المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 437 - بتاريخ: 17 - 11 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٣٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 437

- بتاريخ: 17 - 11 - 1941

ص: -1

‌أدب اليوميات

للأستاذ عباس محمود العقاد

(1)

. . . هل تكتبون مذكرات يومية، أو هل في نيتكم كتابة مذكرات أو تدوين ترجمة لحياتكم الحافلة كما يفعل كتاب الغرب؟ وهل لا توافقونني على أن كتاباً كهذا تصفون فيه ما صادفكم من عقبات وما تغلبتم عليه من الصعوبات، وتقصون فيه ما لا يعرفه الكثيرون عن حياتكم الشخصية والأدبية والسياسية يكون درساً مفيداً لشبان هذا الجيل والأجيال المقبلة؟

(2)

هل معنى عدم إقدامكم على الزواج إلى الآن أن الحياة الزوجية تقيد رجل الفكر أو تشغله عن أداء رسالته، أم أنكم لم تهتدوا إلى المرأة التي ترونها المثل الأعلى المفكر؟

(3)

لكل إنسان أماني وآمال ومطالب، ومطالب من عاش لا تنتهي. . . وهي تختلف باختلاف الأحوال والأيام؛ ولكن ترى ما هي أعظم أمنية تتوقون إليها في الحياة؟

(الإسكندرية)

أحمد عبد اللطيف الحضراوي

بالمعهد البريطاني

هذه فقرات من رسالة وصلت إلي من الأديب صاحب الإمضاء المتقدم، وفي الجواب عن بعض أسئلته ما يصح أن يشترك فيه حضرات القراء، لأنه من موضوعات الكتابة العامة التي تطرق في الكتب والمجلات

وأول هذه الأسئلة سؤاله عن المذكرات اليومية وما أدونه منها الآن أو بعد حين

وجوابي عن هذا السؤال أنني بدأت حياتي الأدبية - منذ الدراسة الأولى - بكتابة المذكرات والتعليقات على ما أطالع وأشاهد في كل يوم، وإنني لم أنقطع عن هذه المذكرات إلا في السنوات الأخيرة التي لا تتجاوز خمس سنوات

فأول كتاب صدر لي هو (خلاصة اليومية) واسمه يدل عليه. فقد كان تلخيصاً لما أثبته في مذكراتي اليومية من الآراء والملاحظات والأصول التي أتناولها بالتوسع إذا خصصتها بالكتابة

ص: 1

ثم ألفت كتابي (ساعات بين الكتب) وهو غير الكتاب الذي طبع بعد ذلك بهذا العنوان. فإنما كان الكتاب الأول تعليقات القراءات التي تفرغت لها وأنا مقيم في أيام الحرب الماضية بأسوان، ولم يكن مجموعة مقالات أو فصول نشرت في الصحف كالكتاب الذي يحمل الآن هذا العنوان

لكن المذكرات اليومية نوعان وليست بنوع واحد؛ فهذا الذي ذكرته مقصور على الفكر والقراءة كأنه فصول صغيرة أو موضوع متفرق في عدة صفحات، وهو النوع الذي أكثرت من الكتابة فيه، وعندي منه الآن مجموعة صالحة في انتظار الطبع كما هي، أو في انتظار التوحيد والتأليف، لأنها تصلح لهذا وذاك

أما النوع الآخر وهو المذكرات عن حوادث الحياة وعوارضها فلم اشرع في الكتابة فيه إلا مرة واحدة طالت بضعة شهور، ثم مزقت ما كتبت وأحرقته ولم أعد إلى تجربة الكتابة في هذا النوع مرة أخرى، ولعلي لا أعود

ولكني لا أحكم على أدب اليوميات كله بالتمزيق والإحراق من أجل أنني اضطررت إلى تمزيق ما كتبت وإحراقه؛ لأن أسبابي غير أسباب الآخرين، وموانعي غير موانعهم، والمحظورات التي أتقيها غير المحظورات التي يتقونها

فالواقع أنني من أرغب الناس في قراءة اليوميات والانتفاع بها، وهي في اعتقادي أنفع القراءات للمؤرخ والمستطلع لأحوال الأمم وسرائر النفوس، ولاسيما المكتوب منها بخلوص نية لا يشوبها التكلف والرياء، ومعظم كتاب اليوميات ممن يتوخون خلوص النية وصدق الرواية عندما يخلون إلى صفحاتهم الخفية، لأن المسألة عندهم (ظاهرة نفسية) أشبه بالتوجه إلى محراب الاعتراف وكأنهم يخففون أعباء ضمائرهم بإلقائها عنهم في صفحات مسجلة يرجعون إليها ويؤمنون بصدقها وأمانتها، كما يخفف الإنسان أعباء ضميره بالإفضاء إلى صديق أمين؛ فهم مسوقون إلى صدق الكتابة بهذا الشعور العجيب الذي لا يستريح إلى غير الأمانة، وفي هذه الراحة ضمان للقارئ أو ضمان للحقيقة أقوى من ضمان المحاسبة والبينات

ولليوميات أدب مستفيض في اللغات الأوربية عامة وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية، وهذا الأدب موضع دراسة المؤرخ والناقد النفساني، والفيلسوف، والباحث العلمي، وكل من

ص: 2

تعنيه سير الجماعات والأفراد؛ يشتركون في دراسته وبحثه تارة لبيان الأسباب التي تدعو الناس في فترة خاصة من الزمن إلى تدوين مذكراتهم والعكوف على أسرار ضمائرهم بمعزل عن الجماهير وشوا غلهم العلنية، وتارة لتحقيق الوقائع واستكشاف دخائل الرجال، ويأتون في جميع هذه التعليلات والتخريجات بما يلذ الوقوف عليه ويفيد!

وما من كاتب يوميات في الحقيقة إلا وهو ظاهرة نفسية كثيرة البدوات والغرائب، كثيرة الجوانب التي تتعلق بها مباحث النفسانيين والحكماء. وقد أشرت إلى طرف من ذلك في مقدمتي للجزء الثالث من مذكرات أحمد شفيق باشا رحمه الله حيث قلت عن يوميات صمويل بيبيز أنها موضع الحيرة عند بعض النقاد، (فلا هم قادرون على أن يجزموا بأنه كتبها لنفسه، لأن الإنسان لا يكتب كل هذه المجلدات وكل هذه الحوادث ليطلع عليها وحده، ولا هم قادرون على الجزم بأنه كتبها للأجيال المقبلة، لأنه كشف فيها أسراراً عن سيرته وسيرة أقربائه، كان معروفاً انه يخفيها اشد الإخفاء ويود لو يتعقبها بالمحو والنسيان)

ثم ضربت لذلك أمثلة شتى منها أن مسألة من المسائل البيتية كدرته فأتلف جميع أوراقها وأسانيدها ثم عاد إلى مذكراته فدون فيها جميع تلك الأوراق والأسانيد بأقصى ما استطاع من إسهاب وتفصيل!

هذا هو العجب، وهذا هو موضع التأمل والدراسة، وهذا الذي يجعل اليوميات مرجعاً صادقاً لدارس الحوادث ودارس الأخلاق.

فآنا لا أدين أدب اليوميات كله لأنني احترقت يومياتي ولم يخطر لي أن أعيد التجربة مرة أخرى

وإنما يباعد بيني وبين كتابة اليوميات أمران كلاهما حقيق بالإثبات لأنهما أيضاً من ظواهر النفسيات وظواهر الفترة التي عشت فيها

وأول الأمرين إنني غير مطبوع على التوجه إلى محراب الأعتراف، لأنه ضرب من الاستغفار لا أستريح إليه، أو لأنني ادخر لنفسي خفاياها وأنزها عن البوح لأحد غير مستثن من ذلك إلا القليل

فالمسألة التي تلعج خاطري وتثير شعوري وتتسرب إلى أعماق ضميري ليس مصرفها عندي أن أسجلها كما هي أو أفضى بها إلى أذن سامع قريب، وإنما مصرفها أن اعبر عنها

ص: 3

في الشعر والكتابة، وأن أعرضها للتحليل والتقليب على وجوه شتى. فإذا حللتها واستخرجت معناها فقد استرحت منها وفتحت مغالقها ولم يبق فيها عندي موضع للمعالجة والاستقصاء

ورب كارثة نفسية من المقيمات المعقدات تسكن كما يسكن البحر الهائج في لحظة واحدة ساعة انتهائي إلى مقطع الرأي فيها، أو ساعة علمي بما ينبغي أن أقابلها به من عمل. وهذا الذي ينوب في طبيعتي مناب الإفضاء والبوح وما أسميه التوجه إلى محراب الاعتراف

أما الأمر الثاني الذي دعاني إلى إحراق يومياتي فهو راجع إلى حوادث الفترة التي نعيش فيها لا إلى البواعث الخلقية

وخلاصة إنني دونت تلك اليوميات لأستعين بها على تاريخ الفترة وتحليل أخلاق رجالها. ثم رأيت في أثناء الثورة الوطنية وبعدها بقليل أن ملفقي التهم ومدبري المكائد يستعينون بأمثال هذه اليوميات على طبخ القضايا وإحراج الأبرياء، وظهر لي أن إثبات ملاحظاتي على رجال الفترة من العسر بمكان مع تعرض اليوميات للمصادرة والسؤال، فآثرت إحراقها أيام اشتداد المحكمات والمصادرات وأحرقت معها رسائل شتى وصوراً وأوراقاً لها في حياتي الخاصة اثر لا يزول، وفاتني بإحراق هذه وتلك نفع كبير في مراجعة الحوادث التاريخية وصيانة الذكريات النفيسة، ولكنه اقل من الضرر الذي كنت متعرضاً له ومعرضاً له غيري لو أبقيت عليها وحدث ما كنت أتوقعه بسبيلها

على أنني ودعت كتابة اليوميات ولكني لم أودع كتابة المذكرات أو كتابة ما يقول عنه الأديب صاحب الخطاب انه قصة من الحياة الشخصية والأدبية والسياسية تكون درساً مفيداً لشبان هذا الجيل والأجيال المقبلة

ففي نيتي وأمام ذهني كتاب كبيراً كسره على أجزاء منفصلة وأفرغ كل جزء منه لناحية مستقلة تتناول حياة الأديب وحياة الصحفي والنائب والسياسي معاً وحياة الإنسان في خاصته وعامته وحياة الباحث عن نفسه وكونه وإلهه وسائر ما يتصل بالعقيدة والسريرة الدينية

ويخيل إلى أنني لو فرغت سنة واحدة مكفي المؤونة استطعت أن أفرغ من أجزاء هذا الكتاب كلها بغير عناء كبير، لأن أصوله وموضوعاته قلما تحوجني إلى مراجعات تفصيلية

ص: 4

بعيدة من الذاكرة والوجدان

تلك كلمتي الموجزة في اليوميات، وما كتبت منها وأنوي أن أكتب بعد حين

أما سؤال الزواج، فقد أجبت عنه في (الرسالة) جواباً يغني فيه الأجمال عن الإسهاب، وكل ما أزيده هنا أنني استغرب المصادفة التي ساقت ألي أربعة أسئلة في شأن الزواج خلال شهر رمضان، وان كان أحدهما لا يستغرب في وقت من الأوقات، لأنه مزمن يأتي من السيدة الوالدة على غير ميعاد! فهل شهر رمضان - وما يعقبه من أفراح الأعياد - هما المسئولان عن مصادفة الأسئلة الثلاثة الأخرى؟

وأما أمنيتي التي يسألني الأديب عنها سؤاله الأخير، فلعلها لا تشرح في ذيل هذا المقال، وأحرى بها أن تؤجل إلى مقال قريب، لأنني لا اطرق منها جانباً يخصني دون غيري؛ بل أطرق منها ما يصح أن يمتد إليه كل بحث وينظر فيه كل ناظر

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌12 - أومن بالإنسان!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

التحرر من التاريخ - نحن غير البائدين - تلاميذنا أصبح

علما بالطبيعة من أرسطوا - العلوم والفنون ليست تحفاً تقتنى

منفصلة عن النفس - لابد من قلوب حديثة - من جرائر

التاريخ - الإنسان يصنع أقداره - استطراد إلى مشكلة القدر

- إلى المنتظرين بعثا من غير نفوسهم - الآن فقط وجد الحق

أدوات الدعوة لتصحيح الأفكار عن الحياة - عباب التاريخ

يجرف الطفولة النضرة مع الجيف القذرة! - لا مفر من عزل

الطفولة لتصحيح أفكارها - مناقضات بين ما في الشوارع وما

في الجامعات - صورة من دراستنا الحالية للتاريخ - طبائع

مدلسة ليست بنت زمانها - ما يستهلكه الخير وما يستهلكه

الشر - هل مضت الحاجة إلى دور الغرائز في خدمة الحياة؟

- حرب الآهة

طالما ألححت بقلمي على التاريخ: هذا الجار الهائل. . . هذا السد القوي. . . هذا السجن العتيد. . . لأحطمه وأنقذ نفسي من جوه المعتم الخانق!

وطالما قلت: ما دام هذا الماضي القاصر الجاهل المخرف الوحشي يحمله الإنسان في أوعيته وأعصابه إلى الحاضر، فهو دائماً في ضلالة القديم، كما يعيش حامل المكروبات الضارة دائماً في أمراض ونكسات.

والحقيقة التي يجب أن توضع نصب العيون الآن هي أن هذا الإنسان العصري هو غير

ص: 6

الإنسان البائد بلا شك! هو غيره في علمه وإدراكه للطبيعة وتذليله لعقبات الحياة واضطلاعه بأدوات تحقيق الاحتياجات وتفتيحه لكنوز الأرزاق والأقوات

فكيف يرضى أن يحمل ذات قلبه القديم وغرائزه كما كانت وان يحمل غشاوات القرون الأولى ليعيش بها في عصر الانكشاف والظهور والقدرة الفائقة؟!

كيف يرضى من ملك زمام اليابس والبحر وذرع الأرض بالطول والعرض، ونبش كنوزها أن يعيش بأساليب الذي كان لا يعرف غير طريق القرية أو النجع أو الجزيرة التي يعيش فيها؟

إن تلاميذ المدارس الابتدائية اصح علماً عن الأرض والطبيعة من سقراط وكونفوشيوس وأرسطو وابن سينا والفارابي وغيرهم من حكماء القدماء؛ فكيف ترضى الإنسانية الحالية أن تعيش حياتها النفسية بأساليب جهلاء عصورهم؟!

إن التاريخ النفسي للحياة الإنسانية ينبغي أن يدرس بعين غريبة عنه ناقدة له في شك وارتياب. فما هو إلا سجل جهاد الناس في سبيل وصولهم إلى حقائق هذا العصر الحالي. فما يليق أن تؤخذ مرحلة من مراحله محطاً يطمئن الناس إليه بعقولهم؛ لأن مراحله السابقة كانت مراحل موضعية ضيقة خاصة بأمة ما من أممه. ولكن أمر أمم الناس الآن أمر جماعة توشك أن تتقارب أهدافها وتشتبك مصالحها وتشتجر اشتجاراً لا خلاص لفروعها منه أبت أم كرهت

هل من المعقول أن نلبس ملابس الحياة الحديثة على الأجساد ثم لا نغير ملابس النفس؟ أنكون قروداً وببغاوات تحكي قضايا العلم الطبيعي بألسنتها وظواهرها ولا تمثله قلوبها ونوازعها؟

هل يكفي من العلم أن يقتني في الحوافظ والذاكرات غير ممزوج ولا مدمج في الأعصاب والأحاسيس والانفعالات، بل يوضع في الرءوس كما توضع التحف والدمى على الرفوف والمناضد للزينة والخيلاء والبيع والشراء عند الحاجة؟

إني أرى العلم ينبغي له أن يكون في كياننا كالماء في أعواد الشجر الحي لا يقف تسربه إليه وتفريع حياته إلا إذا جف واحطب ومات. . . فلا شجر بدون ماء. . .

إن عملية عظيمة في داخل الحياة النفسية الإنسانية ننتظر إجرائها لبناء قلوب حديثة تتلاءم

ص: 7

مع الأفكار الحديثة!

ومن آثار التاريخ في الحياة العصرية هذا الخلاف العنيف بين الأديان بعد ما سطعت شمس الله الواحد. . . وبعد ما أدرك العقل التناسق والانسجام والتوافق بين قوانين الطبيعة مما لا يمكن أن يكون إلا بإدارة يد واحدة!

