الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 44
- بتاريخ: 07 - 05 - 1934
يوم الجمعة
كان أمس الأحد، ومن قبله كان السبت، ومن قبلها كان الجمعة! ثلاثة أيام تتعاقب في مدار الأسبوع تعاقب الجياد في مضمار السبق! يحمل كل منها في رأسه علم دولته، وعلى صدره عنوان ملته، ويشرق على قومه في المسجد أو في الكنيس أو في الكنيسة إشراق الحب في الفؤاد الغرير، أو الإيمان في النفس الرضية، فيؤلف ما نفر من القلوب بالمودة، ويعود بما شرد من النفوس إلى الجماعة، ثم يكون في البيت مصدر انس وبهجة، وفي المدينة مظهر استقلال وعزة. ولقد كان فيما سلف من مؤاتاة الدهر شأن يومنا في الأيام، كشأن قومنا في الأقوام: صدارة يكنفها جلال مُلك، وأمارة يسندها سلطان دين، وعيد يأتلق جماله في كل مكان وفي كل نفس، وفترة تحدد للناس مواقيت العيش ومراحل الزمن، وكان له في أدب الدين قواعد مقررة، كالاغتسال، والطيب، واتخاذ الزينة، وشهود الجماعة، ومودة القربى، وصلة المساكين، وترفيه البدن بالراحة، وتطهير النفس بالعبادة، وإعلان مجد الله بإعزاز دينه، وسلطان الشعب بإعلاء أمره؛ لم يكن السبت والأحد يومئذ إلا شعاعا لضوئه واتساعا لمداه!
ثم غيرنا فغير الله، فإذا بالتابع يأخذ المهلة على المتبوع وإذا يوم الجمعة يصبح طرفاً في ذيل الأسبوع، فلا تخشع له أسواق العالم كيوم السبت، ولا تسكن له حركة الدنيا كيوم الأحد، ولا يبقى له من الرعاية عند أهله، إلا إغلاق دور الحكومة في وجهه!
استعرض هذه الأيام الثلاثة بالاعتبار والموازنة، تجد كلا منها صادق الدلالة على حال أهله، فيومنا يجيء كما ترى خافض الجناح، خافت الصوت، حائل اللون، مخضود الشوكة، مغموط الحق، لا يدخل في حساب الناس، ولا يقدم ولا يؤخر في حياة المجتمع!
فمظهره الديني تضاءل حتى صار صلاة الجمعة عادية لا يقيمها إلا القرويون الطارئون على المدينة، والحضريون الفارغون من العمل!
ومظهره المدني انحصر كما قلنا في عطلة الحكومة. ومن المؤونة المعجزة ان تطلب العطلة وما يتبعها عند غير الحكومة، فان جمهور الشعب أما تاجر يتبع في نظامه البنوك الأوربية، وأما عامل يخضع في عمله لرؤوس الأموال الاجنبية، فلم يبق إلا الموظفون الرسميون، وهم وحدهم الذين يستطيعون بما تهيأ لهم من اليسر والفراغ إجلال هذا المظهر، وإعلان هذه الشعيرة، فتعال ننظر كيف ينقضي هذا العيد في بيت الموظف في
البيت الذي الهمني هذا المقال أسرة مسلمة عميدها موظف كبير، وأسرة يهودية كاسبها تاجر صغير، وأسرة مسيحية عائلها مستخدم متوسط.
ففي يوم السبت ينبعث في المسكن اليهودي تاريخ إسرائيل بأساطيره وتقاليده وعقائده، فالتوراة تتلى، والصلوات تقضى، والذكريات تستيقظ، والمجارى الروحية تتحدر من الأجداد إلى الأحفاد فتوثق الروابط، وتجدد القوى، وتهون العظائم، ثم تخرج الأسرة بأسرها، في زينتها وبشرها، فتتناول عشاءها في مطعم سأمر، وتقضي أمسيتها في ملهى ساهر وفي يوم الأحد يحول المسكن المسيحي إلى عرس أنيق مترف: فالأسرة تعود من القداس في ألوان الزهر وافواف الوشى، والغرف تضحك من طلاقة النفوس واتساق الأثاث، والمائدة المزهرة تحفل بأفانين الشراب السائغ والطعام الهنئ، والبيان الفخم تحت الأنامل الطفلة يقطر بالنغم العذب واللحن البهيج، والفنغراف يدور بأناشيد الرقص فيسمى البهو بالزائرين والزائرات أشبه بأعشاش الربيع كلها مناغاة وهديل وهزج! وفي يوم الجمعة يصبح المسكن المسلم عابسا كالكهف، ساكتا كالمقبرة!
فالبك قضى ليله سهران، فهو نائم نومة الضحى! فلا تسمع حسا ولا حركة، إلا صوتا شديد الخفوت، يستعين بالإشارة على ان يهمس الحين بعد الحين:
- هس سس س! خفض من صوتك! خفف من مشيك! لا تلعب بهذا! لا تعبث بذاك! أبوك نائم!
والبك يأخذ حمامه الأسبوعي الحار فيشغل الحمام ساعتين! فتمضي الظهيرة والفتاة لا تستحم، والعجوز لا تتوضأ!
والبك مدعو إلى العشاء، عند بعض الأصدقاء، فالمطبخ بارد هادئ، وطعام اليوم بقية طعام الأمس!
والبك يتهيأ للخروج، فالأسرة كلها في خدمته: هذه تنظف البدلة، وتلك تمسح الطربوش، وهذا يذهب برباط الرقبة إلى الكواء، وذلك يستعجل الخادم بالحذاء، وأخيراً يخرج البك!! فيتنفس البيت الصعداء، ويستروح المكروب نسيم الرخاء!
وهكذا يمر عيد الأسبوع على هؤلاء القوم، وهم يقولون يا الله ما اثقل روح هذا اليوم!!
احمد حسن الزيات
الضمير الهارب
للدكتور طه حسين
لم يكن صاحبي ساذجا ولا غليظ القلب ظاهره كهذا الضابط الفرنسي الذي اظنك رأيته في دار من دور السينما، يأتمر مع أصحابه ليغير النظام في فرنسا ويرد إلى العرش ابن نابليون. فبينما هو ذات يوم يمشي على رصيف من ارصفة باريس لقى رفيقا من رفاقه في جيش الامبراطور. وكان العهد قد بعد بينهما فوقع اللقاء من نفس الرجلين موقعا حسناً، وتحدثا عن الجيش وعن الامبراطور، وتحدثا عن امس وعن غد، ولم يكرها ان يذما يومهما ويسرفا في ذمه. ثم ذهب الصديقان إلى حيث كان الضابط يحدث صاحبه عن أصدقائهما وما يأتمرون به، ثم مازال الحديث ينتقل بهما من موضوع إلى موضوع حتى عرف الضابط ان صديقه لم يقم على عهد الامبراطور، وإنما اثر لين الحياة فعمل في جيش الملك. هنالك لم يستطع الضابط ان يلوم صاحبه ولا ان يعاتبه، ولا ان يناقشه في شئ، ولم يزد ان اطفأ المصباح حتى لا يرى وجه هذا الصديق الخائن وفهم الرجل عن صديقه فأنصرف عنه خزيان اسفا.
لم يكن صاحبي ساذجا غليظ القلب طاهره كهذا الضابط الفرنسي، وإنما كان رجلا مترفا لا في حياته المادية، بل في حياته المعنوية خاصة. كان مترف العقل جداً لا يكتفي بظواهر الأشياء ولا يقنع بحقائقها، وإنما يبغي شيئا ارقى من الظواهر واعمق من الحقائق كأنه اللب والخلاصة لكل شئ. وهو إذا وصل إلى هذه الخلاصة وذلك اللب ولم يقنع بهما وإنما تخير منهما انقاهما وارقاهما واشدهما ملائمة للعقل الممتاز، والذوق الرفيع، والشعور الراقي، والنفس الأبية العالية. وكان صاحبي قوي الحس جدا، ولكنه كان شديد الازدراء للحس، يضعه في موضعه الطبيعي فلا يكبره ولا يغلو في العناية به، ولا ينتظر منه إلا ما ينتظر في الأداة التي لا يراد منها إلا ان تؤدى للعمل الذي هيئت له، فهو لا يريد من حسه إلا ان ينقل إليه صورة الحياة الخارجية، فإذا نقلها إليه شغل بها فحقق ودقق، ومحص وصفى، واثر نفسه بخلاصة ما ينتهي إليه التحقيق والتدقيق والتمحيص والتصفية، فغذى به عقله وقلبه وشعوره؛ وفكر فيه فأطال التفكير، واستخرج منه أقصى ما يستطيع استخراجه من اللذة والألم، ومن العبرة والعظمة، ومن الغبطة والحزن.
وكان صاحبي هذا بحكم هذا المزاج الخاص معقدا شديد التعقيد متعباً لنفسه ولأصحابه وأصدقائه جميعاً، وكان كثيراً ما يسأل نفسه عما يريد فلا يجد لهذا السؤال جواباً. وكان أصدقاؤه يسألونه عما يريد فلا يجدون لهذا السؤال جواباً. فقبلوه على علاته، وقبلوه على ما في صحبته من مشقة وتعقيد. وكانت حياته وحياة أصحابه هينة لينة مستقيمة تمضي في طريق لا عوج فيها ولا التواء، كما كانت حياة الناس كلهم في بعض أوقات الأمن والدعة والهدوء، فكان راضيا عن أصحابه، وكان أصحابه راضين عنه. وكان ما يعرض له ولهم من مصاعب الحياة ومشكلاتها لا يزيد على ان يكشفها لهم فيحببه إليهم، ويكشفهم له فيحببهم إليه. ولكن هدوء الحياة ودعتها واضطراد الامن فيها واستقامة الطرق لسالكيها ليست أمور محتومة مقضية للناس أو مقضية عليهم، قد اخذوا بها عهدا على الظروف والأيام. وإنما هي أمور ممكنة تتاح حينا وتمتنع أسحياناً، تتاح فيسعد الناس، وتمتنع فيشقى الناس. تتاح فيجهل بعض الناس بعضا، ويحب بعض الناس بعضا، ويطمئن الناس إلى بعض، لان ظروف الحياة لا تكرههم على ان يدفق بعضهم في امتحان بعض، ويحقق بعضهم في ابتلاء بعض. ثم تمتنع فإذا الناس يتعارفون، ولا يلبثون ان يتعارفوا حتى يتناكروا ويتدابروا. ويقوم الشك منهم مقام اليقين، ويقوم الحذر منهم مقام الاطمئنان، وتقوم التفرق منهم مقام الصراحة، ويقوم البغض منهم مقام الحب، وإذا هم يندمون على جهلهم القديم، وإذا هم يحزنون على اطمئنانهم لماضي، وإذا هم يتمنون لو رد الله عليهم تلك الأيام الحلوة التي كانوا يستمتعون فيها بلذة الجهل وحلاوة الغفلة ونعيم الثقة، واعفاهم من هذه الأيام التي يشقون فيها بألم المعرفة ومرارة الفطنة وبؤس الشك.
