ما بينكم وبينها ومقدار قوتكم الابتداعية فتتلفتوا لأنفسكم متعجبين محترمين محافظين عليها وعلى قواها الفكرية والإنتاجية من الضياع والذهول والغفلات!

إن أفراح الحياة تغمر قلبي حين أطوف بجسمي في الشوارع العظيمة، أو حين تطوف بي الحياة في دور السينما، فأرى عجائب ما استحدثه الإنسان في عوالم المواد والمعاني. . .

ولست أزهد في رؤية الحياة المادية وتقصي دقائقها، لأن كل دقيقة منها ترسل في قلبي دقيقة من التعجب والإيمان. . .

ما جئنا للحياة لنموت ونستحضر فلسفة الموت من أول يوم، والقبر ليس نهاية بل بداية مرحلة تالية. . . فعلى الذين يجعلون القبور نصب أعينهم فيهونوا من أجلها كل عظيم ولو كان الصحة أو العلم أو التفاؤل، أن يعلموا أنهم جاءوا ليحيوا ويحسوا الحياة عميقة فيما خلق الله من شيء، وينتفعوا به انتفاع الحلال والعقل والحفظ. . .

ومن الكفر أن نترك الأجسام فريسة للجراثيم الفاتكة والآفات وعوامل الشؤم انتظاراً للموت الأكبر. . . فيدب فيها منذ ولادتنا

كذلك يجب أن يكون إيمان الرجل المتمدن. . . إيمان البصير الواثق بأن عمل النفس البشرية في المادة باب إلى الإيمان لا الكفر كما يتوهم الأغبياء البلداء الأغرار!

إني لا أعيش في نفسي وحدها، ولكني أعيش في نفوس بني الدنيا جميعاً، لأرى الحياة بعيونهم من آفاقهم، حتى أخرج ومعي الكثير من أسرار الحياة في القلوب والعقول. . .

وأنصح لأصحاب الإيمان التقليدي أن يستحدثوا في قلوبهم ونظراتهم ما أستحدث، ليعرفوا أي لذة وأي إيمان مضاعف يغمر قلوبهم. . .

وأنصح لأصحاب النظرة المادية والذهول عن المعاني، أن يستحضروا أرواحهم وراء كل نظرة وكل عمل وكل علم. . . فإن هذا هو الوضع الحقيقي لحياة الفكر والاستعمال الحق للروح وقوى الجسم. . .

ولنعش بأفكارنا وأرواحنا دائماً، سواء أكنا في غابات خط الاستواء، حيث الطبيعة بكر غير مفضوضة لم يطمثها إنس ولا جان. . . أم في مصانع (فورد) بنيويورك، حيث يدور

ص: 10

الفكر مع الحديد في ضجة وتعقيد وقدرة!

الغربيون قدموا لنا عبقرية المادة، فلنقدم لهم عبقرية الروح. . . فلنخدم أرواحهم كما خدموا أجسامنا. . .!

إنهم استغنوا بذكائهم عما وراء الطبيعة، وقد كفهم ذكاؤهم تدبير أمورهم كلها فيما يخيل إليهم مع أن الواقع أنهم في شبكة الأقدار العليا والتدبير الشامل لحياة الأرض. والرجل الذكي غني بالحيل وتجدد الأفكار. والغني يبعث دائما على الطغيان. ومن هنا أتى الغربيون ودخلت عليهم نكبات الحياة لأنهم اعتمدوا على غنى ذكائهم وحده.

وحين يستغني الطفل بذكائه وقدرته عن ثدي أمه ورعايتها، ويعلو مستواه البدني والعقلي عن مستواه، فذلك عهد ابتداء عقوقه إياها إذا لم يكن ذا ذخيرة موفورة من الإدراك والحب والرحمة والأدب، وما دام ينسى أنه قطعة قدت من جسمها وقلبها، وأنها الوشيجة الوثيقة بينه وبين أرومة الحياة والطبيعة.

وكذلك ينسى الإنسان الذكي عجزه أمام قهر صاحب الطبيعة ويستغني بذكائه عن الاستمداد منه والاستيحاء منها فيصير مخلوقاً يكاد يكون ذا صلة بينه وبين ما في الطبيعة من موجودات تسير طائعة بالإلهام والتوجيه.

فهل نترك الغربيين يذهبون بأرواحنا وأرواحهم في أودية بعيدة عن الرحمة والعدالة والأشواق إلى المجهول والبحث عن الله ذي الجلال؟!

أنتركها ونتركهم للحديد البليد القاسي يطبعها بطابعه، ويوحي إليها ببأسه سياسة البطش والطغيان، ويشغلها بضجته المنكرة عن همسات القلوب وأصوات الضمائر؟

إننا إن تركناهم وتبعناهم على الخير والشر فسوف نكون فرائسهم وجزر سيوفهم وطحين طواحينهم الحديدية الحمراء!

فلنذكرهم بمبادئ الطبيعة أمنا وأمهم، تلك المبادئ التي فيها من منطق الوجدان أكثر ما فيها من الذكاء الجامح وقوة الاختيار من غير ضابط من هدى الطبيعة.

وإن الطبيعة لتذكر أبنائها دائماً بوصايا الحق والعدل كما تذكر الأم البسيطة أبنائها الأذكياء بوصاياها وعواطفها التي بنت عليها عشها. فمهما اختلفت أفكار الناس وأخلاقهم فإنهم يتوحدون حين يقفون بين يدي الطبيعة ويشعرون بشعور واحد فيه صدق الفطرة واعتدالها.

ص: 11

ومبادئ الأمومة وجوها وبساطتها وعدم تكلفها، والحنين إليها والشوق إلى مهدها يجب ألا تنسى؛ لكي يعيش الإنسان باراً بريئاً عامر القلب بالعواطف الشريفة ذات التأثير الكريم في خدمة الحياة!

وكما يوصف الرجل الذي يهجر أمه بالعقوق واللؤم مهما كانت هي بسيطة جاهلة، ومهما كان هو فائق العقل واسع العلم عريض الجاه، كذلك يوصف الرجل بالعقوق حين يهجر أحضان الأم الكبرى الطبيعة، أوحين يؤذي أو يهمل اخوته منها!

عبد المنعم محمد خلاف

ص: 12

‌مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

(الأخلاق عند الغزالي)

للدكتور زكي مبارك

تمهيد - الكتاب والمؤلف - اليوم المشهود - انتقال القلب من

مكان إلى مكان - الروح السائد في الكتاب - العناصر

الرئيسية - الكفر والأيمان - كلمة تنفع شبان الجيل الجديد. ..

تمهيد:

أنا أشعر بأن مقال اليوم لن يخلو من ضعف، لأني أكتبه وأنا كاره، والإجادة لا تتاح إلا لمن يكتب بشغف وشوق، وإنما أقبل كارهاً إلى مقال اليوم لأنه متصل بأحد مؤلفاتي، وأنا لا أحسن وصف هذه المؤلفات إلا في المواقف التي تمد النفس بموجبات الزهو والخيلاء، ولا شيء من ذلك في هذا الوقت، لأن فورة الهجوم على كتاب (الأخلاق عند الغزالي) قد خمدت منذ أعوام، بعد أن شغلت الناس وشغلوني بأبحاث بعيدة عن موضوع هذا الكتاب

ولكن، ما الذي يدعو إلى هذا المقال وحالي كما وصفت؟ يدعو إليه أن الكتاب مقرر لمسابقة الأدب العربي، ولا بد من معاونة طلبة السنة التوجيهية على إدراك بعض ما فيه من مقاصد وأغراض، على نحو ما صنعت في السنة الماضية، وعلى نحو ما سأصنع في السنة الحاضرة، في درس الكتب المقررة للمسابقة بين أولئك الطلاب.

ولو أنني وجدت من ينوب عني في الكلام عن كتابي، لأعفيت نفسي من هذا الواجب المزعج، فلم يبق إلا أن أتكلم عن كتابي كما أتكلم عن كتب الناس. . . وهل في الدنيا شريعة تفرض علي أن أنصف الناس وأظلم نفسي؟

وليكن مفهوماً أني سأنظر إلى كتابي بعين المحب، فحسبي وحسبه ما عانينا من الظلم والاضطهاد. ألم يرفض جماعة من علماء العراق مصافحتي بحجة أني آذيت الغزالي؟ ألم يقل جماعة من علماء مصر بأني وجهت أقوال الغزالي إلى غير ما كان يريد؟ ألم يقترح

ص: 13

الأستاذ جاد المولي بك أن ينص في محضر الامتحان على أن اللجنة غير مسؤولة عما في الكتاب من آراء، وإنما مُنح مؤلفه إجازة الدكتوراه جزاء ما بذله من الاجتهاد في استنباط تلك الآراء؟

لن أذكر كتابي بغير الجميل، وإن كنت أعلم الناس بما فيه من عيوب هي في نظري من غرائب الجمال. وهل يعاب عليه غير أقباس من الحيوية لا ينجو منها شاب كالذي كنت في سنة 1924؟

ردوني إلى ما كنت عليه من شراسة وحمق في ذلك العهد، وخذوا ما أملك من ثروة وصيت، فيوم واحد من شبابي أطيب وأنضر من أطايب الوجود

الكتاب والمؤلف:

يقع هذا الكتاب في أكثر من أربعمائة صفحة بالقطع المتوسط، وثمنه خمسة عشر قرشاً، أما النسخة المجلدة فتباع بعشرين، فأرجو المكتبة التجارية أن تراعي هذا السعر، فلا ترهق التلاميذ، لأن أكثرهم أفقر مني

وقد قدم هذا الكتاب لنيل الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة المصرية سنة 1924، وكانت لجنة الامتحان مؤلفة من حضرات الأساتذة الأكابر: منصور فهمي، وأحمد ضيف، ومحمد جاد المولي، وعبد الوهاب النجار، وأحمد عبده خير الدين؛ وقد انتقل النجار وخير الدين إلى جوار الله، فإلى روحيهما في دار الخلود أقدم أصدق التحية وأطيب الثناء

واسم المؤلف محمد زكي عبد السلام مبارك، وكان فيما سمعت شابا يحاول الوصول إلى الحق، وطريق الحق كثير الأشواك والعقبات، فلم يصل إلا بعد أن أدمى قدميه، إن صح أن الله أراد أن يكون من الواصلين

ويظهر أن المؤلف كان يعاني ثورة روحية وعقلية عند تأليف هذا الكتاب، وهو نفسه حدثني أنه صاحب الغزالي في مؤلفاته نحو خمس سنين، فأسره الغزالي على نحو ما يصنع بمن يواجهون نوره الوهاج، ورأى المؤلف أن تأليف كتاب في (الأخلاق عند الغزالي) لا يتيسر إلا بعد النجاة من أسر الغزالي، فجمع قواه وكسر باب الأسر، ليتنسم أرواح الحرية الفكرية، وليلقي الغزالي لقاء الند للند، إن كان للغزالي أنداد

وفي مدى ثلاث سنين استطاع ذلك الشاب أن يكتب رسالة للدكتوراه في الفلسفة عن

ص: 14

(الأخلاق عند الغزالي)، وهي رسالة شرقت وغربت، بحق أو بغير حق، وأهتم بها الدكتور سنوك هوجرنيه، فنشر في الثناء عليها بحثاً باللغة الهولندية كان طليعة التنويه بالمؤلف في بيئات المستشرقين

اليوم المشهود

هو اليوم الذي نوقش فيه المؤلف بجلسة علنية في الجامعة المصرية، فقد كان بين الحاضرين جماعة من أساتذة الأزهر الشريف، على رأسهم الأستاذ الجليل عبد المجيد اللبان شيخنا وشيخ أشياخنا وصاحب الفضل على كثير من العلماء، وقد طاب للشيخ اللبان في ذلك اليوم أن يعترض من وقت إلى وقت بأسلوب يحرج الممتحن ويحرج لجنة الامتحان، واقتفى أثره المرحوم الشيخ محمد الإبياري فاعترض بعبارات حملت الدكتور منصور فهمي على أن يعلن أن الجمهور لا يصح له التدخل في شؤون هي من حق لجنة الامتحان

وانتقلت الثورة من الجمهور إلى أساتذة الجامعة من غير لجنة الامتحان، فتقدم معالي الأستاذ حلمي باشا عيسى وأسر في أذن الدكتور منصور فهمي أن الدكتور طه حسين يريد أن يوجه ثلاثة أسئلة إلى زكي مبارك، فأعلن الدكتور منصور أن لأساتذة الجامعة وحدهم أن يتدخلوا في الامتحان، وهو كذلك يعطي الكلمة للدكتور طه حسين. . . والله الحفيظ!

وكانت معركة لم أنتصر فيها إلا بأعجوبة، فقد كان الدكتور طه هزمني قبل ذلك في امتحانات الليسانس مرتين!

