الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 439
- بتاريخ: 01 - 12 - 1941
أمنيتي.
. .
للأستاذ عباس محمود العقاد
قلت في ختام مقالي السابق: (أما أمنيتي التي يسألني الأديب عنها سؤاله الأخير فلعلها لا تشرح في ذيل هذا المقال، وأحرى بها أن تؤجل إلى مقال قريب، لأنني لا أطرق منها جانباً يخصني دون غيري، بل أطرق منها ما يصح أن يمتد إليه كل بحث وينظر فيه كل ناظر. . .)
ولم أقصد بكتابة هذا المقال عن أمنيتي في الحياة إلا ما قصدته بكتابة مقالي السابق عن أدب اليوميات، وهو تسجيل ظاهرة نفسية أستطيع أن أراقبها في نفسي وأن أتخذ من تجربتي لها فائدة أضيفها إلى تجارب غيري. فليس أصدق في دراسة النفسيات من تسجيل تجارب النفوس.
وإذا صدقت تجربتي في هذا الباب فما من أمنية تسيطر على حياة الإنسان إلا ظهرت بذورها الأولى في بواكير صباه، فإنني لم أتمن في حياتي أمنية كبرى بعد الذي تمنيته بين العاشرة والخامسة عشرة، وكل ما أضافته السنون من جديد أنني كنت في الطولة أتمنى على سبيل الرمز والتلميح، وأنني استوضحت أماني بعد ذلك فبرزت لي على ضوء الوصف البين الصريح
بين العاشرة والخامسة عشرة تمنيت على التوالي أن أصبح ولياً من أولياء الله، وقائداً من كبار القادة، وأدبياً من رجال القلم النابهين. فعلمت مع الزمن أن هذه الأماني الثلاث إن هي إلا أمنية واحدة ضلت طريقها حتى اهتدت إليه، وجهلت عنوانها حتى اتسمت به والتزمت مسماه، وأن الولي والقائد إنما هما جانبان منطويان في الجانب الأكبر أو الجانب الوحيد الذي هو جانب الباحث والمفكر والأديب.
شاقني من الولاية وأنا في العاشرة تسخير قوى الطبيعة واستطلاع أسرار الدنيا والآخرة؛ فقرأت مناقب الصالحين وكتب السحر، وأردت أن أمشي على الماء، وأن أطير في الهواء، وأن أتلو القسم على شيء من الأشياء فإذا هو مذعن مطيع، وأن أدعوا الغيب إلي فإذا هو مجيب سميع؛ فصليت عشرات الركعات، وسردت ألوف الأسماء، وأوشكت أن أتمادى في (الدروشة) وأن أزهد في الدنيا وأنقطع للعبادة، وأنتظم بين من يسمونهم أهل الطريق. ثم
عصمني حادثان صبيانيان يضحكان، ولكنها بما أعقبا وأفادا بالغان في الجد والتسديد: أحدهما ضياع حذاء بالمسجد الكبير في يوم صلاة جامعة بين أولئك أهل الطريق! فقلت: إن أناساً يسرقون الأحذية في مساجد الله لا يرجى بينهم فلاح. والآخر إمام من أئمة (المندل) كذب على الحاضرين باسمي وأنا أنظر لهم في (الفنجان) لأستطلع الغيب؛ فقلت إن الذي يكذب في الحس المشهود، لن يدلني على الغيب المحجوب. وكان هذا وذاك فراق بيني وبين الولاية والكرامات.
أما قيادة الجيوش فكان لها سبب معقول في تلك الأيام. فقد كانت بلدتي (أسوان) قاعدة من القواعد الكبرى في طريق حملة السودان، وكان فيها مقر الجنود المصريين والسودانيين والإنجليز الذين ينتظرون السفر ذاهبين أو قافلين، وكنا نصبح ونمسي على خوف من الدروايش الذين يذبحون الرجال والنساء ويرفعون الأطفال مطعونين على أسنة الحراب. فكانت لعبتنا في المدرسة تمثيل هذه الجيوش واستعجال النقمة من الأعداء.
ثم لم ألبث أن ظهر لي أن قيادة الجيش ليست هي الأمل المقصود ولا الأمنية الفضلى؛ وأنني كنت من آل عطارد ولم أكن من آل المريخ؛ لأننا كنا ننظم الجيوش على أساليب القصص العنترية والهلالية وما ورد عن سيف بن ذي يزن وأبطال ألف ليلة وليلة: فارس يبرز بين الصفوف ليتحدى خصومه بأبيات من الشعر أو فقرات من الكلام المسجوع، وهذا هو بيت القصيد!
فلما نظمت الشعر عرفت ما أردت، ووصلت إلى ما قصدت، وتركت فتوح القيادة، كما تركت من قبلها كرامات الولاية! وانتهيت بعد طواف قصير في هذا التيه الصغير إلى أمنية الأدب والكتابة، ولكني لا أزال ألمح في باطن هذه الأمنية مسحة من غلبة القيادة، ونفحة من أسرار الولاية، وشوقاً إلى المجهول لم يقف قط عند حد من الحدود؛ ولم يفارقني قط حتى حين أحسبني مستغرقاً في الحس وفي غواياته وملاهيه
هذه عقدة من عقد النفوس التي التبست فيها أول الأمر ثكنة القائد وصومعة العابد وروضة الشاعر. ثم انجلت الرؤية من وراء الغشاوة الظاهرة شيئاً فشيئاً، حتى ظهر أن الثكنة والصومعة والروضة شيء واحد يفترق من بعيد ويتفق من قريب
لكن العجيب غاية العجب هو أن تحل هذه العقدة على البداهة السهلة وعلى أيدي طائفة من
التلاميذ لم يفهموا ما صنعوه ولعلهم لا يفهمون بعد ذلك لو سئلوا فيه
وبيان ذلك أننا كنا قبل خمس وعشرين سنة نعمل في التدريس بالمدرسة الإعدادية الثانوية: الأستاذ المازني، والأستاذ الزيات، والأستاذ علي الجندي، وكاتب هذه السطور، وطائفة مختارة من الفضلاء الذين لهم اليوم مكانهم الممتاز في مناحي العلم والعمل بهذه البلاد
فقيل لنا يوماً إن التلاميذ المعاقبين يملأون جدران الحبس بالنوادر والفكاهات عن المدرسين، وذهبنا إلى حجرات الحبس فقرأنا على الجدران أفانين من تلك النوادر والفكاهات: أذكر منها مما كتبوه عن المازني وعني: أن ناظر المدرسة سألني وقد رآني على بابها: أين صاحبك؟ فقلت له: نسيته في الدرج! وأن العقاد دعا المازني إلى وليمة على مائدة فلم يأكل المازني؛ ثم دعا المازني العقاد إلى وليمة على الأرض فلم يأكل العقاد! وكثير من أمثال هذه المساجلات نكتفي بما تقدم منها على سبيل التمثيل لأنه غير المقصود في هذا المقال.
أما المقصود فهو الألقاب التي أطلقها علينا أولئك الخبثاء وكشفوا بها من جوانب الشخصية ودخائل النفس ما يعي به كبار النقاد.
فاختاروا للأستاذ المازني اسم تيمورلنك
وللأستاذ الزيات اسم الشاب الظريف.
وللأستاذ علي الجندي اسم ابن المقنع!
ولكاتب هذه السطور اسم حرحور!
أما الأستاذ المازني فبراعة التسمية في أنه كان يدرس التاريخ وأنه كسميه صغير الجسم مصاباً بإحدى قدميه، وأنه مسيطر على التلاميذ، قلما يحتاج إلى معاقبة أحد منهم لخروجه على نظام الحصة، لأنه كان مهيباً بينهم قديراً على أخذهم بمهابتهم إياه قبل خوفهم من عقابهم؛ فجمعوا كل ذلك في اسم تيمورلنك أحسن جمع مستطاع
وأما الأستاذ الزيات، فدماثته، وظرفه، ولطف حديثه، وأسلوبه الأدبي، وأناقة ملبسه، ترشحه لاسم الشاب الظريف أصدق ترشيح.
وأما الأستاذ الجندي فقد لاحظ الخبثاء في تسميته بابن المقفع أنه نحيل هزيل، وأنه يدرس لهم كليلة ودمنة وقواعد البلاغة، فوفقوا بين ذلك كله أبرع توفيق!
وأما كاتب هذه السطور فقد سموه (حرحور) باسم الكاهن الحكيم المصري الذي انتزع الملك على صعيد مصر قبل الميلاد بألف سنة؛ فلم تكفه أسرار الكهانة وحب الحكمة حتى طمح إلى الغلبة والسطوة. ولم يفت الخبثاء في هذه التسمية أن كاتب هذه السطور من أقصى الصعيد حيث قامت دولة حرحور! وهو ما كانوا يذكرونه بينهم كلما أخذتهم بالشدة التي اشتهر بها أهل الصعيد الأقصى
وفي براعة هذه التسميات شاهد على أن بداهة الجماهير لا تهبط بهم دائماً إلى ما دون طبقة الأفراد، بل ربما ارتفعت بهم أحياناً إلى طبقة من الزكانة لا يبلغها الفرد الممتاز في كل حين
فاسم حرحور قد جمع من جديد ما فرقته أيام الصبا الباكر بين طالب الولاية وطالب القيادة وطالب الشعر والثقافة. وقد دل من جديد على أن هذه الصور المختلفات لم تغب في أطواء
العمر كل الغياب؛ فإلى جانب الروضة الأدبية لا يزال للثكنة مكان وللصومعة نصيب.
ويسألني سائل: ولم تمنيت الأدب أو تمنيت المنزلة الأدبية؟ فأقول: إن (التعبير عن النفس) هو مزية الأدب والشعر والكتابة عامة، وهو في الوقت نفسه طريق إثبات النفس الذي يمثل الثكنة نحواً من التمثيل، ويمثل البحث عن الحقائق والأسرار من قريب.
ويلوح لي أن التعبير عن النفس أو (إثبات النفس) عندي شيء لا أنساه حتى حين أكتب عن نبذ الشهوات وعن العبادة وعن الصيام قاصداً أو غير قاصد.
ففي مقالي عن الصيام منذ ست عشرة سنة قلت سائلاً:
(ولكن هل الصوم من دواعي إنكار الذات المتنبهة، أو هو من دواعي إثباتها وتوكيدها؟ وهل هو من أسباب نسيان النفس الشاعرة وسحق كبريائها، أو هو من أسباب تذكرها وتقرير وجودها؟)
ثم قلت مجيباً: (أكاد أقول إن الصوم بجميع درجاته وأنواعه حيلة نفسية خفية لتقرير وجودها وتوكيد عزتها ورفض كل ما يسيء الظن بها في نظر صاحبها. وما أيسر أن نعرف ذلك! حسبنا أن نراقب الحالة التي تناقض الصوم لنهتدي إلى الحقيقة من المقابلة بين النقيضين. فانظر على سبيل المثال إلى أي رجل تعرفه ممن أرخوا العنان لشهواتهم وأجابوا نفوسهم إلى أهوائها واسترسلوا في الغواية بلا رادع ولا مقاومة، فهل ترى هذا
الرجل (واجداً) نفسه مكرهاً لها، أو تراه مبتذلاً نفسه فاقداً لها في غمار شهواتها وتيار أهوائها؟ إنك لا ترى رجلاً كهذا إلا قد ارتسمت على وجهه علامة احتقار هي قبل كل شيء موجهة إلى نفسه. . . ولست أعرف معنى للنفس في حالة الاستسلام والاسترسال التي نشاهدها فيمن يلبون حاجات نفوسهم ولا يقفون لها في شهوة من شهواتها؛ فإن حكم هؤلاء في هذه الحالة كحكم الخشبة المنساقة في تيار الماء، أو الريشة المتطايرة في الهواء؛ أي أنه هو حكم الجماد المفقود في تيه النواميس الكونية بلا إدراك ولا شعور ولا إرادة. ولا يزال الإنسان شيئاً لا نفس له ولا استقلال لكيانه حتى يمتنع عن شيء يدفع إليه ويقف في وسط التيار الذي يحيط به. فهناك يجد نفسه بعد إذ فقدها بالمطاوعة ونسيان الذات، ويشعر بمعنى رفيع هو أسمى معاني الحياة لم يسم إليه إلا الإنسان بين سائر الأحياء)
وفحوى هذا جميعه أنني تمنيت الأدب لأنني تمنيت التعبير عن النفس، ولأن التعبير عن النفس يجتمع فيه عندي تحقيق وجودها ومتعتها واستكناه حقيقتها وحقيقة ما حولها، وليس فوق هذا المطلب من مطلب رفيع يتطلع إليه موجود شاعر بوجوده.
عباس محمود العقاد
طموح الشباب
لصاحب العزة الدكتور منصور فهمي بك
مدير دار الكتب المصرية
تفضلت وزارة الشئون الاجتماعية فدعتني لأتحدث إلى الشباب في مطامحه. ولعلها بتلك الدعوة أحسنت الظن برجل طالما اتصل بشبابنا المثقفين، وأنه وإن حالت ظروفه دون وفرة الاتصال بهم، ففيما يحفظونه له من ود كريم، وفيما يحفظه لهم من حب وحنان، ما يسوغ مد الأسباب بينه وبينهم ليفضي إليهم بما يعتقده خيراً وحقاً
فللوزارة إذن شكري الخالص، إذ أتاحت لي فرصة التحدث إلى أبناء العروبة عامة، وإلى أبناء وطني وكلهم أمل باسم مرموق لبلادهم العزيزة، وللشباب أنفسهم صادق دعواتي لعيشة راضية يملأها البشر والتفائل، وتنتشر منها مكارم الأخلاق وصدق العزائم، وتفيض بنعم المعنويات
لقد نشأ الشباب الحاضر في فترة من الزمن تمتد بين حربين عظيمتين، وتصطبغ بشر المنازع للنفوس الأمارة بالسوء، وتتجلى فيها مساوئ الحياة المادية والآلية وتبدو عليها متاعب الأنانية والجشع، وتلوح منها مكاره المخادعة والعناد، وتلتزمها مخازي التحلل من القيود الأدبية، وتظهر فيها مخاطر الانحراف عن المنطق السليم، وتكتنفها مهازل الركون إلى النظم المنهارة البالية، مما انتهى إلى تباين في الحظوظ من مغانم هذه الحياة، وتنافر بين الشعوب والطبقات، وتباغض وتناحر بلا هوادة ولا رحمة. . .
ولو ذهبنا نستعرض ناشئة العالم المتحضر لوجدنا في بعض بلاد الغرب شباباً قد ترعرع في أجواء مسممة من أثر اليتم والأحقاد والغرور، مما كان له خطره الواضح في الانقلابات والثورات والأزمات وحدوث هذه الحرب الدامية
أما في بلاد أخرى كبلادنا العربية التي تأثرت بنتائج الحرب الماضية، فثم تغييرات سياسية، واضطرابات داخلية، وشهوات حزبية، ونزعات نفسية، وانقسامات واختلافات في الآراء، وثم تحرج عند شتى المشكلات العمرانية والثقافية والاقتصادية، مما انتهى بطائفة من شبابنا إلى الحيرة والإشفاق من المستقبل، والتشاؤم، وفتور الخلق والنزوع إلى الوصولية، والاستخفاف بالمألوف. . .
ولعل مختلف الظواهر والأحوال الاجتماعية التي اتصلت ببلادنا قد حملت شبابنا قسطاً من الآلام، وآخر من الآثام.
فأما هموم شبابنا وآلامه فلها ارتباط وثيق بما يشعر به من غموض المآل. وأما الأخطاء والآثام فمنشؤها غفلة الشباب حين يغفل عن قيم الحياة الحقة، ليلتفت إلى قيمها الزائفة، وحين يضلله سراب الحياة الخلاب إلى غير ما يشتهي من مائها الزلال، وحين يطمئن عن ضعف في البصيرة إلى سطح الحياة المستقر على بركان ثائر، وحين ينصرف الشباب عن جد الحياة إلى هزلها العاثر، وعبثها الساخر، ويؤوب منها بالقدح الخاسر. وعلى الجملة حين تتبدى الحياة في ثوبها المزخرف، فتستدرج إلى صغائرها الباطلة وشهواتها من لا حصانة لهم من الشباب، وكان لكل ذلك أثره في أمزجة الناشئين وأعصابهم وسلوكهم، فتعدد فيهم المتشائمون، وتكاثر فيهم المستخفون المستهترون، وأصبح بينهم المتمرد الجامح والخائر المهزوم.