وكان صاحبي قد فتح لنفسه الأبواب كلها على مصاريعها كلها ليتلقى كل شئ من كل شئ ومن كل إنسان. ثم ليسعد بهذه التصفية والتنقية، وبهذا التمحيص والتحقيق، وبتخير الثمرات من كل ما كان يجتمع له من الجد والردى فلما نكرت الأيام لم يغلق من أبواب نفسه بابا، وإنما نظر فإذا النفوس تغلق من دونه نفسا فنفسا، وإذا أبوابها تغلق من دونه بابا فبابا. إذا ما كان يجتمع له من الملاحظات شيئا فشيئا، ويندر حتى كاد لا يصبح شيئا. وإذا ما بقى من هذه النفوس القليلة التي ثبتت للمحن، وامتنعت على الخطوب، وابت ان تلين قناتها للأحداث، قد اخذ يغشاها من حين إلى حين لون رقيق جدا من الحياء، ثم من الغلو
في الحياء، ثم من الإشفاق، ثم من الاسراف في الإشفاق، ثم يتكاثف اللون ويتكاثف، وتضاف طبقات منه إلى طبقات حتى يصبح احتياطيا وحذرا، وحتى يستحيل إلى حجاب كثيف صفيق لا تنفذ من دونه نفس إلى نفس، ولا ينتهي من دونه قلب إلى قلب، ولا يتحدث من دونه ضمير إلى ضمير، وإذا صاحبي يلقى أصحابه فلا يلقى منهم إلا وجوها، ويصافح أصحابه فلا يصافح منهم إلا أيدياً، ويحدث أصحابه فلا يكون بينه وبينهم إلا حركات الألسنة في الأفواه، وخروج الألفاظ من الشفاه، وانتهاء الأصوات إلى الآذان، ثم وقوفها دون هذه الأبواب التي قد غلقت تغليقا، وهذه الأستار التي قد اسدلت اسدالا، على انه أيضاً لم يكن اقل من أصحابه واحبائه تغليقا لأبواب نفسه، والقاء للحجب والأستار بينه وبينهم، فقد آذاه ما رأى منهم كما آذاهم ما رأوا منه، فكان هذا الحياء الذي كان منهم، ثم اخذ هذا الحياء يتعقد في نفسه كما كان يتعقد في نفوسهم حتى اصبح إشفاقا ثم شكا ثم احتياطا وحذرا. ولكن حياء صاحبي لم يكن كحياء أصدقائه، كانوا يستحون منه وكان يستحي لهم، كانوا يشفقون منه وكان يشفق عليهم. كان يحذرون منه وكان يحذر عليهم، ولكنه الحياء والإشفاق والحذر على كل حال. ولكنه تغليق الأبواب والقاء الأستار والحجب على كل حال. ولكنه انقطاع الأسباب وفساد الصلات على كل حال. ولكنه العزلة بين قوم لم يكونوا يستطيعون ان يعتزل بعضهم بعضا، والفرقة بين قوم لم يكونوا يستطيعوا ان ينعموا بالفراق، ولكنه الرياء بين قوم لم يكونوا يحتملون الرياء، ولكنه هذا الألم الممض الذي ينشأ عن الفراق والناس مجتموعون، وعن البعد والناس متقاربون، وعن القطيعة والناس متواصلون. ولكنه العذاب الذي يجده الناس حين يتحدثون بألسنتهم لا بقلوبهم، وحين يسمعون بآذانهم لا بنفوسهم، وحين تتصافح أيديهم وتتباعد بين ضمائرهم ونياتهم الآماد، إلا من ألف منهم هذه الحياة واطمأن إليها ووجد فيها مثل ما كان في تلك الحياة من اللذة والراحة والنعيم لأنه فارق أصدقاء فوجد مكانهم أصدقاء آخرين، ونأى عن أحباء فاستقر في أحباء آخرين. هنالك نظر صاحبي إلى نفسه، فإذا هو قد اصبح أداة من الأدوات تسعى مع النهار وتعود مع الليل، تلقى الناس فتتحدث إليهم وتسمع منهم دون ان تعقل ما يصدر عنها أو تذوق ما يصدر إليها من حديث. أداة تذهب وتجئ تتلقى آثاراً من أدوات مثلها، وتحدث آثاراً في أدوات مثلها، ولكنها آثار ظاهرة آلية لا قوام لها ولا لذة فيها ولا
اثر للحياة القوية العاقلة المفكرة في مظاهرها، وإنما هي أداة ممثلة لا اكثر ولا اقل. تعمل مع أدوات ممثلة لا اكثر ولا اقل. وكانت لصاحبي بقية من قوة في النفس، وفضل من حياة في الضمير، واثر من حزم في الإرادة، وقليل من ذلك الترف العقلي الذي كان يستمتع به أيام كان الناس ناسا، وحين كانت الحياة حياة، فاكبر ما انتهت إليه أموره وأمور أصحابه من هذه الصفة التي يجحد فيها الرجل نفسه ولا يؤمن فيها إلا بغيره. اكبر ذلك وضاق به وازمع ان يعتزل هذه البيئة التي لا يستطيع ان يكون فيها إلا أداة مسخرة. ولكنه اعتزلها ولم يعتزلها، قر في داره وعاش بين أهله، لم يسع إلى أحده ولم يفكر في لقاء أحد، وكان يظن ان هذه العزلة ستغنيه وتحميه وترد إليه نفسه بريئة من النفاق معصومة من الفساد. ولكنه لم يلبث ان استيقن انه لم يصنع شيئا. فهو يعتزل الناس ولكن الناس لا يعتزلونه، يعرض عنهم فيقبلون عليه، يقعد عنهم فيسعون إليه، يكف عنهم حياءوه لهم وإشفاقه عليهم فيحملون إليه حياءهم منه، وإشفاقهم منه، ويغلون في ذلك يحسبون انهم يخدعونه عن انفسهم، أو يحسبون انهم يخدعون انفسهم عن انفسهم. فلما استيأس صاحبي من نفع هذه العزلة، واستيقن له انه لا امل له في ان يظفر بنفسه صافية وقلبه طاهرا، وضميره حيا، إلا ان ترك البيئة كلها وهاجر من ارض إلى ارض، وارتحل عن وطن إلى وطن، اسر ذلك في نفسه واظهر لنا معشر أصدقائه المخادعين له ولانفسنا مثل ما كان يظهر من حسن اللقاء ولطف المؤانسة حين كنا نزوره ونجلس إليه. ثم سعيت إليه ذات يوم لاقضي معه ساعة من ساعات الفراغ، وما اكثر ساعات الفراغ في حياتنا نحن المصريين فلم اجده، وسألت اين يمكن ان يكون فلم ادلل عليه. وسألت متى يمكن ان يعود لم انبأ بشىء. فعدت محزونا لا لأنني لم القه، بل لاني لم الق عليه ثقل ما كنت احتمل من الضجر والضيق والفراغ، ولاني لم الق في نفسه اني اوثره بالحب، واعتقد انه يؤثرني به. لاني لم اهد إليه شيئا من هذا الرياء الذي يهديه بعضنا إلى بعض في كل يوم، لم اتلق منه شيئا من هذا الرياء الذي يتلقاه بعضنا من بعض في كل يوم، رجعت محزونا لان الأداة لم تؤد بعض ما كانت يجب ان تؤدى من التمثيل. وعدت إلى صاحبي التمسه فلم اجده، واخذ أصحابنا يلتمسونه فلا يجدونه وكلهم شعر بمثل ما شعرت به، وكلهم يتحدث إلى نفسه بمثل ما تحدثت به إلى نفسي من الحزن وخيبة الامل، وقليل منهم يتحدث إلى الناس بمثل ما
اتحدث به اليك الان ايها القارئ العزيز. ثم انقضت الاسابيع والاشهر، وإذا انا اتلقى صباح اليوم منه هذه الاسطر التي دفعتني إلى كتابة هذه الفصل. واحسب اني لن اجيبه إلا بارسال هذا العدد من الرسالة إليه. فقد عرفت عنوانه الان. كتب الي يقول: كتابي اليك ايها الصديق من بلد ناء فررت إليه بنفسي وضميري من بلد تفسد فيه الضمائر والنفوس، واثرت ان احيا فيه فردا مع نفسي على ان احيا عندكم حياة الأدوات لا حياة الناس، ولقد كنت اظن اني فارقتكم إلى غير رجعة، ورحلت عنكم إلى غير عودة. وسئمت حياتكم سأما لأحد له، وكرهتها كرها لا اعرف له قراراً، وعجزت عن احتمال أيسر اثقالها. واعترف باني سعدت بهذه الهجرة سعادة خصبة حقا، واستكشفت فيها نفسي، نعمت بهذا الاستكشاف، وانست فيها إلى ضميري، واستمتعت بهذا الانس، ولكني لم البث في هذا البلد شهرا أو شهرين، حتى احسست ان نفسي لا تكفيني، وحتى ضقت باطالة النظر في المرآة، حتى ذكرت الأصدقاء فنفرت من ذكر الأصدقاء، وفزعت منهم إلى الكتب حينا، إلى مناظر هذه الطبيعة الرائعة حينا اخر، وما زلت ايها الصديق مطمئنا إلى هذا المعقل الذي آويت إليه، واعتصمت به ولكن انظر! ها أنذا اكتب اليك، وما كتبت اليك إلا لاني فكرت فيك، وما فكرت فيك إلا لان نفسي نازعتني إلى حديثك، وإذن فقد ابت حياتي تلك إلا ان تتبعني في هجرتي وتقتحم علي هذا المعقل الذي لجأت إليه، وكل ما اتمناه إلا تغلبني على نفسي، ولا تخرجني من معقلي، وان تكتفي بزيارتي والإلمام بي من حين إلى حين. فأكتب إلى واطل فقد يظهر ان الحياة التي ترتفع ارتفاعا خالصا عن كل ما نكره من النقائص شئ لا سبيل إليه، وأما انا فقد جربت الضيق بالحياة في مصر والفرار منها، وانا زعيم لكم ايها الأصدقاء بان صاحبكم سيعود اليكم متى انقضى الصيف ومن يدري، لعل الحياة ان تكون قد عادت إلى شئ من الامن والدعة والهدوء، فتتفتح الأبواب، وترفع الحجب والأستار، لا نحتاج فيما بيننا إلى اصطناع الرياء، أو إلى اصطناع المجاملة. ثم لا يستحي بعضنا من بعض، ولا يستحي بعضنا لبعض.
طه حسين
حوادث الشرق الاقصى
اليابان والجامعة الاسيوية
مبدأ مونرو اسيوي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ أسبوعين طلعت اليابان على العالم بتصريح في منتهى الاهمية والخطورة. خلاصته: (ارفعوا أيديكم عن الصين)، وهو بعبارة اخرى انذار من اليابان إلى أوربا وأمريكا بأنها اصبحت تعتبر من واجبها أن تحمي الصين من كل محاولة جديدة اوربية أو أمريكية في سبيل الفتح أو الاستعمار الاقتصادي، ومن حقها أن تستأثر بالتوسع السياسي أو الاقتصادي في انحاء الصين الشاسعة. ولا تخفى اليابان انها جادة في انذارها، وانها على اهبة لتأييده وتنفيذه بالقوة المادية، وفي نفس الوقت الذي تلقى فيه اليابان بهذا الانذار، نراها تقر اعتمادات حربية ضخمة لتقوية اسطولها الجوي، وتقوم بعدة مظاهرات عسكرية اخرى.
وقد اثار هذا التصريح الجرىء في جميع دوائر السياسة العليا دهشة عظيمة، ولا سيما في الدول ذات النفوذ والمصالح في الصين مثل بريطانيا العظمى وأمريكا وروسيا وفرنسا وايطاليا. ولم يتضح حتى الان موقف هذه الدول ازاء تلك الخطوة الجديدة التي تتخذها اليابان للحد من النفوذ الغربي في الصين. ولكن اولئك الذين يتبعون تصرفات السياسة اليابانية في الصين في الأعوام الثلاثة الأخيرة يدركون أن هذه الخطوة إنما هي نتيجة طبيعية لهذه السياسة التي فازت منذ عامين بالاستيلاء على منشوريا ووضعها تحت الحماية اليابانية، والتي ما زالت تتقدم في سبيل التوسع في الثغور والأراضي الصينية الشمالية والوسطى. واليابان تتخذ خطواتها وشئون السياسة الدولية في منتهى الاضطراب والتعقيد، والدول العظمى كلها مشغولة بمشاكلها الداخلية والخارجية السياسية والاقتصادية، ومن الصعب عليها أن تتفاهم أو تتفق بسرعة على اتخاذ خطة أو سياسة مشتركة ضد هذه السياسة اليابانية الجديدة التي تهدد نفوذها ومصالحها في الصين.
والنظرية اليابانية في مقاومة التوسع الغربي في الصين ترجع إلى فكرة اهم وابعد اثرا هي فكرة الجامعة الاسيوية، وشعارها (اسيا للأسيويين). وقد قويت هذه الفكرة بعد الحرب،
حينما اشتد تنافس الدول الغربية على التوسع في الصين واستطاعت روسيا السوفيتية وبريطانيا العظمى وأمريكا أن تتدخل في شئون الصين تدخلا قويا مباشراً، وان تبسط كل نفوذها على مناطق واسعة في الصين، وحينما عمدت الدول في كل مناسبة وفرصة إلى ارسال اساطيلها إلى المياه الصينية بحجة: حماية مصالحها؛ ولما كان موقع اليابان الجغرافي في شرق الصين، مشرفة على تلك المياه الصينية التي تغزوها الدول كما شاءت، وكانت تبسط حمايتها ونفوذها على مساحات واسعة في الصين، في كوريا ومنشوريا وشانصي، فقد كانت السياسة اليابانية تنظر دائما إلى حركات الدول في الصين بمنتهى التوجس والريب، وكانت تتلمس السبل دائما لمقاومة الاستعمار الاوربي والأمريكي. وكانت حركة (الجامعة الاسيوية) تزداد نشاطا وقوة، وخصوصا كلما اشتدت الصيحة في أوربا وأمريكا بالتحذير من (الخطر الاصفر) أو بعبارة اخرى من نهوض الامم الاسيوية. وقد عقد اول مؤتمر رسمي للجامعة الاسيوية في ثغر ناجازاكي في صيف سنة 1926 وشهده مندوبون من اليابان والصين والهند وسيام وكوريا والفلبين، واستمرت السياسة اليابانية ترعى هذه الحركة وتغذيها مدى الاعوام الاخيرة، وقد عقد في فبراير الماضي في دايرين تحت رعاية الحكومة اليابانية مؤتمر (للشعوب الاسيوية) شهده مندوبون من الصين واليابان والهند وافغانستان وسيام وبلاد الملايو وغيرها من البلاد الاسيوية. واصدرت فيه قرارات بوجوب اتحاد الشعوب الاسيوية على العمل في سبيل مصالحها المشتركة الجنسية والسياسية وتحريرها من كل تدخل اجنبي، وسيدعى مؤتمر دوري للجامعة الاسيوية. وربما كانت اليابان ترمي من وراء هذه الحركة إلى انشاء عصبة امم اسيوية لتأييد غايات الجامعة الاسيوية.
مبدأ مونرو اسيوي
ولهذا الانذار التي تتقدم به اليابان إلى الدول الغربية صبغة مزدوجة؛ فهو يعني ان اليابان ستقاوم منذ الان فصاعدا كل محاولة تقوم بها الدول الغربية في سبيل التوسع في الصين، وثانيا ان اليابان ستكون مطلقة اليد في الصين تحقق فيها ما شاءت من خطط التوسع والنفوذ. وللناحية الاولى سابقة تاريخية في السياسة الدولية هي مبدأ الرئيس مونرو (رئيس جمهورية الولايات المتحدة)، الذي وضع منذ سنة 1823 ليكون شعارا لسياسة أمريكا
الخارجية؛ واليك نص هذا التصريح الشهير الذي تطبقه السياسة الأمريكية منذ اكثر من قرن وذلك بعد الديباجة:
(ان القارتين الأمريكيتين بحكم حالة التحرير التي احرزتاها والتي تحتفظان بها يجب إلا تعتبر منذ الان فصاعدا قابلتين للاستعمار من جانب اية دولة اوربية، وعلى ذلك فانا نعتبر في المستقبل أي محاولة من جانب الدول الأوربية لبسط سلطانها السياسي على اية ناحية من نواحي هاتين القارتين خطرا على سلامتنا وسلامنا.