ثم كانت النتيجة أن يفوز الطالب بعد امتحان دام نحو ثلاثة ساعات فيصير دكتورا في الآداب بدرجة (جيد جداً) من الجامعة المصرية

انتقال القلب من مكان إلى مكان

ورأى الأستاذ خليل بك ثابت أن يرسل مندوباً يشهد الامتحان ويحدث قراء المقطم عما وقع فيه من جدال وصيال، وقد وقع اختياره على المرحوم حسن حسين، وكان أديباً له بدوات، فلخص معركة الامتحان بأسلوب صورني فيه بصورة الثائر على التقاليد الدينية، فانبرى لمجادلتي على صفحات المقطم عالمان جليلان، أحدهما الشيخ أحمد مكي، طيب الله ثراه،

ص: 15

وثانيهما أستاذي في أكثر ما تلقيت من العلوم الدينية وهو الشيخ يوسف الدجوي، ولم أستطع الرد على هذين الأستاذين الجليلين - وكان يشرفني أن أجاريهما في ميدان النضال - لأني علمت من إدارة الجامعة عن طريق الأستاذ سامي راغب أن مساعد السكرتير العام بوزارة المعارف وهو الأستاذ محمود فهمي النقراشي طلب من الأستاذين جاد المولى وخير الدين أن يقدما تقريراً عن امتحان زكي مبارك في الدكتوراه، ولأن الدكتور طه والدكتور منصور نصحاني بالسكوت عما أثار امتحاني من جدال، وهي نصيحة سجلها الدكتور طه في جريدة السياسة وهو ينقد كتاب (مدامع العشاق) في أوائل سنة 1925

وأقول أن قلبي انتقل من مكان إلى مكان بسب هجوم الشيخ أحمد مكي والشيخ يوسف الدجوي، فما كنت أنتظر من هذين الأستاذين أن يثيرا عجاجة يهتاج بها الجمهور، وتلتفت إليها وزارة المعارف

ولم يصح عندي أن هجوم الشيخ مكي والشيخ الدجوي يستند إلى الحق، فأسررتها في نفسي، وقلت أن رجال الدين لم يكونوا دائما ملهمين، وذلك هو السبب في أني أجازيهم ظلماً بظلم وإجحافاً بإجحاف، من حين إلى حين

ولكن لا بأس فقد استطاع كتاب (الأخلاق عند الغزالي) أن يقاوم هجمات الناقدين عدداً من السنين إلى أن تعرض له ناقد لا يرحم المؤلف، وأن كان يحمل اسم المؤلف، ففي اليوم الرابع من أبريل سنة 1937 وقف طالب يؤدي امتحان الدكتوراه في جلسة علنية بالجامعة المصرية. وكان أكبر همه أن ينقض آراء الطالب الذي وقف هذه الوقفة في الخامس عشر من مايو سنة 1924

فماذا صنع؟ أثبت في كتاب (التصوف الإسلامي) أنه ظلم الغزالي في كتاب (الأخلاق عند الغزالي) والحكم على النفس من مظاهر القدرة على مغالبة الأهواء

روح الكتاب

وقد حاولت مرات كثيرة أن أرجع إلى هذا الكتاب بالتغيير والتبديل لأقدمه بصورة جديدة إلى عشاق الدراسات الأخلاقية، ولكنه يأسرني كلما نظرت فيه، لأني الفته في أوقات كنت فيها ثائر القلب والعقل على فهم القدماء للأخلاق، وهي ثورة لم أنج من شرها إلى اليوم، وقد أسايرها وتسايرني إلى آخر أيامي. وكيف يهدأ من يروعه أن يرى في رجال الدين من

ص: 16

يعرفون خريطة الحياة الأخروية ويجهلون خريطة الحياة الدنيوية؟

إن كتاب (الأخلاق عند الغزالي) لم يكن إلا دعوة صريحة إلى التشكيك في أصول الأخلاق الموروثة عن القدماء، والمؤلف يقسم الفضائل إلى قسمين: فضائل سلبية وفضائل إيجابية، ثم يقرر أن الغزالي وجه اكثر اهتمامه إلى الفضائل السلبية (ولم يعن بشرح الفضائل الإيجابية كالشجاعة والإقدام والحرص وما إلى ذلك مما يحمل المرء على حفظ ما يملك، والسعي لنيل ما لا يجد، فإنه لا يكفي أن يسلم الرجل من الآفات النفسية، بل يجب أن يزود بكل مقومات الحياة. وخير للمرء أن يوصم برذائل القوة من أن يتحلى بفضائل الضعف، فإن الضعف شر كله، ولكن اكثر الناس لا يفقهون)

وقد عاب المؤلف على رجال الدين أن ينسحبوا من الميدان السياسي في الأوقات التي يفرض فيها الجهاد، فطوق الغزالي بطوق من حديد حين سجل عليه أنه لم يؤدي واجبه في التحريض على مقاومة الحملات الصليبية، مع أنه (حجة السلام) ومع أن صوته كان مسموعاً في اكثر الأقطار الإسلامية.

واثبت المؤلف في لواحق الكتاب مقالا نشره في المقطم بتاريخ 4 يونية سنة 1934 أيد فيه القول بأن الدين الإسلامي دين فتح وامتلاك، وهو مقال كتبه في الرد على من ناوشوه من العلماء وفيه يقول:

(الظاهر أن حضرات العلماء فهموا من الفتح التخريب والاعتداء على الشعوب. كلا، يا هؤلاء! الدين الإسلامي دين فتح، رضيتم أم كرهتم، وللفتح آداب وشروط سنها الدين الحنيف، وأنتم حين تنفرون من كلمة (الفتح) إنما تجارون الأجانب الذين يتوددون إليكم بوصف الإسلام بالقناعة والرضا بالقليل، وهذا خطأ سراح، فالدين الإسلامي ابعد الأديان عن الزهادة وأبغضها للخمول، ولا حرج على الإسلام في أن يرغب أتباعه في امتلاك ناصية العالم، فإن هذا أمل نبيل، ولم يحدثنا التاريخ عن أمة قوية أو ملة قوية وضعت حدا لمطامعها في الحياة، وإنما ترغب الأمم الضعيفة أو الملل الضعيفة على أن تحدد آمالها وأطماعها بضيق الحدود)

وهذه الفقرة توضح بعض اتجاهات المؤلف في تفسير الأغراض الصحيحة للدين الإسلامي.

ص: 17

وأنكر المؤلف على الغزالي أن يتعلق بأهداب الآداب السلبية التي دعا إليها الإنجيل، وفي ذلك يقول:

(أن الآداب التي وضعها الإنجيل غير طبيعية، على معنى أنه لا يمكن أن يسكن إليها بطبيعته أحد من الناس، فالحكمة الإنجيلية التي تقول: (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) حكمة غير معقولة لا يقرها لها عرف ولا يدعو إليها قانون. . . والحكمة المسيحية التي تقول: (من سخرك ميلا فامش معه ميلين) حكمة غير ممكنة القبول، ومن المستحيل أن تجد مسيحيا يدير لك خدك الأيسر حين تضربه على خده الأيمن، أما المسيحي الذي يتبعك ميلين حين تسخره ميلاً فهو نادر الوجود)

ثم يقول المؤلف بعد كلام مفصل في نقد الأخلاق المسيحية: (أليس من الغريب أن يصدق الغزالي أن عيسى يقول: (من أخذ رداءك فأعطه إزارك) ومن الذي يرضى من المسلمين أو النصارى أن يتأدب بهذا الأدب الغريب؟)

وينفي المؤلف عن نفسه تهمة التحامل على المسيح فيقول: (ونحن بهذه الكلمات لا ننكر نبوة عيسى عليه السلام، وإنما نرجح أن أتباعه جنوا على شريعته بما زوروا باسمه من الأحاديث، وهذه جناية كثيرة الأمثال في تواريخ الشرائع، فإن الإسلام مع تواتر سنده الأول وهو القرآن لم يعدم من أصحاب الغفلة وأصحاب الأغراض من زوروا الأحاديث باسم النبي حتى كادوا يقضون على ما للإسلام من قوة الحق وروعة الجمال. . . ونحن كذلك لا ننكر أن المسيحية تدعو إلى الزهد، ولكنا نرجح أنها كانت تدعو إلى الزهد بقدر ما تفل من حدة الناس وتقلل من جشعهم وطمعهم، أما الدعوة إلى الفرار من طيبات ما أحل الله فهي دعوة بعيدة الوقوع من الأنبياء والمرسلين)

هذا الروح السائد في كتاب (الأخلاق عند الغزالي) الذي يعطفني عليه، ويصرفني عن التعرض له بالحذف والإيصال، مع أني رجعت عن بعض الآراء المدونة فيه حين ألفت كتاب (التصوف الإسلامي) وبين الكتابين أعوام تنقل فيها عقلي من أفق إلى آفاق.

والمهم هو أن ينظر طلبة السنة التوجيهية إلى المعضلات المبثوثة في هذا الكتاب بالعين التي نظر فيها المؤلف، ولهم أن يثوروا على المؤلف كما ثار على نفسه في كتاب (التصوف الإسلامي) إن اتسع وقتهم للبحث والاستقصاء.

ص: 18

وأهم من هذا أن يمتحنوا ما في هذين الكتابين من آراء فلسفية، ليشعروا لجنة الامتحان بأنهم انتقلوا من الدرس والاستيعاب إلى النقد والتحقيق، وليس هذا بكثير على شبان هم بأذن الله طلائع الجيل الجديد.

العناصر الرئيسية

في كتاب (الأخلاق عند الغزالي) أربعة عشر باباً، وفي كل باب عدة فصول، ومن مواد هذا الكتاب تتضح ألوان كثيرة من التفكير الفلسفي عند العقول الإسلامية، وتظهر عبقرية الغزالي في نضارة وإشراق.

وأسلوب الكتاب يغلب عليه الحذر والتهيّب وقد يصل إلى الرمز والإيماء، لأن المؤلف كان يعاني رقابة عنيفة، هي رقابة اللجنة المكلفة بالنظر في صلاحيته لامتحان الدكتوراه، وإن كان من واجب المؤلف نحو نفسه أن يعلن أن تلك اللجنة لم تحذف منه غير فقرتين اثنتين، ولم تشر بغير زيادة كلمات معدودة تحدد المراد من بعض الأغراض

وكان شاع منذ أعوام أن كتاب (الأخلاق عند الغزالي) من تأليف الدكتور منصور فهمي، وهي إشاعة تشرفني وترفع من قدري، فأنا تلميذ هذا المفكر الجليل، ولو قضيت العمر في الثناء عليه لما وفيته بعض حقه في تعليمي وتثقيفي؛ ولكن كتاب (الأخلاق عند الغزالي) كتابي لا كتابه، بشهادة ما فيه من غطرسة واستعلاء، وأستاذنا الدكتور منصور آية في التواضع المقبول

وكان يجب أن ألخص ما في الكتاب من أبواب وفصول ليسهل درسه على المتسابقين، ولكني نظرت فرأيته في غاية من الوضوح والجلاء، فلم يبقى إلا أن أنص على ما يجب درسه بعناية والتفات:

في الباب الأول فصول تصور عصر الغزالي بإيجاز وتصف المدائن التي عرفها الغزالي، وسيسأل الطلبة عن محتويات هذا الباب

وفي الباب الثاني فصول عن أسرة الغزالي ومولده ونشأته وحياته الروحية، ومبلغ فهمه للحياة، وسيسأل الطلبة عما حصلوه من عناصر هذا الباب

والباب الثالث متعب، لأنه خاص بالينابيع التي استسقى منها الغزالي آراءه الفلسفية، ولا بد للطلبة من مذاكرة أساتذتهم في الاهتداء إلى تلك الينابيع

ص: 19

وفي الأبواب التالية يكون الكلام في صميم المبادئ الأخلاقية بنظرتين مختلفتين: نظرة الغزالي ونظرة المؤلف، ومن واجب الطلبة أن يمتحنوا هاتين النظرتين بفهم وذوق، ليقيموا الدليل على ما يملكون من أصالة الفكر ورجاحة العقل

فإذا كان الباب التاسع رأينا المؤلف يحاسب الغزالي على آراءه في العلوم والفنون وفي التربية والتعليم، وهو باب سيسأل الطلبة عما فيه من آراء، لأنه وثيق الصلة بالموازنة بين العقل القديم والعقل الجديد

وفي الباب العاشر يتكلم المؤلف عن الواجبات الفردية والاجتماعية، ويقع هذا الباب في أكثر من خمسين صفحة، ويكفي الطالب أن يدرس منه عشر صفحات، ليواجه لجنة الامتحان وهو على شيء من التحصيل

وفي الباب الحادي عشر يطول الكلام عن تأثير الغزالي في عصره وما تلاه من العصور، وللطالب أن يقرأ من هذا الباب ما يشاء ولكن عليه أن يدرس الصفحتين 361و362

وفي الباب الثاني عشر كلام عن أنصار الغزالي وخصومه، وهو موضع اعتراض، فقد قيل أن المؤلف أوجز في الكلام عن أنصار الغزالي مع أنه تحدث عن خصومه بإطناب، فعليك أن تعتذر عن المؤلف بلطف!!