على أننا نلتمس المعاذير للشباب على تشاؤمه واستخفافه، وجموحه وخوره، ونغتفر له انحرافه عن الطريق التي يرضاها له النصحاء الخيرون، إذ ترجع التبعة في كل ذلك على ظروف الماضي القريب وملابساته. فإذا كان لأحد أن يتحمل قسطاً من اللوم، فعلى الآباء بعض أثقال هذه الملامة؛ أما شبابنا فحليق بهم أن تنالهم شفقة المشفقين، وحدب العاطفين.
على أنه حري بالنشء الجديد أن يوجهوا جهودهم، ويحولوا طموحهم إلى حياة أسمى من التي يتذوقون مرها، وأن ينشدوا جوً أصلح من ذلك الذي يتنسمون سمومه، فللشباب من مفسوح الحياة ومقتبل العمر ما يوسع له المجال لتحقيق عيش يرضاه لنفسه ولمن يخلفونه؛ وله من نشاطه الحيوي ما قد يسخره في الخروج من الحياة المظلمة إلى حياة نيرة، وما قد يستخدمه لتحويل قطوب دنياه إلى بسمات، وزعازعها إلى نسمات، وأنينها إلى نغمات، فلا يأس مع الشباب، ولا يأس مع الحياة.
ويلوح لي أن أشد الحوافز لنشاط الشباب، وأقوى المثيرات لحيويته، وأمضى الشاحذات لعزيمته حين ينشد حياة أصلح من التي يحياها، إنما يكون في توجه الشباب إلى الأهداف العليا، والمثل السامية، ليسلم نفسه لسلطانها إسلاماً، ويذعن لسيطرتها إذعاناً. وهل من هدف أولى من الخلق الكريم ليكون موضع طموح الشباب؟ وهل من سلاح غير سلاح هذا
الخلق يستطيع الشباب أن يحول به مذاق العيش حلواً وعذابه نعيماً؟
إذن فالاعتزاز بالخلق الرفيع هو ما ينبغي أن يكون مثل شبابنا الماثل، ومطلبه الشامل
وإذا كان الخلق الكريم في جملته وتفاصيله هو الهدف الذي ينبغي لشبابنا أن يروضوا أنفسهم عليه، وأن يلقوا بأعمالهم في دوائره وأحضانه؛ فيقيني أن أكبر معين لإصابة هذا المرمى هو التدين الصحيح.
وإني حين أعفي نفسي من الإسهاب في تفاصيل الأخلاق الكريمة، وبسط جزيئاتها الرائعة؛ أقرر بأن التدين الصحيح هو أفضل رائد للوصول إلى الأخلاق الفاضلة الرفيعة؛ ذلك لأن الديانات على اختلافها قد أجمعت على تقديس الأخلاق الأساسية التي كانت أهداف الإنسانية مع تتابع العصور، واختلاف الأجناس والأقاليم
وليست هذه الأخلاق المقررة مجهولة تحتاج إلى التذكير، أو منكرة تحتاج إلى الإبانة والتعريف، أو مستورة خفية تحتاج للكشف والإظهار، إنما كل ما تحتاج إليه أن يستجيب الناس إليها، وأن يأخذوا أنفسهم بالإذعان لدواعيها، وأن يؤمنوا بأن تجارب العصور والأجيال لم تكن عبثاً حين لم تأت بما يضعف من قيمة هذه الأخلاق، أو يشكك في نفعها لدعم سعادة الأفراد وعظمة الأمم. فكل دين يأمر بالمعروف وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ وما ندم قط امرؤ اتخذ من أخلاق دينه هادياً له في معاملاته وسلوكه؛ وما هانت ولا وهنت أمة تمرس أفرادها في آداب الدين، ذلك لأن التدين والدين يحضان على العزة والتضحية والإيثار والعدل والقسط وجد الحياة ومهيئات السلامة والسلام.
ويقيني أن التدين الصحيح إذا استحال في عناصر الدم دماً، وفي عناصر الأعصاب عصباً، وعلى الجملة في عناصر النفس الناطقة روحاً ويقيناً وإيماناً، فإن أفعال الناس جميعها تستقر على الخير، وتدور في دوائر الحق، وتسرح في ميادين الجمال. . .
وحسبنا من التدين أن يذعن المرء لقيود والتزامات ونظم تحت رقابة حاضرة لا تغيب، يقظى لا تغفل، عالمة لا تجهل، تلك رقابة الضمير الطاهر، تلك رقابة الوجدان الساهر، تلك رقابة القوي القاهر، تلك رقابة الله
وكما أن للتدين الصحيح رقابة على النيات الخافية والمعنويات التي تؤثر في صور المعاملات وأشكالها، فإن له أجلى أثر في رياضة الناس على حب النظام. فكل دين يقاضي
أتباعه بأنواع من الشعائر في فترات موقوتة، وفي وضعات معينة، وفي حالات خاصة؛ ففي مختلف الصلوات، وفي أنواع الخشوع، وفي أصناف التوجهات، نُظم للجسم والنفس من شأنها أن تؤلف المرء على حب النظام، وما أحوج شبابنا لخلق النظام.
قد يأخذ البعض على الديانات ما فيها من حواجز وحدود تحد مما تبيحه الحريات. على أنهم ينسون أنه لا خير في الحريات
ما لم تقف عند الحواجز والحدود، وإن وراء حدود التدين هاوية فتاكة بالنفوس، وتيهاً مضللا للعقول والأحلام
وإذا أضيف إلى فضائل الدين ما يتعزى به المنكوبون المعتقدون، وما يأمله المستحقون ممن يعتقدون بعدل الله، وينتظرون جزاءه الأوفى، فما أحرى الشباب أن يرعى حرمة الدين، ويتجه إلى هدفه المبارك المأمون
وزيادة على ما أتمناه لشبابنا من هذه المطامح المتقدمة، أرجو أن يجعل من أهدافه المباشرة نزعة الكرامة الأدبية، فعندما يطمح المرء إلى هذه الكرامة، وعندما يشعر بحرارتها المنبعثة من الأعماق تتجلى له قيمته الإنسانية المقدسة من خلال ماضيه وحاضره، وتفكيره وأمله ومسلكه الخلقي، وعندما يستذكر المرء معاني الكرامة، فإنه يحس في طواياه بنوع من عظمة النفس تدنيه إلى كل عمل حميد، وتضعه في كل منزل من المنازل التي تسدى فيها المكارم وتساق فيها المحاسن لخير نفسه، وخير أمته، وخير الناس أجمعين.
فالكرامة إذن هي نزعة نفسية عالية يتحقق بها الخلق الشريف والموقف المنيف لدنيا يريدها المرء مصقولة معقولة كريمة.
بل هي نزعة إلهية تتأثر بها كل قوانا النفسية لتستنهض أكثر الفضائل من شجاعة وصدق، وصراحة وجد، وضبط للنفس، وإيثار ووطنية وما إلى ذلك من الخلال الآدمية التي يأخذ بعضها برقاب بعض لتتحقق مشيئة الله حين أراد أن يكرم بني آدم
وهذه الكرامة التي أدعو شبابنا إليها غنية عن التعريف والوجاهة، غنية عن الأحساب والأنساب، ما دامت تستعين بالإيمان بأن الإنسان الحقيق بإنسانيته، هو من يصدر عنه دائماً الخير وطيب العمل
وإني حين أرسل صوتي إلى شبابنا ليحصر أهدافه في دوائر الأخلاق والتدين والكرامة
الإنسانية فإني على يقين من أنه بذلك سيستصلح لنفسه عالماً نيراً مسعداً، فما عالمنا إلا مظاهر نفوسنا وأخلاقنا تتجلى على صفحات هذا الوجود
وإن ما أرجوه لشبابنا الفتيان هو نفس ما أرجوه لفتياننا. على أنهن حقيقيات بأن يتذكرن مملكة البيت، وما تقتضيه من أخلاق وسلوك ونزعات مما ينبغي أن يكون هدفاً للفتاة وحسبي أن أشير إلى أنه من واجب فتياتنا المصريات والعربيات، أن يحذرن ما انزلق إليه الكثيرات من فتيات الغرب وخدعن في قيمته، حين انحرفن عن هدف الحياة العائلية. فإسعاد العائلة في عائلها، وفي حسن تنشئ صغارها، وإمداد وكرها بما يرفع النفوس ويقومها ويقويها، هو أجدى على الأمة من كل ما تقوم به المرأة خارج البيت
وقصارى القول أرجو إلى شبابنا أن يفسحوا في صدورهم، وأن يحفظوا في ألبابهم وتفكيرهم مكاناً للمعنويات، ومجالاً للحياة الروحية، فلا يقصروا همومهم على مطالب الثروة والدأب فيما يشتهون من متع الحياة وشهواتها
وإنهم ليحسنون مهما اختلفت عقائدهم أن يقفوا خاشعين مستبشرين في كل صباح ليرسلوا من قلوبهم وعلى ألسنتهم صلاة عربية مبينة حين يقولون: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين).
منصور فهمي
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
(أيام) طه حسين
للدكتور زكي مبارك
تنبيه - حيرة وارتباك - المرحلة الثانية - عمائم وطرابيش وبرانيط - أسرار كتاب (الأيام) - أحزان الطفل الضرير - صور وصفية - أما بعد فهذا كتاب
تنبيه
في العالم الماضي تكلمنا عن الجزء الأول من (الأيام)، والمقرر للمسابقة في هذه السنة هو الجزء الثاني، وقد نشرته (مكتبة المعارف) بالقاهرة وثمنه عشرة قروش.
ويهمني قبل الشروع في الكلام عن الجزء الثاني أن أنبه إلى مسألة طال فيها عتب العاتبين في السنة الماضية، فقد عابوا علي أن أقول في صحيفة سيارة: إن الدكتور طه رجل ضرير؛ مع أني قلت بصريح العبارة: إن توضيح الدقائق من كتاب (الأيام) لا يتيسر بغير النص على أن المؤلف يعبر عن أغراض لا تتجسم لغير المكفوفين، والنقد يحتم هذا تحتيماً، ولو سكتنا عن هذه الناحية لضاع الغرض من شرح مواطن القوة والضعف في تلك المذكرات
أنا أريد أعاون طلبة السنة التوجيهية على فهم الكتب المقررة لمسابقة الأدب العربي، ولا يتم ذلك بدون إرشادهم إلى طريق الفهم المنشود، ومؤلف (الأيام) ضرير، ومراعاة هذا الجانب من شخصية واجب مفروض، لنعرف كيف واجه دنياه عن طريق السمع واللمس والإحساس
يضاف إلى هذا أن الدكتور طه أكبر من أن يتأذى بالنص على أنه ضرير، فهو يقول ذلك في جميع صفحات (الأيام)، وهو يعرف من أصول النقد الأدبي ما لا يعرف أولئك العاتبون، ويعرف أن الكلام عما في كتابه من محاسن وعيوب لا يتفق مع التغاضي عن تلك الحالة الشخصية، وهي حالة لا تغض من منزلية الأدبية بأي حال.
طه حسين ضرير، كما يقول، وقد سايرنا طفولته في السنة الماضية ونحن ننقد الجزء الأول، فكيف نراه في حداثته ونحن ننقد الجزء الثاني؟
حيرة وارتباك
في هذا الجزء بداية تقع في ست صفحات، وهي غاية في الضعف عند من يجهل، وغاية في القوة عند من يسرف، وربما كانت أعظم صفحات الكتاب، برغم ما فيها من غموض والتواء
وترجع عظمة هذه الصفحات إلى أنها تمثل ما يعاني الطفل الضرير من حيرة وارتباك، حين ينتقل من أرض إلى أرض، ومن مكان مألوف إلى مكان مجهول
كان الطفل يعرف داره بالريف، يعرفها بيديه، فلم تف عليه خافية من ملامح النوافذ والأبواب والسطوح، وكان يجد الأنس كل الأنس في حبس تلك الأشياء باهتمام والتفات، وسنرى كيف يفرح حين تسمح الظروف بأن يداعب الصندوق الذي أرسلته أمه إلى القاهرة لينتفع به أخوه، فسيكون ذلك الصندوق مراداً لسياحات كثيرة يتمتع بها الطفل حين يشاء، فيجلس عليه مرة، ويختبر أدراجه بيديه مرات، ولا يفوته في هذا الموقف أن يشير إشارة حزينة إلى أن أمه كانت تضع حُليها في هذا الصندوق يوم كان لها حُلي، فنعرف أن أمه وقع لها ما يقع لأمهاتنا في الريف من بيع (الصيغة) في بعض الظروف، ولأمهاتنا هنالك متاعب تستحق التأريخ
ترك الطفل داره بالريف، وأقبل على داره بالقاهرة، فكيف كان حاله في داره الجديدة؟ كيف؟ كيف؟
أقام أسبوعين وهو شارد اللب حيران: فهو يلمس جدراناً لا يعرف من أحوالها غير أوهام، ويسمع أصواتاً لم يكن له بمثلها عهد. ألم ينزعج للصوت المجهول؟ وأي صوت؟ صوت كريه بغيض لا يصل إلى أذنيه إلا بعد أن يلفح وهج النار وجهه من قرب، فما ذلك الصوت؟ سيعرف أنه قرقرة النرجيلة، فيهدأ ويستريح بعد أن مسه الخوف، وبعد أن طال تفكيره في السؤال ولم يصده غير الاستحياء
ولم يكن ذلك كل ما عاني في هذين الأسبوعين، فقد آذاه ما يحيط بداره الجديدة من روائح قذرة بغيضة لا تخلو من تعقيد. وسنعرف فيما بعد كيف صار يستبشر بهياج تلك الروائح، لأن هياجها أثرٌ من وقدة الشمس، وتلك الوقدة بشير بقودم الصيف، وهو في الصيف يرجع إلى داره بالريف، فيستريح من الأزهر والأزهريين، فقد نص بعبارة صريحة على أن
سجنه في قفص الأزهر قد طال، وأنه يرجو الخلاص بالانتساب إلى الجامعة المصرية، عليها أزكى التحيات!