نحن لم نتعرض لاي مستعمرة أو ملك قائم فيها للدول الأوربية ولن نتعرض له، ولكنا بالنسبة للحكومات التي اعلنت استقلالها وحافظت عليه واعترفنا نحن به كحق ذي اساس عادل، لا نستطيع ان نعتبر أي تغيير يرمي إلى ارهاقها أو التحكم في مصايرها إلا بأنه ميل عدائي نحو الولايات المتحدة. ذلك انه يستحيل ان تبسط الدول المتحالفة نظامها السياسي في أي بقعة من هذه القارة دون تهديد سلامنا وسعادتنا. كذلك لا يستطيع إنسان ان يعتقد ان اخواننا في الجنوب إذا تركوا وشأنهم قد يقبلون هذه السياسة مختارين، ومن ثم كان من المستحيل ان ننظر إلى هذا التدخل في ذرة من التهاون والاغضاء).
ويمكننا ان نلخص مبدأ مونرو في كلمتين: (أمريكا للأمريكيين) أو (اتركو أمريكا) كما نستطيع ان نلخص الانذار الياباني في كلمتين (آسيا للاسيويين) أو (اتركو اسيا) مع هذا الفارق، هو ان اليابان تحدد في تصريحها منطقة معينة من اسيا هي الصين، أو الشرق الاقصى بصفة عامة، وقد فهم مبدأ مونرو في أمريكا وطبق خلال قرن من الناحية السلبية فقط. اعني من ناحية مقاومة التدخل الاوربي؛ ولكن السياسة الأمريكية وضعت في الاعوام الاخيرة تفسيرا جديدا لمبدأ مونرو، وهو انه إلى جانب حق أمريكا في قمع أي تدخل اوربي، يحق لأمريكا، وأمريكا وحدها
- أن تحتل أي بقعة من القارة الأمريكية متى رأت ذلك ضروريا لصون سلامها ومصالحها، وطبقت السياسة الأمريكية ذلك التفسير الايجابي الجديد لمبدأ مونرو في عدة حوادث معاصرة مثل تدخلها، في حوادث نيكاراجوا، واحتلال بعض اراضيها، وارغامها بناما على عقد معاهدة تعتبر شبه حماية، ثم تدخلها اخيرا في حوادث كوبا. وهذا هو نفس ما يعني التصريح الياباني من ناحيته الايجابية ترى اليابان من حقها دون غيرها من الدول
ان تستأثر بالتوسع في الفتح في الصين.
وقد بدأت اليابان فعلا بتطبيق هذه السياسة منذ ثلاثة اعوام فوضعت خطتها للاستيلاء على منشوريا وتذرعت لذلك الفتح باعتداء العصابات الصينية على المنطقة اليابانية والسكة الحديدية الشرقية التي تضع يدها عليها واضطرارها إلى حماية المصالح اليابانية والرعايا اليابانيين من ذلك الاعتداء الذي عجزت عن قمعه السلطات الصينية. وحوادث فتح اليابان لمنشوريا ما زلت ماثلة في الأذهان فلسنا بحاجة إلى تفصيلها. غير انا نذكر في هذا المقام فقط اليابان ابدت منذ البداية عزمها احتلال منشوريا وامتلاكها فعلا، ولم تحفل بتدخل عصبة الامم لتلبية نداء الصين، ولم تقف لحظة عند أي القرارات التي اصدرتها العصبة لحسم النزاع كانتداب لجنة للتحقيق، والتوصية لوقف القتال، واعادة الحالة إلى ما كانت عليه؛ بل لبثت اثناء اشتغال العصبة بهذه الازمة الخطيرة ماضية في غزو منشوريا وافتتاحها حتى اتمت خطتها العسكرية، واستخلصت اقليم منشوريا كله، ثم انتهت بأن ضاقت بتدخل عصبة الامم، فأنسحبت منها لتكون حرة طليقة اليد والتصرف. ولم تقف اليابان عند افتتاح منشوريا بل هاجمت اثناء ذلك شنغهاي اعظم الثغور الصينية بحجة الاعتداء على بعض رعاياها واحتلت وكادت تنفذ إلى الداخل لولا ما ابدته الحكومة الوطنية الصينية من مقاومة شديدة وما انذرت به الدول من التدخل؛ ثم عادت فغزت اقليم شهلي شمال بكين، واحتلت عدة من قواعد واجتازت السور الكبير. كل ذلك لترغم الصين على الاعتراف بمركزها في منشوريا. وانتهت اليابان بأن جعلت منشوريا دولة جديدة بأسم دولة (منشوكيو)، واقامت عليها هنري بوي امبراطور الصين المخلوع، اولا رئيسا لجمهورية منشوكيو ثم امبراطور لها، وتم بذلك استيلاء اليابان على اعظم الاقاليم الصينية الشمالية واغناها، فإذا ذكرنا ان اليابان تملك من اراضي الصين شبه جزيرة كوريا وثغر تياتسين وما إليه، وبورت ارثر وتسنج تاو، وتحتل مناطق كبيرة في اقليم شانصي، استطعنا ان نقدر إلى أي حد بلغت اليابان في توسعها في الصين.
موقف الدول
وقد قلنا ان موقف الدول ازاء السياسة اليابانية الجديدة لم يتضح بعد، ولم يتخذ بعد صبغة رسمية. ولكن الذي لا ريب فيه هو ان الدول التي لها في مياه الشرق الاقصى وفي الصين
مصالح عظيمة مثل أمريكا وبريطانيا العظمى وروسيا وفرنسا، ستقاوم هذه السياسة اشد مقاومة، وليس بعيدا ان تلجأ إلى الوسائل العنيفة إذا هددت املاكها أو مصالحها، وكما ان اليابان تقرن انذارها بالمظاهرات العسكرية وتقرير الاعتمادات الحربية الجديدة، فكذلك نرى انكلترا تقوم بمظاهرة بحرية في ثغر سنغافورة، ويعقد أمراء البحر الانكليز هنالك اجتماعا خطيرا للنظر في تعجيل الاعمال والاجراءات الخاصة باتمام قاعدة سنغافورة البحرية التي ستكون اعظم واقوى قاعدة بحرية في الشرق الاقصى، ونرى أمريكا تقرر اعتمادات مالية ضخمة لبناء سفن جديدة، وينتقل الاسطول الأمريكي من مياه الاطلانطيق ويجوز قناة بناما إلى المحيط الهادئ في اقل من يومين قياما بمظاهرة بحرية كبرى. وتحتج الدول ذات الشأن على لسان صحفها من الوجهة الدولية؛ بالمعاهدات المعقودة بين اليابان والدول بشان الصين، واخصها وأحدثها معاهدة الدول التسع التي عقدت على يد مؤتمر واشنطون سنة 1922 بين الولايات المتحدة (أمريكا) وبريطانيا العظمى وفرنسا وايطاليا واليابان والصين وبلجيكا وهولندة والبرتغال، وتنص هذه المعاهدة على احترام سيادة الصين واستقلالها ووحدتها الادارية والاقليمية، وعلى معاونتها على النهوض والتقدم بكل الوسائل، واستعمال الدول الموقعة لنفوذها في تأييد مبدأ الفرص المتساوية في النشاط التجاري والصناعي في الصين لجميع الامم، وعلى عدم انتهاز ظروف الصين للحصول على امتيازات خاصة، ومعنى ذلك اليابان ليست حرة في ان تحتل في الصين مناطق جديدة، أو تبسط نفوذها على مناطق جديدة، وليست حرة بالاخص في ان تستأثر وحدها بتنفيذ سياسة التوسع والاستعمار في الصين؛ هذا إلا إذا كانت تعتبر المعاهدات الدولية قصاصات لا قيمة لها.
وهناك غير هذه الدول الموقعة لمعاهدة واشنطون وروسيا السوفيتية؛ وهي من اعظم الدول مصالح في شمال الصين، واشدها اهتماما بسير السياسة اليابانية، وروسيا تجاور اليابان في منشوريا، وتشترك معها في امتلاك السكة الحديدية الصينية الشرقية، وفي امتلاك جزيرة سغالين، وتصطدم معها في شئون ومصالح كثيرة وقد ساءت علائق اليابان وروسيا في العهد الاخير بسبب استيلاء اليابان على منشوريا وانتزاعها القسم الروسي من السكة الحديدية الشرقية، وتهديدها بذلك نفوذ الروسيا في منغوليا، وقد كان لروسيا فوق ذلك في
الصين الوسطى والجنوبية نفوذ عظيم منذ اعوام، وكانت اليابان من انشط الدول لمحاربته والقضاء عليه، والخصومة الروسية اليابانية قديمة في الشرق الاقصى، وترجع بالاخص إلى حرب سنة 1904 التي هزمت فيها روسيا أمام اليابان وفقدت بورت ارثر ثغرها الممتاز في الصين؛ وهي اليوم اشد ما تكون اضطراما. ولا تخفى حكومة موسكو انزعاجها من السياسة اليابانية الجديدة، واستعدادها لمقاومتها وحماية النفوذ والمصالح الروسية في الشرق الاقصى بكل ما وسعت.
موقف الصين
ثم هنالك الصين، وهي المقصود بتطبيق السياسة اليابانية الجديدة. وقد لبثت الصين مسرحاً للفتن والحرب الأهلية زهاء ربع قرن، والدول الغربية اثناء ذلك تعمل على انتهاز الفرص لتوسيع نفوذها ومصالحها، واليابان تجاريها في انتهاز الفرص. فلما اشتد التنافس بين الدول على استغلال الحوادث الصينية، عقدت فيما بينها معاهدة واشنطون سنة 1922 (معاهدة الدول التسع) لكي تضع حدا لهذا التنافس أو بعبارة اخرى لكي تنظمه، وقطعت الصين بعد ذلك ستة اعوام اخرى في غمار من الحروب الأهلية الطاحنة حتى قامت الحكومة الوطنية اخيراً (حكومة نانكين) لتوحد كلمة الصين إلى حد ما، ولتعمل على صون استقلال الصين والحد من التوسع الاجنبي. وقد بذلت الحكومة الوطنية في هذا السبيل جهوداً لا بأس بها، ولكن اختلاف الزعماء والقادة كان دائما يشل من هذه الجهود، ويفتح الباب لدسائس الدول الاجنبية وعدوانها المستتر بصور واساليب شتى، ولو كان الانذار الياباني متعلقاً بوقوف اليابان فقط في وجه المطامع الاجنبية في الصين، لما كان للصين كبير اعتراض عليه؛ ولكن اليابان لا تقف كما قدمنا عند هذه الناحية السلبية من سياستها الجديدة، وإنما تقرنها بادعاء حق الاستئثار بالتوسيع في الصين، وتقوم بتنفيذ هذه السياسة بطريقة فعلية منظمة منذ ثلاثة اعوام، اعني منذ غزوها لمنشوريا، ومعنى ذلك أن اليابان تريد أن تستأثر بفريستها - الصين - دون باقي الدول وأن تترك هذه الفريسة أمامها وجها لوجه؛ وليس بعيدا ان تكون اليابان قد وضعت خطتها لافتتاح الصين كلها والاستيلاء عليها اقليماً فأقليماً، وخوض معركة الحياة والموت مع الغرب والاستعمار الغربي.
ولا ريب ان الصين تنكر هذه السياسة ايما انكار، وسوف تقاومها بكل ما وسعت حسبما
صرح به مندوبها لدى عصبة الام وسفيرها في لندن، ولا ريب انها ستعتبر بهذا الخطر الجديد الذي يهدد كيانها واستقلالها فتعمل لتوحيد كلمتها وتنظيم قواها؛ كذلك لا ريب في ان اليابان رغم قوتها ومنعتها وفيض مواردها، تقدم على مغامرة كبيرة محفوفة بالصعاب والمخاطر؛ ومن المشكوك فيه أن تستطيع اليابان أن تتحدى دول الغرب العظمى إذا اجتمعت كلمتها على مقاومة هذه السياسة، هذا إلى ما لابد ان تبذله الصين من الجهود الزاخرة لدفاع عن استقلالها وكيانها؟
محمد عبد الله عنان المحامي
وادي حلفا
بقلم عبد الرحمن فهمي ليسانسيه في الآداب
وادي حلفا عاصمة إحدى مديريات السودان الكبرى، وهي مديرية حلفا، وهو ميناء نيلي تسير السفن البخارية الصغيرة بينه وبين الشلال تنقل المسافرين والبريد من مصر إلى السودان ومنه إليها، ويشعر الزائر المصري للسودان عندما تطأ قدمه ارض حلفا كأنه في إحدى مستعمرات التاج البريطاني، ولا عجب فمنذ جلاء الجيش المصري عام 1924 تعمل السياسة البريطانية على ان تجعل من السودان منطقة انكليزية بحتة. وقد تلاشت المصرية أو كادت تتلاشى بعد ان كانت ظاهرة قوية فيه.
ووادي حلفا له مكانته لانه كما قلت ميناء نيلي كبير ومركز تجارة لا بأس به، وهو فوق ذلك مدخل جمركي يفتش المسافرون وامتعتهم فيه حتى لا تهرب بضائع معينة من السودان إلى مصر. ثم هو الحد الذي يشعر عنده المصري بشعور مؤلم هو شعور الفصل اللاطبيعي بين القطرين التوأمين.
