المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 438 - بتاريخ: 24 - 11 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٣٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 438

- بتاريخ: 24 - 11 - 1941

ص: -1

‌لا تقولوا أين الكتاب

وقولوا أين القادة. . .!

أو كلما كظمت الأنفاس روائح الشر، وكرَبت النفوس غواشي الفساد، ذهل الناس عن مرسلي الريح ومثيري القتام وقالوا أين الكتّاب؟ هل الكاتب إلا نذير؟ وهل على الكتّاب غير البلاغ؟ لقد كتبوا حتى أوشك المداد أن ينفد، خطبوا حتى كاد الريق أن يجف؛ ولكن أكثر العامة لا يقرءون، وأكثر الخاصة لا يفهمون. ومتى أغنى القول عن الفعل، وجَزَى الرأي عن العزيمة؟

إن من أقبح ما يعاب علينا وعلى أمم الشرق أننا لم نعرف من أدوات السياسة ووسائل الإصلاح غير الكلام والكتابة؛ فسياستنا خطب، وإدارتنا تقارير، ومناهجنا وعود. ولو كان الشعب قارئاً لرجونا من وراء الكتابة صلاح النفس في الفرد وسمو الروح في الجماعة؛ ولكن الأمية لا تزال بفضل وزارة المعارف حجاباً مستوراً بين عيون الناس ونور الحق. فماذا عسى يصنع الكتّاب وليس لهم من الأمر شيء؟ هل يصنعون إلا أن يفتحوا بأسنان أقلامهم أجفان المتعلمين لتثب إلى عيونهم صورُ العيوب فيدركوها؟ وهم قد فعلوا ذلك ولم يألوا: فعلوه في الكتب والصحف، وفي المدارس والمسارح، حتى لم يبق في هؤلاء الذين تقسموا الحكم، وتوزعوا السلطان، وتنازعوا القيادة، من لم يحفظ صور الفساد ووجوه الصلاح عن ظهر قلب! ولكن الله الذي آتى زعماءنا ملكة الكلام لم يؤتهم ملكة العمل! فهم يستطيعون أن يقولوا ما قال الكتاب، ولكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا ما فعل القادة. ومصداق ذلك أنك تراهم في أندية الأحزاب، وفوق مقاعد النواب، وبين أعمدة الصحف، يكشفون عن مواضع النقص، ويشيرون إلى مواقع الكمال، فيفتون في كل مسألة فتوى العالم، ويُدْلون في كل معضلة برأي الخبير، ويعترضون على كل أمر اعتراض اليقظ؛ فإذا وليناهم الحكم وخلينا بينهم وبين العمل، التاث عليهم الأمر، وبرَّح بهم التطبيق، وأصبح جهدهم مصروفاً إلى مناقضة القول بالقول، ومعارضة الرأي بالرأي؛ كأنما تبوءوا مقاعد الحكم ليردوا وهم وزراء ورؤساء، على ما انتقدوه وهم كتاب وخطباء!

من من الزعماء يجهل أن الأمة لا تزال متخلفة في الخلق والمعرفة والحضارة عن أدنى أمم الأرض المعدودة قرناً من الزمان؛ فحياتها بدائية، وأخلاقها همجية، ونظمها ارتجالية،

ص: 1

ومعيشة الزراع والصناع فيها أقرب إلى معيشة البهيم، منها إلى معيشة الإنسان الكريم؟ كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكن اشتغالهم بسفساف الأمور، وخسيس المطامع، ودنيء الشهوات، صرفهم عن النظر في شؤون الناس وأحوال المجتمع، فلا يذكرون الشعب إلا يوم يقوم الانتخاب، وتصطرع الأحزاب، ويحتاج كل طماع إلى سلالم من أكتاف المساكين يصعد فيها إلى النيابة والحكم.

ومن من الأغنياء يجهل أن الفقر في مصر ضرب من الرق يذل النفوس، ويقتل المواهب، ويشكك المرزوء به في العدل والحق؛ فهو يسكن ليستكين، ولكنه قد يثور ليثأر؟

كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؟ وهم مقتنعون بأن علة هذا الفقر هي أكلهم الحق الذي جعله الله في أموالهم للفقير؛ ولكن العلم وحده لا يبسط الأنامل الكزّة، ولا يهز النفوس الشحيحة!

ومن من العلماء يجهل أن دين الله صالح لكل جيل من الناس ولكل حين من الدهر؛ فهو ثابت بحقيقته ثبوت الخالق، ولكنه متطور بطبيعته تطور المخلوق. كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكنهم أغلقوا على عقولهم باب الاجتهاد فظلوا في دنيا الماضين، يذهبون ما ذهبوا، ويقرءون ما كتبوا، ويجذبون ركب الإنسانية إلى الوراء ثلاثة عشر قرناً ليأخذ من ساكني القبور جواز المرور!

ومن من الموظفين يجهل أن الأمة هي أسرته الكبرى، وأن الوطن هو بيته الأكبر؛ فالعمل الذي يقف أمامه في شأن من الشؤون هو أخوه؟ كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكنهم في الكثير الغالب يتحاملون على ضمائرهم فيخضعونها لسلطان الكبر والأثرة، فيرفعون أقدارهم على أقدار الناس، ويضعون المنفعة الخاصة فوق المنفعة العامة!

ومن من التجار يجهل أن الحرام لا يزكو، وأن الغبن لا يحلُ، وأن الحكرة لا تجوز؟ كلهم يعلمون ذلك وإن لم يقرءوه في مقال أو يسمعوه في خطبة؛ ولكنهم في سبيل الثراء الدنيء يتعامون عن بؤس الفقير، ويتصامون عن صوت الضمير، ويهتبلون فرص الحرب ليعصروا الذهب والفضة من دماء القتلى ودموع لأيامي وعَرَق العَمَلة!

الواقع الذي لا مريه فيه أن أمم الشرق لا يعوزها إدراك النقص ولا عرفان الواجب؛ إنما

ص: 2

يعوزها الرجل الذي يطبق علمها على العمل، ويوحد رأيها على الحق، ويجري خلقها على الرجولة، ويجمع شتاتها على الطريق. فهل لصديقي العشماوي بك أن يوافقني على أن مصر اليوم لا تحتاج إلى (عليّ) بلسانه الحكيم، وإنما تحتاج إلى (عمر) بدرَّته الحازمة؟

(المنصورة)

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

2 -

ديوان البارودي

للدكتور زكي مبارك

الذاتية البارودية: ما رواه الكاظمي وما رواه النقراشي -

منابع الشاعرية البارودية: الشقاء بالحب، والشقاء بالمجد،

والشقاء بالناس - وصف الحرب الروسية - البارودي في

منفاه - جنازة البارودي: هل حملت على مدفع؟ وهل ودعها

رجال الجيش؟. . .

في الكلمة الماضية نصصنا على بعض الملامح من شخصية البارودي، في سياق الكلام عن المقدمة التي كتبها الدكتور هيكل باشا للديوان. واليوم ننص على ملامح جديدة تعين الطلبة على إدراك الشمائل النفسية والذوقية لذلك الفارس الفنان.

فمن هو البارودي في شخصيته الذاتية؟

لم يتفق لي أن أهتمَّ بمعرفة ذاتية البارودي من الذين عاصروه وكان ذلك في الإمكان، فقد كانت لي صلات مع الشاعرَين العظيمين: شوقي وحافظ؛ وكنت أستطيع أن أعرف منهما أشياء لو أني التفتّ إلى هذه الناحية. . . على أن الالتفات إلى هذه الناحية لم يكن كل ما ضاع مني، فقد كان في نيتي أن أسأل (شوقي) عن تفسير الإشارة التي مرَّت في كلمته الوجيزة وهو يقِّدم كتاب الدكتور محمد صبري (أدب وتاريخ)، فقد قال كلاماً يشهد بأن للثورة العرابية أسراراً أخطر من أن تذاع، ثم مضت الأيام والسنون، ومات (شوقي) قبل أن أسأله عن المراد بذلك التلميح.

ومع هذا، فقد أراد القدَر أن تساق إليَّ أخبار البارودي بدون أن أتجشم عناء الاستخبار، بفضل السهرات التي قضيتها مع الشاعر عبد المحسن الكاظمي في أعوامه الأخيرة، وكان من جيراني، وكنت أغتنم الأنس بحديثه كلما سمحت الظروف.

ومن أحاديث الكاظمي عرفت أن المروءة المصرية تمثلت لعينيه في شخصيتين كريمتين:

ص: 4

الأولى شخصية محمد عبده، والثانية شخصية محمود سامي؛ ولا أريد في هذا المقام أن أذكر ما كان بين الشيخ محمد عبده والشيخ عبد المحسن الكاظمي، فقد فصّله الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا أجمل تفصيل في أبحاث يعرفها جمهور القراء، وأنا أبغض الحديث المعاد.

أما حديث الكاظمي عن البارودي، فهو عجب من العجب. كان البارودي على ألسنة أصحابه يتمتع بلقب (الأمير)، ويقول الكاظمي: إن البارودي كان (أميراً) في جميع شمائله الذاتية. وقد أكد الكاظمي هذا المعنى في أحاديثه معي عشرات المرات، وما كان اسم البارودي يجري على لسانه إلا ظهرت على وجهه إمارات الحزن الوجيع، وقد سألته مرة عن سر هذه الحال فقال:

كنت أسكن في حارة (قِرمز) بحي الجمالية، وكان مسكني بغرفة صغيرة فوق سطح البيت، وكان السُّلَّم مهدّم الدرجات وبدون درابزين، وكان البارودي يرى من أدب (الإمارة) أن يردَّ الزيارة لكل غريب؛ وكنت يومئذ من الغرباء، فقد كنت حديث العهد بالقدوم من العراق. وفي إحدى الزيارات تخوّف البارودي من ذلك السلم لضعف بصره، فاعتمد بيده على الحائط، فنفذ مسمار في كمه، فمزقه أشنع تمزيق، وما ذكرت ذلك الحادث إلا تألمت لما كان يعاني (الأمير) في سبيل الوفاء!

ومن هذا الخبر البسيط نعرف كيف كان البارودي في شمائله الذاتية، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه كان مفتوناً بالمجد أعنف الفتون، وأن الأريحية المصرية كانت ملء برديه، عرفنا أنه كان بطبيعة نفسه من الأمراء بغض النظر عن مجده الموروث.

وهنا يتسع المجال لنادرة ذوقية تعد من الصور الشعرية، وهي نادرة حدثني بها الأستاذ الكبير محمود فهمي النقراشي باشا في سنة 1931، وقال:

كان البارودي يعرف مصيره بعد انهزام الجيش المصري في موقعة (التل الكبير) فاستدعى أحد أصدقائه من أعيان مديرية الغربية وأخبره أن في خزائنه كثيراً من الذخائر الذهبية، وأنه يخشى أن تصير تلك الذخائر من غنائم المنتصرين، ثم فوق بصره إلى ذلك الصديق وقال: هذه الذخائر وديعتي عندك، فإن نفاني الإنجليز ومتَّ في منفاي فهي لك مال حلال، وإن أرادت الأقدار أن أرجع إلى مصر حياً بعد النفي فالنصف لي والنصف لك.

ص: 5

وبعد سبعة عشر عاماً عاد البارودي من منفاه، وطلب نصيبه من تلك الذخائر الذهبية، فأنكرها ذلك الصديق، وأظهر استغرابه من أن تكون للبارودي عنده ودائع، وقد خرج من مصر وهو حَرِيب سليب (؟!)

واتفق أن يمرض ذلك الصديق الغادر بعد شهور قصار مرض الموت، فتجشم الشيخ محمد عبده مشقة الانتقال إليه ليفهمه أن (الدنيا لا تغني عن الآخرة) وأن من واجبه أن يردّ بعض تلك الديون ليلقى الله وهو خفيف الأوزار، فجادت نفس ذلك المحتَضر بعشرة آلاف وهو ينتظر أن يقبلها البارودي مع الحمد والثناء (؟!)

وجاء الشيخ محمد عبده إلى البارودي بصرَّة ثقيلة فيها عشرة آلاف من الجنيهات المصرية، وهو يرجو أن يكون في تلك الصرة عزاءٌ للبارودي عن بلواه بذلك العقوق

فماذا وقع؟ نظر البارودي إلى الصرة نظر الليث الشبعان إلى الثمر المعطوب، وصاح:(لن آخذ درهما من هذه الألوف، ويجب أن ترد حالاً إلى سارقها قبل أن يموت، لتكوى بها جنوبه وهو مرموس، وله الويل إن وقع بصري عليه يوم الحساب أمام الواحد الديان)

هنا تنتهي رواية النقراشي باشا، وقد بقى من الرواية فصل، فما هو ذلك الفصل؟

حدثني من عرفوا الشيخ محمد عبده أنه كان يضفي بره وعطفه على من يقرأ في حضرته بيتاً من الشعر بفهم وإدراك؛ فكيف يكون حاله وهو يشهد هذه الصورة الشعرية؟

من المؤكد أن الشيخ محمد عبده قد طرب لإيمان البارودي، وعظمة البارودي، وإباء البارودي. ومن المؤكد أن هذه الواقعة أقنعته بأن مصر لا تزال بعافية، وأنها ستكون إلى الأبد من أكرم المنابت لأحرار الرجال

أكتب هذا وأنا أذكر أن هيكل باشا قال في تقديم الديوان أن البارودي (وُلد بمصر) فبأي مكان من (مصر) وُلد هذا الفارس الشاعر؟ وفي أي مكان مات؟

في شارع (غيط العدة) بالقاهرة دار تسمى (سراي البارودي) وهي سراي عبثت بها مصلحة التنظيم ففعلت بها الأفاعيل، ولم يبق منها غير جانب هو اليوم (مخزن) لبعض المتجرين في توافه الأشياء

فإن لم يكن البارودي وُلد في تلك الدار ففيها أبت يده أن تتسلم عشرة آلاف من الجنيهات لغرض تعجز عن وصفه ألوف القصائد والأقاصيص. ومن واجب (مصلحة الآثار العربية)

ص: 6

أن تستبقي أطلال تلك الدار يوم تفهم أن الأدب له قدسية تفوق قدسية التاريخ

إن الفرنسيين أبقوا على منزل مضعضع الأركان بشارع سان جرمان في باريس، لأنه مولد شاعرهم (ميسَّيه)، وإلى ذلك المنزل يحج عشاق الأدب الفرنسي. فهل يعرف شبان مصر أين يقع منزل شاعرنا البارودي في القاهرة، وأين تقع دار هواه في حلوان؟

إلى الله المشتكي من ضياع الأدب في هذه البلاد، ومنه نستمدَّ العون على ما يعاني الأدب من ثرثرة أهل البغي والعقوق!