ومن آثاره كذلك فيها أننا لا نزال نخضع لمنطق الأمم التي كانت تعيش متحاجذة في سدود وتخوم بين عقولها وأخلاقها ومرافقها، وتجعل الدنيا دنيوات، والإنسانية الواحدة أنواعاً متباعدة، وتجعل من اختلاف الأجناس والألوان واللغات اختلافاً أصيلاً جوهرياً بين الطبائع الإنسانية يبيح هذه العداوة الفاجرة المريرة المخربة للعمران، ويحمل على المبالغة في البطش والطغيان ونسيان الصفات المشتركة بين بني الإنسان

ومن آثاره كذلك أن اكثر الناس لم يدرك بعد مدى الانتقال العظيم والترقي السريع والتفاوت البعيد بين الحياة قبل القرن العشرين والحياة فيه؛ ولذلك لا يزالون يضمرون في أنفسهم اعتقادات متشائمة في الإنسان ومستقبله، ويدينون في الحياة بدين السخط وإطلاق الغرائز الخطرة والآراء التافهة التي يجعل الإنسان يعبر الحياة بدون أن يجتهد في ملء نفسه بأسرار التكوين، وفي إضافة كشف أو اختراع أو منفعة إلى ميراث الحياة الإنسانية. . . وليس هناك شيء اضر على الحياة الإنسانية من نزعة التشاؤم والتبرم والسخط على حاضر الإنسان ومستقبله!

ومن آثاره كذلك أننا رضينا أن نعيش أكثرنا جاهلا أمياً لا يفقه مبادئ العلم والحياة التي في رءوس العلماء مع أن نمو تلك الأسرار يتغير كل صباح ومساء. . . وكأننا بذلك وأدنا هؤلاء الأحياء ودفناهم كما كانت تفعل جاهلية العرب بموءودة الأجساد. . . وكان هذا الإهمال منا بمثابة فعل من رأى أهله يموتون ظمأ واحتراقاً، وهو على علم بمنبع ماء غزير يطفئ غلتهم ولوعتهم ويحي نفوسهم ولكنه لا يسعى إلى إنقاذهم. . .

ومن آثاره كذلك إننا نعيش في ذهول عما يحيط بحياة الإنسان الآن من كنوز تتفتح وأعاجيب تخترع، فترى الناشئ منا ينشأ بين القطارات والسيارات والطيارات والراديو والتليفون والغواصات والفونوغراف والفوتوغراف والسينما وغير أولئك، ثم يجهل أمرها وتركيبها ولا يدري عنها شيئاً ولا يكلف نفسه سؤال أحد عن نبئها العظيم. . . كأن ذلك

ص: 8

شيء تافه أو أمر بدهي لا يحتاج إلى فكر شديد وتعجب بالغ!

ومن آثاره إننا برغم إدراكنا الآن كثرة الأقوات وكفاية الأرزاق كثرة وكفاية تشبعان حاجات الإنسانية جميعها لو وزعت توزيعاً معقولاً بدون احتكار وتحكم وإتلاف لجانب من المحصول في سبيل الاحتفاظ بالأسعار المرتفعة. . . لا نزال نطيع الجشع والطمع ونعصي دواعي العدالة والرأفة بالطبقة المحتاجة المجهودة!

ومن آثاره إننا لا نزال نغطي عجزنا وكسلنا بالاستسلام لما نسميه (الأقدار) مع أن مفتاح الأقدار بأيدينا، ومع إننا نرى إننا نصنع اغلب أقدارنا، ومع أن دائرة الإيمان بالأقدار في الدين لا تتعدى منطقة الصبر على المصائب والكوارث التي تأتي إلينا بدون حيلة أو خيرة منا، ومنطقة الرضا بما نحصل عليه بعد الجهاد. . .

وهنا مكان استطراد إلى مشكلة الأقدار لا بأس أن نرسل فيه بعض الحديث:

هناك أقدار نريد أن تتحقق، وهي أقدار الخير والسعادة، وهذه موقفنا منها يجب أن يكون كما يأتي:

أن نسعى جهدنا للتمهيد لتحقيقها بالأخذ بأسبابها التي تهدينا تجاربنا إلى أنها عوامل جالبات لما نسعى إليه. فإن تحقق ما نبغي فذاك، وإن لم يتحقق - وهذا قليل نادر - علمنا أن الإرادة العليا المسيطرة على وجودنا لها غاية غير غايتنا في تلك المسألة التي نسعى لتحقيقها. والإيمان بتلك الإرادة يقضي حينئذ بالإذعان والتسليم لقدرها العالي الذي لا حيلة معه

وهناك أقدار نريد إلا تتحقق، وهي أقدار الشر والشقاء، وهذه موقفنا منها يجب أن يكون كما يأتي:

أن نسعى جهدنا للتمهيد لدفعها بالأخذ بأسبابها التي تهدينا تجاربنا إلى أنها عوامل دافعات لما نخشاه ونتجنبه. فإن كان ما نبغي فذاك، وإن لم يكن كان علينا كذلك الإذعان والتسليم للإرادة العليا.

تلك هي المشكلة الأقدار في جانبيها. وفي كلا هذين الجانبين لرأينا أن على الإنسان أن يقدم جهده في التمهيد لها أو دفعها. فإذا وقف أمامها منتظراً مكتوف اليدين مشلول التفكير كان حرياً أن تأتي إليه أقدار الخير فلا ينتفع بها إذ لم يبذل لها جهداً من فكره أمله، وكان

ص: 9

حرياً كذلك أن تنزل عليه أقدار الشر فلا يسعى لتخفيفها وان يجزع منها جزع الذي يظن انه كان في مقدوره أن يدفعها ولكنه قصر في ذلك، فيظل ملوما محسوراً. . .

والحياة العملية ذات البراهين البريئة من الجدليات توحي إلينا بل تحدثنا بكلمات مقروءة مسموعة بريئة من غموض الرمز والإيماء أن الذي ينتظر أقداره بدون أن يسعى لجلبها أو دفعها لن تكون حياته إلا كحياة ذلك البدوي ساكن الصحراء الذي لا يعمل عملاً لجلب الماء، وإنما هو ينتظر سقوطه عليه من السماء، وطبيعي ألا تكون آماله بيده، وأن يعيش حياته معرضاً لأخطار الظمأ والجفاف معلق القلب مهدد العيش يتجدد قلقه كل سنة لأنه لم يمسك من أسباب الحياة إلا بحبل بعيد هيهات أن يكون في يده دائماً. . .

وأنى تكون حياة هذا البدوي من حياة بدوي آخر سعى حتى اهتدى إلى ضفاف نهر تمسك منابعه بحوالب السحاب، وتحلب الماء إليه جارياً ميسوراً ليده وأفواه دوابه وقطعانه، ثم هو بعد ذلك يشق السواقي والقنوات ليصل منها الماء إلى كل بذرة بذرها؟!

لا شك أن كليهما اخذ من مصدر واحد، ولكن أحدهما حمل نفسه على العسرى، والآخر حملها على اليسرى. . . وشتان ما بينهما!

فلينهض الراقدون على آذانهم في الشرق الإسلامي مستسلمين في صغار لعوامل الشقاء والحرمان، حاسبين أن أحوالهم ضربة لازبة حتى يأتيهم آت من غير أنفسهم ينفخ في الصور، فإذا الأرض حولهم جيوش وجحافل، ومصانع ومعامل، ومعاهد ومعابد، وحقول وجنات وعيون، وإذا هم - بقدرة قادر! - آلهة في الأرض يحكمون!

لينهضوا وليحرروا أنفسهم من قيود التاريخ النفسي الذي انحدر إليهم من الجاهليات فهم يعيشون به في الماضي وإن كانت أجسادهم فلبس أثواب القرن العشرين. . .

ولتكن قوارع هذه الحرب أجراساً وأبواقاً تجمعهم وتدفعهم إلى السير مع قافلة سريعة المراكب، متلاطمة المواكب، غليظة الأثقال، حاشدة جبال الحديد والفولاذ، والقوى العارمة المجنونة التي يقول قائلها:(أنا القدر! أنا القدر! يا بني البشر!)

هل لنا أن نزعم أن الحق وصل إلى نفوس أكثر الناس فأدركوا صدقه وجماله ثم مع ذلك رفضوه، وحينئذ يحق لنا أن نتشاءم في مستقبل الإنسان؟

أؤكد انه لم يصل في عصر ما من عصور التاريخ إلا إلى القليل من الناس. والى الآن لم

ص: 10

تقم دعوة إلى الحق الواضح في الطبيعة بدون أن توضع في طريقها أغشية وعقبات ومعوقات تحجبه وتمنع الناس من إدراكه

والآن، وقد تيسرت أدوات الدعوة وأدوات الإقناع وأدوات التربية يجب بدء دعوة. . .

وإن في الناس لخيراً كثيراً جداً أعظم مما يتضح من النسبة التي نجدها فيهم الآن. . .

والدليل على ذلك نجاح أمم الشمال في أوربا خلقياً، فقد أثرت فيهم التربية حتى أوشكت بلادهم أن تخلو من السجون والجرائم والخيانة حيث الثقة بالنفس الإنسانية وطيدة هناك

إن أدوات صحة النظر في الحياة واتجاهاتها موفورة الآن لأغلب سكان الأرض؛ ولكنهم مأخوذون عن ذلك بجرائر التاريخ. وكان من الواجب بعد العلم الغزير أن يوجد الفكر الهادئ والقلب الكبير الذي نضج وطاب؛ ولكن عباب التاريخ وسيوله لا تزال تجرف الطفولة والبذور مع الجيف والقش والغثاء. . . وتلقي الجميع إلى المصب الذي تلتقي فيه الأخلاط والضلالات التي تركها أبناء الجهلة الأولون. . .

فلا مفر من فصل البذور والطفولة وعزلها عن مجرى سيل التاريخ وإنشائها بأيد غير ملوثة إنشاء يرضى به هذا الزمان وعلومه وفنونه، ويؤهل الإنسانية لتلك الخلافة الواسعة المتعاونة في جهاد الطبيعة واستنزال بركاتها وثمراتها.

ولا مفر من تصحيح الفكرة عن الحياة وتوجيهها إلى الإيمان بها كمرحلة ممتعة أتاحها القدر لمن يخرج من العدم، فيجب صرفها في العمل والفرجة والاطلاع على ما يمكن الاطلاع عليه من آفاقها

ولا مفر من تحويل عبقرية الفكر إلى عبقرية القلب والخلق والجسم. فالعلم والفن يجب صقل النفس بهما وإشراب الجسم إياهما وإخراجه على مقتضاهما بحيث لا تتخلف حياة الجسم وقواه وحركاته عن المدى الذي وصل إليه الفكر. . . وبحيث لا يتخلف ما في الشارع والحقل عما في مدارس الفنون والعلوم والتجارة والزراعة وما إليها حتى تكون حياة الجماعة صورة ومظهراً صادقاً لحياة الجامعات والأندية الثقافية، ولا يكون في الأمة مفارقات ومتناقضات بين حياة الفكر وحياة الواقع.

ولا مفر من حمل كل إنسان على أن يدرك نفسه ويستغرق في التفكير في حياته وحياة الإنسانية ويتيقظ لتلك القوة والقدرة التي تتسلط بها الإنسانية على القوى العمياء الجبارة

ص: 11

وتسخرها في خدمتها

وما الإنسان بدون يقظة للمعنى الفائق والروح السامي الذي في حياته إلا جسد يختلج ويضطرب في ذهول وبلادة، ويحيا هكذا حياة مغناطيسية آلية

ولكي ندرك جرائر التاريخ على العقول أثره في تدليس الحاضر وإفساده وتزوير النفوس سأعيد عليك حديث صورة لا تجهلها عن طرق دراسته على ألسنة العجائز وفي المدارس ومجالس القصص:

يتفتح عقل الناشئ منا فتلقنه عجائز بيته وشيوخ قومه ومعلمو مدرسته تاريخ قوميته وتاريخ الإنسانية بأغلاطه ونقائضه ومحاولات العصور القاصرة في فهم الحياة وجهاد الإنسانية في شق طريقها الأول بين الصخور والمتاهات والعقبات. فما يكاد عقل الناشيء يصل إلى دور الحكم والموازنة حتى يكون قد تطبع بما وعى وأصابه ثقل التخمة وحيرة الامتلاء والتبلبل

ذلك لأن التاريخ لا يدرس على أنه محاولات أولية من الإنسان فيها أخطاء كثيرة؛ فيجب الحكم عليها حكم دور الرشد على دور القصور؛ ولكنه يدرس وعليه طابع التقديس والإعجاب بالأقدمين والاعتزاز بهم في مغالاة وتعصب، وبخاصة تاريخ القوميات والجنسيات

وكان من كبرى نتائج ذلك أن عاش كثير من الماضي السيئ في الحاضر. بل وجدنا جماعات تفر من الحاضر لتعيش في الماضي وترى انه كان الحياة. .! وتمدح الناس بما فعلت الجدود وقالوا إنا على آثارهم مقتدون

فلم يفتح أبناء العصور المختلفة عيونهم على حياتهم في زمانهم بل فتحوها على الماضي وعاشوا به في الحاضر، وظهر اثر ذلك في الافتتان بهوامش الحياة والعكوف على دراسة سطوحها وترك دراسة أصول الحياة وعلومها الطبيعية والتجريبية التي تبقى لها نتائج دائمة تسلم إلى نتائج أخرى في سلم الترقي والتطور

وقد لاقى اكثر الناس الحياة بطباع مدلسة ليست بنت زمانها، وإنما هي بنت الماضي السحيق، وحملوا معهم في رحلة العصور خرافات ووثنيات وسخافات احتفظوا بها حتى في القرن العشرين، ووضعوها حواجز وعوائق في طريق الحياة الحديثة ذات المعجزات

ص: 12

والنبوات الدائمة التي لا تحتمل جدلاً أو مخرقة!

وكان من نتائج ذلك أن وجد المصلحون في كل عصر ركاماً من الغباوات والجهالات توضع في طريق دعواتهم إلى الإصلاح والعلم وفتوح الذكاء ونور البصيرة. . .

ليس قبيحاً جداً بالطفل أن يعترك مع اخوته على شيء يريده لنفسه ويريدونه لأنفسهم، فيتصايحوا ويتضاربوا ويحطموا ما أمامهم؛ لأن الطفل يعيش بالغرائز، فهو أناني ضيق التفكير لا يدري أن أباه يملك الكثير، ولا يفهم فضيلة الإيثار إلا بعد التمييز والتدريب

ولكن ما بال الأمم التي رأت خيرات الله تملأ فجاج الأرض تتقاتل على البحر الزاخر والحقول الممرعة والجو الواسع؟ إن ذلك من أخلاق الطفولة وضيق آفاقها وتحكم الغرائز في حياتها، وهذه صفات وجدت لها في مخلفات التاريخ مبررات وحججاً وتأريثاً!

ومن العجائب انهم يدمرون ما يسعون إليه من الغنى والثروة حين تثور غرائزهم! وان الحقد والشر والطمع لتستنفذ وتهلك من مال الأمم الأثرة الجشعة، ومن بذلها الدم الفياض ما لا يمكن للخير والسلام والإحسان والتعاطف والتفاهم أن يستهلكه أو يستهلك عشر معاشره!!

ونظرة واحدة إلى النفقات اليومية للأمم المتحاربة الآن تكفي في البرهنة على هذا وعلى أن الإنسانية ما دامت مصروفة عن طاعة الحق والعدالة والحسنى، إلى تحكيم الغرائز الدنيا والانحدار في مجرى التاريخ، فسوف تظل هكذا تعمر لتدمر، وتعلم لتجهل، وتتقدم لتتأخر

وكأن المقصود بحياة الإنسان إذا استمر على هذا هو تحقيق مشتهيات الغرائز وإظهار عبقريات النفس البشرية في التخريب بعد التكوين: فهي طوراً تبني وتعيش في صفات البناء وأخلاقه، وطوراً تهدم وتعيش في أخلاق الهدم وصفاته، لتدرك معالم الضدين المتقابلين الأبديين: الخير والشر. . .

ولكن إن صح هذا كتعليل لحياة الشر في الماضي حين كانت الحياة محتاجة إلى دوافع الغرائز لتدريب الإنسان في طفولته على ما تهيئه له الأقدار في مستقبله ولحمله على الاقتحام والكشف وتفتيق الحيلة، وحين كانت نتائج ثورات غرائزه محدودة ضيقة لا تتعدى أضرارها إلى هدم أصول الحياة وتحطيم أسس الاجتماع ومخلفات الإنسانية ذات الحرمات والقيم التي لها اعتبارها، كما هي الحال الآن في نتائج هذه الحرب. . . فلن يصح الآن هذا

ص: 13

التعليل بعد أن صار قتال الإنسان كقتال الآلهة لا كخصام الأطفال

وقتال الآلهة - لو كان هناك آلهة إلا الله - تخريب لأصول الحياة وسحق لبراعمها ومناطق نموها. وهم يعلمون بالطبع طرق التسلل إليها والإطباق عليها لأنهم فرضاً خالقوها وواضعو أسرارها. . .

فلنوحد الإنسانية بعد أن صار لها قوة الآلهة في التخريب، كما وحدنا الأرباب!

ولنعلن بأرواحها وأفكارها عن مستوى بنات الطين والتراب، من كل ذات ظفر وناب!