وينقسم هذا البلد قسمين رئيسين أحدهما (حلفا توفيق) نسبة إلى مسجد كبير شيده الخديوي توفيق في ميدان فسيح يتوسطه. والثاني (حلفا معسكر) نسبة إلى معسكر الجيش المصري الذي كان يعسكر فيه حتى سنة 1924.
وحلفا توفيق هو روح البلد، ففيه الميناء المشغول بالحركة الدائمة ولا سيما عند وصول البريد إليه من الشلال وعند قيامه منه إليه ويحصل ذلك اربع مرات في كل أسبوع، وفيه محطة السكة الحديدية ومكتب البريد والبرق وبناء المديرية والمستشفى ودار الشرطة والمحكمة ومكتب الجمرك والري المصري، وفيه المحال التجارية والمقاهي والفندق وتوكيل لبعض الشركات كشركة كوك وسنجر. والدور فيه ذات طابق وأحد وفناءات فسيحة إلا بعض الدور القلائل ذات الطابقين على ضفة النيل يؤجرها ملاكها الوطنيون إلى بعض الموظفين المصريين والسوريين.
وحلفا معسكر، قسم صاخب بالنهار في ناحية من نواحيه حيث توجد (الورشة) ففيه تسمع صوت المطرقة وآلات التصليح والنجارة والحدادة وغيرها. أما منذ الاصيل فهو هادئ، وهو بخلاف القسم الاول ملآن بالدور الفخمة، وافخم هذه الدور هي التي يسكنها
البريطانيون، فهي مزدانة بالشجر والزهر والثمر، تطل نوافذها على النيل، ومنها تستطيع ان تمتع الطرف بمياهه الجارية، كأنها السلسبيل، وبالشجيرات على ضفتيه نضراء وقد تجمعت في مكان وتفرقت في اخر، فكأنها الزبرجد مسكوبان وكأنك تستمد الحياة من منبع الحياة.
ويتوسط القسمين منتزه جميل فرشت ارضه بالبرسيم المورق قامت عليه الشجيرات النضراء المختلفة كأنها الحراس إلا انها تغفل دائما عن المنجل يحصده غالبا. وزين بالزهور المختلفة الألوان والانواع تحملها جذور وسيقان، ويدار الحاكي فيه مرة في مساء كل جمعة. ولعل (الراديو) حل محله اليوم.
ويؤلف البريطانيون فيه كتلة متحدة غير مختلطة بغيرها من الاجناس الأخرى، اللهم إلا الاختلاط الذي يوجبه العمل، وهو مخالطة الرؤساء لمرؤوسيهم، يلمحون بالطلب فيلبى، ويعطون الاشارة فتنفذ، ويلقون الأمر فيطاع. أما في أوقات فراغهم فهم يريضون اجسادهم بركوب الخيل ولعب (التنس) و (الجولف) وغير ذلك، والمساء يقضرنه في المسامرة والمنادمة بين الكأس الرحيق والرقص الرشيق.
والمصريون في وادي حلفا الان كما هم في غيره من بلدان السودان: اقلية ينظر إليها اولو الأمر فيه نظرة حذر، ويكادون يكونون تحت مراقبة دقيقة لانهم متهمون ببث روح التمرد وما هم كذلك، وما الحركة التي قامت في سنة 1934 في السودان إلا فورة وطنية قام بها الوطنيون وغيرهم كما تقوم اية جماعة في أي بلد بحركة يرجون بها غرضا معينا، وما ظن الاتهام الذي يوجهه اولو الأمر في السودان إلى المصريين في هذا الشأن إلا ستارا لسياسة موضوعة لقصد معين.
ولكن الروح التي تربط المصري والسوداني لا تزال قائمة ولن تزول - وهي روح وطنية -، لأنهما يريان النيل ابا مشتركا بينهما، وهي روح جنسية، لان المصري والسوداني هم مزيج من جنس البحر الابيض والجنس الحامي، ثم هي روح لغوية لأنهما يتكلمان العربية، وهي روح دينية لأنهما أما مسلم وأما قبطي، وهي اخيرا روح لا يمكن نزعها من جسم أحدهما دون ان يموت الاخر.
والوطنيون هم البربريون الحلفاويون، لهم رطانة يتكلمون بها فيما بينهم، إلا انهم جميعا
يعرفون العربية، وكثير منهم ملمون باللغة الانكليزية، ويمتازون من السودانيين بالذكاء والنشاط، عرف منهم قاضيا في إحدى محاكم مصر الأهلية، وعالما دينيا، وموظفين اكفاء، وتجارا قديرين.
والمولودون وهم مزيج من المصري والتركي ومن السوداني، ثم السودانيون والعبيد.
ويشتغل الوطنيون بالزراعة فوق اشتغالهم بالتجارة، زراعة مساحات ضئيلة بالخضر والنخيل، والبلح اهم الحاصلات.
أما العبيد فمنهم عمال يحملون طرود البريد وامتعة المسافرين، ومنهم مكاريون ينقلون الاثقال على حميرهم، ومنهم السقاءون يحملون الماء إلى الدور بصفائحهم وقربهم.
تتألف الحكومة في مديرية حلفا كما هو الحال في أي مديرية اخرى من مديريات السودان: من المدير وينوب عن الحاكم للسودان في مديريته، وهو بريطاني له سلطة شبه مطلقة، ويعاونه المفتش وهو أيضاً انجليزي يحل محله في غيابه، وتنظر دار المديرية في احوال الناس القضائية: الأهلية منها والشرعية، وفي جباية الأموال والمحافظة على الصحة.
ويسهر على الامن رجال الشرطة ومقرهم (الضابطية) أو دار الشرطة، وهم رجال اشداء يلبسون عمامة كاكية أو بيضاء كبيرة وقميصا من الصوف الاصفر وسروالا ونعالا، يشبهون في ذلك رجال الهجانة في مصر ويعاونهم حراس نظاميون في الليل.
وعلى رأس دار الشرطة المأمور وله نائب، وكلاهما سوداني، ولكل قرية عمدتها وشيوخها، تؤلف منهم محكمة قروية تعدل بين الناس.
وقد حل الوطنيون محل معظم المصريين في كافة اقسام المصالح، وهم خريجو كلية غوردن بالخرطوم يلتحق بها التلميذ بعد ان يتم العلوم الابتدائية ويقضي بها ثلاثة اعوام يتخصص خلالها في أحد اقسامها، أذكر منها قسم المعلمين والترجمة والهندسة ويشترط في طالب الكلية ان يكون سودانيا.
ويفضل اولو الأمر ان يلبس الموظفون الزي الوطني اثناء العمل، وهو رداء من نسيج ابيض وعمامة بيضاء ومركوب احمر، ويحثونهم على ان يفضلوه على اللباس المصري.
وتقام حفلات رسمية في كل عام: اهمها عيد الميلاد السنوي، والعيد النبوي الكريم، وعيد ملك الانكليز، وعيدا الفطر والاضحى، وتدعو الحكومة كبار الموظفين والتجار والوطنيين
إلى عيد رأس السنة، وعيد ميلاد ملك الانكليز في حفل رسمي وتتولى لجنة من الوطنين دعوة الموظفين البريطانيين وعقيلاتهم إلى الاحتفال بالاعياد الأخرى، وابهجها الاحتفال بالمولد النبوي، إذ تقام سرادقات مختلفة عديدة على ميدان فسيح يضاء بمصابيح الكهرباء القوية الملونة، ويحي ليالي هذا المولد شيوخ يستأجرون من إحدى مديريات الوجه القبلي وتدار على المدعوين المرطبات ولفائف الطباق.
وبعد ان يستمع المدير ورفاقه قليلا من المديح النبوي ينهضون إلى أنحاء السردقات متنقلين بين اقسامها متفرجين على حلقات الذكر والرقص الوطني، وفي كل حلقة توزع الدراهم على بعض الذاكرين والراقصين. والنقود المتداولة في السودان هي النقود المصرية باقسامها والاسترليني والشلن والشلنين من النقود الانجليزية.
وكان وادي حلفا منفى للزعماء السودانيين المرغوب عنهم من الحكومة امثال عثمان دقنه وقد مات بها. وما زال منفيا بها زعيم آخر ولد عبد الكريم ينتمي إلى المهدي بصلة القرابة وقد زرته منذ خمس سنوات فوجدته هرماً ولكنه قوي.
وبالوادي مكان معد لنزول لطيارات التي تطير بين أوربا وافريقية عن طريق مصر والسودان.
عبد الرحمن فهمي
اثر الأدب في الحياة
بقلم محمد قدري لطفي ليسانسيه في الآداب
تؤلف في الأدب كتب، وتنشأ له صحف، وتقام له جماعات وتشيد من اجله جامعات، وتعرف به رجال، فأي اثر لهذا الأدب في الحياة، وأي وظيفة يؤديها لهذا المجتمع الذي غلبت عليه المادة ولم تلق فيه المعنويات ما يجب لها من عناية وتقدير؟
ان للأدب عناصر يتركب منها، أساسها تلك العواطف التي تستولي على المرء فتحرك نفسه وتهتز لها يراعته فتدون على صفحة القرطاس تلك الحركات النفسية، وتصورها على قدر شدتها أو خفتها، فإذا عرضت على الناس حركت فيهم نفس الشعور وأحيت منهم نفس العاطفة.
وكم في هذه الحياة من نفوس دقيقة الحس صادقة الشعور تحركها شؤون الحياة وتهزها صروف الدهر، هي نفوس أدبية تحس في صمت، وتشعر في سكون. ولكن أصحابها فقدوا أداة الأدب وأعوزتهم المقدرة على التعبير عما يحسون في أسلوب جميل أخاذ، وبهذه المقدرة الفنية يتميز الأدباء من غيرهم من ذوي الحس الدقيق والشعور الصادق. فالحياة تذيقنا جميعاً حلوها ومرها. ونلقى منها جميعا ما نحزن له أحياناً ونطرب له حيناً، وهي تعرض علينا من ألوانها الزاهي البهيج والقاتم الحزين. والأديب منا من شرح حسه فأجاد الشرح، وصور لنا عواطفه فأحسن التصوير، وإذن فليتعز المحزون العاجز عن بث حزنه بنفثات الأديب المحزون، وليبحث البائس الذي لم يسعفه بيانه عما يسليه ويذهب ببعض آلامه في سطور الأديب البائس، وليقرأ المحب الذي احب فأخلص، واخلص فتفانى في اخلاصه، ولكنه كان اعجز من أن يسمعنا حديث قلبه وينقل الينا نفسه وخفى حسه، اقول ليقرأ ذلك المحب العاجز ما كتب المحب الأديب، فسيجد بين السطور نفسه مرسومة، وسيلمح في ثنايا العبارات عواطفه مصورة، فلست اعرف بين العواطف الإنسانية عاطفة تشترك فيها القلوب جميعا، وينطبق ما يقال عنها على الناس جميعا، كعاطفة الحب الخالص المتين. الست ترى الانشودة يغنيها المحب شاكيا أو باكيا، فيعدها غيره صدى نفسه وترجمان حسه؟
وإذن فالأدب ضرورة من ضرورات الحياة وعنصر هام من عناصر العيش، فيه الحزين،
وسلوى المحب، وعزاء المحزون. وليست مع العزاء مصيبة. إن الأدب هو نتاج العواطف الشريفة وثمار الاحساس الجميل، ولن تجد كثمرة العاطفة في حديقة الحياة.
نظرة إلى هذا العالم تنبئك عن قدر الأدب بين الاحياء، فكل من فيه ماله آخر يومه إلى الراحة والسكون، والمرء مهما كد وجد فلابد له من سويعات تقر فيها نفسه، ويخلد فيها إلى السكون جسمه، وعندئذ فلن يجد أشهى من ثمرات القرائح والنفوس يقطفها من صفحات كتاب. ولن يجد أحلى من زهر العواطف تفوح رائحته من ثنايا النثر أو الشعر. ولن أقول أي نثر أو أي شعر، فلكل ذوقه ولكل ما يؤثر، وهي بضاعة من نتاج القرائح معروضة، فليأخذ منها كل ما يلائم حسه، ويصادف هوى نفسه.
وتريد ان تعرف قيمة الأدب في الحياة وتتبين أثره في الناس. إذن فانظر إلى رجل ليس يقرأ إلا قصيدة قد حوت رائع اللفظ وساحر المعنى، وليس يطالع إلا في كتاب قد تضمن من الحديث أعذبه وأحلاه، ومن القصص أحسنه وأشهاه، فيه شجون وفيه احزان، وفيه شكوى وفيه غرام، وفيه عاطفة حارة وحس جميل، وفيه وصف رائع وشعور صادق نبيل، ثم استمع إليه تحدثك فستجد عقلا مصقولا ونفسا مهذبة، أثرت فيها هذه الآداب فرققت حواشيها، وعملت فيها تلك القراءات فأرهفت حسها وهذبت نواحيها، وهل اجل في الحياة من نفس مهذبة وعقل صقيل؟ وهل ادعى إلى حياة الامم ورقيها من نفوس ابنائها وقد طبعت على كل حسن جميل؟ وهل مثل الأدب مقوم للطبع مهذب للنفس؟
وتريد أن تعرف قيمة الأدب في الحياة وتتبين أثره في الناس؟
إذن فنصور شعبا ينصت إلى نشيده الوطني وقد ذبحته براعة أديب قدير فحوى من معاني الوطنية ارفعها واسماها، وحرك من نفوس الناس اشرف العواطف وارقى درجات الشعور، فتحفزت نفوسهم واستعذبوا الموت في سبيل الوطن.
