المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 436 - بتاريخ: 10 - 11 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٣٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 436

- بتاريخ: 10 - 11 - 1941

ص: -1

‌تعقيب على رأيين

في الغناء والموسيقى بمصر

للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك

في مصر بصيص من العلم والفن مشى بنوره الأقلون، وبان لبعضهم حقائق واقعة في وطنهم، مانعة من إصلاح الفاسد وتيسير الرقي، فمالوا طبعاً إلى كشفها لقومهم بشتى الأساليب في سبيل المصلحة العامة. ومن هؤلاء أحيانا من يخص الغناء والموسيقى ببعض ما يكتب.

هذا موضوع قد يتناوله كتاب تدفعهم إلى البحث فيه مصالح خاصة، أو أهواء ليست في شيء من غرض الإصلاح، أو مقرونة بقصده، فيسيئون إلى أمتهم، أو يكون ضرر صنيعهم أكبر من نفعه. أما دعاة الإصلاح الصادقون فلا غرض لهم سواه؛ وهم لا يوجهون نقدهم إلى أشخاص معينين، بل يكشفون حقائق طور من الأطوار أدت إليه عوامل عامة أحدثت هذه الحال الشاملة التي لا يلام عليها الأفراد من مؤلفي الأغاني والملحنين والمغنين والموسيقيين.

على أن المعلمين والمثقفين، المتفوقين من أهل الفن، يلام الواحد منهم إذا هو وقف من كلام النقاد على حال فنه الحقيقية السيئة، فلم يجتهد في إنقاذه منها بما في وسعه ولو كان مقصوداً بنقد، أو واهما ذلك: لأن كل محب لفنِّه ليس يبالي إلا بما يرفع من شأن الفن. والإصلاح آت، وإن كان مما لا يتحقق في لحظة. وأغلب الظن أن الذين يمهدون طرقه، أو تتاح لهم فيها فتوح، سوف يظهرون من هذا الفريق؛ ولا يعادل انتصار على ناقدٍ لذة مسابق يسبق إلى مثل هذا الفوز وينال شرفه.

ثم إن أولئك الدعاة ينظرون إلى المستنيرين المخلصين لفنونهم ويأملون الآن منهم أن يؤمنوا أولاً بحقائق عيوبها، وأن يدركوا أن إزالة هذه العيوب يزيد الناجحين منهم نجاحا: فإن هذا الإيمان وهذا الإدراك هما مفتاح لباب الإصلاح. ولذا كان من النافع أن تتعرف آراؤهم فيما يلاحظ على الغناء والموسيقى بمصر.

أبدي شاعر نابه، عميق العاطفة، عذب الأسلوب، رأيه في هذا الموضوع بمقال جاء فيه أنه رأي، في سنة 1925، ما يهدد الأخلاق من شيوع (الأغاني المكشوفة) فدخل مضمار

ص: 1

النظم للغناء؛ وبث في الزجل (روح الشعر من الطهر والعفة)؛ وأدخل في نظمه (من أبحر الشعر ومجازاته ما وسع دائرته، وفتح للملحنين أبوابا كثيرة)؛ فتناولت الأغاني (أبواباً جديدة من الغزل البريء، كان أهم عناصره الأمل والوفاء، والذكرى والتضحية، وما إلى هذا من صفات الحب الروحاني).

صدق. وهو جدير بالشكر على نزعته الفاضلة إلى الإصلاح. غير أن الوفاء والتضحية، والذكرى والأمل، أشياء قد توجد عند محب عزيز أبي، وعند محب ذليل دني؛ وما وفاء هذا، مثلاً، كوفاء ذاك؛ وأساليب العبارات الصادرة عن الخصلة الواحدة في الاثنين، هي التي تصف لونها في كل منهما، لاختلافه باختلاف نفسيَّتيهما؛ فإن كان منظوم الشاعر الفاضل يمثل جله أو كله كلام المحب الأول، فإن منظوم غيره هو، في الأكثر، كلام الثاني وهو طاغ على الأغاني.

قال في المقال إن شعراء ناصروه في مذهبه فكانوا جميعاً أصحاب (المدرسة الحديثة). ولم تقتصر أغانيهم على الحب، (بل شملت أنواعاً من الوصف الرقيق في جمال الطبيعة)؛ وأنهم بأسرهم ينظمون للمسرح والسينما والحاكي والراديو، (وفي هذه الميادين مجال كبير للمعاني التي لا تذكر الحب)؛ وينظمون (تارة بالعربية الفصحى، وتارة بهذه العامية الفصحى).

صدق أيضاً. لكن كم من وصف الطبيعة في جملة ما يغنى؟ وهل جيد هذا الوصف بين أغانينا أوفر من رديئه؟ وهل أدرك المعاني الجيدة وغنى بها الملحن والمغني، وأداها كل منهما تأدية توافق المواقف المختلفة، وتشعر النفوس ببهجة الطبيعة؟ وكم نظم الناظمون للغناء من المعاني التي (لا تذكر الحب) في ذلك المجال الكبير بميادين المسرحيات وسواها؟ وما النسبة بين ما نظموا بالعربية الفصحى وبين ما نظموا بتلك العامية (الفصحى)؟ هذه الأسئلة أجاب عنها النقاد إجابة صحيحة بشهادة حال الغناء والموسيقى عندنا.

ومن كلامه: (القول بأن الغناء ينحدر في مصر فيه من القسوة شيء كثير، إذا قيس نتاج هذه السنين القليلة بعصور إسماعيل، وتوفيق، وعباس)؛ و (قد زال من قاموس الغناء ما كان في القديم من ذكر الدلع والخصر والكفل. . . والخمر ومجلسها، والنديم ودلاله)؛ و

ص: 2

(انعدم من جو الغناء ذلك الغث المحدث، وليد الحرب والثورة)

أليس في هذا الكلام مبالغة إذا جرد منها انعكس معناه؟ فإن (جو الغناء) متسع لأكثر من جيد أغاني المجيدين من شعراء اليوم؛ وليس من كلامهم العف كل ما يغني، ولا أوفره؛ ولم ينعدم في الأغاني (ذلك الغث المحدَث) ولا ذكر الدلع والدلال. وقد يوصف يوصف جمال الإنسان بلا تمجن، كما يصوره المثال، وإنما العبرة بأسلوب الوصف. وكم يعبرون عن الشهوات الحسية بلهجة في اللحن وحركة في الغناء، فيأتي تعبيرهم الصوتي الماجن أبلغ من الكلمة الصريحة، ويثير غريزة الجمهور؛ وذكر الخمر والخصر خير من تمثيل الاستخذاء والذل.

والأهم أن تلك العصور كان، من الجهة الفنية، أرقى من غناء اليوم، إذ كان ملائماً لأغانيها، وأصدق بملاءمته تأدية لمعانيها، وأقرب إلى القلوب بصدقه وخلوه من التخليط المشوه للفن. وقد غنوا قصائد وتواشيح، وأدواراً سياسية، وعزفوا بشارف. ذلك عهد مضى عليه ربع قرن، وأصبح الغرب في مصر، وصاحت مصر في الغرب؛ وهي اليوم في عصر الجامعة، ومعاهد الموسيقى، والحاكي، والسنما، والراديو؛ ومع هذا كله فقد صرنا نؤدي الأغاني بخليط من الألحان كثيراً ما يتنافر فيه الترح والمرح، والشرقي والغربي، وبمزيج من أنغام معزف تضارب أنغام حناجر، في الغالب. ذلك بأننا تركنا الشعور والفهم وتبعنا السمع الضال والغريزة الجامحة والتقليد الأعمى. فليست الموازنة بين الماضي وبين هذا الحاضر في مصلحة نتاجه.

احتج، من غير موجب للتغني بالحب حيث قال:(كيف تخلو الأغاني من ذكر الحب، والله سبحانه وتعالى قد بنى الملك عليه وعمر. . . وليس في الوجود عاطفة أبعث للتضحية وأحيا للأمل، وأخلق للنبوغ من هذه العاطفة الكريمة)

ولكن أحداً من الناس نشر نقد له لم يقل بتجريد الأغاني من ذكر الحب، وإنما قالوا ألا يقصر الغناء عليه، وألا يقصر هو على العاشق الذليل البكاء: لأن حبه ليس من تلك (العاطفة الكريمة) في الإنسان السليم من الآفات النفسية والجسمية؛ وهو ضحية الاستهانة به، فبأي الأشياء يضحي بعد الكرامة؟ وأي أمل لميت الأحياء؟ وفي أي ميدان ينبغ راض بالخزي أو معجب بمثاله؟

ص: 3

واحتج للشكوى والاستعطاف بقوله: (لم تخل أغانينا من الشكوى والاستعطاف، فهما في مرآة القلب أبداً؛ ولكنها شكوى الحافظ للعهد، الباقي على الود، وهي ناحية في دمنا نحن المصريين. . . ولقد ألفت أغاني كثيرة في البطولة، والوطنية، والأخلاق. . . ودخل في أناشيد. . . معان جليلة في العزة والاستقلال؛ ولكن الطلبة، والجند، والشعب، لم يرددوا منها كثيراً ولا قليلاً)؛ و (ردد الناس أكثر ما رددوا هذه الشكوى فطغت على بقية الأغاني واتهم الغناء عامة باللين والميوعة)

فكأن اعتراض النقاد على الأغاني من الشكوى والاستعطاف سببه هما في ذاتهما، وإنما المنكر هو ذلك الروح العليل الذي ينفث الذل فيهما، وهو طغيانهما طغياناً يتفشى معه الاستخذاء بالناس؛ فالاحتجاج لهما مناقض لمصلحة المصرين ومصلحة الفن.

وفي كم من الأغاني نجد (شكوى الحافظ للعهد، الباقي على الود)، ونجد استعطاف الإنسان الحر؟ أليس الأغلب أنهما شكوى حيوان أذل من كلب مضروب، واستعطاف هو الكدية الحقيرة؟ فأي الأخلاق هما مثاله! وحتى الأغنية البريئة من هذا العيب الشنيع قد يجرد اللحن والغناء شكواها واستعطافها من كل كرامة.

فالنقاد على حق في اتهامهم (الغناء عامة باللين والميوعة) لما طغى - كما قال بحق - على الأغاني من الشكوى الخانعة المائعة والاستعطاف الذليل، ولغير ذلك من عيوب الأغاني والتلحين والغناء جميعاً. وليس من الصواب أن يقال إن هذا الطغيان سببه ترديد الناس لتلك الشكوى، وإنما طغت الشكوى من الأغاني فجرفهم طوفانها. ولو كان أهل الفن قد انساقوا وراء الشعب لكان صنيعهم تجارة لا فناً كما يزعمون.

أما قوله: الشكوى (في دمنا نحن المصريين)، فهو كلام قد رجح فيه الشعر والإنشاء وعنى ظاهراً من الحال ولم يصب الحقيقة. وحسبنا أن نلاحظ أن هذا الشعب المصري بعينه يتحمس لأبي زيد وعنترة تحمساً يدل على أن سر ميله إلى الأغاني الشاكية الباكية هو غير ضعف قابليته للطرب من غناء المعاني القوية وللتغني بها، إن صح أن هذا الضعف فيه.

إن أغاني البطولة والعزة، والوطنية والاستقلال، إذا أخرجت بطابع التميع والتخنث في ألحانها وفي غنائها وموسيقاها، كان هذا التناقض البين فيها مضحكا إضحاك نشيد مشهور في مصر بهذه السخافة. وقد تعمد إظهار هذا التناقض كلوديس، الممثل الهزلي الفرنسي،

ص: 4

في أغنية حربية غناها بلحن غرامي، فاستغرق النظارة في الضحك وصفقوا له أي تصفيق. وإذا أغانٍ من هذا القبيل سمعت باعتبارها جدية، كانت مدعاة للسخرية والاحتقار، فلا غرابة إذا مجتها الأسماع وعافتها الطباع، ولو جادت من كل وجه لتغني بها الناس.

ومن طريف الاحتجاج للأغاني التي يضعفها طغيان (الشكوى والاستعطاف) تعليله ضعفها - أو قلة الأغاني القوية - ليس بما (في دمنا نحن المصريين) فحسب، بل بطبيعة أصوات معازفنا أيضاً، مبرراً بذلك ضعف أغانينا وموسيقانا معاً، إذ قال:(كيف يقوم التخت بالإكثار من هذه الأغاني القوية وقد خلق من أنة العود وحنة الناي ورنة القانون؟)

الجواب أن هذه الآلات الأتانة الحنانة الرناتة، هي مع ذلك صيتة، منتهرة، نعارة، تخرج البشارف القوية المعاني، المطربة بما فيها من الشدة والرقة على أحسن تقويم، كما يجمع الافتنان البديع بين الغزل والحماسة لا بين الغزل والذل؛ تلك البشارف التي تتخيل موسيقاها معبرة بشدة في رقة عن حب، حب النفس العزيزة الأبية، تعبيراً بعيداً عن ذلك التناقض في كلام محارب يتهدد بصوت مغازل، أو في كلام جزل المعاني يغنيه صوت تلوثه نفس مخنثة، متضعضعة، أريدت على التحمس.