عبد المنعم محمد خلاف

ص: 14

‌المغزل. والريف. ونفسي

إلى الشاعر التائه صاحب (أرواح شاردة) الصديق علي

محمود طه

للأستاذ راشد رستم

شردت من الحضر إلى الريف - وليس العجب أن يشرد المرء من الحضر إلى الريف - وإلا فأين معنى الشرود، وأين موطن الشرود، بل رأين الروح الشرود. . .

أما أنت يا صاحبي، فقد شردت من الريف إلى الحضر! ذلك إذا عددنا مصر، بنيلها العظيم، وزرعها النضير، وإنسانها الكريم، ريفاً وأي ريف، ثم حسبنا بلاد الغرب بمياهها المعدنية، ومدنها الفنية، ورهطها النشيط، حضراً وأي حضر. . .

فهل أنا موفق هنا معك، أم أني شرود كذلك في هذا الخيال وهذا التشبيه؟ على أنه كانت الأولى فإني منتصر، وإن كانت الثانية فلست أنت المنتصر. . .

ولكن خبرني، ما بالي أثير عليك غبار هذا الجدل وأنا في سكون البكور من صباح منير، وسط ريف هادئ بديع! لماذا هذا الجدل وأنا في جو نقي نظيف، حيث البساطة والسهولة والوضوح! في هذا الصباح البدري الذي لا تصيح فيه الديكة إلا لكي تدعو النيام إلى القيام، والذي تحمل فيه الطيور النطاطة تحيات النهار - وهذا أول النور وآخر الظلام!

هذا صباح الريف، سكون ولكن حياة. وهاهي الطبيعة، ناعسة تتمطى ولا تقوم. وأنا صاح قائم اذكر قول الشريف الرضي، رضى النفس، شارد الروح، وهو يقول:

وأكتم الصبح عنها وهي غافلة

حتى تكلم عصفور على علم

وهأنذا أتحدث عن هذا الصباح الغريب، فقد كان صباحاً ساكناً، ثم ثار، ثم سكن. أثبت الحقيقة كما جاءت فيه - والحقيقة أصل لكل خيال - فقد جلست الساعة بعد هذا الشروق البهي، و (مغزلي) في يدي، وأنا في المكان من الصعيد السعيد البعيد. . .

وهذه هي الأرض تغمرها مياه النهر الكريم، تحفها سلسلة هذه الجبال الراسيات، يضم القوم بينهما هذا الوادي الأخضر السهل الفسيح الممتد

وإذ أنا في هذه الحال، هادئ النفس هادئ البال، إذا بالبلدة الناعسة، وهي تطرح عنها

ص: 15

أطراف الليل، تستيقظ على صوت مزمار وطبل - جماعة يحجون إلى دير بالجبل بعيد - حتى إذا عادوا من نذرهم وقد مروا علينا بالطريق، صبحونا مبدرين مبكرين، ودخلوا القرية وافدين؛ حيونا بأصوات البشير، وتلقيناهم بأحسن تكريم، وتبادلنا وإياهم في ساعة هذا النهار المنعش الصبوح، صفاء قلوب في صفاء قلوب

ثم أداروا علينا من أنغامهم موسيقى ذات دوي بعيد وحنو قريب، فأخذت القوم نشوة اليقظة بعد فترة الرقاد الطويل، وتولتهم هزة الفرح، فراحوا وزامر الحي يزمرون ويطبلون، كما أنشئوا (يتحاطبون)، يحملون عصيهم في الفضاء، تدور بهم وهم بها دائرون، يبتعدون ثم يلتفون، وفي خفة يقفزون، ليس فيهم طالب ولا مطلوب، ولا غالب ولا مغلوب، إذ هم في لهو يمرحون، وأهل القرية من حولهم معجبون مبتهجون

حتى إذا تحول الطرب ودارت للرقص أنغامه، دارت في الساحة من الرجال أربابه، يتفكهون وإن كانوا به يتباهون؟

غير أن للخلخال رناته، وللخال المحجب ساعاته، وقد دق الطبل لبنات الحي دقاته، فنزلن إلى الساحة يخطرن وللقلب وقتها دقاته، وأثارت بنات الحي في الحي للرقص موجاته، فارتفعت في ميزان (الحرارة) شاراته، وازدحم الميدان واشتدت حماسا ته، فقد دارت بنات الحي في الميدان للرقص دوراته، وحمي الوطيس واشرأبت من الجمع هاماته؛ هؤلاء هن للدلال والوقف والعطف سيداته، وهؤلاء هن للف والميل والدوران رباته:

صان الإله رشيقةً مياسةً

أربتْ على الغزلان في الجولان

ثم خلت الساحة من حسان راقصاته، إلا التي هي من بنات الحي أبين باناته. هيفاء هيفاء، تخطر فوق الثرى وكأنها تصعد في الجو إلى ثرياته، خفة ورشاقة وسناء؛ بينما تراها هناك. وهي أن حنت على المشيب أقبلت عليه ترعاه، فتجعله من فرط الرضا شباباً. . . فإذا تجنت على الشباب تحولت إليه تسبيه هياماً فتجعله هباء أو سراباً. . .

وكأني بها حمامة الصبح وهذا هو الصبح قد لاح، فهل تبعد يا أليف الهوى وهذا هو الإلف قد بان وسبحان الفتاح؟ تعال. تعال. خذ الخصر بيمناك، ودر بالساق مع الساق، ولا تقل أين المساق. إن للحياة مداها، وللروح في حب الرضا قرباها، ومناها، ونجواها. . .

وانظر الآن! هذه هي الخيل تجري في أعنتها وفق هواها، تدب دبيب السعد والخيلاء

ص: 16

والخير معقود على نواصيها. وهؤلاء فرسانها لا يستطيعون لها كبحاً، فتفزع تدخل بهم الساحة مسرعة، كأنها تأبى إلا أن تأخذ نصيبها في موكب الصباح، ولكنها ترتد سريعة جامحة، كأنها من نيران أمامها خائفة، وما هي إلا ذات الخلخال، لا تزال في الساحة قائمة، لم تترك مكانها، فكيف إذن للخيالة أن تستبيح الميدان؟

لما أن رأتهم مندفعين، وقفت وقفتها تكشف فيها لهم عن القسي والسهام، فأدركوا ما قد يصيبهم من كبوات وغرام، وخافوا على أنفسهم وخيلهم من الذي والضرام، وهكذا ارتدوا خائفين وهم هم السادة الشجعان، من الخيالة والخيل والفرسان.

حتى إذا هدأ الروع، واستقر الفؤاد، عادوا بعدئذٍ إلى الساحة مطمئنين، بل كراماً نازلين، يدورون ويدورون، يلعبون (ويتفرسون)

والخيل تمزع مزعاً في أعنتها

كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البرد

وللخيل صيحات وللفرسان صيحات

وهكذا بين جمال وجلال وكر وفر، وصهيل وتهليل، تسود البطولة أجواءنا، وتملك النعومة أرواحنا. . .

حتى إذا بلغت نشوة الفرح حدها، وضيافة الصبح سمتها، وأذن مؤذن الركب بالرحيل، وأخذ القوم يعودون في هدوء آسفين، ونحن من ورائهم كذلك آسفون؛ وخلا المكان، وانفض السكان، وإذا بي قد شردت من حالي دون أن أبرح مكاني، وإذا بي يشتد شأني دون أن اترك شأني، وإذا بي أرى مغزلي بجواري فألجأ إليه عنده خلاصي

وإني وقد آخذ مقامي من هذا الريف النظيف، أبدأ كل يوم فيه بما قد هويته صغيراً، ولا أزال أهواه كبيراً:(غزل) الصوف بهذا المغزل القديم المعروف؛ إذ أجد للفكر إذا ما شرد، وللنفس إذا ثارت، راحة وسكوناً مع دورات هذا المغزل الأنيق الرشيق العتيق

وإنك لتراه يتدلى في الفضاء دائراً دائراً، معلقاً في خيط رفيع دائماً؛ ينساب من بين أنامل ماهرة، قد تكون كذلك ناعمة، تجعله خيطاً رفيعاً ناعماً، تتجلى فيه دقة الصنعة إذا ما جعلته رفيعاً رفيعاً، متيناً متيناً

تراه محملاً مثقلاً، معلقاً في ذلك الخيط المتين الرفيع، كما يتعلق الهائمون الشاردون بالأمل في خيط منه وحيد رفيع

ص: 17

يدور المنزل في الفضاء مثقلًا مثقلاً، كأنه النفس المثقلة بأنواع الهموم، تغزلها يد الأقدار، تلفها عليها في سكون ودوام، ثم تدور بها في طيات هذه الحياة

هذا المغزل الذي بين يدي، هو كهذه النفس التي بين جنبي، حملتها كبيرة صغيراً، ولا أزال أحملها كبيرة كبيراً

هذا المغزل بينما تراه خلياً حيناً، مثقلاً أحياناً، يدور في فضاء الله، كما تدور فيه هذه النفس ثائراً، هادئاً صابراً

هذا المغزل مهما كان عتيقاً عريقاً، فإنه متجدد دائماً، نظيف دائماً، رشيق دائماً. . .

(مزرعة كوم المنصورة)

راشد رستم

ص: 18

‌مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

ديوان البارودي

للدكتور زكي مبارك

تمهيد - نقد مقدمة هيكل باشا - نصيب البارودي من علوم

اللغة العربية - الخمريات والغراميات - الجديد في شعر

البارودي - التحكم في التاريخ - الطبيعة بين الصمت والنطق

- المستنيرون في عهد توفيق - تاريخ الشعر العربي -

المصريون في عهد البارودي - ما صنع البارودي في منفاه

تمهيد

المقرر للمسابقة هو الجزء الأول، طبع دار الكتب المصرية وشرح الأستاذين: علي الجارم بك، ومحمد شفيق معروف؛ وهو يطلب من مخازن وزارة المعارف ومن شهيرات المكاتب

وللشارحين كلمة يشكران فيها النقراشي باشا (لاهتمامه بإنجاز طبع الديوان)، وهيكل باشا (لتكرمه بكتابة التقديم) وجعفر والي باشا (لكبير معونته)، والسيد أشرف البارودي (لإمدادهما بأصول الديوان الخطية)

وكنت أحب أن يشيرا الشارحان إلى أن عناية وزارة المعارف بطبع دواوين الشعراء الذين رفعوا اسم مصر في العصر الحديث ترجع إلى العرابي باشا، فهو صاحب هذه الفكرة، وفي عهده ظهر ديوان حافظ إبراهيم سنة 1937

وكنت أحب أيضاً أن يشيرا إلى الظرف الذي كتب فيه التقديم، وقد تركه الدكتور هيكل باشا بدون تاريخ، لسبب توضحه الأسطر الآتية:

كانت وزارة المعارف إلى الدكتور هيكل في وزارة محمد محمود باشا الأخيرة، وفي تلك الأيام بدئ بطبع ديوان البارودي، وكان مفهوماً أن هيكل باشا سيكتب مقدمة الديوان؛ ثم استقالت وزارة محمد محمود باشا وتلتها وزارة علي ماهر باشا، وفي الوزارة الثانية كان

ص: 19

النقراشي باشا وزير المعارف، فكتب إلى هيكل يدعوه إلى كتابة مقدمة الديوان، مع أن ظواهر الأحوال كانت تقول بان بين الرجلين شيئاً من الجفاء

ولو أشار الشارحان إلى هذه اللمحة الأدبية لكانت شاهداً جديداً على ما عند رجالنا من كرائم الآداب

وسكت الشارحان عن الشارح الأول، كما سكت عنه هيكل باشا، وفي الطبعات العلمية لا يجوز هذا الإهمال

ويستطيع طلبة السنة التوجيهية أن يسألوا أساتذتهم عن ذلك الشارح، إن كان يهمهم الاستقصاء

نقد مقدمة هيكل باشا

تقع هذه المقدمة في اكثر من ثلاثين صفحة بالقطع المتوسط، وقد كتبت في ساعات غلب فيها الصفاء، قد كان الدكتور هيكل في عزلة تشبه عزلة النساك بعد خروجه من المعارف، وكان يعاني الكلف بالخلوة إلى القلم بعد أن شغل عن الأنس به عدداً من الشهور الطوال

هي مقدمة جيدة جداً، وربما جاز القول بأنها أجود ما صدر عن الدكتور هيكل من الدراسات الأدبية، فقد نفذ إلى أعماق العبقرية البارودية، واستطاع في بعض النواحي أن يذيع سرها المكنون

وسيجيء في الامتحان التحريري سؤال أو أسئلة من هذه المقدمة، فمن الواجب أن نتناولها بالنقد الرفيق، لنساعد طلبة السنة التوجيهية على إدراك ما فيها من مقاصد وأغراض، فالنقد هو الذي يوجههم إلى فهم مدلولها الصحيح، وهو الذي يهديهم إلى مكانة البارودي في تاريخ الأدب الحديث

نصيب البارودي من علوم اللغة العربية

نص الدكتور هيكل باشا مرتين على أن البارودي كان يجهل النحو والصرف والعروض، والنص على هذا مرتين في المقدمة يشهد أن هيكل باشا لم يكن في هذا الحكم من المرتابين

فممن اخذ (حيثيات) هذا الحكم القاسي؟

أخذه عن الشيخ حسين المرصفي، فقد نص في (الوسيلة الأدبية) علة أن البارودي كان

ص: 20

يجهل النحو والصرف والعروض؛ وكان يجب على الدكتور هيكل أن يذكر أن الشيخ المرصفي لم يقل هذا القول إلا في مقام الثناء على ما كان البارودي يملك من بوارق الفطرة والطبع، وإلا فمن العسير أن نصدق أن البارودي كان يجهل ما لا يجوز جهله من أصول النحو والصرف والعروض

ولكن أين الشواهد على علم البارودي بعلوم اللغة العربية؟ في الديوان رسالة مثبتة بالزنكوغراف، وهي رسالة لم يلتفت إليها الدكتور هيكل، ومنها أتخذ الشواهد على ضعف الحكم الذي نقله عن صاحب (الوسيلة الأدبية)

والى معاليه أسوق الحديث:

1 -

في ص 43 جاء بخط البارودي في وصف ما عانى هو ورفاقه من هياج البحر:

(ومكثنا على ذلك ثلاثاً، لا نجد فيها غياثاً)

وعند تأمل الخط نجد أن الأصل (ثلاث) و (غياث)، وأن البارودي التفت إلى الخطأ النحوي فرسم ألفين فوق هاتين الكلمتين، وهذا يشهد بضعفه في النحو، ولكنه لا يشهد عليه بجهل النحو، بدليل هذا التصحيح

2 -

وفي ص 46 نجد بخط البارودي:

(هيهات، ما كل شامة خالًا، ولا كل حلقة خلخالاً) وعند تأمل الخط نرى أن الأصل (خال) و (خلخال)، ونرى البارودي وضع ألفين فوق هاتين الكلمتين

والتصحيح في هذه المرة أدق، فهو في الشاهد السالف كان التفافاً إلى حكم الظرف وحكم المفعول في الأعراب، وهو في هذا الشاهد التفات إلى حكم (ما) الحجازية؛ وكان يسعه أن يعفي هاتين الكلمتين من التصحيح ليسير مع النحوي الذي يقول:

ومُهفهَفِ الأعطافٍ قلت له: انتسب

فأجاب: ما قتلُ المحب حرامُ

والذي يفرق بين (ما) الحجازية و (ما) التميمية لا يوصم بجهل قواعد اللغة العربية

3 -

وفي ص 49 نجد بخط البارودي:

(بل حسبت أن قطرات المزن، دموع أسالتها زفرات الحزن)

وننظر إلى العين من دموع فنراها كانت (عاً) ثم أصارها البارودي (عٌ)

فما معنى ذلك؟ معنا انه توهمها أولاً مفعول (حسب) ثم أدرك أنها خبر (أن) والذي يجهل

ص: 21

النحو لا يدرك هذا الفرق

4 -

وفي الصفحة نفسها نجد البارودي يقول:

(الهم يا هادي الضلال في الليل المدلهم، وناصر الملهوفين في غمرة اليوم المسلهم)

وننظر فنجد البارودي محا كلمة (الملهوفين) واثبت كلمة (الهلاك) حرصاً على الازدواج، فنفهم انه كان يعرف علم البديع

5 -

ومن هذا ما جاء في ص 50 حيث يقول:

(ما وعد إلا وأخلف، ولا سالم إلا وأتلف)

فقد محا (سالم) واثبت فوقها (أوعد) حرصاً على الجناس والطباق!