وللأدب بعد ذلك ناحية عامة لا تقل شانا عن تهذيب النفوس وصقل العقول واحياء العواطف السامية في القلوب، فأدب الامة صفحة صادقة من تاريخها كتبتها طائفة من ابنائها فلم تتحيز ولم تظلم، وإنما دونت فيها شعورها الخالص وحسها الصادق. ولذا عنيت أرقى الامم بالآداب وأحلتها المحل اللائق بها، وأنزلت أهلها المنزلة التي تتفق وما لآثارهم الأدبية من قيمة في الحياة. فلولا الأدب لكانت حياتنا جافة لا تحتمل، وعبئا ثقيلا لا يطاق.
الاسكندرية
محمد قدرى لطفي
حبل الأبد في الأدب
بقلم امين نخلة
في كفة الغروب أمس، بعد ان مال ميزان النهار، وغشى السواد الشفق، كنت أسألهم إلا يوقدوا المصباح في وجه الليل. بل ندع العتمة تتساقط على مهل وتتلبد، حتى إذا غمر السواد الجهات، غرق عبث الحياة في الليل، وسلم الأمر. . . هل مطلبي من الحياة غير هذا؟!
ثم اشرف من النافذة، فإذا المدينة قطعة واحدة في جوف الليل. خفى الشتات، وتألفت الدقائق، ومسح على الفضول. فلست أرى ما يتعالى في المشهد الأسود المنطرح إلا ذؤابات الأبنية تشمخ، وكأن بعضها في رأي العين يمشي إلى بعض، فتتلاقى وتتساند بعد البياض الفاني، والعبث المولى!
وهذا قمر الليل، يقهقه بلا صوت. . . ولقد جنح إلى المنحدر الاخر، كأنما يزلق من هنالك، فتدفق الفضة دفقا، غير العهد بها في مقاطر الصحو الازرق، حين تنقط ولا تبل الارض!
والليل فهرس البياض المنطفئ، ترى فيه العناوين، وعفاء على الحروف الضئال، والتنقيط المنمنم في كتاب النهار. فالعمود البعيد القائم الساعة ناحية الجنوب، ولا أتبين ما حواليه، عنوان طويل لبناية المسجد، ولقد خفيت المقالة وسلم العنوان. . .
وإننا في الأدب على أعقاب جيل مال ميزانه، وطفقت العتمة تتساقط عليه، فعما قليل تغمر نوافله، وتبتلع توافهه. ولا يسلم منه في الغرق الاعظم إلا العناوين الجديرة بالسلامة! ويسلم القمر ذو القرص الباقي، والشعاع المجدد
كنا في (الباروك)(1) - في مطلع الصبى - نجول بالضاحية، حيث كان (لامرتين) يهبط الخضرة والفيء على الينابيع. أو نصعد في الهضبات حيث مر جواد (ابي الطيب). . . (وعقاب لبنان وكيف بقطعها) فيقول وأحدنا للرفقة:
- ترى أي شئ من هذا الريف لفت صاحبنا؟!!
وكنا بعد لم نتعلم التريث في الجواب، فتنطلق الأجوبة في الرفقة كما يهتاج العش! فالطاحون الذي يهدر حتى آخر الأبد عند الشجر، كأنما يهوم للجمال الأخضر فينعس وينام،
وقد افتن به (لامرتين) ولا ريب! وافتتن بالبحيرات الصغيرة التي يبسطها النهر بين مرجين حين يتهمل - وهي لا تبرح إلى اليوم تنتظر (صاحب البحيرة!) وبدرب النهر ساعة تحدر الفلاحات بالجرار الحمراء في العشايا، ويسلن فوجا غب فوج، فيغدو الدرب نهراً للاحاديث والغبطة يدفق من الضيعة إلى الوادي. . .
أما (أبو الطيب) وهو لم يعرج على الباروك في (وعقاب لبنان وكيف بقطعها) فقد كان حسبنا منه، ان يلتفت في رأس الجبل إلى خيمة الناطور التي تتلاقى عليها عيون القرويين من كل حقل. فيثنى رأس جواده، ويطل من شاهق - وهو الشتاء (2) - على البساط الأبيض الذي نقيم عليه أيام الثلج في (الباروك)! كذلك كنا في الصبى الاول، نحسب الدنيا تبتدئ. ويخيل الينا ان (لامرتين) كان عندنا أول أمس، وكان (أبو الطيب) أول من امس. وأن خيمة الناطور تلك، وطاحون الوادي، ودرب النهر، معالم ثابتة على الزمن، بذهابها ذهاب الباروك والينابيع والربوات والشجر وهاتيك الدنيا الصغيرة!! فلما كبرنا عن الصبى وكبرت الدنيا وصغرت (الباروك) - وكانت خيمة الناطور قد سقطت وانهد الطاحون، وعفت الدروب على النهر - لم يذهب من القرية شئ! بل ظلت لنا (الباروك) قرية بنهر وجبل وضاحية، كما كان عهدنا بها اول العمر. ذهب النافل من ذلك الجمال الباروكي في غرق الأيام وعتمة السواد، وسلم ما ينبغي له. فلو مر جواد (ابي الطيب) في رأس الجبل لثناه راكبه، وقف يتلفت! ولو نزل (لامرتين) بين البحيرات والدروب لآنس نعيما ظلا واخضراراً.
هكذا نقول لأصحابنا في مشادة العبث بين (القديم والجديد)، فالزمن يمسح النافل، ويبقى على المحتم النافع. وليس في الأدب قديم ولا جديد، بل الأدب كد على الحق، ووله بالجمال. تسقط عتمة الآباد ألف مرة على الصنيع الفني الذي غمس بألوان الوله والكد وهو السالم الباقي لا يأخذ الليل منه حرفا!
فالحسن حسن على كل جيل. والتافه تافه أبداً. ما أخر القدم قيد شبر، ولا قدمت الجدة قلامة ظفر.
ولقد سبقنا إلى الدنيا، وجاءها أناس كلفوا بالجمال والحق. وداروا على اللباب في الدروب. فآنسوا نارا ثم ألفوها ونزلوا رماداً. فكيف يسوغ لنا، ونحن في الدرب من ورائهم، ان
نقطع ما بيننا وبينهم، ويقال أدب قديم وأدب جديد؟؟!
ان الكدح القاسي في صعيد الفكر، والتضحية السمحة على مذبح (فينيس)، والتنقيب في بياض الصحيفة عن الدنا المنحجبة، كل هذه عرفها الرصيف القديم (بين الدخول فحومل. . .). .
فطلب البلاغ الحر، وقلب النسق في الصنيع الفني، وإبدال ألوانه وصبه على شكيلة الحياة القائمة كانت في وكد الاساتذة السالفين جيلا تلو جيل. وهكذا يقال في شيوع الخاطر من المستهل إلى المقطع، وفي تماسك الحسن الذي لا يبذل للنور نفسه، وفي الميسم المطبوع والنفس الخاص، وفي المعنى الذي يسكن المبنى ولا يمد ساقيه على بحبوحة اللفظ - ذلك كله كان من أغراض الأساطير فيهم، يوفقون إليه حينا وينكصون عنه حينا. فليس الأدب ابن يومه، ما خطرت مطالب الحياة منه على بال أحد في الزمن لتقوم الضجة علينا، ويتنادوا بالويل بعد أن اردنا الأدب حياة وقوة وخفق جناح. . وأطفأنا الشمس بأكفنا!!!
وعندي ان الاساتذة الموتى الذين سلكوا السبيل قبلنا - وكأنهم مضوا ليفسحوا لنا المواضع - من حقهم ان يطرقوا خواطرنا، وان يرشفوا قليلا من الحياة في ألفاظنا. فهم، رحمهم الله، لم يبق لهم من سبيل إلى الضياء إلا هذه الحروف التي تشع فيها خواطرنا هذا حبل الابد هيهات ان ينقطع. والأدب بشرى قبل كل شئ، فليس في استطاعة أحد ان يقطع الحبل! والأدب أخو الحياة لا قديم فيه ولا جديد، بل هو وله الجمال وكد على الحق، وما عداهما فهراء!؟
لبنان
امين نخلة
تطور الفلسفة
بقلم على محمد راضي
الإنسان المدرك رأس هذه الخليقة التي تدرجت نحو استكمال نموها حتى تمخضت عنه. ومتى أدرك ما حوله اعمل فكره في تعليل ما يرى ورجع إلى نفسه يبحث انفعالاتها وآثار ارادتها، فهو إذن فيلسوف بطبيعته، ومدفوع للتفكير بحكم جوده وعمل حواسه وعقله وإذا عنى الباحثون بدراسة الحفريات لنوع وأحد من الكائنات ليصلوا إلى مقدار تطور حياته فما أولى طلاب العلم ان يصلوا بين حلقات تفكير الإنسان منذ سكناه الكهف وصيده الوحش لاستخدامه الكهرباء واكتشافه مغناطيسية الحياة.
الطبيعة والإنسان متلازمان، وبينهما أوثق الروابط. . هي معلمته التي تلقى عنها أول دروسه، وهي موضع بحثه منذ اللحظة الأولى لوجوده، يكافحها مرة فتتسع دائرة مجهوده وتفكيره، ويستخدمها مرة فيبني صرح تقدمه وعظمته. ولكنها ضنينة باسرارها، وهذا ما يبعثه على إعمال الفكر في تعليل مظاهرها وتكليف نفسه مشقة البحث عن اصل وجودها وعلة استمرارها.
أبصر من مظاهر الطبيعة ما لم يساعده عقله (الطفل) على فهمها، وعجز عن التعرف على اسبابها، فأحال صدورها إلى قوى لا يدركها تماماً، وما دامت لا تخضع لإرادته فهي أقوى منه واشد بطشا، ولذا اعتقد بالارواح الساكنة في الغابات، وقدم للآلهة المتعددة القرابين ليبعد بها عن نفسه غضبها، واعتقد بتجسد هذه الارواح في بعض الكائنات الحية. وكان اليوناني يعتقد باله الحب والقوة والجمال والماء والأرض، ولا يزال الهندوس يقدسون البقر، وبعض أهالي فارس يوقدون النار ليطردوا إله الظلام ويساعدوا إله النور. وعليه فالعقيدة هي محور الفلسفة الاولى الذي دارت حوله، وطبيعي ان يلجأ الإنسان وهو منزعج الحواس بما يكتنفه من هزيم الرعد ووميض البرق وانبثاق الحمم المستعرة إلى الاعتقاد بوجوب التقرب والخضوع للقوة التي تصدر عنها. . انه بذلك يدرأ عن نفسه غضبها، وتهدأ وساوس نفسه وشكوكه.
ولكن لم يقف تفكير الإنسان عند هذا الحد الذي تسلط فيه عليه الوهم، بل جعل يفكر في منشأ هذا الكون. . . والعالم في نظره الأرض التي تعيش على سطحها، والشمس التي تمده
بنورها، والقمر والكواكب التي تلتمع كلما جن الليل، فقال بوجود العناصر الأربعة (التراب. والماء. والهواء. والنار.) ثم تدرج إلى القول بوجود عنصر وأحد هو الماء، ثم عدل عنه إلى الهواء لأنه أبسطها وأسرعها انتشاراً. ولعل هذه هو اساس الاعتقاد بالسديم الذي لا يخرج عن كونه غازا ملتهبا متحركا حول مركز جذبه. . . واليوم يؤمن الإنسان بوجود الاثير، ولم يصل بعد إلى تعرف طبيعته ويضطر لافتراض وجوده ليعلل حدوث الاهتزازات والتموجات التي تنشأ عنها القوى المحركة والمرتبة للجزيئات الترتيب الذي يجعلنا نرى المادة في أوضاع واشكال مختلفة.
واخيرا قام مذهب المعتقدين بوجود وحدات كهربائية (الكترونات) تتحرك بواسطة التجاذب الذري، وان الكهربائية نفسها مؤلفة من ذرات. وقد قاد الإنسان إلى بحث سر الطبيعة ما أودع في نفسه من كلف بكشف كل ما يغمض عليه فهمه أو تعليله. . وقد أداه هذا الشغف إلى التفكير في أمر نفسه لا من حيث الاحتفاظ بوجوده وسد حاجاته الضرورية، ولكن من ناحية فلسفية أدق ووجهة اكثر تعقيدا. .
يشعر الإنسان بوجوده بطريق يقيني، وهذا اصل معرفته، ولكنه لم يدرك كيف تقوم معرفته لما يحيط به، وكيف يفكر؟ وما هي القوة الباطنة التي تؤثر فيه وتوجهه إلى حيث تريد؟. . .
الى هنا طويت صحيفة الفلسفة الطبيعية التي أضاع وقته في خلق فروضها طاليس وانكسمندر وانكسمينس. . وبدأ طور جديد تدور أبحاثه على الإنسان نفسه، ويعتبر الواضع للاساس الجديد سقراط زعيم فلاسفة اليونان وتلميذه افلاطون. . ولكنهما لم يتعرضا لتحليل العقل الإنساني باعتباره القوة المدركة، ولم يذكرا لنا شيئا عن ماهية النفس الإنسانية وقصرا بحثهما على اعمال الإنسان ووجوب مطابقتها لما هو حق وعدل وخير. . صحيح أن افلاطون كان يقول بقدم المادة، ولكنه كان يعلل عملية الادراك بوجود صورة سابقة في النفس للكائنات الموجودة، فهو القائل بوجود عالم العقل وعالم الحس.