أو ليس لهذه المعازف أشباه مقاربة في الآلات الغربية لا تصم أغاني الغربيين بطابع الخور والمذلة؟؟ أليس هذا التخت هو الذي يقحم في غنائنا جملاً موسيقية قوية، أو أخلاطاً مسيخة من الأنغام الأجنبية لا توائم سياقه؛ وهو الذي يشرك بعض معازف الغربيين في تأدية ما نسرق من ألحانهم؟؟ فكيف نتوهم أن ضعف أغانينا وغنائنا سببه (أنه العود وحنة الناي ورنة القانون)؟ إنما الصحيح هو العكس. ولم لا نحاول تحسين معازف التخت واختراع غيرها في سبيل الإصلاح المنشود على كل حال؟؟

تلك الكلمة في التخت وما ورد في المقال من أن توسيع دائرة الزجل (فتح للملحنين أبواباً كثيرة) هما كل ما ذكر الشاعر على التلحين والموسيقى. والواقع أن النقاد قد نهبوا إلى عيوبهما جميعاً، وشمل نقدهم الغناء - أي فن المغني ذاته - بل إن الكاتب اللبق عارض النقد برمته، مبالغاً في الإيجاز، بقوله: إنه هو ومن ناصره في مذهبه من (شعراء هذه المدرسة الحديثة) ألفوا الأغاني (فانتشر غناء جديد وموسيقى جديدة كانت غريبة على الخاطر والسمع معاً - أول الأمر - ثم مال إليها الشعب فتغنى بها في كل مكان)

ص: 5

إذا كان الشعب تغنى بها لأنها الشكوى التي في دمه فلم كانت غريبة على السمع والخاطر معاً أول الأمر؟؟ وإذا كان يتغنى بها لغير ذلك، أو لهذا وذاك، فباب الأمل مفتوح لمن يتوخى الإصلاح: لأن (المدرسة الحديثة) تقرر أن فنها قد غير ذوق الشعب في زمن قصير، أوله سنة 1925، حتى قبل ما كان غريباً على السمع والخاطر، فتغنى به الناس في كل مكان. وهذا تقرير يؤخذ منه أن ما في دماء المصريين من الشكوى، على قول صاحبه، لم يحل دون تذوق الموسيقى الجديدة التي خلطت الأوبرا بالجاز، وأن تغيير الذوق المصري في مدة وجيزة أمر ممكن. فلم يبق إلا أن نجعل التغيير إصلاحاً بدل الإفساد، ولو في زمن أطول.

بيد أن الإصلاح المنشود قد يمتد به الزمن امتداداً لا نهاية له إذا كانت الجهات التي يجب عليها أن تؤيده تميل - على العكس - إلى معارضته بمثل الصوت الرسمي الذي قرر أنه (يجب ألا ننسى اختلاف الأذواق وتباين وجهات النظر في التقدير عند البحث في جمال الصوت وسلامة الأغنية من العيوب التي يشكو منها بعض دعاة الإصلاح).

أي نظر وأي ذوق عناهما هذا الإيجاب؟ أي نظر، يا ترى، في مثل الفرق الواضح بين الليل والنهار، ونحن نتمنى أن يسمو بنا التعليم والتهذيب إلى أعلى مستويات الأمم الراقية في هذا العصر المنير؟! نرجو ألا يكون نظر العامة وأشباه العامة ممن تغرهم قشور من معارف لا يدركون ما وراءها من حقائق، نظر جماعات كأن أبصارهم لا تتصل بسوى أجسادها، فلا علاقة لها بأنبل ما في النفس الإنسانية من ملكات؛ أو نظر أفرادٍ ضئيل تهذيب مشاعرهم في الحياة، قليلٍ إطلاعهم على تحف من أنواع الفنون، تافهةٍ ثقافتهم الفنية، سقيمةٍ بهذا النقص آراؤهم في الغناء والموسيقى.

وأي ذوق بالله في العيوب التي يشكو منها بعض دعاة الإصلاح؟! أهو ذوق تلك الجماهير التي تغشى مجالس الغناء بإنصافها السفلى وحدها، فلا تستطيع أن تكبح جماح غرائزها إذا هي أحست من الصوت حركة تخنث أو همسة تأنث، فينطلق عنان حيوانيتها، وتضطرب أجسامها يمنة ويسرة في قيام وقعود وتلويح بالجوارح، ويعلو صغيرها وهذيانها استعادةً شاطة لما لا تفهم في الغناء سواه من دواعي الشبق؛ وقد تقطع بعجيجها وضجيجها أجمل الجمل الصوتية التي يتأنق بها المغني في إظهار افتنانه وقدرته، فتذهب مزايا هذه الجمل

ص: 6

وتبقى الجماهير بثورتها البهيمية أشبه بتلك القبائل الهمجية في حفلاتها الهائجة المائجة، وذلك كله لا مثيل له في أمة راقية من عالم المدنية.

والأعجب أن المغنين لا يظهرون امتعاضاً من هذا الاعتداء الصارخ على فهم لعلهم يهذبون هؤلاء المستمعين، بل هم يسرون بعمل المعتدين، إذ يعتبرونه دليل الاستحسان لفنهم، وإنما هو استحسان لشيء مخجل في غير محله ووقته؛ ولو كان للفن في ذاته تقدير وحرمة عند تلك الجماهير، لأظهرت استحسانها بعد سماع الأغنية أو الجمل الممتازة في غنائها، كما يفعل المستمعون بأنصافهم العليا وحدها من أهل المدنية.

فمجمل كلام الشاعر الفاضل أن المدرسة الحديثة أبدلت الحب الروحاني بالحيواني في الأغاني، وضمنتها شتى المعاني، وقد فضل الأغاني الحديثة، بمقاصدها وعباراتها، على أغاني عهد مضى؛ وبرر ما فيها من الشكوى، وهي تفجع وهوان، ودافع عما يسمونه الموسيقى الجديدة ولم يبين ما هي، وما هي إلا تخليط شنيع.

وذلك كله يتعلق بالعرض من فنون الغناء والموسيقى، سواء أعد من الصفات المستحسنة أم العيوب المستهجنة. أما الذي يتعلق بالجوهر فهو الداء المفسد الوبيل، الموجب للنقد، المتأصل في تلك الفنون، وهو ما لم يذكر الشاعر ولم يشر إليه الصوت الرسمي بحرف.

ألا إن وجه النقد الباقي بحذافيره راجع إلى (ماهية الموسيقى والغناء الأصلية، أي الدلالة الصوتية على الأحاسيس والخواطر)، عائد إلى عيوب الائتلاف (بين معاني كلام الأغنية ومعاني لحنها وغنائه، ومعاني موسيقاها)؛ وهو منصب على جهلنا (أن اللحن الموسيقي إنشاء يجب ألا تتضارب الجمل الصوتية في سياقه) من (تخليط قديم مسيخ بمسروقات محرفة من الألحان والموسيقى الغربية، القديمة والحديثة، ومن أصوات الجاز)؛ وهو منبه على أننا لا نسلك سبيل الشرقيين القدماء، أو الغربيين المعاصرين لنا؛ في التغني بمختلف الأحاسيس في مواقف الحياة الإنسانية المحوطة بجمال الطبيعة، ومنبه أيضاً على أننا لا (نقلد الغرب فيما ارتقت إليه موسيقاه من التصوير. الذي عظم شأنه بالتحسين والابتكار في المعازف).

وقد قلت إن (الفنان يؤثر في بيئته وجمهوره وإن تأثر منهما، ومن هنا نصيبه في تهذيب ذوق الجمهور وإعلاء مثله الأعلى بقدر مواهبه وسحر فنه؛ ومن هنا تبعة الفنون الضالة

ص: 7

ومسئولية أصحابها في إفساد الأذواق)؛ وإن في مصر (معاهد أهلية وحكومية للموسيقى يجب عليها أن تلتفت إلى حقيقة حال هذه الفنون عندنا وإلى ما يصلح من شأنها، فذلك خير لها من أن تظل على الأيام صوراً جوفاء خاوية، لا تصلح إلا لتمكين الفن السقيم الضعيف والمحافظة عليه)

لكن ذاع صوت رسمي كأنه يقول: (ليس في الإمكان أبدع مما كان!) فصدق القائل: (لما يصل رقينا إلى أن نشعر أن الغناء تربية للأمة)

محمد توحيد السلحدار

ص: 8

‌مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

إبراهيم الكاتب

للدكتور زكي مبارك

(الكتاب والمؤلف - جناية المازني على موهبته الشعرية

وعلى أسلوبه في الإنشاء - ضاع المازني الشاعر فما مصير

المازني الكاتب؟ - المواهب تلاحق أصحابها ولو فروا منها

إلى شعاب الجبال - المازني الشهيد - من إبراهيم الكاتب؟ -

الحب في نظر وزارة المعارف.

الكتاب والمؤلف

يقع الكتاب في 384 صفحة بالقطع الصغيرة، وثمنه عشرة قروش، وهو يطلب من مكتبة عيسى الحلبي بالقرب من مسجد الحسين.

والمؤلف لا يحتاج إلى تعريف، فهو الأستاذ إبراهيم عبر القادر المازني أحد أقطاب الأدب الحديث.

ولكن شهرة المازني في مصر وفي سائر الأقطار العربية لا تعفينا من النص على خصائص ذاتية لم يعرفها القراء من قبل وإن كان المازني لم يترك مجالاً لمن يريد أن يتحدث عنه بإيجاز أو إطناب، فأشعاره ومقالاته تسجل ما فيه من محاسن وعيوب.

وهنا يحتاج الكلام إلى تقييد، فالمازني مغري بالسخرية من نفسه، وقد يتوهم من لا يفهم أنه لا يقول عن نفسه إلا الحق وذلك وهم فظيع، فهذا الرجل من أهل الجد الرزين، وله مبادئ أدبية وقومية يحرص عليها حرص الأبطال، وأقل ما يوصف به المازني أنه (رجل شهم) وهو من عناوين المروءة في هذه البلاد.

عرفت المازني معرفة أدبية لا شخصية في أعوام الحرب الماضية، وكان قد أخرج كتاباً في نقد (حافظ إبراهيم) وكان نقد حافظ في تلك الأيام يعد من شواهد التفوق. ثم زاد

ص: 9

اهتمامي به حين سمعت أن حافظ إبراهيم كانت له يد في إخراج المازني من وزارة المعارف (وأنا هنا أحكي كلاماً قاضت به المجالس في ذلك العهد بغض النظر عما فيه من صحبة أو بطلان).

ثم جاءت فرصة رأيت فيها المازني وجهاً لوجه في سنة 1922 ولكن كيف؟

كان الأستاذ عبد القادر حمزة اشترك مع عبد اللطيف بك الصوفاني - رحمهما الله - في إخراج جريدة الأفكار بصورة تجمع بين مقاصد الوفد المصري ومبادئ الحزب الوطني، وكان عبد القادر ينظر إلي بارتياب لصلتي الوثيقة بالحزب الوطني، فكان يخفي عني أسماء المحررين الذين يساهمون في التحرير من بعيد، ومن هؤلاء كاتب تنشر له (الأفكار) سلسلة من المقالات الرائعة بعنوان (الإسناد المتداعية) فمن ذلك الكاتب؟ من ذلك الكاتب؟ ليتني أعرف!

وفي ذات يوم دخلت على الأستاذ عبد القادر حمزة أبلغه ملاحظات الصوفاني بك على بعض ما في (الإسناد المتداعية) من آراء فابتسم وقال: اسأل الأستاذ! فنظرت فرأيت المازني في حال تستوجب الرثاء، فقد كان دامي العينين، وكان كيانه يشهد بما يعاني من إعياء، وكذلك عرفت أن إبراهيم المازني هو صاحب (الإسناد المتداعية)

وبعد خمسة عشر عاما من ذلك التاريخ عرفت المازني خبراً يشبه هذا الخبر الغريب، وحياة هذا الرجل كلها غرائب.

كنا زميلين في تحرير جريدة البلاغ، ولم يكن بيننا ما يقع عادة بين الزملاء من التنافس المكبوت، فأسررت إليه مرة أن عندي موضوعاً أتهيب الكتابة فيه، لأنه قد يضايق فضيلة الشيخ المراغي، وهو إعلان الرسائل التي تنال بها العضوية في (جماعة كبار العلماء)، وبينت له أن من الواجب أن يكون حال تلك الرسائل شبيهاً بحال الرسائل التي تنال بها الدكتوراه من الجامعة المصرية، فهي تطبع وتنشر ليعرف الجمهور أن الجامعة لا تعطي الألقاب العلمية بدون استحقاق، فما الذي يمنع أن يكون الأمر كذلك مع (كبار العلماء)؟؟

وطرب الأستاذ المازني لهذه الفكرة وقال إنه سيذيعها بالنيابة عني، وكان مفهوماً أنه سيذيعها على صفحات (البلاغ) فماذا وقع؟

رأيتها منشورة بعد أيام في جريدة (الأهرام) بدون إمضاء فعرفت من جديد أن المازني

ص: 10

بروحين أو أرواح، وعرفت أن الذي كان يراسل (الأفكار) وهو في (الأخبار) هو نفسه الذي يراسل (الأهرام) وهو في (البلاغ). ثم تعقبته فعرفت أن بينه وبين الأستاذ أنطون الجميل صلات، وأنه ينشر في (الأهرام) أشياء بدون إمضاء، رعاية لمكانه في (البلاغ).

جناية المازني. . .

لا يحتاج القارئ إلى معرفة الأسباب التي استوجبت أن يتحرر المازني من خدمة الحكومة المصرية، وكان منذ أكثر من ثلاثين سنة أستاذاً بالمدارس الثانوية. وكان الظن أن يصير من أقطاب وزارة المعارف، لو صبر على ما توجب الحياة الرسمية من تكاليف خفاف أو ثقال. . . لا يحتاج القارئ إلى معرفة تلك الأسباب، لأن المازني لا يصلح أبداً لحياة الهدوء والاطمئنان. ولو أجلسناه على كرسي الوزارة لخلع نفسه بعد لحظات، ليقول في الوزارة ما يشاء، وليغمز الرسميين كما يريد.

وقد اشتغل المازني بالتعليم في المدارس الأهلية، ولعله أنشأ لنفسه مدرسة لم تظفر بطول البقاء. ومن المؤكد عندي أن (الكاتب) هو الذي أضاع (المدرس)؛ فما كاد يرى بوارق النضال السياسي حتى اندفع إليه بقسوة وعنف، وكانت باكورة مقالاته السياسية ردا على المرحوم إسماعيل أباظة باشا. وكان هذا الرجل على جانب من القوة والعمق، وكان لا ينشر شيئاً إلا بعنوان:(بيان لا بد منه)، فرد عليه المازني في جريدة (النظام) بمقال عنوانه:(لا بد مما ليس منه بد)

ومضى المازني ينشر في الجرائد مقالات سياسية في تأييد الخطة الوفدية. وجاء (مشروع ملنر) وكان للصحفيين الوفديين في تأييده مجال - وكانت المعارضة في ذلك الوقت بيد الحزب الوطني - ثم ظهر مفاجأة مقالان في نقد ذلك المشروع لكاتبين وفديين، هما المازني والعقاد، فدعاني الأستاذ محمد الههياوي إلى التعليق على هذين المقالين. وكان رأيه أن ذلك صدع في بناء الهيئة الوفدية. ولكن شجاعة المازني والعقاد أوجبت أن أخصهما بكلمة ثناء.