6 -

وفي مقدمة الديوان يحدثنا البارودي عن (ذكر الشيء باسم غيره لمجاورته إياه) فنفهم انه كان يعرف أشياء من علم البيان

7 -

ونص البارودي على قصائد فيها (لزوم ما لا يلزم)، فكيف يقع هذا من رجل يحكم عليه هيكل باشا بجهل القوافي؟ يضاف إلى هذا أحكامه على الشراء وهي تدل على بصره بالنقد الأدبي، وكذلك تدل استفادته من المعاجم على فهمه لأصول علم الصرف

وصفة القول أن البارودي كأن على بينة من علوم اللغة العربية، وان لم يصل إلى التفوق في تلك العلوم؛ فقد كان يعتمد على فيض الفطرة والطبع، وهما افضل أدوات الشعراء

الخمريات والغراميات

وطاب للدكتور هيكل باشا أن يؤكد أن البارودي لم يكن صادقاً في الخمريات والغراميات، وقد جزم بان قصائده في هذين الفنين لم تكن إلا محاكاة لأساليب القدماء

وهذا الحكم صواب من جانب وخطأ من جانب، فهو صحيح في الخمريات لأن أشعار البارودي في الخمر لا تخلو من ضعف، ولكن هذا الضعف لا يرجع إلى أن الخمر لم تذهب بعقل البارودي، كما يقول الدكتور هيكل، وإنما يرجع إلى أن وصف الخمر فن لا يحسنه جميع الشعراء وإن كانوا في حبها من الصادقين

أما غراميات البارودي فهي صدق في صدق، وأشعاره في العشق آية في الإفصاح عن صبوات القلوب، وقد تذكر بغراميات الشريف في بعض الأحيان

وما الموجب لأن نقول للبارودي (كذبت) حين يتحدث في أشعاره عن هواه، مع انه يقول

ص: 22

في مقدمة الديوان:

(إنما هي أغراض حركتني، وإباء جمح بي، وغرام سال على قلبي)

أما أن كان الدكتور هيكل يريد تنزيه البارودي عن مآثم الفتيان، فلكلامه وجه مقبول، فقد كان البارودي رئيس الوزارة في بعض العهود، ويجب على الوزراء أن يعيشوا بلا قلوب

الجديد في شعر البارودي

ويقول الدكتور هيكل باشا إن الجديد الذي استدعى الإعجاب بشعر البارودي (هو نزوعه إلى تصوير الواقع كما هو في بساطة وسلاسة وقوة دون اعتماد على محسنات اللفظ البديعية)

ونقول إن هذا التصوير بعيد من أذهان من عاصروا البارودي وكانوا مولعين بالزخرف والبريق، وإذن يجب على الدكتور هيكل أن يتلمس رأياً غير هذا الرأي، وهو قد اهتدى إلى الصواب بعد ست عشرة صفحة فقال:

(إن هذا الشعر كان جديداً كله، كانت محاكاته الأقدمين جديدة، وكانت معارضته إياهم جديدة، وكانت رياضته القول على مثالهم جديدة)

فإذا أعيد طبع الديوان فليتفضل الدكتور هيكل يحذف الحكم الأول والاكتفاء بالحكم الثاني

التحكم في التاريخ

للبارودي قصيدة لامية قال فيها ما قال في التندي بالمصريين، وينص الديوان على أنها قيلت في عهد (إسماعيل) وكن الدكتور هيكل يعتسف فيحكم بأنها قيلت في عهد (توفيق)

فهل يملك الحق في نقل القصائد التاريخية من عهد إلى عهد؟

إن عصر إسماعيل كان مبعث نهضة بإجماع الآراء، وعصور النهضات لا تخلو من بواعث الحب والبغض، والحمد والملام، فكيف نستبعد صدور قصيدة ثائرة في عهد إسماعيل؟ وكيف عرف هيكل باشا أن البارودي لم يذق في عصر إسماعيل غير القرار والاطمئنان؟

لو أن الدكتور هيكل التفت إلى القصيدة التي أثبتها بيده في ذيل الصفحة الثالثة والعشرين لرجع عن ذلك الاعتساف، وهذه إشارة فيها كل البيان

ص: 23

الطبيعة بين الصمت والنطق

وشاء الدكتور هيكل باشا أن يحكم بأن (البارودي إذ كان يسجل للصور في شعره لم يكن يسجلها في صمتها وسكينتها على ما يولع به عشاق الطبيعة الصامتة)

فما معنى هذا الكلام؟ ومتى صمتت الطبيعة في أوصاف الشعراء؟

لعله يريد أن يقول إن البارودي كان قوي الشعور بحيوية المناظر الطبيعية، وبما فيها من فاعلية وانفعال، فقصر به التعبير عن بلوغ ما يريد

المستنيرون في عهد توفيق

هم في نظر الدكتور هيكل باشا رجال الجيش، وقصر الاستنارة على رجال الجيش في ذلك العهد غير صحيح، فقد كان في مصر جماعات علمية وأدبية تفوق في الاستنارة رجال الجيش، والصواب وضع كلمة (السياسيين) في مكان (لمستنيرين) فقد كان رجال الجيش ساسة البلاد في ذلك الحين

تاريخ الشعر العربي

ويقول الدكتور هيكل إن الشعر العربي قضى ألف سنة في انحلال إلى أن بعثه البارودي، فمن اين جاء بهذا القول؟

أنحكم على ماضينا الأدبي هذا الحكم الظالم في سبيل إنصاف البارودي؟ ليرجع الدكتور هيكل إلى (مختارات البارودي) إن شاء، فإن فعل فسيعرف أن البارودي يرى غير ما يراه، فقد وصل اختياره إلى القرن السابع، وصح له أن يحكم بأن سبط ابن التعاويذي وهو من شعراء القرن السادس كان يتابع الشريف الرضي ويمشي على اثر مهيار الديلمي. والبارودي الذي اعترف بحياة الجزالة الشعرية في القرن السابع كان من شعراء القرن الثالث عشر، وعلى هذا تكون المدة التي انحل فيها الشعر نحو خمسة قرون، فكيف يجعلها الدكتور هيكل عشرة قرون ويوصي بإسقاطها من الحساب؟

يشفع للدكتور هيكل انه أراد المبالغة في التنويه بمقام البارودي، ولكن الإحسان إلى البارودي كان يتم بدون الإساءة إلى تاريخ الشعر العربي. فليتفضل بمراعاة هذا الجانب من مقدمته في الطبعة التالية، إيثاراً للعدل، فما كان في أحكامه الأدبية من الظالمين

ص: 24

المصريون في عهد البارودي

حكم الدكتور هيكل بأنهم لم يكونوا يعرفون اللغة العربية، وإنما كانوا يتحدثون بلغة أخرى هي العامية

وهذا الكلام يحتاج إلى تحديد، فان كان يريد الخواص فهو مسرف، فقد كان هؤلاء في يقظة عقلية وروحية، بدليل ما تركوا من نفائس المؤلفات، وان كان يريد العوام فهم إلى اليوم يتكلمون العامية، ولم يستطع جهلهم أن يصد الخواص عن التحليق في أجواء الأدب الرفيع

البارودي في منفاه

اكتفى الدكتور هيكل بالنص على حنين البارودي إلى الوطن وهو في منفاه، وسكت عن مسألة مهمة جداً، وهي براعة البارودي في بعث (المدائح النبوية) بعد أن طال عليها الموت، ولهذه المسألة تفاصيل يضيق عنها هذا المجال

أما بعد فهذه ملاحظات لم يكن منها بد، لأن مقدمة الدكتور هيكل ستكون أساساً لدرس ديوان البارودي، ومن واجبنا أن ننبه المتسابقين إلى ما يوجه إليها من الاعتراض، ليكونوا على بينة من مكاسر ذلك البحث الدقيق

وقد بقيت مآخذ لا تستوجب المسارعة إلى التنبيه، ولعلها تدق عن أفهام طلبة السنة التوجيهية، أما محاسن المقدمة التي كتبها هيكل باشا فهي أظهر من أن تحتاج إلى بيان

لم يبق إلا النظر في المقرر للمسابقة من أشعار البارودي، فإلى الأسبوع المقبل

زكي مبارك

ص: 25

‌البحر.

. .

(البحر لا ينام وفي يقظة البحر تعزيه لروح لا تنام)

(جبران)

للدكتور حسن عثمان

مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب

ضاقت نفس الشاعر بالأرض اليابسة التي تزدحم بالمدن، وتعج بالحركة، وتضيق بالتقاليد، وترهق بالأوضاع والمظاهر، فانطلق إلى الماء الفسيح، إلى البحر الطليق، يلتمس عوناً وملاذاً. وأقترب منه رويداً رويداً وهو يشخص ببصره إلى زرقته من بعيد، وصوت أمواجه المتلاطمة يعلوها الزبد يضرب في أذنيه، ورائحة البحر الملحة تملأ صدره، ورياحه تتخلل غصون الشجر، فتهتز وتتمايل، وتخرج منها أصوات تجاوب أصداء البحر. وأخذ الشاعر يطيل السير وحيداً على شاطئه دون أن تسمع صوت أقدامه، وهو ينظر مطرقاً إلى هذه الأمواج تصطفق ثم تنساب على الشاطئ. ويتأمل ويفكر ويحلم وينعم الطرف فيما هو قريب وفيما هو بعيد، إلى أن يضيع نظره فيما وراء الأفق، في رهبة وسكون

ثم يقطع تفكيره وسكونه أصوات حوله فيتلفت، فإذا به يرى أنماطاً من زبانية البشر، من عبيد الأرض، يهرعون إلى البحر لكي يطفئوا نيرانهم، ويطهروا نفوسهم من الآثام والخطايا. ويلمح الشاعر في ناحية قصية نفوساً هالعة وقلوباً دامية تصرخ من أعماقها في الظلام. . . فيسارع إليها ويدرك شكاتها لأول نظرة. . . فتثير في نفسه كل هذه الرؤى كوامن الشجن، وتهتز مشاعره، وتنهمر دموعه الملحة الساجيات غزيرة مختلطة بماء البحر المالح. ويحس البحر الواسع الرحيب هذه النيران، ويلمس تلك الخطايا والأشجان، فيقبلها ولا يلفظها. ويطهر الآثام، ويأسو الجراح

وترك الشاعر مكانه واعتلى ظهر سفين مطوفاً إزاء الشاطئ فشاهد صور اليابسة وألوانها. فهذه رمال وكثبان صفراء، تعلوا من بينها باسقات النخيل، وتنحسر عنها مياه البحر الزرقاء؛ وتلك جبال شاهقات تكللها الخضرة، وأخرى صخور جرداء شامخات توازن

ص: 26

بارتفاعها عمق البحر؛ وأولئك هم الصيادون والغواصون يجمعون اللآلئ والمرجان والأصداف والأعشاب من كنوز البحر وعجائبه؛ وهاتيك الطيور البيضاء تهبط إلى سطح الماء تلتقط الأسماك كانا تشكو عصف البحر، فتعلو في جوف الطيور إلى الفضاء؛ وهذه الجزر وتلك الصخور المتناثرة تحيطها مياه البحر، وتتكسر حولها أواذيه، ويتصاعد، على جنباتها رشاش الماء الأبيض؛ وهنا ينبثق نور الفنار المتألق، يشق حجب الظلام الحالك، ويرسل شعاع الأمل وسط الضباب الكثيف

ويبتعد السفين صوب البحر قليلاً قليلاً حتى يختفي الشاطئ عن البصر، ويتهادى أياماً وليالي طوالاً والأفق كله ماء وبحر، تلونه أطياف الشمس وأعماق البحر؛ فهو أزرق داكن، وطوراً أغبر مصفر. ويمر السفين فوق جوف البحر. إن قاعه أرض وصخور ووديان وجبال وبراكين وقارات وعوالم ساكنة ومتحركة في أعماقه منذ الأزل. إنه عميق جداً. لا يصل الإنسان إلى قراره. ولا يعلم أحد كل ما طواه في صدره. ما الذي طواه بالأمس، وما الذي سيطويه في الغد.

إنه يحمل الأطفال من البشر فوق سطحه الفسيح في رفق وحنو. إنه يجول بهم ويستقبل الشمس إذ تبزغ في الصباح وترسل نورها فوق محيطه الواسع، وتغرب عند الأصيل وهي تودعه بأشعتها الأرجوانية. وفي الليل الصافي الساكن تتلألأ السماء بالنجوم البراقة، ويبدو القمر هلالاً ساطعاً خلال السحاب الخفيف، فتنعكس أشعته الفضية على صفحته اللامعة، والنسيم يلمس أمواجه المهتزة المتلاقية. إنه هادئ وادع أليف. إنه يطرب. إنه يبتسم وينشد ويترنم.

وفجأة يكفهر الجو، وتتلبد السماء بالسحب، ويومض البرق نذير العاصفة، وتشتد الريح، ويقصف الرعد مدوياً، ويدفع الإعصار أمواج البحر شاهقة تطاول السحاب، ثم تعود فتنكسر وتهوي على صفحته الصاخبة. إنه غاضب. إنه ثائر عنيف. إنه جبار. إنه يدوي بصوته الغاضب إلى عنان السماء. إنه رائع. إنه هائل جداً. إنه يطوح بالسفن فوق سطحه، ويقذفها عالية فوق أمواجه، ثم يهبط بها في لجته السحيقة. إنها ألاعيب تحمل طرزاً من الكائنات ترتدي أثواباً زرقاء وحمراء وصفراء. إنها دمى يمحو البحر ما بينها من قرون اليابس، ويذيب عنها خيلاء الأرض. وكلها تتساوى وتصغر وتتضاءل أمام

ص: 27

جبروته. ويفرق واضحاً أمامها الحد بين الأمس المعلوم وبين الغد المجهول، فتتأرجح كلها بين الحياة والموت في لحظات رهيبة. . . ونبتون يطلق ضحكاته في الفضاء ساخراً!. . . ثم تنجلي العاصفة، وتسكن الريح، ويعود البحر هادئاً وادعاً أليفاً، ويداعب هذه الخلائق التي أرهقها غضبه وثوراته. . . وحينئذ تثوب النفوس إلى رشدها، وتعرف القلوب دناءة الأحقاد وصغارة المطامع، وتنقشع عن البصائر غشاوة الباطل وزور البهتان

أيها البحر العريق! يا أبا الأرض ويا أصل الوجود ويا معلم الإنسانية. . . أيها الحاجز بين القارات، أيها الواصل بين العوالم، يا من أجرت سحبك انهار الأرض، وأقامت أمطارك معالم المدنية. . . ويا من على سطحك جرت الفلك تحمل ثمار الحضارة. . . ويا من شهدت أعطافك جولات القراصنة، وسجلت أمواجك التحام الأساطيل. . . ويا من خشعت مياهك فأفسحت الطريق لبني إسرائيل ثم أطبقت على آل فرعون من القوم الظالمين. . .!

أيها البحر العظيم! لقد عبدك الأقدمون، ورسم أطيافك المصورون، وردد صدى أنغامك الشعراء والموسيقيون. . . انك هادئ صاف رائق. إنك ثائر عاصف عميق. إنك جميل أزرق. إنك مانع جامع. يقرأ الشاعر على صفحتك ما لا يسطره القلم، وما لا يقرأه الأميون من الناس. إنه ينصت إلى أساطيرك وقصصك. إنه يستلهم معانيك ووحيك، ويبهره جمالك وجلالك، فلا يطيق النظر إليك، ويغمض العينين دونك، وتشيع في نفسه رائحتك، وتمر في خياله ذكرياتك وصورك

حسن عثمان

ص: 28

‌مواسم الأدب

للأستاذ كرم ملحم كرم

يوم لنا ويوم علينا. هذا حال الأدب؛ فلا بد فيه من يقظة وهجعة. والأدب وليد الحس، والحس تتفق له حيناً وثبات يصاول بها الفلك، ويدهمه حيناً سكون تغلب عليه فيه نومة. . . ضجعة الموت أهنأها!

فكأن للأدب مواسم يشع فيها ويكشف عن جبينه وقد دانت له مغلفات الوحي، وتفتحت عليه سموى الإلهام. كأنه يتقلب بين سعود ونحوس؛ فيضيء نجمة وقادة ليخبو كمصباح عطش إلى الزيت. فما إن تعصف به الغاشية حتى تذهب باليانع من أطايبه، والنامي من أغصانه؛ ويحييه غيث ندى فيتلألأ بسخاء، ويزكو بسماح، ويعلو أبداً فيطول عين لشمس وينفذ إليها ساطعاً منها على الدنيا، مالئاً كل زاوية وهجاً وسنى!