منابع الشاعرية البارودية

الشعر فيض من الشعور بحقائق الوجود، وهي حقائق يحسها الناس بمقدار، ويحسها الشاعر بقوة لا تتاح إلا لمن كان في مثل روحه المتوقد وخياله الوثاب

والذي ينظر في أشعار البارودي يجده أحس الحياة أعنف الإحساس، ويراه انطبعَ على الشعور بما فيها من شهدٍ وصاب

وأقوى باعث عند البارودي هو الفُتُوّة، فوجهه يشهد وآثاره تشهد بأنه كان من أكابر الفتيان

وفتوة البارودي فتوة أصيلة تأخذ وَقودها من القلب والروح، فهي التي أشقته بالحب، وأشقته بالمجد، وأشقته بالناس

تنظر إلى البارودي المحب فترى فتىً فاتك الصبوات في قدسية وجلال، فتفهم أن الحب شريعة وجدانية لا يتردد الفتى في اعتناقها ولو كان رئيس الوزراء. فالحب عند البارودي ليس نزوة شباب يُطلب منها المتاب، وإنما هو جذوة روحية تصل صاحبها بسرائر الوجود، وترفعه إلى أوج الخلود

هل قرأت أشعاره في الحنين إلى روضة المقياس؟

وهل تذكر أنه أول شاعر في العهد الحديث تغنى بصبوات القلوب على شواطئ النيل؟

وهل تعرف أنه صدَح بتلك الأغاني في أوقات كان فيها الغَزَل فناً لا يليق بعظماء الرجال؟

إن البارودي مجّد الفتوة المصرية بتلك الأغاريد، وجعل لمصر مكاناً في ضمير الوجود، فما تطرب الأريحية الإنسانية لأكرم ولا أشرف من التغني بأوطار الأرواح في مثل معاهد الجيزة والروضة وحلوان، وهي معاهد جهلها الشعراء، ونَدَر فيهم من يعرف وجوهها الصِّباح

ص: 7

وفي أي عصر هتف البارودي بتلك الأغاريد؟

في العصر الذي كان فيه بدء كتب الشعر بالبسملة موضع خلاف بين جمهور المؤلفين

ثم ننظر فنرى الشاعر بمطالع الأقمار على شواطئ النيل قد امتشق السيف ليواجه الحرب في كريت، أو ليخوض البلاء في فجاج الأراضي الروسية، وهو في هذه الموقعة أو تلك لا ينسى مواقع هواه في ملاعب الجيزة والروضة وحلوان

إن حائية البارودي في وصف الحرب الروسية لو تُرجمت اليوم ووُزْعت على جنود الروس والألمان لرأوها من الأعاجيب، وفيها يقول:

لعمري لقد طال النوى وتقاذفت

مهامه دون الملتَقى ومطاوحُ

وأصبحت في أرض يحارُ بها القطا

وتَرهبها الجِنان وهي سوارح

بعيدة أقطار الدياميم لو عدا

سُلَيْكٌ بها شأواً قضى وهو رازح

تصيح بها الأصداء في غَسَق الدجى

صياح الثكالى هيجتها النوائح

تردّت بسمُّور الغمام جبالها

وماجت بتيَّار السيول البطائح

فأنجادها للكاسرات معاقلٌ

وأغوارها للعاسلات مسارح

مهالك يَنسى المرء فيها خليله

ويندرُ عن سوم العلا من ينافح

فلا جوْ إلا سمهريّ وقاضبٌ

ولا أرض إلا شمْريُّ وسابح

ترانا بها كالأسد ترصد غارةً

يطير بها فتقٌ من الصبح لامح

مدافعنا نصب العدا ومُشاتُنا

قيامٌ تليها الصافنات الفوارح

ثلاثة أصناف تقيهنَّ ساقةٌ

صياح العدا إن صاح بالشر صائح

فلست ترى إلا كماةً بواسلاً

وجُرداً تخوض الموت وهي ضوابح

نغير على الأبطال والصبح باسمٌ

ونأوي إلى الأدغال والليل جانح

بكى صاحبي لما رأى الحرب أقبلتْ

بأبنائها واليوم أغبر كالح

ولم يك مبكاه لخوفٍ وإنما

توهمَّ أني في الكريهة طائح

فقال: اتئد قبل الصيال ولا تكن

لنفسك حرباً إنني لك ناصح

ألم ترى معقود الدخان كأنما

على عاتق الجوزاء منه سرائح

وقد نشأت للحرب مزنة قسطل

لها مستهل ? بالمنية راشح

ص: 8

فلا رأيَ إلا أن تكون بنجوة

فإنك مقصود المكانة واضح

فقلت: تعلّم إنما هي خطة

يطول بها مجدٌ وتخشَى فضائح

فما كل ما ترجو من الأمر ناجعٌ

ولا كل ما تخشى من الخطب فادح

فهذه الحائية من عيون الشعر العربي، ولو سمعها أبو فراس لسجد لها سجود الإعجاب، فما عرفت اللغة العربية من الشعراء الفرسان افحل من البارودي وأبي فراس

وللبارودي في الحرب الروسية قصيدة أخرى هي الدالية، ولكن أي قصيدة؟ تلك أقباس لا تصدرُ إلا عن روح مَرِيد، من أرواح الفتيان الصناديد، وفيها يخاطب أحبابه في مصر فيقول:

نأت بيَ عنكم غربةٌ وتجهّمتْ

بوجهيَ أيام خلائقُها نُكدُ

أدور بعيني لا أرى غير أمةٍ

من الروس بالبلقان يخطئها العدُ

جواثٍ على هام الجبال لغارةٍ

يطير بها ضوء الصباح إذا يبدو

إذا نحن سرنا صرَّح الشر باسمه

وصاح القنا بالموت واستقتل الجند

فأنت ترى بين الفريقين كبَّةً

يحدث فيها نفسه البطل الجعد

على الأرض منها بالدماء جداولٌ

وفوق سراة النجم من نقعها لِبد

إذا اشتبكوا أو راجعوا الزحف خلتهم

بحوراً توالى بينها الجزر والمدُ

تشلّهمُ شلَّ العِطاش ونت بها

مراغمة السُّقيا وماطلها الورد

فهم بين مقتول طريح هارب

طليح ومأسور يجاذبه القِد

نروح إلى الشورى إذا أقبل الدجى

ونغدو عليهم بالمنايا إذا نغدو

ونقع كلج البحر خضت غماره

ولا معقل إلا المناسل والجرد

صبرت له والموت يحمّر تارةً

وينغل طوراً في العجاج فيسود

فما كنت إلا الليث أنهضه الطوى

وما كنت إلا السيف فارقه الغمد

صئول وللأبطال همس من الونى

ضروب وقلب القرن في صدره يعدو

فما مهجة إلا ورمحي ضميرها

ولا لَبَّة إلا وسيفي لها عِقد

وما كل ساغ بالغ سُؤل نفسه

ولا كل طلاَّب يصاحبه الرشد

إذا القلب لم ينصرك في كل موطن

فما السيف إلا آلة حملها إدُّ

ص: 9

وقد تحدث في هذه الدالية، كما تحدث في الحائية، عن شوقه إلى مصر ولياليها البيض بروح لم يتحدث بمثله أحد من الشعراء الذين سبقوه إلى الحديث عن معاهد الوجد بهذه البلاد

ثم يقضي القَدَر في مصير البارودي بما قضاه، فيشترك في الثورة العرابية، وتقع أحداث وخطوب تنقل وطنه من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود، ويلتفت فيرى دنياه خلت من الرمح والسيف، ولم يبق إلا أن يعيش في جحيم النفي والاغتراب بلا ظفر ولا ناب

لم يكن للبارودي نية في الثورة العرابية، فنحن نرجح أنه اشترك فيها بلا قلب، ولو كان من جناتها لصار التاريخ غير التاريخ فقد كان من مغاوير الأبطال، وكان يستطيع أن يرد المكروه عن بلاده لو آمن بما آمن به العرابيون، وكان يستطيع على الأقل أن يظفر بالاستشهاد في ميادين الجهاد

ومعنى هذا الكلام أن البارودي كان يملك التنصل من تبعة الثورة العرابية ليسلم من التأذي بعواقبها السود، ولكن فتوته أبت عليه أن يقف ذلك الموقف البغيض. فشارك إخوانه في البأساء، واستسلم لحكم القضاء، في سبيل الوفاء

نُفيَ البارودي إلى سرنديب وهو في يأس من المعاد. فقد كانت الظروف الدولية تنطق بأن لا أمل في تغيير مركز مصر السياسي، وكانت الأخبار توافيه بأن مصر ضعيفة الرجاء في زحزحة الاحتلال.

وفي تلك المدة كانت أحوال أهله في مصر تنتقل من ظلمات إلى ظلمات لغياب راعيها الأمين، فكان روحه ينتقل من جحيم إلى جحيم.

هل رأيت الأسد المأثور في حديقة الحيوان، ولاحظت أنه يزأر من وقت إلى وقت ليسري عن نفسه بالزئير مع اليأس من الحرية؟

كذلك كان البارودي، فما ترك الشعر الحماسي في أعسر أوقات الضيق والكرب؛ ولا سمحت نفسه بأن يتوب من الغطرسة والاستعلاء

عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش

بها بطلاً يحمي الحقيقة شدُّهُ

وإني امرؤ لا أستكين لصولة

وإن شد ساقي دون مسعاي قده

ويطول بلاء البارودي في منفاه، ويستيئس من الأمجاد الحربية، فيقبل على الأمجاد الأدبية

ص: 10

ليضمن لنفسه الخلود

وفي تلك الآماد من البلاء يلتفت البارودي التفاته جدية إلى ماضي الشعر العربي فيضعه في الميزان ليختار من أطايبه ما يشاء

وهل كان معاصرو البارودي يعرفون من ماضي الشعر العربي مثل الذي يعرف؟

ثم تسمح الدنيا بأن يلقى البارودي وطنه بعد اليأس من اللقاء، ولكن لا يعيش في رحاب الوطن غير أعوام قصار قضاها وهو أشبه بالمكفوف، ولعله لم يمت إلا حين عرف أن القاهرة لن تكون أمام عينيه إلا سواداً في سواد، وكانت لياليها أشد إشراقاً من الصباح

ولم يتسع الوقت فأرجع إلى الجرائد المصرية في أواخر ديسمبر سنة 1904، لأعرف كيف كانت جنازة البارودي، وأغلب الظن أنها لم تحمل على مِدفع ولم يشترك في توديعها رجال الجيش رعاية لبعض الظروف الثقال، مع أن البارودي كان من نماذج البطولة المصرية في ميادين الحروب

انتهت دنيا البارودي، وانقضى ما كان يعاني من بوائق الغدر والجحود، وبقى للبارودي ما لم يبق لأمثاله من رجال السيف، بقى شعره المسطور على ضمير الزمان، والشاعر الصادق أخلد من الخلود

زكي مبارك

ص: 11

‌التطور البشري

للدكتور جواد علي

ما هي مقاييس التمدن وأين هي مظاهره؟ أهي في حركات الإنسان وطراز ملابسه ومجموعة مظاهره الخارجية، أم هي في أثاث بيته وأشكال سيّاراته ووسائل راحته وعدد خدمه، أم هي في الإنتاجين العقلي والمادي للبشرية؟ يختلف الجواب طبعاً على هذه الأسئلة باختلاف عقلية المرء ودرجة ثقافته. فجواب العلماء يختلف ولا شك عن جواب السواد الأعظم من الدهماء. وجواب الشرقي يختلف كثيراً عن جواب الغربي، وكذلك جواب الفقير عن جواب الغني

أما المقاييس العلمية فتستند طبعاً على أسس فنية منتظمة، وقواعد منطقية محكمة، لا تكتفي بالمظاهر ولا تقتنع بالظواهر، لها أحكام خاصة ونتائج تستند على مقدمات وبراهين. و (وحدة التطور) في حياة البشرية بالنظر للغة العلم هي (الكفاءة) والقابلية وقوة الابتكار؛ وهي وحدة تقاس بها كفاية الأفراد كما تقاس بها كفاية الشعوب والأمم باختلاف الأجيال والعصور. فكلما أعرقت البشرية في المدنية ازدادت قوة ابتكارها وتنوعت اختراعاتها وتشعَّبتْ اكتشافاتها وتعقدت حياتها وزادتْ احتياجاتها عن مستوى حياة الإنسان السابق

ولا تقتصر هذه الكفاية على الكفاية الروحية فقط، بل تشمل الكفاية الجسمية والمادية أيضاً. ومعنى هذه الكفاية هو خلق جيل قوي جميل، مثلاً، ذي أعضاء وعضلات قوية متناسبة لا تدكه الأمراض ولا تؤثر فيه الجراثيم، فهو يستطيع أن يقاوم ويقاوم. يتمرد على الطبيعة كما كانت الطبيعة تتمرد على الإنسان السابق. له أهداف ومثل عليا كلما نال منها نصيباً طمع في أخرى؛ لا تقصر همته كما قصرت همة الشعوب المنقرضة

والتقدم في الناحية الثقافية معناه تقدم الإنسان تقدماً مطرداً في دائرته المثلية مثل مثله العليا وأهدافه الأخلاقية ومطامعه في الحياة وأساليب معيشته واحتياجاته البيتية بحيث تتعقد حياته الروحية وتصعب وتتنوع طرق تفكيره وطراز تعبيره عن أفكاره في القول والكتابة، ويبدع في الإفصاح عن شعوره وما يجيش في نفسه في الموسيقى والشعر والتمثيل والغناء. وكلما تنوعت هذه وتشعبت وتميزت دلت هذه التطورات على تقدم ونمو وسير مع النواميس الطبيعية لهذا الكون. لذلك كانت احتياجات الشعوب المنحطة في هذه الناحية ابتدائية بسيطة

ص: 12

بينما هي قد تعقدت وتنوعت في الأمم الأوربية المتقدمة تعقداً مهماً

وتطور البشرية دائماً من بشرية ذات قابلية معينة محدودة، ومن بشرية ذات كفاية مقدرة، إلى بشرية أكثر قابلية وكفاية هي نظرية العلماء الطبيعيين وأصحاب نظرية العالم الإنكليزي داروين والنظرية المعروفة باسم نظرية وهذا التناسق الذي يحدث بمرور الزمن في نظام البشر فيجمع شمل الحياة الإنسانية في محيط معقد معين غير متباين بعد أن كانت الحياة غير متسقة متنافرة، هو التطور المقصود في نظر العالم الإنكليزي هربرت سبنسر وقد صور هذا التطورَ في مدنية الإنسان الفيلسوفُ الألماني هيكل بصورة ملفة من ملفات البردي تنفتح بصورة متوالية كلما انفتح دور في حياة الإنسان المدنية حتى تنتهي بدرجة الكمال أو الإنسانية المطلقة. وقد أطلق على هذا الدور ? وهذا التطور هو من العلامات الفارقة بين الحيوان والإنسان وبين الشعوب المتمدنة وبين الشعوب المتوحشة. ونحن لا نكاد نشعر بظواهر التطور في حياة الأمم الابتدائية والمتوحشة بينما نلمس ذلك بصورة جلية في الأمم المتقدمة التي يظهر فيها التطور كلما تقدمت درجة في المدنية. فوضوح التطور أو غموضه إذاً مقياس يعتبر من أهم المقاييس التي تستعمل لقياس مدنية أمة من الأمم وتقدير منزلتها من بين منازل شعوب الأرض

ولا بد أن يقترن ذلك التطور كما قلنا بالابتكار والإنتاج ويرفع مستوى المعيشة لأفراد الأمة والرفاهية. ولفظه كما يطلق على ذلك الأمريكيون ولذلك يعتبر الرأي العام الإنكليزي نفسه أرقى في المدنية من الفرنسيين لأن الإنكليز أقدر منهم على الابتكار والإنتاج وعلى مجابهة الحوادث، وأكثر منهم قابلية وكفاية بصورة عامة، ودرجة الرفاهية لديهم أعلى من نسبة درجة الرفاهية لدى الفرنسيين

وكلما كان هذا التطور في المجتمع عاماً شاملاً كانت جذور الأمة في المدنية أقوى فيها وأرسخ، وأقدر على مجابهة مشكلات الأمور وحوادث الزمان، وأحكم في السيطرة على أجزاء المملكة وعلى تكوين رأي عام متماسك متقارب فيها لا يندك بسرعة. وهذا هو السر في انهيار بنيان شعوب البلقان مثلاً بسرعة بينما نجد الأمم الجرمانية والإسكانديناوية قوية تقاوم البشر والطبيعة على حد سواء

وهو من العلامات الفارقة بين الحضارات القديمة حتى القرون الوسطى وبعد ذلك، وبين

ص: 13

الحضارة الحديثة والتي ستليها. كان التطور في الزمان السابق قد اقتصر على طبقة معينة من الناس وهي الطبقات العليا، أعني رجال القصر وحاشية الحكومة ورجال اللاهوت. أما الطبقات الدنيا فكانت في مستوى فكري روحي منحط. لذلك لم تكن حلقات الأمة محكمة، ولم يكن المستوى العقلي فيها متشابهاً أو واحداً. لذلك كانت خواص الأمة العقلية وخواصها الفسيولوجية منحطة واطئة، لأنها لم تكن متطورة، فلما أخذت الطبقات الدنيا تشارك الطبقات العليل في التعليم وتشاركها في وظائفها العليا وحقوقها المكتسبة أدركت الأمراض التي كانت تحيط بها والأخطار التي كانت تتهددها، فاحترست منها وأخذت تقاومها مقاومة رجل عالم خبير فقوّت عقلها وقوّت جسمها في وقت واحد. ولذلك خفّ ضغط الشعوب المتوحشة على الشعوب المتمدنة، ثم زال عنها بالتدريج. كان أهم مميزات حضارة الإنسان الأول هو ضعف تلك الحضارة من حيث ناحية الدفاع تجاه الأمم المتوحشة إذ كانت القوة للعضلات وكثرة العدد. فلما تطور الإنسان وظهرت حضارة القوة انعكست الآية وأصبحت الشعوب المتوحشة فريسة الأمم المتمدنة القوية، وأصبحت الأمم المتمدنة هي التي تملي إرادتها على الشعوب المتوحشة وتكيفها كيف تشاء؛ لأن القوة لم تعد قوة العضلات ولا قوة الجسارة والطيش، إنما هي قوة التكيف والتطور والابتكار والمهارة. وأصبحت الأمم المتمدنة لا تفلها إلا الأمم المتمدنة. والأمم المتمدنة هي الأمم التي تصمد أكثر من غيرها تجاه مطرقة الأعداء في أية ناحية من نواحي الحياة

حقق التطور البشري كثيراً من أحلام البشرية وفك بعض طلاسم الكون والوجود، ولكن هل يستمر هذا التطور في سيره السريع هذا؟ وهل يأتي يوم تحقق فيه البشرية كل ما كانت تحلم به أو تصبو إليه، فتتكون على الأرض البشريةُ المثلى وينعم الإنسان في هذه الجنة الأرضية بالخلود والنعيم؟ آمن بعض ذوي الخيال الواسع من العلماء بهذه الفكرة الجميلة فحاولوا قديماً وحديثاً استغلال العلم واستعباد العقل للعثور على سر الحياة واكتشاف لغز الموت لمقاومته، واقتنع آخرون بنظرية إطالة عمر الإنسان مدة تزيد على مدة العمر الطبيعي. وأبى آخرون إلا أن يهتدوا إلى سر الكون، وإلا أن يتوصلوا إلى إدراك كنه ما نسميه بالطبيعة، وأن يجدوا لهم سبيلاً إلى الشمس والنجوم أو طرقاً للمحادثة مع سكان الأجرام العلوية على الأقل.