وجاء الخلاف بين أمين الرافعي وسعد زغلول، فادفع المازني في الهجوم على الوفد. وكانت مقالاته غاية في القوة البيانية، وفي حرارة أخطر من الجمر المتوقد، بحيث لا يشك قارئ في أن (الكاتب) سيعادي الوفد إلى آخر الزمان، ولكن هذا (الكاتب) الذي يعادي الوفد

ص: 11

علانية في جريدة الأخبار هو نفسه (الكاتب) الذي يزور جريدة الأفكار كل صباح ويقدم إليها في تأييد الوفد أشياء!؟

ويمر زمن قصير فنرى المازني يعطف على الجريدة الرسمية للحزب الوطني ويصادق الشيخ عبد العزيز جاويش. ثم يثبت فجأة فينتقل إلى حزب الاتحاد ويزامل الدكتور طه حسين في تحرير جريدة (الاتحاد)، مع انعطافات خفية يغمز بها هذا الحزب في جريدة (الأخبار). ثم ننظر فنراه مع الأحرار الدستوريين في صحبة الدكتور محمد حسين هيكل رئيس تحرير (السياسة)، ونلتفت فنراه انتقل إلى (البلاغ)، وبوصوله إلى (البلاغ) خطرت له فكرة الاستقرار الموقوت!؟

وفي أثناء هذه التنقلات السياسية كانت للمازني تنقلات أدبية، فكان يرسل إلى المجلات ما تقترح عليه. وقد أنشأ لنفسه مجلة كما كان أنشأ لنفسه مدرسة؛ ولكن المازني رجل ملول، وإنشاء مدرسة أو مجلة يحتاج إلى شمائل تبغض الملال.

ولم يقف المازني عند هذه المراحل من التنقل السريع، فخلق لقلبه وعقله مجالات كثيرة في الحجاز والشام والعراق، فهو من أعرف الناس بالتيارات الفكرية والسياسية في أكثر البلاد العربية.

أراني أطلت من غير طائل، فماذا أريد أن أقول؟

أريد أن أهوى بيدي على رأس المازني فأحطمه بلا ترفق، عقاباً على ما صنع بنفسه بلا ترفق!؟

كان المازني من أكابر الشعراء، وكان يستطيع أن يمد الشعر بقوة وذوقية تصل ما انقطع من لوامع هذا الفن الجميل.

ولكن المازني الذي (انشغل) بالكتابة في جميع الأوقات ولجميع الأحزاب لم يعد يجد الفرصة للغناء، ولا بد للشعر من غناء. والغناء يوجب الخلوة إلى النفس من حين إلى حين؛ ومتى يخلو إلى نفسه من يعاني ضجيج المجتمع السياسي في الصباح والمساء، ومن عود نفسه الأنس بالقيل والقال في الكبائر والصغائر من شؤون هذا المجتمع الصخاب؟

وهنا يظهر انخداع المازني أو خداعه، فهو لا يقول إنه مشغول بالكلام عن الغناء، وإنما يكابر فيزعم أنه لم يبق للشعر في الدنيا مكان، وأن الشعراء ليسوا إلا جماعة من الحمقى

ص: 12

والمجانين!

وحول هذه القضية ثارت الخصومة بيني وبينه على صفحات البلاغ حين ظهر ديواني في سنة 1934، وهي خصومة مست قلب المازني، وكان من المحتمل أن تكون لها عواقب سود، ولكن الرجل تراجع حين عرف أن غضبه لم يقم على أساس.

وبعد أعوام حدثته بأني انصرفت عن الشعر فحملق في وجهي حملقة الغول وهو يصرخ: (أنت تبت! أنت تبت!)

وكذلك يرى المازني أن الانصراف عن الشعر توبة، وكأنه يجهل أنه أساء إلى وطنه إساءة ستجعله من أهل النار يوم يقوم الحساب، فضياع شاعر مثل المازني ليس إلا نكبة وطنية. لا جزاء الله إلا بما هو له أهل!

ضاع المازني الشاعر، فما مصير المازني الكاتب؟

بدأ المازني حياته النثرية بالطريقة الجاحظية، وهي تقوم على أساس الازدواج، وقد وفى المازني لهذه الطريقة أصدق الوفاء في أمد يزيد على عشر سنين، وكان عهده في رحاب هذه الطريقة أجمل عهوده الأدبية. فقد كان نموذجاً للكاتب الفنان، وكان بناء الجملة على سنان قلمه غاية في المتانة والجمال.

ثم جنى المازني على نفسه بالكتابة اليومية، ولكن كيف؟ يدخل الجريدة فيتحدث ويتحدث ثم يتحدث إلى أن يضيع الوقت وإلى أن تنفذ قواه، وفي آخر لحظة يكتب المقال المطلوب بأي أسلوب، وكذلك صار المازني يكتب كما يتحدث، وبين الكتابة والحديث مراحل طوال.

ثم ماذا؟ ثم ابتدع المازني طريقة جديدة هي كتابة أكثر مقالاته وقت إنشائها بالكتاب، فينشئ المقال على أصوات: طق طق، طق!!

هل فهمتم ما أريد؟

المازني اليوم لا يكتب كما نكتب بقلم ومداد وقرطاس، ليستطيع المحو والإثبات كما نستطيع، وإنما تدور أنامله على الكتاب بوحي من رأسه الموهوب؛ فيخرج المقال وهو كلام لا إنشاء.

فمن هاله أن يرى بناء الجملة عند المازني الجديد يخالف بناء الجملة عند المازني القديم فليذكر هذا التاريخ من حياة هذا الفنان.

ص: 13

ولكن. . .

ولكن المواهب تلاحق أصحابها ولو فروا منها إلى شعاب الجبال، فالمازني أديب موهوب، وهو كتلة من العواطف والأحاسيس، ومواهب هذا الرجل لن تتركه بعافية، وسيظل المازني هو المازني، ولو انتقل من تسيطر مقالاته على الكتاب إلى تسطيرها على الهواء.

ولعل لله حكمة فيما صار المازني إليه، فهو الشاهد على أن الفطرة أفضل من الفن، وهل الفن إلا الصدق في النقل عن الطبع؟

المازني الجديد فنان بأسلوب جديد، وسيكون له مكان في تاريخ الأدب العربي، فسيقال حتما إنه عاون على حماية اللغة الفصيحة من عوادي الجمود.

لقد بدأ للأستاذ محمود تيمور أن يؤلف بعض الأقاصيص باللغة العامية ليغزو قلوب الطبقات الشعبية، فهل وصل إلى ما يريد؟

إن كتابة المازني - وهي غاية في إيثار الفصيح - أسهل وأوضح من كتابة تيمور العامية، ولو ترك مصير اللغة إلى من يخطبون ود العوام لصارت إلى البلبلة ثم الفناء.

والأستاذ محمود تيمور له يوم، وسنلقاه بعد قليل، فله فوق هذه المشرحة مكان.

المازني الشهيد

رأينا المازني في هذه الصفحات إنسانا يتنقل من أفق إلى آفاق. فهو مدرس أولاً، وشاعر ثانياً، وكاتب ثالثاً، ورأيناه يساير جميع المبادئ وجميع الأحزاب، فهل نعده من أهل الرياء؟

لا بد مما ليس منه بد.

لا بد من أن تقال في هذا الرجل كلمة الحق، فمن الإجرام أن نترك أدباءنا تحت حماية الأقاويل والأراجيف، وهم صوت مصر في الشرق.

المازني الذي عرفته رجل صادق إلى أبعد الحدود، صادق في البغض وصادق في الحب، صادق في الجد وصادق في المزاح.

كان صادقاً في تأييد الأحزاب التي أيدها بالقلم واللسان. كان وفدياً صادقاً وهو يؤيد الوفد المصري، وكان وطنياً صادقاً وهو يؤيد الحزب الوطني، وكذلك كان حاله مع الدستوريين

ص: 14

والاتحاديين، ولو بدا له أن يعاون الشيطان لبلغ غاية الصدق في تأييد الشيطان!

هذا رجل يعيش بأعصابه واحساساته، وقد يكون لبلائه باحتراف القلم تأثير في تقلباته النفسية والوجدانية. وما ظنكم برجل يكتب كل يوم فيستنفذ ما يملك من بواعث القرار والهدوء؟

وأهجم على الغرض الذي أرمي إليه فأقول: هذا رجل جنى عليه قلمه، وجنى عليه إحساسه، فلم يعرف قيمة الصبر على الانحياز إلى إحدى الجهات، في زمن لا يعيش فيه المفكرون إلا بأسندة من العصبيات السياسية أو الاجتماعية.

وزارة المعارف نسيت المازني، فبينها وبين صحبته القديمة أعوام وأجيال

والأحزاب السياسية لا تذكر المازني، فقد تقطع ما بينه وبينها من أسباب.

لا يعرف المازني غير قرائه وهم أقوام لا حول لهم ولا طول، فإلى من يتوجه هذا الرجل إذا بدا له أن يقصف قلمه في ساعة ملال؟

الموظف الذي ينتفع بمرور الأيام في احتساء القهوة والتأشير على بعض الأوراق يواجه الشيخوخة وله معاش يضمن له الراحة والاطمئنان

والمتجرون في التراب يجمعون الألوف، وحدث ما شئت عن المتجرين في البهتان!

فما مصير (إبراهيم الكاتب) وقد قضى نحو أربعين سنة في صحبة القلم والقرطاس؟ ما مصيره وقد عادى الجميع في سبيل رسالته الأدبية؟

المازني حساس إلى الحد المزعج، وهو يغم حين يرى اسمه (إبراهيم) وضعت فيه ألف بعد الراء، فهو عند نفسه (إبرهيم) لا (إبراهيم) والجنون فنون!

وهذا الإحساس المرهف هو الذي صير هذا الكاتب إلى ما وصفنا في هذه الصفحات، فهل من الإسراف أن نطالب الدولة برعاية المصاير لمن يكونون في مثل حاله من العناء بحرفة الأدب والاكتواء بنار الكتابة كل يوم أو كل أسبوع في آماد طوال لا تصلح بعدها النفس لانتهاج مذهب جديد في الحياة المعايشة؟

إن الذين صدقوا في خدمة الأدب آحاد، لا عشرات ولا مئات، فهل تعجز الدولة عن تدبير معاش لأولئك الآحاد حين يطيب لهم أن يستريحوا من متاعب البيان؟

من إبراهيم الكاتب؟

ص: 15

إبراهيم الكاتب قصة غرامية تفرعت إلى شجون وصفية واجتماعية، وقد تحدث المازني في المقدمة عما سلك من طرق التأليف، بإسهاب يغني عن النص على ما فيها من مقاصد وأغراض. إنما يجب النص على مسألتين سلك فيهما المازني مسلك التحريف ولا أقول التضليل!

أما المسألة فهي إصراره على أن إبراهيم الكاتب غير إبراهيم المازني، وحجته أن إبراهيم الكاتب يتلقى الحياة باحتفال، أما إبراهيم المازني فيتلقى الحياة بغير احتفال (؟!)

وأقول إني صحبت المازني أعواماً في جريدة البلاغ وأياماً في مدينة بغداد، فما رأيت أشد منه احتفالاً بالتوافه من شؤون الحياة، فهو يغضب ويثور لأوهى الأسباب، فكيف يكون حاله فيما يمس جوهر المنافع الحيوية؟

أما المسألة الثانية، فهي الصفحات المنقولة حرفيا عن كتاب (ابن الطبيعة)، ويقول المازني: إن هذا توارد خواطر لا سرقة أدبية؛ ويقول الأستاذ علي أدهم: إن المازني نقل هذه الصفحات متعمداً ليجد الشاهد - عند اللزوم - على أن توارد الخواطر هو الأصل فيما ينسب إليه من سرقات، وهل من المعقول أن يسرق الكاتب خمس صفحات؟!

وهنا نعرض فكاهة تستحق التسجيل:

كنا في جريدة (البلاغ) في الأسبوع الأول من قدوم السير (لامبسون)، وهو رجل فارع الطول، ورأت إحدى الجرائد الإنجليزية أن تنص على طوله، فنشرت جزءاً من صورته في الصفحة الأولى وقالت: إن البقية في الصفحة الثانية!!!

فقال المازني بغير وعي: ما الذي يمنع من سرقة هذا المعنى؟! واتهام المازني بالسرقات الأدبية معروف، ولكن هذا لا يغض من قدرته البيانية، فلعله أول مترجم في مصر يوهمك وهو يترجم أنه الكاتب الأصيل.

عند المازني عبارات كثيرة مجنحة بأخيلة أجنبية، ولكنها لا ترد في كلامه إلا وهي مطبوعة بإحساسه الخاص، فهو يستأسر للمعنى والصورة قبل أن يفكر في السرقة أو النقل. . . فهل تراني أحسنت الدفاع عنك يا صديقي؟

الحب في نظر وزارة المعارف

ص: 16

قصة (إبراهيم الكاتب) قصة غرامية، وفيها ألوان من اضطرام العواطف والأحاسيس، فكيف جاز لوزارة المعارف أن تقررها لمسابقة الأدب العربي بين طلبة السنة التوجيهية، مع أن هذه الوزارة كان يؤذيها أن يكون في المحفوظات المقررة شيء من الغزل والتشبيب؟

تلك وجهة جديدة في وزارة المعارف، فهل نراها بمنجاة من الانحراف؟

ولكن، ماذا جنت وزارة المعارف في عهودها السوابق من إخفاء قصائد الحب عن التلاميذ؟ هل جعلتهم أقوى من تلاميذ إنجلترا وألمانيا، والحب عند هاتين الأمتين له في جميع النصوص الأدبية مكان؟

لوزارة المعارف عندنا صوت في إدارة الإذاعة اللاسلكية، فهل اعترضت على أغاني الحب؟؟ وكان لوزارة المعارف رأي في توجيه الفرق التمثيلية، فهل اعترضت على الروايات التي يقع فيها تقبيل وعناق؟؟

آن لوزارة المعارف أن تعرف أنه لا موجب للهرب من المطالب الروحية، وأن الحزم كل الحزم في أن تتولى هي تربية العواطف في صدور التلاميذ، لا أن تترك عواطفهم لرياضة الجهلة من السفهاء.