ولقد بحثت عن الأدب فما اهتديت إليه بغير أبواب الملوك، وانه ليجالس الملوك؛ يهشون له فيبش لهم، ويصدون عنه فيغمز بهم. فإن يهبوا له العطايا ينفحهم ببدائعه، وإن يمسكوها عنه وينتضوا في مقاتله سيفاً حديداً يناهضهم بلسان أمضى من القاطع الفتاك

وما هي عطاياهم تجاه بدائعه؟. . . عطاياهم تذوب ونفائسه تبقى؛ عطاياهم تذوب لا تنبت على الأيام، على حين أن نواجبه تفل من عزم الأبد، ولولاه، لولا ما يخلع عليهم من مديح، لتناست الأجيال المتعاقبة معظمهم؛ وحتى أهاجيه تمد آجالهم، فيصونهم الخلود، لكون الأدب تغنى بمآتيهم، أو أحسن النيل منهم وأبى على الزمن أن يبيد آيات سمت عن التلاشي والاضمحلال

بيد أن فضل الأدب على الملوك لا يمحو فضل الملوك على الأدب. فما بلغ الأدب أشده، بل هو لم يتنفس وتختلج فيه الحياة المطمئنة الوضيئة، لولا أن هؤلاء الملوك يغذونه بعطاياهم، وتوحي به مجالي الأبهة والجلال في معيشتهم وسكناهم. فالمهابة والندى من باعثات الوحي وحوافز البيان. فلا بد لمن تكمن فيه آيات البلاغة أن يحسسهما ويبوح بما يجيش في نفسه من إعجاب وإجلال. . .

فالتاج والصولجان ينطويان على عظمة ملموسة تفتق العاطفة على جمودها، وتستل من أعماق القلوب الكلام المجنح والمنطق الحلال. فيفيض الأديب الموهوب بالبيان الصافي،

ص: 29

وينتزع المعاني من مخابئها؛ بل هو يغوص عليها في مظانها يجلو بها العقد النظيم ويدفعه أنيق الصياغة، ساطع الجبين!

وقد تندفع إليه هذه المعاني عفواً، دون ما كد ذهن ولا إجهاد نفس. فالعظمة المنبسطة أمامه بسلطانها وبهائها تبعث في لبه القوة على توليد كل معنى جليل ليعادل بنسخ بيانه المشهد السامي المتعة، المحفوف بالنعمة، المتوهج في عينيه

والملك الضليل نفسه لم يبلغ مكانته الشامخة في أدب الضاد لو لم يعش في أحضان ملوك، ويستنشق في بلاط أبيه شميم العزة، ويلمس بيديه فخامة السلطان. فأقبل إلى ساحة الأدب مثقلاً بفخفخة الملوك، وكان أدبه صدى هذه الفخفخة البعيدة اللمعان المجلببة بالنعمى، اللينة الجانب، المكينة البنيان

وامرؤ القيس، الملك الضليل، في طليعة موكب الأدباء في لغة الضاد. فما لقي الأدب بيانه المنشور في سوى بدائع ذلك الفتى وقد جمحت به العاطفة فانطلقت من كبده حافلة بالقول الشهي والصوغ المحكم الأداء. وتوالت من بعده السلسلة حلقة حلقة، وكلها تنم عن طيب أصحاب الجلالة، أو من يستوي في معاقلهم من أصحاب الجاه الوسيع، والظل المأنوس؟

ومن أنطلق بالأدب المصفى المتلمس، وابن أخته طرفة بن العبد، وابن كلثوم، وابن حلزة اليشكري سوى الملك عمرو بن هند؟. . . فإن هذه القافلة من أدباء العهد الجاهلي مدينة لابن هند في الإبداع في النظم والإنشاد. وأنى لابن كلثوم أن يسمعنا معلقته التياهة:

إلا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

لولا عمرو بن هند الملك الأثيل المجد الأبلج المنتمي؟

وهذه الشعلة المتأججة في منظوم النابغة الذبياني، أين كنا نجدها لولا النعمان بن منذر، أبو قابوس؟. . . فالنابغة لم يسحب في أبياته وقوافيه ذيل الدل والإعجاب لولا هيبة السلطان وعاصمة الجليل:

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

ومثله لبيد. فالنعمان مهد له السبيل إلى النظم والإجادة وهو في سن تقصر عن البلوغ. فطعن في حضرة صاحب السلطان على الربيع بن زيادة العبسي طعنات دامية أزاله بها عن مكانته السامقة وقد صاح بالنعمان والربيع يؤاكله:

ص: 30

مهلاً، أبيت اللعن، لا تأكل معه!

ولن ننسى ابن أبي سلمى، زهيراً، صاحب الحوليات القائل:

سئمت تكاليف الحياة، ومن يعش

ثمانين حولا، لا أبالك يسأمِ

فإن عليه لهرم بن سنان يدا في إفاضة النظم وفي تذيل المعاني الحسان:

تراه إذا ما جئته متهللاً

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

والأعشى. ماذا نقول في الأعشى المتكسب، جواب الآفاق؟

أما أقام بباب الأسود، أخي النعمان، يغالي في المدح ويسأل العطاء - واللهُّي تفتح اللهَّا؟

هذا في العهد الجاهلي. ولقد كان العهد الإسلامي في مستهله أمضى حافز على النظم والإبداع. فالدعوة الإسلامية بحاجة إلى من ينادي بها، ويذيع فضائلها، والخصوم يتألبون عليها. فانتصب المنافحة عنها حسان بن ثابت الأنصاري. واعتمده النبي العربي في الكفاح. وأسمعنا كعب يتيمته:

باتت سعاد فقلبي اليوم متبولُ. . .

وطاف الخطيئة بالأبواب يستندي ويستجدي. ومن أمسك عند يده هدده بقحمات لسانه؛ فأنجده في الجاهلية أبو سفيان، وأجزل له في الإسلام العطاء عمر بن الخطاب، فابتاع منه لسانه بثلاثة آلاف درهم لئلا يطلقه في سب المسلمين لا يخشى، ولا يتحامى فحش القول والتهشيم

ونبض العهد الأموي بالحياة، فإذا الأخطل يبدو ويقبل في أثره الفرزدق وجرير. ثلاثة معاول للهدم ودك المشمخرة. وبسط معاوية يده في استمالة الأدباء فكان للأدب في عهده موسم خصب وسوق نافقة. فكل من أحس في نفسه ميلاً إلى الأدب تبع ميله وماشى هواه. فالعهد بات عهد نظم وخطابة وإنشاء، يمدح الأدباء معاوية ويزيد ابنه فتمتلئ أيديهم بالعطايا النفيسة، ويغنم الخلفاء ويكسب الأدب!

ولم يعدم هؤلاء الأدباء ساعات للهو يبيحون فيها للنفس سجيتها وينطقون بما ينتفض في قلوبهم من عاطفة مشبوبة وهوى دفين. فيحدثنا الأخطل عن حبه للكأس واستماتته بابنة العنقود وينسب جرير بفاتنته أم عمرو وقد سلبته صفاء القلب؛ وتسبيه حور العيون، فما يتمالك أن يقول:

ص: 31

يقتلن ذا اللب حتى لا حراك به

وهن أضعف خلق الله إنسانا

ويفضح الفرزدق فسقه في مقاله:

هما دلتاني من ثمانين قامة. . .

وهو هو القائل في زين العابدين، حفيد علي بن أبي طالب:

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجده أنبياء الله قد خُتموا

والقصيدة من اسمي المنظوم، وهي في المدح لا عديل لها، فمن أوحى بها؟. . . أبن بنت النبي، ملك من سلالة ملوك وإن هم ناموا في مطلع نهضتهم عن التاج والصولجان

وعظمة سحبان وائل، الخطيب البليغ اللسان، أين تجلت في أبهى جلالتها؟. . . أليس في بلاط معاوية الأول؟. . . وبيان عبد الحميد الكاتب أين سما؟ في بلاط الخليفة الجعدي، خاتمة الملوك الأمويين!

وزحزح العهد العباسي لثامه فإذا أبن المقفع في خدمة أعمام الخليفة، وإذا الخليفة العباسي الثاني يدعوه إليه ويكلفه نقل الكتب الأعجمية الذائعة الصيت إلى لغة الضاد. وهكذا نعمنا بكليلة ودمنة، أنقى مثال للأدب الوزين!

واتسع المجال في منتدى الخلفاء لكل ناظم وكاتب. فقام أبو دلامة وأبو معاذ الأعمى بشار بن برد، في بلاط المهدي.

واشتد الإقبال على الأدب. ولم يكن بيت المال في بغداد دون بيت المال في دمشق، فتألفت المدارس الأدبية، وبدا المنشئون في سطوة وهناءة. فالعباسيون شاءوا أن يبزوا الأمويين في العلم وبث الدعوة. وما خلا الجو للرشيد حتى أصبح أدب الضاد مشعل هدى، وكان قد أضاء في سمائه الخليل بن أحمد، وأبو نواس، وأبو العتاهية، والأصمعي، وأبو عبيدة، وسيبويه، والجاحظ، والكسائي. وجاء المأمون فإذا أوسع نهضة أدبية في لغة الضاد تتجلى. فما شهدت لغتنا عهداً فواحاً خصباً في الأدب والعلم كعهد المأمون!

وقبض المأمون فقامت دولة أخيه المعتصم. وفي كنف المعتصم لمع أبو تمام. وكان المتوكل فنبغ في رحابه الشاعر البحتري. وانتهى الموكب إلى المتنبي فتلظت مواهبه في حمى

الملوك، ولا سيما في بلاط سيف الدولة الحمداني

ص: 32

وما شذ الأدب في الأندلس عن القاعدة. فعاش في ظلال الملوك وانطفأ بانطفاء الملوك، مثله في دمشق وبغداد. فما إن تنقضي الدولة حتى يأوي إلى المضجع. ولقد طال هجوعه نحواً من ستمائة سنة، فلم يتنفس بسوى انتظام اليازجي الأول في ديوان الأمير بشير الثاني حاكم لبنان

وكان قد بعث في وادي النيل في عهد محمد علي. وبلغ أوجه في دولة عباس حلمي. وقد زانه شوقي وحافظ وإبراهيم اليازجي ونجيب الحداد وولي الدين يكن ومصطفى لطفي المنفلوطي بأبهى حلل البيان. وإنه ليتهادى اليوم في خطوة متفيئاً دوحة أبناء محمد علي الباذخة. فكأنه يستطيب أبداً صحبة الملوك. فلا تقوم له قائمة في سوى جنابهم، ولا تتقد فيه العزيمة وتلتهب الحياة إلا وهو يجالسهم. فموسمه موسمهم، كأن دولتهم دولته، وكأن أبناءه أشباه لهم وأنداد!

(بيروت)

كرم ملحم كرم

ص: 33

‌جميل نخلة المدور

1862 -

1907

للأستاذ كوركيس عواد

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

4 -

مؤلفاته

الذي لم يقف على شيء من ترجمة المؤلف قد يظن أنه رجل عراقي، وهذا أمر متوقع! فإن جميل نخلة المدور، عني عناية خاصة بتاريخ العراق، وخدمه خدمة مشكورة يحفظها له التاريخ على مدى الأيام، ويقدرها له أبناء العربية حق قدرها، وعلى الأخص أبناء العراق منهم

فلقد قضى ردحاً من حياته في تدوين تاريخ العراق قبل العهد الإسلامي وبعده بكتابيه: (تاريخ بابل وأشور)، (حضارة الإسلام في دار السلام) اللذين سنخصهما بجزء من كلامنا في ما يلي من هذا المقال. ودونك لمحة عن كل مؤلفاته:

1 -

تاريخ بابل وأشور

لا نغالي إذا قلنا إن (تاريخ بابل وأشور) هو أول كتاب ظهر من نوعه في اللغة العربية!

والذي نعهده، أنه لم تشهد العربية منذ صدوره حتى يومنا هذا سوى كتابين في هذا الباب: أحدهما (تاريخ كلدو وأثور) للعلامة المأسوف عليه السيد أدي شير. وثانيهما رسالة بعنوان: (مقالة في مملكة أثور) للعلامة البطريرك رحماني. ولم نهتد إلى غير هذه التصانيف الثلاثة باللغة العربية مما يتعلق بهذا الموضوع الواسع النطاق. مع أن الكتب الموضوعة فيه باللغات الإفرنجية تكاد لا تحصى لوفرتها!

على أن الجميل نخلة المدور فضل السبق في هذا الميدان، فقد نشر كتابه أولاً في مقالات ظهرت على التوالي في اثنين وعشرين جزءاً من المقتطف. ثم جمعت تلك المقالات في كتاب خاص طبع ببيروت في المطبعة الأميركية سنة 1879 في 62 صفحة. ثم جدد طبعه بمطبعة الفوائد ببيروت سنة 1893 في 128 صفحة

ولا نرى للتعريف بهذا الكتاب خيراً من أن نقتبس من مقدمته الفقرة التالية على لسان

ص: 34

مؤلفها:

(. . . وألفت هذا الكتاب في تاريخ أشور وبابل، وقد جمعته من أشهر أقوال المؤلفين في هذا الأوان، مما وصلوا إلى تحقيقه بعد شهادة الاختبار والعيان، وقسمته إلى قسمين: أحدهما جغرافي يبين الحدود والمساحات، والآخر تاريخي ذكرت فيه ترجمة من اشتهر من ملوكهم وعظمائهم، وما اشتهر لهم من الفتوحات وعظائم الأعمال إلى حين انقضائهم. . .)

وهذا الكتاب (وقف عليه اللغوي الشيخ إبراهيم اليازجي فهذب عبارته وصحح مبانيه، فجاء نقيا من الكلف، بريئا من الكلف، قريب اللفظ على بعد مرامه)

وكم كنا نود، لو أشار المؤلف إلى المراجع التي استند إليها في تصنيف كتابه، التي نظنها كانت بالفرنسية، لإجادته هذه اللغة على ما أسلفنا الكلام عليه

وقد وقفنا منذ زمن على بحث للعلامة الأب أنستاس ماري الكرملي عنوانه: (سلوان الأسرى في إيوان كسرى)، فيه نظرات نقدية صائبة للأعلام الواردة في هذا الكتاب، وجهها بشيء من العنف، إلى مؤلف الكتاب، أو بالأحرى إلى مصححه اليازجي

ومهما يكن من أمر فان مباحث الكتاب أضحت في وقتنا هذا قديمة لا يركن إليها، نظراً إلى ما دخل هذا (التاريخ) من الحقائق الجديدة التي هي ولا مراء وليدة علم الآثار. ولا يخفى أن هذا العلم قد أحرز تقدماً مدهشاً في مختلف الميادين خلال هذه المدة التي أربت على الستين سنة! فإذا تركنا هذه الملاحظة جانباً وجدنا في الكتاب بعد ذلك دليلاً واضحاً على ما كان عليه ذلك العلم قبل أكثر من نصف قرن؟ وفي معرفة ذلك فائدة جليلة لمن يبغي دراسة تاريخ العلوم

2 -

أتالا

صنف هذه القصة الخيالية الكاتب الفرنسي الشهير شاتوبريان سنة 1801 م باللغة الفرنسية وهي رواية انتزعها المؤلف من كتابه (عبقرية النصرانية)، ولم يكن يومئذ قد أكمله. والحادث الذي تدور عليه الرواية ورد في أميركا الشمالية، وذلك أن (شكتاس) أسره جيل من الناس كان عدوا لرفاقه فحكم عليه بالإحراق، وكانت (أتالا) ابنة الزعيم الأقوى للقبيلة المعادية، فعشقت الأسير وخلصته في الليل وفرت به إلى القفار. أما وصف المؤلف لم انتاب العشيقين من الخوف والأمل والحب ووخز الضمير الذي كان يعذب هذين الفارين

ص: 35

الطاهرين، فمن القطع الأدبية الرائعة! ففي هذه القصة المؤثرة التي وصف فيها الغرام وصفاً بليغاً أوحى شاتوبريان إلى أوربة بعالم جديد. فقد ذكر البحيرات العظيمة والحراج الأبكار التي تغشى أميركة الشمالية، ثم انتقل إلى وصف قبائل هنودها وعاداتهم وأخلاقهم ومعتقداتهم، وبين ما بين الحياة الهمجية والحياة المدنية من التضاد، فزاد ذلك بما في الرواية من الإفادة

وقد نقلها جميل نخلة المدور إلى العربية، وطبعها في بيروت سنة 1882م

والذي نعرفه أن لهذه الرواية ثلاث ترجمات عربية اقدمهن للخوري عيسى بترو الأورشليمي الرومي، ومن هذه الترجمة نسخة خطية في خزانة باريس الوطنية 3680، والثانية لجميل نخلة المدور، والثالثة لفرح أنطون، وقد طبعت هذه الأخيرة في نيويورك سنة 1908 في 8 + 48 صفحة

3 -

التاريخ القديم

هذا الكتاب مختصر في التاريخ، لم يعلم مؤلفه الذي جمع مواده من مراجع مختلفة، مبتدئاً به بسنة 4963 قبل الميلاد، ومنتهياً به بسنة 395 للميلاد، وقد رتبه على مقدمة وثلاثة كتب ينطوي كل منها على فصول، وسار فيه بحسب السنين

نقله جميل نخلة المدور إلى العربية، وطبعه في بيروت سنة 1895 في 356 صفحة

4 -

حضارة الإسلام في دار السلام

هذا هو أسمى مؤلفات جميل نخلة المدور، وأعظمها شأناً، والقطب الذي تدور عليه شهرته. فقد ألفه بطريقة ربما لم يسبقه إليها أحد في اللغة العربية اشتغل في تصنيفه زهاء العشر سنوات. فقد نشر منه فصلاً في المقتطف سنة 1880 بعنوان (البصرة في خلافة المنصور). فوطأ محرر المقتطف حينذاك لهذا الفصل بالكلمة التالية:

(هذه النبذة من كتاب قد باشر تأليفه الشاب اللبيب جميل أفندي المدور. . . (إلى أن قال): فنطلب له تمام التوفيق إلى إنجاز هذا الكتاب الذي لا تحصى فوائده ولا تثمن فرائده)

ولم تظهر الطبعة الأولى لهذا الكتاب إلا في سنة 1889 م

وهنا ندع القول للمؤلف يفصح لنا عن الطريقة المثلى التي سلكها في تصنيف هذا الكتاب

ص: 36

الخالد، قال في المقدمة:

(هذه رسائل، وضعت فيها عصراً من عصور الإسلام قد أشرق به نور العلم، وجرت فيه أعمال عظيمة قام بها رجال كبراء ملئوا العالم بآثار جمالهم، وجعلت الكلام فيها لرحالة (فارسي) طوَّفته معظم البلدان الإسلامية في المائة الثانية للهجرة وطوقته مناصب الدولة برعاية البرامكة إلى أن نكبهم الرشيد. . .)