المرحلة الثانية
حين تكلمنا عن الجزء الأول من (أيام) طه حسين في السنة الماضية كنا نجاريه في المرحلة الأولى من حياته، وهي تبدأ باليوم الذي عرف فيه كيف يختزن الذكريات، وتنتهي باليوم الذي تأهب فيه لطلب العلم بالأزهر الشريف
وفي هذه السنة نجاريه في الجزء الثاني وهو المرحلة الثانية، وهي تبدأ باليوم الذي فرح فيه بدخول الأزهر وتنتهي باليوم الذي فرح فيه بالتحرر من الأزهر. وهو مع ذلك سيحدثنا في الجزء الثالث أن صلته بالأزهر بقيت إلى أن تقدم لامتحان (العالمية). وسنعرف أن اللجنة التي أدى أمامها امتحان العالمية قضت في أمره بما لا يحب، لأنها لم تستطع النفاذ إلى مواهبه العقلية، أو لأن الأخبار كانت تواترت بأنه لا يحترم الأزهريين، أو للسبب الذي حدثنا به في سنة 1927، فقد أخبرنا أن يداً أرادت أن يسقط في امتحان (العالمية)، وله على تلك اليد شهود جَبُن منهم من جبن، وشَجع من شجع، والأمانة للتاريخ توجب أن نقول إن الدكتور طه حدثنا أنه حين أراد الطعن في نزاهة لجنة الامتحان لم يجد من يجرؤ على الشهادة بالحق غير رجلين اثنين: سيد المرصفي ومحمد الابياري
وإنما تعجلنا فأشرنا إلى كلام سيكون بداية الجزء الثالث ليعرف القراء كيف يتبرم الدكتور طه بماضي الشيخ طه، وكيف رضي الانتقال من الشرق إلى الغرب بلا توديع ولا تسليم، لينتقم ممن ظلموه، أو ليصير رجلاً من طلائع الجيل الجديد، ومن دعاة المدنية الحديثة، بلا تحفظ ولا احتراس
عمائم وطرابيش وبرانيط
من واجب النقد الأدبي أن يبحث عن الأسرار المطلوبة في ثنايا الحروف، فما تاريخ طه حسين من الوجهة الفكرية والذوقية وهو يواجه دنياه في المرحلة الأولى والثانية؟
في الجزء الأول يرى المجد مصوراً في (العريف) وهو معلم الأطفال، ثم يراه مصوراً في (القاضي الشرعي) صاحب العمامة والجبة والقفطان
وفي الجزء الثاني نراه على عهده الأول، نراه يحترم العمائم ثم ننظر في الصفحات الأخيرة فنراه يعلن أنه (ظفر بشيء طالما تمناه، وهو أن يتصل ببيئة الطرابيش)
فما سر هذا الانتقال؟
كان يعرف أن أمور الدولة إلى أصحاب الطرابيش، ولعله سمع أن ناساً اقترحوا على الشيخ محمد عبده أن يلبس الملابس الأفرنجية ليمكن أن يصير من الوزراء، كما صار الشيخ سعد زغلول بعد ذلك من الوزراء
وقد صبر الدكتور طه على عمامته بعد فراق الأزهر بأعوام قصار أو طوال، فأدى امتحان الدكتوراه بالجامعة المصرية في سنة 1914 وهو معمم، وأقلته الباخرة من الاسكندرية إلى مارسيليا وهو معمم، ولكن ركاب تلك الباخرة قد التفتوا مندهشين إلى شيء يقع في البحر وقد ألقاه صاحبه بعنف، فما ذلك الشيء؟ هو عمامة طه حسين!!!
وقد تحدث الدكتور طه مع أحد الصحفيين بأنه لم يندم على شيء كما ندم على رمي عمامته في عرض المحيط؛ ولكن الواقع غير ذلك، الوقع أن الدكتور طه وُلد وعلى رأسه (برنيطة) وقد حدثني مرة أنه يرجح أن أسلافه القدماء كانوا من اليونان، فإن لم يصح ذلك فهو في نزعته اليونانية مَدين لرواية ألفها الشاعر أحمد شوقي واسمها (ورقة الآس) وفيها تمجيد لليونان.
ولهذا وذاك صلة بانتقال الرجل من حال إلى أحوال، فقد انحدر من أسرة أكثرها مشايخ، ولكنه مع ذلك يحيا حياة مدنية منقطعة عن حياة المشايخ تمام الانقطاع. والنص على هذا الانقلاب واجب، لأنه يفسر ما خفي من أسرار الوحي في اتجاهاته الأدبية والاجتماعية
ولكن هذا الشيخ اليوناني بقيت فيه ملامح من ذلك الشيخ الأزهري، فما شاع يوماً أنه يدعوا إلى اللغة العامية، كما يصنع بعض المتظرفين الثقلاء، ولا جاز عنده أن تكون العقيدة الإسلامية مجالاً للتشكيك والإيذاء، وإن وقعت في بعض مؤلفاته عبارات تغاير المألوف من التعابير الدينية.
هذا رجل بعيد الصلة بين حاضره وماضيه، لأنه سريع القفز والوثب، ولأنه على وفاق مع ضميره الفني والأدبي، فهو يسايره إلى حيث يريد. وكل شيء عنده جائز، إلا العدوان على اللغة العربية، أو التحرش بالعقيدة الإسلامية، فهما عنده في مقام القدسية والجلال!
وفي كتاب الأيام سطور تفصح عن أسباب القلق في حياة الدكتور طه حسين، فهو يجزع من العزلة ويفزع من الانفراد، لأن الاتصال بالناس هو أداته في الاتصال بالحياة الخارجية، ومن هنا نجده حريصاً أشد الحرص على أن يكون لاتصاله بالناس ضروب من الضجيج والعجيج، لينجو من متاعب العزلة والانفراد، وهذا هو السر في انتقاله من رأي إلى رأي، ومن حزب إلى حزب، ومن ميدان إلى ميدان!
كان مع الدستوريين وهم يقاتلون الوفديين، وكان مع الوفديين وهم يقاتلون الأحزاب أجمعين، فإذا انجلت المعارك السياسية وانقطع إلى الحياة العلمية كان من الواجب أن يخلق أزمة جامعية، فاذا نُقل من الجامعة إلى وزارة المعارف كان من الحتم أن يخلق مشكلة في وزارة المعارف
ومع أن للدكتور طه عذراً في التخلف عن شهود بعض المآتم وحضور بعض الحفلات، فهو يشهد جميع المآتم ويحضر جميع الحفلات، ليطرد عن نفسه عناء العزلة والانفراد
فالذي ينظر إلى الأمور نظرة سطحية يحكم بأن الدكتور طه رجل متغير متحول، أما الذي ينظر نظر المدقق فيرى التغير والتحول من صور الثبات والاستقرار بالنسبة إليه، لأنهما يؤديان وظيفة أساسية في حياته اليومية!
ومن الجائز أن يكون لهذه النزعة دخل في هيامه بالفروض والحدوس وهو يساور الأبحاث الأدبية والتاريخية، فؤلفاته في أغلب أحوالها قليلة التعمق، لأن التعمق يوجب أن يقف عند البحث الواحد عاماً أو عامين، والوقوف يضايقه بعض الشيء، لأنه يصرفه عن التحول والانتقال بين المعاني والآراء!
زار الدكتور طه باريس وأنا هنالك، فلما مضيت للتسليم عليه أدهشني أن أجده في غرفة تطل في غرفة تطل على ميدان (الأوْبِسرفتوار) وهو ميدان صخاب ضجاج؛ فقدرت أنه يريد أن (يسمع) باريس بعد أن فاته أن (يرى) باريس!
ويحدثنا الدكتور طه في (الأيام) أنه كان يأنس أنساً شديداً بمراسلة إخوانه وهو في الريف، وتفسير ذلك سهل، فهو يلقي بالرسائل من يشاء من الإخوان.
ويحدثنا أنه حين رجع إلى بلده بعد قضاء بضعة أشهر في الأزهر أقام معركة حول فكرة التوسل بالأولياء، فما سر ذلك؟ لم يرد في الواقع غير خلق دنيا يراها عقله، وإن لم ترها
عيناه!
وقد سجل عتبه على أخيه، الأخ الذي كان يتركه وحده ويمضي للسمر مع الأصحاب والسجراء، ولو أن ذلك الأخ تأمل قليلاً لعرف أن أخاه الضرير الناس إلى الأنس بالأسمار والأحاديث!
وتأليف كتاب (الأيام) هو في ذاته تسلية لهذا المؤلف، فهو يخلق لخاطره أجواء جديدة تحتشد فيها مواكب من الصخب والضجيج، وإلا فكيف اتفق أن لا يفكر في إحياء تلك (الأيام) إلا وهو في المصايف الفرنسية، حيث يشغل عنه أهله بطرائف تلك المصايف، ولا يبقى له إلا اجترار ما اختزن من الذكريات؟
وقد شهد الدكتور طه على نفسه في مواطن كثيرة من كتاب (الأيام) باضطراب العقل؛ وأقول إن هذا الاضطراب هو مصدر قوته الذاتية، لأنه من مظاهر الحيوية، ولأنه الشاهد على أنه من كبار الأحياء
وهل كان من العبث أن تتنقل الطبيعة بين فصول مختلفات أشد الاختلاف منها الصيف والشتاء؟
هذا رجل حي، يعد ويُخلف، كما تعد الطبيعة وتخلف، ويستنيم عند الخوف كما تستنيم الطبيعة عند الخوف، ولا يتنمر إلا عند الاطمئنان إلى الأمان
وسر القوة عند هذا الرجل أنه كما وصفت، فهو من دعاة الثورة إن أتسع المجال للثورة، وهو من دعاة الهدوء يوم يحس بأن المجال لا يسمح بغير الهدوء، ولذلك شواهد يعرفها جميع الناس.
هو طه حسين، ولن يكون غير طه حسين. وكيف يكون رجلا آخر، وهو ليس برجل آخر؟ تلك إذن قضية، ولم تكن له قضية، وكيف تكون له قضية، وهو أعظم من أن تكون له قضية؟!
أسرار كتاب الأيام
نحن مع الدكتور طه في المرحلة الثانية من حياته الشخصية؛
وكلمة (الشخصية) لها مدلول؛ فهو في الجزء الثاني من الأيام لا يزال صبياً وفي أحلام الصبيان؛ والصبي لا يخرج من الحياة الشخصية إلى الحياة الاجتماعية إلا في نطاق
محدود
والعجب كل العجب أن يستطيع الرجل الكهل وصف حياته وهو طفل بتلك الدقة العديمة المثال
تكلم طه حسين عن حياته الأولى في الأزهر بعد أن فارقها بنحو أربعين سنة، فكيف اختزن تلك الذكريات في أمد كاد يزيد على أربعة عقود؟
الشيخ طه هو الذي كتب (الأيام) لا الدكتور طه، فهي صور فطرية لأحلام طفل كانت دنياه محصورة بين حي الأزهر وحي الجمالية، ولا يكاد قارئ هذه المذكرات يصدق أن كاتبها تخرج في السوربون وإن كانت السوربون هي السبب في أن يجيد مثل هذا القصص الطريف
جمال هذه المذكرات يرجع في جملته وتفصيله إلى ما انطوت عليه من الصدق. والكاتب يقول إنه ضرير، ولو سكت عن هذه الناحية لأفصحت عنها الشواهد؛ فهو لا يحدد أي مكان إلا بالنص على أنه من عن يمين أو عن شمال؛ وهو يصور المعقولات بصور المحسوسات، لتكون مما يلمس أو يذاق، فهذه ضحكة غليظة، وذاك ابتسام سخيف؛ وهو لا يذكر من عذوبة الشاي إلا أنه كان يوضع فوق ماء له أزيز عند اشتداد الغليان؛ وهو لا يقول إنه كان يتسمع أحاديث الجيران وإنما يقول إنه كان يمد أذنيه مداً ليسمع أو ليلمس تلك الأحاديث؛ وهو لا يقول إن أخاه كان يتركه إلى أن يعود، وإنما يقول إن أخاه كان يلقيه كما يلقي المتاع؛ وهو لا يقول إن الليل يستر الأشياء والأحياء وإنما يقول إن الليل:(يمس بيده المظلمة العريضة هذه الأشياء وهؤلاء الأحياء) ويؤيد هذه اللفتة قوله في وصف بعض الأشخاص:
(كان ضحكه غريباً مضحكاً حقاً، فقد كان يبدأه عالياً ثم يقطعه، ويضحك صامتاً لحظة ثم يستأنفه عالياً، ثم يقطعه، ويمضي فيه صامتاً، ثم يستأنفه، وهكذا)
وهذه صورة لا تتفق من يعتمد على السمع في وصف بعض الأشياء.
وهنالك صورة ثانية تؤيد هذه اللفتة، وهي قوله بأنه (كان يجد للظلمة صوتاً يبلغ أذنيه، صوتاً متصلاً يُشبه طنين البعوض لولا أنه غليظ ممتلئ)، ولهذه اللفتة أمثال وأمثال، كأن يسجل بنفسه أنه كان مفتوناً بعد درجات السلالم، وكأن يقول إنه كان يطرب لأصوات
الملاعق وهي تداعب الأكواب، وكأن يقول فيمن يصف امرأة حسناء: إنه كان يفصلها بعينه تفصيلاً، ويحللها في نفسه تحليلاً، ويجردها من ثيابها تجريداً؛ وكأن يقول إن الروائح الكريهة كانت تنعقد فتؤلف من فوق رأسه سحاباً رقيقاً ولكنه متراكم قد غشي بعضه بعضاً وكأن يقول إن مواطئ أقدامه كانت تعتدل حيناً وتعوج مرة أخرى فذلك كله يشهد بأن (اللمس) أداته الأولى في الإحساس
أحزان الطفل الضرير
وفي كتاب الأيام صفحات تقهر عصي الدمع، وهي صفحات بالنسبة لذلك الطفل، فهو يعد على أخيه جميع الهفوات مع الصفح الجميل، وهو يذكر بعد أربعين سنة أنه لم يكن يتناول طعامه بحرية، وأن نصيبه من ماء (الطرشي) لم يكن له وجود، وأن الحديث على مائدة الفول المدمس لم يكن يزيد على كلمة أو كلمتين، مع أن الطفل الضرير يحتاج إلى الكلام أشد الاحتياج، بدليل أنه يحادث نفسه بصوت صخاب حين لا يجد من يحادثه من الرفاق
ولم يقف بلاء ذلك الطفل عند هذا الحد، فقد نص على أن فريقاً من أشياخه بالأزهر كانوا يقولون له حين يوجه إليهم بعض الاعتراض:
(اسكت يا أعمى، اسكت يا أعمى)
وكان يعرف أنه أعمى، مع الأسف الموجع، ومع العجز عن دفع ذلك الإسفاف
واتفق في تلك الأيام أن يتصل ذلك الصبي بشيخ من أصحاب المواهب، وهو الأستاذ سعيد بن علي المرصفي، وهو رجل ما ذكرته إلا رأيت أنه حجة مصر في العبقرية العربية
والدكتور طه يقول إنه كان يفهم دروس الشيخ سيد المرصفي في شرح الكامل للمبرد، وذلك عنده سبب تلك الجاذبية، ولكني أرجح أن السبب يرجع إلى أن الشيخ المرصفي كان ينشد الشعر بأساليب موسيقية تخدر الثعابين، فلم يكن من العجب أن يستريح إلى إنشاده طفل في حال طه حسين، وهو يواجه الوجود بأدوات أهمها السماع
وأقول إن الشيخ المرصفي كان غريباً في الأزهر وكان تلاميذه غرباء، وبهذا أصبح طه حسين من المنبوذين في أنظار (العلماء) وصار من حقهم أن يهينوه ظالمين بالتصريح أو التلميح
ثم تمضي الدنيا بالطفل الضرير إلى ما لا يريد، فيشيع بعض حاسديه أن يرى ما لا يرى الأزهريون من كفر (الحجاج) وهو أعظم رجل تولى أمور العراق في نظر (العقل) لا في نظر (التاريخ)
ويهان الطفل الضرير لهذه اللمحة الفكرية، فيمسي وهو زنديق في أنفس الأزهريين، وهم أصحاب الرأي الرسمي في الكفر والإيمان، ثم تكون لذلك عواقب يعاني متاعبها إلى اليوم
صور وصفية
في الجزء الثاني من الأيام ألوان من الصور الوصفية، ولا تظهر قيمة هذا الكتاب إلا لمن يلتفت إلى تلك الألوان
وأجمل صور هذا الكتاب ما جاء في وصف الشيخ سيد المرصفي، وهي صورة جدية فصلت شمائل ذلك الشيخ أجمل تفضيل والحياة الأزهرية بمزاياها ونقائصها نالت حظها من التدوين في الحدود التي تصورها الطفل، وقد عاش في بيئة مولعة بتعقب العيوب، وهو لهذا لم ير من الأزهر ورجاله غير ما يؤذي النفس، ويثير البغض، وما نراه يلتفت إلى محاسن الأزهر إلا في أندر الأحيان
وحياة (الرَّبع) ظفرت بألوان لطاف ظراف هي غرة الكتاب، وربما جاز القول بأنها من أطايب الأدب الحديث
والمجون له في هذا الكتاب مكان، ولكنه مجون ملفوف، إلا حكاية (أبو طرطور) فهي من المجون المكشوف، وهو مكروه على أرجح الأقوال!