المحرم هو الإسفاف في تصوير الشهوات، أما تشريح عاطفة الحب باعتبارها عاطفة إنسانية، فهو غرض يوجبه التعليم والتثقيف.

وما قيمة الحرص على إخفاء الجمال مصوراً في قصيدة وجدانية، وهو يعرض كل لحظة في شوارع القاهرة، وقد يباع بلا ميزان؟

كونوا أساتذة التلاميذ في جميع الشئون، واحترسوا من تركهم تحت رحمة الأهواء، واعلموا أن شغف التلاميذ بالنظر في أحاديث الحب يرجع إلى إصراركم على القول بأنه حرام لا مباح، فقديماً قيل: كل ممنوع متبوع.

وسلام على إبراهيم - إبراهيم الكاتب - من صديقه الحميم:

زكي مبارك

ص: 17

‌كليلة ودمنة

للدكتور عبد الوهاب عزام

(تتمة)

ص 195 س 15: (أرادوا إدخال النقص عليك في ملكك) قال الأستاذ: (كلمة النقص ركيكة في هذا المعرض لا يقولها مثل ابن المقفع وإنما هي النقض بالضاد المعجمة) ولست أرى في النقص هنا ركاكة. وما كان لي أن أغير الذي أمامي في أمر لا دليل فيه، وهذا دأبي في تصحيح الكتاب، ولو كان الأمر إلى اختياري لما اخترت إحدى الكلمتين ضربة لازب.

ص 200 س 9: (فإنها امرأة عاقلة لبيبة حريصة على الخير، سعيدة من الملكات ليس لها في النساء عديل) قال الأستاذ: (وكيف تكون سعيدة مع أن الملك أمر بقتلها الخ. . . ثم هو في معرض التنويه بخصالها، وليست السعادة خصلة أو خلقاً - الأخلاق والوجه: سديدة الرأي من الملكات التي ليس (في النساء عديل) وقال في الحاشية أنظر كليلة ودمنة طبع بولاق) - والجواب أنه ما كان لمصحح أمين أن يغير برأيه سعيدة من الملكات إلى سديدة الرأي من الملكات التي الخ. . . وطبعة بولاق وغيرها شواهد على ما جناه الناشرون المتصرفون بآرائهم في متن الكتاب. ومعنى سعادة الملكة هنا أنها مباركة ميمونة كان عهدها مع الملك عهد سعادة وغبطة

ص 208 س 11، 12 (الذي يصنع الطعام وينظفه لسيده) يرى الأستاذ أن الكلمة ينضجه حرفها الناسخ إلى ينظفه. وهو رأي سديد، وكان ينبغي أن يشار إلى هذا التعليق إن لم يجز تغيير المتن.

ص 210 س 5: (والجريء الجاهل المقدم على ما ليس له وإن أتلف نفسه ونفس غيره في طلب حاجة وشحه) قال صوابه ونجحه. وأرى أن الصواب شحه يعني حرصه على ما يطلب. وليس الشح الحرص على ما في اليد فقط بل منه الحرص على أخذ ما ليس في اليد وفي حديث ابن مسعود: والشح أن تأخذ مال أخيك بغير حقه. وفي حديث ابن عمر: إن كان شحك لا يحملك على أن تأخذ ما ليس لك فليس بشحك بأس.

ص 250 س 3: (فلما رأوا الأسد قد احتشد في طلب اللحم وغضب) وقال: أرى أنها احتد

ص: 18

والحدة تقارن الغضب. أقول بل هي احتشد وكذلك وقعت في نسخة شيخو. واحتشد الإنسان في الأمر إذا اجتهد وبذل وسعه فيه.

ص 247س 4: (فما الذي يشبه كفك عن الدماء وتركك اللحم) قال: كلمة يشبه مقحمة، ولعلها زيادة من الممل للناسخ حين تردوه في الكلمة بعدها - وقد وقفت عند هذه الجملة حين التصحيح وهمت أن أضع مكانها ما في شيخو:(فما الذي يمسك كفك عن الدماء) ولكني وجدت في آخر الجملة (وتركك اللحم) وفي شيخو وترك اللحم وهذا لا يستقيم مع كلمة يمسك. ورأيتها في نسخة طبارة (فأي شيء يشبه كفك عن الدماء الخ. . .) فآثرت الإبقاء على ما في نسختنا. وكان يسيراً أن أغيرها كما غيرتها النسخ الأخرى. ومعنى الجملة: أي سيرة هذه التي لا نرى لها شبيهاً؟

271: 11 (بفضل قسمه لك وتابع نعمه عليك) قال: فعلى أي شيء عطف الفعل (تابع)؟ - رأي أن تصحح الجملة على وجوه مختلفة - وأرى أن في الجملة نظراً ولكن معناها بين، وتابع معطوف على قسمه والضمير في تابع يرجع إلى الله وليست جملة تابع وصفاً لفضل وإن كانت عطفاً على الوصف.

52: 2 (كالشعلة من النار التي يصونها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً) قال الأستاذ إنه وجدها في عيون الأخبار (يصوبها) أي يخفضها - وأقول: هو وجه حسن جيد ولكن لم يقع في نسخة من نسخ الكتاب فلم يتوجه الرأي إليه. وهو حري أن يؤخذ به، وللناقد الشكر.

276: 13 (ولم تجدي من الأسف والحزن على شبليك شيئاً إلا وقد كان من كنت تفعلين بأحبابه ما تفعلين يجد مثله أو أفضل منه) قال الأستاذ: وليس يقال حزن فلان حزناً أفضل من حزن فلان. . . والوجه أمثل الخ. ولا أرى هذا وجهاً. وقد بينت في التعليق أن الفضل معناه الزيادة. وعندي أن كلمة أفضل أقرب من أمثل في هذا السياق. وإن فسرت أمثل بأنها من مثل بمعنى نكل كما فسرها الناقد.

في التعليقات

جادل الناقد الفاضل في جمل رأيت أن بها أثراً من الفارسية، وقلت إن ابن المقفع لم يسلم من تأثير الفارسية حين الترجمة - وقد رأى الأستاذ أن لهذه الجمل أوجهاً في العربية الصحيحة. ولست أريد أن أتناول هذه الجمل بالتفصيل، وحسبي أن أقول: إن هذه الصيغ

ص: 19

أشيع في الفارسية وأقرب إلى أساليبها، وقد ذكرتني بالفارسية حين قرأتها، ولعل الذي حفز الأستاذ إلى الجدال في هذه الجمل أنه يرى (ابن المقفع أيقظ من أن يؤثر في بيانه العربي الخالص هجنة فارسية، أو يلتاث في ترجمة هذه اللوثة). ولست أشاركه هذا الرأي، فلا ريب عندي أن أثر الفارسية يظهر أحياناً في أساليب ابن المقفع؛ وهو أمر يحتاج إلى تفصيل وتبيين، وعسى أن تتاح فرصة للكلام فيه.

وبعد، فقد آثرت الإيجاز في الرد على الناقد الأديب توفيراً للوقت وعلماً بأن قليلاً من القراء من يحمل نفسه على تتبع الجدال في جزئيات كهذه.

ثم للأستاذ عبد السلام الشكر بما قرأ وبحث ودقق ونقد. وقد دل نقده على علم وأدب، نسأل الله له منهما المزيد، كما نسأله أن يهدينا إلى السداد في الرأي والقول، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

عبد الوهاب عزام

ص: 20

‌مملكة الشمس

أو

للدكتور جواد علي

من الفلاسفة من يأبى خيالهم إلا أن يسمو من عالم الأرض إلى عالم السماء؛ ومن هؤلاء الفيلسوف الإيطالي توماس كامبينيلا صاحب مملكة الشمس المملكة المثالية التي افترضها هذا الفيلسوف لتكون المملكة الفاضلة من بين الممالك البشرية والنموذج الأعلى لكل الممالك التي تصورها العقل البشري بلا نقص أو هنة من الهنات. كان هذا الفيلسوف من الطليان الحركين الذين كانت لهم روح لا تستقر على حال. لم تعجبه حياة الرهبنة والتقشف على شدة تعلقه بمبادئ الدومينيكان. ولم يقبل بأن يسجن الإنسان نفسه حراً مختاراً في قبعة ضيقة بين الأسوار والجدران باسم الرهبانية والدين. وقد دفعته هذه النزعة إلى الخروج على تقاليد جماعته وعلى الانضمام إلى زمرة السياسيين الثودويين الذين كانوا في مدينة نابولي يجاهرون ملك الأسبان بالعداء؛ فسجن مقيداً في محبس المدينة المظلم مدة ستة وعشرين عاماً ونصف، وعذب سبع مرات.

ومملكة الشمس التي أراد أن يقيمها هذا الفيلسوف مملكة تستند على الأسس والمبادئ الفلسفية التي تصورها أفلاطون في جمهوريته ودولته. ولكنه اختلف عن أفلاطون في شدة اعتنائه بالتنظيم، وبالجزئيات، وبتوزيع الأعمال على حكام هذه المملكة وعلى الأتباع، وقد اختلف في نظريته عن النظرية المثلية التي تصورها الفيلسوف الإنكليزي توماس موروس من ناحية مبدأ الحكم في هذه المملكة. فمملكة توماس موروس مملكة اشتراكية ديمقراطية النزعة تأخذ بمبدأ الانتخابات فيها، ولحرية القول والاعتقاد نصيب وافر. أما مملكة الفيلسوف الإيطالي فهي مملكة اشتراكية أيضاً ولكنها تمثل نظر العقلية الإيطالية إلى الحكم خير تمثيل. هي النموذج الصالح لنظر العقل الإيطالي إلى الحكم، لا محل فيها للحرية الفكرية ولا للعقيدة، ولا مجال فيها لإبداء الرأي أو الاعتراض. كل شيء يدبره الفلاسفة وهم الحكام. وكل شيء فيها قد نظم وقنن وضبط وعين حتى الأكل والشرب وساعات العمل وطراز الأنس والطرب.

يتصرف في شؤون مملكة الشمس حكيم ميتافيزيقي يدعى هوه أو سول انفرد من بين

ص: 21

جميع رجال المملكة بالحكمة والعلم وحسن التصرف، فهو أعلم الناس وأحكمهم طراً. أحاط بكل شيء علماً فلا يعزب عنه في تدبير المملكة شيء. وتكاد تكون صفات هذا الرئيس الحكيم هي نفس صفات (الرئيس الفيلسوف) الذي اختاره الفارابي ليحكم (أهل المدينة الفاضلة) مع اختلاف في طريقة الحكم وتوزيع الأعمال، وإمكانية التطبيق سببه اختلاف نظام الحكم في بلاد الإسلام في عهد الفارابي عنه في مملكة أسبانيا وإيطاليا في عهد الفيلسوف كامبنيلا. ينظر الفارابي إلى الحكومة نظرة فلسفية أفلاطونية روحانية إسلامية مجردة بينما ينظر كامبينيلا إلى الحكومة بنظرة فلسفية مثالية عملية كأوليكية، تعكس لنا صورة العقل الإيطالي في عهد هذا الفيلسوف.

ويساعد الرئيس (سول) ثلاثة وزراء، هم بون وسن ومور اقتسموا شؤون المملكة كل حسب اختصاصه ونبوغه. وتعرفون بالناحية التي اختصوا بها تصرف رجل خبير قدير لا يجاريه في فنه أي شخص آخر من أشخاص هذه المملكة. وقد اختص الوزير (بون) من بين الوزراء بالشؤون الحربية وبمهمة الدفاع عن المملكة، ووظيفته أن يبذل كل ما في وسعه لصد هجمات أي معتد أثيم يريد بالمملكة سوءاً. وعلى كل مواطن في هذه المملكة كما في مملكة أفلاطون أن يساهم في الدفاع عن الوطن، يستوي في ذلك الرجل والمرأة، والمرأة لا تستثنى في هذه الحكومة من الجندية لأنها تساهم الرجل في شؤون الحياة. وهذه هي الفكرة التي صرع بها أفلاطون في جمهوريته.

أما الوزير سن فهو وزير معارف هذه المملكة إليه ترجع أمور تعليم الشعب وتثقيفه، وله واجبات كثيرة متفرعة فهو يشرف على تعليم الناس الفنون الحرة والفنون العلمية الآلية (أي الصناعات) وهو يشرف على تعليم سكان المملكة قواعد العلم وأسراره. وهو يشرف على تعليم سكان هذه المملكة جميع فنون العلم التي يحتاجها الإنسان في الحياة.

أما التعليم فهو إجباري عام يستوي في ذلك الذكر والإناث. خصص وزير المعارف لكل مدينة من مدن الشمس محلاً يدعى ليكون بمثابة مدرسة ذلك اليوم. والأوربيس بيكتس عبارة عن محل واسع عام أقيمت عليه سبعة جدر مربعة متساوية، جدار من هذه الجدر في الوسط، أما الجدر الآخر فتحيط به على صورة هالة. وقد زينت هذه الجدر بصور مختلفة التي تمثل سلسلة العلوم التي يحتاجها البشر وضعت بصورة منتظمة حسب تطور درجات

ص: 22

العلم. وهنالك معلمون يوضحون للأطفال مغزى هذه الصور بصورة بسيطة سهلة لا تكلف فيها ولا إجهاد.

والتعليم في هذه المملكة من النوع المختلط، والمنهج من النوع الموحد، والكتاب الوحيد الذي يدرس في هذه المملكة هو كتاب (الحكمة) وقد ألفه كاميبنلا على طريقة فيثاغورس جمع بين دفتيه من كل فن شيئاً. ويؤكد الفيلسوف أن كتابه هذا هو من أسهل وأحسن ما كتب، وأن أسلوبه أزلي لا يتبدل، لذلك لا يمكن لأي طفل بلغ العاشرة من العمر مهما كانت مقدرته العقلية أن يرسب في امتحان الدولة أبداً. أما المواضيع النحوية واللغوية فلا مجال واسع لها في هذا الكتاب ولا في دوائر معارف مملكة الشمس؛ لأن التوسع في هذه الأبحاث يبعث على الجمود الفكري، وعلى توجيه العقل نحو التلاعب بالألفاظ وترك اللب وهو العقل. ولذلك نرى اللغوي يبذل كل جهوده في دراسة قشور الفكرة وهي الألفاظ فيحاول جهد طاقته تسخير الأفكار وسبكها حسب صناعته لتكون جملة من أحلى الجمل التي يستذوقها طبعه؛ ولكنها في الواقع من أسخف ما يكتبه إنسان.