فالكتاب رسائل تبلغ العشر عداً، كتبها الرحالة الفارسي الخياني من سنة 156 إلى سنة 187 للهجرة؛ وقد سطر الأولى وهو في النهروان سنة 156، والثامنة وهو في بحر تونس سنة 186، والتاسعة وهو في المشاعر المباركة سنة 186 أيضاً. أما الرسائل السبع الباقيات فقد كتبها وهو في بغداد

وقد لخصه من خمسة وثمانين تصنيفاً تعد بحق من أسمى المؤلفات العربية القديمة الباحثة في علوم الدين واللغة والبلدان والأخبار والأدب وغير ذلك. وما لابد من ذكره هو أنه لم يدون حقيقة أو يسطر قضية إلا اسندها في الحاشية إلى المرجع الذي أخذها عنه، وأشار إلى الصفحة في كل مرة ينقل من هاتيك المؤلفات الخمسة والثمانين التي ألمعنا إليها. وفي هذا من المشقة ما لا يدركه إلا الذين عانوا مثل هذا التلخيص في كتاباتهم

ومن يطالع هذا الكتاب، يدرك أن الغرض من وضعه إظهار طرف من مآثر العرب ومفاخر الإسلام أيام هارون الرشيد والبرامكة. فهو يكشف للقارئ ما كان عليه القوم من علوم وآداب وعادات ومتاجر في بغداد وغيرها من البلدان. أضف إلى ذلك انه موضوع على منوال رحلة لرحالة متفقه بالعلوم والآداب المعروفة في ذلك الزمن، فهو يصف المدن والمعابد والمشاهد والمباني والسفن والموانئ وهيئات الملوك والوزراء والعلماء والشعراء والمغنين وغيرهم من الرجال، ويبين ما كانت عليه طباعهم وميولهم وأفعالهم كما وصفهم الواصفون من أبناء زمانهم المعاصرين لهم

وفي الكتاب، من الفكاهات والنوادر والأخبار المحققة والآراء الصائبة، ما تقر به العين وترتاح إليه النفس، لأنه جاء فيها بألفاظ مستعذبة وعبارات بليغة

فهذه المزايا أهابت - على ما نظن - بوزارة المعارف المصرية الجليلة إلى طبعه وجعله كتاباً للمطالعة، ولنعم ما فعلت!

ص: 37

وقد أبدى أحد الكتاب ارتياباً في صحة نسبة هذا الكتاب إلى جميل المدور، فقال:(. . . وكان الشيخ إبراهيم اليازجي يصحح له (أي يصحح لجميل) ما يكتبه، وفي أصحابهما من يرى أن حضارة الإسلام لليازجي، وأنه نحله جميلاً في أيام إدقاع الأول وإثراء الثاني!)

غير أننا لا نميل إلى هذا الرأي، ولا نرى فيه ما يحملنا على تصديقه، لأن كتاباً ينفق من العمر في تأليفه نحو من عشر سنوات مما لا يجوز أن ينحل، خاصة وأن الشيخ إبراهيم اليازجي لم يكن بتلك الدرجة من الفاقة التي تدفعه إلى مثل هذا البذل العظيم!

5 -

خاتمة

هذه هي مؤلفاته المطبوعة التي بوسع القارئ أن يرجع إليها إن شاء. ولديه تآليف غيرها لم تطبع، ولم نقف على شيء من أمرها سوى ما ذكره العلامة الأب شيخو من أن لجميل (في بيت أهله مخطوطات متفرقة أدبية وتاريخية وروائية)

ومما ورد في نهاية مقدمة كتاب حضارة الإسلام في دار السلام قوله:

(. . . وقد عقدت النية، إجابة لرغبة علماء المسلمين، ممن تفضلوا باستحسان هذا الكتاب، على متابعة سرد التاريخ الإسلامي في شكل هذه السلسلة من الروايات، وتنسيقها في مثل هذا السمط من درر الآيات البينات. . .)

والذي يؤسف له أن تلك النية الحسنة لم تتحقق. ولا نرى السبب في ذلك إلا اشتغاله بأمر الصحافة، أو إلى أن يد المنون امتدت إليه فأخترمته! ونحن واثقون من أن أمنيته لو كانت قد حرت مجرى التنفيذ لكنا نتمتع اليوم بذخائر كنز ثمين من الكتب ونرفل في جنة من الأدب فيها من كل فاكهة زوجان.

(بغداد)

كوركيس عواد

ص: 38

‌شخصيات تاريخية

5 -

تيموستوكل

للأستاذ محمد الشحات أيوب

مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب

قضى تيموستوكل البقية الباقية من حياته وهو يعمل على تنفيذ

هذه السياسة، ويكاد يكون هو الوحيد الذي سار في هذا

الطريق، فهو لا يألو جهداً إلا بذله للنكاية بالعدو اللدود وهو

إسبرطة، ولن الشعب الأثيني تخلى عنه ولم يسايره، إذ داخلته

الشكوك من ناحية، فخشي خطره واصبح يعتقد أن له مأرباً في

تنفيذ هذه السياسة، لذلك كان وحده دون معين ولا نصير في

هذه الفترة الأخيرة من حياته وهي الواقعة بين معركة سلامين

ومماته (من 480 في 464363 تقريباً)

قضى تيموستوكل هذه الفترة شريداً طريداً حتى لم نعد نسمع

عنه كثيراً، بحيث تكاد تكون هذه الحقبة من تاريخ حياته

غامضة، هي غامضة لقلة الوثائق التي تتكلم عنه وبالرغم من

هذه القلة نستطيع أن نتنسم الأخبار من بين السطور التي

كتبت عنها والتي توجد لدينا، فهذه الوثائق لا تتحدث عنه إلا

في فترات متقطعة، ولكنها على ندرتها، ثمينة جداً لأنها

ص: 39

تخبرنا عن تيموستوكل الشيخ لا يختلف عن تيموستوكل

الشاب. ألا يزال هو هو، كله حركة ونشاط، لا يعتريه اليأس

ولا يفل من عزمه عظم المهمة التي ناط نفسه بالقيام بها، فهو

لا يحجم عن الانتقال من مكان إلى مكان للدس ضد إسبرطة

والإيقاع بها أيما استطاع لذلك سبيلاً، فنراه حيناً في أرجوس

يعمل على قلب نظام الحكم الأوليجاركي وإقامة النظام

الديمقراطي مكانه، وحيناً آخر في دولتي إيليد وأركاديا. وهو

في كل البلاد يقوض من أسس النظام الأوليجاركي الذي يؤيد

الدولة الإسبرطية ويشجع قيام النظام الديمقراطي لكي تكون

عوناً للدولة الاثينية، وفي سبيل ذلك نراه لا يتردد عن اشق

المهام، كتأليف اتحاد من المدن الأركادية لمحاربة إسبرطة،

وينجح في هذه المهمة ولكن إسبرطة له بالمرصاد إذ تتمكن

من إلحاق الهزيمة بهذا الاتحاد الأركادي وتتغلب عليه في

موقعة ديبايا (عام472471ن. م)، فتفتح عينا تيموستوكل

ويرى بوضوح كامل أن إسبرطة ما زالت قوية على بأس

عظيم بحيث تستطيع التغلب على أعدائها، فيحاول أن يسلك

سبيلاً آخر، إذ يسعى، بعد هذا الفشل الذريع، إلى النيل منها

ص: 40

داخل حدودها وذلك بتقويض دعائم نظام حكومتها وإثارة

المستائين ضدها من سكانها مثل البيرييك والهيلوث. ولتنفيذ

هذه السياسة نجده يتقرب من شخص آخر يشبهه في المغامرة

والجرأة وهو الملك الإسبرطي بوزايناس؛ ونجح في التفاهم

معه على التآمر ضد الحكومة القائمة، ويعمل الاثنان للاتفاق

مع ملك الفرس، ولكن المشرفين على الحكومة الإسبرطية

وفقوا في الكشف عن هذه المؤامرة والقبض على بوزايناس،

وقد ثبت لديهم أن تيموستوكل اشترك مع بوزايناس في التآمر

ضد دولتهم، فطلبوا إلى أثينا معاقبته، وتلبي أثينا هذا الرجاء

وتستدعيه من حيث كان يقيم. ويدلنا هذا على مبلغ كراهيته

من الشعب الأثيني حينذاك، ولكنه لم يأبه لهذا الاستدعاء ولم

يحفل به، بل ظل في الخارج، ونحن لا نعرف في أي مكان

كان يقيم في ذلك الحين؛ ولكن كل ما نعرفه هو انه كان يهرب

من مكان إلى آخر خوفاً من أن يقبض عليه ويحمل إلى أثينا

فتفتك به إجابة لرغبة إسبرطة؛ أخذ ينتقل من بلد إلى بلد حتى

ألقى به عصا التسيار إلى بلد عدو من أعدائه هو أديمبتوس

ملك (المولوس) في شمال غرب اليونان، وقد كان عداء هذا

ص: 41

الملك لتيموستوكل شديداً جداً. ولكنه استقبله وأضافه بالرغم

من هذه العداوة الشديدة وهذا البغضاء المستحكم؛ لأن عادات

الضيافة عند اليونان كانت قوية لا تبيح للشخص أن يطرد

ضيفه ولو كان من ألد أعدائه؛ بل ولم يقبل هذا الملك أن

يسلمه إلى أعدائه، وذهب إلى ابعد من هذا فشجعه على الهرب

ونظم له الوسيلة وجهزه بكل ما يحتاج إليه من وسائل السفر،

فتمكن له الذهاب إلى (بيدنا) في مقدونيا، ومنها يركب السفينة

قاصداً آسيا لملاقاة ملك الفرس، ولكن زوبعة تهب على

السفينة فتغيرها عن وجهتها حتى تصل إلى جزيرة تاكسوس

في بحر إيجة فيحاول قبطانها الرجوع به إلى أثينا، ولكنه ما

زال وراءه بالوعود الخلابة الجميلة حتى حمله على أن يتوجه

به نحو مقصده، ووصلت السفينة آمنة سالمة إلى شواطئ آسيا

الصغرى. وهناك نزل منها في هذه البلاد. وطئت أقدامه

أرض (إيفيز)، فهل تظن أنه أخلد إلى الهدوء بعد ذلك؟ وكيف

السبيل إلى هذا ولا وطن له الآن يتعلق به، ولا أرض يدافع

عنها، بل هو شريد طريد؟ من اجل هذا صمم على مقابلة ملك

الفرس ليرى ماذا هو فاعل به - وهنا يختلف المؤرخون في

ص: 42

شخص الملك الذي قابله تيموستوكل، فيقول المؤرخ توسيديد

أنه وصل إلى عاصمة الفرس حينما اعتلى أرتاجزرسيس

العرش، ويقول المؤرخ فايناس ويوافقه على هذا الرأي

بلاثارخوس إنه قدم نفسه ليوجزرسيس الذي طالما حاربه لا

لأرياجزرسيس - وهذا الخلاف بسيط لا يمنع الحقيقة الواقعة

وهي أنه ذهب إلى عاصمة الفرس وقابل عاهل الفرس أيا

كانت شخصية هذا العاهل؛ وأن هذا قد أغدق عليه النعم

والعطايا وخلع عليه كثيراً من الهدايا وعينه والياً على بعض

المدن التي أخذ يسوسها حتى قضى نحبه وهو في المنفى بعيداً

عن وطنه وأرض آبائه وأجداده

هنا يختلف المؤرخون أيضاً في الطريقة التي مات فيها. فمنهم من يقول بأن ملك الفرس كلفه بقادة حمله لمحاربة الأثينيين في مصر، ولكنه رفض أن يخون وطنه لعدم استطاعته تلبية مولاه وسيده. ومنهم من يقول بأنه مات ميتة طبيعية في عاصمة ولايته ببلدة (ماجنيزيا) في شمال آسيا الصغرى بعد مرض لم يمهله كثيراً

ألا ترى إذن إلى خاتمة حياة هذا البطل العظيم، كيف انتهت على هذا النحو من المذلة والعار بعد أن كان قد وصل إلى قمة المجد وذروة الرفعة والسلطان؟ ألا ترى أن هذا من شأن العظماء، لا تسير حياتهم على وتيرة واحدة وإنما يعتريها الرفعة والانحطاط؛ فأنت لا يمكنك بعد ذلك أن تظن أن تيموستوكل قد خان وطنه، إذ لم يصل إلينا شيء يثبت أنه قام بعمل ألحق الضرر ببلاده، بل استمر مخلصاً لها وفياً أميناً، حتى أنه يرفض الذهاب في حملة إلى مصر لمحاربة أبناء وطنه، كما ذهب بعض المؤرخين مثل سبتزيمبروث فهو

ص: 43

وإن كان لجأ آخر الأمر إلى ملك الفرس فإنما كان ذلك اضطراراً منه، لأنه رأى وطنه يطارده في كل مكان راغباً الفتك به، فتخلص من هذا وهرب حيث قابل ملك الفرس الذي أغدق عليه النعم والعطايا، وشأنه في هذا لا يختلف عن شأن غيره من كبار اليونان الذين كانوا يضطرون إلى خدمة ملك الفرس حينما يرون بلادهم تنصرف عنهم وتسحب ثقتها منهم، ونحن بعد هذا لا نستطيع أن نعتبر التجاءه إلى الفرس خيانة منه لبني قومه، وإنما كان ذلك لرغبته في الحياة والإبقاء عليها. وكيف السبيل إلى كسب العيش ووطنه قد نفاه وشرده حتى أصبح لا يجد مكاناً يلتجئ إليه عند اليونان على سعة بلادهم وامتداد أطرافها. وقد يلومه بعض الناس على هذا الالتجاء إلى ملك الفرس ولا يبرئونه من تهمة خيانة وطنه، إذ لو كان بريئاً حقاً من هذه التهمة لقدم نفسه إلى المحاكم وهي تفصل في ذلك حتى ترجع الحق إلى نصابه، ولكن غاب عن هذا الفريق أنه لم تكن توجد محاكم في أثينا بالمعنى المعروف لدينا في الوقت الحاضر، وإنما كان الفصل في قضايا الخيانة العظمى راجعاً إلى الشعب وحده، ونحن نعلم ما كان عليه الشعب الأثيني من تهور واندفاع حينما تعرض عليه القضايا السياسية التي تتطاحن فيها المصالح وتتنازع عليها الأحزاب؛ كلا! لم يكن ذلك في استطاعة تيموستوكل ولم يكن هذا الالتجاء إلى ملك الفرس خيانة بالمعنى الصحيح، فهو يعتبر من غير شك خطأ ولكن لهذا الخطأ أسبابه ومبرراته التي تجعلنا لا نغلو في الحكم عليه. وكيف نغلو في الحكم على تيموستوكل وكلنا إعجاب بما قام به من أعمال يعجز عن القيام بها كثير من أفراد البشر؟ ألم يتعهد بلاده في وقت الخطر ويعدها خير إعداد للمعركة الفاصلة؟ ألم يحرز لها نصراً حاسماً أبعد عنها الخطر الفارسي إلى زمن طويل؟ ألم يكن هو من الأشخاص الرئيسيين الذين شجعوا على تكوين حلف ديلوس ونحن نعرف أن هذا الحلف تطور فيما بعد حتى أصبح إمبراطورية تعرف في التاريخ القديم بالإمبراطورية الأثينية البحرية؟ ألم يعمل بعد ذلك على التأسيس والإصلاح وإزالة الخرائب والأنقاض ببناء الأسوار وإقامة التحصينات، حتى أصبحت أثينا ومعها بيريه قلب بلاد اليونان بل ومركز الحضارة اليونانية حتى قال عنها بركليس (إنها أصبحت مدرسة اليونان جميعاً)؟ ألم يؤسس لأثينا هذا الأسطول البحري العظيم الذي جعلها دولة بحرية بعد أن كانت دولة برية والذي كان العماد الذي تعتمد عليه الإمبراطورية الأثينية؟ قام

ص: 44

تيموستوكل بهذه الأعمال الجليلة لأنه كان يضع مصلحة قومه في المكان الأول من اعتباره فيتناسى شخصه ومطامعه ويتجاهل حتى تنكر له قومه وبنو وطنه. كان إذن تيموستوكل من بناة مجد أثينا في القرن الخامس حتى يدعونا هذا إلى أن نضعه في صف كبار الآثينين، فهو لا يكاد يقل شأناً وأهمية عن زعيم آخر من زعماء الديمقراطية، وهو بركليس، وإن كان الناس قد أطلقوا على القرن الخامس عصر بركليس وأفردوا بركليس بهذه التسمية، فإننا نرى أنه يحق لتيموستوكل أن يدعى لنفسه شيئاً من هذا الفخر والمجد فيطالب بأن يسمى هذا القرن عصر تيموستوكل وبركليس معاً.