ص: 14

ولكن دلت التجارب على أن كل تطور يعقبه تطور من جهة أخرى لا يرغب فيه الإنسان. قضى علماء الطب على معظم الأمراض القديمة، ولكن المعامل الكبرى والمدن الضخمة والسكك الحديدية وضجة الآلات والسرعة الرهيبة، كل هذه جاءت إلى البشرية المتطورة بأمراض لم يكن يعرفها إنسان الماضي، وستجيء بأمراض ولا شك لإنسان المستقبل لم نكن نعرفها نحن جزاء تطوره هذا.

وقد جاءت الاختراعات والثورة المادية بعوائد اجتماعية زلزلت بنيان البيت القديم وقوضت دعائم قدسيَّاته الاجتماعية وقواعده الأخلاقية التي كان يستعز بها. وجاءت بعادات جديدة فرضتها عليه فرضاً، ووسع هذا التطور مجال الحروب فجعلها عالمية وقد كانت موضعية، وجعلها آلية تكلف الإنسان ثمناً باهظاً تبتلع معظم ميزانية الدولة فلا تنتهي الحرب حتى يدخل في حرب أخرى جديدة أعم من تلك وأعظم

لذلك تشاءم بعض الفلاسفة من هذا التطور فأعلنوا ثورتهم على التطور الحديث والمدنية الحديثة فاعتزل الفيلسوف الشهير شيخ المتشائمين المحدثين شوبنهور هذا الكون ومن فيه متمثلاً بآراء فلاسفة الهنود ساخراً من كل شيء إلا من كلبه الأمين الذي أطلق عليه كل العالم ليعبر بذلك عن مقدار استخفافه بهذا العالم

وتبرم فيلسوف آخر هو الفيلسوف المتشائم شبنكلر من الحضارة الحديثة ومن الثقافة المادية التي صبغت كل شيء حتى المثل الأخلاقية بالصبغة المادية، وهدد بناء أوربا بسقوط عاجل مريع في إنجيله الفلسفي الجديد (سقوط الغرب) وقد أبان فيه أن الإنسان قد تطور تطوراً سريعاً جداً

أما من حيث الناحية الروحية فقد سارت البشرية فيها ولا شك بخطوات سريعة أيضاً ولكن إلى الوراء، ونادى الفيلسوف الدانماركي كيركه كارد ? أبناء قومه بعبارة تنم عن نفسية أوربا الحديثة:(هيا إلى الدين)

جواد علي

ص: 15

‌من أدب الغرب

صفات زوجة

للدوق فرنسيسكو دي كفيدو

بقلم الأديب يوسف روشا

هذه رسالة بعث بها (ألدون فرنسيسكو دي كفيدو) في سنة

1633 إلى (ألدونا اينا دي فونسيسكا) وصيفة ملكة أسبانيا،

ضمنها الصفات التي يود أن تكون عليها زوجته، إذا ما قدر

أن تكون له زوجة. والرسالة مكتوبة بأسلوب ممتع، فيها شيء

كثير من الفكاهة، ويغلب عليها تلك الروح الشرقية التي قد

تكون من بقايا ما خلفه العرب في الأندلس من الأخلاق

والعادات، بعد أن دالت دولتهم

كل الذي أنشده في الزوجة - لشرفي وراحة ضميري - أن تكون قد تثقفت في رعاية مولاتي، ونشأت وترعرعت في خدمتها، واعتادت طاعتها لتحظى برضاي. أما إذا رأت مولاتي وأصرت على أني جدير بزوجة أرقى من هذه، فنزولاً على رغبتها وتلبية لطلبها سأحاول في هذه الرسالة تبيان الصفات التي يجب أن تتحلى بها تلك الزوجة التي قد ينعم الله بها عليّ، وذلك بواسطة مولاتي ومولاي الأمير. على أني لا أبغي - علم الله - من وراء ذلك تنوير مولاتي، بل تسليتها.

أما أنا، فعديم الأهمية، لولا مولاي الأمير الذي هذبني وقومني ونشلني من الهوة السحيقة التي ترديت فيها. وإذا كنت أتمتع الآن بشيء من الحظوة وسعة العيش، فذلك لأني عزفت، والحمد لله ولمولاي الأمير، عما كنت عليه سابقاً من الموبقات

لقد كنت شريراً ماكراً، وبالرغم من أني قد تركت تلك الصفات الآن، فإنني لم أصلح كل

ص: 16

الصلاح بعد. ذلك لأني لم أهجر شروري وآثامي عن ندم وتوبة، وإنما نبذتها لأني ضقت ذرعاً بها

أنا رجل من أرومة طيبة في بلدي كما تعلم مولاتي. وإن لي داراً في الجبال، وأنا ابن والدين عزيزين أفخر بهما، ولهما عندي أطيب الذكر، على حين أن أعمالي - ولا ريب - تزعجهما وتسبب لهما حزناً عميقاً. . .

يصفني أعدائي بأني أعرج. وكل ما في الأمر أني أبدو كذلك لعدم اهتمامي بنفسي. ولا يستطيع أحد أن يجزم هل أنا أعرَجُ أو أحني ركبتي. ومهما يكن من أمر، فليراهن من يشاء على عرجي

أما سحنتي، فلا أقول إنها ترضي من يراها، ولكنها على كل حال ليست دميمة أو شتيمة إلى درجة تبعث على السخرية أو الاشمئزاز

والآن وقد أتيت على وصف نفسي وكشف النقاب عن وجهي، أنتقل إلى وصف المرأة التي أرتضيها لنفسي إذا ما من الله بها عليَّ. على أني أعترف أنه لولا مشيئة مولاتي ورغبتها الملحة، لكان من الحمق لمن كان مثلي في حقارة الشأن وضعة النفس أن يقبل على أمر كهذا، وليس ثمة امرأة ترضى به بعلاً. . .!

أود قبل كل شيء أن تكون زوجتي كريمة المحتد، عفيفة حصيفة؛ والصفة الأخيرة لازمة، إذ لو كانت غبية لما عرفت كيف تحتفظ أو تستفيد من صفتيها الأخريين. ثم إني أرجو أن تكون دمثة الأخلاق، خفيفة الروح، وأن تكون فضائلها فضائل امرأة متزوجة لا ناسكة متقشفة، لأن الاهتمام بزوجها وبيتها أخلق بها من سماع الوعظ وإقامة الصلاة. أما إذا كانت على شيء من العلم والمعرفة، فأفضل عليها الغبية، لأن العيش مع زوجة جاهلة أفضل وأسلم من العيش مع زوجة مغرورة

وأريدها وسَطا لا بشعة ولا جميلة؛ لأن المرأة الدميمة مصدر خوف وفزع ولا تصلح رفيقة حياة؛ والمرأة الجميلة تزعج أكثر مما تسر. أما إذا لم يكن بد من أن أختار إحداهما، فعليَّ بالجميلة، لأن الهم أهون عليَّ من الخوف، ولأن تكون لي زوجة أحرسها، أحبُّ إلي من أن تكون لي زوجة أفرُّ منها!

ثم إني أريدها ميسورة لا غنية ولا فقيرة، فلا هي تشتريني ولا أنا أشتريها، إذ ليس ثمة

ص: 17

فقر ما وجدت العفة والسجاحة. إن المثري الذي يرفض الزواج من امرأة لأنها فقيرة، لهو غني سافل؛ وإن الفقير الذي يخطب امرأة لأنها غنية، لهو فقير حقير

كذلك أريد زوجة بشوشة لا عبوسة، لأن العيش مع هذه شقاء متصل وعذاب مقيم. ثم إني لا أريدها متشائمة تظل قابعة في زاوية من زوايا البيت تنعق كالغراب

ويجب أن تكون حسنة الهندام في غير إسراف، وأن ترتدي ثياباً محتشمة لا تلك التي تخترعها الخليعات من النساء

ويجب ألا تعمل ما يعمله البعض، وإنما تعمل ما يعمله الكل

وأفضّل الزوجة البخيلة على الزوجة المبذرة؛ ذلك أن التبذير شر يجب الابتعاد عنه، على حين أن البخل، وإن كان ذميما، قد ينفع في بعض الأحيان. على أني أعد نفسي سعيداً إذا ظفرت بزوجة سخية

لا يهمني أكانت بشرتها بيضاء أم سمراء، أو كان شعرها أسود أم أشقر، وإنما الذي يهمني هو ألا تجعل شعرها أبيض إذا كان أشقر، لأن ذلك يبعث على الغيرة وقد لا تحمد عقباه. ولا يهمني أيضاً أكانت زوجتي طويلة أم قصيرة، لأن في كعب الحذاء تلافيا لهذا النقص الجسمي؛ والكعب كالموت يسوي بين الناس

أما عن كونها هزيلة أو بدينة، فأقول إنه إذا لم أستطع الحصول على زوجة تكون على الأقل معتدلة الجسم فأنا أفضل الهزيلة. . . أحب أن تكون زوجتي هيكلاً عظمياً لا قطعة من الشحم واللحم

ثم أريدها مكتملة الشباب لا طفلة ولا عجوزاً، فالفرق بينهما كالفرق بين المهد واللحد. ذلك لأني قد نسيت من زمان بعيد أناشيد المهد، وأنا لم أتعلم بعد ترتيل المراثي. حسبي أن تكون امرأة ناضجة، وأن تكون حديثة السن فتلك منة من الله

وأود من صميم قلبي ألا يكون فمها وعيناها ويداها على جمال خارق. ذلك أنها إذا بلغت الكمال في هذه الأعضاء لما احتملها أحد؛ لأنها في هذه الحالة لا تنفك تلعب بيديها لتعرضهما على الناس، ولا تني تدير مقلتيها ليلحظهما الناس، ومما يصعب احتماله أن ترى امرأة دائمة الضحك والتثاؤب لا لشيء سوى أن تريك أسنانها اللؤلؤية. إن القلق يذهب بالجمال، وإن الإهمال يخفي العيوب

ص: 18

ولن أتزوج واحدة قد مات عنها أبواها، وذلك لأتخلص من وجوب إحياء ذكرييهما؛ كما أني لا أرغب أن يكون كل أهلها أحياء. ليدخل أبوها وأمها بيتي على الرحب والسعة؛ أما عماتها فإلى جهنم وبئس المصير؛ وسأوصي بقراءة الفاتحة على أرواحهن مرة بعد مرة

وسأحمد الله وأشكره إذا ما منحني زوجة ثقيلة السمع، معقودة اللسان؛ ذلك أن هاتين الحاستين كثيراً ما تضجران الأصحاب وتقطعان الزيارات. كما أن من دواعي سروري واغتباطي أن تكون زوجتي سيئة الطبع؛ لأن المرأة الكيسة لا تنفك تضرب على وتيرة واحدة متمنية أن لو كانت كباقي النساء وإن طبيعتها السجيحة هي المسؤولة عما تلاقي من الغبن

وأختم رسالتي هذه جاداً متوخياً الحقيقة كما بدأتها، ومؤكداً لمولاتي أن الزوجة التي تحقق رغباتي هذه ستحظى عندي بأعظم منزلة. على أني أعرف كيف أصبر على بلائها إن هي قلبت لي ظهر المجن. ذلك أني قد لا أكون موفقاً في زواجي، ولكني لن أكون زوجاً فظاً بحال من الأحوال. أطال الله حياة مولاتي ومولاي الأمير ومتعهما بالصحة والعافية إنه السميع المجيب

(بغداد)

ترجمها عن الإنجليزية

يوسف روشا

ص: 19

‌كلمة صريحة

بين الأدبين المصري والسوري!

(لكاتب لبناني)

أفضى الدكتور طه حسين بك إلى بعض الصحف العربية في سوريا بكلمة يعزو فيها قلّة التفات الأوساط الأدبية في مصر إلى الأدب السوري الحديث - بما فيه اللبناني - إلى عدم القيام (بواجب الدعاوة. . .) لهذا الأدب. ولا حاجة إلى البيان أن الذين ينبغي أن يقوموا بواجب هذه الدعاوة إنما هم أفراد الجالية السورية اللبنانية في مصر الشقيقة

وقد أثارتْ هذه الكلمة بعض الأقلام بالمعارضة وبادّعاء تعذّر القيام بمثل هذه الدعاوة لأسباب لا سبيل الآن إلى ذكرها. وأنا أوثر أن أنقل ميدان هذا الكلام - وما يستتبع - إلى هذه المجلة الغراء لأطلع إخواننا المصريين - في هذه الكلمة القصيرة - على بعض النواحي المؤثرة تأثيراً مباشراً في تكييف الحركة الأدبية في سوريا ولبنان

أم العُذر الذي انتحله الدكتور الفاضل - وهو (واجب الدعاوة. . .) - يبتغي به تبرير موقف الأدب المصري الحديث من أن يقال عنه إنه لا يأبه - أو على الأقل - لا يلتفت الالتفات المطلوب إلى تسجيل ظواهر الحركات الأدبية في بلادنا؛ هذا العذر، لا أظن أن الدكتور نفسه مطمئن إلى صحته، وإنما يكون أغضى - وأحسبه إغضاء متعمداً - عن حقيقة سأسجلها بعد حين على أدبنا - ولو كانت مُرَّةً مؤلمة -

من الوهن في التفكير أن يقال إن (الدعاوة) التي تقوم بها الجالية المصرية في بلادنا - إن كان ثمة جالية مصرية تقوم حقاً بالدعاوة - هي التي أضاءت لنا الأدب المصري الحديث، وعرّفتنا به، وحبّبتنا فيه، فإن الواقع لا يثبت من هذا شيئاً، إذ لم نر رجلاً مصريَّا في بلادنا يطرسُ أية كلمة في نقد كتاب مصري صدر في مصر (والنقد ينتظم حسناته وسيئاته)، ولم نرَ رجلاً مصريَّا يعرض في مكاتبنا كتباً صدرت في بلاده دون أن يطلبها منا طالب؛ اللهم إلا أن يكون مقتنعاً أنها لن ترد، وأنها ستحوز الرضى، وستنفق سوقها، لما لها من أهمية عظمى وحاجة ماسة، وطلب ملحاح في بلادنا السورية اللبنانية، فإذ ذاك يبعث بها فيعرضها، وليس هذا من الدعاوة في شيء، إذ أن هذه المؤلفات لا تفتقر إلى مثل هذه الدعاوة.