لا يقتصر التعليم في هذه المدينة على الدروس النظرية، بل يحتم القانون على كل طالب من طلاب هذه المملكة الانخراط في معامل المدينة لإتقانه فنون الصناعة والحصول على معلومات عامة عنها؛ لا يستثنى من ذلك أي طالب من الطلاب. وبعد حصول الطالب على المعلومات الصناعية يساق إلى القرية إلى المزرعة النائية حيث تعرض عليه مختلف أنواع النباتات والحيوانات؛ ويعلم بنفس الوقت كيفية استغلال الأرض وتربية الماشية. ثم يساق بعد ذلك إلى الثكنات حيث يدرس الفنون الحربية وكيفية استعمال السلاح ليستوي في ذلك الذكور والإناث!

أما وزارة الوزير (مور) فهي من أخطر الوزارات الثلاث لأنها وزارة حساسة مهمة تتعلق بالجنس والمحافظة على الجنس. عليه أن تنظم العلاقات الجنسية وأن تسهر على إنتاج جنس قوي من أحسن الأجناس، وهي وزارة الحب ووزارة العلاقات الجنسية. فالرجال في هذه المملكة ملك مشاع للنساء، والنساء في هذه المملكة ملك مشاع للرجال. لا زواج ولا استئثار، كما لا زواج في جمهورية أفلاطون ولا استئثار. كل شيء عام. تقوم في هذه المملكة عاطفة الحب مقام عاطفة الزواج. لذلك كان أهم وظائف الوزير مور تنظيم هذا

ص: 23

الحب حتى لا يؤدي إلى استئثار فردي وحتى لا يؤدي إلى حدوث مشاكل ونزاع بين الأفراد.

وعلى الوزير مور أن يهيئ لمملكة الشمس جيلاً منتخبا من أقوى العناصر البشرية وأجملها بنفس الوقت، كي يتمتع الإنسان بالسعادة والهناء؛ ولكي يتم ذلك، عليه أن يربي الأطفال تربية صحية، وأن يجهزهم بالطعام الكافي وبالملابس المقتضية. والملابس في هذه المملكة من النوع الموحد أيضاً، تلبس في الصيف والشتاء على حد سواء، ولا فرق في هذه المملكة أيضاً بين ملابس الرجل والنساء.

وإنك لا تجد في هذه المملكة أثراً للعائلة، كما لا تجد فيها أثراً للملكية الخاصة. كل شيء فيها عام، حتى الدين لا يستأثر فيه (الثالوث المقدس) رمز المسيحية بالنفوذ من بين مقدسات الإنسان. هكذا أراد (كامبينيلا) الراهب أن تكون مملكة المثلية على سطح الأرض على المثال الذي أراده أفلاطون، حتى في توزيع الأعمال وتقسيم الطبقات. وكذلك حلم الفارابي المسلم فأراد أن تكون مدينته مدينة مثلية فاضلة، لها ميزاتها من بين المدن المثلية. وكذلك أراد ابن طفيل أن تكون البشرية في عقلية حي بن يقظان. وكذلك فكر الشيخ الحلي في جزيرته الخضراء. بمثل هذا فكرت عقلية عشرات وعشرات من مفكري الإسلام.

لقد فشل أفلاطون حينما أراد أن يطبق ما تخيله عقله على سطح الأرض. وفشل الفيلسوف الإيطالي كاجنبيلا كذلك عندما أراد تطبيق مشروعه على سكان الأرض. هكذا يحلم فلاسفة البشر عن بشرية كاملة مثلى، ولكن أحلامهم تصطدم دائماً بحقيقة ثابتة تمثل فلسفة الواقع، وهي أن بين عالم الأحلام وبين عالم الحقائق بوناً يمثل بعد الأرض عن السماء. فآمن أيها القارئ بالواقع تعش سعيداً ما دامت لك حصة في هذه الحياة.

بغداد

جواد علي

ص: 24

‌جميل نخلة المدَّور

(1862 - 1907)

للأستاذ كوركيس عواد

1 -

كلمة في تراجم رجال العصر

ما زال الشيء المدون من تراجم رجال عصرنا ضئيل القدر. فالباحث يحار في أكثر الأحيان، ليقف على ترجمة هذا أو أخبار ذاك! لأن ما بأيدينا من هذه التراجم لا يتعدى العشرات! وأما أكثر العلماء والكتاب وغيرهم، فلا شأن لهم في تلك المدونات. إذ يأتي هؤلاء فيعملون ثم يذهبون إلى حيث يذهب الناس، ثم تندثر أخبارهم وتطمس معالمهم! ولو أحصينا كتب تراجم المحدثين لما تجاوزت العشرة على ما نظن. وهذا شيء زهيد، إذا ما قيس بالأسفار الموضوعة في تراجم الأقدمين. فللمؤلفين القدماء كتب لا تحصى في تراجم الرجال عامة، أو في تراجم طبقة أو فئة خاصة منهم. فأفردوا للأطباء مثلاً تراجم، وللوزراء تراجم، ومثل ذلك قل عن الأدباء والشعراء والنحاة والحكماء والمحدثين والفقهاء والحفاظ وغيرهم. بل إنك تجد تآليف خاصة بمدد من السنين: كتراجم رجال المائة السادسة أو السابعة أو الثامنة وهلم جرا؛ كما تلفى كتباً في تراجم من عاش في قطر ما أو بلدة ما، أو تراجم رجال المذاهب والفِرق، أو من تميز بصفة أو أصيب بعاهة، كالمعمرين والمتطفلين والعميان. أو غير ذلك من صنوف التراجم التي يطول بنا ذكرها. وإن تمادينا في تعداد ما صنفه الأقدمون في التراجم، وقسناه بقلة ما صنعه المحدثون فيها، وجدنا ما في أيدينا من هذا التآليف الأخيرة شيئاً نزراً، يسعف في بعض الأحوال، ويخيب آمالنا في أكثرها!

2 -

سبب كتابة هذا المقال

والذي حملنا على كتابة هذا المقال، هو كلمة قلناها بشأن مقال ثمين عقده الأستاذ الفاضل محمد عبد الغني حسن في هذه المجلة بعنوان:(مدن الحضارات القديمة) ثم أجابه حضرته على كلمتنا المذكورة بعبارة رقيقة، دلت على سمو أدبه، وسعيه وراء الحقيقة أينما كانت. وقد طلب فيها أن أكتب ترجمة لجميل نخلة المدور. وما كدت أبدأ بذلك حتى وجدت

ص: 25

الأستاذ أحمد صفوان يعقب بنبذة على كلام الأستاذ محمد عبد الغني حسن ويؤكد فيها طلبه.

وهاأنذا ألبي طلبهما بما في مكنتي وفاءً لحق كاتب راحل، خدم الأدب والتاريخ خدمة كبيرة. وقد استعنت في كتابة هذه الترجمة بمؤلفاته نفسها، وبالمراجع المختلفة التي بحث فيها عنه والله المستعان.

3 -

ترجمة جميل نخلة المدور

1 -

مولده

كانت ولادة جميل في بيروت سنة 1862، ببيت عرف حينذاك بالمجد والأدب. وقد أرخ الشيخ ناصيف اليازجي. أديب زمانه وكبير كتابه، مولد جميل، ببيتين من الشعر وهما

لنخلةَ قد أتى نجلٌ جميلٌ

كما سُميْ فسَرَّ أباً وأُمَّا

دعوتُ فقلتُ بالتاريخ ينشو

غلامٌ طاَبقَ الاسمَ المسَّمى

سنة 1862

2 -

والده

أما والده فهو ميخائيل بن يوسف مدور، الذي ولد في بيروت سنة 1822. ثم دخل في مدرسة عين طورا فدرس اللغتين الفرنسية والإيطالية، فضلاً عن اللغة العربية التي برع فيها. ثم أخذ يتعاطى التجارة زمناً مع أخوته. وفي سنة 1852 اقترن بالسيدة روزا بنت نقولا صالحاني، وكانت سيدة فاضلة أديبة.

ولقد توغل ميخائيل في تاريخ الغرب، وأصاب بسهم وافر من آدابهم؛ فاختير عضواً في الجمعية الآسيوية الفرنسية بباريس، والجمعية العلمية السورية ببيروت، وكان صديقاً حميما للشيخ ناصيف اليازجي. ومما يذكر له بلسان الثناء والتقدير الذي هو أهل له، أنه في الوقت الذي كانت سوق العلم كاسدة، والإقبال على نشر الكتب يكاد يكون معدوماً في البلدان الشرقية قام فطبع على نفقته في سنة 1854 مقامات اليازجي المعروفة بـ (مجمع البحرين) كما سبق له أن طبع (مقامات الحريري) فأنشده الشيخ ناصيف قصيدة، منها هذان البيتان:

ملكت الفضل في شرع وعرف

فليس على كمالك بعض خلف

ص: 26

إذا عدَّت رجال العصر يوماً

فإنك واحد بمقام ألف

وكان عوناً على إصدار أول جريدة عربية في بيروت، وهي (حديقة الأخبار) سنة 1858

وعين ترجماناً في قنصلية فرنسا ببيروت، لأنه كان يجيد الفرنسية إجادته العربية ولبث في هذا المنصب إلى آخر أيامه.

وكانت له خدمات علمية ووطنية عديدة، لا يسعنا استيفاؤها في هذا المقام.

وقد خلف أربعة أبناء اشتهر منهم اثنان في العلم والتأليف وهما نجيب وجميل صاحب الترجمة.

3 -

شيء من حياة (جميل)

عرف (جميل) منذ صغره بالنباهة والذكاء وسلامة الذوق، وأوتي قريحة وقاد لا تخبو نارها بسلاسة عبارته، وبصيرة ناقدة لا يخفي شرارها بطلاوة نوادره وحسن فكاهته، وجدّاً يستسهل المتاعب، وثباتاً يغلب المصاعب. وقد أظهر براعة كوالده في تعلم العربية والفرنسية؛ فوضع في الأولى تصانيف ومقالات عديدة كما كان له من الثانية أكبر عون على توسيع آفاق فكره، ونقل بعض المؤلفات منها إلى لغة الضاد.

ولقد نالت مؤلفاته استحساناً من رجال عصره. فكتابه (حضارة الإسلام في دار السلام) الذي يأتي الكلام عليه في مكان آخر من هذا المقال، (قدِّره وأنزلهُ منزلةٌ رفيعة كما يستحق، كل من جودت باشا وزير المعارف العثمانية، وأحمد مختار باشا الغازي المعتمد السلطاني في مصر سابقاً، وغيرهما من مشاهير الرجال. وقد كافأه عليه حينئذ السلطان عبد الحميد بجائزة مالية تنشيطاً له على خدمة العلم).

وهذا العلامة جبر ضومط، أثنى على كتاب حضارة الإسلام المذكور ثناء عاطراً، فقال فيه إنه (كتابٌ لو وُزن بالدرر لرجحها!).

وذكر المؤرخ جورجي زيدان، في معرض كلامه على ما أداه جميل المدور للغة العربية، فقال إنه (خدم آداب هذا اللسان خدمة حسنة بذكرها له التاريخ ما بقيت اللغة العربية!).

وذكر إدورد فنديك في محتويات كتاب حضارة الإسلام أنها (مفيدة من حيث لغتها وآدابها ورونقها التاريخي) وزاد على ذلك قوله: (نحث كل شاب على اقتنائها).

وانتقل جميل إلى القاهرة، وتولى في آخر حياته فيها تحرير جريدة (المؤيد) وهي إحدى

ص: 27

كبريات الصحف المصرية فأظهر من المقدرة الصحافية حينذاك ما يشهد له بطول الباع فيها.

وكان قد نشر مقالات عديدة في مجلة (المقتطف) ومجلة (الجنان) للمعلم بطرس البستاني وأبنائه من بعده.

وهنالك مناح مختلفة من حياته لم نتحققها، لأن جميع المراجع التي بأيدينا لم تشر إليها. من ذلك هل كان قد تزوج؟ وهل خلف أبناء؟ وفي أية سنة ارتحل إلى مصر؟ وما هي الدواعي إلى ذلك؟

4 -

وفاته

وقد أدركته المنية في القاهرة في 24 وقيل في 26 كانون الثاني سنة 1907، وهو في عز كهولته، إذ لم يتجاوز آنذاك من العمر السادسة والأربعين! فمات بعيداً عن وطنه وذويه، مأسوفاً عليه من عارفيه ومقدري فضله. فرحمه الله رحمة واسعة.

(البقية في العدد القادم)

كوركيس عواد

ص: 28

‌الخريف

'

لشاعر الحب والجمال (لامرتين)

أنشأ (لامرتين) هذه القصيدة في خريف عام 1819 في وقت

من أوقات التألم والقنوط، وهي حافلة بمرارة طريقة تصور

الصراع بين الميل الغريزي إبان الكابة، الذي يحبب الموت،

وبين الميل الغريزي إبان الانشراح، الذي يوحي الأسف على

الحياة!. . .

ويظهر أن الشاعر حين أنشأ هذه الأبيات كان يستذكر القصيدة المشهورة (سقوط أوراق للشاعر الفرنسي (ميلفوي

(المترجم)

سلاماً أيتها الغابات المكالة ببقية من اخضرار،

وأيتها الأوراق المصغرة فوق الأعشاب المبعثرة!

سلاماً أيتها الأيام الأخيرة الجميلة! إن حداد الطبيعة

يلائم الألم ويروق لأنظاري.

اتبعتُ بخطوة الحالم المسلك المنعزل؛

وأحب أن أرى بعدُ للمرة الأخيرة

هذه الشمس الشاحبة حيث يكاد ضوءها الضعيف

ينبعث إلى قدميَّ من خلال ظلمة الغابات.

نعم، في هذه الأيام من الخريف حيث تلفظ

الطبيعة النفس الأخير،

أجد في نظرتها المقنعة جاذبية وافرة.

ص: 29

إنها وداع صديق. إنها ابتسامة أخيرة

من الشفاه التي سيطبقها الموت إلى الأبد.

هذا، وأنا على أهبة مغادرة أفق الحياة،

باكياً خيبة الأمل من أيامي الطويلة،

أتلفت ثانية، وبنظرة الحاسد

أرمي هذه النعم التي لم استمتع بها.