والحقيقة ان دراسة الفلسفة الإنسانية من الناحية التي عنى بها المعلمون الثلاثة (سقراط وافلاطون وأرسطو) تنطبق على مباحث علم الأخلاق اكثر من مباحث الفلسفة نفسها، ولهذا كان غرض أقطاب الفلسفة الحديثة إتمام النقص الذي ظل موجودا بعد الفلسفة اليونانية.
ومباحث الفلسفة الحديثة تتمم الفلسفة الإنسانية من حيث تحليل الحركة الفكرية، وعلاقة الجسم بالعقل، وقدرة العقل على فهم الحقائق، وحركة الفكر الذاتية (التأمل) ثم بحث النفس الإنسانية وهل لها وجود مستقل أو هي نتيجة لاتحاد القوى المدركة بالقوى المفكرة في الإنسان؟
ولما كانت هذه المباحث من المعضلات العويصة الحل اتخذ كل فريق من الفلاسفة لحلها طريقاً خاصاً، ففريق اعتمد على العقل وحده فانهدم صرح العقائد الموروثة، وعاد العقل يزنها بمقياس الاستقلال الفكري مستعينا بقوانين المنطق، ولكن التوى على جماعة العقليين قصدهم لان العقل بدأ يبحث نفسه، وتطرق الشك إلى كيفية حدوث الادراك، وإذ ذاك لم يجد الباحثون بدا من الالتجاء إلى الحواس والاعتراف بأنها طريق الادراك، وهذا اساس المذهب (التجريبي)، ومع ذلك قام من يثبت أن الحواس تقوم بعمل ميكانيكي، وان المخ في دائرة عمله في الحكم على ما تحمله إليه الحواس قاصر، وان هناك بجانبه وجدانا له انفعالات خاصة لا دخل للحواس ولا للعمل الفكري في أحداثها. ولذا قسموا العقل فقالوا بالعقل المدرك والعقل الملهم أو الخالص.
ويطول البحث إذا اتينا على حجج كل فريق، ولكن ما لا شك فيه ان للنفس البشرية وجودا مستقلا وارادة خاصة غير ما تبعثه فيها البواعث الخارجية ويصل إليها من طريق الحواس والذي يهمنا ان الفلسفة تحولت من اعمال الإنسان إلى أفكاره ومن تفكيره إلى ماهية نفسه. وهذا آخر مدى وصلت إليه الفلسفة الإنسانية.
واليوم تقوم فلسفة اخرى تبحث النوعين الرئيسين (الفلسفة الطبيعية والإنسانية) لا على انهما منفصلان، ولكن على اساس ايجاد الروابط التي تربط الإنسان بالطبيعة، ونتيجة هذا البحث الوصول إلى الغرض الاسمى الذي لم يستطع الإنسان منذ وجوده ان يظفر به لقصر تفكيره ونقص استعداده. وان اليقين بوجود الله من طريق العقل قد حل مشكلات الفلسفة قديما وحديثا. .
لقد ادرك الإنسان ان ما يراه من مظاهر الطبيعة لم يسخر له اعتباطا، وان القوانين الطبيعية التي لم يتطرق إليها الخلل لم توجد اتفاقا، وان صلة الإنسان بالطبيعة ضرورية، وان عظمة الخالق كما تظهر في سر الكهرباء والجذب تظهر في سر النفس وخلود الروح،
وكما عجزنا عن تعرف ماهية القوة المسببة للحركة العامة للمادة. فما أحرانا أن نكتفي من بحث الروح باليقين بوجودها.
ان نوعا من الفلسفة لا يزال غير مطروق مع عظيم فائدته. . على الفلاسفة اليوم أن يتركوا بحث الإنسان فرداً فقد قام الإنسان بنصيبه من التفكير في أمر نفسه. ولكن عليهم أن يضعوا لنا فلسفة أجدى، وان يصرفوا جهودهم لبحث القوانين العامة التي يجب أن تربط المجتمع الإنساني. . إن فلسفة المجتمع هي الغاية التي يجب أن ننشدها لتتم سنة الارتقاء وهي الناموس الذي يحكم الطبيعة والإنسان؟
على محمد راضي
قصة من الواقع
الأمل الضائع
أو كذبة ابريل
لا تظن أيها القارئ الكريم أني سأحدثك عن سبب هذه الكذبة ولا متى
واين وجدت؟ فذلك بالمؤرخ اجدر، ولا عن مدى أثرها في نفوس من
وقعوا في حبائلها: أخير هو أم شر؟ أجميل أم قبيح؟ أنافع أم ضار؟
فذلك بعالم الأخلاق أو النفس أليق. إنما أحدثك بلسان أديب، رأى رأي
العين قنيصة من قنائص هذه الكذبة، على غير علم منه انها قنيصة،
وإنما أردت ان اطرف بها القراء؛ لأنها كما سيرون طريفة حقاً،
محكمة في نسجها احكاماً، حتى لقد بدت - وهي الباطل المزخرف -
كأروع ما يكون الحق، ومثلت مع أديب شاعر لم يتسرب إلى قلبه
الشك في صدقها؛ ولعل ذلك إلى ان الأديب خلق اطهر الناس فطرة،
وأنقاهم سريرة. . . ضحك الأديب المكذوب عليه مع من ضحكوا على
هذه الاكذوبة، وربما كان اكثر إغراقا في الضحك، ذلك انه وقف من
أصحابها موقف جاد من هازلين، متفرج على ممثلين: صادق مع
كاذبين.
طرحت إحدى المجلات الشهرية المصرية على الشعراء مسابقة أدبية، ذات جوائز مادية، وانتهى موعد التقديم، وترقب كل شاعر وأديب نتيجته، كما يترقب المساهم في بعض الأنصبة نصيبه. . .
وفي ذات ليلة من ليالي ابريل، فكر ثلاثة من الأصدقاء في ان يكذبوا (كذبة ابريل) ولم يطل التفكير؛ فقد كانوا مساهمين في هذه المسابقة الأدبية، فلماذا لا تكون المسابقة هي مادة
الكذبة؟ ولماذا لا يكون أحد المتسابقين غيرهم موضوعها؟ ولماذا لا يكون ذلك الأحد صديقا لهم، اشتهر فيهم بالحلم، فيأمنوا عاقبة ما تحدثه الكذبة في صدره؟ واخيرا لماذا لا يتلهون بهذه الاكذوبة ويقطعون بها وبالحديث عنها فترة الانتظار، انتظار النتيجة الممل.
اختمرت الفكرة، لكن بقي أن تصقل بصقل الدهاء، وترتب حوادثها تباعا، ويشذب ما عساه ينتأ فيها من شبه وظنون، ويبعد عنه ما عساه ينبه قوة الملاحظة التي ستغرق في حلم من الاكذوبة لذيذ. .
تولى أحد المتآمرين سرد حوادث الكذبة كما ستقع، وتولى الآخر الاعتراض، وتولى الثالث الرد، وهكذا تبادلوا الاسئلة والاجوبة والنقد والتمحيص، حتى اقر الجميع متانة صقلها، قوة سبكها ثم تعاهدوا على ان يتكاتموا سرها حتى على أنفسهم ليضمنوا لها النجاح والتوفيق.
ابتدأت الخطوة الاولى من التنفيذ بكتابة خطاب إلى هذا الصديق المتسابق بخط صاحب المجلة الزائف، ولكن مع كثير من التقليد، وبخاصة الامضاء. وهذه صورة من الخطاب!
(فلان. . . تحية. . . وبعد فيسر صاحب الامضاء ان يبشركم بالفوز في مضمار المسابقة. والمجلة تهنئكم به، وتطلب اليكم أن ترسلوا صورتكم الشمسية لتصدر بها قصيدتكم المحلية في ميعاد لا يتجاوز 28 الجاري. . والسلام)
الصق الخطاب وكتب عليه عنوان صاحبه، وسلم إلى بريد القطار الذي يؤم القاهرة أو بعبارة أدق وضع في صندوق بريد المحطة طمعاً في ان يصل إلى القاهرة خطأ فتعيده تلك إلى مكتب البريد الذي يوصله إلى صاحبنا، حتى إذا نظر إلى الخطاب لا يشك في انه صادر من موطن المجلة - كلف أحد المتآمرين ان يرقب عن كثب مصير الخطاب حين يصل القطار - تنبه البريد إلى هذه الخطأة فأرسل الخطاب إلى مكتب بريد البلد قبل ان يصفر القطار، وذلك ما لم يكن في حساب المتآمرين؛ وسرعان ما تلافوا ذلك بأن تطوع أحدهم بحمل الخطاب من مكتب البريد إلى حيث توضع خطابات صاحبنا على مكتبه، وتولى حراسته حتى لا ينظر فيه غير صاحبه خشية ان يدرك بوساطة خاتم البريد انه مصدر من البلد نفسه، لانه سينظر إليه بعين فاحصة فتنكشف العصا كما يقولون، لا كما سينظر إليه صاحب الخطاب بعين اللهف على ما فيه. . . هل صاحبنا في وقت تعود فيه أن يتسلم بريده، فأبرقت أسارير جبهته، حين وقعت عينه على ذلك الخطاب، وأنت أدرى
كم يكون سرورك حين تقع عينك على خطاب، ولو كان ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب. . . تناول صاحبنا الخطاب بيد مرتعشة، رعشة الفرح أو الإشفاق لا أدري! ومزق الغلاف ونظر في سطور الخطاب نظرة سريعة وإذا بالبشرى، بشرى الفوز في مضمار المسابقة يفوح عبيرها؛ فيملأ انفه ويسري منه إلى اعصاب المخ والقلب سريان البرق، فيصدر في غير وعي، اشارات الفرح وإمارات الانتصار، غير ناظر إلى خاتم البريد، ولا ممعن في النظر إلى السطور الزائفة. . .
(اعطني عقلك!) لا نظر ولا انتظار، ولا هدوء ولا قرار، على مثل ذلك النبأ السار. . .
اغتنم حارس الخطاب هذه النشوة من صاحبنا فاختلس الغلاف وأخفاه حتى لا يعيد النظر إلى الخاتم بعد زوال السكرة، ورجوع الفكرة، ثم اظهر الحارس الفرح بفرح أخيه، وتناول الخطاب من يده، واخذ يطوف به على بقية الإخوان، مبشرا من لم يتآمر منهم بنجاح صاحبهم، ومن تأمر بنجاح مؤامرتهم. . أرأيت كيف تدبر المؤامرات وتحكم التلفيقات؟ ألم يصدق المثل القائل (كذب مرصوف، ولا صدق مندوف) وهنا اقترح المتآمرون على صاحبهم ان يدفع ثمن هذه البشرى (حفلة سمر أخوية مسائية تقام في بيته) وايد هذا الاقتراح سائر الاخوان فلم يسعه إزاء هذا الاجماع إلا أن يوافق بعد تردد لم يطل مداه إذ بخسوا له هذا الثمن (بمبلغ زهيد يشتري به فاكهة، وتقام حول مائدتها حفلة تكريم، للشاعر العظيم)، ودفع صاحب الثمن لأحد المتآمرين الذي تطوع بأن يقوم عنه بمهمة شراء الفاكهة، وانه سيتبرع هو الاخر بنصف هذا الثمن، حبا وكرامة - التفت ذهن الشاعر إذن إلى الصورة الشمسية، ورأى ان ما عنده من الصور لا يصلح لمثل هذا التفوق فقرر ان يحضر صوراً جديدة تكون أنقى وأجمل. وتواردت في ذهنه هذه الاسئلة: من ذلك المصور الماهر الذي سيحظى بشرف تصوير حامل قصب السبق في مضمار أدبي؟ من أي المدن القريبة يستحضرها؟ أي القطر يستقله إلى المدينة؟ متى يسافر؟ كيف يحصل على اجازة من عمله؟. . .
بعد لأي قرر السفر غداً - ولكن اخوانه المتآمرين كانوا قد قروا ان تكون هذه الاكذوبة مداعبة ظريفة ليس اكثر، فرسموا خطتهم على لا يكون سفر، والا يكون ما وراء السفر من مشاق ونفقات، ولا ما وراء ارسال الصورة الشمسية إلى صاحب المجلة مما تعلم، وما لا
تعلم. . . كان ذلك واكثر منه سيحدث لو لم يقرر للمداعبة ان تكون ظريفة غير قاسية: لذلك قرروا ان تكون حفلة السمر في مساء ذلك اليوم، وان يفاجأ صاحبنا بأكذوبة ابريل بعد ما عساه ان يقال، من خطب ومقطوعات وازجال، في حفلة كلها أدباء أبطال.
قضى الشاعر يومه غير محسوب من عمره كما يقولون: احلام شهية، وأمال طلية، وشرف ومجد، وصيت لا يحد، ذهل حتى عن نفسه، واختلط عليه يومه بأمسه، يخاطبه مخاطبةً فيجيب (نعم) حيث الجواب (لا) يجيب (لا) حيث الجواب (نعم)، وقد يكتفي بإيماءة من رأسه تصلح للنفي والاثبات، وتؤدي معنى لا ونعم، وما ان فرغ من عمله حتى رأى نفسه في حجرة الاستقبال في بيته، ينظم وينسق، ويرتب وينمق، ثم في حجرة المائدة يكللها بالازهار لأنها ستحظى بتكريم فائز المضمار. . . دقت الساعة تسعا، فدقت (سماعة) الباب وإذا الطارق اخوانه المحتفلون، اخذ يحييهم، فيهنئون، ثم دعاهم إلى المائدة، فطفقوا يأكلون.