ص: 20

لهذا كله تصادف المؤلفات المصرية سوقاً رائجة في بلادنا

وأما متعهدو المؤلفات عندنا - أو المؤلفون أنفسهم - فإنهم لا يجدون ميلاً إلى إرسال مؤلفاتهم لعرضها في الأسواق المصرية خاصة، لأنهم مقتنعون أنها لن تحوز الرضى ولن تنفق سوقها، فيكون هذا داعيهم إلى الاجتزاء بعرضها في أسواقنا، وحسبهم ذلك

فالدعاوة التي ينيط الدكتور الفاضل بها رواج المؤلفات، ليس لها من التأثير أي قسط.

فلماذا إذن تصادف المؤلفات المصرية، وبالجملة الأدب المصري جواً موائماً في مصر نفسها قبل سوريا؟ ولماذا لا يصادف الأدب السوري هذا الجو نفسه في سوريا بَلْه مصر؟

أجل! لماذا يأنس قراؤنا - نحن السوريين - صَورْة إلى قراءة المؤلفات المصرية تفوق ميلهم إلى قراءة الكتب السورية حتى إنك لترى الكتب المصرية تحتل المركز الأول في أسواقنا؟

هذه أسئلة تتطلب أجوبتها صراحة وصدقاً لا تجامُل فيهما على جانب، ولا إشادة فيهما ولا إطراء لجانب آخر!

من الحمق ألا يعترف المرء أن من أسباب ذلك أن النتاج المصري أكثر فائدة وأكبر قسطاً في التفكير الحي، وأكثر طلاوة في الأسلوب، وأوفر جمالاً في ابتداع المعاني وخلق الطرائف، وأرهف إحساساً في تصوير العاطفة؛ وبالجملة: أن النتاج المصري أكثر نضوجاً. وهذه الظاهرة لا تخفى على أحد، ولا يحاول أن يبخس من حقها أحد، فمصر زعيمة البلاد العربية غير مُدافَعَة في مضمار النتاج الأدبي بكل ما ينتظم من فروع؛ وإن تكن مصر زعيمة البلاد العربية في الأدب، فليس بضائرها أن تلتفت إلى الحركات الأخرى. بيد أن الذي لا شك فيه أنه السبب الأساسي في رواج الأدب المصري، وفي كساد السوري - إلى حد - هو أن نتاج السوريين ضئيل، لا يقاس بوفرة نتاج المصريين وضخامته وغزارته

وآية ذلك أن أي أديب مصري شهير - في عرف المصريين والسوريين على السواء - لا تقل مؤلفاته عن العشرة. وأكثر هؤلاء الأدباء تربو مؤلفاتهم على ذلك بكثير أو قليل. وإنا إذا قلنا (أديب شهير) فإنما أعني أن مؤلفاته لا تجنح إلى الإسفاف أو الضعف، ولا تميل إلى التعقيد والغموض. وبجملة واحدة أن مؤلفاته معروفة مفيدة قيمة. ومن الطبيعي أن يقوَّم

ص: 21

الأديب بعدد كتبه القيمة. . .

ولكننا نرى في أدبنا، أن أي أديب سوري شهير - في عُرف السوريين فحسب (ولم أشفع معهم المصريين لقلة اطلاعهم ونقص معرفتهم في هذا المضمار) - لا تربو مؤلفاته عن الخمسة، وأكثر هؤلاء الأدباء تقل مؤلفاتهم عن ذلك بكثير أو قليل

قد يتجه للقارئ هنا أنه قد يكون عزبَ عن بالي أمرُ المؤثرات في البيئات، وهذا أمر له قيمته وشأنه. ولكنك إذا استقرأت جميع المؤثرات في الأدب، وقارنتها بين الأديبين فإنك تراها تختلف اختلافاً يسيراً ليس من شأنه أن يؤثر هذا التأثير العظيم في النتاج الأدبي لكل من البلدين. فالوسط الذي يعيش فيه كلا الأديبين يكاد يكون واحداً، والمجتمع كذلك باعتبار أنه مجتمع عربيٌ أماله واحدة، وغايته واحدة، يتكلم لغة واحدة، والغالب فيه يدين بدين واحد، وتحكمه حكومة واحدة. . . الخ. وأما البيئة الطبيعية فتختلف كثيراً بين جو مصر الثابت، وبين جو سوريا المتبدل المغيّر بحسب الفصول؛ وأنا أرى أن التبدل الجوي في سوريا هو في صالح فكر أدبائها، لأنه دائماً يتلون بلونه ويتأثر أكبر الأثر به؛ فجو مصر الثابت يورث العقل المصري جواً ثابتاً فلا يتغير التفكير إلا بقدر. وأما جو سوريا المتبدل فيورث العقل جواً متبدلاً يمد هذا التفكير بأسباب الاضطراب الدائم، والحركة المختلفة، فيتمخض عن ألوان من التفكير كثيرة، وضروب من العاطفة وفيرة

والآن أعود - بعد أن كاد القلم يشط - إلى تعليل سبب هذا البون الشاسع في النتاج الأدبي

إن الأدباء المصريين لا يألون جهداً، ولا يدخرون قوة في الكتابة، بل يدأبون على امتصاص مداد القلم، وعلى ترشف ماء معانيه، فيكتبون ويكتبون ولا ينصبون، وينهال عليهم الإطراء والتشجيع فيزدادون. . . أجل إنهم يزدادون. . . وهذه الحركة الدائبة في الكتابة تفسح أمامهم طرقاً واسعة لا حبةٌ في التفكير، وتحسر لأعينهم عن مجال جمة فينظرون ويتأملون، وينهلون كأنهم لا يرتوون.

وهم يحسون - إذا ما اضطرتهم ظروف قاسية إلى الانصراف عن الكتابة - بضيق شديد يبرمهم ويؤلمهم، ويستشعرون حنيناً مشبوباً إلى (العودة إلى الروض. . .)

لهذا كله، أضحى نتاجهم الأدبي ضخماً غزيراً لا ينضب معينه، ولا يجف مداده

وأما الأدباء السوريون واللبنانيون فهم على عكس ذلك، وهذه هي الحقيقة المؤلمة

ص: 22

إن حقوق الصراحة لتوجب علينا القول: إن الأديب السوري الذي يقرزم يعتقد أنه أصبح شاعراً أعظم. . . وإن الأديب الذي كتب مقالة نالت بعض الإعجاب يثق بأنه أضحى المفكر الذي لا يجارى، وإن الأديب الذي أصدر قصة أو قصتين يوقن بأنه أمسى القصصي الذي لا يبارى

ولكن من الحق كذلك أن نسجل أن في سوريا ولبنان أدباء وعظماء تجود قرائحهم - إمَّا طابوا نفساً بالكتابة - بدرر بينة وآيات رائعات، ولكنهم - مع الأسف، والأسف الشديد - يجودون بمقال واحد في السنة، ويصدرون كتاباً واحداً في العشر سنين!

إن هذا الانقطاع عن الكتابة من شأنه أن يخمد حيوية الفكر، ويميت قوى التأمل والنظر إلى بعيد، ويقضي على شبوب العاطفة. أنا لا أدعي أن ليس في الأدب السوري شيء قيم، فمعاذ الله أن يكون ذلك؛ بل أقول إن الذي يصدر كتاباً قيما واحداً لا حاجة له بعد الآن إلى إجهاد نفسه وأتعابها. فقد سلس له قياد الفكر السامي. فليخلد إلى الراحة، وليركن إلى برجه العاجي، وليتنسك ما طاب له في منسكه. ألم يطر عليه كافة القراء؟ أو لم تتشوف إليه كافة المجلات. . .

الحق الذي لا مناص من إثباته هو أن الغرور والزهو والتكبر - تتملك كلها - أكثر أدبائنا؛ فينتجون هذا الإنتاج الضئيل. إن كتاباً واحداً تصدرونه - أيها الأدباء قاطبة - لا قيمة له مهما جل فيه من فكر وسما ما يحوي من آراء

ماذا أفدت أيها الأديب (الساخر. .) الذي يدعي أنه يزجي الوقت كله في مطالعة المؤلفات القيمة وهو لم يصدر - مدى حياته الأدبية الطويلة - إلا كتابين أو ثلاثة!!

وأنت ماذا جنيت أيها الشاعر الذي يقول إنه لا يرتاح ثانية من تصفح دواوين كبار الشعراء وهو لم يطلع الناس إلا على مقطوعات صغيرة، هيهات أن تتجمع ديواناً؟!

وأنت أيها القاص الذي لم يصدر إلا كتاباً واحداً لم يحو أكثر من عشر قصص، أكل ما وقع عليه بصرك من صور حية، ومناظر جمة تثير الفكر، وتمده بالحيوية مثبت في كتابك ذاك؟!

وأما أنت أيها الناسك المفكر، فأفق مما أنت فيه، وأطفئ شمعتك الصغيرة التي لا تومض إلا ومضاً، واخرج إلى الحياة، إلى الشمس النيَّرة. . . اخرج إليها بجسمك وعقلك وروحك

ص: 23

وقلبك، فإن لك فيها متسعاً!

لقد غزانا المؤلفون المصريون بمؤلفاتهم، وأثبتوها إثباتاً في بلادنا، فتقبلناها شاكرين، وعُجْنا على مطالعتها متهافتين. وذلك لأنها وافرة، لأنها غزيرة، ولأن في هذه الغزارة قيمة عالية.

ولم نستطع غزو مصر - حتى ولا غزو أنفسنا (إذا أردنا المبالغة) - بمؤلفاتنا، ولم يتقبلها المصريون لأنها نادرة، لأنها قليلة جداً، ولأن في هذه القلة قيمة ضئيلة

كلا! ليست (الدعاوة) التي قصرنا فيها هي السبب في قلة التفاتهم إلينا، وليست (الدعاوة) التي أوفوها حقها هي السبب في تهافتنا على أدبهم!

لا يمضى الشهر المصري دون أن نسمع أن كتابين أو ثلاثة قد صدرت، وتمضي السنة السورية واللبنانية - بل السنون - دون أن نسمع أن كتاباً واحداً قد صدر!

إنها كلمة صريحة آمل أن تُثبت فيقرءوها أدباؤنا. . . علَّ الجد يستحثهم، ويحققون ما يدعون بأن نهضة كبرى تترعرع في بلادنا.

(بيروت)

(كاتب لبناني)

ص: 24

‌إلى إمام الأزهر

العقائد الوثنية

في الكتب الأزهرية

للأستاذ محمود أبو ريه

هذه كلمة خاصة نرجو أن تبلغ مسامع الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وأن تصيب مكان العناية منه فينهض بما أوتي من علم واسع وعزم قوي إلى العمل على تخليص العقائد الدينية من نزعات الوثنية، وتحرير العقول من رق التقاليد الخرافية، حتى تصبح هذه العقائد سالمة خالصة، وتنطلق العقول والأفكار إلى العمل على كل ما يعود عليها بالنفع والخير. وإنه إن يفعل ذلك يكون قد أقام الأصل الأول للدين الإسلامي وهو التوحيد الخالص، الذي هو (كمال الإنسان) كما قال أستاذنا الإمام محمد عبده، ووضع أساس الإصلاح في بلادنا إذ لا يقوم أي إصلاح في أي مرفق من مرافق الحياة إلا بعد تطهير العقائد وتحرير العقول. ذلك بأن العقائد الفاسدة كما لا يخفى تأخذ بأيدي معتقديها وأرجلهم، وتغل عقولهم عن التفكير الصحيح، وتصيب عزائمهم بالشلل الاجتماعي، فلا يعملون في الحياة ولا يُعدون لها عدتها. وأنى لهم العمل وقد (رموا الحمول. . .) على ما اتخذوهم أولياء بزعمهم فاستيقنوا أنهم يقضون حاجاتهم ويجيبون دعواتهم

وإن الذي جعل العقائد الوثنية تفشو ولا ريب بين المسلمين هم أكثر شيوخ الأزهر بما يبثونه في فتاواهم وأحاديثهم ودروسهم ومجلاتهم، ولولاهم لما وجدت الوثنية سبيلاً إلى عقائد المسلمين، ذلك بأنك ترى الرجل من دجاجلة الصوفية يدس عقائد الشرك بين من يسميهم مريديه، ويعبث ما شاء له الجهل أن يعبث بعقول هذه الطوائف الساذجة، فإذا التفت إلى الشيخ الأزهري، وهو الذي يرجى منه أن يعمد إلى ما يبنيه هذا الرجل الصوفي فيأتي عليه من القواعد، لتنظر ماذا يصنع إزاء ذلك وجدته يناصر هذا الدجال ويؤيده؛ وقد بلغ من بعضهم أن يمشي في ركابه ويدعو الناس إلى احترامه وإجلاله فيقول: إن العلم علمان: علم الظاهر وهو لنا، وعلم الباطن الذي هو علم الحقيقة وقد فاز به شيوخ الصوفية. وبذلك يصبح ذلك الرجل الجهول قطب وقته وولي عصره

ص: 25

ولقد كنت يوماً أناقش أحد شيوخ الأزهر فيما يصنعه هو وأمثاله من العمل على إشاعة العقائد الوثنية بين المسلمين، فكان مما أجاب به: إن هذه الأمور قد درسناها على شيوخنا في الأزهر علماً وأخذناها عنهم عملاً، وهي ثابتة في الكتب الأزهرية. وقد قرر شيخنا الدردير في الخريدة أن من لا شيخ له فشيخه الشيطان. وقال إمامنا البيجوري في حاشيته على الجوهرة: إن الله تعالى يوكل ملكا على قبر الولي يقضي حوائج الناس. فنحن لا نقول إلا عن علم ولا نفتى إلا بدليل. ثم التفت إلى متعجباً وقال: كأنك لم تقرأ ما ينشر كل يوم في المجلات الدينية من الفتاوي الدجوية، وآخرها فتوى فائدة الأربعاء القناوية. أو كأنك لم تطلع على القصيدة الصدفية في الاستغاثة بالحضرة الأحمدية البدوية التي نشرت بمجلة الرسالة الغراء! ألا فادرس العلم الصحيح من مصادره، وارجع إن أردت المزيد إلى ما أثبته الشيخان (الأكبران) الشرقاوي والبيجوري وهما ممن بلغوا درجة الإمامة وتولوا مشيخة الأزهر لترى كيف يكون علم العلماء المحققين. فغادرته ورجعت إلى هذه الكتب التي ذكرها لأرى ما فيها، وما كدت أعبر بعض صفحاتها حتى تلقاني علم زاخر وجدت أن لا قبل لي بملاقاة أمواجه، فقفلت راجعاً وقلت اللهم إن السلام في الساحل

أما الكتاب الأول فهو شرح الخريدة البهية (للقطب الكامل والغوث الواصل أبي البركات سيدي أحمد الدردير)

قال هذا القطب بعد أن ذكر من العقائد ما شاء له علمه: إن على كل مسلم (اتباع شيخ عارف قد سلك طريق أهل الله على يد شيخ كذلك إلى أن ينتهي إلى رسول الله)، ثم قال: (ومن لا شيخ له فشيخه الشيطان. وبعد ذلك أوجب على المسلمين تقليد الأئمة الذين ذكرهم اللقاني في الجوهرة بقوله:

وما لك وسائر الأئمة

كذا أبو القاسم هداة الأمة

فواجب تقليد حبر منهم

كذا حكى القوم بلفظ يفهم

على أن المسلم لا يدري ماذا يأخذ وماذا يدع في هذا الأمر وهو يجد في كتب العلم مع هذا القول قولا آخر هو:

ألا كل من لا يقتدي بأئمة

فقسمته ضيزى عن الحق خارجة

فخذهم عبيد الله عروة قاسم

سعيد سليمان أبو بكر خارجة

ص: 26

على أنا لا نعرض لذلك حتى لا نتحول عن تيار الحديث

ولما فرغ من وجوب تقليد الأئمة الأربعة قال باتباع أبي القاسم الجنيد ومن تبعهُ، لأن من عداهم (من جميع الفرق على ضلال)، ثم قال إن تمام النعمة في اتباع الأقطاب الربانيين أسياده أحمد الرفاعي وعبد القادر الجيلاني وأحمد البدوي وإبراهيم الدسوقي وأبو الحسن الشاذلي ومحمد الخلوتي وعبد الله النقشبندي وأتباعهم (فهؤلاء كلهم سادات الأمة المحمدية)

وقد جاء الشيخ (المحشي) وهو (العلامة الكبير والفهامة النحرير سيدي أحمد الصاوي) فترجم لهؤلاء الأقطاب الربانيين وذكر مناقبهم. وقد أورد من مناقب الرفاعي أنه (أراد شراء بستان فأبى صاحبه ألا يبيعه إلا بقصر في الجنة)، فقال له:(قد اشتريت منك بذلك) وكتب له عقداً هذه صورته: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما ابتاع إسماعيل من العبد أحمد الرفاعي ضامناً على كرم الله قصراً في الجنة يحف به حدود: الأول لجنة عدن؛ والثاني لجنة المأوى؛ الثالث لجنة الخلد؛ الرابع لجنة الفردوس، بجميع حوره وولدانه وفرشه وأشربته وأنهاره وأشجاره عوضاً عن بستانه في الدنيا، والله شاهد على ذلك وكفيل) فلما مات إسماعيل دفن معه العقد فأصبحوا وإذا مكتوب على قبره (قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً)

ونقل من كرامات السيد البدوي أن ابن دقيق العيد اجتمع به فقال له إنك لا تصلي، ما هذا سَنَن الصالحين. فقال له اسكت وإلا طيرت دقيقك، ودفعه فإذا هو بجزيرة متسعة جداً، فضاق ذرعه حتى كاد يهلك، فرآه الخضر فقال له لا بأس عليك، إن مثل البدوي لا يعترض عليه. اذهب إلى هذه القبة وقف ببابها فإنه سيأتيك العصر يصلي بالناس فتعلق بأذياله لعل أن يعفو عنك، ففعل فدفعه فإذا هو ببابه

وساق من كرامات الدسوقي أنه يعرف جميع اللغات حتى لغات الوحش والطير، وأنه صام في المهد، ورأى اللوح المحفوظ وهو ابن سبع سنين، وأنه ينقل اسم مريديه من الشقاوة إلى السعادة. ومن أراد أن يستزيد من معرفة مناقب هؤلاء الأبطال فليرجع إلى هذا الرسالة فإن فيها العجب العجاب

أما الكتاب الثاني فهو حاشية الشيخ الباجوري على شرح ابن قاسم وقد جاء في باب الجنائز ما يلي:

لو شاهدنا الملائكة تغسله (الميت) لم يسقط عنا

ص: 27

(ولو غسل الميت نفسه كرامة كفى كما وقع لسيدي أحمد البدوي أمدنا الله من مدده)

والكتاب الثالث هو حاشية الشيخ الشرقاوي على متن التحرير لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري وقد قال في باب الجنائز أيضاً: (ولو شاهدنا الملائكة يغسلونه (الميت) لم يسقط عنا الطلب بخلاف ما لو كفنوه) إلى أن قال: ولو غسل الميت نفسه كرامة كما نقل عن سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه، وكذا عن سيدي عبد الله المنوفي المالكي كفى لأنه من جنس المكلفين. وكذا لو غسل ميت ميتاً آخر كرامة)

نكتفي بهذا خشية الإطالة، ونعرضه عرضاً بغير مناقشة ولا بحث يقرأه الناس، ويطلع عليه إمام الأزهر، وهو القيم على علوم الدين في هذه البلاد والمسموعَ الكلمة بين أرجاء العالم الإسلامي، وكل ما نرجوه أن يوجه عنايته الجبارة إلى الإصلاح الصحيح لعلوم الأزهر، وذلك بإصلاح الكتب الدينية التي تدرس فيه، وبخاصة كتب العقائد منها، وأن يقوم العمل على الأخذ بها والدعوة على ما جاء بها، فلا يعبد الطاغوت في هذا البلد من دون الله، ومن لا يدين بها ويؤمن بأصولها يحال بينه وبين التصدي للدعوة إلى الدين، لأن العالم أو الواعظ إذا لم يكن سالم العقيدة خالص التوحيد، فإنه يكون أضر على الأمة من الجاهل

هذا ما نرجوه من شيخنا الأكبر، حتى يكون المسلم مستحقاً لوراثة الأرض بصلاح، فيأخذ أمور الحياة بأسبابها، ويستغلها بتسخير نواميسها، ويتبع سنن من يعاصرنا من الأمم الراقية شبراً بشبر وذراعاً بذراع، ليتبوأ مكانه اللائق به من العزة والسلطان.

نفزع إلى شيخنا الأكبر في ذلك، ونحن نعلم أنه ليس له غيره، فهو المسئول عن حماية العقائد الدينية في هذه البلاد من عبث الجاهلين، وقد تهيأ له من أسباب إنفاذ الإصلاح ما لم يتهيأ لمن سبقه من الأئمة المصلحين، فلا عذر اليوم

(المنصورة)

محمود أبو ريه

ص: 28

‌عَبْرَ كذا.

. .

للأستاذ الكبير (ا. ع)

يذكر القارئ أني كنت قد كتبت بحثاً في العدد 424 من (الرسالة) أُخطّئ فيه ما شاع في أقلام الكتاب من استعمالهم (عَبْر) - مصدر عَبَرَه - ظرفا، مسايرين الترجمة الخاطئة للكلمة الإنجليزية

وقد سقت للتوضيح ثلاثة أمثلة مما تستعمله الصحف والمجلات كل يوم. وسأعرض هذه الأمثلة مرة ثانية، وأبسط الموضوع بسطاً، وأضمّنه مقتبسات من كلامي وكلام مُناظري مما يدور عليه البحث بيني وبينه؛ حتى يعيه من القراء من لم يكن تتبعه منذ البداءة - وهذه هي الأمثلة:

1 -

ومن زمن قريب ادعت اليابان لنفسها حق مرور قواتها (عَبْرَ) شمال الهند الصينية

2 -

وسنواصل كل شهر قذف. . . بالقنابل الشديدة الانفجار، كما فرغت مصانعنا من إخراج طائراتنا الضخمة أو جاءت إلى هنا (عَبْرَ) الأطلنطي

3 -

لهذا وصلوا بين باكو وباطوم (عَبْرَ) القوقاز بأنابيب

فردّ عليّ الأستاذ الفاضل محمد محمود رضوان في العدد 432 من (الرسالة) بأن هذه الكلمة قد جاءت في بيت لسواد بن قارب هو:

فشمرت عن ذيلي الإزار وأرقلت

بيَ الدعاب الوجناء عبْر السباسب

ثم قال: ومن ثم يرى الأستاذ الكبير أن الكلمة صحيحة كما يستعملها الكتاب على عهدنا

وقال: ولو أردنا تخريج الكلمة على وجه صحيح لوجدنا أكثر من وجه، خلافاً لما يقول الأستاذ:(وأقرب هذه الوجوه عندي أن تكون (عبْر) مصدراً مراداً به اسم الفاعل، فتكون حالاً مما قبلها)؛ ويكون التقدير:(مرور قواتها عابرة شمال الهند الخ)، (أو جاءت إلى هنا عابرة الأطلنطي)

فأنت ترى أنه في عبارته هذه قد أعرب في صراحة (عبر) حالاً فعقْبت عليه في العدد 433 بأن المصدر لا يقع حالاً إلا إذا كان نكرة و (عبْر) في الأمثلة التي أتيت به - وفي غيرها مما تلوكه الصحف كل يوم - معرفة بالإضافة، فلا تصلح أن تكون حالاً؛ ثم جئت بعدة أمثلة مما يستشهد به النحويون لضرورة تنكير المصدر إذا وقع حالاً؛ وقلت أيضاً: إن

ص: 29

وقوع المصدر المعرف حالاً نادر جداً، ولا يكون إلا في صورتين يمثل لهما بمثالين هما: جاءت الخيل بَدادِ، وأرسلها العِراك

ولكن الأستاذ لم يُرِد أن يعترف بأنه قال ما قال - وهو ما خطّته يمينه صريحاً كما مرّ - فجاء في العدد 435 يقول ما نصه:

وأقول: إن الأستاذ لم يتبين رأيي على وجه الصحيح؛ إذ توهم أني أرى (عبراً) مصدراً أريد به الحال (تأمل)، ولم أقل هذا (تأمل)، وإنما قلت: إنه مصدر وضع موضع اسم الفاعل، فهو عبر بمعنى عابر، كما في قوله تعالى:(إن أصبح ماؤكم غورا)؛ ورجل عدل: أي عادل!

أقول: ما على القارئ إلا أن يرجع إلى عبارته، فهي من الوضوح والسلامة والإيجاز بحيث لا توقع في وهم أو ضلال.

ثم نرى الأستاذ بعد ذلك يعود فيؤكد إنكاره لما قال، ويتسرّب من هذا الإنكار - في شيء من الالتواء - إلى إجازة إعراب (عبر) حالاً؛ إذ هذا المصدر - كما يقول - سيفقد تعريفه بعد التقدير. . . الخ

وإني واضع عبارته كلها أمام القارئ، مراعاة للدقة، وسوقاً للحجاج على وجهه الصحيح، قال:

(فأنت ترى أني لم أنص على أن كلمة (عبر حال) حتى يشترط تنكيرها، وإنما نصصت على أنها مصدر بمعنى فاعل (تأمل). وكونها (حالاً) أمر اقتضاه السياق الكلام في الجمل التي ساقها الأستاذ. وساعد عليه أن المصدر سيفقد تعريفه بعد التقدير. وسيصير المضاف إليه مفعولاً، وذلك في قولك:(عابرة الأطلنطي)؛ فليس ثم ما يمنع من أن يكون المصدر (حالاً) بعد أن فقد تعريفه)

أقول: إن المثال - وموضوع البحث والمناقشة - غير صحيح؛ إذ لا يعرف في العربية مصدر معرف يقع حالاً إلا في صورتين أو صور قليلة شاذة - فلا يمكن أن يتلمس له من (التقدير) ما به يخرج من فساده المتأصل

ألا إن الموضوع من الخطورة بحيث لا ينبغي أن يُرْمى فيه الكلام على عواهنه

بقيت مسألة ليست محل نزاع بيني وبين الأستاذ، وهي ما أشار إليها بقوله: (فقد أصبحت

ص: 30

القضية الآن: هل يشترط تنكير المصدر إذا وقع موقع اسم الفاعل، بصرف النظر عن كونه حالاً أو غير حال؟)

وللإجابة عن هذا أقول: يحسن أن يرجع الأستاذ مرة ثانية إلى ما جاء في العدد 433، فقد قلت فيه:(يكفي في الرد على هذا أن أذكر الأستاذ أنه من المقرر أن المصدر قد يقع حالاً (إذا كان نكرة). فالتنكير شرط، نحو. . . الخ)

(فأنت ترى أني قصرت كلامي على (المصدر الواقع حالاً) ولم أتعرض لغيره، فلا محل هنا لهذا الاستفهام

وليس كذلك بيني وبينه خلاف في المصدر قد يقع في موضع اسم الفاعل، ولا في أن اسم الفاعل قد يقع في موضع المصدر

وبعد فقد آن لي أن أختتم هذه الكلمة، بعد أن أفرغت الوسع في المقابلة بين كلام مناظري وكلامي. وإلى القراء أحتكم والله ولي التوفيق

(ا. ع)

ص: 31

‌فضل الصفر على المدنية

للأستاذ قدري حافظ طوقان

قد يعجب القارئ الكريم من هذا العنوان. وقد يتبادر إلى ذهنه أسئلة عديدة؛ ما علاقة الصفر بالمدنية؟ وهل للصفر قيمة ليكون له أثر في تقدم المدنية؟ أليس الصفر صفراً يعني الفراغ والعدم؟ إذن فكيف يوضع هذا العنوان ويصرف له بعض الاهتمام؟

ولكن مهلا. . . لقد فكرنا في هذا الموضوع، ورجعنا إلى الكتب الرياضية وغير الرياضية، فتبين لنا أن للصفر خصائص وأفضالا. وما يكون لنا أن نقتحم هذا الموضوع لولا أن البحث قادنا إلى ذلك. وفي هذا المقال سنحاول تباين الفوائد التي تجنيها المدنية من الصفر، كما سنأتي على التسهيلات التي قدمها للبحوث الرياضية وغير الرياضية، والتي لولاها لما تقدمت العلوم الرياضية تقدمها المشهود، ولما استطاع العلماء أن يتقدموا بالجبر خطوات واسعة، وبالتالي لما استطاعوا أن يتقدموا بالتي تعتمد على الرياضيات في كثير من مباحثها كالفيزياء والفلك والكيمياء.

نبذة تاريخية

وقبل ذكر شيء عن الصفر وخصائصه وفوائده نرى أن نذكر أولاً نبذة عن تاريخ الترقيم واستعمال الصفر. إن النظام الذي نتبعه الآن في الترقيم مبنيّ على أساس القيم الوضعية، وبواسطته يمكن ترقيم جميع الأعداد وإجراء الأعمال الحسابية بسهولة كبيرة. ولقد بقيت الأمم في القرون الخالية كالمصريين والبابليين واليونانيين وغيرهم محرومة من هذا النظام؛ وكانوا يجدون صعوبة في إجراء الأعمال الحسابية، حتى أن عمليتي الضرب والقسمة كانتا تقتضيان جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً. ولو قدّر لأحد علماء اليونان من الرياضيين أن يبعث فقد يعجب من كل شيء، ولكن عجبه يكون على أشده، إذ يرى أن أكثر سكان الأقطار في أوربا وأمريكا يتقنون عمليتي الضرب والقسمة ويجرونها بسرعة ودون عناء.