محمد الشحات أيوب

ص: 45

‌13 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

الحكومة - تابع الفصل الرابع

سبقت الإشارة إلى عمل الضباط، وهو الآن رئيس الشرطة. أما مخبروه الذين لا تميزهم ميزة، فينتشرون في أحياء العاصمة ويختلطون بالناس في المقاهي وكلهم عيون وآذان - وأغلبهم لصوص عفي عنهم - وهم يرافقون الحرس في دورته الليلية خلال شوارع القاهرة. ولا يسمح لأحد غير العمى بالتجول في الخارج بلا مصباح أو أي نور بعد غروب الشمس بحوالي ساعة ونصف. وقلما ترى سائراً بعد ساعتين أو ثلاث. ولا يكاد الليل ينتصف حتى تمر في العاصمة جميعها فلا تقابل أكثر من عشرة أشخاص أو عشرين خلا المراقبين والحراس وبوابي الحارات والدروب. وعندما يمر عابر سبيل يناديه الحارس بالتركية:(من هذا؟) فيرد المار بالعربية: (ابن بلد!) والحارس الخاص كذلك يصيح: (وحد الله) أو (وحد) فقط! فيجيبه السائر: (لا إله إلا الله). ولا يختلف النصارى عن المسلمين في هذا القول، فهم يفهمون التوحيد فهماً مختلفاً. والمفروض أن اللص أو من يشرع في مخالفة القانون لا يجرؤ على النطق بهذه الكلمات. وبعض الأشخاص يجيبون الحارس بصوت مرتفع:(لا إله إلا الله محمد رسول الله). ويستخدم الحارس الخاص لحراسة الأسواق والأحياء ليلاً، وهم يحملون (نبوتاً) ولا يحملون مصباحاً

والعادة أن يتجول الضابط، أو أغا الشرطة، في شوارع القاهرة. ويرافقه غالباً السياف والشعلجي، أي حامل الشعلة المستعملة ألي الآن. وهذه الشعلة تشتعل حال إضرامها فلا يصعد لهبها إلا حين تحرك في الهواء، عندما تضرم فجأة في الخارج. وهكذا تؤدي عمل مصابيحنا المعتمة. وقد يوضع على الطرف المشتعل إناء صغير أو جرة أو يغطى بشيء

ص: 46

آخر حين لا تلزم الإنارة. ويقال أن اللصوص كثيراً ما يشعرون بالشعلة في الوقت المناسب فيتفادون مقابلة حاملها. وعقوبة من يقابله الشرطي بلا نور هي الضرب. وقلما يحاول المقاومة أو الهرب. وكان لرئيس الشرطة سلطة مطلقة في ضرب عنق أي مجرم أو مذنب بلا محاكمة حتى ولو كان القانون لا يعاقبه بالإعدام. وكذلك كان له مرؤوسون كما سترى بعد. وقد ندر في السنوات الأخيرة مباشرة هذه السلطة. وأعتقد أنه لم يعد يسمح لهم بذلك الآن. ويقوم أعوان الضابط بدورتهم الليلية مع الجنود لأنهم أحسن معرفة منهم بمخابئ اللصوص والأشرار ومناهجهم. ويندر أن يباشر الضابط نفسه سلطة تخرج عن حد القرع أو الجلد.

كثيراً ما يتخذ رؤساء الشرطة وسائل غريبة مثل التي نراها في بعض قصص ألف ليلة وليلة لاكتشاف المجرم. وأذكر هنا حادثاً لا يختلف في صحته أحد على سبيل المثال. وسأرويه بالطريقة التي سمعتها: قصد ذات يوم رجل مسكين أغا الشرطة وقال له: يا سيدي، أقبلت إلي اليوم امرأة وقالت لي: خذ هذا القرص ودعه في حيازتك وقتاً وأقرضني خمسمائة قرش. فأخذته منها، يا سيدي، وأعطيتها الخمسمائة قرش وانصرفت. وبعد انصرافها قلت لنفسي: لأنظر إلى هذا القرص، وتأملته فإذا هو من النحاس الأصفر، فلطمت وجهي وقلت: سأذهب إلى الأغا وأقص عليه قصتي عسى أن يحقق هذه المسألة ويوضحها، فليس هناك غيرك من يستطيع مساعدتي في هذه القضية. فقال له الأغا: أصغ إلى ما أقوله لك يا رجل. أنقل ما في دكانك ولا تترك فيه شيئاً ثم أقفله، وبكر في الذهاب صباح اليوم التالي، وبعد أن تفتح دكانك صح قائلاً: يا حسرتاه على أموالي! ثم خذ في يديك مدرتين وأضرب نفسك بهما وصح: يا أسفا على أموال الناس! فإذا سألك أحد: ماذا حدث فقل له: ضاعت أموال الناس، فقدت رهناً كان عندي لامرأة، لو كان ملكي لما انتحبت هكذا. هذا كفيل بأن يكشف لنا الأمر. ووعد الرجل بتنفيذ ما طلب منه، فنقل كل ما في دكانه. وفي بكرة اليوم التالي ذهب إلى دكانه وفتحه وأخذ يصيح: يا ويلاه على أموال الناس، وأخذ مدرتين وضرب نفسه بهما وجعل يدور في أنحاء المدينة صارخاً: يا حسرتاه على أموال الناس! ضاع رهن لامرأة كان عندي، لو كان ملكي لما أهمني. فسمعت المرأة التي رهنت القرص صياحه وتبينت أنه الرجل الذي خدعته، فقالت لنفسها: اذهبي وارفعي

ص: 47

دعوى عليه، وذهبت إلى دكانه راكبة حماراً لتكسب نفسها أهمية وقدراً؛ وقالت له: يا رجل، أعطني ما لي عندك؛ فأجابها: ضاع، فصاحت: قطع الله لسانك! هل أضعت مالي؟ لأذهبن إلى الأغا ولأخبرنه بذلك، فقال لها: أذهبي! وذهبت إلى الأغا وسردت شكواها، فبعث الأغا في طلب الرجل. فلما جاء قال للمشتكية: مالك عنده؟ فأجابته: قرص من الذهب البندقي الأحمر، فقال الأغا: يا امرأة، عندي هنا قرص ذهبي أود أن أريك إياه، فقالت: أرينيه، يا سيدي، فأنني أعرف قرصي. فحل منديلاً وأخذ منه القرص الذي رهنته، وقال: انظري. . . فنظرت إليه وعرفته. . . فطأطأت رأسها. وقال الأغا: ارفعي رأسك وأخبريني أين نقود هذا الرجل؟ فأجابت: يا سيدي، إنها في بيتي. فأرسل معها إلى المنزل السياف مجرداً من سيفه، وعادت بكيس فيه النقود، وأعيدت الخمسمائة قرش إلى صاحبها. ثم أمر الأغا السياف بأخذ المرأة إلى الرميلة، وهي مكان فسيح مكشوف اسفل القلعة، ليقطع رأسها هناك ونفذ الأمر!

أما أسواق القاهرة والموازين والمكاييل، فتخضع لمراقبة المحتسب، وهو يجوس من حين لآخر خلال المدينة، يتقدمه عامل يحمل قسطاطاً كبيراً، ويتبعه الجلادون والخدم. وهو يمر على الدكاكين والأسواق واحداً واحداً، وأحياناً يتفقد واحداً هنا وواحداً هناك، فيفحص الميزان والأوزان والأكيال، كما يستفهم عن أثمان المؤن من مأكولات وغيرها. وكثيراً ما يستوقف خادماً ما يقابله صدفة في الطريق حاملاً مأكولات قد اشتراها، فيسأله عن ثمنها ووزنها. فإذا تبين له أن البائع استعمل موازين أو مكاييل مغشوشة، أو طفف الميزان أو زاد على سعر السوق، انزل به العقوبة في الحال. والعقوبة العامة هي الضرب أو الجلد. ورأيت مرة رجلاً تنفذ عليه عقوبة مختلفة لبيعه خبزاً ناقص الوزن: خرم أنفه وعلقت فيه كعكه بطول الشبر وبسمك عرض الإصبع، وجرد من ثيابه إلا قطعة من الكتان حول صلبه، وشد، وذراعاه خلفه وقدماه فوق قاعدة صغيرة، إلى قضبان شباك من شبابيك جامع الأشرفية في أهم شوارع المدينة، وبقي كذلك حوالي ثلاث ساعات معرضاً لأنظار الجمهور المحتشد وأشعة الشمس المحرقة

وكان ممن عين محتسباً - بعيد قدومي الأول إلى مصر - رجل كردي أسمه مصطفى كاشف، تولى سلطته بأقسى الطرق، فكان يقطع شحمة الأذن أو طرفها لجرم مهما صغر

ص: 48

ولغير جرم. وفي مرة قابل رجلاً شيخاً يقود حميراً محملة بطيخاًفأشار المحتسب إلى واحدة من أكبرها حجماً وسأل عن ثمنها. فأمسك العجوز شحمة أذنه وقال: اقطعها يا سيدي! فأعاد عليه المحتسب السؤال مرة بعد مرة فكان الجواب واحداً. فاغتاظ المحتسب ولكنه لم يتمالك أن ضحك، وقال:(هل أنت مجنون أو أصم)؟؟ فأجاب العجوز: (لا، لست مجنوناً ولا أصم، ولكني أعرف إنني إذا قلت ثمن البطيخة عشرة فضة فستقول: (اقطع أذنه). وإذا قلت خمسة فضة أو فضة واحدة فستقول: (اقطع أذنه). لذلك اختصرت الأمر وقلت اقطعها ودعني أتبع طريقي). ولم ينجه إلا ما في تهكمه المفاجئ من فكاهة

كان قطع الأذن هو العقوبة العادية التي يوقعها هذا المحتسب، ولكنه اتبع أحياناً طرقاً مختلفة، فقد عاقب جزاراً باع لحماً ينقص عن الوزن الحقيقي أوقية ونصفاً بقطع هذا القدر من ظهره. أمر بتجريد بائع كنافة حصل على زيادة في الثمن تافهة من ثيابه ووضعه على الصينية النحاسية المستديرة حيث تسوى الكنافة وتركه كذلك حتى احترق احتراقاً رهيباً. وكان يعاقب الجزارين بوضع كلابة في أنوفهم يغلق بها قطعة من اللحم. وفي ذات يوم قابل هذا المحتسب رجلاً حاملاً صندوقاً كبيراً صفت فيه قلل فخارية من سمنود وهو يبيعها بوصفها من قنا؛ فأمر أتباعه أن يكسروا القلل على رأسه واحدة واحدة. وكان يظهر طغيانه خارج ولايته؛ ففي ذات مرة خطر له أن يرسل حصانه إلى الحمام، وطلب من صاحب حمام أن يعد العدة لاستقباله والعناية بتحميته وتنعيم جلده. فثقل على صاحب الحمام هذا الأمر العجيب وخاطر بأن قال أن أرضية الحمام من الرخام، وقد ينزلق لجواد فيقع؛ وقد يصاب ببرد عند خروجه، فيحسن لذلك نقل ماء الحمام إلى الإسطبل حيث تباشر عملية الحمام. فقال مصطفى كاشف:(أنى أرى السبب غير ذلك. أنت لا تريد أن يذهب جوادي إلى حمامك). بعض خدمه أن يطرحوه أرضاً ويضربوه بالعصي حتى يأمرهم بالكف. ولم يأمرهم بالكف حتى مات المسكين

ولسنوات قليلة خلت كانت العادة أن يسعى بين يدي المحتسب عند طوافه بالمدينة لفحص الموازين والمكاييل، رجل معه ميزان أكبر حجماً من الميزان المستعمل. ويقال إن قب هذا الميزان كان أنبوبة مجوفة بها زئبق، فكان حامل الميزان يستطيع إذا عرف الذين رشوا سيده أن يرجح إحدى الكفتين بسهولة

ص: 49

ويشرف على الأسواق العامة المستخدمون المكلفون بمراقبة تجارة الباشا وصناعاته المختلفة. ووظيفتهم كوظيفة المحتسب سواء بسواء. وقد اشتهر بعضهم بارتكاب أرذل أنواع البغي والقسوة. وكان أحدهم ويسمى علي بك (ناظر القماش) إذا وجد أحداً يملك نولاً خاصاً أو صادفه يبيع ما نسجه، يشده في قطعة من هذا النسيج يغمسها في الزيت والقار ثم يعلقه هكذا على فرع شجرة ويوقد فيه النار، فأباد الكثير بهذه الطريقة الوحشية. وقد مات هو نفسه حرقاً في جم غفير أثناء انفجار مخزن بارود بمنحدر القلعة الشمالي سنة 1824. وقال صديقي الذي حدثني عن فظائع هذا الوحش:(عندما نقلتجثته لدفنها صلى عليها الشيخ العروسي شيخ الجامع الأزهر يومئذ في مسجد الحسين، وكنت أقوم بالتبليغ خلف الإمام، فلما نطق الشيخ بالدعاء ساد السكوت بين الحاضرين الكثيرين؛ ومضى الشيخ يقول: وكان من الصالحين، فلم يسمع لأحد صوت، فارتبك الشيخ وقال بصوت خافت: ليرحمه الله، ثم قال صديقي مواصلاً حديثه: الآن نستطيع أن نؤكد أن مصير هذا الرجل الملعون إلى جهنم، ومع ذلك لا تزال زوجته تقيم له ختمة في منزلها، وتوقد له كل ليلة شمعتين في مسجد الحسين!)

ولكل حي من أحياء العاصمة شيخ يسمى (شيخ الحارة)، وهو يباشر سلطته للمحافظة على النظام ولفض صغير المشاكل بين السكان ولطرد من يعكر صفو الجيران. وتنقسم العاصمة إلى ثمانية أقسام يرأس كلا منها شيخ يسمى (شيخ النمن)

وكذلك كان لكل طائفة من الطوائف التجارية والصناعية المختلفة في العاصمة وفي غيرها من المدن الكبيرة شيخ يحكم في المنازعات المتعلقة بهذه التجارة أو الحرفة، ويصدق على قبول الأعضاء الجدد

كذلك يخضع خدم القاهرة لإمرة شيوخهم. ويستخدم الخدم بواسطة هؤلاء الشيوخ إذ يشهدون لهم بحسن السلوك مقابل قرشين أو ثلاثة. فإذا ارتكب الخادم سرقة يلزم الشيخ بتعويض السيد، ولو لم يحصل على المال المسروق

واللصوص أيضاً، منذ سنوات قليلة اتخذوا كبيراً منهم شيخاً عليهم، وكثيراً ما كان هذا الشيخ يطالب بالبحث عن المسروقات وتقديم المجرمين لمحاكمة؛ وكان على العموم يقوم بذلك. ومما يستحق الذكر أن هذا النظام العجيب كان سائداً في عهد المصريين القدماء

ص: 50

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 51

‌رسَالة الشِّعر

الطير المهاجر

للشاعر الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد

علّمتني مواسمُ الروض أن الط

ير َشتى: مهاجِرٌ ومقيم

أتراني لا أسمع الطير إلا

في رياضي معشِّشاً لا َيريم؟

رُبَّ شادٍ في هجرة يتغنى

وعليه السلام والتسليم

من جَنوب إلى شمال، وحيناً

من شمال إلى جنوب يحوم

فله حين يستقلْ وداع

وله حين يُقبل التكريم

خذ من الطير كل يوم جديدا

فسواءٌ جديده والقديم

كم مُوَلٍ وصفوُه لا يولى

ومقيمٍ وصَفْوُه لا يقيم

عباس محمود العقاد

ص: 52

‌أريد.