أما الباب الثالث عشر فهو في الموازنة بين الغزالي والفلاسفة المحدثين، وفيه فصل مهم جداً عن الموازنة بين الغزالي وديكارت ولن تعفيك لجنة الامتحان من هذا الفصل، لأنه من عيون الكتاب، ولأن التأمل فيه قد يجذبك إلى الدراسات الفلسفية

وفي الباب الرابع عشر تجد (آراء علماء العصر في الغزالي) من أمثال الأساتذة: منصور فهمي، علي عبد الرزاق، يوسف الدجوي، محمد جاد المولي، عبد العزيز جاويش، الكونت دى جالارزا، علي العناني، عبد الوهاب النجار، حسين والي، عبد الباقي سرور، أحمد أمين

فإن استطعت أن تقرأ الكتاب كله قراءة الفهم أولاً، وقراءة النقد ثانياً، فستظفر بالجائزة الأولى، وسيصافحك وزير المعارف مصافحة الود والإعجاب

الكفر والإيمان

في الموازنة بين الغزالي وكارليل تقع صحائف أراها من النفائس وقد تكون أصدق ما

ص: 20

جري به قلمي، وهي من صفحة 389 إلى صفحة 399، ولا أستطيع تلخيص تلك الصفحات في هذا المجال، طلباً للنجاة من الدخول في معارك نفضت من غبارها يدي، فقد راضتني الأيام بعد الجموح، وانضممت كارهاً إلى العصابة التي تقول بأن الرياء سيد الأخلاق!

هذه الصفحات تنفعك في الامتحان، لأنها تشهد بأنك وصلت إلى الأسرار المطوية في كتاب (الأخلاق عند الغزالي) وذلك هو الغرض المنشود، ولكنها ستضرك وستؤذيك، لأنها ستفرض عليك أن تزن (المسئولية الأخلاقية) بميزان جديد وأنت في غنى عن هذه المتاعب الثقال!

كلمة تنفع شباب الجيل الجديد

قد يكون فيكم من يتوهم أن اللجنة التي تحتكمون إليها في مسابقة الأدب العربي يسرها أن تراكم أبواقاً تحكي ضلالات المجتمع في فهم الأدب والأخلاق، هيهات ثم هيهات، فستؤلف تلك اللجنة من رجال وزارة المعارف ورجال كلية الآداب، فأفهموهم بلسان الحال ولسان المقال أنكم طلائع الجيل الجديد، وأنكم جديرون بما لهم فيكم من آمال

وبالنيابة عن اللجنة أوصيكم بدرس ما يطيب لكم من مواد الكتب المقررة للامتحان الشفوي، على شرط أن تعلنوا اللجنة بذلك، وعلى شرط أن يكون لكم في التعقيب إلى المؤلفين آراء تجعلكم من أرباب الفكر الأصيل

ليس المهم أن تقرءوا الكتاب من الألف إلى الياء، ولكن المهم أن تدركوا سريرة المؤلف، وأن تحاسبوه بنزاهة وإخلاص

أنتم في السنة التوجيهية إلى كليات الجامعة المصرية فأفهموا لجنة الامتحان أنكم انتقلتم من التحصيل إلى التفكير، فالتفكير هو الغرض المنشود

وسنتكلم في الأسبوع المقبل عن (إبراهيم الكاتب)؛ فإلى اللقاء

زكي مبارك

ص: 21

‌كيف يكتب التأريخ

للدكتور حسن عثمان

مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب

- 6 -

نقد الأصول

تعيين شخصية المؤلف وتحديد زمان ومكان التدوين

إذا ما ثبت للباحث أن الأصل أو المصدر التاريخي صحيح وغير مزيف فليس معنى ذلك أن المعلومات الواردة به ذات قيمة تاريخية كبيرة. ولا بد من نقد الأصل التاريخي من نواح أخرى. وبعض الأصول تحمل أسم مؤلفها وزمان ومكان تدوينها، والبعض الآخر الذي يكون عليه طابع الصحة وعدم التزييف يغفل بعض أو كل هذه النواحي، فينقص ذلك من قيمتها التاريخية. فكيف يقدر الباحث قيمة الأصل التاريخي وهو يجهل اسم المؤلف وشخصيته وعلاقته بالحوادث التي كتب عنها؟ هل شهدها بنفسه أم سمعها ونقلها عن الغير؟ ومتى دونها؟ هل دونها أثناء وقوع الحوادث أم بعدها بزمن طويل؟ وفي أي مكان تم ذلك التدوين؟ هل كان في مكان وقوع الحدث أم في جهة بعيدة عنها؟ من الضروري جداً معرفة كل هذه النواحي بقدر المستطاع. فكيف السبيل إلى تحقيق كل ذلك؟

إن معرفة اسم وشخصية كاتب الأصل التاريخي مسألة هامة لأن قيمة المعلومات التاريخية التي يوردها ترتبط كل الارتباط بشخصية الكاتب وبمدى فهمه للحوادث وبكل الظروف التي تحيط به على وجه العموم. فالمعلومات التي يدونها الأمير أو الحاكم تختلف عن المعلومات التي يسطرها السياسي أو صاحب المهنة أو الجندي أو رجل الشعب. وكاتب الأصل التاريخي، سواء كان شاهد عيان أو اعتمد على غيره من شهود العيان، يعتبر الواسطة التي يصل المؤرخ عن طريقها إلى الوقائع التاريخية. فإذا كان الكاتب شخصاً صادقاً عدلاً بعيداً عن الأهواء بقدر المستطاع كانت معلوماته صحيحة بصفة عامة، والعكس صحيح أيضاً. وعلى ذلك تتضح أهمية البحث لمعرفة أكبر قسط ممكن من المعلومات عن كتاب الأصل أو الوثيقة التاريخية. وفي هذه الناحية كغيرها من نواحي نقد

ص: 22

الأصول التاريخية الأخرى، يصبح عمل المؤرخ شبيهاً بعمل القاضي، والقاضي يمتاز بأن شهود الحوادث أحياء أمامه بالحق أو بالكذب ينطقون، ولكن المؤرخ عليه أن ينتقل من الحاضر إلى الماضي بالعقل والنقد والخيال، وأحياناً تضيع عبثاً جهود المؤرخ لمعرفة اسم وشخصية كاتب الأصل التاريخي فيظل مجهولاً، وأحياناً أخرى لا يمكن للمؤرخ إلا أن يجمع بعض المعلومات القليلة عنه، ونلاحظ أن وضع اسم شخص على أصل أو مصدر تاريخي لا يفيد دائماً أنه كاتبه كما فهمنا ذلك من عوامل الدس والانتحال. وإذا عثر الباحث على الأصل التاريخي المخطوط أمكن في أحوال كثيرة التعرف على شخص الكاتب أو الاقتراب منه على الأقل، بدراسة الخط ونوع الورق والحبر واللغة والأسلوب والمصطلحات الخاصة بعهد تاريخي معين وبدراسة المعلومات التاريخية الواردة به

وإنه ليختلط الأمر أحياناً على الباحث في التاريخ فيخطئ في نسبة الأصل التاريخي إلى كاتبه الحقيقي. ومن الأمثلة إلى ذلك ما ذكره الأب بولس قرالي أنه عند حضور علي باشا أمير البحر التركي إلى المياه السورية لفض النزاع القائم بين فخر الدين أمير لبنان ويوسف سيفا صاحب طرابلس في يوليو سنة 1619، أرسل الأمير فخر الدين رسالة إلى الباشا التركي يعتذر فيها عن الحضور إليه بنفسه. ويقول الأب قرالي أن الأستاذ اسكندر المعلوف قد أورد ترجمة هذه الرسالة باللغة العربية في كتابه عن الأمير فخر الدين. والأستاذ المعلوف يعتبر أن هذه الرسالة قد صدرت عن فخر الدين ولكنه يتشكك في تاريخ إصدارها ولا يمكنه أن يحدد ذلك ويذكر الأستاذ المعلوف أنه قد نقلها عن ريكو والوقع إن هذه الرسالة ليست لفخر الدين. والمؤلفان كنوللس وريكو قد أخذا معلوماتهما عن هذه الفترة عن كتاب مينادوى الرحالة الإيطالي المعاصر الذي زار سوريا ولبنان أثناء حملة إبراهيم باشا لإخضاع الدروز في 1585. ومينادوى يورد نص هذه الرسالة باللغة الإيطالية، ويقول أن ابن معن قد أرسلها إلى إبراهيم باشا في يوليو 1585. ولقد نقل كنوللس هذه الرسالة عن مينادوى إلى اللغة الإنكليزية. ولا يحدد مينادوى ولا كنوللس (وريكو) من هو المقصود بابن معن. على أنه لا يمكن أن يقصد بابن معن في ذلك المقام الأمير فخر الدين، لأنه كان إذ ذاك غلاماً صغيراً، والمقصود بابن معن، هو قرقماز بن معن والد فخر الدين، وليس فخر الدين نفسه. والذي حاول إبراهيم باشا أن يحمله للقدوم عليه للغدر به. وبالبديهة

ص: 23

لا يمكن أن تكون هذه الرسالة قد صدرت عن الأمير فخر الدين إلى الباشا التركي في 1919. لأن كتاب مينادوى الذي يتضمن أقدم نص معروف عن هذه الرسالة قد طبع في البندقية في 1594.

ومن الأمثلة التي توضح طريقة إثبات شخصية كاتب الأصل التاريخي أن الباحث في التاريخ قد يجد خطابا باللغة الإيطالية مدونا في باريس بتاريخ 29 يونيو 1789 وموجه إلى حكومة على رأسها مجلس شيوخ، ولكن بدون تحديد تلك الحكومة وبدون تعيين الكتاب. وفحص هذا الكتاب يدل على أن كاتبه هو أحد السفراء الإيطاليين في فرنسا. فمن هو ذلك السفير؟ وإلى أي حكومة أرسل خطابه؟ الحكومة الإيطالية الوحيدة التي كانت على رأسها مجلس الشيوخ في 1789 هي جمهورية البندقية. فالخطاب إذاً قد كتبه سفير البندقية في فرنسا إلى حكومته. فمن هو؟ البحث في سجلات أرشيف البندقية يدل على أن سفير البندقية في باريس في ذلك العهد كان أنتوينو كابللو.

وقد يحتوي الأصل التاريخي على معلومات عن حوادث رآها شاهد عيان بنفسه أو على معلومات سمع بها ونقلها عن الغير. فينبغي أن يحدد الباحث على وجه الدقة أجزاء الأصل التي دونها الكاتب بناء على ما شهده بنفسه، ويعتبر إذاً أصلا من الطبقة الأولى، وكذلك يحدد أجزاء الأصل التي اعتمد الكاتب في تسجيلها على الغير، وتعتبر أصلا من الطبقة الثانية، مع تحديد مصدر هذا النوع الأخير من المعلومات إذا أمكن ذلك. من الأمثلة التي توضح ذلك ما ذكره (كاميل ديمولان) في بعض ما كتبه عن المشاهدة التي حدثت بين مندوب الملك لويس السادس عشر وبين ميرابو أثناء اجتماع مجلس طبقات الأمة في 23 يونيو سنة 1789. والباحث يعرف من التاريخ أن ذلك الاجتماع لم يكن حضوره مباحاً للجمهور، وكاميل ديمولان لم يكن عضو في مجلس طبقات الأمة؛ وعلى ذلك فأن ديمولان لم يسمع بنفسه ما قال ميرابو لمندوب الملك. فكلامه عن هذه المشاهدة أخذه عن طريق السماع، فيعتبر أصلا من الطبقة الثانية. وإنما وصف ديمولان لما شهده خارج الاجتماع من قدوم الملك أو احتشاد الجماهير يعتبر أصلاً من الطبقة الأولى

وفي بعض الأحوال يجد الباحث كتاباً طبع في باريس في 1890 مثلا. ومن المحتمل أن يكون مؤلفه قد نقله بنصه عن مؤلف سابق وضعه في 1850 بدون أن يشير إلى ذلك.