ولما نهض العرب نهضتهم العجيبة ودوّخوا أكثر أقطار المعمورة، اتصلوا بالهند فاقتبسوا منها الأرقام الهندية وقد قدروا النظام الترقيمي عندهم (عند الهنود) ففضلوه على حساب الجمل الذي كانوا يستعملونه قبلاً. ومن الغريب أن في بلاد الهند أشكالاً متنوعة ومختلفة

ص: 32

للأرقام، ولكن العرب بعد أن اطلعوا على أكثر هذه الأشكال كونوا منها سلسلتين عرفت إحداهما باسم (الأرقام الهندية) وعرفت الثانية باسم (الأرقام الغبارية). ففي بغداد والجانب الشرقي من العالم الإسلامي عم استعمال الأولى أي الأرقام الهندية، وهي التي لا تزال شائعة ومستعملة في بلادنا. وشاع استعمال الثانية، أي الأرقام الغبارية في القسم الغربي - في الأندلس وأفريقيا والمغرب الأقصى - وهذه الأرقام هي المستعملة الآن في أوربا والمعروفة باسم الأرقام العربية ولم يتمكن الأوربيون من استعمال هذه الأرقام في الأعمال الحسابية إلا بعد انقضاء قرون عديدة من اطلاعهم عليها، أي أنه لم يعم استعمالها في أوربا والعالم إلا بعد انتهاء القرن السادس عشر للميلاد

ولم يفطن أحد قبل الهنود إلى استعمال (الصفر) في المنازل الخالية من الأرقام؛ وقد أطلقوا عليها لفظة (سونيا) ومعناها (فراغ) واستعملوا النقطة (.) لعلامة الصفر؛ وقد أخذها العرب عنهم واستعملوها في معاملاتهم. ويقال إن الهنود لم يلبثوا أن عدلوا عن استعمال النقطة وأخذوا يكتبون الصفر بصورة دائرة

فوائد الصفر

مما لا جدال فيه أن نظام الترقيم الذي نعرفه والمنتشر بين أكثر أمم الأرض هو من المخترعات الأساسية القيمة ذات الفوائد الجلّى التي توصل إليها العقل البشري، وهذا النظام لم ينحصر - كما لا يخفى - في تسهيل الترقيم وحده، بل تعداه إلى تسهيل جميع أعمال الحساب. ولولاه لما رأينا سهولة في الأعمال الحسابية، ولاحتاج المرء إلى استعمال طرق عويصة وملتوية لإجراء الضرب والقسمة. ومما لا شك فيه أيضاً أنه لولا الصفر واستعماله في الترقيم لما فاقت الأرقام العربية والهندية غيرها من الأرقام، ولما كان لهما أية ميزة، بل لما فضلتهما الأمم المختلفة على الأنظمة الأخرى المستعملة في الترقيم. والنظام المستعمل والشائع الآن يقضي بجعل قيمة الرقم تتغير بتغير منزلته، أي أنهم أوجدوا منازل للأرقام تكسب الرقم الواحد قيماً مختلفة إذا نقل من منزلة إلى أخرى؛ فالرقم الذي على اليمين يدل على الآحاد، والذي يليه على العشرات، والذي يليه على المئات، وهكذا. . . وإذا أردنا أن نكتب العدد (ثلاثة وأربعين) فإننا نضع الثلاثة في المنزلة الأولى، أي منزلة الآحاد والأربعة في المنزلة الثانية، أي منزلة العشرات. وهنا نجد أن الثلاثة

ص: 33

دفعت الأربعة إلى المنزلة الثانية إلى اليسار وأعطتها قيمة الأربعين. ولكن إذا أردنا أن نكتب بالرقم العدد (أربعين) فمعنى ذلك أنه علينا أن نجد رقماً يدفع الأربعة إلى المنزلة الثانية إلى اليسار. وبذات الوقت لا يزيد في المجموع شيئاً، ومن هنا استعمل الصفر ووضع علماء الهند علامة لتملأ المرتبة الخالية، فجاءت مكملة لطريقة كتابة الأعداد بالأرقام

وللصفر فوائد أخرى هي من عظم الشأن في مكان عظيم لا يقل خطرها عن التي ألمعنا إليها؛ فلولاها لما استطعنا أن نحل كثيراً من المعادلات الرياضية من مختلف الدرجات بالسهولة التي نحلها بها الآن. ويمكن القول بأن الرسم البياني لم يتقدم خطواته الواسعة إلا باستعمال الصفر. والرسم البياني من أهم البحوث الرياضية، وعليه ترتكز الهندسة التحليلية، وحلول كثير من المعادلات الصعبة، بل هو الركن الأساسي للموضوعات التي تحتاج إلى استعمال علم الإحصاء. وهل تقدمت المثلثات تقدمها المعروف إلا بمعادلاتها؟! وهل يستطيع الرياضي أن يتقدم خطوة في حلها إلا إذا استعمل إشارة (الصفر)؟!

قد يدهش القارئ إذا قلنا إن حساب التمام والتفاضل لا يستغني في بحوثه عن استعمال الصفر، بل إن الصفر عامل مهم جداً في تسهيل حل كثير من مسائله العويصة الصعبة. وعلى كل حال يمكن القول بأن (الصفر) ضروري ولازم في البحوث الرياضية الحديثة والعالية، إذ جعل كثيراً من الأوضاع والمعادلات قابلة للحل غير ملتوية المسالك يمكن الأخذ بها والاستفادة منها، واستعمالها في فروع المعرفة من فلك وطبيعة وكيمياء وهندسة وما يتعلق بهذه من صناعة وفن

علاقة الصفر بالمدنية

ألا تشاركني أيها القارئ في الإعجاب بالأرقام التي نستعملها ويستعملها الأوربيون وبالنظام الذي يستولي عليها؟ أليس عجيباً ومثيراً للدهشة ألا تجد أقل صعوبة في كتابة أي عدد شئت - مهما كان كبيراً - من أرقام لا يتجاوز عددها عدد الأصابع؟ ألا ترى معي أن هذه الأرقام العجيبة قد سهلت الأعمال الحسابية كثيراً؟! ألا تعتقد أنه لولاها لما تقدمت المعاملات التجارية تقدمها الحاضر، ولولاها أيضاً لوجدنا صعوبة كبيرة جداً في إجراء أبسط الأعمال في الضرب والقسمة!!

ص: 34

أرجح أن كل هذا معروف لديك وتوافقني عليه، ولكن قد يزيد عجبك إذا علمت أن إشارة (الصفر) هي التي أوجدت أكثر التسهيلات التي تراها في الترقيم، وهي التي أعطت بعض الخصائص الممتازة للأرقام. لقد ظهر لك المقام العالي الذي يشغله (الصفر) في البحوث الرياضية، وأنه عامل مهم في ترقيتها وفي تسهيل الصعب منها، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إنه لولا الصفر لما تقدم العلماء تقدمهم الغريب في العلوم الرياضية. وهنا قد يحلو للبعض أن يتساءل ويقول: قد يكون للصفر هذا المقام في الرياضيات، وقد يكون له هذا الأثر الكبير في ارتقائها؛ ولكن ما علاقة ذلك بالمدنية؟ وهل المدنية تقوم على الرياضيات؟!

وجواباً على هذا السؤال، ليسمح لنا القارئ أن نعطي الجواب أولاً فنقول: نعم، إن المدنية في أساسها وجوهرها ترتكز على العلوم الرياضية.

إن كل فرع من فروع المعرفة يتقدم ويتناوله التغيير والتبديل، وكلما اقترب من الأرقام زاد دقة في التعبير ونحا نحو الكمال ونحو الذروة في الحقيقة. قال كانت (يكون العلم دقيقاً إذا استعمل العلوم الرياضية في بحوثه) ولم يستطع العلماء أن يستفيدوا من بحوث الضوء ومن انكسار النور إلا بعد أن أفرغوا قوانين الانكسار في قالب رياضيّ، وبذلك استطاعوا أن يستعينوا بالمعادلات والأرقام في العدسات التي تستعمل لإصلاح عيوب العين

إن علمي الفلك والفيزياء وصلا إلى درجة كبيرة من الدقة والكمال، وما ذلك إلا بفضل الأرقام والمعادلات. جرد هذين العلمين من رياضيتهما بل جرد الكيمياء الحديثة من معادلاتها وقوانينها وحينئذ لا يبقى إلا تعريفات ومبادئ لا يمكنك بحال من الأحوال أن تستفيد منها أو أن تطبقها فيما يعود على البشرية بالنفع والخير. ولن يستطيع العالم مهما كان قوي العقل خصب الفكر أن يقف على أسرار الطبيعة والكون. ولن يستطيع الغوص في بحارهما ليقف على كنوزهما وعجائبهما إلا إذا ألمَّ بالرياضيات وكانت عنده خبرة بها، وأن الكيمياء الحديثة لفي حاجة إلى الرياضيات حاجتها إلى التجربة والاختبار، وناهيك بالكيمياء فهي الأساس الذي شيد عليه صرح الصناعة في هذا القرن وجعلها تزدهر هذا الازدهار العجيب. إن هذا العصر لهو عصر الهندسة وعصر الآلة، وكل هذه في حاجة إلى الرياضيات ولا يمكن الاستفادة منها أو تطبيقها على مقتضيات العمران إلا بذلك. قال البروفسور فوس (إن مدنيتنا التي ترتكز على الاستفادة من الطبيعة والسيطرة على

ص: 35

عناصرها مبنية على أسس العلوم الرياضية)، والهندسة وأنواعها والملاحة والصناعة كل هذه تحتاج إلى الرياضيات، ولا يمكنها أن تستغني عنها، بل إن أسس إنشائها تقوم على الأرقام والمعادلات. وما يقال عن هذه يمكن أن يقال عن علوم أخرى إلى حد ما، فإن هذه كلما تقدمت واستطاعت أن تدخل الأرقام في بحوثها اقتربت من الدقة والكمال. فالعلوم على اختلافها إذا اقتربت من الكمال فإنها لا بد محلقة في سماء العلوم الرياضية، وفي جو من الأرقام والمعادلات

ومن هنا تظهر لنا الفوائد التي تجنيها المدنية من العلوم الرياضية وفي استعمالها في العلوم والفنون الأخرى، وقد ظهر أيضاً كيف أن الحضارة الصناعية مبنية على أسس من الأرقام والمعادلات، وقد سبق أن أبَنَّا مكانة الصفر في العلوم الرياضية وفضله في تسهيل المسائل والأعمال، ومن هذه النقطة يتبين للباحث فضل الصفر على المدنية والصناعة

وقبل الختام أود أن أوجه نظر القارئ إلى أني أخشى أن يُساء فهم هذا القول فيظن أن الصفر هو الكل في الكل في العلوم الرياضية وبالتالي في المدنية، ومع استبعادي لذلك أرغب في القول بأن الصفر - ولا شك - عامل مهم في البحوث الرياضية لا يستغني عنه، وهو لازم وضروري لها ولتسهيل المعاملات والأعمال الحسابية، وينتج من ذلك إلى أنه عامل مهم في الصناعة والأعمال الإنشائية التي تحتاج إلى استعمال الأرقام والمعادلات. فاعجب لصفر يشغل هذا المقام السامي وتجني منه الحضارة فوائد هي أعظم جانب من خطر الشأن

(نابلس)

قدري حافظ طوقان

ص: 36

‌هؤلاء الكتاب

للأستاذ م. دراج

. . . وقلت لنفسي: لقد أصبح الناس يقابلون بالشك والارتياب كتابة الكتاب والمفكرين. فإذا تقصيت السر وجدتهم على حق فيما يشكون؛ فقد باع هؤلاء الكتاب حرية الفكر بعبودية المال، ورضوا وهم طلائع الأمة أن ينقادوا لرجال المال والأعمال؛ وقلما تتفق مصالح الشعب ومصالح أولئك الرجال؛ ولعل هذا هو أكبر ما تعانيه من بلاء، بل لعله السر الوحيد فيما وصل إليه المجتمع من تفكك وانحطاط.

فالتنافس في سبيل القوت قد انقلب إلى تناحر مادي فظيع ليس له حدود، وطريق الاستقلال مفتوح على مصراعيه لكل طارق، وليس للكائنات البشرية قيمة تذكر أمام الغاية الكبرى، وهي جمع المال والإثراء بأي ثمن. فالذي يستطيع أن يلقي بقدر من المال في عمل ما يجد العامل الذي يرضى بالدون من الكفاف؛ ويستطيع أيضاً أن يرغمه على العمل ليل نهار بزيادة بضع قروش أو بضع مليمات! وله الحق في هذا ما دامت قوانين الدولة لا ترسم حدوداً لمثل هذا الاستغلال الفظيع، وما دام الضمير الإنساني لا ينزعج لهذه الحال؛ فكل شيء على ما يرام! أفبعد هذا نلوم الناس على انصرافهم وشكوكهم في إخلاص المفكرين والكتاب؟ أليس الدليل واضح أمامنا في كتابات الصحف اليومية وغير اليومية يعطي أصدق برهان على فساد (التفكير الجماعي) عند هؤلاء الكتاب. إنهم ليفسحون لرجال المال صدور الصحف يكتبون ويعلنون فيها ما شاء لهم الغرض. ثم لا يجدون غضاضة في إعطائهم فرصة للكلام عن بؤس الفلاح وشقاء العامل واضطراب الموظف وحيرة الجماعات، ومتاعب الشعب جملة وتفصيلاً. . . ليستتروا وراء هذه الإعلانات في ثوب الطبيب الذي يتوجع لآلام المريض، وهو يعلم أن بلسمه الشافي بين يديه، ولكنه لا ينزل عن الثمن بأي حال!

هؤلاء الكتاب يسيئون الظن في ذكاء (الغريزة المصرية الواعية) مثلما يسيئون إلى الشعب المصري بقوائم الإحسان التي يعلنون عنها كل يوم في صحفهم. لقد فسدت عندهم مقاييس الإصلاح، فتوهموا أن الكلام قد يغني عن الخبز، وأن الإحسان أجدى وسائل الإصلاح، وأن الدنيا بخير ما داموا هم سعداء! إلا أن الشعب المصري لا يطلب إحساناً ولا بكاء. . .

ص: 37

لا، ولا إشفاقاً، وإنما يبني علاجاً حاسماً يقضي على أسباب المرض دفعة واحدة لا تقسيطاً؛ ولن يكون هذا العلاج إلا (جَماعياً) تؤمن به الدولة وتسنه قوانينها، حتى إذا جرى مجرى التنفيذ أفاد كل (خلية) في جسم الأمة، كما تغذي الدماء الأعضاء المشلولة بالحياة

هراء. . . محض هراء. . . كل ما تذيعه الصحف من علاجات أرباب المال، لأنهم لا يريدون إلا تبرعاً، والتبرع قد يفيد شخصاً وقد ينجد أسرة، وقد ينقذ ألفاً من الناس، ولكنه لا ينقذ شعباً بأسره يعدّ الفقراء فيه بسبعة عشر مليوناً إلا بضع عشر ألفاً من الأثرياء.

هؤلاء الكتاب يعرفون - أو لا يعرفون - أن سكرة الموت يعقبها هزة عنيفة هي هزة اليأس أو الرجاء، فماذا تراهم صانعين بأقلامهم المزيفة لو صحّ المريض، وسلمت روحه من الفناء، هل يظنون آنذاك أنها إحدى معجزات الإحسان؟!

أم يشهدون أن القوة الكامنة في قرارة النفس المصرية هي التي مهدت له طريق الحياة؟

أيها الكتاب اطرحوا عنكم ضلال المادة. ثم اكشفوا الغطاء عن موطن الداء. تهيئون لكم وللناس فرصة طيبة للعودة إلى الحق والصراط المستقيم. فالتفكير الفردي لا يجذب الجماعات، لأن الإحساس الجماعي يتطلب (تفكيراً جماعياً)، ونحن في أشد الحاجة إلى هذا اللون من التفكير يسود أذهان الكتاب، ولا شيء سواه يمكن أن يضيء للمجتمع طريقه إلى الخلاص وسط هذا الظلام.

والداء العياء لهذا البلد هو الإعسار الشديد في العيش، والإظلام الشديد في العقول والقلوب، حتى أصبحت البيئة المصرية مزرعة لملايين الأمراض البشرية، والأمية سبة في جبين كل مصري يتبعها انحطاط في الأخلاق والتفكير والأحوال المعاشية بوجه عام

داء مصر الوحيد هو الفقر بعينه بشهادة اللجنة المالية لمجلس الشيوخ، فإذا استطعتم أن تقولوا كلمتكم في هذا المرض العضال وشرحتم أسبابه وفصلتم نتائجه ورسمتم على هذا النهج طريق الخلاص، أمكنكم النهوض بهذه الأمة سريعاً، أما غير ذلك فضرب من المحال، وضجة وتشويش في غير مجال.