وعنى الطفل بوصف أخيه عناية فائقة، فصوره في هزله وجده وغضبه ورضاه، بأسلوب يغلب عليه العتاب
وتحدث الطفل عن أبيه حديث اللوم في حين وحديث الحمد في أحيان. أما حديثه عن أمه فهو من أبرع صور الوفاء. ويظهر أنه لم يحب أحداً بلا قيد ولا شرط كما أحب أمه الغالية، ولم يثق بأحد كما وثق بقلبها الرفيق. ولا تقل إن الذوق هو الذي نهاه عن أن يتحدث عنها كما يتحدث عن أبيه وأخيه، فذلك كاتب وصاف قد يستبيح في الخروج على الذوق ما لا يباح، وإنما الوجه أن الدكتور طه لم ير من أمه غير الشمائل الأصلية في الرفق والعطف والحنان
حديث الدكتور طه عن أمه حديث نفيس جداً، وهو يصدر عنه بحرارة وجدانية قليلة الأمثال. ألا ترون كيف صورها بأساليب مختلفات تشهد بأنه كان بها من المفتونين؟
من المفهوم أن الرجل لا يستطيع أن يذكر أمه بغير الجميل، ولكن الدكتور طه يخلق الفرص حلقاً ليتذوق النعيم بتصور ما كانت أمه تذرف من الدموع وهي تعد الزاد الذي يرسل إلى أبنائها الغائبين.
كان الطفل في غرفة مغلقة النوافذ في يوم صائف، فلما خرج تروح النسائم الرطاب، فتذكر ما كانت أمه تطبع على جبينه من القبلات.
والأم التي أنجبت طه حسين خليقة بكل إعزاز وإجلال
أما بعد فهذا كتاب
وأي كتاب؟ هو صفحات مقبوسة من القلب والروح، كتبها أديب مرهف الأعصاب، بعد أن تجنى عليه الوجود بلا رحمة ولا إشفاق
قال أستاذنا السنيور ناللينو، ونحن نذكر عاهة طه حسين:
،
وأقول إني لم أنقد الدكتور طه يوماً وأنا أتصور أنه ضرير، فما قُدَّ قلبي من الصخر حتى أصوب سنان القلم إلى رجل مكفوف، وإنما أنقده وأنا جاهل بحالته الشخصية، كما تعبر الأوراق الرسمية
طه حسين ليس بضرير، وإنما هي دعوى حمله عليها حب التظرف، وسيبقى هذا الرجل شاهداً على أن البصر السليم هو بصر القلوب
زكي مبارك
الشيخ عبد الوهاب النجار
جهوده في جمعية الشبان المسلمين
للأستاذ عبد المنعم خلاف
لما قبض الله إلى جواره الكريم المغفور له المجاهد الشيخ (عبد العزيز شاويش بك) الوكيل الأول لهذه الجمعية، تلفت أعضاؤها يبحثون عمن يملأ مكانه الخالي، فلم يجدوا غير فقيدنا العزيز الذي اجتمعنا اليوم لتأبينه. إذ كان الشيخان - أسبغ الله عليهما فيوض رحمته - نظيرين في الدعوة إلى الله والعلم بأسرار الإسلام والبذل في سبيله والوقوف على أسرار تشريعه ومناهج دعوته، مع اطلاع واسع في مقارنات الأديان، وقدرة على حل كثير من العقد الاجتماعية التي تشغل بال الشباب في ظروف الانتقال الخطير التي يجتازها الشرق الإسلامي
وإذا كان الأستاذ (شاويش) لم يمد الله في أجله طويلاً في خدمة هذه الجمعية، بعد أن اشترك بجاهه وخبرته في دور تأسيسها، وتمهيد العقبات الأولى أمامها، فقد مد الله وبارك في خدمة الأستاذ (النجار) لهذه المؤسسة حتى نمت واتسعت جهودها الدينية والاجتماعية
فمنذ ثلاث عشر سنة والفقيد دائب على القيام بواجباته فيها، يأنس به الشبان ويستفتونه في قضايا الإسلام والشبهات التي تترامى على عقولهم في فترة الانتقال واحتكاك العقل الشرقي بالعقل الغربي، وهو يفتيهم ويدحض ما يحوك في صدورهم من الشبهات، ويدخل على قلوبهم الطمأنينة ويرد اليقين وقوة العقيدة
وقد ساعده على الاقتراب من قلوبهم والدخول إلى عقولهم اتصاله بنصيب وافر من العلوم العصرية التي كان يعلم منها ما جعله ابن زمانه وربيب عصره لا رجلاً متخلفاً عن ملاحقة سير الحياة بالأحياء وسرعة نمو هذه المدنية العجيبة التي تتفتح فيها أسرار الطبيعة للعقول تفتحاً متلاحقاً يحير الألباب ويثير الدهشة، ويكشف عن كلمات الله التي ليس لها نهاية ولا نفاد!
فكان عليه رحمة الله يعلم من مباحث علوم الطبيعة والكيمياء والكهرباء وفنون الصناعات والآليات ما كان يثير إعجاب من يسمعونه وهو شيخ معمم تقدمت به السن، وتوجه فكره من قديم إلى الأدبيات وعلوم اللغة والشريعة والجدليات وما إليها من الميراث الشرقي
النظري
ولا عجب أن يكون فقيدنا كذلك؛ فقد كان يحمل بين جنبيه قلب شاب ويحمل في رأسه عقل حكيم. وشباب القلب وحب الحكمة نعمتان جزيلتان تجعلان صاحبهما متفتح الفكر متجدد العزم متلفت الذهن نحو ما تلده الليالي من أعاجيب الحياة، بريئاً من الاشتغال بالأضغان الغليظة والسخافات التافهة التي تشغل بال الجهال وتصرفهم عن ملء قلوبهم وأوعيتهم بأسرار الوجود
وإلى هذه الصفات في الفقيد كان يرجع أنس الشباب به وحبهم إياه وحبه إياهم وفهمه عقليتهم ومنازع نفوسهم في زمانهم يضاف إلى تلك الصفات أنه كان مؤرخاً واعياً وقصاصاً مملوء الحافظة بحوادث التاريخ ونوادر الرجال، فكانت مجالسة عامرة بأعذب القصص وأطرف الحكايات وتلك ميزة محببة إلى نفوس الناس جميعاً وخصوصاً الشبان الناشئين الذين يسرهم كثيراً أن يستمعوا لأحاديث الغابرين وصور الماضي تلقيها وتعرضها عليهم شيخوخة جليلة يتكلم الزمان على لسانها ويتحدث من خلال بيانها
وقد نفع الله شباب هذه الجمعية بالفقيد كمؤرخ إسلامي أجل نفع، إذا كان لما يسرده من تاريخ الإسلام ورسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم وأبطاله ومغازيه وذكرياته وفتوح سيوفه وأقلامه، أثر بالغ خالد في توجيه نفوسهم إلى إحياء تلك الذكريات الغاليات والأمجاد الخالدات
وقد سمعت من السيد رشيد رضا رحمه الله قوله: إن العقيدة الإسلامية لايريبها ويثبتها في القلوب إلا قراءة التاريخ الإسلامي؛ وإن أثر قراءة هذا التاريخ في تكوينها أعظم بكثير من قراءة كتب العقائد والجدليات
وهذا قول صادق تزيده الأيام تأييداً. فكلما زاد اطلاع المسلمين على تاريخهم ونشطت المطبعة في إخراج دفائنه ازدادت عقيدتهم رسوخاً وإيمانهم بأنفسهم وثوقاً
وقد جمع الفقيد إلى صفات المؤرخ الإسلامي ضلاعته في الاطلاع على الأديان الأخرى، وحفظه كثيراً من نصوص التوراة بالعربية والعبرية التي كان يحذقها، والأناجيل وإلمامه بأقوال شراحها، واستخلاصه من كل أولئك ما يؤيد رسالة الإسلام ويجلو أوصاف رسوله كما وردت في تلك الكتب، مما ملأ أيدي الوعاظ والدعاة الإسلاميين بالحجج المدافعة عن
دينهم في مجال الجدل الديني، ومما جعل الشبان في عصمة من أضاليل الإرساليات الدينية الأجنبية التي همها تشكيك المسلمين في رسالتهم الخالدة
وحين رأت هذه الجمعية أنه لا يتم صلاح الأمة إلا بصلاح نصفها الذي طال إهماله - أعني نساءها - لأنهن الأساس في بنائها والمتصرفات في قلوب نشئها، وعزمت أن تنشئ لهن دروساً دينية عهدت إلى الفقيد بإلقائها وتنظيمها بالاشتراك مع المغفور له شيخ العروبة أحمد زكي باشا. فنهضا بذلك نهضة كان لها أثرها. إذ حملت كثيراً من فضليات السيدات الآنسات المسلمات على تأسيس جمعيات نسوية للدعوة الدينية بين النساء وتوجبهن إلى فهم أسرار دينهن، مما يبشر بتحقيق الآمال في حركة الإصلاح
لم يكن نشاط الراحل الكريم قاصرا على خدمة أغراض هذه الجمعية في داخل حدود مصر، بل تعداها إلى البلاد العربية والإسلامية الشقيقة، فقام إليها بسفارات عدة وأسفار بعيدة؛ إذ اشترك في أول مؤتمر إسلامي عام حين عقد بالقدس خاصاً بقضية فلسطين 1931، وتزعم الرحلة التي قام بها جوالة الشبان المسلمين في صيف السنة ذاتها إلى فلسطين وسوريا ولبنان. وكان وجوده على رأسها من اعظم أسباب الترحيب بها والالتفات إليها من السلطات والأندية الدينية والاجتماعية التي كان له فيها ذكر مرفوع. ثم قام برحلة مع جوالة الشبان المسلمين كذلك إلى تركيا في صيف 1934
ولكن أعظم رحلة قام بها في خدمة أهداف الجمعية هي رحلته إلى الهند سنة 1936 في البعثة الأزهرية التي بعثها فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي لدراسة شئون طائفة المنبوذين في الهند تمهيداً لدعوتهم إلى الإسلام ولدراسة شئون إخواننا المسلمين هناك عن قرب، وإنشاء روابط تعارف بين رجالنا ورجالهم
هذه الرحلة الشاقة التي ركب الفقيد فيها البر والبحر والجو، وتنقل فيها ببلاد الهند الواسعة يخطب ويكتب ويتحدث، وهو الشيخ المعمر الذي يحتاج إلى الراحة السكون. . . هي أعظم شهادة له تدخله في عداد المجاهدين الصادقين والعلماء العاملين الذين وهبوا الله جهودهم وأعمالهم بعدما وهبوه ألسنتهم وأقلامهم إلى آخر رمق من حياتهم. والذين يعلمون أن العمل للإسلام في هذا العصر لا يكون بتحصيل العلوم وتأليف الكتب وحدها بل لابد معه من النزول إلى ميدان الجهاد العملي والاشتراك في المعترك الأبدي بين الخير والشر
والإصلاح والإفساد. . .
وإن أدراك الحق ورسمه على الصحف أمر سهل جداً على النفوس، ولكن العمل على تحقيقه وتجسيمه بين الناس متمثلاً في أشخاص وأعمال مهمة شاقة، لا يحتملها إلا أُلو العزم من محبي الإصلاح
هناك جانب خفي للفقيد في مؤازرة هذه الجمعية شاء هو أن يخفيه عمداً، هو جانب بذله المال حسب طاقته في بعض حاجات هذه الجمعية وحاجات غيرها من وجوه البر. فقد كان لا يبخل بمال، ولا يحسب حساب ذريته الخاصة في سبيل تحقيق مصلحة عامة؛ وقد طال عمره وهو كبير الراتب، ولكنه لم يتهالك على جمع شيء من الحطام الفاني، ولم يخرج من الدنيا إلا عن ميراث الحكماء والأصفياء. . .
إذا ورث الجهال أبنائهم غنى
…
ومالاً فما أشقى بني الحكماء!
ألا سلامٌ على تلك الشيخوخة الجليلة السمحة المتفائلة التي كانت تضحي بما يصحب تقدم السن من الترفع والاعتزال، وتمتزج بروح الشباب لتعطيهم خبرتها وتجاربها. . .
وسلامٌ على تلك الروح الرحبة اللطيفة الوديعة التي كانت كأنها لا تعرف الغضب والمساءات. . . وعلى ذلك القلب البرئ كقلوب الأطفال الأبرار، وعلى تلك الأسارير المنبسطة التي يترقرق فيها الطهر وخلوص الطوية، وعلى ذلك المنطق العفيف عن الادعاء والغيبة وتجريح الناس ومقابلة السوء بالسوء. . .
وسلام على تلك الجبهة العالية التي كرمت صفحتها عن سمات الذلة والخضوع لغير الحق. . . وعلى تلك الذاكرة الواعية التي ما كان يفر منها رقم أو مسألة من مسائل العلم والدين التي اطلعت عليها، وما كان أكثرها!
ألا إن فقيدنا لم يكن شخصاً، وإنما كان حديقة مزهرة مثمرة بأطايب المعاني العالية، ورقائق الصفات الكريمة، ووثائق الأخبار والأسمار والمعلومات. . .
فرحمة الله له، والخلود لذكراه، والصبر الجميل لذويه وتلاميذه ومحبيه
عبد المنعم خلاف
حول مسرحيات محمود تيمور
من اتجاهات علم النفس
في المسرحية
للأستاذ زكي طليمات
مفتش شئون التمثيل بالمعارف
(أصدر الأستاذ الكبير محمود بك تيمور مؤلفاً يتضمن ثلاث
مسرحيات جديدة فيها الكثير من طرافة التحليل النفسي، فآثرت
أن أقدم لنقدي إياها بهذا البحث الذي يكاد يكون قائماً بذاته
ولذاته)
كثيراً ما يقع للقارئ المنقب في أروع القصص والمسرحيات الغربية، مترجمة كانت أو بلغتها الأصلية، - وقليلاً ما يقع له ذلك في مطالعة آثار أدباء الطليعة في مصر خاصة وفي الأقطار العربي عامة - أن يلاحظ شيئاً يستوقفه برهة ينسرح خياله فيها، ويأخذ ذهنه بأسباب التأمل والمراجعة، ذلك أنه يرى شخصية من شخصيات هذه المسرحية أو القصة يستوي فجأة على حالة تنبو عن التقويم النفسي العام الذي أجراه عليها المؤلف منذ بدء الرواية، فإذا بهذه الشخصية تغمض وتبهم، وإذا بها تصبح نهبة لتعقيد نفسي غريب، فتبدر منها بادرات تتناقض مع المعقول صدوره منها قولاً أو فعلاً، وتتراءى هذه الشخصية في النهاية وكأنما تلبسها ذاتان مختلفتان!! وهي مع كل هذا تبدو إنسانية أصيلة تحس بصدق خلجاتها، ونلمح في وجهها أشباهاً فيمن نعرف من الناس أو فيمن يصل إلينا خبرهم بطريق السماع المقطوع بصحته.
إن الفكرة الشائعة على أن النفس الواحدة قد تبدو أحياناً في تصرفاتها وكأنما تلبسها شخصيتان متناقضتان، تجد أعراقاً لها ممتدة بعيدة إلى صميم الأدب الاتباعي، ثم تلوح بادية الأشاجع في الأدب الرومانسي، هذا على الرغم من أن القاعدة الأساسية في علم
النفس لدى الاتباعيين - والرومانسيون تبع لهم في هذا - هو أن كل ما يخطر بالنفس ويجري فيها واضح أمره لها، لأنها تحسه وتدري بمسراه فيها، فهي تتحكم فيه إذا شاءت بطريق الإرادة، وهي تنظمه بمعاونة المنطق، وتكون النتيجة الحتمية لهذه القاعدة: أنه بما أن النفس في هذا الصدد لا يخفى عليها شيء مما يختلج فيها، إذن فكل ما يجري فيها واضح المعالم والحدود تفصح عنه الأقوال والأفعال وتفسره.
على هذه السنة، سنة الوضوح والإيضاح، يقوم التحليل النفسي لدى الاتباعيين والرومانسيين ومن ينحو نحوهم في كتابة القصص والمسرحية التي هي معارض لنماذج بشرية تتنفس وتتحرك وتعمل فيها.