أيتها الأرض، أيتها الشمس، أيتها الأودية،

أيتها الطبيعة الجميلة الحلوة،

إنني مدين لكِ بعَبرةٍ على حواشي رمسي.

الهواء غزير الشذى، والضياء بالغ النقاء!

تبدو الشمس فائقة الجمال أمام ناظري المحتضر!

أريد الآن أن أُفرعُ حتى الثمالة

هذه الكأس الممتزجة بالسلسبيل وبالمرارة؛

عسى أن تكون هناك قطرة من شهد باقية

في قرارة هذا الكأس التي شربت منها الحياة!

فلربما كان المستقبل محتفظاً لي بعدُ

بعودة سعادة ضاع فيها الأمل!

ولربما كانت وسط الزحام نفسٌ جهلتها

ستفهم نفسي، وستلبيني!. . .

تسقط الزهرة واهبة عطرها للنسيم،

وهكذا يكون وداعها للحياة والشمس.

إنني أموت؛ وعندما تزهق نفسي

تعبق كنغمة حزينة رخيمة.

(الإسكندرية)

محمد أسعد ولاية

ص: 30

‌الصحافة والدولة

تأليف الصحفي العالمي ويكهام اسنيد

للأستاذ زين ألعابدين جمعة

المحامي

(تتمة)

إن أول واجبات الصحافة هو أن تظفر بالأخبار الصحيحة عن مجريات الأمور في أقرب وقت مبكر. وأن تذيعها على الفور فتصبح وهي بين يدي الجمهور ملكا مشاعاً للأمة. أما رجال السياسة من الوزراء وغيرهم فانهم يجمعون أخبارهم في غير علانية وبطريقة سرية ويحتفظون في حيطة مضحكة حتى بأخبار اليوم إلى أن تتغلب يقظة الصحافة على حذر السياسة في ميدان النشر. وقوام حياة الصحافة منوط بما يتهيأ لها أن تظفر به في ميدان الإذاعة والنشر. ومهما كان شأن ما يذاع على الناس تحت لوائها فلسوف يصبح جزءاً من ثقافة زمننا وتاريخه. والصحافة وهي تؤدي رسالتها تحتكم كل يوم وإلى الأبد إلى سلطان العقول المنثورة في الرأي العام. وإذا كان لزاماً عليها أن تتعقب سير الحوادث وتسبق الزمن فتتنبأ بما سيكون من أمرها، فقد تعين عليها أن تقف عند مفترق الطريق بعين الحاضر والمستقبل وأن تبسط ميدانها ليمتد إلى أفاق العالم.

أما واجب السياسي فعلى النقيض من ذلك تماماً، إذ يحرص على أن يخفي عن عين الرأي العام المعارف التي ينظم بها أعماله ويكون منها أراءه. وهو يحتفظ برأيه في مجريات الحوادث، ويتباطأ في الإدلاء بها إلى أبعد وقت يتهيأ له لغة السياسة. وهو إذا ما رجح عقله ونبلت أغراضه يجعل نفسه على خدمة المصالح الحقيقية لبلاده، أو المصالح التي من شأنها أن تؤثر على بلاده تأثيرا مباشراً. وهو لا يخاطر فيتهور في حدسه وتصويره للمستقبل؛ وهو يركز في صفقاته جمع تلك القوى التي تحاول الصحافة أن تذيع أمرها على العالم. فواجب إحدى القوتين إذا هو أن تفصح وتتكلم، وواجب الأخرى أن تلازم وتتحرز. وإحداهما تبرر منهجها وتزكي صنيعها عن طريق التحليل والجدل، والأخرى تظفر بسلطانها بكفاية من اليقظة والعمل. وإحداهما توجه عنايتها في الغالب من أمرها إلى الحق

ص: 32

والمصلحة، والثانية تتحدث إلى العقل وتخاطب العاطفة. والأولى تحوجها الضرورة إلى الحيطة والاحتراز. أما الثانية فمن ضروراتها أن تكون طليقة حرة.

يلخص لنا إذا من هذا التناقض بين النهجين أن ما يلقى على كل من هاتين القوتين من المسئولية هو من التنوع والاختلاف بمثل ما تنوعت أعمالهما واختلفت واجباتهما. وليس من عيب أعيب لنا معشر الصحفيين من أن ننكص على أعقابنا فلا نميط اللثام عن وجه الحقيقة لتظهر للناس بذاتها سافرة واضحة. وشأننا من الإفصاح والصدق لا يقل أثراً عما للهواء والنور من شأن في الحياة. فنحن مرتبطون بأن ندلي بالحقيقة كما نلمسها من غير أن نحسب للعواقب حساباً، وإلا ندع للظلم والاضطهاد سبيلاً ينفذان منه أو مأوى يسكننا إليه ويسلمان فيه. بل نناهضهما فور الوقت ونعرضهما على قضاء العالم. . . وإذا ما قاسم صاحب القلم العام رجل السياسة نفوذه إلى أية درجة كانت فإنه على الأقل يقاسمه من تلك الأغراض الشخصية التي تنظم شطراً كبيراً من السياسة الجارية. . . والصحفي حتى لو لم يهلل له حزب أو يظفر كفاحه بالنجاح في ما يوجهه إليه من كسب ولاء أو بسط سلطان؛ فتلك الآراء التي أذاعها ودافع عنها أو أنشأها إنشاء وابتدعها ابتداعاً - إن صح له مثل هذا التعبير - تسقط من يده في اللحظة التي يكتب لها النصر فيها حيث ينتهي أمرها بأن تأخذ مكانها بين الحقائق المقررة. والمسئولية التي يأخذ الصحفي بنصيبه منها هي في الحق قريبة الشبه بمسئولية رجل الاقتصاد أو المحاماة التي ليس من شأنه أن يخلق نظاماً يتناسب مع مقتضيات اليوم، بل شأنه أن يتقصى الحق وأن يصوغه في مبادئ ثابتة تنظم شئون الحياة.

لذلك كانت المسئولية الملقاة على عاتقنا أقل شأناً من المسئوليات التي يضطلع بها رجال السياسة؛ إذ تقدر بمقياس يختلف عن مقياس هؤلاء اختلافا تاماً. قوامه الاستقامة والواجب. . . والصحافة مدينة بواجبها الأول للمصالح العامة التي تمثلها، ولكن شأنها في ذلك لا يختلف عما لها من شأن وتأثير في قضية الحضارة في العالم أجمع. والصحافة البريطانية - وهي تشغل الآن هذه المكانة الفريدة في نوعها وسلطانها بما يهنأها من حرية صحيحة تامة - قد تبعث بمميزاتها عبثاً محزناً إذا ما أعوزتها الفطنة لإدراك ما هو لازم للمصلحة العامة في أوربا ولقد يتفق مع أغراض الساسة أن يلقوا قناعاً على تمثال الحرية. وأن

ص: 33

يهمسوا بشيء من ذلك الأسلوب التقليدي الاصطلاحي الذي صبغ صياغة ماكرة لتبرير أخطائهم في الشئون الأجنبية. ذلك الأسلوب الذي أملته مخاوفهم ولم تمله عقائدهم. ولكنا في سبيل ما نطمع فيه من الإصلاح وما نصبو إليه من التأييد والنجاح نترقب ذلك اليوم الذي تبعث فيه الحريات المسلوبة في أوربا من مرقدها وتظفر بنصيبها من الحياة وتهيئ نفسها إلى بلوغ المستوى الذي نأمله ونتعلق به. وعلى أية دعامة - بعد ذلك كله - يسع ساسة إنجلترا أن يلتمسوا القوة والسيادة في وطنهم إذا ما تهددنا الضرر والأذى ما لم تكن تلك الدعامة مائلة فيما يتهيأ للشعب البريطاني من عزيمة مبصرة وحزم رشيد في الاضطلاع بالمبادئ التي ينهض على أساسها نظام حكومتنا واستقلالنا؟)

وقد لا يكون من الإسراف في التقدير أن يرى رجال الصحافة والسياسة في إنجلترا أن من واجبهم اليوم أن ينعموا النظر في أمر ذلك السؤال الأخير الذي وجهته صحيفة التيمس في عبارة حاسمة لست وثمانين سنة خلت. وما كان ليتهيأ لأشياء كثيرة في أوربا أن تسلك هذا السبيل المعوج الفاجع لو أن قادة الصحف في بريطانيا فطنوا لتلك المبادئ التي بسطنها صحيفة التيمس في ذلك الحين.

وإذ فرغت التيمس من عرض تلك المبادئ في مقالة واحدة من مقالاتها الافتتاحية فقد واصلت من اليوم التالي شرحها وتفصيلها لتبين على ضوئها حقيقة المصير الذي سبقت إليه فرنسا على يد لويس نابليون (تلك الحال التي تتفق الآن في أكثر من دلالة مع ما انتهى إليه الأمر في الشعبين الإيطالي والألماني).

وفي السابع من شهر فبراير عام 1852، كتبت التيمس ما يأتي:

(إن الغايات التي يجب على الصحيفة المتعلقة بحب وطنها حقاً والمتنورة أن تجعلها قيد النظر هي - كما نعتقد - عين غايات الوزير المتنور المحب لبلاده؛ ولكن المناهج التي ينهجها الصحفي والوزير في تحقيق هذا الغايات والقيود التي يعملان تحت سلطانها تختلف اختلافاً أصيلاً واسع المدى. فالسياسي في صفوف المعارضة يتعين عليه أن يتكلم كإنسان يعد نفسه لمنصب حكومي والسياسي في المنصب الحكومي يرى من واجبه أن يتكلم كإنسان أعد للعمل والنضال. والوعود العامة والوثائق الرسمية بالإضافة له أشياء خارجة عن التمحيص والجدل، إذ هي لديه مجرد مقياس لجس النبض والظفر بالثقة والتأييد. وإذ

ص: 34

لا يعني بتمحيص المشاكل السياسية وتحقيقها عنايته بأن يتولى قيادة الشئون العامة، فلم يعد لزاما عليه أن يتقصى الحقيقة كشيء واجب لذاته. أما الصحافة، فهي من ناحية أخرى لا تشغل منصباً معيناً، وهي تفصح عما تنصرف إليه من مراميها بوسيلة واحدة هي وسيلة المنطق والحوار والجدل. وإذ كانت غير مقيدة بما تقيدت به السلطتان الإدارية والتنفيذية من الواجبات فقد جاز لها، بل ووجب عليها أن تخطو بإرادة حرة فوق هام تلك الأبحاث التي يتهيبها رجل السياسة ولا يجترئ على لمسها. . . وإذا كان واجب الحكومة أن تعامل الحكومات الأخرى باحترام شكلي وإن خبثت عناصرها واسودت صفحات أعمالها، فقد كان من حسن حظ الصحافة أنها لم تخضع لمثل هذه القيود، وأن يتهيأ لها من الأمر - وقد اجتمع الساسة يتبادلون عبارات الود ويشربون نخب المحبة والصداقة - أن تكشف الغطاء عن لب الحقيقة من أمرهم فيبرح الخفاء، وأن تعلن عن معايب الحاكم ومقاذره وإن له سطوة الحكم وبيده عصا السلطان.

فواجب الصحفي على هذا الوضع هو عين واجب المؤرخ، كلاهما يتقصى الحقيقة ويعلو اعتبارها لديه فوق كل اعتبار. وكلاهما يبذل قصارى جهده في تحقيق ما يعرضه على قرائه. فلا يعرض عليهم ما تنصرف إليه رغبة الحكومة مهما كان شأنها ومهما عظم سلطانها، بل الحق والحق الصراح. فإذا ما حاولنا إذن أن نخضع الصحفي والسياسي لقيود واحدة ولقواعد واحدة لكان معنى ذلك أن نجمع بين المتناقضين وأن نخلط بين شيئين اختلفا اختلافاً جوهرياً. وهو من الوجهة النظرية من الخطأ وسقم الرأي كشيء لم يسمع به أصلاً وغير متوقع الحصول من الوجهة الفعلية. فالصحافة لا تطمح - كما يقول (اللورد دربي) - في أن تظفر بسلطان الرجل السياسي. ولكنها تحتفظ لنفسها بهذا الاعتبار الذي طاب (اللورد دربي) أن يزعمه لها - ليعلنها بهذا الحكم الاستبدادي الجريء الصادر عن مزاج دموي - لأمور أكثر احتراماً وأعظم تقديراً من مجرد السلطان الآمر والقوة الغاشمة. . . ومع ذلك فنحن عندما ناقشنا السياسة الفرنسية لم تبدر منا بادرة قبيحة ولم نضرب على تلك النغمة الآثمة التي صاغ بها اللورد دربي خطبته. فنحن لم نقل أصلاً إن حكومات فرنسا تعاقبت في حلقات من اختلاس المنصب واغتصاب السلطان - سواء كان من هذا النوع أو من الآخر - في الستين سنة الأخيرة. فنكون إذن قد ناقضنا أنفسنا وقذفنا جيراننا.

ص: 35

ونحن لو قررنا أن هذا الأسلوب من اغتصاب السلطان كان في مظهره أو نوعه نتاج الانتخاب الحر في الأمة. وأسوأ من ذلك لو أننا قررنا أن تلك السلطة غير المألوفة التي حصل عليها رئيس جمهورية فرنسا قد منحت له عن طريق ما ظهر من إجماع الرأي العام في فرنسا على اختياره. . . نقول لو أننا قررنا شيئاً من ذلك لكان في الواقع ما قررنا سبة للشرف الفرنسي ومعرة للقومية الفرنسية.

والحق أن أولئك الذين يقولون مثل تلك الأقوال أو يصدقونها يعاملون فرنسا الأبية الباسلة كما يعاملون جيشاً من العبيد فرض عليه أن يختار عاهله المخوف ليضع رأسه تحت أقدامه.