م. دراج

ص: 38

‌14 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

الحكومة - تابع الفصل الرابع

يحكم بطريرك الأقباط، وهو الرئيس الأعلى لكنيسته، في القضايا الصغيرة بين المتقاضين من طائفته في العاصمة؛ ويقوم مرءوسوه من القسس مقامه في البلاد الأخرى؛ وقد تستأنف أحكامهم أمام القاضي. وللمسلم الذي يعتدي عليه قبطي أن يرفع أمره إلى البطريرك أو إلى القاضي. أما القبطي الذي يقاضي المسلم فيجب عليه أن يقصد القاضي؛ واليهود كذلك. والفرنجة أو الأوربيون على العموم لا يخضعون إلى غير قناصلهم إلا إذا جنوا على مسلم فيسلمون إلى السلطات التركية التي تستأنف أمامها من ناحية أخرى قضايا الفرنجة الذين يعتدي عليهم أي مسلم

ويخضع سكان الأقاليم لحكم المستخدمين الأتراك والمصريين ويقسم القطر المصري إلى عدة مديريات واسعة يتولى كلا منها عثمانلي. وتقسم هذه المديريات إلى مراكز يديرها موظفون من الوطنيين يلقبون (بالمأمور) و (الناظر). وللقرية كالمدينة شيخ يسمى (شيخ البلد)، ويكون من أهل القرية المسلمين. وكان هؤلاء المستخدمون جميعاً، ما عدا شيخ البلد، أتراكا من قبل. وكان هناك ولاة أتراك آخرون يتولون المراكز، وكان يطلق عليهم اسم (كاشف) و (قائمقام) وقد حدث هذا التغيير قبيل زيارتي الثانية لمصر. ويشكو الفلاحون من أن حالهم أصبحت أسوأ مما كان قبلاً. ولكنهم على العموم يقاسون طغيان الولاة الأتراك أشد مقاساة

ويبين الحادث الآتي حالة الفلاح المصري في بعض الأقاليم بعض البيان

في ليلة ما ذهب حاكم مدينة طنطا وهو تركي سيئ السيرة والسلوك، إلى أهراء الحكومة

ص: 39

بالمدينة، فوجد فلاحَين نائمين هناك. فسألهما من يكونان وماذا يفعلان في هذا المكان. فقال أحدهما إنه أحضر من إحدى قرى المركز 130 إردباً من القمح. وقال الآخر إنه أحضر 60 إردباً من أرض تابعة للمدينة. فقال الحاكم لهذا:(أيها اللص! هذا الرجل يورد 130 إردباً من قرية صغيرة، وأنت تورد 60 إردباً من أراضي المدينة؟. فأجاب فلاح طنطا: (هذا الرجل لا يورد القمح إلا مرة واحدة كل أسبوع أما أنا فأورده كل يوم. فأسكته الحاكم وأمر أحد الخدم أن يشنقه على فرع شجرة قريبة. فنفذ الأمر وعاد الحاكم إلى منزله. وفي الصباح التالي عاد ثانياً إلى الأهراء فبصر برجل ينقل غلالاً كثيرة إلى الداخل. فاستفسر عنه وعن المقدار الذي أتى به. فأجابه الخادم الذي شنق الفلاح في الليلة السابقة: (هذا هو الرجل يا سيدي الذي شنقته إطاعة لأوامرك ليلة أمس وقد أحضر 160 إردباً) فصاح الحاكم: (ماذا؟ هل بعث الرجل من قبره؟) فأجابه الخادم: (لا يا سيدي. إنني علقته وقدماه كانتا تلمسان الأرض، ولما انصرفت حللت عقدة الحبل. إنك لم تأمرني بقتله) فدمدم التركي قائلاً: (آها! إن الشنق والقتل شيئان مختلفان. إن اللغة العربية غنية. في المرة القادمة سأقول اقتل. اعتن بأبي داود) وهذه هي كنية الرجل

وأذكر حادثة أخرى تناسب المقام زيادة في بيان طبيعة الحكومة التي تحكم المصريين يومئذ: عُين فلاح ناظراً على المنوفية قبيل قدومي الثاني إلى مصر. وفي أثناء جباية الضرائب طولب فلاح فقير بمبلغ ستين ريالاً؛ والريال تسعون فضة فالمبلغ مائة وخمسة وثلاثون قرشاً فقال الفلاح إنه لا يملك غير بقرة لا تكاد تصلح شأنه وتقيم أوده هو وعائلته. فلم يأمر الناظر بضربه كما هي العادة عندما يمتنع الفلاح عن دفع الضريبة، وإنما بعث بشيخ البلد ليأتي ببقرة الفلاح المسكين، ثم أمر بعض الفلاحين بشرائها. فلم يستطع أحد شراءها لقلة المال. فأرسل الناظر في طلب الجزار وأمره بذبح البقرة وتقطيعها ستين قطعة. وبعد أن دفع إلى الجزار رأس البقرة أجرة له، أحضر ستين فلاحاً معاً وأجبر كلا منهم على شراء قطعة من البقرة بريال. فذهب صاحب البقرة باكياً شاكياً إلى محمد بك الدفتردار رئيس الناظر وقال له: (يا سيدي أنا مظلوم بائس. لم أكن أملك غير بقرة واحدة، بقرة حلوب كان لبنها قوتنا أنا وعائلتي، وكانت تحرث لي الأرض وتدرس الغلال. وكانت معيشتي كلها عليها. وقد أخذها الناظر وذبحها وقطعها ستين قطعة باعها إلى جيراني بستين

ص: 40

ريالاً. بينما كانت تساوي مائة وعشرين ريالاً أو أكثر. أنا مظلوم بائس غريب عن هذا المكان لأني من قرية أخرى؛ ولكن الناظر لم يرحمني. وقد أصبحت أنا وعائلتي نسأل قوتنا ولم ندخر شيئاً. رحمتك وعدلك يا سيدي. أتوسل إليك بقداسة حريمك) فأمر الدفتردار بإحضار الناظر وسأله: (أين بقرة هذا الفلاح؟) فقال الناظر: (بعتها). (بكم؟). (بستين ريالاً). (ولماذا ذبحتها وبعتها؟) كان على صاحبها ستون ريالاً ضريبة على الأرض، فأخذت البقرة وبعتها وفاء للمبلغ. (وأين الجزار الذي ذبحها؟). (في منوف)، فأرسل الدفتردار في طلب الجزار، فلما قدم قال له:(لماذا ذبحت بقرة هذا الرجل؟) فأجاب الجزار: (إن الناظر أمرني وما كان لي أن أعصي أمره لئلا يضربني ويخرب بيتي. وقد ذبحتها وأعطاني الرأس أجرة لي)، فقال الدفتردار:(يا رجل هل تعرف من اشترى اللحم؟) فرد الجزار بالإيجاب. فأمر الدفتردار ناموسة بكتابة أسماء الستين رجلاً وإرسالها إلى شيخ بلدتهم لإحضارهم إلى منوف حيث أقيمت الشكوى؛ وسجن الناظر والجزار. وفي اليوم التالي قدم شيخ القرية ومعه الفلاحون الستون. فأخرج السجينان وأوقفا بين يدي الدفتردار فسأل شيخ البلد والفلاحين: (هل كانت بقرة هذا الرجل تساوي ستين ريالاً؟) فأجابوا: (يا سيدي إن قيمتها كانت أكبر) فبعث الدفتردار إلى قاضي منوف وقال له: (يا قاضي، هذا رجل ظلمه هذا الناظر بأخذ بقرته وذبحها وبيع لحمها بستين ريالاً. فما حكمك؟) فأجاب القاضي: (إن من يظلم أحد من الرعية طاغية قاس. ألا تساوي البقرة مائة وعشرين ريالاً فباعها الناظر بستين؟ إنه ظلم صاحبها). فقال الدفتردار لبعض جنده: (اقبضوا على الناظر وجردوه من ملابسه وأوثقوه). ثم قال للجزار: (يا جزار ألا تخشى ربك؟ لقد ذبحت البقرة ظلماً) فأوضح الجزار مرة أخرى أنه إنما اضطر إلى إطاعة أمر الناظر. فقال الدفتردار: (أتنفذ ما آمرك به؟) فأجاب الجزار: (نعم). فقال الدفتردار: (اذبح الناظر). وسرعان ما قبض الجند عليه وألقوه على الأرض ونحره الجزار كما ينحر الحيوان. فقال الدفتردار: (قطعه ستين قطعة). فنفذ الجزار الأمر والحاضرون يتأملون هذا المنظر ولا يجرءون على الكلام. ثم أمر الدفتردار الفلاحين الستين أن يتقدموا واحداً واحداً، وفرض على كل منهم قطعة من لحم الناظر بدفع ريالين. وبهذه الطريقة حصل على مائة وعشرين ريالا. وبعد انصراف الفلاحين سأل الدفتردار القاضي: ماذا يكون جزاء الجزار؟ فأجاب القاضي أن

ص: 41

يجازى كما جازاه الناظر. فأمر الدفتردار أن يعطى رأس الناظر. وفرح الجزار بنصيبه الذي لا يساوي شيئاً وهو يحمد الله على أن حظه لم يخنه أكثر من ذلك. وانصرف وهو لا يكاد يصدق أنه نجا بهذه السهولة. أما صاحب البقرة فدفع إليه ثمن لحم الناظر.

ويتعدى أغلب حكام الأقاليم في طغيانهم حدود السلطة التي خولهم الباشا إياها؛ حتى شيخ القرية يسيء استعمال سلطته الشرعية عندما ينفذ أوامر رؤسائه. وليست وظيفة شيخ القرية منصباً يقبض صاحبه مرتبه بلا عمل. ففي وقت جباية الضرائب كثيراً ما ينال شيخ القرية من الضرب أكثر مما ينال مرؤوسيه، إذ أنه عندما لا يورد سكان القرية المبلغ المطلوب يضرب الشيخ لتقصير الفلاحين. وهو لا يدفع دائماً نصيبه حتى يشبع ضرباً. ويفتخر الفلاحون أجمعون بما يتركه الكرباج على أجسادهم من آثار لرفضهم دفع الضرائب. وكثيراً ما يتباهون بعدد الضربات التي نالوها قبل أن يدفعوا نقودهم. ويصف أمينانوس أرسليوش مصر في زمنه بالخلق نفسه

ويبلغ إيراد والي مصر، على ما يقال، ثلاثة ملايين جنيه إسترليني يرد نصفها تقريباً من الضرائب المباشرة على الأطيان ومما يؤخذ من الفلاح ظلماً بطريق غير مباشر. ويرد النصف الباقي على الأخص من الرسوم الجمركية والضرائب على النخيل ومن بيع محصولات الأرض المختلفة التي تكسب الحكومة منها ما يزيد على الخمسين في المائة. وقد نمى الباشا الحالي إيراده إلى هذا القدر باتباعه أشد الوسائل تعسفاً. فقد نزع من الملاك أراضيهم ومنحهم معاشاً بنسبة مساحة الأرض وصفاتها. ولذلك لم يكن للمزارع ما يخلفه لأولاده غير كوخه، وقد يترك لهم بعض الماشية وبعض مدخرات طفيفة

وتقدر ضرائب الأطيان المباشرة حسب مزايا الأرض الطبيعية. ويبلغ متوسطها حوالي ثمانية شلنات للفدان، ولكن الفلاح لا يستطيع أن يحصي ما تطلبه الحكومة منه. فهو يعاني الكثير من الطلبات غير المباشرة (وهي تختلف باختلاف السنين ولكنها تفرض على الفدان) من الزبدة والعسل والشمع والصوف والسلال المصنوعة من السعف، والحبال المفتولة من ألياف النخيل، وغير ذلك من المحاصيل. ويجبر الفلاح أيضاً على دفع أجرة الجمال التي تحمل الغلال إلى شونة الحكومة، وعلى القيام بنفقات عديدة أخرى. وتستولي الحكومة على جزء من محصول الأرض، وقد تستولي على المحصول كله بثمن مناسب

ص: 42

معين لا يفي مع ذلك في عدة أقاليم ما تبقى من ديون الفلاحين المصريين. وكثيراً ما يضطر الفلاح للحصول على ضروريات الحياة، أن يسرق محصول أرضه ويحمل ما يستطيع حمله إلى كوخه سراً. ويحضر الفلاح بذور أرضه بنفسه أو يأخذها سلفة من الحكومة، ولكنه في هذه الحالة قلما يتحصل على كمية كافية من التقاوي لأن القائمين بالأمر يسرقون منها مقداراً كبيراً قبل أن يسلموها للفلاح. ولا يتسع هذا الكتاب لذكر ما يعانيه الفلاح المصري من ظلم المأمور والمستخدمين وخياناتهم. ويندر أن يستطيع الفلاح أن ينعم بالحياة مع شدة العذاب، لذلك لا أرى ضرورة للقول بأن الفلاح قلما يثابر على تحمل أعباء الزراعة إلا إذا أجبره على ذلك الحكام

ولم يستول الباشا على الملكية الخاصة فحسب، بل أضاف إلى خزائنه كثيراً من دخل المنشآت الدينية باعتبار أن أموالها المتراكمة تزيد على اللازم. وقد بدأ بفرض ضريبة - حوالي نصف ضريبة الأرض المنتظمة - على الأراضي الموقوفة على المساجد والسبل والمدارس العامة. . . الخ. ثم استولى على هذه الأراضي استيلاء تامَّا ومنح عوضاً عنها بعض رواتب سنوية لترميم المباني ولنفقة الأشخاص التابعين للوقف من نظار وموظفين دينيين وخدم وطلبة وغيرهم من المستحقين. وقد أثار الباشا بهذا مقت رجال العلم والدين الشديد، وعلى الأخص نظار المساجد الذين كانوا يثرون من الأموال الوافرة المودعة تحت رعايتهم وأمانتهم. أما ما وقف على خدمة المساجد والمنشآت العامة (وهي أوقاف مختلفة وقفها كثيرون من طبقات مختلفة) فلم يمسها الباشا حتى الآن.

وقد بلغت ضريبة النخيل حوالي مائة ألف جنيه إسترليني، وهي تقدر حسب أنواع النخيل، وتكون - على العموم - بمقدار قرش ونصف قرش على كل نخلة

وتبلغ ضريبة الدخل المسماة (الفِرْدة) على العموم 121 أو

أكثر من دخل الرجل أو مرتبه السنوي إذا أمكن تحديد ذلك،

إلا أن الحد الأقصى لا يتعدى خمسمائة قرش. وهي تفرض

في المدن الكبيرة على الأفراد وفي القرى على المنازل. وتبلغ

ضريبة الدخل في العاصمة ثمانية آلاف كيس أو حوالي

ص: 43

أربعين ألف جنيه إسترليني

ويدفع سكان العاصمة وغيرهم من سكان المدن الكبيرة ضريبة ثقيلة على الحبوب الخ. وضريبة الحبوب ثمانية عشر قرشاً على الأردب من كل نوع، وهذا المقدار يساوي ثمن القمح في مصر وقت المحصول الطيب

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 44

‌جواب على تعزية

// لا تقولي (عزّ) صبراً إنني

أجد الصبر على خطبي محالا

كيف يُرجى من فؤاد حشوه

لهبٌ أن ينضج الماَء الزلالا

كلفيني وُسع نفسي واعلمي

أن للأنفس عجزاً واحتمالا

كل حيٍّ، كان ميتاً، صائرٌ

إذ يحين الحين للموت مآلا

عمرنا للموت شوط وبه

خطوات الموت سرَّا تتوالى

أنت إذ تصبح حيَّا يبتدي

عمل الموت نمواً وانحلالا

وإذا ما عمل الموت انتهى

قلت جاء الموت جهلاً وضلالا

في الحياة اختبأ السر الذي

فيه صار الموت للحيّ كمالا

حكم بالغة نعرفها

وبها ننعم في السرّاء بالا

وإذا الضرّاء مسَّتْ وقَتْ

عادت الحكمة وهماً وخيالا

أثر الحكمة في النفس ولنْ

تجدَ الحكمةُ في الحسِّ مجالا

من يكن في صدره متَّسَعٌ

للرزايا، منه حبل العمر طالا

إنما يأكل أيامَ الفتى

همُّه، فأحذر من الهم اغتيالا

وارتقب في كل يوم عجباً

فالليالي بالأعاجيب حبالى

الصفا تحويك منه ساعة

والشقا يطويك أعواماً طوالا

فاغتنم من روْح ساعات الصفا

ما يعزّيك إذا الصفو استحالا

وادَّخر من صحة تحظى بها

قوةً تلقى بها الدَّاء العضالا

واتخذْ من صحو أيام الرضا

ما يقيم العقلَ إن سكرٌ أمالا

هذه أشجاننا يسمعها

ساهر الليل إذا الهم استطالا

وعليها تهجع العين التي

ضلَّ عنها طارق الهمّ ومالا

مقلة تذرف دمعاً وفمٌ

ليس يبدي، خشية الله، مقالا

لا تقولي كيف يبكي رجلٌ

يملأ الأعين حزماً وجلالا

حكمة الجبار فينا جعلت

من صروف الدهر ما يبكي الرجالا. . .

(طرابلس - الشام)

ص: 45

(ن. ج)

ص: 46

‌نظرة.

. .!