بيد أن المؤلفين الاتباعيين والرومانسيين، على أخذهم بقاعدة الوضوح هذه في علم النفس، لم يكونوا بمنجاة من التعثر ببعض تلك الحالات النفسية المعقدة التي تبدو النفس خلالها، وكأنها عالم يشوبه الغموض وتتجاوب أصداؤه بالمتناقضات والفوضى
فماذا كان موقف هؤلاء المؤلفين من هذه الحالات؟ كانوا يحاولون التفسير جهدهم ليستخرجوا من الإبهام وضوحاً ومن الاضطراب نظاماً، متجشمين في سبيل ذلك بياناً خطابياً حاذقاً ولهجة منطقية حارة يجرونها على ألسنة شخصيات رواياتهم ابتغاء الإفصاح، ولييسروا على القارئ أمر الانتقال من النتائج إلى الأسباب وبالعكس من غير ما يضطرب المنطق اضطرابة عنيفة، وليقيموا صلة ما بين ما هو معقول ومألوف صدوره عن هذه الشخصيات، وبين ما هو غير معقول وناب من بادرات طارئة وصور ذهنية معقدة في تواردها
وهذه الحالات النفسية المعقدة لدى الرومانسيين، تمتاز عن مثيلاتها لدى الاتباعيين بأنها تكون عادة مبطنة بفورات نفسية طارئة. ومرجع هذا كما هو معلوم، أن الأدب الرومانسي أساسه القلب، فهو يترك الحبل على الغارب للتيارات العاطفية دون أن يمد بينها وبين اعقل الراجح شكيمة ولجاماً، وهذا بخلاف ما هو الأدب الاتباعي
لدى الواقعيين والطبعيين
وفي أواخر القرن الثامن عشر، نزل بهذه القاعدة في علم النفس الكثير من الهزال والتعقيد، فأخذت تتحور على أساس نزعة فكرية جديدة، سداها ولحمتها أن الكائن الإنساني ليس فقط
ما يريد أن يكونه، أو ما تقضي إرادته أن يستقيم عليه، لأن العناصر المادية تجري تأثيرها على جسده بلا انقطاع. فهذا الكائن الإنساني خاضع لمؤثرات المناخ والبيئة لا بجسمه فحسب، بل وبروحه أيضاً، وما يتأثر به الجسد تتأثر به النفس. وما دام الأمر كذلك - في زعمهم - فواجب أن ننظر إلى النفس وخلجاتها من وجهة نظر علمية خالصة، وذلك بأن تخضع خلجات النفس وبادراتها ولمعاتها إلى التعليل العلمي الصرف
هذه النزعة لم تكن غير صدى لسيطرة النزعة العلمية والتحليلية في القرن التاسع عشر في فرنسا وإنجلترا، فوجدت نظريات الوراثة والبيئة مجالاتها الواسعة فيما تخرجه أقلام الكتاب القصاصين والمسرحيين، وهكذا تمت غلبة المحسوس على غير المحسوس في كل شيء، وأصبح علم النفس خاضعاً لآلية (المعمل) يحلل ويجزئ، وما يحلل ويجزئ غير مظاهر المادة. وسيطرت الواقعية على ألوان الأدب والفنون، وتبعتها فيها (الطبعية) وهي لون متطرف من الواقعية
ماذا كان يعمد إليه الكتاب والواقعيون والطبعيون وهم يعالجون في رواياتهم تحليل شخصيات ملقحة بالغموض تنتابها تعقيدات نفسية؟
وقد يحسب القارئ أن هذه الحالات النفسية المعقدة قد انتهى زمانها بعد أن أخذ العلم يحلل كل شيء ويعلل. لا شيء من هذا لم يحدث، لأن هذه الحالات عريقة في النفس البشرية التي لم تتغير ولن تتغير، وما كانت هذه النزعة العلمية التحليلية لتحجز الكتاب عن تقديم هذه المخلوقات المعقدة التي تبدو كأنها ظاهرات عجيبة، نظراً إلى أنها تعيش بيننا ويُحس بها، ولأن القصة والمسرحية من مجالات تسجيل النفس على اختلاف ضروبها وتعقد حالاتها. للمناخ والبيئة تأثير لا ينكر أحياناً على بعث كوامن النفس واصطخابها، فهما عاملان يساعدان أحياناً على إحياء التناقض في الطبع الإنساني الواحد، ويمهدان لتشقيقه وفتح فجوات في كيانه. ولا شك في أن المؤثرات التي تنزل بالجسم وتنال منه، من شأنها أن تشق للنفس مسارب تنقلت منها في وثبات لا يمكن للمنطق الخالص أن يعللها ويفسرها.
نعيد سؤالنا فنقول: ماذا كان يعمل هؤلاء الكتاب، كتاب الواقعية (والمعمل) إذا عرضت لهم تلك التعقيدات النفسية؟
لم يكن يعمدون إلى الصمت ولا شك. لقد كان أسلافهم الاتباعيون والرومانسيون - وهم
أقل ادعاء للعلم منهم، ولم يبلغ العلم في زمنهم ما بلغه في الواقعية - يعللون هذه الظاهرات العجيبة تعليلاً منطقياً ويفسرونها تفسيراً عقلياً متواضعاً، فكيف يلزم الصمت الكتاب الواقعيون والطبيعيون، ربائب العلم والنظريات المادية، وقد تطاول العلم في زمنهم على كل شيء يحاول تعليله وتفسيره!! كان الواقعيون يتحدثون كثيراً ويفسرون طويلاً، لا على أساس المنطق والعقل، ولكن على أساس النظريات العلمية، يتعلقون بأذيال العلم ويحملونه ما لا يقدر عليه، ليقرروا بعد ذلك - وهم يلهثون - أن هذه التعقيدات والظاهرات الإنسانية العجيبة، إنما هي حركات انعكاسية للنفس نجمت عن تغيرات واضطرابات عضوية في الجسم خاضعة لقوانين المادة.
أفلاس المعمل
ولم يمض زمن طويل حتى خففت المادية من غلوائها بعد أن عجزت النظريات العلمية عن تفسير كل شيء، وأفلس (المعمل) بعد أن أنهكه تحليل المركبات، وصارت تلك التفسيرات التي يصدرها الكتاب الواقعيون والطبيعيون لا يؤبه لها، بل غدت عقيمة عقم العقل نفسه في النفاذ إلى جوهر الأشياء واستبطان حقائقها. فاشرأبت النفوس إلى مطالعة وسائل جديدة غير الوسائل السالفة تقدم إليها ما ينقع غلتها في استطلاع المجهول الغامض في حناياها
الرمزية
وكانت يقظة للنزعة الرمزية من جديد، ولكن على غير غرار الرمزية الدينية (الصوفية) فقامت لها حركة بدأت في شمال أوربا وانحدرت إلى الجنوب، وهذه الحركة في صميمها ليست إلا مظهراً من مظاهر المزاج الأدبي العام للتحرر من (واقعية) الأدب، ووثبة من وثبات الذهن إلى ارتياد آفاق جديدة للكشف عن الغامض في النفس وحل أحاجي تلك التعقيدات النفسية التي سبق أن تحدثنا عنها.
شوبنهور وهارتمان
وجاءت تعاليم الفيلسوفيين شوبنهور وهارتمان من ألمانيا فأضافت جديداً على هذه الحركة التحريرية، فقد حاول هذان الفيلسوفان أن يقررا أن العالم لا يسيره الذكاء، بل هو خاضع في سيره إلى نوع من الإرادة تعمل وتعمل من غير أن تفسر عملها ومن غير أن تأبه
لقواعد العقل والمنطق. وهذه فكرة من فلسفة ما وراء ولا شك. ولكنها تحمل في طياتها عناصر جديدة شام فيها الأطباء وعلماء النفس آفاقاً جديدة فعقدوا عليها فصولاً وبحوثاً أسفرت عن جديد يصح أن يتخذ مفتاحاً للمغلق الغامض في النفس
خطوات جديدة
العالم تسيره قوة من غير أن تفسر عملها ومن غير أن تعبأ بقيود العقل والممنطق، والنفس جزء من هذا العالم. . .!!
من هنا يبدأ الخيط الذي رسم الاتجاه الجديد لعلم النفس
فمن اكتشافات العلامة الفرنسي (شاركو) بين 1870 و1890 في التنويم المغنطيسي وإثباته أن في الاستطاعة أن يسكب المنوم في نفس الوسيط آراء وواردات لم يكن لها أصل في ذهنه الواعي ويوجهه توجيهات لم يكن له قبل بها من قبل. . .
إلى ما كتبه العلامة (ريبو) عن أمراض الذاكرة، وذلك في ما بين 1882 و1885 وتدليله على أنه تسكننا حافظات لا نحسها - إذ ليس لنا بها علم من قبل - ولكنها تعيش فينا متحوية منطوية على نفسها، وسرعان ما تنسرح وتنشر مطاويها فينا على أثر مرض طارئ؛ وكيف أن كائناً إنسانياً عادياً متماسكاً ليس في مظهره شذود ما قد ينقلب فجأة شخصاً آخر، شخصاً عادياً بدوره، ولكنه لا يذكر شيئاً عن الشخص الأول؛ وكيف أن هذا الكائن الإنساني قد يجد من جديد شخصه الأول الذي كان يعيش ولا شك في زاوية من عقله اللاواعي أو الباطن، وذلك بمجرد اختفاء الشخص الثاني. . .
إلى ما انتهى إليه (بيير جانيه) في دراسته للإيهام وللاضطرابات العصبية وأمراضها، من أن هناك ما يحمل على الاعتقاد بأنه يمكن أن تعيش في نفس كائن إنساني واحد شخصيات عديدة وتيارات متباينة قد تتدخل في بعضها أحياناً وتختلط مدومة مدوية!
العقل الظاهر والعقل الباطن
وقام العلامة (سيجموند فرويد)(1856 - 1939) النمساوي وأنشأ فصولاً جديدة في التحليل النفسي تعرف باسم أرجع فيها كل خليقة من الخلائق، وكل عارضة من عوارض النفس إلى الغريزة الجنسية، وقرر أنه يسكن النفس البشرية ذاتان، الأولى طبعية بدائية
عارية من صقل جبلت وفاقاً للطبع المركب فينا، والأخرى مختلفة اختلافاً بفعل التثقيف والتهذيب، ومنسقة تنسيقاً صناعياً بيد الاجتماع والمتواضع عليه. ثم استطرد البحث ليقول إن عقلنا - وهو واعيتنا الظاهرة - لا يجيب غير ما يصدر من الذات الأخرى التي هي من صنع التثقيف والتهذيب، ولكن قد يقع كثيراً أن تتغلب الذات البدائية العارية من كل صقل وتنسيق فتجمح النفس وتبدو منها بادرات طارئة ي القول أو الفعل تبدو غريبة معقدة، وتلمع في النفس لوامع خاطفة لا تعلل ولا تفصل!
برجسون (1859 - 1940)
وانبرى الفيلسوف الفرنسي برجسون يشن حرباً شعواء على النزعة الآلية والمادية وليدة العلم و (المعمل)، ويخطئ من يحسب الإنسان آلة صماء في يد القوانين المادية، وهاجم الذكاء والمنطق لينادي بوجود عنصر جديد في النفس أسماه ' به أكثر مما نعيش بذكائنا ومنطقنا، أي بالعقل. ثم حدد العقل الظاهر أو الواعي بما مفاده أن هذا العقل الظاهر ليس إلا جزءاً من كياننا النفسي العام، ودوره عملي خالص لا يتجاوز إلقاء ضوء مزدوج على أطراف الأشياء والتي يجب أن نعملها، وعلى نواحي الفكر التي تتولاها، وأنه ليس لهذا العقل الظاهر أن يفسر الأشياء وأن يفصح عنها. ثم قرر برجسون بعد ذلك: أننا نتجاوز أحياناً في أعمالنا الحدود والمعالم التي يقيمها العقل الباطن الظاهر، وأننا خاضعون في تصرفاتنا إلى العقل الباطن، باعتبار أنه النبع الخفي البعيد الغور المترامي الأطراف الذي ينساب منه في خيط دقيق ماء رقراق، هو عقلنا الظاهر!
كل هذا مع ما جاء على غراره جعل الحياة الباطنة تتغلب على الحياة الظاهرة؛ فأخذ علم النفس يتجه اتجاهاً جديداً، يتخلص في أن العقل الواعي إنما هو شيء ظاهر سطحي لشيء باطن عميق قابع في أغوار النفس؛ وأنه إذا أردنا أن نبحث عن تفسيرات تلك التعقيدات النفسية من بادرات طارئة وواردات غربية فلنطرق باب العقل الباطن حيث لا سلطان للعقل والذكاء، ولا صوت للمنطق والإرادة، وحيث الغرائز تتشابك وتفور
زكي طليمات
على هامش بحوث المجلس الأعلى
رسالة التعليم الالزامي
للأستاذ محمد كامل حته
لعل من أهم عوامل التعثر والاضطراب في التعليم الإلزامي
ما يكتنف فكرته وأهدافه من البلبلة والغموض. ونحن نتقدم
بهذه الكلمة في بيان رسالة هذا التعليم إلى المجلس الأعلى
بمناسبة تناوله إياه بالبحث في اجتماع اليوم
لم يكن عبثاً - وقد خرجت الأمة المصرية في أعقاب الحركة الوطنية ظافرة بالحرية والدستور - أن ينص هذا الدستور على أن يكون التعليم الأولي إلزامياً بالمجان لجميع الناشئة من بنات وبنين؛ لأن هذا النص على إلزامية التعليم، وعلى نشره بين جميع طبقات الشعب بالمجان، هو أول اعتراف بحق هذا الشعب في أن يحيا حياة جديدة فيها ما يبثه التعلم في النفوس من معاني الحرية والكرامة والرقي، وفيها الضمان الوحيد على أهلية هذا الشعب لما أحرزه من النتائج الوطنية، وتثبيت دعائم النهضة القومية، ومواصلة الجهود لتحقيق كل أسباب العزة وشوارد الآمال. . .
لهذا كان مشروع التعليم الإلزامي في مصر أهم مشروع تمخضت عنه النهضة الوطنية الحديثة، لأنه مشروع تتصل أسبابه بجميع أفراد الشعب، ولأنه الدعامة الأولى لكل إصلاح ينتقل بالأمة من حياة الجهل والخمول إلى حياة مستنيرة عاملة، تستقيم بها الأوضاع الاجتماعية وتتعاون فيها الجهود على النهوض بجميع مرافق الإصلاح.
لقد أطبقت ظلمات القرون ومظالم الأحداث على آفاق البلاد حقباً متطاولة، فإذا هذا الوطن الذي أنبت أول حضارة على ظهر الأرض، والذي كان قبلة العالم في علومه وفنونه وآدابه، والذي يفيض نيله عسجداً مذاباً، وتخرج تربته من كل الثمرات، والذي تخلق طبيعته الساحرة بطولة الأجسام والعزائم والعقول - إذا بهذا الوطن الذي توفرت فيه كل أسباب العظمة والخلود، تتدهور الغالبية العظمى من أهله في مهاوي الجهل والفقر
والمرض والانحلال، تدهوراً يبعث على الحسرة البالغة والأسف العميق!
وليس من شك في أن العامل الأول الذي أدى إلى هذه النتائج المؤلمة، والذي ترتبت عليه العوامل الهدامة الأخرى، إنما هو الجهل الذي مني به السواد الأعظم من الشعب، فعرضه لغيره من الآفات الاجتماعية التي تنخر في كيانه وتحول بينه وبين كل تطور محمود
فالتعليم الإلزامي - إذاً - هو العلاج الحاسم الذي يجتث هذه الآفات من أصولها، ويمد جسم الأمة بالقوة التي تقاوم بها آثار هذه الآفات، والمناعة التي تقيها شرور العدوى والانتكاس
بل هو الشعاع الأول المنبثق من فجر النهضة إلى أعماق الريف السحيق، يخترق في سبيله الظلمات الداجية والضباب المركوم، حتى يصل إلى تلك المجاهل النائية، فتتفتح له الأجفان المطبقة، وتستجيب له القلوب الصماء، وما يزال هذا الشعاع يقوى وينتشر وما تزال العيون تتفتح والقلوب تستجيب، حتى تتبدد تلك الظلمات وتستبين القافلة معالم الطريق. . .