إننا لو وضعنا في المقال المتقدم اسم (موسوليني) أو (هتلر) بدلاً من (رئيس الجمهورية الفرنسية) لوجدنا أن ما قررته التيمس عام 1852 قد صار منطبقاً على تلك الحال التي انتهى إليها أمر الشعبين الإيطالي والألماني في هذا الربع الثاني من القرن العشرين. ونحن إذا قارنا بين لغة ما يتولى قيادة بلادنا من هذه الصحف اليومية العريقة في مناقشتها (للأعمال الطائشة) التي انتهت بذيوع الاستبداد في الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية بلغة التيمس عام 1852 لما انتهت بنا المقارنة إلى ما يشرف صحافة اليوم في إنجلترا أو يطمئننا على الثقة فيها. والغالب إن لم يكن هو الوضع الدائم من أمر أصحاب صحفنا الكبرى ورؤساء تحريرها أنهم قد استحوذ عليهم شيطان نظرية دربي القائلة بأنه (إذا ساغ للصحفي أن يطمح في أن يقاسم السياسي سلطانه فعليه أن يقاسمه أيضاً نصيبا من مسئولياته) وحسبوا سرابها ماء فضلوا السبيل اللهم إلا صحيفة أو صحيفتين من كبريات صحفنا اليومية. ولو كانت هذه النظرية مما يجعل الأخذ به أو يصح قبوله لما كان للصحف البريطانية من شفيع في التمرد على ذلك الطلب الذي بسطه لها الهر هتلر في شهري فبراير ومارس من عام 1938 القائل بأنه لدوام العلاقات الطيبة بين الحكومتين النازية والبريطانية يلزم الأخيرة أن تبسط سلطانها على الصحافة البريطانية فتمنعها من نشر الأخبار أو الآراء التي لا يرغب فيها عاهل ألمانيا. ولقد كان بوسع الصحافة البريطانية على العموم أن تنزل منزلاً كريماً وتشغل مركزاً متيناً يتهيأ لها فيهما أن تتأبى في عزة وأنفة قبول مثل هذه المقترحات التي انطوى عليها طلب الهر هتلر، وترفضها بالاحتقار

ص: 36

اللائق بها لو لم تكن قد ضحت بحريتها في سبيل ذلك المنطق السقيم الذي أشرك الصحفي في مسئولية رجل السياسة.

إن واجب الصحافة الأول لينصرف نحو الشعب ونحو الشعب فقط، لا إلى أي وزير أو أية حكومة قد يتهيأ لها أن تشغل المنصب لوقت محدود. وهي لو فكرت أو عملت على خلاف مقتضى هذا الواجب لساقها ذلك إلى أن تقف في مفترق الطرق حيث تنحدر من أوج الاستقلال والحرية إلى الحضيض من الاستعباد الدكتاتوري.

إن ما أصبحنا نواجهه من شأن حيوي يتهدده الخطر، هو من صميم الفارق المميز بين النظر الحر والنظر الاستبدادي في الحياة السياسية. والمميز بين الحرية الشخصية المهيبة الجانب، التي ينعم بها أعضاء مجتمع حر ينظرون إلى (الدولة) باعتبارها مجموعاً كلياً للوظائف الإدارية العامة التي يوفدون لها الوزراء ويهيئون لها الإدارات التنفيذية - وما يراه النظر الاستبدادي الفاشي أو النازي في الدولة باعتبارها (قوة مطلقة) وغاية في نفسها ووكالة شبه مقدسة تنعم بها الحكومة التي يخضع، بل يجب أن يخضع لها المجتمع بجميع أعضائه وأفراده. وما إن تقبل وجهة النظر الاستبدادي في أمة من الأمم - حتى ولو كان هذا القبول على سبيل اللهو أو العبث - إلا واستتبع ذلك حتما أن تسترق الصحف استرقاقاً كلياً أو جزئياً، وعلى النقيض منذ لك يتوفر الضمان الوحيد الأكيد لحرية الصحافة متى نبذت النظر الاستبدادي في كلياته وجزئياته، ومتى عملت على تدعيم سلطان الشعب وجعل الأمة مصدر السلطات جميعا بحيث يعلو شأنها على كل اعتبار بين المواطنين الأحرار الذين يسعهم، وقد توافرت لهم المعرفة التامة بما جريات الأمور على يد صحافة رشيدة غير هيابة، أن يكون نصيبهم من الكفاية المرنة أوفر حظاً مما يحصلون عليه تحت لواء أية حكومة استبدادية مهما تهيأ لها من إطلاق اليد ونفوذ السلطان. وقد يخلص لنا ونحن نأسف له ونتوجع عليه أن رجال الصحافة والسياسة في بريطانيا هم على السواء بحاجة إلى أن يتعلموا مبادئ الفلسفة السياسية.

زين العابدين جمعة

ص: 37

‌12 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

الحكومة - تابع الفصل الرابع

جرت العادة إلى وقت قريب أن يدفع الرسوم من يكسب القضية. أما الآن فيدفعها الطرف الآخر. والرسوم القضائية في قضايا بيع الأموال تكون 2 % من مجموع الأملاك، وفي قضايا الوصايا 4 %، إلا إذا كان الوارث قاصرا فيدفع 2 % أما القضاء في المسائل المتعلقة بملكية العقار فيكون رسمه 2 % إذا كانت قيمة العقار معلومة وإلا فيكون إيجار سنة. هذه هي الرسوم الشرعية؛ ولكن كثيراً ما يلزم المتقاضي بأكثر من القدر الواجب. ويحدد نائب القاضي مقدار الرسوم في غير الأحوال المتعلقة بالملكية. وهناك رسوم أخرى غير الرسوم القضائية يجب دفعها بعد الحكم. مثلاً، إذا كان الرسم القضائي مائتين أو ثلاثمائة قرش، وجب دفع قرشين تقريباً إلى الباشترجمان؛ ومثلهما للباش رسول وقرش للرسول أو لكل رسول قام بعمل.

وكثيراً ما تؤثر مكانة المتقاضين أو الرشوة في حكم القاضي. ويُرتشي النائب والمفتي على العموم، ثم يتناول القاضي نصيبه من النائب. وقد يحكم في القضية لصالح الطرف الذي يدفع أكثر من الآخر - وعلى الأخص - عندما تطول الخصومة. فصرامة العدل لا تتحقق دائماً لاستخدام المتقاضين الرشوة. والشهادة الزور. وقد يصب الوثوق بالمدى الهائل الذي وصلت إليه عادة الرشوة وشراء شهود الزور في المحاكم الإسلامية، وقد يقتضي ذلك أدلة قوية تستند إلى سلطة لا ريب فيها. وهاأنذا أورد مثل هذا الدليل بتلخيص دعوى نظرت من زمن غير بعيد قصها عليّ ناموس الشيخ المهدي وإمامه، وكان حينئذ مفتي القاهرة الأعلى (لكونه المفتي الأكبر لمذهب الحنفية)، وكانت الدعوى قد عرضت عليه بعد أن

ص: 38

أصدر القاضي حكمه فيها.

توفى تاجر من تجار القاهرة عن أملاك قدرها ستة آلاف كيس، ولم يكن له وارث غير بنت واحدة. فلما سمع السيد محمد المحروقي الشاه بندر بهذا الحادث رشا فلاحاً عادياً كان بواباً لشيخ محترم وكان الناس يعرفون عائلته، ليدعي أنه ابن أخ المتوفى، ورفع الأمر إلى القضاء. ولما كانت الدعوى ذات أهمية عظيمة استدعى بعض أكابر علماء المدينة ليحكموا فيها. وكانوا جميعاً محل رشوة المحروقي أو تأثيره كما سيبين الآن. وأتى بشهود زور ليشهدوا بصدق ادعاء البواب، وبآخرين ليزكوا هؤلاء الشهود. فقضى القاضي بثلاثة آلاف كيس لابنة المتوفى، وبالنصف الآخر للبواب؛ وتناول المحروقي المبلغ المحكوم به بعد أن خصم منه ثلاثمائة قرش أعطاها البواب.

وكان المفتي الأكبر الشيخ المهدي غائباً عن القاهرة أثناء نظر الدعوى. فلما عاد بعد أيام توجهت ابنة التاجر المتوفى إلى منزله وقصت عليه أمرها متوصلة إليه أن ينصفها ومع أن المفتي اقتنع بما أصابها من جور ولم يشك في صدق ما نسبته إلى المحروقي في هذه القضية، فقد أخبرها أنه لا يستطيع نقض الحكم إذا لم يجد مخالفة في إجراءات الدعوى، وأنه سيطلع على الدعوى في سجل المحكمة. ثم أسرع إلى الباشا الذي كان للمفتي عنده حظوة كبيرة لعلمه واستقامته، وشكا إليه أن المحكمة قد أسقطت حرمتها بإفراطها في الظلم، وأن العلماء يقبلون شهادة الزور مهما كان أمرها واضحاً ساطعاً، وأنهم أصدروا أخيراً حكما أثناء غيابه أثار لغط المدينة وعجبها. فاستدعي الباشا القاضي وجميع العلماء الذين قضوا في الدعوى لمقابلة المفتي في القلعة. ولما اجتمعوا خاطبهم في شكوى المفتي كما لو كان الأمر صادراً منه. فظهر السخط عيهم لهذه التهمة وطلب القاضي أن يعرف علام تستند هذه التهمة. فأجابه الباشا إلى قرائن عامة، ولكنها تستند خاصة على القضية التي سلمت فيها المحكمة بادعاء بواب قرابة ووراثة لا يمكن الاعتقاد بحقه فيها. فأبان القاضي أنه أصدر الحكم تبعاً لإجماع العلماء الحاضرين حينئذ. فقال الباشا لنقرأ محضر الدعوى؛ فأنوا بالمحضر، فلما فرغوا من تلاوته قال القاضي بصوت جهوري ولهجة صلفة (وهكذا حكمت!) فصاح المفتي بصوت أعلى وأكثر سلطة (وكان حكمك زوراً) فشخصت الأنظار دهشة، آنا إلى المفتي، وآنا إلى الباشا، وآنا آخر إلى العلماء. وأدار القاضي والعلماء

ص: 39

رؤوسهم، وأخذوا يعبثون بلحاهم؛ ثم صاح القاضي ضارباً صدره بيده:(أنا قاضي مصر أصدر حكماً زوراً؟) وصاح العلماء: (ونحن! نحن يا شيخ مهدي! نحن علماء الإسلام نقضي قضاء زوراً؟)، وقال المحروقي، وقد كان يحضر مجالس الباشا لما بينهما من معاملات تجارية، (يا شيخ مهدي احترم العلماء كما يحترمونك) فصاح المفتي (يا محروقي! هل لك شيء في هذا الأمر؟ صرح بنصيبك فيه وإلا فالزم السكوت. اذهب وتحدث في مجتمعات التجار ولا تسمح لنفسك مرة أخرى أن تنبس ببنت شفة في مجلس العلماء) فترك المحروقي القصر في الحال لأنه أدرك كيف ينتهي الأمر، وأن عليه أن يرتب أموره. وطالب العلماء المفتي بالدليل على بطلان قرارهم. فسحب المفتي من صدر قفطانه كتيباً في أحكام المواريث وقرأ عليهم:(لإثبات دعوى القرابة والوراثة يجب التحقق من اسم أبي المدعي وأمه وجده لأبيه ولأمه وجدته لأبيه ولأمه) ولم يكن شهود الزور معدين لإعطاء هذا البيان فكان هذا نقصاً في الشهادة ينقض الحكم. وجئ بالبواب أمام المجلس ولما أنكر القرية التي جعلوه محورها أمر الباشا أن يجلد بشدة؛ ولكن على الرغم من التعذيب الذي احتمله، لم يعترف إلا بأنه لم يتناول من الثلاثة آلاف كيس غير ثلاثمائة قرش. وفي أثناء ذلك ذهب المحروقي إلى سيد البواب وأخبره بما حدث في القلعة وما ينتظر ووضع بين يديه ثلاثة آلاف كيس ورجاء أن يذهب حالاً إلى المجلس ويسلم هذا المبلغ قائلاً أنه كان أمانة عنده من خادمه. وقد تم ذلك وأعيدت النقود إلى ابنة المتوفى.

وفي قضية أخرى سلط فيها باشا من الباشاوات (غير محمد علي) نفوذه على القاضي ومجلس العلماء حتى أصدروا حكماً مخالفاً للشريعة فعارضهم الشيخ المهدي بالطريقة نفسها. وهذا المفتي مثل نادر في النزاهة والاستقامة. وقد قال إنه لم يتناول على فتاويه أجراً. وقد توفى هذا الشيخ بعيد زيارتي الأولى لمصر. ويمكنني أن أسرد حوادث أخرى على ذيوع الرشوة في القضاء ولكن ما قدمته يكفي.

في القاهرة خمس محاكم دنيا. وفي بولاق ميناء القاهرة الرئيسي، محكمة؛ وفي مصر العتيقة، مينائها الجنوبي، محكمة أخرى. ويرأس كل محكمة من هذه المحاكم الصغيرة شاهد من المحكمة الكبرى نائباً عن كبير القضاة الذي يصادق على تصرفاته. وتحال على هذه المحاكم القضايا المتعلقة ببيع الأموال والوصايا والزواج والطلاق. فالقاضي يزوج اليتيمات

ص: 40

القاصرات اللاتي ليس لهن أقارب بلغ يتولون الوصاية. والنساء كثيراً ما يلجأن إلى أحكام الشريعة لإجبار أزواجهن على الطلاق. ويوجد أيضاً في كل مدينة من مدن الريف قاض يكون على العموم من أهل البلد ولا يكون أبداً تركياً. وهو يقضي في جميع القضايا، أحياناً في حدود معرفته للشريعة، وعادة طبقاً لفتاوى المفتي. ويقوم القاضي في أكثر من قرية.

ولكل مذهب من المذاهب الأربعة (شيخ) أي رئيس ديني يختار من أعلم علماء المذهب، ويقيم بالقاهرة. ويؤلف شيخ الجامع الأزهر، وهو شافعي المذهب دائماً مع شيوخ المذاهب الأربعة والقاضي ونقيب الأشراف وغيرهم كثيرين مجلس العلماء الذي كان يثير الرهبة والاحترام في نفوس الحكام الترك والمماليك ويحد من طغيانهم؛ وقد فقدت الآن هذه الهيئة نفوذها على الحكومة إلا قليلاً. ويتحاكم الطرفان المتنازعان في الخصومات التافهة أمام شيوخ المذاهب غالباً، إذ أن كلا من هؤلاء هو مفتي مذهبه الأكبر، ومحل الاحترام العظيم والامتثال التام. كما أن الباشا كثيراً ما يعرض على هؤلاء الشيوخ القضايا الصعبة الخاصة بأحكام القرآن والسنة. ولكنه لا يرى دائماً رأيهم، مثل استشارته إياهم في شرعية التشريح للعلم، فلما أعلنوا أن التشريح يتنافى وأحكام الدين، قرر ممارسته لطلبة الطب المسلمين.