ص: 24

فالمسؤول عن المعلومات الواردة هو الكاتب الأول السابق. وصحيح أن السطو على كتابة الغير والنقل منها بغير حساب قد نقص الآن، وبمنعه القانون أحياناً؛ ولكن كثير ما يجد الباحث أن من الأصول والوثائق ما هي إلا عبارة عن نقل حرفي لأصول ووثائق سابقة، سواء قصد الناقل السرقة وانتحال المعلومات لنفسه أو جمعها لأنها تهمه وتفيده. فعلى الباحث في التاريخ أن يتعقب الكاتب الأصلي؛ وإنه لمن أهم المسائل في هذه الناحية من النقد معرفة المصادر أو الوثائق التي اخذ عنها ذلك الأصل التاريخي. ومن الأمثلة على ذلك أن الباحث قد يعثر على مجموعة من الكتابات عن المصادمات البحرية بين العثمانيين والتسكان في القرنين السادس والسابع عشر جمعها أحد المهتمين بإبراز بطولة التسكان وهو بستيانو بالبياني، ولكن بدون تحديد المصدر التي اخذ عنها. والبحث في سجلات أرشيف فلورنسا التاريخي يوضح أن بالبياني قد أقتبس مثلا من أقوال بعض رجال الحملات البحرية التسكانية بقيادة الفارس فرنشسكو دل مونتي والأميرال أنجرامي في الشرق الأدنى وفي شمال أفريقيا في 1607

وقد يجد الباحث أحياناً مجموعات من الأصول والوثائق تتناول بحث نقطة معينة، فينبغي إذا جمعهاً وترتيبها وتقسيمها إلى مجموعات على حسب التقارب والاختلاف في المعلومات الواردة، وقد يكون التقارب شديداً جداً أو قد يوجد اختلاف بين هذه الأصول والوثائق مثل الاقتصار والاجتزاء في مواضع، والإطالة وإعطاء تفصيلات ومسائل جديدة في مواضع أخرى. وقد توجد علاقة بين هذه الأصول التاريخية في ناحية النقل والاقتباس عن مصدر أساسي واحد. فعلى الباحث دراسة هذه الأوجه كلها لمعرفة الشخص أو الأشخاص الذين كتبوا في هذه النواحي المتشابهة والمختلفة لتقدير ووزن أقوال كل منهم، وسنعود إلى ذلك عند بحث ناحية أخرى من نواحي نقد الأصول التاريخية

وقد يكون الأصل التاريخي من عمل أكثر من مؤلف واحد. فالكثير من الأصول تدخل عليه إضافات وزيادات وتعليقات في مواضع مختلفة، ثم تطبع ويعتبر الأصل وما أضيف إليه كأنه من وضع كتاب واحد. إلا إنه من الممكن بدراسة هذا الأصل كشف الحقيقة؛ وإذا وجد الأصل المخطوط أصبح من السهل تمييز الأصل من الإضافات والزيادات. أما إذا ضاع الأصل المخطوط ولم يبقى أمام الباحث إلا المطبوع أصبحت المسالة اكثر صعوبة، إلا أنه

ص: 25

يمكن بالدراسة الوصول إلى نتائج معقولة. فيدرس الباحث اللغة: هل هي واحدة أم متغيرة، والأسلوب هل هو واحد أم متغير، وهل تسود الكتاب فكرة واحدة وروح واحدة، وإلا توجد خلافات ومتناقضات وفجوات في تسلسل الأفكار؟ وإذا كان الكاتب الذي أضاف في موضع أو أكثر من النص الأصلي واضح الشخصية أمكن تمييزه، وإلا يبقى مجهولاً لدى الباحث في التاريخ.

ولنعرض لمثال حققه الدكتور أسد رستم؛ فإنه قد عثر على مخطوطة صغيرة تتناول أخبار الدولة المصرية العلوية في سورية في زمن إبراهيم باشا، وكانت غفلاً من اسم المؤلف. ووجد الدكتور رستم إنها ليست تاريخاً واحداً، وإنما هي ثلاثة تواريخ فقسمها إلى (ا. ب. ج)؛ ولاحظ أن هذه الأقسام لا تعطي حوادث متسلسلة، ولا يبدأ قسم منها حيث ينتهي سابقه، وأن الحوادث تتكرر في أقسامه الثلاثة، ولاحظ أيضاً أن (ا، ج) يستعملان التاريخ الهجري، بينما (ب) يتخذ التاريخ المسيحي، ووجد أن (ج) أكبر الأقسام، وأن أخباره تتعلق بحوادث لبنان مع إعطاء تفصيلات شخصية ديرانية محلية عن دير القمر وبيت الدين. فرجح الدكتور رستم أن كاتب (ج) شخص لبناني ديراني، أو أقام بدير القمر على الأقل. فقصد الدكتور رستم إلى المكتبة البطريركية في بكركي، وفحص أوراق 1831 - 1841، وبعد الدراسة الطويلة عثر على رسائل مكتوبة بنفس الخط الموجود في (ج)، وبنفس اللغة واللهجة، وعليها إمضاء القس أنطون الحلبي. فاتجه الدكتور رستم إلى بطريك الموارنة ماري الياس حويك، وعرف منه أن القس أنطون كان من المقربين للأمير بشير الشهابي، وأنه سكن بيت الدين، وأنه كتب عن أحكام الأمير بشير، وعن حروب إبراهيم باشا في سورية، وأن أغلب ما كتبه قد أحرق أثناء حوادث الصدام بين المسيحيين والدروز في 1845. وإذاً، فالقس أنطون الحلي هو مؤلف المخطوطة (ج)

وليس يكفي أن نعرف اسم المؤلف فقط إذا كان مجهولاً؛ والغرض من معرفة الاسم هو معرفة شخصية وصفات الكاتب لأن ذلك سيكون له قسط كبير في تقدير قيمة المعلومات التي ترد في الأصل أو المصدر التاريخي. فلا بد من أن يجمع الباحث كل المعلومات الممكنة عن شخصية كاتب الأصل التاريخي. وأحياناً يمكن للباحث أن يجمع معلومات عن شخصية المؤلف من بعض كتب التراجم؛ أو يجمع معلوماته عن الكاتب من الأصل

ص: 26

التاريخي الذي دونه. فمثلاً الكتابة المؤرخة في 24 يونيو 1789 عن بعض حوادث الثورة الفرنسية في باريس وفرساي يفهم الباحث من لغتها وأسلوبها وطريقة عرضها ومعلوماتها أن كاتبها شخص مثقف، وأنه شاب قوي الجسم يمكنه أن ينتقل من باريس إلى فرساي أثناء المطر المنهمر، ويدرك الباحث أنه شخص متحمس جرئ ثوري، يتكلم بصراحة ويقرر أن ممثلي الشعب لا يخافون الموت، ويعلم الباحث أيضاً أن الكاتب كان مهتماً بالحوادث التي شهدها لدقة وصفها وحسن التعبير عنها. ولا ريب فأن هذه الوصاف تنطبق على (كاميل ديمولان) الذي كتب عن تلك الحوادث.

والمسالة التالية في هذه الناحية من النقد هي معرفة زمن تدوين ذلك الأصل التاريخي. فالأصل أو الوثيقة قد تكون صحيحة، وكاتبها قد يكون من الأشخاص الذين يتحرون الصدق والبعد عن الهوى، ومع ذلك فقد ينقص من قيمتها بعد الزمن بين وقوع الحادث ورؤيته وبين تدوين أخباره. فالذاكرة تخون الإنسان، ويفوت الكاتب حوادث وتفاصيل خاصة كلما بعد به العهد عن زمن وقوع الحادث مهما كانت رغبته في قول الصدق ومهما حاول استرجاع وقائع الزمن الماضي. فإذا كان الكاتب لم يحدد تاريخ تدوين الأصل التاريخي، فكيف يستطيع الباحث أن يحدد ذلك ولو بالتقريب؟ في بعض الأحيان يمكن دراسة المحتويات وضع حدين لمبدأ ونهاية الأصل؛ أي أنه يعين التاريخ الذي لا يمكن أن تكون الحوادث قد وقعت قبله والتاريخ الذي لا يمكن أن تكون هذه الحوادث قد وقعت بعده. ولتحديد ذلك ينبغي أن يكون الباحث صاحب ثقافة تاريخية واسعة تتعلق بالعصر الذي يدرسه. ولا بد أن تكون الوثيقة أو الأصل قد دون بعد آخر حادث ورد به؛ ولكن من الجائز أن يكون التدوين قد حدث بعد ذلك بزمن قصير أو طويل. وإذا فرضنا أن كتاب سفير البندقية في باريس لم يكن مؤرخا، فأنه يمكن معرفة تاريخ كتابته بدراسة محتوياته. فالحوادث التي ذكرها السفير هي حوادث يونيو 1789؛ وآخرها حادث ذكره هو اجتماع مجلس طبقات الأمة في 27 يونيو 1789؛ وعلى ذلك فلا بد أن السفير قد دون كتابه بعد ذلك الحادث مباشرة وقبل أن يقع حادث آخر مهم. والمجلس اجتمع بعد ذلك في 30 يونيو؛ فيكون السفير إذاً قد كتب خطابه إلى مجلس شيوخ البندقية في 28 أو 29 يونيو 1789.

ثم يواجه الباحث في التاريخ مسألة أخرى هي مسألة تعيين مكان تدوين الأصل التاريخي؛

ص: 27

وهي مرتبطة كل الارتباط بما سبق. وسواء كان النص الموجود أمام الباحث أصلا تاريخياً من الطبقة الأولى أو أصلا تاريخياً من الطبقة الثانية فلا بد من معرفة مكان تدوينه. فهل دون شاهد العيان الحوادث في مكان وقوعها أو في مكان بعيده عنه؟ أو هل أخذ معلوماته عن أشخاص شهدوا الحوادث بأنفسهم، وأين كان ذلك؟ وهل كان التدوين في مكان وظروف تجعل كاتب الأصل التاريخي قادراً على تصوير الوقائع تصويراً صحيحاً، أم أن التدوين قد حدث في مكان بعيد واعتمد الكاتب على الذاكرة والخيال في سرد الواقع؟ المعلومات التاريخية التي ترد في الأصل قد تحدد مكان التدوين في بعض الأحيان. أو قد يمكن معرفة ذلك في المعلومات العامة عن الكاتب. فمثلا بابي كتب مذكراته في ربيع 1792. ونعرف من التاريخ أن بابي كان في ذلك الوقت مقيماً في نانت. وإذاً فهو قد كتب مذكراته في نانت وليس في باريس مسرح الحوادث التي كتب عنها

(يتلى)

حسن عثمان

ص: 28

‌ثورة علي أبن سينا

أو عقيلة (الأركانا)

للدكتور جواد علي

لقد كان صاحب هذه الثورة ومؤجج نارها طبيب سويسري وفيلسوف أوربي عاش في مدينة (باذل) عاصمة العلم في المقاطعات السويسرية الألمانية في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر للميلاد. طبيب كانت له نفس تواقة على التنقل من مدينة أوربية إلى مدينة أوربية أخرى، ومن جامعة أوربية إلى جامعة أوربية أخرى في سبيل طلب العلم والحقيقة؛ في سبيل إدراك كنه الإنسان وسر هذا الكون وعظمته.

ولكنه كان حيث هبط في أرض أو حل في مدينة يجد الكتب اللاتينية العويصة المترجمة عن العربية أو عن اليونانية تحتل المكان الأسمى في عالم علم ذلك الزمان؛ ويجد الأطباء والعلماء يتجادلون في أبحاثهم وفق القواعد المنطقية المترجمة عن العربية أو اليونانية رأساً. يدونون آراءهم في الكون والإنسان وفق ما جاء في كتاب أبن سينا ولا سيما كتاب (القانون في الطب) وكتب أرسطو وجالينوس. لم يكونوا يحكمون عقولهم، أو يستخدمون التجارب في أبحاثهم، أو يجيلون النظر في الأفق البعيد. وهذا ما ساءه جداً ودفعه إلى إعلان عصيانه وتمرده على كتب العرب واليونان معاً.

وقد عرف ذلك الطبيب الفيلسوف باسم الطبيب المتنقل (بارسلس)؛ أما أسمه الحقيقي فكان يتركب في الواقع من بضعة أسماء ضمت بعضها إلى بعض على عادة ذلك الوقت كان يدعى أورويلس ثيوقراستس بارسلس بومباستس فون هوهنسهايم

دعي بالطبيب المتنقل لأنه كان مشغوفاً بالأسفار محباً للتنقل من محل إلى محل ومن مكان إلى مكان. ولقد كون فيه هذا الميل عقلاً يختلف جداً في طراز تفكيره وأسلوب اشتغاله عن طراز تفكير واشتغال عقول علماء ذلك الوقت. جمع في أنسجته وخلاياه خلاصة الثقافات الأوربية المختلفة والنزعات الثورية التي بعثتها النهضة الأوربية على القديم البالي، وخلاصة النزعات العملية التي بعثتها التجارب العلمية التي بدأ يقوم بها علماء الطب والطبيعة في ذلك الحين. فشك في مقدرة كتب أبن سينا الطبية والفلسفية، وزلزل إيمانه بمقدرة كتب أرسطو أو أبقراط أو جالينوس على إنعاش حياة الإنسان من الناحيتين

ص: 29

الروحية والمادية. ونادى في المجتمعات العلمية وعلى رؤوس الأشهاد أن عصر أبن سينا واليونان يجب أن يزول، وأن أياماً جديدة يجب أن تحل محل تلك الأيام

كانت فلسفة أبن سينا فلسفة هادئة؛ وكذلك كانت فلسفة حكماء اليونان لم يكن فيها ما يبعث على المجازفات والمغامرات والبحث عن الأسرار ومجاهل الأرض. بينما كانت أوربا تتمخض عن حركة جديدة، هي حركة تسخير العلم في خدمة الإنسان والاستفادة من الطبيعة في سبيل رفاهية أبن آدم. كانت كلمة (الأركانا) من أبرز الكلمات وأحلاها في قاموس علم ذلك الزمان. وكلمة أركانا تدل على معان جمة عميقة تدل على المادة السرية التي يمكن بواسطتها تحويل أي معدن خسيس إلى معدن ثمين. ولا يستغرب صدور هذا الميل المادي الجشع من إنسان ذلك الوقت. فقد قلب القرن الخامس عشر العالم رأساً على عقب. كدس الذهب والفضة في بلاط ملوك البرتغال والأسبان، وحرم الشعوب الأوربية الأخرى من مصادر القوة والثروة. ووجد حملة سر (الأركانا) في قصور الأمراء وملوك أوربا مرتزقاً حسناً جداً. كانوا يجوبون عواصم أوربا ليعرضوا على ساداتها آخر ما وصل إليه علمهم عن هذه الكلمة السحرية معشوقة الأغنياء. وكان أبرعهم وأشهرهم الذي تمكن بواسطة بضاعته في علم (السيمياء) وطلاقة لسانه، من السيطرة على عقل الأمير (فردريك) أمير ورتمبرك في عام 1597 م ومن ابتزاز أموال الأمير بلا حساب، لتحويل النحاس إلى المعدن الثمين الذهب. وقد سطر لنا عصر بارسلس عشرات وعشرات أمثال هذا العالم السيميائي الشاطر.