ومن هنا نستطيع أن نفهم رسالة التعليم الإلزامي في مصر، على صورتها الصحيحة ومعناها البعيد. فليست هذه الرسالة قاصرة على محو الأمية فحسب - كما يريد البعض أن تكون - لأن مكافحة الأمية ميدان محدود بالنسبة إلى الميادين الرئيسية الأخرى، ولأن قصر هذه الرسالة على هذا الميدان عمل آلي تافه الأثر ضعيف النتائج، لا يبث في نفوس الناشئة فكرة سامية، ولا يمدها بتوجيه سديد
بل إن في هذا الحد من رسالة التعليم الإلزامي على هذا الوجه أضراراً عقلية واجتماعية هي شر من الأمية والجهل؛ لأنك إذا وضعت في يد الناشئ مفتاح القراءة والكتابة، ولم تصب في عقله المقاييس الصحيحة للحياة، ولم تملأ أحاسيسه بالعواطف اللازمة لسعادة المجتمع - كان هذا المفتاح الذي في يده يدور بوحي عقله القاصر المضطرب، وإلهام غرائزه المستعرة العارمة، فلا يفتح على نفسه وعلى المجتمع الذي يعيش فيه إلا أبواب الشرور. . .
وإنما تمتد رسالة التعليم الإلزامي إلى آفاق أبعد من ذلك غاية وأسمى غرضاً، فهي ترمي إلى تكوين الجيل على أساس قوي من الوطنية المستنيرة، والإدراك لحقائق المجتمع، والحرص على حقوقه الاجتماعية، والنهوض بأعبائه الثقال في مكافحة ما يندس في كيانه
من الآفات، ومسايرة القافلة الإنسانية في تنقلها السريع.
وإلا فما قيمة تلك النتائج التي أحرزها الشعب في جهاده الطويل، إذا لم يكن هذا الشعب قد تهيأ للانتفاع بها على الصورة التي تبدو فيها آثار التطور واضحة ملموسة؟
وما قيمة تلك المبادئ التي كفل بها الدستور الحقوق والحريات، إذا كان الشعب عاجزاً عن تمثل هذه المبادئ وتطبيقها في حياته الفردية والاجتماعية؟
إننا بهذا الاتجاه السديد في فهم رسالة التعليم الإلزامي، نستطيع أن نتبين السر فيما نشكوه من العيوب في نواحي السياسة العامة. ونستطيع أن نعلل الفشل الذي يلازم أكثر مشروعات الإصلاح في هذه البلاد، لأن هذه المشروعات لم يسبقها إعداد التربة الصالحة لنموها وازدهارها، وإيجاد الأيدي الشعبية القوية التي تقوم على تحقيق هذه المشروعات تلك هي رسالة التعليم الإلزامي في مصر، مستمدة من روح الدستور الذي وضع للمواطن المصري أرقى مبادئ السياسة والتشريع، ومستلهمة من حاضر هذا الوطن المفتقر إلى كل إصلاح، المشرئب إلى مستقبل وثيق الصلة بماضيه المجيد
(القاهرة)
محمد كامل حته
15 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي أدورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
الفصل الخامس
الحياة المنزلية
الآن - وحسبنا ما نظرنا في حالة مسلمي مصر الأخلاقية والاجتماعية - نستطيع أن نلقي نظرة على حياتهم المنزلية وعاداتهم المألوفة. ولنبدأ بالطبقتين العليا والوسطى
يطلق على رب العائلة أو من يبلغ سن الرجولة إذا لم يكن خادماً أو خاملاً لقب (شيخ) احتراماً وتشريفاً. والمعنى اللغوي لكلمة شيخ هو عجوز؛ ولكن كثيراً ما تستعمل مرادفة لفظة (سيد)، وإن أطلقت بصفة أخص على رجال الدين وأولياء الله. ويقال للشريف (من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم (السيد) أياً كان منصبه. وكثير من الأشراف يشتغلون خدماً وزبالين وسائلين ومع ذلك يلقبون بالسيد، ويميزون بالعمامة الخضراء؛ إلا أن غالبهم، يفضلون على هذه الامتيازات لقب الشيخ والعمامة البيضاء. ويسمى من قام بفريضة الحج (الحاج). على أن هناك جملة حجاج، مثل الأشراف، يفضلون لقب الشيخ. ويطلق على العقائل بوجه عام لقب (الست)
وقبل أن أصف عادات رب العائلة يجب أن أشير إلى الطبقات المختلفة التي تتكون منها العائلة: (الحريم)، أي نساء المنزل، ولهم غرف خاصة بهن يطلق عليها، كما يطلق على النساء، الحريم ولا يسمح للرجال بدخولها ما عدا رب العائلة وبعض الأقارب الأدنين والأطفال. ويتألف الحريم من زوجة أو أكثر، ثم من الجواري. والبيض من الجواري والحبشيات أو نساء الجلا يقتنين على العموم للتسرى، وأما السود منهن فيتخذن للخدمة، وأخيراً الخادمات الحرائر. أما التابعون الذكور فهم عبيد سود أو بيض، ثم خدم أحرار وهم
الأكثرية. وقلما يبيح المصريون لأنفسهم ما أباح الدين من تعدد الزوجات. ولا يزال عدد من يعاشر أكثر من امرأة بالزواج أو التسري قليلاً حتى أن أغلب الذين يكتفون بزوجة واحدة لا يتسرون ليتمتعوا بالهدوء المنزلي، إذا لم يكن لسبب آخر. ولكن بعضهم يفضل اقتناء جارية حبشية للتسري على القيام بالنفقات الزوجية المرهقة، ويجعل لخدمتها جارية سوداء أو خادمة مصرية.
ويندر أن يحتفظ الرجل بزوجتين أو أكثر في المنزل نفسه، وإلا خصص لكل منهن غرفة متميزة. ويقوم على خدمة رب الدار وضيوفه خادم أو أكثر، ومنهم خادم يسمى (سقا)، ولكنه على الأخص يقوم على خدمة السيدات وهن خارج المنزل فقط، ثم البواب وهو يجلس دائماً على باب المنزل، والسائس للاعتناء بالاصطبل. وقلما يمتلك المصريون مماليك إذ أن أغلبهم في حوزة أغنياء الترك. ويندر أيضاً أن يكون لأحد غير عظماء الأتراك أغاوات. ويفتخر أغنياء التجار المصريين عندما يسير في ركابهم، أو يحمل شبكهم، عبد أسود.
يبكر المصري في نومه وفي استيقاظه، وهو ينهض للصلاة قبل الفجر، وبينما يقوم بفروض الوضوء والصلاة تجهز له امرأته أو جاريته القهوة، وتحشو له شبكه تبغاً وتقدمهما له حين ينتهي من فروضه الدينية
وكثير من المصريين لا يتناولون شيئاً قبل الظهر غير القهوة وتدخين الشبك؛ وبعضهم يتناول أكلة خفيفة في ساعة مبكرة. ويتكون الفطور من الخبز والبيض والزبد والجبن والقشدة أو لبن الزبادي. . . الخ أو فطيرة تؤكل وحدها أو بالعسل يصب فوقها أو بالسكر. ومن الألوان المألوفة في الفطور الفول المدمس، وهو يدمس بإنضاجه على مهل ليلة بطولها في إناء من الفخار يدفن إلى رقبته في نار الفرن أو الحمام بعد أن تسد فوهته سداً محكماً. ويؤكل الفول بزيت بذر الكتان أو بالزبد، وقد يعصر عليه قليل من الليمون. ويباع هذا الفول في أسواق القاهرة وغيرها من المدن. ويتكون طعام الفقراء من الخبز (والدقة) وهي خليط من الملح والفلفل مع الزعتر أو النعناع أو الكمون وأحد المواد الآتية أو أكثرها أو جميعها: وهي الكزبرة والدارصيني والسمسم والحمص. ويصنع الخبز مستديراً مسطحاً، بطول الشبر تقريباً وفي عرض الأصبع أو أقل
ويتمتع بالتدخين والقهوة كل من يستطيع لنفسه هذا الترف، في الصباح المبكر وأحياناً أثناء النهار. وهناك كثيرون يندر أبداً أن تراهم بدون شبك، إما بين أيديهم وإما مع الخادم. ويجعل المدخن، لاستعماله اليومي، دخانه في كيس من الصوف أو الحرير أو المخمل، يضعه في عب قفطانه، وكثيراً ما يكون معه كيس آخر به الزناد والصوفان.
ويبلغ طول قصبة التدخين (وأسماؤها عديدة منها الشبك والعود الخ) أربعة أقدام أو خمسة، أقصر من ذلك والبعض الآخر أطول بكثير. وما يستعمل عادة في مصر يصنع من خشب (الجرمَشق) وأكثر طول القصبة، من الفم إلى ثلاثة أرباعها، يغطى بالحرير الذي تحد طرفيه سلوك ذهبية محبوكة بالحرير الملون أو تحدهما ماسورتان من الفضة المذهبة؛ ويتدلى من الغطاء الحريري في الحد اسفل شرابة حريرية، وكان هذا الغطاء مخصصاً بادئ الأمر ليبلل بالماء فيبرد بالتبخر الشبك وبالتالي الدخان. ولكن الشبك لا يغطى إلا إذا كان عتيقاً أو قبيح الشكل. وكثيراً ما يستعمل أيضاً الشبك المصنوع من خشب الكرز خصوصاً في الشتاء وهو لا يغطى أبداً. ولا يبرد الدخان في شبك الكرز صيفاً مثل ما يبرد في الشبك السابق ذكره. أما (الحجر) فهو من الآجر؛ وأما الفم أو (التركيبة) فيتكون من قطعتين أو أكثر من الكهرمان الفاتح اللون، يصل ما بينهما زخارف من الذهب المرصع بالمينا والحجر اليمان واليشب والعقيق أو غير ذلك من الأحجار الكريمة أو المعادن النفسية. والفم أثمن ما في الشبك، وقد يرصع بالماس. ويبلغ ثمن الشبك الأكثر شيوعاً بين الطبقة الوسطى من جنيه إلى ثلاثة جنيهات إسترليني. ويوضع فوق الشبك أنبوبة من الخشب كثيراً ما تغير كلما تلوثت بزيت الدخان. والشبك ذاته يتطلب النظافة كثيراً، وينظف بألياف الكتان مشدودة في سلك طويل. ويعيش كثير من فقراء القاهرة على تنظيف الشبك
ويدخن أفراد الطبقة الراقية في مصر تبغاً له عطر لطيف لذيذ، يجلب أكثره من جوار اللاذقية في سوريا. وأحسن الأصناف (الدخان الجبلي) يزرع على تلال هذه المدينة. وهناك صنف قوي ينسب إلى مدينة صور، وهو الدخان الصوري، يخلط أحياناً بالصنف السابق ويستعمله أفراد الطبقة الوسطى. وعندما يدخن المصريون أو الشرقيون يسحبون نفساً طويلاً، فيصل كثير من الدخان إلى الرئة، ويعبرون عن التدخين عادة بشرب الدخان
أو شرب التبغ. والقليل يبصق عندما يدخن. ولم أر أحداً فعل ذلك إلا نادراً جداً.
ويستعمل بعض المصريين الشبك الفارسي الذي يمر فيه الدخان خلال الماء، وهذا النوع يستعمله عادة أفراد الطبقة الراقية ويسمى (نارجيك) لأن الوعاء الذي يحوي الماء جوزة هندية (واسمها بالعربية نارجيلة) وهناك نوع آخر ذو وعاء زجاجي يسمى (شيشة) وكلا النوعين له أنبوبة طويلة لينة. انظر (شكل 33) وهناك نوع خاص من التبغ الفارسي يسمى (تنباك) يستعمل في شبك الماء. وهو يغسل أولاً عدة مرات ويجعل بعد ذلك حجر الشبك وهو رطب، ثم يوضع عليه جمرتان أو ثلاث من الفحم. وللتنباك عطر لطيف مقبول. ولكن شدة استنشاق الدخان في هذا النوع من التدخين يضر الرئة الضعيفة. ومدخن الشبك الفارسي يشد الدخان إلى رئتيه مثل ما يستنشق الهواء الخالص. وترجع كثرة أمراض الكبد في بلاد العرب إلى استعمال النرجيلة، كما أنه في مصر يتألم الكثيرون جد الألم بسبب هذا. وهناك نوع يسمى (جوزة) يشبه النرجيلة إلا أن أنبوبته عصا قصيرة بدلاً من أنبوبة النرجيلة القابلة للانثناء، ويستعمله رجال الطبقة السفلى لتدخين التنباك والحشيش.
(يتبع)
عدلي طاهر نور
ليالي النيل
للأديب مصطفى علي عبد الرحمن
يا ليالي النيلِ في ظلِّ الأماني الزُّهْرِ عودي
وأَعيدي الصفوَ والأنسَ لعينيَّ أعيدي
أنا ما زلتُ على عهدي فهلْ صُنتِ عُهودي
حيث غنتنا الضفافُ الحالماتُ
…
أغنياتٍ ردَّد القلبُ صداها
شاعتْ الفرحةُ فيها والحياةُ
…
وانتهى البشرُ إلينا وتناهَى
والهوى يَعمرُ رُوحيْنا بهاءَ وضِياءَ
والسنا يغمرُ قلبينا فُتوناً وصفاء
والمنى تملأُ دنيانا أماناً ورجاء
ذاك عهدٌ صنته بين ضلوعي
…
أتُرى تذكر عهدي؟ أتُراها
أم تناستْ سحر أيامِ الربيع
…
ناديات لألأ الكون نَدَها
وضفافُ النيلِ في ظلِّ الأماني البيضِ سكرى
حوّم الطيرُ حوالَيها وفاض الكون بشرا
ولنا الموج تغنى وبنا الزورقُ أسرى
نحو نورِ الخلدِ ترعاه المنى
…
لحظات أنا والعمرُ فداها
ليت يا زورق لم ترجع بنا
…
قِبْلةَ الشطآن يوما فنراها
ونذيرُ البين يسعى بين آمالي وبيني
وافترقنا للقاء ورجاء وتمنى
وأتى قلبيَ يسعى للتلاقي بيد أنّي
لم أجد في الشط ما يشفي غليلي
…
أين أفراحي وكأسي وطِلاها
وليالي النيل في ظلٍ ظليلِ
…
ليتها عادت لنحيا في سناها
طال شوقي وحنيني وهوى نفسي فعودي
وأعيدي الصفو والأنسَ لعينيَّ أعيدي
أنا ما زلت على عهدي فهل صنت عهودي؟
(الإسكندرية)
مصطفى علي عبد الرحمن
فوزية
(هي فتاة وافاها القدر المحتوم يوم نجاحها في الامتحان)
للأستاذ محمد برهام
عَدَت المنون على الشباب الباكر
…
فمحت بشاشات النجاح الباهر
نبني أمانينا العراض على غد
…
وغد على راجيه أشأم طائر
ظهرت نتيجة الامتحان وأنت في ال
…
نزع الأخير، ورهن موت قاهر
فوقفت أرقب والصحيفة في يدي
…
فتك المنية بالملاك الطاهر
الرقم يوحي لي التسبم للمنى
…
والداء يوحي لي بدمع زاخر
تلميذتي ما كنت غير غمامة
…
برقت، وإلا لمحة في الخاطر
الحفلة الكبرى التي سنقيمها
…
لنجاحك اندثرت كأمس الدابر
لبس الممات إليك ثوب مهنئ
…
ودهاك ضنّاً بابتهاج الظافر
هلا تمهل بعد فوزك مدة
…
وأتاك من بعد انفضاض السامر
كم حذروك إذا خرجت كأنما
…
ضمنوا النجاة بقولهم لك حاذري
يا زهرة ما كاد ينشر طيبها
…
حتى حرمنا من شذاها العاطر
نامي استريحي قد تعبت فلم يعد
…
أحد يقول لك اسهري أو ذاكري
محمد برهام
البريد الأدبي
هنأ وهناء
استقريت ما كتب في (الرسالة) في تحقيق هذه الكلمة فرأيت الأستاذ الجليل وحيد يعزو كلمة (هناء) بالمد إلى الصحاح للجوهري، وقد رجعت إلى نسخة مخطوطة من الصحاح عند صديقنا الأستاذ أحمد عبيد (صاحب المكتبة العربية في دمشق) لا نظير لها فيما أعلم، وهي مكتوبة سنة 850هـ كتبها محمد ابن يوسف الصلتي ومضبوطة بالشكل الكامل، ومنقولة من
نسخة بخط ياقوت الموصلي (أنظر ابن خلكان ومقدمة الهوريني للصحاح) وفي آخرها ما نصه (بلغ العرض بنسخة نقلت من نسخة علي بن عبد الرحيم بن الحسن لسلمي الرقي المعروف بابن العصاد (أنظر ترجمته في بغية الوعاة) وذكر أنه عارض بها عدة نسخ منقولة من خط أبي سهل الهروي النحوي (أنظر البغية) الذي نقله من خط المصنف وذكر أن عليها ما هذه صورته: عارضت هذا الجزء والذي قبله من كتاب الصحاح بالأصل المنقول عنه الذي بخط أبي سهل الهروي الذي نقله من خط المصنف واجتهدت في تصحيحه واستدركت ما وقع فيه من السهو والتحريف عما عليه أكثر أهل اللغة. وكتب يحي بن علي الخطيب التبريزي (قال ياقوت) وهذه النسخة المعارض بها هذه النسخة فيها أيضاً شكوك كثيرة وكلام كأنه غير عن باقي النسخ وقد ذكرت أكثر ذلك في حواشي هذه النسخة الخ. . .