// لما نَظَرتِ إلى أمسِ مُلِيحَةً

بين الجموع بلحظكِ المرتاب

رَفَّتْ على شفتيكِ بسمةَ حائرٍ

ما بينَ شِبْهِ رضىً وشبه عتاب

فقرأْتُ في عينيكِ عمريَ كله

وفهمتُ أني قد أَضَعْتُ شبابي

وذهبتُ لا أَلوي على نفسي وبي

مما تَسَعَّرَ في الجوانح ما بي

ضاقتْ بي الدنيا وكم ضاقت إذا

ما جدَّ بي وجدي وعَبَّ عُبابي

لَخَّصْتُ عمْرِيَ كلَّه في نظرةٍ

زادت بِحيْرَتها عَلَيَّ عذابي

واللهِ ما كان ابتعادي عن قِلىً

أبداً ولا عن هِجْرَةٍ وَغِضَابِ

لكنَّهَا الأقدارُ قد لَعِبَتْ بنا

وَلِعَابُهَا في العمرِ شَرُّ لِعَابِ

واليومَ أَنْفَقْتُ الشبابَ وكان لي

كنزاً أبَدِّدُهُ بغير حساب

وغدوتُ إنْ سِرْبُ الملاح مَرَرْنَ بي

أُغضي بِقَلْبٍ في ضُلُوعي كاب

أصبحتُ أَنْفُرَ من جَمَالِ عابر

يهتاجُ حُبَّاً كان لي وَنَبَا بي

وَيُعيدُ ذكرى ناظِرَيْكِ وفيهما

نورٌ خَبَا عني وليس بخابِ

تذكو به نيرانُ وَجدي مثلما

في القفر يُذْكِي الظِمأَ لَمْعُ سَراب

حسبي عقاباً في الحياة بأنني

يا هندُ قد صارَ الجمالُ عِقَابي

خليل شيبوب

ص: 47

‌لا تقل.

. .!

أيْها الراحلُ عن عيني غدَا

كيف أحيا نائياً عن ناظريكْ

آهِ لو تعلمُ ما سوفَ أرى

في ليالي البعدِ ما هُنت عليكْ

كيف أحيا بين همي واشتياقي

أشربُ الآلامَ من كأس الفِراق

وألاقي في التنائي ما ألاقي

من أسى دهرِي إلى يوم التلاقي

لا تَقُلْ منا دناً

يوم النوى

يا هوى نفسي وآمالَ مُنَاها

لا تدعْني والضنى

إن الهوى

شعلة في القلب لا يخبو لَظَاها

أترى أحيا هُنا

نَهْبَ الجوى

تبلغُ الآلام مني منتهاها

فارحمْ القلبَ ولا تقسُ عليه

ففؤادي ما هَفَا إلا إليكْ

عِشْتَ دنيا النورِ والصفوِ لَديه

يا تُرى هلْ عاش كالدنيا لديكْ؟

(الإسكندرية)

مصطفى علي عبد الرحمن

ص: 48

‌البرَيدُ الأدبيّ

العروبة لغة لا جنس

نشرت (الرسالة) كلمة كريمة لحضرة (الفاتح النور) في التعقيب على البحث الذي أرسلته لمؤتمر الخريجين في السودان، وهو يقول إن من سمع ذلك البحث أو قرأه يعتقد أن العروبة في السودان لغة لا جنس، مع أن السودان أكثر من النصف من العرب العريقين

وأجيب بأن السودان لم يشغلني بالذات وأنا أعد ذلك البحث، وإنما هو بحث عام أردت به رفع الأشواك من طريق العروبة في أقطار اللغة العربية

ومن كلام هذا الأديب فهمت أن سكان السودان نصفهم عرب ونصفهم غير عرب، (من حيث الجنس) وأنا أريد غير ما يريد، أنا أريد أن تكون العروبة صفة أساسية لكل من يتكلم اللغة العربية، ولو كان أجداده من الصين

وأقول مرة ثانية إن اعتزاز العرب بالجنس كان له تأثير سيئ في تاريخ اللغة العربية، فهو الذي أقام في طريقها العقبات بالمشرق والمغرب، وهو الذي أوجب أن يحرص الفردوسي على أن تخلو (الشاهنامة) من جميع الألفاظ العربية، وهو الذي ساق أتاتورك إلى كتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية بعد أن كانت تكتب بالحروف العربية في آماد طوال طوال

ويرى هذا الأديب أني لا أستطيع الكتابة عن السودان بصدق إلا بعد أن أزوره وأتحدث مع عربان كردفان، وأقول إن الغاية مختلفة بعض الاختلاف، فأنا لا يهمني أن يثبت أن سكان السودان كلهم أو جُلهم من سلالات عربية، بقدر ما يهمني أن يثبت أن اللغة القومية لجميع أهل السودان هي اللغة العربية

وهنا يتسع المجال لحقيقة قليلة الخطور في البال، وهي أخوال الأشراف المنسوبين إلى الرسول، فقد كان للرسول زوجات من أجناس مختلفات، وكان من الممكن أن يكون للأشراف أخوال من الأقباط واليهود لو بقيت له أعقاب من جميع تلك الزوجات

أتريدون الحق؟

الحق أن العرب يبتعدون من تعاليم زعيمهم الأكبر وهو محمد، وهذا الابتعاد جديد، فمن أسماء المسلمين عيسى وموسى وهارون وإسحاق ويعقوب وإبراهيم، ولي صديق من نصارى العراق سيسمي ابنه محمداً حين يرزقه الله بمولود، ليؤكد القول بأن محمداً زعيم

ص: 49

العرب بغض النظر عن اختلاف الدين

إن صدري ليضيق بالخلاف الذي يقع من غير موجب، وأنا أدعو إلى تقديس الفكرة التي تقول بأن (الخال والد) والعرب صاهروا أكثر الشعوب، ونقلوا إلى سلالاتهم كثيراً من الخصائص بفضل التسامح في العصبية الجنسية، فكيف نخرج على تقاليد أولئك الأسلاف، بل كيف نخرج على أدب الرسول؟

العروبة لغة لا جنس

ولي من هذا الرأي هدف لا يخفى على إخواني في جميع البلاد العربية، وسأجاهد في تأييد هذا الرأي بما أملك من الوسائل والأساليب، إلى أن يصبح من البديهيات

ويسرني أن أسجل أني لا أقول وحدي بهذا الرأي، فهو اليوم شريعة أدبية لجميع المتكلمين باللغة العربية على اختلاف الأجناس، وسترون كيف يصبح هذا الرأي من العقائد بعد قليل من الزمان

زكي مبارك

الخباز

من المآخذ التي أخذها الأستاذ عبد السلام هارون على كليلة ودمنة ما جاء في ص115 س13 (رأس الخنازير وسيد الخنازير) قال: (عندي أنها رأس الخبازين وسيد الخبازين) واستدل ببعض النسخ

ولكن محقق الكتاب الفاضل الدكتور عبد الوهاب عزام لم يرتض هذا الرأي فرد عليه في العدد 434 من الرسالة قال: (وأرى أن الخنازير أقرب إلى الصواب، لأن دمنة وصف هذا الرئيس بصفات الخنازير، وليس في وصفه بأنه صاحب المائدة ما يجعله خبازاً الخ.)

قلت: ظاهر عبارة الدكتور الأخيرة (وليس في وصفه الخ.) أن الخباز غير صاحب المائدة، وأن هذا من الأسباب التي يستبعد لها أن يكون المقصود خبازاً

وقد أوقع الدكتور الفاضل في هذا فهمُه (الخباز) بمعنى صانع الخبز، وهو كذلك، ولكن للخباز معنى آخر ورد كثيراً في كتب الجاحظ والمسعودي، ولعله كان على عهد ابن المقفع. وهو استعماله بمعنى (خادم المائدة) أي ما نسميه الآن (السفرجي)، ولعله يقوم

ص: 50

أحياناً بصنع بعض الطعام

وقد يبدو هذا الاستعمال غريباً لندرته، ولكنك حين ترجع إلى ما أثبت من النصوص لا تجد ثم مجالاً للريب في صحته

1 -

في كتاب البخلاء للجاحظ ص160: (قرَّب خباز أسد بن عبد الله - وهو على خراسان - شواء قد نضجه نضجاً. وكان يعجبه ما رطب من الشواء، فقال لخبازه: أتظن أن صنيعك يخفى علي؟)

2 -

وفي البخلاء ص164: (جاء الخبازون فرفعوا الطعام)

3 -

وفيه أيضاً: (إذا دعا على مائدته بفضل دجاجة. . . رد الخادم مع الخباز إلى القهرمان حتى يصك له بذلك إلى صاحب المطبخ)

4 -

وفي الحيوان للجاحظ ج4 ص26: (إن العرب تقول للرجل الصانع. . . خبازاً إذا كان يطبخ ويعجن)

5 -

وفي الحيوان ج5 ص136: (ولذلك صار الخبازون الحذاق قد تركوا الضأن لأن المعز يبقى شحمه ولحمه فيصلح أن يسمن مرات فيكون أصلح لأرباب العرس)

6 -

وفي (التاج في أخلاق الملوك) للجاحظ أيضاً ص173: (فلا يوضع عليها إلا الخبز والملح والخل والبقل، فيأخذ منه شيئاً هو ومن معه، ثم يأتيه الخباز بالبزماورد في طبق الخ.)

وعلق على كلمة الخباز فيه محققه العلامة المغفور له أحمد زكي باشا بما ذكرنا من أنه خادم المائدة

7 -

ولعل مصدر هذا الاستعمال ما ورد في القاموس والمختار والأساس أن (خبزَ القومَ) معناها (أطعمهم الخبز)

قلت: فالخابز - والخباز مبالغة منه - هو المطعمُ الخبزَ، ثم لعل توسع فيه فأطلق على المطعم أيا كان طعامه وهو خادم المائدة

وبعد. فورود هذا اللفظ في هذا المعنى مما يؤيد الأستاذ هارون بعض التأييد، ويوهي إحدى حجج الدكتور الفاضل

(بني سويف)

ص: 51

محمد محمود رضوان

الأسود بن قنان

قرأت كلمة في (الرسالة) تحت هذا العنوان للأستاذ علي الجندي، وأقول: إن مآثر (الأسود) الغر وأياديه البيض حملت بديع الزمان الهمذاني على أن يكتب مقامة باسم (المقامة الأسودية) نسبة إليه، أتى فيها بما يراه القارئ

وبهذه المناسبة أقول: إن الذي أرشدني إلى هذا المصدر هو الأستاذ البحاثة محمد فؤاد عبد الباقي

علي حسن هلالي

بالمجمع اللغوي

مصر بين القطن والقمح

أذاع العالم الزراعي الكبير الأستاذ حسن الزيني بك حديثاً بالراديو على المزارعين أقنعهم فيه بمنطق الأرقام أن زراعة الحبوب على اختلافها أوفر وأيسر من زراعة القطن. وأهاب بكبار الملاك وبمصلحة الأملاك أن يكونوا قدوة للفلاحين في الإقلال من القطن والإكثار من القمح تأميناً لأقوات الشعب وتخفيفاً عن الفقير في هذه الظروف العصيبة. فإن من أعجب العجب أن تكون مصر في عصورها المختلفة من أوسع أهراء العالم للحبوب ثم لا يجد أبناؤها الرغيف إلا بشق الأنفس. وكان حديث الأستاذ واضحاً كل الوضوح مقنعاً كل الإقناع؛ فعسى أن يكون قد وقع من سامعيه موقع الرضى والاستجابة.

تصويبات:

قرأت مواضع من الجزء الحادي عشر من تفسير القرطبي فوجدت فيها الأغلاط الآتية:

ص3 س22: (مدجح) صوابها: (مدجج). وص 26 س1: (أَتنَتهون) والصواب: (أَتنْتهون). وص 26 س11 (عبّدا) صوابها: (عبْداً). وص 135 س14: (المقرَور) والصواب: (المقرُور). وص 153 س14: (يريدون) وصوابها: (يردون). وص 187

ص: 52

س7: (يلومَها) وصوابها: (يلومُها). وص 268 س23: (كثيرة) والصواب: (كثير). وص 320 س14: (وأما ما بوسها) وصوابها: (وأما بوسها). وص 341 س22: (كما اللسان) وصوابها: (كما في اللسان)

أحمد صفوان

النفط

أستاذنا الكبير صاحب الرسالة

ذلك تحقيق لغوي عثرت عليه من مطالعاتي بمجموعتي من (المقتطف) سنة 1928، في الجزء الخامس من المجلد الثاني والسبعين تحت مقال للدكتور أمين المعلوف صاحب المعجم الطريف في (علم الحيوان)

قال الدكتور:

(النِفط والقار والقير والكُفر والقُفر وقفر اليهود والحُمَر والزفت والمومياء والقَطْران مواد هدروكربونية مؤلفة الهدروجين والكربون على نسب مختلفة والعلماء في أيامنا يطلقون القار وهو يطلق عند الرومان على جميع هذه المواد، سواء كانت جامدة كالحُمَر، أو سائلة كالنفط، أو هوائية كالغاز الحقيقي. فالنفط بكسر أوله وإسكان ثانيه وقد يفتح أوله، دُهن معدني أبيض أو أسود ضارب إلى الخضرة سريع الاحتراق يسمى باللاتينية بتروليوم أي دهن الحجر أو زيت الحجر

ولفظة النفط عربية سامية قديمة جداً أخذها اليونان عن العرب وقالوا نفثاً وهي معناها. ومما يدل على أصلها السامي أنها بالسريانية والعبرانية مثل العربية مع اختلاف قليل في اللفظ. ثم إن اليونان كانت أول معرفتهم بالنفط في العراق، وكان من البديهي أن يسموه نفطاً كما سمها العراقيون من سريان ويهود وعرب؛ ولعله سمي بذلك لخروجه من باطن الأرض، كما يتضح من مادة النفط ومشتقاتها في كتب اللغة. كذلك نفه ونبط ونبض ونبث ونبش وأشباهها، فكلها تدل على الخروج أو الدفع ثم تفرع من ذلك معنى الاحتراق. كقولنا تنفط الرجل غيظاً أي احترق. . .)

ثم قال بعد كلام كثير مفيد. . . والنفط كما تقدم لفظة عربية فصحية وهي شائعة عن

ص: 53

العراقيين. . .

(المنصورة)

حسين محمود البشبيشي

جماعة تيسير الحج

ترحب بكل مستفهم عن جميع ما يتعلق بحج بيت الله وزيارة رسوله صلى الله عليه وسلم من كل أمر يهم الحاج معرفته من أحكام دينية وحاجات السفر وأجور الانتقال وزيارة الآثار.

والجماعة إذ ترشد لشيء فإنما ترشد عن تجربة وخبرة تامة؛ لأن أعضاءها ممن رزقهم الله حج بيته، وقد سنحت لهم الفرص بتصوير جميع المشاهد الإسلامية التي ينبغي أن تزورها في مكة والمدينة

وإذا شرفت مقر الجماعة أخذت فكرة حقيقية عن الحج قبل سفرك، وشاهدت أكثر من ستين صورة من صور الأماكن المقدسة، وإن شئت الاستفهام بالرسائل فالجماعة على أتم الاستعداد للإجابة.

وللجماعة عدا الإرشاد غرض هام آخر، هو أنها تساعد من يريد الحج على توفير المال اللازم له، كما أنها تمده بجميع ما يحتاج إليه منه وفق قانونها.

وقد خصصت الجماعة لاستقبال الحجاج يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع فيما بين الساعة الرابعة والسادسة مساء بشارع رفعت رقم 27 شبرا مصر

وكيل الجماعة

محمد الشافعي

مدرس بمدرسة شبرا الابتدائية للبنات

جريدة الواجب

نقلت جريدة (الواجب) الأسبوعية التي تصدر من مدينة المنصورة لصاحبها الأستاذ احمد

ص: 54

جاد جمعة إلى مدينة القاهرة شارع البراموني رقم 6 تليفون 47738 وستظهر في ثوب جديد قشيب، يشترك في تحريرها نخبة من رجال الأدب والمحامين.

ص: 55