كانت (الأركانا) رمز عقلية الجيل الجديد، ذلك الجيل الذي سخر من عقلية من تقدمه، لأنها في نظرة عقلية قديمة آسنة ذات تفكير قديم. كانت تؤمن بالخرافات وبزخارف القول وما جاء في الأساطير. وما الأركانا في نظره سوى ثورة جديدة على العصور القديمة وعلى ما أنتجته تلك العصور.

ولكن الجديد في عقلية الأركانا حقا هو ثورة الفرد على الطبيعة وثورة الإنسان النشيط على الإنسان المتزن الهادئ، ثورة الجرمانية على العربية واللاتينية.

ولكي يبرهن ذلك الإنسان الجديد على انه إنسان جديد في كل شيء. إنسان عملي حرفي أرادته وتفكيره فرق بين علوم الأوائل وعلوم الأواخر، بين علوم الأجيال التي سبقت القرن

ص: 30

الخامس عشر وبين علوم الأجيال التي ظهرت بعد هذا القرن. سمي علم السحر القديم مثلا (علم السحر الأسود) فميزه عن علم السحر الجديد الذي ابتدعه وسماه (علم السحر الأبيض). وعلم السحر الأبيض في نظر إنسان ذلك الوقت علم جديد عملي مجرد من الأباطيل والخرافات؛ وقد ضمن هذا لإنسان على القدماء حتى في مصدر العلم فقال: إن مصدر علمه السماء، أما مصدر علم القدماء فكانت الأرض.

ومادام مصدر السحر الأبيض السماء، فلم لا تكون للأجرام السماوية ذاتها يد في مقدرات الإنسان؟ آمن إنسان الأركانا بفعل البروج والأفلاك في مستقبل الإنسان، ولكنه لم يؤمن كما آمن الأولون. نعم آمن بقدرة البروج والأفلاك، وأيقن بأهمية ليتمكن بواسطة أسرار هذا العلم من معاكسة تأثيرات في السماء، وليسخر قوى البروج الخلفية في صالح الإنسان. أما الإنسان الأول، فقد آمن بها إيمان رجل مستسلم للمشيئة والأقدار يرجو رضا القوى الخفية لتجلب عليه السعادة والرفاهية.

رأينا تأثير السماء على الإنسان، فلم لا يكون للأرض نفس هذا التأثير على الإنسان؟ نعم، للأرض إذا أثر هام على سكان الأرض، وللإنسان إذاً أن يبتدع علماً يقاوم تأثير هذه الأرض، بل للأرض نفس الأثر، حتى على ما في بطون الأرض، فإذا ما تمكن الإنسان من اكتشاف سر هذه الأرض، فإذا ما تمكن الإنسان من اكتشاف سر هذا الأثر، تمكن من إيجاد هذا العلاج الناجح لمقاومة تأثير الأرض. وقد بحث الإنسان عن المادة السرية التي يمكن بواسطتها تحويل المعادن الخسيسة إلى معدن نفيس، وتلك المادة المطلوبة السرية هي حجر الحكماء أو الفلاسفة كما كانوا يطلقون عليها في القرن الخامس عشر للميلاد تؤثر على حياة الإنسان مجموعة قوى أخرى على رأسها (روح الإله العالية) التي تخللت جميع أجزاء هذا الكون، وحلت في كل شيء، فأصبح الكون هو السكون؛ وما الإنسان في نظر بارسلس سوى (العالم الأصغر) الذي هو صورة مصغرة (للعالم الأكبر)

وقد أسبغ صاحبنا على نظريته هذه ثوباً من أثواب الحلولية التي ترد في الصوفية الإسلامية أيضاً ولقد كان لها صدى بعيد في أنحاء أوربا، أثرت على أفكار فلاسفة الطليان والألمان والإنكليز وغيرهم أمثال كيور دانو وكامبنيلا وتيليزيو وروينشلين وبرونوميلنشوتن وأكريبافون نيتيسهايم وهرمان لوتسه الفيلسوف الألماني الشهير

ص: 31

(1817 - 1881 م) في القرن التاسع عشر للميلاد قال بارسلس وفي العالم الأصغر وهو الإنسان قوى بنائية روحية تقاوم الأرواح الخبيثة التي تكون في الخارج وتساعد على بناء الجسم ودوام اتصاله بالعالم الأكبر، وما العالمين سوى وحدة واحدة لا تتجزأ لذلك، فأنا للعالم والعالم أنا وقد سمى هذه المادة من كلمة اليونانية ومعناها المادة الأساسية أو الأساس. وكان الفيلسوف اليوناني أنا كسمندد قد استعملها لتدل على هذا المعنى والعلم الذي يبحث في هذه المادة هو أشرف العلوم؛ وحيث أن الطب هو العلم الباحث عنها، لذلك كان علم الطب هو أشرف العلوم طراً وقد شرفه حتى على علم اللاهوت.

ومن واجب الطبيب تنظيف هذه المادة مما قد يتعلق بها من الأرواح الخبيثة وذلك بواسطة العقاقير والأدوية المفيدة. وقد حضر الطبيب الفيلسوف قائمة بأسماء العقاقير والمشروبات المعدنية والأدوية السرية التي تنفع لمقاومة الأمراض النفسية والجسمية معاً. وما الأمراض في نظره سوى صراع بين ال وبين الأرواح الخبيثة والقوى الخارجية المحيطة بالإنسان

وبقدرة هذه العقاقير والمواد السحرية يستطيع الطبيب الذي هو اقرب مخلوق إلى الله من تنظيف الروح والجسد من السادران ومن رفع مستوى البشرية إلى مصاف الأرواح السماوية العليا، وبذلك يتم الاتصال بين (العقل الأول) أو (الروح) وبين العقل الثاني وهو الإنسان. ولذلك لهذه الفلسفة شهرة عظيمة بين رجال المتصرفة من الأوربيين ولا سيما الألمان منهم، فظهر حلاجهم وهو يعقوب وظهر فالنتين وأيكل وظهر أمثال لهذين المتصوفين ينادون بالفناء والاتحادية.

وبعد أن أتم بارسلس وضع قائمة عقاقيره السحرية أجج في ليلة عيد الغفران من عام 1517 ناراً عظيمة في حفل رهيب وتقدم في موكب يتبعه تلاميذه والمعجبون بآرائه يحمل بيديه (إنجيل الأطباء) وهو كتاب (القانون في الطب) لابن سينا (لوثر الأطباء) كما كانت أوربا تسميه وبعد خطبة وحفلة دينية مؤثرة ندد فيها بآراء ابن سينا وزعماء الطب من العرب اليونان، ألقى بكتاب القانون في النار معلنا بذلك دخول أوربا في عصر تفكيري جديد. ولكنه قوبل من الناس بازدراء عظيم واضطرت بلدية المدينة إلى إخراجه من المدينة (باذل) لتجاسره على كرمة أعظم طبيب عرفته العصور.

اجتمعت في بارسلس سذاجة القدماء وتفكير المحدثين. كان زمانه زمان انتقال فطبعه

ص: 32

بطابعه الخاص. وجد المحدثون في زماننا فيه رمزاً من رموز التفكير العنيف والإنسانية الفعالة. وعلى الأخص الكتاب الأوربيين منهم. وجد فيه ألفريد دوزنبرك رجلاً أوربياً أعلن حرب الجرمانية على السامية واللاتينية؛ لذلك أسست جمعية أطلقت على نفسها اسم جمعية بارسلس قامت بنشر رسائله ومؤلفاته لأبناء القرن العشرين

جواد علي

ص: 33

‌2 - الصحافة والدولة

تأليف الصحفي العالمي ويكهام اسفيد

للأستاذ زين العابدين جمعة

المحامي

أما بالإضافة إلى إيطاليا فمجرد النظر في (الكتاب السنوي للصحافة الإيطالية) وفي صفحاته التي تربي على الألف صفحة كاف لأن تتكشف معه الحقيقة عن أمر تلك العبودية التي انتظمت الصحافة الفاشية فأمست خاضعة لها. ولقد كانت كبريات الصحف الإيطالية مثل صحيفة (الكورييري دلاسيرا) التي تصدر من ميلان وصحيفة (الاستمبا) التي تطبع في ثورين - وحسبنا منها هاتان الصحيفتان - تنافس أعظم الصحف في أوربا وتناهضها قبل أن تبتدع الفاشية نظاماً. بينما كان الصحفيون الإيطاليون ينعمون في كتاباتهم بنصيب من الألمعية وبراعة الأسلوب ورقة العبارة لا يطاولهم فيه أحد

ولقد انتهى أمرهم اليوم إلى أن نظموا في سلك (النقابات) والجمعيات الرسمية وأمسوا وهم لا يستطيعون أن يؤدوا عملهم ما لم تدون أسماؤهم في سجل المهنة، ليكون ذلك شاهداً على استقامة رأيهم وسلامة عقيدتهم في النظام الفاشي. ولقد حددت مركزهم تلك الأوامر (الملكية) المعقدة تعقيداً لا حد له، وصيرتهم موظفين مؤتمرين بأوامر تلك الفئة الوحيدة التي تحكم الدولة. ولقد تلقى الصحفيين الإيطاليون درساً قاسياً عرفوا منه ما ينتهي إليه التمرد على الفاشية من مصير وخيم. فقد رأوا أنبل الناس نفساً واوفرهم استقامة بين ظهرانيهم يضربون بتلك الهراوة الفاشية ضرباً مبرحاً، وقد يكون مميتا - كما كان من أمر (جيوفاني أمندولا) - أو يحكم عليهم بمدد طويلة في الأشغال الشاقة، أو يرسلون إلى معسكرات ضاقت بمن سيقوا إليها أو زجوا فيها، أو يوضعون تحت مراقبة البوليس في الحالات الأخف وزناً وفي المخالفات الأقل خطورة وحتى أولئك الذين أمكنهم أن يهربوا من إيطاليا كالمرحوم (كارلو روزلي) وقد أدركوا أنهم لم يكونوا بمنجى من أن تصل إليهم أيدي المجرمين ومدى السفاحين.

لذلك نجد في الفصل الذي عنوانه: (روح الصحافة الفاشية وكيانها) - المذيل بعبارة عهد

ص: 34

موسوليني كعنوان إضافي - من الكتاب السنوي للصحافة الإيطالية موضوعاً اقتبس منه ما يأتي:

(ووقتما ابتدعت الفاشية نظاماً للدولة، واختفت من الميدان الصحف المعارضة بعبارتها القارصة وأسلوبها اللاذع؛ ووقتما اهتدت إلى صوابها الصحف الناقمة الخارجة - تلك الصحف التي ذاعت ثقافتها العقلية التقليدية وكان لزاماً أن تحترم على الأقل ما بقيت لها ألقابها القديمة - فقد أحس الجمهور لوقت ما بشعور من الحيرة والارتباك ليس من الأمانة أن ينكر. إذا كان مما يتواتر على ألسنة الناس قولهم: (أيسعنا أن نقرر أن الحكومة لم تعد تخطئ، وأن الدولة دائما على صواب؟؟

- وذلك لأن الجمهور الساذج غير المثقف يختلط عليه أمر (الحكومة) و (الدولة) فيخالهم شيئين مختلفين مع أنهما اليوم وحدة لا تتجزأ لها ذاتيتها وخاصيتها. ومراعاة للأمانة والحق يجب أن نقرر أيضاً - ما دام الدوتشي نفسه قد قرره - أن طبع الصحافة بالطابع الفاشي لم يكن بالأمر الغريب المنار بل كان أمراً شاقاً ومنهجاً صعباً) ثم يحدثنا الكتاب السنوي إلى ذلك قائلاً: (ولكن أيسع أحداً اليوم أن يخبرنا عما إذا كانت الصحف هي التي تكون الرأي، أو كان الرأي هو الذي يكون الصحف؟؟) ثم يضيف إلى ذلك:

(والصحف تارة تتقدم الأسلوب الثوري وتارة أخرى تكون لاحقة له عندما يجري قلب أوضاع المجتمع في سبيل المدنية الحديثة انقلاباً جوهرياً، تلك المدنية التي جددت أسلوب النظم العامة والخاصة ووظيفتها، في شعوب أوربية عظيمة كإيطاليا وألمانيا. ففي هاتين الأمتين نجد الصحافة اليومية وقد تميزت عن سائر الصحف الأخرى في باقي أمم الأرض تميزاً واضحاً)

فما هو هذا الشيء الذي يميز الصحافة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية عن غيرها من صحف العالم؟؟ هنا يتولى (الكتاب السنوي) شرح هذا الفارق المميز فيقول:

(أن الفاشية التي كانت النتاج البكر بين حركات التجديد في أوربا كانت حرباً صليبية كبرى لتحرير الروح الإيطالي. . فهل كانت رجعة إلى الفطرة الأولى؟؟ نعم، ولكنها في الواقع مفتتح ثورة فعالة من شأنها أن تعيد إلى الشعب في غداة ثورة تاريخية عظمى نوعاً من العيش الفذ والحياة البكر). ثم يقول (الكتاب الثانوي) أيضاً:

ص: 35

أن الصحافة الفاشية قد بعثت شباب إيطاليا بعثاً جديداً ووضعت أمام عينيه - وقد أجادت الاختيار واحترزت من أمره - حقائق لها قيمتها التاريخية لا مجرد أخبار مشوشة مضطربة. وما برحنا على حال لا يضايقها أن نقرر أن الصحافة قد أتمت رسالتها تحت لواء النظام الفاشي، ذلك النظام الذي وضع الصحافة في الصف الأول ومنحها قيادة نبيلة؛ الأمر الذي اصبح معه خضوع الصحف (لرأي الدولة) وهو من نوع استسلام الجندي المخلص لا من نوع تلك العبودية المفروضة على تابع أحسن إليه. و (رأي الدولة) هذا قد ورد ذكره وعرف في المجلد الثامن من كتاب (كتابات وأقوال بنتو موسليني) إذ جاء به (إن رأس الحكمة الفاشية هو إدراك معنى (الدولة) ومعرفة جوهرها وفهم أعمالها والإلمام بأغراضها ومراميها. فإذا كان من مقتضيات الفاشية أن تكون الدولة مطلقة التصرف فذلك من جهة تلك الصلات التي تربط الأفراد والجماعات بالدولة وتربط الدولة بهم. ولا يباح للأفراد والجماعات الحق في التفكير وتكوين الرأي إلا إلى الحد الذي لا يتعدى نطاق ما اختطته الدولة. والحكومة الحرة لا تدبر أمر أعمال المجتمع وتصرفاته ولا تنهض بتقويم نتاجه المادي والروحي بل يقتصر أمرها على مجرد تسجيل النتائج؛ بينما نجد الحكومة الفاشية ولها ما اختصت به من إدراكها لهذه المسائل ومن اختيارها لما تختاره منها ومن مشيئتها فيها ولهذا السبب لقبولها بالحكومة (الأدبية). . .)

انتهينا فيما تقدم - وبعبارة صريحة - من عرض المميزات والفوارق الأساسية بين وظيفة الصحافة في الحكومة الاستبدادية ووظيفتها في الأمم الحرة التي ما زالت حرية الأفراد فيها وهي تعد أمراً طيباً في ذاته؛ ولو كان المبدأ القائل بأنه: (في سبيل الفاشية يجب أن تكون الحكومة حكومة مطلقة) هو مبدأ إيطالي الأصل والنزعة، لساغ أن يتقبله العقل الإيطالي وأن يتحمل ما ينطوي عليه من أعباء الممارسة الفعلية لمسألة هي من أهم مسائل النظام الاجتماعي والسياسي. ومهما كان من التناسق والتلازم في أفكار موسوليني السياسية، فهي مأخوذة - على وجه أو وجهين - من آراء (هيجل) الفيلسوف الألماني الذي صيغت آراؤه عن الدولة - ولاسيما الدولة البروسية - في قالب صعب لأكثر من عصر مضى؛ ولم يكن ما تلقاه (فردريك أنجلز)، (كارل ماركس) من آراء (هيجل)؛ وما أوحى به إليهما فيما انتهيا إليه من نظر عن الدولة الشيوعية بالشيء القليل، وعن (ماركس)، (إنجليز) تلقى (جورج

ص: 36

سوريل) رسول النقابية في فرنسا أول ما تلقاه من مبادئ العنف النقابي كوسيلة للانقلاب السياسي والاجتماعي قبل أن يتعقبها إلى منهلها في فلسفة (هيجل)، وينهل من هذا النبع المسموم؛ وعن (سوربل) تلقى (موسليني) بدوره هذه المبادئ الضارة والنهج الوبيل

فلقد صرح (هيجل) آنئذ في كتابه المعروف (بفلسفة التاريخ) بأن الدولة هي أسلوب فعال مطلق، وتجسيد لفكرة (أي تجسيد الحقيقة الماثلة وراء الظواهر). وعنده أن تلك الكائنات الحية التي تعيش تحت ظلال هذا الأسلوب من الحق المطلق، ليس لها من الحق في الاعتبارات المستقلة بأكثر أو بأقل مما للخلية بالإضافة إلى الهيكل البشري؛ وهو يقول:(إن الدولة هي أسمى فكرة وأجل وحي وأنبل خاطر، يغمر الحياة ويعيش على وجه الأرض)، لأن:(جماع ما للكائن الحي من قيمة وجماع ما ينعم به من الحقائق الروحية، إنما يتهيأ له فقط ويأتيه عن طريق الدولة)؛ يضاف إلى ذلك أن الدولة غاية في نفسها وشيء قائم بذاته، وهي الغاية القصوى التي يسمو حقها الأعلى على حق الفرد الذي ينطوي أسمى واجباته في أن يكون فرداً في الدولة

وهذه التعاليم هي من نوع التوفيق بين وجهة النظر الحرة ووجهة النظر المسيحية على حقيقتها في الحياة. إذ كلا النظرين يجعل لشخصية الإنسان قيمة عظمى. تلك الشخصية التي يعدها المذهب الحر العنصر الأولي الذي لا غنى عنه في مجتمع مكلف حر من الكائنات الإنسانية. بينما تنظر إليها العقيدة المسيحية كمستودع للنفس الخالدة. والصحافة الحرة قد هيئت لأن تنهض فور الوقت بواجبها نحو الحرية الاجتماعية والسياسية إذ تكون لسانها الناطق وحارسها الأمين. إلا أن الأمر يختلف عن ذلك تحت نير تلك النظم السياسية التي تعامل الفرد كمجرد تابع خاضع في كل شيء لإرادة حكومة مطلقة تعبر عنها أوامر حاكم مستبد حيث لا تصادف الصحافة الحرة ولا الصحفيون الأحرار أي عدالة أو ضمان

ولكن المسألة لا تنتهي عند هذا الحد إذ تصل إلى الأعماق من فلسفة الصحافة ذاتها. ففي الأمم الحرة ليس من شأن الصافة، لا يمكن أن يكون من شأنها ومن شأن ما يسمى أحياناً (بمسئولية) الصحفي، أن تكون مجرد صدى يردد ما يجري على لسان الحكومة من رأي. أو تعني بالتزام ذلك الصمت الذي يأخذ رجال السياسة أنفسهم به، أو يجري في عقيدتهم أنه من مقتضيات المراكز التي يشغلونها. والصحف المستقلة إن أيدت الساسة في خططهم

ص: 37

وكانت لهم سنداً في الاحتفاظ بمراكزهم فهي إنما تمنحهم هذا العون طليقة مختارة وعن عقيدة شخصية قوامها أن هؤلاء الساسة يخدمون مصالح المجتمع جهد طاقتهم

ولقد بين (روبرت لو)(اللورد شربوك فيما بعد) الفارق بين واجبات الصحافة الحرة وواجبات السياسة بياناً علمياً صائباً في المقالين الافتتاحيين الخالدين اللذين حررهما لصحيفة (التيمس) في6، 7 فبراير عام 1852 وقتما كان (ديلان) ينهض برئاسة التحرير فيها

ففي شهر ديسمبر من عام 1851 قام (لويس نابليون) بحركة غير مشروعة كان من أمرها أن وثب إلى كرسي الإمبراطورية في فرنسا فنصب نفسه إمبراطوراً للدولة التي كان يتولى رئاسة الجمهورية فيها. وكان من أمر اللورد (بلمرستون) الذي كان يتولى وزارة الخارجية في ذلك الوقت من وزارة (رسل) أن أقر بالنيابة عن بريطانيا العظمى هذا الأمر الواقع من غير أن يراجع زملاءه في ذلك ويبادلهم الرأي ومن غير أن يخطر الملكة به. وأذ ذاك قامت قيامة صحيفة (التيمس) وآذنته هو و (لويس نابليون) بحرب شعواء جاهدتهما بها وناهضتهما فيها. ولقد بلغ من قسوة هذا النضال العنيف وما صيغ به من عبارة قارصة وأسلوب لاذع أن (ضاق لويس نابليون به صدراً) وثارت ثائرته عليه، وأن غضب له من شايعه من الوزراء البريطانيين وحاولوا أن يفلتوا من حملاتها بتكميم فمها. إلا أنه لم يكن من أمر إقرار (بلمرستون) لذلك الانقلاب الغير مشروع والذي كانت له اليد الطولي فيه إلا أن انتهى بعزله، إذ احتجت الملكة احتجاجاً حازماً على ما كان من خطل نهجه، وأبى عليه رئيس الوزارة قبول معاذيره أو إقراره على حججه. واختير فعلاً (لورد جرانفيل) خلفاً له ووزيراً للخارجية من وزارة رسل. وعقب ذلك بحولي الشهرين سقطت وزارة رسل بأجمعها. وتحين الفرصة (اللورد دربي) الذي خلف (لورد جون رسل) في رئاسة الوزارة. فما أن واتته - بمناسبة ما ثار وقتئذ من نقاش وما ألقى من خطب رداً على خطاب العرش - إلا أنحى إلى صحيفة التيمس بالملائمة وقبح منها ما كان من سفور النقد وصراحة العبارة زاعماً:(أنه إذا كان من حق الصحافة البريطانية في هذه الأيام أن تطمح لأن تقاسم الساسة سلطانهم، أفلا يحق عليها أيضاً أن تقاسمهم مسئولياتهم؟؟)

ولما كان (ديلان) صحفياً مستقلاً يعرف لحرية الرأي حقها وخطرها، فقد أحس من نفسه

ص: 38

برغبة ملحة في ألا يدع هذه النظرية تمر من غير تحقيق وتمحيص ومن غير أن يظهر وجه الصواب منها، فأوحى إلى (روبرت لو) أن يفندها، وأن يبين للناس المبادئ التي تنظم كلا الأمرين حرية الصحافة وواجبات الصحفي في المجتمع الحر. ولقد نهض (لو) بهذه المحاجة برأي حازم وبصيرة نافذة؛ وإذ أخذ في مناهضة تلك المزاعم ومناقشة هذه القضية المنطقية التي أثارها (لورد دربي) بما زعمه من أن الصحافة التي تطمح في أن تشاطر الساسة سلطانهم يكون لزاما عليها أيضاً أن تشاطرهم مسئولياتهم، كتب في عدد التيمس الصادر في اليوم السادس من شهر فبراير عام 1852 المقال الآتي:

إذا كان الطرف الأول من هذه القضية ثابتاً مقرراً فلا جرم أن الطرف الثاني يتبعه في هذا الثبوت بداهة. ونحن من بين الناس جميعاً أقلهم ميلاً لأن نضع من شأن ما نهض به من عمل خطير أو ننكر ما يقع علينا من مسئوليات وما ننعم به من سلطان نستمده من قوة الشعب وثقة الجمهور. إلا أنه لا يسعنا مهما يتهيأ لنا من أمر هذا السلطان سواء أكان عظيماً أم صغيراً أن نقرر أن من مقتضياته أن نشاطر رجال السياسة أعمالهم، أو أن هذا السلطان مقيد بمثل ما يتقيد به وزراء التاج من قيود العمل والزمن. وبمثل ما يلازمهم من واجب ومسؤولية، فكل من هذين السلطانين متميز عن الآخر تمام التمييز في مقتضياته وواجباته. وهما على العموم أمران مستقلان، وأحياناً شيئان متعارضان يسيران على خطين متوازيين فلا يتقابلان، والصحافة تعبث بحريتها وتقيدها وتحد من نشاطها إثر تلك اللحظة التي تقبل فيها أن تشغل مركز المسود من السيد، وأن تنزل منزلة التابع من المتبوع؛ وهي إن عنيت بتأدية واجباتها باستقلال صحيح تام؛ وبالتالي بما يتطلبه منها جماع المصلحة العامة، لما وسعها أن تهادن رجال الساعة من الساسة أو تحالفهم، أو أن تخضع مالها من شأن خالد ونفع متواصل لما يتهيأ لأية حكومة من سلطان موقوت ونفوذ سرعان ما يزول عنها أو تزول عنه

(البقية في العدد القادم)

زين العابدين جمعة

ص: 39

‌11 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تعليم البنات

قلما يتعلم البنات القراءة والكتابة. وكذلك لا يتممن الصلاة حتى بنات الطبقة الراقية. ويستخدم بعض الأغنياء (شيخة) لتزور الحريم يومياً فتعلم بناتهم وجواريهم إقامة الصلاة وتلاوة بعض سور من القرآن. وقد تعلمهن القراءة والكتابة، إلا أن هذا، حتى لنساء الطبقات الراقية، شيء كالذي يندر أن يتم. وهناك عدة مدارس تعلم فيها البنات الخياطة والتطريز الخ. ولكن إذا سمحت الظروف يعهد بالبنات إلى (معلمة) تعلمهن تلك الأشغال في منازلهن

الفصل الرابع

الحكومة

قاست مصر - هذه السنوات الأخيرة - تقلبات سياسية عظيمة، وزالت تبعيتها للباب العالي إلا قليلاً. وقد استقبل حاكمها الحالي محمد علي تقريباً، بعد أن أباد الغز أو المماليك الدين شاركوا أسلافه الحكم؛ إلا أنه أعلن ولاءه للسلطان، وأصبح يؤدي الخراج للأستانة كما هي العادة. ثم إنه خضع لأحكام القرآن الأساسية والسنة. وهو - خلافاً لذلك - يتميع بسليطة لا حد لها. فهو يستطيع أن يقضي على أي فرد من رعاياه بالموت دون محاكمة أو تعيين سبب. وكفاه أن يحرك يده حركة أفقية بسيطة ليتضمن ذلك حكم الإعدام. ولكن يجب ألا يفهم من كلامي أنني ألمح بميله إلى سفك الدماء بلا موجب. أن من طبع هذا الوالي الصرامة الحازمة لا القسوة الشريرة. وقد دفعه طموحه المطلق إلى جميع الأعمال، فكان يجلب لنفسه المدح تارة أو الملامة تارة أخرى. ويجد في قلعة العاصمة مجلس للقضاء

ص: 40

يسمى (الديوان الخديوي)، يرأسه في غياب الباشا نائبه (الكخيا) حبيب أفندي. ويبت رئيس الديوان الخديوي في الأمور التي تخرج عن اختصاص القاضي أو التي تكون واضحة بحيث لا تحتاج إلى الرجوع إلى القاضي أو أي مجلس آخر.