ويخضع حرس العاصمة للقيادة العسكرية أكثر من خضوعه للسلطة المدنية. وقد كان من سنوات قليلة تحت رياسة الوالي والضابط. إلا أنه منذ زيارتي الأولى لمصر ألغيت سيادة الأول. وكان واجب الرئيس أن يقبض على اللصوص وغيرهم من المجرمين. وكانت المومسات تحت ولايته. وكانت عنده قائمة بعددهن. وكان يفرض عليهن ضريبة. وكان يشرف أيضاً على سيرة النساء على العموم ويضيف من تتهم بفاحشة واحدة إلى قائمة المومسات وتفرض عليها الضريبة إلا إذا فضلت أن تتفادى هذا العار برشوة ذات اعتبار. وكان النظام المطرد، ولا زال، أن يلتزم شخص بجباية الضريبة من المومسات العازبات والمتزوجات على العموم. ولكن أولئك الأخريات قد يقتلن إذا لم يستطعن الخلاص بالرشوة أو بحيلة أخرى. ومثل هذه الإجراءات مع ذلك تخالف القانون من ناحيتين. فنص القانون أن كل من يتهم امرأة بالزنا أو ارتكاب الفاحشة دون أن يقدم أربعة شهود على الجريمة يجلد ثمانين جلدة. وينص على عقوبات أخرى غير فقد الاعتبار والغرامة توقع على من حكم عليها.

ص: 41

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 42

‌الشاطئ والحرب

ليالي الزورق

أيُّها الشاطئ قدْ طال بنا

أمدُ البعدِ ولمَّا نلتقيِ

أينَ أيامٌ قضيناها هُنا

مُشرقاتٍ من سناكَ المشرق

أتعودينَ معَ الصفوِ لَنا

ضاحكاتِ يا ليالي الزورَق

نُبْصِرُ الدنيا على نورِ الهوى

أَيْنَعَتْ فيها الأماني من جديدْ

أمْ تولى كلُّ شيء وانطوَى

ذلك الماضي على ألاّ يَعُودْ

أينَ يا شاطئ أحبابي ومَن

كنَّ للعينينِ أنْساً وسَنا

كم أتيناكَ بقلبٍ مُطْمَئِنْ

وَمَرحنا في ظلالٍ مِن مُنى

أيُّنا أرْهَفَ أُذْناً للزَّمَنْ

أيُّناَ مَلَّ التلاقي أيُّناَ

أناَ يا شاطئُ ظَمْآنُ إلى

رقصاتِ الموجِ في ضوءِ القَمَرْ

ما سَلَتْ عيني ولا القلبُ سَلا

أمسياتٍ حالياتٍ وَذِكَرْ

شدَّ ما ألْقاَهُ من دهري ألَا

ترجِعُ الأيام نُحيِي ما غَيَرْ

ونرى الدُّنيا على نورِ الهوى

أينعت فيها الأماني من جديد

أمْ تولى كل شيءِ وانطوى

ذلك الماضي على ألا يعود

طالَ يا شاطئُ قد طالَ بنا

أمد البعد ولما نلتقي

أين أيام قضيناها هنا

مشرقات من سناك المُشرق

أتعودين مع الصفو لنا

ضاحكات يا ليالي الزورق

(الإسكندرية)

مصطفى علي عبد الرحمن

ص: 43

‌الكأس الأولى.

. .

هَذِهِ كأسِي وَمَا أَعْجَبَ كأسِي!!

طفَرَتْ بِي مِنْ جَوَى يَوْمِي وَأَمْسِي

وَجَلَتُ عَالَمَ أَفْرَاحي وَأُنسِي

أَناَ أَفْدِيهاَ بِأَنفاَسِي وَنَفْسِي!

كُلَّماَ قَبَّلْتُ فاَهَا

أَغْرَقَتْ نَفْسِي صَدَاهَا

فيِ عُبابٍ مِنْ سَنَاهَا

شَعَّ مِنْ بَدْرٍ وَشَمْسِ

هِيَ في كَفِّي وَرُوحي وَنَشِيدِي

نَبْأَةٌ باَحَ بهاَ سِرُّ الوُجُودِ

عُصِرَتْ في سَجْوَةِ الدَّهْرِ اْلبَعِيدِ

مِنْ شِفاَهِ الغِيدِ أو وَرْدِ الُخْدُودِ!

رَقْرَقَتْ قَلْبِي المُعَنَّى

فَصَبَا القَلْبُ وَحَنَّا

وَتَغَنَّى وَتَمَنَّى

مَاضِيَ الُحْبِّ السَّعِيد

أَشُعَاعٌ في يَدِي أم قَطَرَاتُ؟

وَشَرَابٌ في فَمِي أم جَمَرَاتُ؟

وَلهِيبٌ في دَمِي أم نَزَوَاتُ؟

تِلْكَ كأسُ الخَمْرِ بَلْ تلْكَ الحَيَاةُ!

هِيَ وَالسَّاقِي لَدَيَّا

كلَّمَا أَوْفَى عَلَيَّا

مَاسَ بِالكَأسِ وَحَيَّا

سَكْرَةٌ بَلْ سَكَرَاتُ؟

أَناَ ظَمْآنُ وَكأسِي في فَمِي

أَتَغَنَّى بِالرُّضَابِ الشَّبَمِ

إنَّهُ رِيٌّ لِقَلبِي وَدَمِي

هَاتِهِ وَاعْطِفْ عَلَى كلِّ ظمِ

بِكؤوسِ الْبَاقِيَاتِ

أَنْتَ حَسْبِي مِنْ حَيَاتي

هَاتِ مِمْ حُسْنِكَ هَاتِ

لِفُؤَادِي المُلْهَم

أَنْتِ وَالْبَدْرُ وَآفاقُ الْفَضَاءِ

ص: 45

وَالْهَوَى وَالشِّعْرُ في ظِلِّ الْمَسَاءِ

وَمُحَيَّاكَ وَكأسِي وَصَفائي

فِتَنٌ دَانَتْ خَيَالَ الشُّعَرَاءِ

كأسِيَ الأُولَى أعِيدِي

رَجْعَ أَحْلَامِي وَعِيدِي

وَصِلِينِي بِالْخُلُودِ

وَبِأَسْبَابِ السَّماَءِ!

(كوم النور)

أحمد أحمد العجمي

ص: 46

‌البريد الأدبي

طاغور في اللغة العربية

بعد أن نال الهندي الفيلسوف السر (رابندرانات طاغور) جائزة نوبل للآداب، وهو الشرقي الوحيد الذي نالها، اشتهر اسمه في الخافقين؛ فترجمت أكثر دواوينه وقصصه إلى سائر اللغات الحية، وكان نصيب العربية منها غير قليل. وهذا الذي ترجم عنه يفوق ما ترجم عن أديب آخر غريب عن اللغة العربية. وها نحن نذكر لك ما وقع بأيدينا من مؤلفاته مترجماً:(البيت والعالم) قصة ترجمها الأستاذ طانيوس عبده. (البستاني) ديوان شعر، ترجمة الأديب اللبناني وديع البستاني نظماً ونثراً. (الضحية وروايات وأبحاث أخرى) ترجمها صاحب (العصور) الأستاذ إسماعيل مظهر. (خالتي وقصص أخرى)، و (وكيل البريد وقصص أخرى) ترجمها الأديب الشاعر عبد اللطيف النشار؛ وترجم الأستاذ عبد المسيح وزير كتاب (الزورق الذهبي) ونشر بعض قطعه. وترجم الأستاذ كامل محمود حبيب أناشيد طاغور الخالدة (جيتا تجالي) التي نال بها الجائزة العالمية، ونشرها في السنة السادسة من هذه المجلة الزاهرة؛ وترجم هو أيضاً أحد دواوينه (البستاني) نثراً، ونشره أخيراً في مجلة المقتطف الغراء؛ وهناك رسالة عن حياته ومختارات من مؤلفاته، كتبها الأستاذ محيي الدين الخطيب. . . هذا عدا ما ترجم ونشر في صحف ومجلات الدنيا العربية، قبل وفاة شاعرنا الفيلسوف وبعدها وهو كثير.

(بغداد - الكرخ)

محمود العبطة

الإصلاح الاجتماعي والتعليم

نشرت السيدة منيرة ثابت مقالاً في أهرام 26 أكتوبر الماضي عن الإصلاح الاجتماعي والتعليم ذكرت فيه أنها ليست في حاجة لأن تذهب إلى الريف لترى وتلمس ما فيه من شقاء؛ لأنها ترى في القاهرة نفسها ما يدعى الأكباد. فهؤلاء تلاميذ يريدون الالتحاق ببعض المدارس الأولية والإلزامية (وهي من أحط أنواع التعليم في طريقتها العلمية والاجتماعية) فتسد في وجوههم الأبواب لأسباب واعية. ثم اقترحت على الوزارة إغلاق هذه المدارس

ص: 47

وتعميم التعليم الابتدائي وجعله مجانياً، واستلت على تأخرنا بمجانية التعليم بجميع أنواعه في العراق.

ومن يقرأ هذا المقال يعتقد أن السيدة الكاتبة. لم تدرس مشكلة التعليم عندنا؛ لأنه لا يوجد في القاهرة ولا في أي بلد من بلاد الدولة مدرسة أولية أو إلزامية تسد بابها في وجوه التلاميذ لأسباب واهية أو غير واهية. والمشاهد أن المدارس تشكو من عدم إقبال التلاميذ عليها حتى اضطرت الوزارة أخيراً إلى تنفيذ قانون الإلزام، وتقديم الذين يمنعون أولادهم إلى المحاكمة. وفي كل مدرسة سجل خاص مستخرج من دفاتر الصحة بأسماء التلاميذ الذين بلغوا سن التعليم في منطقتها. والمدرسة هي التي تتولى طلب التلاميذ للتعليم، كما تتولى إدارة القرعة طلب الشبان للتجنيد. وإذا كانت السيدة الكاتبة في شك من هذا فأنا زعيم لها بإلحاق من تريد من التلاميذ - مهما بلغ عددهم - بالمدارس التي يرغبون الالتحاق بها.

ولا ريب في أنها جاوزت الحق حين ذكرت أن التعليم في المدارس الأولية والإلزامية من أحط أنواع التعليم: إذ ليس من المعقول أن تهون المدارس الأولية لأنها تعلم الأطفال أو يهون معلموها لأنهم يضعون الحجر الأول في بناء العقول، وعلماء التربية يرون أن مرحلة الطفولة من أهم مراحل التعليم، لا من أحطها كما ذكرت الكاتبة. على أن القائمين بالتعليم في مدارسنا الأولية والإلزامية من الرجال الذين تخصصوا في هذه المهمة. وطريقتهم تساير أحدث مبادئ التربية الفنية. ولا يدانيهم فيها غيرهم مهما بلغ شأنهم.

أما تعميم التعليم فلا سبيل إليه، لأن الوزارة لم تستطع تعميم التعليم الأولي إلا بعد عشرين سنة، وعلى أساس نصف يوم، ولو جعلته يوما كاملاً لاحتاجت إلى سبعة آلاف مدرسة وثلاثين ألف معلم، غير الموجود عندها.

فكيف تستطيع إذاً تعميم التعليم الابتدائي في الدولة كلها؟ ومن أين لها الرجال والمال؟

أما مجانية التعليم بأنواعه في العراق فسرها عدم الإقبال عليه وقد كان هذا حالنا في الجاهلية الأولى!

ويلوح لي بعد هذا أن اعتكاف السيدة الكاتبة في برجها العاجي الذي ذكرته في مقالها قد حجب عنها الكثير من الحقائق التي يعرفها عامة الناس.

ص: 48

أما المشكلة الحقيقية فليست في عدم قبول التلاميذ في المدارس الإلزامية، وإنما هي في إطعام الفقراء منهم وكسوتهم، ومعالجة مرضاهم، فإذا استطاعت الوزارة تدبير حل لهذه المشكلة، فقد خطت في سبيل الإصلاح الاجتماعي خطوة موفقة.

(المنصورة)

علي عبد الله

العروبة في السودان:

سيدي. . .

قد سررنا وايم الله أن يكون الدكتور مبارك أحد المشتركين بكلمة في المهرجان الدبي بأم درمان - بل بدرس قيم في توحيد أواصر العروبة المتفرقة شيما وأحزاباً - فإن كلمته التي بعنوان (في الطريق إلى الوحدة العربية) قد كانت حديث المجالس الأدبية في كل ناد. . . وهنا قلما تجد شاباً متعلماً لا يقرأ (الرسالة) بنظام ويلم بما فيها من بحوث قيمة وكلمات جيدة وشعر رصين. . .

ثم إن الذي حدا بي لكتابة هذه الكلمة هو أن برسالته ما يلفت النظر: فإن السامع لها أو القارئ يشتم منها أن الأستاذ يعتقد أن العروبة في السودان لغة لا جنس. وللإيضاح ووضع الأمور في نصابها نقول: إن بالسودان أكثر من النصف من العرب العريقين في عروبتهم سواء في الجنس أو اللغة أو الدين؛ بل فيهم عدد هائل يتحدث بالعربية اليوم - وهم أميون - كما كان يتحدث بها العرب منذ قرون، ويعيشون على نمط معيشة العرب منذ أجيال. من هذا النوع القبائل الآتية: الكداهلة، الكبابيش، الشنابلة، الحمر، الرزيقات:

ولا يستطيع الدكتور أن يكتب عن السودان بصدق إلا بعد ما يزوره ويتحدث هنا في (كردفان) مع عربانه، فحينذاك يمكنه أن يضع السودان في المحل اللائق به في مركب العروبة.

أما كيف كان بالسودان أكثر من النصف من العرب الصرف وكيف نزحوا إلى السودان، ومتى كان ذلك؛ فإذا شاء الدكتور علم ذلك، فسيراه بجريدة (النيل) الغراء بقلم أحد الأدباء.

وله ولصديق السودان (الزيات) مني ومن كل سوداني سلام

ص: 49

(الأبيض - سودان)

الفاتح النور

ص: 50