جلس الشاعر على مقعد التكريم، ولاول مرة يفوز بهذا المقعد فأحس الخيلاء تتمشى في نفسه، وخواطر العظمة تجيش في صدره، انبرى الخطباء أمام المنصة، يقولون ما سمته مرارا حول موائد التكريم، حديث معاد، لا يحرف ولا يزيد، وكان الخطباء بين اثنين: جاد منسجم في جده، وهازل غارق في هزله. والشاعر ترتسم على وجهه ألوان متعاقبة متأثرة بما يقال، فهو خجل حين يفيض المدح، متواضع حين يغلو الاعجاب، مبتسم حين تشرق الدعابة، ضاحك حين تدوي النكتة، مزهو يذكر السبق في المضمار، ثمل حين تدار كأس الانتصار؛ انتهى الخطباء من كلماتهم، ولم يبق غير وأحد من المتآمرين اعتذر بأن كلمته قصيرة فاترة، قد يفوح شذاها ان جعلت مسك الختام.
وهنا قام الشاعر المكرم، يؤم المنصة، متئد الخطى في دلال، مصعر الخد من جلال، ولم لا؟ الم يكن المجلى في حلبة الفرسان؟ ألم يفز بالقدح المعلى في الرهان؟ الم يشر أو سيشار إليه بالبنان؟ الم يصرع - وهو الشاعر الناشئ، والأديب الحديث - فحول الشعراء، قدامى الأدباء في الميدان؟ اخذ أمام المنصة يجول ويصول ويهز جوانبها تارة بالشعر المصقول، واخرى بالنثر المعسول، يخلع على الخطباء أبهج الحلل، ويقلدهم أنصع الدرر؛ حتى ملأ السمع، واثلج الصدر، وأفعم القلب؛ واخيرا جلس كما قام بين عاصفة من الهتاف
والتصفيق. .
قام صاحب مسك الختام، وألقى في اول كلمته ما يناسب المقام، ثم. . . ثم مإذا؟. ثم استجمع قواه، وشد من اعصابه كما يتجمع من يهم بالقاء قنبلة داوية، وأراد ان يلقيها كلمة صريحة فلم تطوع له نفسه أن يقذف بها صديقا أعز عليه من نفسه، ولكنه أرسلها مبهمة تأخذ النفس في استجلائها رويداً رويداً فتأنس لها ولا تنفر منها نفورا كبيراً. . إذن ماذا قال؟ قال! (ألما يزل في ابريل، ذلك الشهر الطويل، شهر الكذب والتضليل) وسكت. . . هنا ذهبت نفوس المحتفلين غير المتآمرين وأولهم الشاعر في تأويل ذلك الذي قيل كل مذهب، وأخذ الشك يدب إلى يقينهم، رويدا رويدا، كما يدب غسق الليل إلى وضح النهار حين الغروب،. . . ولكن مازال في الافق بصيص من نور، وفي النفس ذبالة من أمل، لقد اطفأه ظرف الخطاب (أنسيت الخطاب المزيف؟) الذي عرض على الجميع بين الدهشة والاستغراب، فوجدوا ان خاتم البريد هو لمكتب البلد الذي به صاحبنا ن غير انه ختم به مرتين ذلك الخطاب الذي لم يحظ بركوب القطار. . . وإذن كان ظرف الخطاب، هو فصل الخطاب، قطعت به (جهيزة قول كل خطيب) وصاح الجميع في نفس وأحد، ابريل. . . ابريل، كذبة ابريل! لقد مثلت أجود تمثيل، فكانت كذبة رائعة محكمة، وكانت مفاجأة لذيذة متعة. فهل كانت كذلك في نفس شاعرنا الكريم؟ الجواب والمعنى في بطن الشاعر كما يقولون. فوجئ صاحبنا بكذبة ابريل، وانت ادرى ما يحوم حول المفاجآت من تكبير وتهليل.
آفاق الشاعر من حلم لذيذ، دام من الثامنة صباحاً إلى العاشرة مساء، على صوت قذيفة هذه المفاجأة الصارخة، وانهار في لحظة واحدة من الواقع ما بناه الخيال والوهم من صروح في ساعات وغار البشر في ظلام العبوس، ودفنت النشوة في وجوم الدهشة، وأرسل صاحبنا قهقهة عالية عصبية؛ أمن الغيظ أو الكذب أو الغفلة؟ لا ادري! ملأ السامرون حجرة السمر بصوت مزيج من التصفيق الانتصار، وضجيج الدهشة، وصياح الانكار، وضوضاء الفرح، ونشيج الامل.
فكيف كان موقف شاعرنا؟ تكلف وسط هذا الموج الصاخب أن يظهر بمظهر الرجل الثابت الذي يقابل الخطوب بابتسام. والأكاذيب بابتسام، وهتف من اعماق نفسه (الا لعنة الله على
الماجنين، واخذ يسلي نفسه بما حضره من حكم الشعراء، بمثل قول ابي العلاء.
فظن بسائر الاخوان شراً
…
ولا تأمن على سر فؤادا
فلو خبرتهم الجوزاء خبرى
…
لما طلعت مخافة ان تكادا
هنا أحس زعيم المؤتمرين ان تلك المفاجأة - مهما يكن من شئ - قاسية شديدة، فأخذ يلطف حرارتها، ويخفض من شدتها بما قال مخاطبا الشاعر: لا يكن في نفسك يا أستاذ أثر من كذبة ابريل، فوالله ما تدري. لعل ذلك فأل جليل، فتطلع علينا في غرة مايو الجميل المجلة النزيهة. وفيها لك تاج واكليل.
حسن! وما رأيك في ان ذلك الشاعر الموتور. هو صاحب تلك السطور؟
فرحات عبد الخالق
3 - بين المعري ودانتي في رسالة الغفران
والكوميدية المقدسة
بقلم محمود احمد النشوي
اثر الروايتين في اللغتين العربية والايطالية
حدثنا الدكتور جوفاني كابو فيلا عن أثر دانتي في اللغة الايطالية إبان تقدمته لروايته فقال (إليه يرجع الفضل في تثبيت دعائم اللغة الايطالية التي ملأها وهي لا تزال في مهدها بأقاصيص الحب والعدالة والحرية والجمال).
تلك كلمة نسطرها مقتنعين بها. فاللغة ايطالية وكل لغات أوربا الحديثة إنما تزداد على مر الأيام جمالا وحسنا وثراء من أخيلة ومن ألفاظ. انها تطرد في الحسن اطراد الاوربيين في الرقى. وهكذا اللغة تقوى بقوة الامة، وتضعف بضعفها. وانا لنتقرى مصداق تلك النظرية في الاوربيين المعاصرين فنرى نسبتهم في اللغة كنسبتهم في القوة. وقد كان الايطاليون ضعافا في عهد دانتي فكانت لغتهم وليدة، كما قال الدكتور جوفاني.
ونحن ما دهانا في لغتنا؟. لقد كان عهدها الذهبي عصر المعري إبان القرن الخامس الهجري. ومن ذلك الحين أخذت تفقد شعاعها على يد التتار في الشرق، والاسبانيين في الغرب، والمماليك في مصر، ولا زالت تضعف تراكيبها، وبتهليل نسيجها، حتى بلغت درجة (الصفر) ضعفا وهزالا أواخر القرن الثالث عشر الهجري.
بيد ان نهضتنا المباركة أعادت للعروبة طراءة الشباب وجمال الفتوة. وارتنا كتابا من المعاصرين لا اسميهم، ولا ابالغ ان قلت انهم في الطليعة يسايرون الجاحظ، وابن المقفع وعبد الحميد، وعمرو بن مسعدة. في الفكرة وفي الاسلوب.
فذلك الضعف المطرد في الامة العربية منذ القرن الخامس الهجري. وتوالي الكوارث، والمحن عليها اضعف من لغتها. وجعل أثر (رسالة الغفران) محدودا. وهل تستطيع رسالة الغفران أن تقاوم الضعف التي تفتحت أبوابه علينا من كل اتجاه؟. ان ذلك غير مستطاع. ولو انها رقت ألفاظها وعذبت مفرداتها، وسلمت من غرابة اتشحت بها، لرجونا ان تلوكها الالسن فتعذب، وتجول في جنياتها الاخيلة فتسمو. ولكنها ابت ان تخرج للناس سافرة غير
ذات نقاب. فوضعت من دونها حجباً واستاراً من اغراب ووحشية ومعاظلة لا تزول إلا بعد استشارة القاموس ولسان العرب ومعاجم اللغة. وقد تجد طلابتك وقد لا تجد. نعم قد لا تجد شرح بعض مفردات (رسالة الغفران) في معاجم اللغة كلها. فحالت الغرابة دون تناولها، بقيت صدفاتها مغلقة على لآلئها، فلم ينتفع بها أحد.
نزعة في أبي العلاء إغرابه والعصر عصر حضارة، وتوعره والزمان زمان رقة نمت في نفسه بنمو مزاجه السوداوي، وتقوت دعائمها بما كان يكاثر به العلماء بعضهم بعضا في عهده من المباهاة بالغريب. ثم صوغه في قالب جذاب ترغيبا في حفظه.
تلك المدرسة التي كان يرفع لواءها الحريري المتوفى سنة 516 والتي وضع أساسها ابن دريد المتوفي سنة 321. وابن فارس المتوفي سنة 390. والخوارزمي المتوفي سنة 383، والبديع الهمذاني المتوفي سنة 398، وابن نباتة السعدي المتوفي سنة 405. والتي كانت تكلف بالغريب تتلمس أوهى الأسباب لذكره والاكثار منه، كان لها اثر في نفس المعري. فحببت إليه الأغراب والإغماض. وأخرى لعلها حدث به أن يغرب. تلك هي السخرية والدعابة التي يشم منها رائحة التطاول على الدين. فعمد المعري للغريب يتوارى خلفه. ويتخذه مجنا دون من كان يتقى، فأرانا أفانين من الاغراب تعرب عن علمه باللغة بما تقصر دونه الأعناق ولا تكاد تحيط به العقول. ولقد كان يأتي ببعض الغريب ثم يفسره مما نستنبط منه أن شرح المفردات اللغوية كان أحد أغراضه من تدبيج رسالته.
وحسبي أن أضع أمامك بعض نصوصها لتحدثك عن غرابتها، فأول ما ينطق به في رسالته قوله: قد علم الحبر الذي نسب إليه حبريل (بالحاء). وبينا ابن القارح يطوف في روضات الجنة إذا به ينظر خمسة نفر فيقول لهم: ما رأيت احسن من عيونكم! من انتم؟ فيقولون: نحن هوران قيس تميم بن مقبل العجلاني، وعمرو ابن أحمر البأهلي، والشماخ بن ضرار أحد بن ثعلبة، وعبيد بن الحصين النميري، وحميد بن ثور الهلالي. فيحاور الشماخ في شعره، فيقول له الشماخ: إنما كنت أسبق هذه الأمور وانا آمل ان أفقر بها ناقة. أو أعطي كل عيالى سنة. وأنا الآن إن احببت وردا من رسل الأوارى، فرب نهر كأنه دجلة أو الفرات. ولقد أراني في دار الشقوة أجهد أخلاف شياه لجبات لا يمتلئ منهن القعب.
وكذلك قوله: وما عمل من أجناس المسكرات. مفوقات للشارب. وموكرات كالجعة والبتع والمزر. والسكركة ذات الوزر. إلى غير ذلك مما امتلأت به رسالة أبي العلاء. فكان حصونا منيعة دون المعنى تحول بينه وبين الافهام. ودونك مثلا من غريب ما ذكره وفسره حين يقول. فأن خرج إلى الحاء فقال: من أم شح جاز أن يقول: وحوارى بمح، وببح، وبرح، وبجح، وبسح. فالح مح البيضة، وبح جمع أبح من قولهم: كسر أبح أي كثير الدسم. ويجوز أن يعني بالمح القداح كما قال السلمى
قروا أضيافهم ربحا ببح
…
يعيش بفضلهن الحي سمر
ورح جمع أرح، وهو صفات بقر الوحش. وقد يقال لأظلاف البقرة رح. قال الشاعر الاعشى
ورح بالزمان مردفات
…
بها تنضو الوغى وبها ترود
والسح تمر صغير يابس، والجح صغار البطيخ قبل ان ينضج. وسواء لدينا أكان إغرابه معاياة لعلماء اللغة أم خدمة في سبيل إحيائها. أم تلك الأسباب كلها مجتمعة، فقد كان ذلك النسيج دروعا حول المعنى رغبت الناس عنه. فلم تؤثر الرواية في الجماهير. ولعل اكثارها من نقاش النحو واللغة والصرف، صرف قلوب الناس عنها. على حين كان دانتي يتخذ من روايته عظة خليقة خلابة فتهافت الناس عليها منذ تراءت في سماء ايطاليا.
ولعا مما يكبر المعري في أعين النقاد أن نقاش رسالته وهو في غريب اللغة، وعميق النحو والصرف والعروض، وثلة من تلك الابحاث الجافة لم يكن جافا، فقد اضفى عليه عذوبة من روحه جعلته عذبا شائقا. وتلك هي القدرة الفذة التي تجعل المعري في الخالدين.
نفسية الشاعرين
كان المعري ههنا مرحا طربا، فابتدأ بالفردوس، وختم بالفردوس، واطلق لخياله العنان، في السخر والدعابة، يسمر مع الشعراء والأدباء والنحاة. بل مع إبليس، ومع الخزنة، خزنة النيران: يرى المعذب تندلق أقتابه، ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت، فيحاوره في النحو والصرف، وفي الرواية والتصحيف، دون أن تجدي لديه ضراعة المعذبين واعتذارهم عن الاجابة بما هم فيه. ولم يصحب المعري دليلا في رحلته إيناسا لابن القارح، وتعبيداً لسبيلها.