. .

للأديب أحمد عبد المجيد الغزالي

جف الغدير! فمن للظامئ الصادي؟

وصوْح العود تحت الهاتف الشادي

ومات زهر الربى لا الطير تندبه

ولا الشعاع عليه رائح غاد

حتى الزهور يغول الدهر نضرتها

لكل ناضرة من دهرها عاد

غاضت منابع شعري وهي زاخرة

وغام أفقي. أما من بارق هاد؟

طال السري وطريقي شائك حلك

ولم يغني جديداً ذلك الحادي

أريد لي عالماً يختال (حاضره)

على شوارد هذا العالم (البادي)

أريد دنيا جديد الوحي يغمرها

فأستفيق على شدوي وإنشادي

أريدُ أن تسكبي الأنغام في خلدي

شيعتُ أمسي فهلاَّ تبعثين غدي؟

مالي وقيثارة شُدَّت على خشبٍ

وأنت قيثارة شُدتْ على كبدي؟

جفَّ النشيدُ على أوتارها فغدتْ

بكماَء لا تحتفي بالطائر الغَرِد!

طوقتها حانياً، أبكي لياليَها

كما بكى والدٌ بَرٌّ على ولد

فهدْهِدي أنت أحلامي بأغنية

تنساب من نْبِعك الجاري من الأبد

وجدِّدي عهدَها الماضي فإِن عرضت

ذكرى أناشيدها في الحب فاتئدي

أنا الذي نهِلتْ روحي أغانيَها

كما ستنهلُ في أيامك الْجُددِ

أريد يا جدولي الساري بأوهامي

أن تستبد بآمالي وآلامي

بالأمس يا جدولي والروض يضحك لي

نديت من عذبك السلسال أحلامي

واخترت من ورق الأزهار لي صحفاً

بيضاً ومن هذه الأغصان أقلامي

واليوم يا جدولي لا الروض يضحك لي

ولا مياهك تروي غلة الضامي

ظمئت يا جدولي والجرح في كبدي

فهل لمائك يأسو جرها الدامي؟

قد كان شطك لي أنساً وعافية

فكنت أقوى على دهري وأيامي

فما لأنسى به غاضت منابعه

ولم تعد ثرة تجري بألهامي

أريد يا كرم، ماء غير رقراق

فقد برمت بهمس الكأس والساقي

سقيت يا كرم كأسي وهي مترعة

على شعاع سرى في الكأس براق

ص: 53

ثملت يا كرم حتى غفت نشوتها

وعفت صمتي على كأسي وإطراقي

مل الندامى خداع الكأس صائحة

على صباح بنور الفجر دفاق

تميل أعناقهم والكأس دائرة

حتى كأن الطلا تعويذة الراقي!

ألفت يا كرم تلك الخمر صافية

كما ألفت يراعاتي وأوراقي

يا كرم، ما صار خير الخمر أقدمها

إن كان ثم جديد فالهوى باق

أريد يا زهرات الروض أنفاساً

غير التي عرَّفتني الورد والآسا

ما عدت أستروح الأنسام عاطرة

ريانة النفح تنسي القلب ما قاسا

نسيت بالروض أياماً لنا سلفت

كان الندى خمرتي والوردة الكاسا

أشدو بشعري مع الأطيار صادحة

وقد أقمنا على الغدران أعراسا

فالزهر يبسم رفافاً لفرحتنا

والغصن يختال تحت الزهر مياساً

رغبت يا زهرات الروض عن أرج

قد كان يملؤني وهما ووسواسا

فضي جيوبك يا زهرات عن أرج

ما بات يشعل في الوجدان إحساسا

أريد يا طير تغريداً كتغريدي

وأن تردده في الدوح ترديدي

ما للأغاني تغنيها فأسمعها

فلا تطامن من همي وتسهيدي

سئمت يا طير ألحاناً شدوت بها

بين الرياحين أو فوق العناقيد

إن كان عندك لحن غير ما صدحت

به رباك، فوقعه على عودي

لو كنت كالطير في الأجواء منطلقاً

لأنشد الطير للدنيا أناشيدي

وبات يمتعه فني وجدّته

فلن يكون لي فني وتجديدي

يا ويح للطير، لازالت هواتفه

تردد اللحن من أيام داود

أريد يا ليل، إن رتلت آياتي

أن لا تخفف أشجاني وآهاتي

دعني لظلمتك الدكناء أقبسها

نوراً يضيء حنايا دهري العاتي

شقيت يا ليل بالأضواء تغمرني

فتوقظ الألم الغافي بأناتي

قد كنت يا ليل تسليني إذا عصفت

بي الأماني في كيد وإعنات

أما سمعت بعادي الدهر فزعني

وفوق مسرحه غنى لمأساتي

يا ليل أين السكون العبقري مضى

وخلف القلب مشبوب الصبابات

ص: 54

هذا السكون الذي استوحيته كلمي

ما باله لم يعد وحياً لأبياتي؟

أريد يا بدر نجوى غير نجواكا

قد كان يسعدني في الليل مسراكا

أنداء نورك كانت بلسما عجبا

للحب ما صنعت - يا بدر - يمناكا

دنياك دنيا هوى والشعر عشت بها

اجني بها الزهر، حتى زهرها شاكا

وما سلمت بدنيا الناس من نكد

قد ضقت ذرعاً بدنياهم ودنياكا

تساقط النور أسلاكا كأن به

سرا، يساقطه يا بدر مثواكا

أضأت للناس حتى أظلموا ومضوا

يسخرونك أشرارا وفتاكا

ماذا عليك، إذا أرسلتها حمما

تنقض يا بدر أجراماً وأفلاكا

أريد يا فجر إلا يشرق النور

وأن يلف شعاع الصبح ديجور

وأن نظل هجوعاً في مراقدنا

فلا يؤرقنا في الروض عصفور

ولا تجاوبه في الأفق ساجعة

مسحورة إلفها بالأفق مسحور

لو كان طير الربى يدري مهازلنا

يا فجر، ما شاقه شدو وتصفير

هم روعوه بشر زاحموه به

في الجو، فالطير في دنياه مقهو

ألطير، سل عنه أذن الروض مرهفة

يجبك زهر على الخلجان منثور

والقوم سل عنهم الحرب التي وقدوا

يجبك أتونها بالنار مسعور

أريد يا أيها الماشي على النار

أن تستفيق على صيحات أشعاري

تدب يا عالمي فوق اللظى عجلاً

غداً ستمضي برب الدار والدار

للنيل في عنقي حق سأبذله

في قذف قنبلة أو عزف قيثار

النيل إن رامه باغ به طمع

رمى بجيش من الأشبال جرار

النيل في كنف الأشبال حوزته

وهم على رصد للطامع الضاري

جروا على مائه والفلك سامرهم

يداعبون خيال الكوكب الساري

آنا الهزاز الذي غنى لسامرهم

غداً أغني وطير النيل سماري

احمد عبد المجيد الغزالي

ص: 55

‌البريد الأدبي

اقتراح مرفوع إلى جماعة كبار العلماء

رفع حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء إلى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ورئيس جماعة كبار العلماء اقتراحاً جليل الفائدة، مبارك الآثار، يتصل بتنظيم جهود الجماعة وتوفير إنتاجها؛ وقد نظرت إلى الجماعة الموقرة في هذا الاقتراح بجلستها المنعقدة في اليوم الخامس عشر من شوال سنة 1360 ثم قررت تأليف لجنة من بعض أعضائها لبحثه وتدبير طريق تنفيذه برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم

ويسرنا أن نسجل هذا الاقتراح الهام على صفحات الرسالة، لأنه دليل على اتجاه حسن طالما رجوناه ودعونا إليه

وهذا نص الاقتراح:

(إن هيئة كبار العلماء ركن مهم من أركان الإصلاح في الأزهر، بل الذروة التي يجب بلوغها منه ليعود إليه أولئك الفقهاء المحققون، والمحدثون الثقاة، والمفسرون المطلعون، واللغويون البلغاء، والمؤرخون الصادقون، وأهل الصلاح والتقى

(إن هيئة كبار العلماء هي التي يرجى منها أن تكون تاج الجامعة الأزهرية، ومن أهلها أن يكونوا أساطين العلم وحفاظ الشريعة، ومقومي لغة القرآن لتركن الضمائر الواجفة إلى علمهم، وتهدأ النفوس الراجفة بهديهم وإرشادهم، وتطمئن قلوب المؤمنين لقيامهم حفاظاً لليقين، وحراساً على شريعة النبي الأمين)

بهذه العبارات الواضحة حددت لجنة إصلاح الأزهر المؤلفة في سنة 1910 من المغفور لهما عبد الخالق ثروت باشا وأحمد فتحي زغلول باشا، وصاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا أطال الله بقاءه، الغرض من جماعة كبار العلماء، وآمال الأمة الإسلامية فيها

ولم تزل الأمة الإسلامية ناظرة إلى هذه الجماعة الموقرة، ترقب منها أن تكون مصدر خير لها في دينها ودنياها. ترقب منها أن تعمل على إعلاء كلمة الله، ونشر ثقافة الإسلام وحياطتها بما يقويها، ويدفع عنها غائلة المعتدين. ترقب منها أن ترشدها إلى أحكام الدين النقية مما خالطها من شوائب الابتداع في عقائدها وعباداتها ونظمها ومعاملاتها

ص: 56

وإني أقترح تحقيقاً لهذه الآمال الجسام أن يؤلف لجماعة كبار العلماء مكتب علمي دائم، وأن يجعل لهذا الكتب مكان معين معروف شأن كل هيئة رسمية أو غير رسمية من الهيئات التي تعمل لأغراض خاصة

أما مهمة هذا المكتب بعد إنشائه فهي ما يأتي:

(ا) معرفة ما تهاجم به الأديان عامة، والدين الإسلامي خاصة في عصرنا الحاضر، والرد عليه رداً كافياً مقنعاً بأسلوب ملائم لطريقة البحث الحديث

(ب) بحث ما يحصل فيه الاختلاف بين علماء العصر من جهة أنه بدعة يجب تركها أو ليس كذلك، ووضع الأصول الكفيلة بتمييز ما هو بدعة مما ليس بدعة، والعمل على نشر كل ذلك ليرجع إليه الناس، وتنقطع به أسباب الفتنة والنزاع بين المسلمين

وقد سبق للأزهر في عهد فضيلة الأستاذ الأكبر شيخه الحالي أن فكر في تأليف لجنة مشتركة من الأزهر ووزارة الأوقاف مهمتها القيام بهذه الناحية، وألفت اللجنة فعلاً برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ إبراهيم حمروش عضوجماعة كبار العلماء، وسارت اللجنة في عملها شوطاً بعيداً قاربت به الغاية

(ج) العمل على وضع مؤلف يحتوي على بيان ما في كتب التفسير المتداولة من الإسرائيليات التي دست على التفسير وأخذها الناس على أنها من معاني القرآن، والتي لا يدل على صحتها نقل ولا يؤيدها عقل، وهذا يشبه ما قام به رجال الحديث من تجريد الأحاديث الموضوعة في كتب خاصة يرجع إليها الناس

(د) إصدار الفتاوى في الاستفتاءات التي ترد من المسلمين في جميع الأقطار إلى مشيخة الجامع الأزهر

وقد فكرت مشيخة الأزهر الجليلة الحالية في هذا الشأن منذ سنة 1936 وألفت لجنة برياسة أحد أعضاء جماعة كبار العلماء هو المغفور له فضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي - طيب الله ثراه - ثم أسندت رياستها من بعده إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمد عبد اللطيف الفحام وكيل الجامع الأزهر وعضو جماعة كبار العلماء

(هـ) بحث المعاملات التي جدت وتجد في العصر الحاضر من جهة حكم الشريعة فيها حتى يظهر الناس سعة صدر هذه الشريعة، وقدرتها على تلبية حاجات الناس في مختلف

ص: 57

العصور

(و): تنظيم طرق الوعظ والإرشاد والاتصال بالهيئات المعدة لذلك كوزارة الشئون الاجتماعية والجمعيات الإسلامية في مختلف الأقطار

وقد نصت على هذه الناحية لجنة الإصلاح التي أشرنا إليها سابقاً بقولها:

(ومنها - تريد هيئة كبار العلماء - تتألف لجنة تنسيق الوعظ والإرشاد ووضع قواعده)

كما عني بها قانون تنظيم الجامع الأزهر الذي وضع في عهد فضيلة الأستاذ الأكبر شيخه الحالي إذ يقول في المادة السادسة عشر منه ما نصه:

(مادة 16: تضع جماعة كبار العلماء نظام الدعوة والإرشاد وتصدره إلى الجهة المختصة لتنفيذه)

(ز): التنقيب عن الكتب المفيدة في مختلف العلوم والعمل على أحيائها وإخراجها إخراجاً علمياً متقناً

والأزهر أجدر الهيئات وأقدرها على الاضطلاع بهذا العمل والوصول به إلى ما يرجى له من النجاح

(ح): الإشراف على مجلة الأزهر والعمل على توجيهها في طريق تخدم به الحركة الفكرية الإسلامية، وتبرز به ثقافة الكليات الثلاث

هذا هو اقتراحي أضعه أمانة أمام جماعة كبار العلماء للنظر فيه بما أعتقد أنه جدير به من العناية والاهتمام، حتى يتم إقراره وتنفيذه

والله يتولانا جميعاً بهدايته وتوفيقه

محمد شلتوت

عضو جماعة كبار العلماء

ووكيل كلية الشريعة

مؤتمر الأدباء في لندن

عقد في لندن المؤتمر الدولي للعقائد، والغرض من هذا المؤتمر الذي يرأسه السير فرنسيس يونجهزبند هو نشر روح الأخاء بين بني البشر من طريق الأديان والتفاهم المتبادل بين

ص: 58

مختلف العقائد

وقد أذيع أن في النية إرسال كتب ورسالات إلى زعماء الأديان غير المسيحية يطلب إليهم فيها إبداء موافقتهم على المبدأ الذي حوته قواعد السلام الخمس التي وضعها البابا منذ سنتين

وقد أرسلت كتب إلى فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي شيخ الجامع الأزهر في القاهرة، والى الزعماء الدينيين في بلاد العرب وتركيا والشرق الأوسط عامة، والى المسلمين والهنود والبوذيين في الهند وبورما والشرق الأقصى

وقد حضر الشيخ حافظ وهبه وزير المملكة السعودية المفوض في لندن اجتماع المؤتمر في الأسبوع الماضي، وخطب في نهاية الاجتماع الأستاذ يوسف على الذي كان في وقت ما مندوباً عن الهند في عصبة الأمم والعميد السابق للكلية الإسلامية في لاهور، فتحدث عن قواعد السلام التي يتوخاها مؤتمر الأديان المختلفة

وعقب ارفضاض الاجتماع أفضى السير فرنسيس يونجهزبند إلى مندوب وكالة الأنباء العربية بحديث قال فيه: (لقد تلقيت من فضيلة الشيخ المراغي مرتين ترحيباً صادقاً بفكرة المؤتمر وتحبيذاً طيباً لعقده، ونحن عل يقين من تأييده التام لفكرة التفاهم بين مختلف العقائد وتآزرها للوقوف في وجه العدوان القائم عليها جميعاً. ويقيني أن فضيلته هو أحد الذين يقدرون القيمة الروحية قبل أي شيء سواها)

وبهذه الناسبة نذكر أن قواعد السلام الخمس التي ألمعت إليها تلك الرسائل هي: 1 - حق الأمم جميعاً في أن تعيش معاًتحت ظل السلام 2 - الاتفاق المتبادل على نزع السلاح 3 - توافر الوسائل المذللة لمراجعة المعاهدات التي تحوي مساساً أو ظلماً في حق أي شعب من الشعوب 4 - الاعتراف بحقوق جميع الأقليات 5 - ضرورة توفر حسن النية إذا أريد حقاً التراضي على سلام مقيم

وفاة موريس ليبلان

توفي الكاتب الفرنسي موريس ليبلان المشهور بقصصه عن أرسين لوبين في مدينة بربينيان

وقد ولد هذا الكاتب في سنة 1864 فيكون قد توفي عن 77 عاماً؛ وهو أول الكتاب

ص: 59

الفرنسيين الذين اختصوا بكتابة الروايات البوليسية. وقد اشتهر بابتداعه شخصية أرسين لوبين بطل رواياته. ومما يجدر ذكره أن الحكومة الفرنسية عينت موريس ليبلان في اللجنة التي عهد إليها تحقيق قضية ستافيسكي المعروفة، وحادث مقتل المستشار برنس. ومن مؤلفاته: أرسين لوبين اللص الظريف، أرسين لوبين ضد شرلوك هولمز، المثلث الذهبي، جرائم أرسين لوبين الثلاث، أنياب النمر. . . الخ

ص: 60