وقد أقيمت في أنحاء العاصمة دور كثيرة للشرطة، في كل منها بلوك نظام أي فرق منظمة. ويسمى الشرطي (قلق) أو (قراقول). ويقبض على من يهتم بالسرقة أو السطو الخ ويقاد إلى دار الشرطة الرئيسي في الموسكي حيث يسكن أغلب الفرنج. وبعد أن تثبت التهمة كتابة يقاد المتهم إلى (الضابط) إي رئيس شرطة العاصمة. وبعد أن يسمع الضابط القضية يرسل المتهم للمحاكمة أمام الديوان الخديوي. وعندما ينكر المتهم الجريمة الموجهة إليه، ولم يكن هناك دليل على الإدانة، يجلد ليحمل على الاعتراف بجريمته. وحينئذ، إن لم يكن قبلاً، يعترف المتهم بالجريمة إذا كانت طبيعتها لا تعرضه لعقوبة شديدة. ويعترف اللص عادة بعد هذا التعذيب بقوله:(إن الشيطان أغراني ففعلت) وعقوبة المجرمين يرتبها نظام مستبد ولكنه لطيف حكيم. ويكون عادة بإلزامهم للقيام ببعض الأشغال العمومية مقابل قوت قليل، مثل نقل القمامة وحفر القنوات الخ. وقد يجند الشبان الأقوياء متى كانت التهمة طفيفة. ويستحق محمد علي على استخدامه المجرمين لإصلاح البلد وتحسينه المدح الذي كان وقفاً على سابا كون الفاتح الحبشي وملك مصر الذي يقال إنه أدخل هذا النظام؛ إلا أن الباشا كان شديداً في معاقبة الجرائم التي ترتكب ضد شخصه فالإعدام هو العقوبة العادية في أحوال كهذه

وهناك عدة مجالس دنيا لإدارة شؤون الأقاليم المختلفة، وأهمها: أولاً. (مجلس المشورة) ويقال أيضاً (مجلس المشورة الملكية) تمييزاً له عن المجالس الأخرى. ويختار الباشا أعضاء هذا المجلس والمجالس المشابهة الأخرى ممن يتحلون بمواهب أو صفات أخرى. ولذلك تخضع جميع قراراتهم لأرادته ورغباته؛ وهم آلته ورهن إشارته، ويكونون لجنة تشرف على إدارة البلد العامة وشؤون الباشا التجارية والزراعية. وتعرض العرائض الموجهة إلى الباشا أو إلى ديوانه المتعلقة بالمصالح الخاصة أو بشؤون الحكومة على أعضاء المجلس وتخضع لتقديرهم وحكمهم، إلا إذا وقعت في اختصاص المجالس الأخرى المذكورة فيما بعد. ثانياً (مجلس الجهادية) أو (مجلس المشورة العسكرية) واسمه يدل على

ص: 41

مدى اختصاصه. ثالثاً مجلس (الترسخانة) أو البحرية. رابعاً (ديوان التجار) وقد أنشئ هذا المجلس الذي يتكون أعضاءه من تجار مختلفي البلد والدين تحت رئاسة (الشاه بندر) لينظر في بعض الأحوال الناشئة عن المعاملات التجارية الحديثة مما لم ينص عليه في القرآن أو السنة

ويتولى قاضي القاهرة القضاء في مصر لمدة سنة واحدة ثم يرجع عند انتهائها إلى الآستانة. وجرت العادة أن يقوم القاضي من القاهرة مع قافلة الحج الكبيرة إلى مكة فيقضي واجبات الحج ويبقى في المدينة المقدسة سنة واحدة، وفي المدينة المنورة سنة أخرى يقضي بين الناس. ويشتري القاضي منصبه بالممارسة من الحكومة التي لا تقيم أي اعتبار لمواهبه. غير أنه يجب أن يكون ذا علم ولو قليلاً، وأن يكون عثمانياً حنفي المذهب. وقلما يجيد القضاة اللغة العربية لأن معرفتها لا تلزمهم. ولا يكاد القاضي في القاهرة يعمل شيئاً غير التصديق على حكم (نائبه) الذي ينظر في أغلب العادية والذي يختاره القاضي من علماء استنبول، أو التصديق على قرار (المفتي) الحنفي الذي يقيم دائماً في القاهرة ويصدر فتواه في القضايا الصعبة، ولكن النائب على الأكثر قليل المعرفة باللغة المصرية العامية

ولذلك يجب على القاضي في القاهرة، حيث يتكلم أغلب المتقاضين العربية، أن يضع غاية ثقته في (الباش ترجمان)؛ ومنصب هذا دائم، ومن ثم فهو يعرف أنظمة المحكمة، وخاصة نظام الرشوة، وهو على أتم استعداد لأن يلقن هذا النظام لكل من يستجد من القضاء والنواب. وقد يكون القاضي جاهلاً بالشرع جهلاً غليظاً في كثير من تفاصيله، وقد حدثت عدة أمثلة من هذا النوع، ولكن يجب أن يكون النائب بارعاً في الشرع علماً وعملاً

وعندما يرفع الشخص قضية يذهب إلى المحكمة ويطلب من الباش رسول أن يرسل (رسولاً) ليحضر الخصم، ويتناول الرسول قرشاً أو قرشين يقسمهما مناصفة بينه وبين رئيسه على انفراد. ويحضر المدعي والمدعى عليه في بهو المحكمة الكبير: وهو غرفة كبيرة تواجه فناء فسيحاً، ولها واجهة مكشوفة بها صف من الأعمدة والعقود، ويجلس فيها كتبه يسمى الواحد منهم (شاهداً) وعمله أن يصغي إلى أقوال الطرفين في القضية ويدونها، ورئيسهم الباش كاتب، ثم يقصد المدعي أي وأحد من هؤلاء الكتبة ويقرر أمامه ظروف القضية. . . فيثبتها الشاهد كتابة، ويتناول جعلاً قدره قرش أو أكثر، ثم بعد ذلك يصدر

ص: 42

حكمه إذا كانت القضية لا قيمة لها والمدعى عليه يعترف بعدالتها، إلا قدم الطرفين إلى النائب في غرفة داخلية. وبعد أن يسمع النائب القضية يأمر المدعي أن يستصدر من فتوى من مفتى الحنفية الذي يتناول جعلاً يندر أن يقل عن عشرة قروش، ويزيد غالباً على مائة قرش أو مائتين، ويصدر النائب حكمه في القضايا التافهة منفرداً وبأقل تعب. أما القضايا المهمة أو المعقدة فأنها تنظر في غرفة القاضي الخاصة أمام القاضي نفسه والنائب ومفتي الحنفية الذي يستدعي للفصل فيها بفتوى؛ وقد تزيد القضية صعوبة أو أهمية، فيستدعي بعض علماء القاهرة؛ وبعد أن يصفى المفتي إلى القضية يصدر حكمه كتابة، فيصدق القاضي عليه ويختم الورقة بختمه، وهذا كل ما عليه أن يعمله في أي قضية. ويستطيع المتهم أن يبرئ نفسه باليمين إذا لم يقدم المدعى شهوداً، فيضع يده اليمنى على القرآن ويقول: بالله العظيم ثلاث مرات، مردفاً: وبما يحتويه هذا من كلام الله. ويجب أن يكون الشاهد عدلاً أو يزعم أنه كذلك، وألا تكون له مصلحة في القضية. ويلزم لكل دعوى شاهدان على الأقل أو رجل وامرأتان، ويجب أن يزكي الشاهدين شخصان آخران. وشهادة الكافر على السلم لا تجوز شرعاً في حالة العقوبة الشديدة. والشهادة لصالح الابن أو الحفيد أو الأب أو الجد لا تقبل كذلك شهادة الأرقاء، ولا يستطيع السيد أن يشهد لصالح عبده.

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 43

‌رسالة الشعر

إلى. . .؟!

(للشاعر المجهول)

تحدثتَ بالهتَّاف أنك حاضرٌ

لإيناسِ روُحي بعد بِضْع دقائقِ

فكيف ترى عيشي يطولُ فأجتنِي

على شغَفي أرواح تلك الشقائق

ألوفٌ من الأحلام طافتْ فداعبتْ

فؤادَ أسيرٍ ظامئ الروحِ وامق

فما صحَّ حُلمٌ في هواك ولا انتهتْ

على اليأس مَوْجاتُ الدموع الدوافق

أأنتَ برغم الصد والدَّل قادمٌ

لإسعاد مشتاقِ وإنجاد عاشق؟

أمثلك تسديه الحياةُ إلى فتىً

مَرِيد الهوى والشوقِ وَعْرِ الخلائق؟

وكيف أرى داري على ضِيق ساحها

تحيط بديَّان الشموس الشوارق؟

سألقاك - هل ألقاك؟ - في ثوب ضَيْغَمٍ

يرى الرفق بالغزلان إحدى البوائق

تعالَ تجدْني جذوةً من صبابةٍ

تسَّعرُ في صدرٍ مَشوقٍ وشائِق

لِنجواكَ أستبقي شبابي فعاطِني

كؤوس الهوى قبل ابيضاضِ المفارق

وأعْزِزْ فؤاداً لو أردتَ جعلتَهُ

أعزَّ من الشَّغواءِ في رأس شاهق

لقد مالت الدنيا وجافتْ وجانَبَتْ

فكُنْ مُنِقذي من جَورها المتلاحق

إذا كنت لي يوماً ولو بعض ساعةٍ

تجودُ بها جُود الحبيب الموافق

فسوف أري الدنيا على سوءِ بغيها

أطالب من لَهْوِ الشبابِ الغُرَانِق

دقائِقُ كالأعوام طالتْ ولم تَجَئْ

حَماك إله الحبِّ من كُلِّ عائِق

سيَقتُلني شوقي إليك فهل أرى

خيالك عند الموت وهو مُعا نِقي

أُحُّبك حُبَّ القلب للوَحْيِ فالْقَنِي

ولو لحظةً يَنقُذْ الغيب بارقي

شَبَبْتَ بقلبي ثورةً لم تُعانِها

جوانِحُ مَشغوفٍ ولا صدرُ حانق

وصيَّرتَنِي لا صرتَ مِثليَ عِبرةً

لِكلِّ أَلوفِ الروح جَمِّ العلائق

فحَتَّى متى أحنو عليك ولم أكنْ

بحفظك للميثاق يوماً بواثق

أُحِبُّك حُبَّ العَين للنور فاهدني

إلى الصبر عن لُقياك إن كنت صادقي

وهل أبصر الرابون من عُصبة الهوى

نظيرَكَ في أوهامهم والحقائق؟

ص: 44

لكَ المجدُ بينَ الحالتين فولِّنى

قضاَء الأسى بين القلوب الصوادق

أُحِبُّك حُبّاً لو تمثِّلتَ وَقْدَهُ

لأمسيتَ في كربِ من الْحُزن ساحق

إلى الله أشكو ما أعانيه من جوّى

هو الدهرُ يَرمي بالصروف الصواعق

إلى خالق الأرواح أشكو بَليَّتي

برُوحٍ غَدورٍ في الغرام وماذِق

تؤرِّقني أطيافُ ذكراهُ سُحرةً

بَروْعٍ كأهوال الخطوب الطوارق

فما الذنبُ؟ ما ذنبي وما كنتُ في الهوى

سِوَى شاعرٍ للصدقِ في الحبِّ خالقِ

ستُطوَى أحابيلُ الملاح وتنطفي

على الدهر نيرانُ الشُّجون الَمواحِق

ويبَقَى نَشِيدي في هواكَ وثيقةً

تُسَجِّلُ أحلامَ القلوب الخوافق

(الشاعر المجهول)

ص: 45

‌البريد الأدبي

المحتسب في الإسلام

نشرت مجلة الجمعية الصحية المصرية في عدد من أعدادها الأخيرة مقالاً قيماً للدكتور فريد بك حلمي المفتش بوزارة الصحة عن نظام التفتيش على المأكولات والاشتراطات الصحية في العهد الفاطمي معتمداً في بحثه على كتاب (معالم القربة في أحكام الحسبة) لمؤلفه محمد بن أحمد القرشي المعروف بابن الأخن، أثبت فيه أن المحتسب كان يقوم في هذا العهد بوظيفة مفتش مأكولات ومعاون صحة ومفتش موازين ومفتش بيطري، وبالجملة يعتبر من رجال الضبطية القضائية؛ وكانت الاشتراطات التي يفرضها المحتسب على المحلات لا تقل دقة عن اشتراطات وزارة الصحة اليوم إن لم تفقها، وللتدليل على ذلك نذكر بعض ما يخص الجزارين قال:

(لا يجر الجزار شاة برجلها جراً عنيفاً، ولا يذبح بسكين كالة لأن في ذلك تعذيب للحيوان، ولا يشرع في السلخ بعد الذبح حتى تبرد الشاة وتخرج منها الروح. وينهي الأبخر عن النفخ في الشاة عند السلخ لأن نكهته تغير اللحم وتزفره، ويمنع المحتسب القصابون من الذبح على أبواب دكاكينهم فإنهم يلوثون الطريق بالدم والروث، وهذا منكر يجب المنع منه، وأن يفردوا لحوم المعز عن لحوم الضأن، وينقطوا لحم المعز بالزعفران ليتميز عن غيره وتكون أذناب المعز معلقة على لحومها إلى آخر البيع ولا يخلط لحم الذكر بالأنثى)

هذا جزء بسيط مما يقوم به المحتسب، ومثل ذلك كان يفرض على كافة الحرف والصناعات.