والذي وجدته في هذه النسخة (هَنْأ وهِنْأ) بالفتح والكسر في غير مد، ومن ذلك يظهر أن الذي في النسخة المطبوعة تطبيع فليصحح.
علي الطنطاوي
غبر لا عبر
تتبعت ما كتبه الأستاذ الكبير (أ. ع) من أبحاث لغوية قيمة حول كلمات شائعات على أقلام كتاب هذا العصر ومنهن كلمة (عَبر)، وتتبعت كذلك احتجاج الأستاذ رضوان لهذه الكلمة واستشهاده ببيت سواد بن قارب.
فشمرتُ عن ذيلي الإزار وأرقلت
…
بي الدعلب الوجناء (عَبْر) السباسب
ثم ما نشأ أخيراً من محاجات حول إعرابها، ولا يسع المتتبع لهذا لبحث إلا أن ينكر هذه الصناعة النحوية التي تأباها طبيعة هذه الكلمة؛ وإلا أن يبحث عن رواية أخرى تساوق ذوق اللغة العربية. وأقول إني عثرتُ على هذه الرواية في بعض المراجع؛ ففي تفسير ابن كثير في الجزء السابع ص486 رُوي هذا البيت لسواد بن قارب في قصيدة جاءت نهاية لقصة تتعلق بإسلامه، ونحن لا يعنينا صحة هذه القصة وإنما تعنينا صحة هذا اللفظ الذي ورد في البيت هكذا:
فشمَّرتُ عن ساقي الإزار، ووسَّطتْ
…
بي الدّعلبُ الوجناءُ (غُبْر) السباسب
ولا أستبعدُ أن تكون رواية (عَبْر) مُصحفة عن هذه الرواية (غبر) وقد قال صاحب لسان العرب في مادة (غبَر) بعد كلام كثير في تأويل حديث أبي هريرة (بيننا رجل في مفازة غَبراء) إن الغبراء هنا هي الأرض التي لا يهتدي للخروج منها؛ ولا شك أن (غُبر) جمع غبراء
وإذا كانت القصة التي وردت فيها القصيدة قد وضعت سواد ابن قارب هذا في الهند وكلفته أن يُسرع إلى مكة، أدركنا أي سباسب غبرٍ أوجبت عليه اجتيازها
وبعد فأرجو أن تكون هذه الرواية قد حلت ما بين الأستاذين من ألغاز النحو وأحاجيه
(دار العلوم)
محي الدين صابر محمدين
التشريع المحكم والدستور الخالد
كنت كلما طالعتنا الرسالة الزهراء بشمائل وعادات المصريين المحدثين (في النصف الأول من القرن التاسع عشر) أميل روحاً وحساً ومعنى لأعرف من عادات قومي ما أرخه مستشرق أجنبي ونقله إلى أصحابه أستاذ مصري. . .
ولكني عندما ما أدركت الفصل الرابع - في الحكومة - وقرأت طرفاً منه شعرت أني انتقلت من واد غير ذي زرع إلى رياض ذوات أفنان متمشياً مع المؤلف (أو المترجم) بقلب صادق وحس مرهف كأن فيه ضالة منشودة. حتى إذا ما فرغت سرحت بأماني
وآمالي. . .
إنه قرن مضى. . . كان فيه مجلس العلماء يثير الرهبة والاحترام في نفوس الحكام الترك والمماليك ويحد من طغيانهم ثم فقدت - الآن - هذه الهيئة نفوذها على الحكام إلا قليلاً
هذا - وايم الله يا أقطاب الأزهر المعمور - كلام المستشرق (أدوارد وليم لين) وليس كلامي ولا كلام أي مصري واسألوا في ذلك الأستاذ عدلي طاهر نور. . .
وايم الحق إنه ليقطع أنياط القلوب أن نفرح بمادة الدستور التي تنص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام ثم نغضي عن تنفيذ شرائعه وأحكامه حتى فقدت هيئتنا العلمية كلمتها المستمدة من نور الله ووحي الرسول (ص) إلا ما تقوم به من وعظ
إن مدنيتنا ليست في غير الرجوع إلى الوراء. فهل آن لنا أن نستبدل الوضعية بالسماوية، والغرض الأسفل بالطموح الأعلى، وعرض الدنيا بباقي الآخرة حتى تكون لنا سابق رهبتنا
على أني لا ألبث أن أرى سحابة منقشعة أمام شمس الأمل الضاحية حين أذكر أن في بلدنا مصلحين ومجاهدين يتكلمون ويعملون بقلوب مؤمنة وصدور تشع منها أقباس قدسية تبشر بمستقبل سعيد.
هذا هو الأستاذ الجليل الزيات يسلط - حتى على مجلته - إشعاعه الروحي الكريم، فيفرد منها عدداً للهجرة، ثم يقول قالته الكريمة:(ذلك محمد يا زعماء اليوم وهؤلاء أنتم، فهل تحسون بينكم وبينه صلة، أو تجدون بين سياستكم وسياسته مشابهة؟)
وهذا هو الإيمان يتفجر من قلب كبير، فينطلق فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر - وهو علم الدين المرفوع في أيامنا هذى - ويقرر أمام مولانا الملك المفدى ووزرائه أن القرآن تشريع محكم ودستور خالد، وأنه لا سعادة بدونه غير ما له من مأثور القول وسديد الجهاد، كلأه الله بالنصر القريب!
وهذه هي (الرسالة) الزهراء تقول بلسان أحد كتابها الأفاضل: (فلنتبع المنهج الذي ألف به الإسلام بين المسلمين، ولنطبق سياسته الحكيمة الرشيدة من جديد، فسترون المعجزة تتجدد، والرجاء يتحقق، والحياة تبسم لنا، والمجد يصافحنا، بعد عبوسها وجفائه)
وهذه هي (رابطة الإصلاح الاجتماعي) برياسة الدكتور هيكل باشا تقر في أول قراراتها أن (القرآن) تشريع سعد العالمين. . . الخ، ثم تطالب بالعمل به.
وفي إمامنا الأكبر والمعبرين عن شعورنا باكورة جهاد يتوالى بعدها الثمر داني القطوف، فنسعد حكومة وشعباً. . .
ولي إلى هذا الموضوع عودة، إن تفضلت (الرسالة) الغراء فسمحت. . . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(المحلة الكبرى)
حلمي إبراهيم النبوي
في ميزان الشعر
يقول الدكتور إبراهيم ناجي في قصيدته (بين الشاعر والريح) في عدد مضى من الرسالة:
هي في الغيب لقلبي خُلقتْ
…
أشرقت من قبل أن تشرق شمسي
فعلى تَذكارها أطبقتُ عيني
…
وعلى موعدها وَّسدت رأسي
وفي البيت الثاني خطأ عروضي خشيت أن يكرره الشاعر في قصائد أخر، فيكدر ذلك من صفاء شعره. إذ البيت من بحر (الرمل) وعروض هذا البحر لا تكون إلا:
1 -
محذوفة وأضربها ثلاثة: محذوف، صحيح، مقصور.
2 -
مجزوءة صحيحة وأضربها ثلاثة أيضاً: مجزوء، صحيح، مجزوء مسبغ، مجزوء محذوف. فهذه أوزان ستة للرمل. . . وظاهر أن البيت من الوزن الثاني - محذوف العروض صحيح الضرب - ولكن الشاعر صح العروض هنا (. . بقتُ عيني: فاعلاتن) لأن الواجب أن يحذفها فتكون (فاعلاً أو فاعلنْ) لأن تصحيح العروض لا يجوز في هذا البحر إلا يقع (التصريع)؛ وذلك إنما يكون في أول القصيدة.
أرجو أن تتفضلو بالإشارة إلى هذا، ولكم مني جزيل الشكر.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
إلى الأستاذ علي عبد الله
إني معجب بكل ما كتبته حول مشكلة التعليم الإلزامي، وبدفاعك عنه دفاع الجندي في
ساحة القتال.
أستاذي. أعرض عليك رأياً في التعليم الإلزامي خامرني من مدة طويلة راجياً تمحيصه على صفحات مجلة الرسالة الغراء أجمعت وزارة المعارف على أن نظام نصف اليوم من أسباب فشل التعليم الإلزامي وتبعها في ذلك كثير من الكتاب. وعندي اقتراح يكفل تحويل جميع المدارس إلى نظام اليوم الكامل بدون زيادة في الميزانية:
أولاً - يكون التعليم إلزامياً للبنين والبنات في جميع مدارس المحافظات وعواصم المديريات وبنادر المراكز.
ثانياً - يكون التعليم إلزامياً للبنين فقط في جميع مدارس القرى والفصول والمدرسون الموجودون في كل مدرسة كافون لتعليم البنين يوماً كاملاً.
ثالثاً - تقوم مجالس المديريات بترتيب القرى الواقعة في اختصاصها ترتيباً تنازلياً على حسب أهمية كل قرية من حيث عدد سكانها وقابلية أهلها في التعليم. وكلما وجد المال اللازم يبدأ بتنفيذ الإلزام على البنات وفق الترتيب المتقدم.
ومني لأستاذي كل تحية واحترام.
سليم الحجيري
مدرس إلزامي
تصويب
جاء في مقالي (عدد 438 من الرسالة) ما يأتي:
في ص 1432: والصواب:
وفيها: كما فرغت مصانعنا، والصواب: كلما فرغت مصانعنا وفي ص 1433 (في الهامش): من المصادر المعروفة، والصواب: من المصادر المعرفة.
وفيها: في المصدر قد يقع في موضع اسم الفاعل، والصواب: في أن المصدر. . . الخ
(أ. ع)
القصصُ
الصاحب والآلهة
لتشارلس جارفس
بقلم الأديب كمال رستم
وقف جاك كارلتون في ناحية من (الهملايا) يرقب رجاله وهم يقومون بتغطية السفح بالأكواخ الخشبية، فما عتم أن أحس بشعور الرضى تزخر به نفسه.
نزح جاك إلى تلك الأصقاع وفي رأسه مشروع كبير هو قطع الأدواح الباسقة القائمة في تلك الأجمة المترامية الأطراف وسط تلال الهملايا، وتصدير الآلاف منها إلى الخط الحديدي الممتد على ثلاثة الآف قدم من السهول الجنوبية.
وعلى مسافة قصيرة أسفل التل وقف رئيس عماله (رينجت سينج) وعيناه أبداً شاخصتان إلى سيده، وذراعه دوماً على أهبة الاستعداد لأن ترفع في أي وقت إشارة لآلاف الرجل الذين لا تكاد عيونهم تقع على شيء غيره، وكان لهذا الرجل تأثير غريب على أهل هذه البقعة بلا أستثناء!
وهو وإن بدت عليه آثار السن العالية كان رائيه يستملي فيه وداعة الطفل، ويستجلي منه قوة خارقة للمألوف؛ فيه شجاعة مدمرة لا تعرف الونى أو الفتور، ثم هو بعد أملس البشرة عدا شارب أبيض يحكي الجليد. وكان وقتذاك يرتدي ثياباً وطنية من صوف الماعز، وينتعل خفين من الشعر. ورنجت سينج هذا تجري في عروقه قطرات من الدم الملكي، فهو سليل جنس (الراجا) العريق في القدم الذي ينحدر رأساً من سلالات آلهة عاشوا على مدى الأجيال وسط صقيع (جانجوتريا) أرومة (الجانجوتريين) العظام، وكان طبعه وجملة مشاعره، تغلب عليها الروح الأوربية، وإن كان من العسير إن لم يكن من المستحيل على الفهم قبول ذلك. أما روحه فكانت تفيض بشاعرية مرهفة، وأما قانونه فكان الانتقام، وهو متأثر في كل من طبعه وقانونه بهؤلاء الرجال الذين نصبوا أنفسهم لنشر عقائد (البوذية) و (الشاستية)! أما في روحه فقد كان يجنح إلى الذين وجدوا في طفولة العالم
وإن قلبه لينبض بحب اثنين في هذا العالم المملول: حفيده الطفل (سيكوندار)، وسيده
(الصاحب) كارلتون.
ولعل الجو في السهول السفلي لم يكن نقياً، حتى لقد غدا الغلام سقيما مدنفاً، فأذن كارلتون لجده أن يصعد به إلى التلال. . .
وكان (سيكوندار) جميلاً فاتن الجمال، ذا عينين نجلاوين تحكيان عيني غزال؛ وهو وإن فاض عليه الجمال الهندي الآسر فقد التمع في عينيه كذلك بريق الحدة التي لا تقف بصاحبها الهندي عند حد. . . وتعلق الطفل بكارلتون، فغدا لا يفارقه أينما ذهب. وكان جاك قد أعطاه دواء أفاده فائدة ملموحة، فعاده جماله العازب ومرحه الذي زايله حيناً. . . وكان كارلتون يجلس إليه ويصغي إلى أحلامه وأوهامه وأقاصيصه عن مواطينه القدماء وخرافاته عن الأحراج والأدغال. . . هذا وكارلتون لا يفتأ يفكر في فتاته (إيثيل). . . ولم يجحد رانجت الجميل الذي أسداه إليه (الصاحب) فأحبه وقدره. . .
وفي هذه اللحظة التي بدا فيها حظ كارلتون معلقاً في كف القدر، كانت عينا سيكوندار اللامعتان مثبتتين في كارلتون. . .
وقد التمع فيهما بريق القلق. . . هذا وكارلتون منتصب القامة، مستيقظ الحواس. . .!
وأخيراً، أصدر أمره، فهوت دوحة وانحدرت إلى أسفل المنحدر. . . ومن ثم إلى البحيرة على مسافة ثلاثة آلاف قدم. . .
وتبعتها ثانية ثم ثالثة. . . وأخذت الأمور تجري مجرى حسناً، فلمع بريق الرضا في عينيه، ولكن لفظ (الرضى) لا يؤدي مفهوم السعادة. . . كان (جاك) قد تأله في قلبه حب (إيثيل رين) وهي ابنة (ماجور) قتل في غارة من تلك الغارات التي يشنها رجال العصابات من حين لآخر. . . وكانت (إيثيل) في زيارة بعض أقربائها حين رآها (جاك) لأول مرة، فاستشعر في قلبه حباً لها. . . ولكن، من هو؟. . . ضابط غابة لا أكثر ولا أقل!. . . وإن حبه الصادق ليتخطى تلك الاعتبارات. . . ما لم تكن إجازته قد ألغيت فجأة، واضطر إلى الرحيل قبل أن يكشف لفتاته عن ذات قلبه. . .
وبعد شهر من رحيله تواترت الأخبار تحمل إليه نبأ زواج فتاته من (هيرسن) مقاول أعمال الخطوط الحديدية الشهير، وهو عصامي جمع من عمله ثروة طائلة، فأصبح بعد قادراً على أن يفرض حبه وقتما وحيثما شاء.
ولم تكن (إيثيل) على علاقة طيبة بذويها، ولعلهم أرغموها على قبول هذه الزيجة. . .
عاد (جاك) إلى كوخه وخلع ثيابه، ثم أشعل غليونه وراح يفكر في فتاته. . . وهو وإن كان قد أقسم ألا يفكر فيها، فقد تداعت أفكاره بالرغم عنه، وتراءت له (إيثيل) في تلك الآونة في جمالها الآسر، وشعرها الأسود، وأهدابها الوُطف، وشفتيها الصارختين. . . تراءت له كما رآها آخر مرة حين قال لها:(إلى اللقاء). وأفاق من تأملاته على صوت (سيكوندار) يقول: ضيوف يا (صاحب)!. . .
فنهض من فراشه واتجه إلى باب الخيمة، فأبصر جماعة صغيرة تتخذ طريقها إلى التل، واستطاع أن يتبين من بين أفرادها رجلاً وامرأة من البيض
- أعد الشاي يا سيكوندار. . . قال ذلك وأسرع للقائها فقابلها عند منعطف الممر، فما عتم أن أخذ وأسقط في يده!
لم تكن المرأة غير (إيثيل رين)، كل، بل (إيثيل هيرسن) لأن هذا الرجل القصير البدين ذا العينين العكرتين والشفتين الغليظتين لابد أن يكون زوجها. . . وامتقع وجه (إيثيل) وتقلصت شفتاها، وأخذ كل منهما يحدق في وج صاحبه إلى أن بددت (إيثيل) ذلك الصمت هوم على المكان بقولها:
- أهذا السيد (كارلتون). إذن فأنت ضابط الغابة هنا؟
فأجابها بهدوء:
- نعم. . .
قالت:
- هذا زوجي ألح عليه المرض وأضناه، جاء إلى هنا يلتمس الشفاء بين التلال. . .
قال (هيرسن):
- لا أظن أن الجو هنا أشد برودة من جو الوادي. أيبعد معسكرك كثيراً من هنا؟ فأجابه جاك محاولاً أن يظهر سروره لرؤيته:
- كلا. لا يبعد كثيراً، ويعد من تحصيل الحاصل أن أذكر لكما أني مضيفكما على الرحب والسعة، وأننا لن نذخر وسعاً لأن نجعل زورتكما لطيفة بهيجة. والجو هنا صحو عليل آمل أن يفيد السيد، وكذا آمل أن يفيد السيدة، وأضاف الجملة الأخيرة إذ استملى من بشرتها
لمحة عابرة فإذا بها قد زايلتها حمرتها واستولت عليها بدلاً منها صفرة واهنة. وتبدت له جميلة يروعها الحزن فتفتن
أضافهما جاك في خيمته وقدم لشاي لإيثيل. أما هيرسن فقد تجرع سائلاً من زجاجة كانت معه. وقام جاك بدور المضيف على أحسن وجه، ووقف بنفسه على حقيقة مرض السيد هيرسن، فهو وإن لم يكن قد رأى الرجل قبل الآن فقد تواترت إليه الروايات الكثيرة عنه. وجاك خبير بقراءة الوجوه ودلالاتها؛ فالخطوط السود التي يقتم بها ما حول المآقي، والصوت الأجش الجاف، والنظرات المتكسرة الحزينة، إذا لم يكن كل أولئك من صنع الخمر، فقد يكون مظهر السيد هيرسون قد غبنه غبناً صارخاً
وفي اليوم التالي أمر جاك بإعداد (خيمة) ليقيم فيها ضيفاه وخدمهما؛ ولكن هيرسن طلب أن تضرب الخيمة في وسط أجمة كان في نهايتها معبد، فهي بذلك في نظر الأهلين أجمة مقدسة. فاضطر جاك أن يرفض الطلب، وعرض عليه أن يضرب خيمته في مكان آخر؛ ولكن هيرسن أصر على مكان يقع مباشرة تحت الأدواح الظليلة حتى يتفيأ ظلالها. وبذلك يكون قد شاء أحد مكانين. يقع أحدهما في خياله، ويقع الثاني في الأجمة المقدسة. وأخيراً رأى جاك فضاً للنزاع أن تضرب الخيمة بجانب لفيف من الأشجار
وغفا جاك في هذه الليلة إغفاءة بسيطة كالليلة السابقة وعمل بحق على مقاومة حبه القديم لعقيلة هيرسن، حتى خيل إليه أنه نجح في ذلك وقابلها وحدها في الصباح، وسألها عن هيرسن فأخبرته بأنه مريض، وعزت مرضه إلى وعثاء السفر، ولكن جاك لم يكن في حاجة إلى معرفة مرض زوجها بعد إذ رأى بعيني رأسه بالأمس صناديق (الويسكي) يحملها العبيد إلى خيمة هيرسن.
لم يدخر جاك وسعاً في إسعاد ضيفيه، فكان يصحبهما إلى النزهات الجميلة. على أن هيرسن لم يكن يجد لذة في مثل هذه الجولات، وكانت زجاجة الويسكي هي الشيء الوحيد الذي يبعث الضوء إلى عينيه الذابلتين، أما إيثيل فإنها لم تمل مطلقاً مشاهدة انحدار التل السريع إلى البحيرة الراقدة عند قدميه، ولم تضجر.
من محادثة الرجال، وسماع صوت الأشجار تهوى من شاهق، وأصوات العبيد تسري من فوق يرجع الفضاء دويها، ثم تأخذ في الضعف رويداً رويداً حتى تصلها رفيقة خافتة.
وأخذت الطبيعة تحسر لها في كل يوم عن أسرار جديدة في الآجام وفوق التلال، وفي البحيرة السريعة الجريان. وكان جاك يصحبها في أكثر هذه النزهات، ويسير معها جنباً إلى جنب، إلا أن أحدهما لم يكن يذكر الماضي بكلمة واحدة. فكان جاك يحدثها عن مشاهداته في الهملايا، وكانت هي بدورها ترثي لحال زوجها وتأوى عليه. ولقد اعتاد أن يجلسا على أحد التلال الرئيسية تجري من تحتها الأنهار الجليدية على ارتفاع خمسة وعشرين ألف قدم. وكانت قمة التل شديدة البرودة، بينما كان النهر الذي يجري في أسفل حاراً شديد الحرارة! على أن الحرارة في وسط المنحدر كانت معتدلة! وكانت سهول الهند وكل مدنيات أوربا تبعد عن هنا كثيراً، فأقرب محطة إلى هذا المكان تقع على بعد مائتين وخمسين ميلاً، منها مائة ميل في مسالك جبلية وعرة، تكاد لا تسمح لحيوان أن يسير على طول حافة هاوية. . . وكان كارلتون الحاكم المطلق على هذه الغابات جمعاء. وكان عمله ينحصر في قطع أشجار (الدردار) ولم يكن يعكر عليه صفو حياته إلا صورة إيثيل تتراءى له بين الفينة والفينة؛ ولكن هاهي ذي إيثيل إلى جانبه، وهما ينصتان معاً إلى طائر (الكورلا) الأخضر يرجع تلك الكلمة الحبيبة:(أحبك) وهي الكلمة التي لم يفه بها لفتاته، والتي لا يستطيع الآن أن يفوه بها!
وكان سكوندار الطفل يصحبهما دائماً في نزهاتهما، وقد أحب إيثيل حباً جماً هي أيضاً، فكانت تسمح له بأن يجلس عند قدميها عندما تكون راقدة في فراشها، وتنصت إلى أقاصيصه التي لا تكاد تنتهي عن شجاعة الصاحب كارلتون!. . .
أما هيرسون فكان يبغض الطفل بغضاً شديداً
وفي ذات يوم صحب جاك إيثيل وزوجها ليريهما قرية مهجورة حلت عليها لعنة الآلهة، لأن رئيس قبيلتها جرؤ على قطع شجرة من أشجار الدردار المقدسة. . . وكان الموت عقاب هذه الجريمة؛ فمات رئيس القرية وفر الأهلون تاركين وراءهم القرية قاعاً صفصفاً!. . . وما إن سمع هيرسن هذا القول حتى أغرب في الضحك ثم قال:
- حقاً إن هؤلاء العبيد لتملأ الخرافات رؤوسهم، وإني لأريد أن أنزع عنهم بعضها. . . وكان ثملاً يلمع في عينيه الذابلتين بريق الدهاء والمكر.
ومرت الأيام في أمن وسلام، حتى كان ذلك اليوم المشؤوم الذي مر فيه جاك هو ورنجت
بخيمة هيرسن، فإذا بصيحة يتمثل فيها الرعب والضراعة تطرق آذانهما. وما لبث بعدها أن اندفع سيكوندار من الخيمة يتبعه هيرسن ثائراً صاخباً ممسكاً بهرواته. وكاد الطفل يفر من الرجل الثمل لولا أن اشتبكت سترته بصندوق فارغ من الويسكي، فلحق به هيرسن وضربه ضربة قوية جرى بعدها الطفل وهو يتلوى من الألم
فصاح جاك غاضباً: ما هذه القسوة يا هيرسن؟
وخرجت إيثيل في هذه الآونة واجفة القلب واكفة الدمع، وقادت هيرسن إلى داخل الكوخ في صمت وسكون
هذا، ورينجت سينج ساكن هادئ لا تنفرج شفتاه على كلمة، وإنما تآلفت قسماته على الإفصاح عما استسر في نفسه، وكاد الغضب يتطاير من عينيه ناراً. . . واعتذر جاك عن هيرسن، ولكن رنجت سينج ظل على صمته، ومضى تاركاً سيكوندار لجاك. . .
وفي الأصيل قابل جاك إيثيل وسارا معاً في الأجمة المؤدية إلى معبد الدردار في ذلك المكان المقدس. فقالت له بصوت هدجه الألم:
- لقد كنا عبئاً ثقيلاً عليك إلى وقت طويل يا جاك. . . إنما يجب ألا نقضي ليلة واحدة بعد هذه. . . نعم يجب أن نرحل ولكن جاك رجاها أن تمكث أسبوعاً، فقبلت بعد إلحاح. . . وما لبث أن أقبل هيرسن عليها وقد عاد إليه شعوره وقال:
- آسف، فقد كنت فاقداً لصوابي يا كارلتون. . .
وحانت منه التفاتة إلى الأجمة فقال:
- إني لتعتلج في نفسي رغبة ملحة في أن أقطع بعض هذه الأشجار!
قال جاك:
- إقطع ما شئت من شجيرات التل، ولكن لا تمس أشجار هذه الأجمة بسوء.
فتساءل هيرسن بحزن:
- ولم لا تكون واحدة من هذه؟
فأجابه جاك قائلاً:
- لأن أشجار هذه الأجمة مقدسة يا هيرسن. أنسيت سريعاً قصة القرية المهجورة؟. . .
فأغرب هيرسن في الضحك وقال:
- إنك خيالي يا كارلتون كهؤلاء العبيد. فما الذي يحدث لو أنني قطعت إحدى هذه الأشجار المقدسة؟
فأجابه جاك:
- يحدث أولاً أن يغادرني كل رجل في هذا المكان. . .
قال هيرسن هازئاً:
- وثانياً؟. . .
أجابه جاك بهدوء:
- وثانياً هم يعتقدون أن الرجل الذي يجرؤ على مس إحدى هذه الأشجار المقدسة تحل لعنة الآلهة وتنقضي حياته بانقضاء حياة الشجرة.
فجرت على شفتيه بسمة ماكرة ثم قال:
- الحق أني أبغض أجمتكم العابسة هذه، وتركهما ومضى
كان جاك يتناول عشاءه حين طرق سمعه أصوات لا يمكن أن يخطئ في معرفتها. . . أصوات صاخبة ثائرة تنذر بشر مستطير آتية من الغابة. فنهض جاك واقفاً وأسرع إلى الخارج؛ فما عتم أن رأى الشعب الهائج الثائر في طريقه إلى الأجمة فتبعه، فإذا الأجمة وقد زخرت بالجموع الحاشدة التي راحت تتفرق جماعات هنا وهناك. وفي إحدى هذه الجماعات أخذ القوم يضربون على صدورهم، ويذرون الرمل فوق رؤوسهم بينما تعالت أصواتهم إلى عنان السماء مهددة منذرة.
شق جاك طريقه وسط هذا الجمع الحاشد الذي أخذ يحدق في شيء مسجى على الأرض، وما لبث أن انجلى الموقف بوضوح! هناك على الأرض كانت ترقد شجرة من أشجار الدردار المقدسة هوت بها يد ملعونة، وإلى جانبها جلس رينجت سينج يكاد يتميز من الغضب. وللمرة الأولى لم يحي (رينجت سينج) الصاحب. فربت جاك على كتفه قائلاً: مر هؤلاء الرجال أن يعودوا من حيث أتوا يا رينجت سينج. فنهض الرجل واقفاً، وحيا كارلتون ثم رفع عقيرته آمراً القوم أن ينصرفوا. . . وغادر الرجال الأجمة ورؤوسهم مطرقة إلى الأرض، وأيديهم لا تفتأ تضرب صدورهم! حتى غابت أصواتهم في الفضاء
عاد جاك إلى خيمته، وأخذ يقلب الأمر على جميع وجوهه. وأخيراً اقتنع بوجوب رحيل
هيرسن في الحال، لأن كل ساعة يمكثها يعرض نفسه فيها لخطر ماحق. . . وتهالك على فراشه، ولكن الكرى نفر عنه فظل أرقاً مسهداً، وإنه لكذلك إذا بصوت من الخارج يقول: يا صاحب! يا صاحب!
فنهض من فراشه، ورأى أمامه إيثيل وسيكوندار
- أتريدني؟ قالت إيثيل ذلك، وقد امتنع وجهها وتقلصت شفتاها، والتمع في عينيها بريق مزيج من الحزن والرعب
- كلا. . . ولكن سيكوندار أشار إليه محذراً فاستدرك قائلاً:
- كلا لم أبعث في طلبك. قال سيكوندار:
- لقد غدا الصاحب مجنوناً، وأمسك بفأس يهدد بها من يقف في طريقه. قال جاك:
- أدخلا وسأذهب بنفسي لأراه
فتعلقت إيثيل بذراعه قائلة:
- كن حذراً يا جاك، فإنه كما وصف الطفل. فقال:
- خلي عنك مخاوفك
ومضى في طريقه صوب خيمة هيرسن، وما كاد يقترب منها حتى طرق سمعه صوت رهيب، كما لو كان ثقل هائل قد هوى من شاهق، وما نشب أن رأى مجموعة الأدواح التي كانت تظلل الخيمة تهوى بأجمعها عليها فتدركها دكاً. وصاح جاك مستنجداً، فخف إليه جمع حاشد يتقدمه رينجت سينج وقد جرت على شفتيه بسمة الفوز والغلب. فصاح فيهم جاك:
- أسرعوا، وانظروا ما إذا كان الرجل هناك. وقد كان هناك، ولكنه لم يعد له ثمة مظهر من مظاهر الناس فقد سحقته مجموعة الأشجار سحقاً ورفع ريجنت سينج يديه إلى السماء وقال:
- الصاحب والآلهة! وأسرع جاك إلى مجموعة الأشجار ولكنه لم يجد أملاً في إنقاذ الرجل. أما كيف وقع هذا الحادث، فهذا ما ظل جاك يتساءل عنه إلى أن كل لسانه السؤال، فلم يكن ثمة إلا جواب واحد. . . (الصاحب والآلهة!)
(المنصورة)
كمال رستم