وكان المحتسب يدخل في صميم الصناعة بشكل يعجب به أبن القرن العشرين لمعرفته بطرق الغش التي تخفى على الكثيرين، والتي لا تمسها شروط وزارة الصحة إلا عن بعد. ومن شروط الحسبة والمحتسب أن يكون مواظباً على سنن رسول الله (صلعم)، وأن يكون عفيفاً عن أموال الناس، ووظيفته أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأن يقصد بقوله وفعله وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته الخ.

(كوم حماده)

كامل يوسف

ص: 46

أصل كلمة النفط

أرى أن كلمة النفط عبرية الأصل، وتنطق في العبرية نفتً وقد وردت في التوراة في مواضع مختلفة بمعنى التقطير أو القطر أو القطرات، وهو المعنى الأصلي الذي أخذ منه اسم زيت البترول (نفت) لعلاقة التقطير أو القطر في كلٍ

ففي الآية الثالثة من الإصحاح الخامس من كتاب الأمثال (لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلاً (نفت) وفمها أنعم من الزيت). وفي الآية الثالثة عشرة من الإصحاح الرابع والعشرين من الكتاب نفسه (يا بني كل عسلاً لأنه لذيذ وقطره (نفت) حلو في فمك)

وفي الآية الثالثة عشرة من المزمور التاسع عشر نجد (وأحلى من العسل وقطر (نفت) الشهد)

والأمثال والمزامير من أقدم كتب التوراة. ولا أذكر أنني عثرت في الأدب الجاهلي أو الإسلامي على كلمة نفط أو نفت فمن المرجح إذا أن تكون الكلمة عبرية الأصل دخلت إلى العربية بعد الفتح الإسلامي. هذا إلى أن كلمة (نفت) أو نفط مستعملة في الفارسية الحديثة والقديمة. وأذكر أنني قرأتها في الشهاهنامة الفارسية، وإن كنت لا أستطيع الآن وهنا أن أنص على موضعها لعدم المرجع

(بخت الرضا. سودان)

عبد العزيز عبد المجيد

في نقد الأصول

ذكرني الدكتور حسن عثمان في بحثه - نقد الأصول - الذي هو فصل من بحوثه القيمات التي ينشرها في (الرسالة الزهراء) تحت عنوان (كيف يكتب التاريخ) ذكرني ذلك بما كنت قرأته في ترجمة الخطيب البغدادي المؤرخ العظيم، فإنه لما رجع من مكة، إلى بغداد تقرب من رئيس الرؤساء أبي القاسم بن مسلمة وزير القائم بأمر الله، وكان قد أظهر بعض اليهود كتاباً وادعى انه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة وأنه خط على رضى الله عنه؛ فعرضه رئيس الرؤساء على أبي بكر

ص: 47

الخطيب فقال: هذا مزور، فقيل له من أين لك ذلك؟ قال في الكتاب شهادة معاوية أبن أبي سفيان ومعاوية أسلم يوم الفتح وخيبر كانت في سنة سبع؛ وفيه شهادة سعد بن معاذ وكان قد مات يوم الخندق في سنة خمس. فاستحسن ذلك منه

محمد أبو البهاء

في الخوارج

كتب الأستاذان الصعيدي والأفغاني (في الأعداد 422، 23، 31) في تحقيق نسبة كلمة في الخوارج إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى سيدنا علي بن أبي طالب. وسأل الأستاذ الصعيدي عن المصدر الذي نسب هذا القول إلى علي، وأجاب الأستاذ الأفغاني بأنه (العقد الفريد)

وإليك رواية تؤيد أن الخبر من كلام سيدنا علي وردت في قديم المصادر ووثيقها. قال الهيثم بن عدي حدثنا إسماعيل بن خالد عن علقمة بن عامر قال: سئل علي أهل النهروان أمشركون هم؟ فقال من الشرك فورا، قيل أمنافقون؟ قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، فقيل فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا. فهذا ما أورده أبن جرير الطبري وغيره في هذا المقام. أنظر (البداية والنهاية لأبن كثير) ج7 ص289 و (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد الهيثمي) ج6 باب في الخوارج، باب في أهل النهروان

أحمد صفوان

حق الضيافة

طلع علينا العدد (430) من (الرسالة) وهو يحمل مقالاً قيماً للأستاذ - علي الطنطاوي - عن (حق الضيافة) وقد رأيت هذا المقال الممتع ثورة على أخلاقنا ونقدا لتقاليدنا وصورة من صميم الحياة المصرية فكشف الستار عن داء عضال في المجتمع يجب استئصاله؛ وهذا لا يتنافى مع الشهامة والكرامة، فقد اتخذت الضيافة في هذه الأيام وسيلة للمضايفة ومجالاً للتسلية والمسامرة وضياعاً للمصالح. وما أحوج مصر الحديثة التي أصبحت في احتياج إلى اتجاهات جديدة أن تجد من حملة أقلامها وقادة الرأي فيها مثل هذه الشجاعة

ص: 48

فيورثون على هذه التقاليد التي تضر ولا تنفع. فإلى الأمام يا أستاذ - الطنطاوي - وأكثر من هذه الأبحاث ففيها ترقية للذوق الشرقي وتهذيب للأخلاق وسعادة للمجتمع والله موفقك ومبارك غايتك.

محمد أحمد عمر

عبر كذا. . .

رداً على الأستاذ الكبير (أ. ع) أقول:

كنت احتججت ببيت سواد بن قارب

فشمّرت عن ذيلي الإزار وأرقلت

بي الدعلبُ الوجناء عبر السباسب

وقلت في الحاشية: (ولعل من الإنصاف أن أقول: يمكن تخريج الشاهد على غير ما استشهدت له بجعل عبر صفة للناقة الخ) ومن ثم يرى القارئ أني لم أوجب أحد الرأيين، وأني أجزتهما ولكني - في هذا الشاهد - رجحت العبر بمعنى العبور، على أن يكون مصدراً مراداً به أسم الفاعل

ولكن الأستاذ (أ. ع) يحتم في رده أن تكون صفة ثالثة للناقة لا غير. ويرى أن الشاعر في مقام تعديد محاسن ناقته وما فيها من مزايا، فهو يصفها بالفتاء والقوة، وبأنها قادرة على شق السباسب الخ. . .

ورداً على ذلك أقول: لا يتعين في هذا الشاهد قصر المقام على تعديد محاسن الناقة، فإن في قوله (الذعلب) وهي الناقة السريعة، و (الوجناء) وهي القوية الشديدة، كما في اللسان ما يغني عن الوصف بأنها (عبر سباسب) وهو معنى لا يغاير سابقيه كثيراً

ويؤيدني فيما أذهب إليه ورود البيت في بعض الروايات على معنى الظرفية لا الوصفية. ففي السيرة الحلبية ج1 ص267:

فشمرت من ذيل الإزار ووسَّطت

بي الذعلب الوجناء بين السباسب

وكذلك الرواية في (سفينة الراغب ص638) نقلاً عن (أنوار الربيع في أنواع البديع)

وليس معنى هذا أنني أؤيد استعمالها ظرفاً، ولكني لا أزال أرى أنها مصدر وقع موقع أسم الفاعل. فقد خرج من حسابنا ما ساقه الأستاذ من الأدلة على أنها ليست ظرفاً، فهو رأى لم

ص: 49

أقل به.

ونرجع إلى التخريج الذي رأيته، وجهد الأستاذ أن يفنده، فقال: إن المصدر لا يقع حالاً إلا إذا كان نكرة، و (عبر السباسب) معرفة بالإضافة، وأبطل بهذا - في زعمه - تخريجي

وأقول: إن الأستاذ لم يتبين رأيي على وجهه الصحيح، إذ توهم أني أرى (عبرا) مصدراً أريد به الحال، ولم أقل هذا، وإنما قلت: إنه مصدر وضع موضع أسم الفاعل، فهو عبر معنى عابر، كما في قوله تعالى:(إن أصبح ماؤكم غوراً)، أي غائراً؛ ورجل عدل، أي عادل. . .

وسواء وقوع هذا المصدر بعد ذلك حالاً أو خبراً أو فاعلاً الخ فذلك راجع إلى السياق. . . فقد أصبحت القضية الآن: هل يشترط تنكير المصدر إذا وقع موقع أسم الفاعل، بصرف النظر عن كونه حالاً أو غير حالاً؟

لم يقل أحد هذا، فأنت تقول:(قاضيكم العدل)، أي العادل، (وأنصفني عدلكم)، أي عادلكم. فأنت ترى أني أنص على أن كلمة (عبر حال) - حتى يشترط تنكيرها - وإنما نصصت على أنها مصدر بمعنى فاعل، وكونها (حالاً) أمر اقتضاه سياق الكلام في الجمل التي ساقها الأستاذ وساعد عليه أن المصدر سيفقد تعريفه بعد التقدير، وسيصير المضاف إليه مفعولاً، وذلك في قولك:(عابرة الاطلنطي)؛ فليس ثم ما يمنع من أن يكون المصدر (حالاً) بعد أن فقد تعريفه

وبعد. . . فأني أنشد الحقيقة. . . وعلى الأستاذ أن يقنعني - إن استطاع - فأسلم له ومني عليه التحية

(بني سويف)

محمد محمود رضوان

المدرس بالمدرسة الابتدائية

حول كلمة (عبر)

سيدي الأستاذ الكبير (الزيات)

سلام الله عليك. قرأت بإعجاب كبير ما دبجته براعة الأستاذ الكبير (أ. ع) خاصاً باستعمال

ص: 50

كلمة (عبر) ظرفاً وبيان وجه الخطأ في ذلك. وإنا نوافق الأستاذ الكبير على كل ما أورده في كلمته القيمة؛ أم إدعاء الأستاذ محمد محمود رضوان صحة استعمال (عبر) ظرفاً واستشهاده على ذلك بقول سواد بن قارب:

فشمرت عن ذيل الإزار، وأرقلت

بيَ الدعدب الوجناء عبر السباسب

فهو إدعاء باطل من وجهين:

الأول: احتمال كون (عبر) صفة للناقة، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال

الثاني: فساد المعنى يجعل (عبر) ظرفاً بمعنى بعد؛ لأنه لا معنى لإرقال الناقة بعد قطع السباسب والانتهاء إلى غايتها وعندي أنه يصح أن تكون (عبر) في هذا البيت مصدراً مفعولاً لأجله، ويكون المعنى أن الناقة أرقلت لعبر السباسب أي لعبورها. وهو معنى صحيح مناسب لا غبار عليه

هذا، وللأستاذ الكبير إعجابي الكبير بأبحاثه اللغوية الممتعة. والسلام عليكم ورحمة الله

إبراهيم محمد نجا

الصباح الأدبي في دمشق

أصدر فريق من أبناء دمشق الناهضين صحيفة أدبية راقية باسم (الصباح) ولم يشأ القائمون بهذا المشروع أن يكتفوا بالشبان من الأدباء، بل اتفقوا مع فريق من أكابر الأدباء والأدبيات في البلاد العربية، كي يغذوا (الصباح) بثمرات أقلامهم الناضجة، وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة:

محمد كرد علي، شفيق جبري، خليل مردم بك، عبد القادر المغربي، محمد البزم، ميشيل عفلق، فؤاد الشائب، صلاح الدين المحايري، زكي المحاسني، وداد سكاكيني، فلك طرزي، وغيرهم.

ومما لا نرتاب فيه أبدا أن (الصباح) ستكون كما ظهر من عددها الأول مرآة صادقة للأدب الجديد الناهض في سورية.

ع. ع

ص: 51