ولكن دانتي كان مروع القلب. هلوع الفؤاد. ابتدأ الرحلة بالجحيم فلم يطق لسير في ظلماتها وحيدا. فصحب الشاعر العظيم فرجيل، يؤنسه ويهديه سواء السبيل. بيد ان اصطحابه لم يمنعه أن يشتد به تأثره، حين يرى الجثث تتطاير مع اللهب من اللهب وحين يستمع العصاة وهم يصطرخون فيها داعين بالويل والثبور الوأحد، وبالويل والثبور الكثير.
ولقد أغمي عليه مرات عدة. ففقد وعيه حينما كان يطوف في الطبقة الثانية من جهنم، فرأى العاشقين باولو وفرنشيسكا وهما يتطايران متعانقين في لهب السعير. رأى دانتي تلك المخلوقة الضعيفة تلفح وجهها النيران فأغمي عليه. ولما أفاق قصت عليه قصصها. وأنها كانت هيفاء القوام، مشرقة الطلعة، خطبها (جانشوتو مالاتستا) القصير القامة الدميم الخلقة. فأطمع أهلها ثراؤه. فتغاضوا عن دمامته، وإبان الخطبة أروها أخاه (باولو) الوسيم القسيم، فأحبته وظلت ترقب ليلة الزفاف التي تجلت لها سوداء قاتمة حين رأت زوجا دميما خدعت فيه بأخيه الذي ظلت عرى المحبة بينها وبينه متواصلة. حتى أتاحت لهما الفرصة سفرا من زوجها قريبا فالتمساها وجلسا يقرآن معاقصة قبلة، بلغاها فقلداها فتوشجت بينهما أواصر المحبة، حتى تكشف أمرهما لأحد الخدم، فسعى بهما زوجها فحضر على حين غفلة فرآهما معا مختليين في منأى عن أعين الرقباء، فاستبقا الباب فاتبعهما بسيفه فقضى عليهما عقابا في الدنيا، يتلوه خلودهما في الجحيم.
ولقد كان دانتي يطوف في الطبقة الاولى من الجحيم. فزلزت الارض زلزالها، وانتشر في الجو نور أحمر تكاثف حتى ملأ للآفاق ففقد كل المشاعر والحواس. لولا رعد قاصف دوى في إذنيه فأفاقه وهكذا كان دانتي مضطرب القلب مروعا من رحلته، على حين ان ابن القارح كان طروبا كما حدثتك حتى في أشد المواقف إذابة للصخور الجلامد.
وذلك فرق ما بين الشاعرين: دانتي العابس، والمعري الباسم في رسالة الغفران لا في اللزوميات.
يتبع
محمود احمد النشوي
التصوير في الشعر العربي
للأستاذ فخري أبو السعود
الوصف من أهم أغراض الشعر وأخص فنونه. وكلما كثر في شعر لغة أو آثار شاعر، دل على رقيهما الفني، إذ أن مناظر الطبيعة خاصة، وروائع المشاهدات عامة، من أشد العوامل تأثيراً في النفس الشاعرة وتحريكها لعاطفتها وبعثاً لها إلى القول. والوصف في الشعر العربي غزير يتناول شتى الموضوعات، ويبلغ في يد كبار شعراء العربية غاية الاجادة. فكثيراً ما تخلص شعراؤنا من قيود المدح والرثاء والنسيب الاستهلالي - مهما كان تقيدهم بهذه الاغلال الثقيلة التي كبلت الشعر العربي - وعرجوا على وصف أثر من آثار الطبيعة أو المدنية، فأبدعوا وأرضوا الفن، أضعاف ما أرضوه بمبالغات المدح والرثاء والنسيب المدعى.
ولكن الذي أريد الاشارة إليه في هذه الكلمة، ان اعتماد الوصف في الشعر العربي كان دائما على المعنى دون اللفظ، على التشبيه والاستعارة والمجاز دون جرس الألفاظ وتتابع التراكيب ووقع الاوزان والقوافي. بينما الشعر الوصفي الغربي اعتمد على هذه الأشياء الاخيرة اعتماداً كبيراً. فبلغ الغاية في المطابقة بين المعنى واللفظ مطابقة تملأ الوصف حياة وجلاء. وتوفر بعض الشعراء على هذا الضرب من التصوير، ومنهم ملتون وتنيسون، ولا سيما الثاني الذي بلغ في القدرة على تذليل اللفظ للمعنى واستخدامه في تصوير ما يشاء حداً منقطع النظير. وأضحت آثار أولئك الشعراء مهبط وحي لكبار المصورين يستلهمونها ما حوت من روائع الاوصاف ومحكمات الصور ويسجلون ذلك على لوحاتهم.
إذا كان في المنظر المراد تصويره حركة كجريان نهر أو عدو جواد استخدم الشاعر الغربي بحرا من بحور الشعر يلائم تلك الحركة ويحكيها. وإذا كان به صوت أو أصوات مختلفة كهدير أمواج البحر أو قصف المدفع في الحرب اختار من الألفاظ تلك التي تحتوي على حروف خشنة قوية، وإذا كان يصف منظراً ساكنا وادعاً لم يذكر ذلك في القصيدة ذكراً، وإنما استعمل الألفاظ ذات الحروف اللينة كالسين مثلا، وهناك عدا هذا وذاك ضروب شتى من الملاءمة بين الصيغة والمعنى يفتن فيها الشاعر الوصاف ما شاء له
اقتداره: ككثرة العطف وتكرار الحروف والكلمات والتراكيب والابيات الكاملة.
ولقد وقع شئ من ذلك في بعض اشعار الوصف العربي، ولكنه كان الهاماً محضا أو اتفاقا عارضا ساقت الشاعر إليه المصادفة السعيدة أو السليقة المجيدة، دون ان يعتمده أو يتكلف في صوغه عناء، ويقرأ القارئ العربي فيستطبيه ويعزو موقعه من نفسه إلى مجرد جودة معاينة وحسن تشبيهاته. ويجمل ذكر شئ من هذا القبيل للتمثيل والبيان:
ففي معلقته يصف أمرؤ القيس الليل في بيته المشهور
فقلت له لما تمطى بصلبه
…
واردف اعجازاً وناء بكلكل
وفضلا عن جودة المعنى وحسن التشبيه في هذا البيت يزيد الوزن والتركيب الوصف المراد ظهوراً: فالبحر الطويل ذو الحركة الوئيدة وتكرار العطف بالواو يمثلان بطء مسير الليل ولجاجه في الاقامة وتماديه في الطول خير تمثيل، وفي بيته الآخر حيث يصف جواده بقوله:
مكر مفر مقبل مدبر معا
…
كجلمود صخر حطه السيل من عل
نرى تتابع الصفات بلا فاصل في الشطر الاول، واستعمال الألفاظ الضخمة الخشنة في الشطر الثاني يمثلان توثب الجواد وسرعة انطلاقه وارتداده ومفاجآت حركاته تمثيلا جيداً يصرف النظر عن تشبيه بانحطاط الصخر من شاهق. وفي قول المتنبي:
أتوك مجرون الحديد كأنما
…
سروا بجياد مالهن قوائم
خميس بشرق الارض والغرب زحفه
…
وفي إذن الجوزاء منه زمام
نرى وصفا رائعا لجيش كثيف وئيد الزحف لكثافته، وليس في البيتين معنى كبير، وليس فيهما سوى مبالغة غير معقولة ولكنه البحر الطويل يمثل هذه الحركة البطيئة أتم تمثيل، هذا فضلا عن فخامة الألفاظ التي تخيرها الشاعر؛ ونرى البحر الطويل يؤدي مثل هذا الغرض ويرسم صورة أخرى رائعة في قول جميل
ولما قضينا من منى كل حاجة
…
ومسح بالاركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الاحاديث بيننا
…
وسالت بأعناق المطى الأباطح
فهنا حركة الابل البطيئة واضحة ماثلة، وقد كان جميل ملهما حيث ذكر اسم كلمة أعناق في البيت الثاني فانها وحدها ترسم الصورة التي اراد: فان ذكر الجزء الأهم من الصورة،
كثيراً ما يبعث إلى المخيلة باقي الاجزاء ويبرز الصورة جليلة كاملة، ويترك البحر الطويل مثل هذا الأثر أيضاً قول البارودي الذي اشار إليه الدكتور صبري في كتابه عن الشاعر:
- ونبهنا وقع الندى في خميلة -
فإذا قرئ هذا الشطر بتأن وجدنا الوزن يمثل تساقط قطرات الندى متتابعة، أما الحركة السريعة فيمثلها البحر الكامل، ومن ذلك قول المتنبي:
اقبلت تبسم والجياد عوابس
…
يخببن بالحلق المضاعف والقنا
عقدت سنابكها عليها عثيراً
…
لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا
ففي البيت الثاني نرى مبالغة أخرى من مبالغات المتنبي، وهي لا تكاد تؤدي معنى، ولكن البحر الذي صيغت فيه القصيدة يؤدي خبب الجياد خير أداء، حتى ليكاد يريك توثب الفرسان فوق ظهورها، ولو حاول الشاعر وصف الخبب في البحر الطويل لما استقامت صورته.
ولتكرار الألفاظ أو التعبيرات أحيانا اثر بليغ في ابراز الصور وبعث الاخيلة. ففي قول ابن هانئ الاندلسي:
وفوارس لا الهضب يوم مغارها
…
هضب ولا الوعر الحزون حزون
يوحى تكرار كلمتي هضب وحزون إلى المخيلة تتابع الهضاب والربى أثناء عدو الفرس، فكأنه يعرض أمام العين شريطا سينمائيا متحركا، أضف إلى ذلك صوغ البيت في البحر الكامل واختيار الكلمات الفخمة، وفي قول الأستاذ المازني:
لغط اليم إذا طما
…
والتقت فيه هضاب بهضاب
ترى صورة رائعة لجيشان اليم، ولا يرجع هذا إلى معنى البيت وحده، ولكن إلى وزنه وألفاظه كذاك: فبحر الرمل يمثل الحركة المتضاربة أدق تمثيل. وتكرار كلمتي اليم وهضاب يوحي إلى المخيلة تتابع اللجج، وتكرار حرف الهاء ثلاث مرات في الشطر الثاني يزيد الركة تصويراً وبروزاً.
كان ذلك في الغالب كما ذكرت محض اتفاق أو الهام، ولم يقم في العربية فرد أو مدرسة تتوفر على هذا الضرب من النظم والتصوير وإنما حين اتجه نظر الشعراء إلى اللفظ صادف ذلك عصر انحلال الأدب فلم يسخروا اللفظ لابراز المعنى، بل صرفوا كل همهم
إلى اللفظ دون المعنى، وولعوا بالألاعيب اللفظية التي سموها محسنات، وأوغلوا هذه الغثاثات على اجل فنون الشعر خطرا كالرثاء والنسيب فأسفت وانعدم فيها الحس والشعور؛ فرأينا شاعرا ينسب فيقول
ناظراه فيما جنى ناظراه
…
أو دعاني أمت بما أودعاني
وآخر يتوجع فيقول:
لي مهجة في النازعات وعبرة
…
في المرسلات وفكرة في هل أتى
وثالثاً يمدح فيقول:
وان أقر على رق أنامله
…
أقر بالرق كتاب الأنام له
وليس في كل هذا التعبير عن شعور أو أداء غرض، وما هو إلا عبث بالألفاظ واقتناص للجناس والطباق والسجع، والتورية، وإنما أكثرت من هذه الامثلة الغثة لأوضح كم كان الشعر العربي يربح لو أن المجهودات التي صرفت في مثل هذا التحايل العقيم وجهت إلى تسخير اللفظ للمعنى، والاستعانة بهما معا على ابراز الوصف المقصود كما يصنع شعراء الغرب.
وليس في طبيعة اللغة العربية قصور يحول بينها وبين مجاراة اللغات الأخرى في هذا الباب، بل لها من الميزات ما يقدمها على غيرها: فهي كثيرة البحور التي تؤدي كل منها غرضا مختلفا، غزيرة الألفاظ الوعرة الضخمة والرقيقة اللطيفة التي توحي بخشونتها أو رقتها مختلف الصفات، غنية بالحروف السلسة اللينة والحروف الخشنة الجافية التي تطاوع الناظم القدير. ليس يعوز العربية شئ من ذلك وإنما يعوزها الجرأة من الناظمين بها والعزم والجلد.
فخري أبو السعود
5 - بديع الزمان الهمذاني
للدكتور عبد الوهاب عزام
عقيدته
وكان سني الاعتقاد يكره المعتزلة ويلعنهم قال في ديوان متغزلا:
ذات جفون ضعفت
…
كمذهب المعتزلة
وله قصيدة يرد فيها على الخوارزمي قوله في الصحابة. ومن هم اجل ذلك اتهم في نيسابور بميله عن العلويين، فبرأ نفسه وروى لهم من شعره في رثاء الحسين، فهو على حبه آل البيت لا يذهب مذهب الشيعة في الخلافة وما يتصل بها. يقول في الديوان:
يقولون لي لا تحب الوصي
…
فقلت الثرى بفم الكاذب
أحب النبي وأهل النبي
…
وأختص آل أبي طالب
وأعطي الصحابة حق الولاء
…
وأجري على السنن الواجب
فأن كان نصبا ولاء الجميع
…
فأني كما زعموا ناصبي
وان كان رفضا ولاء الوصي
…
فلا يبرح الرفض من جانبي. الخ
في رسائله واحدة كتبها إلى بعض الوزراء يشكو من ظهور التشيع في هراة ويحذر ان يصيبها ما أصاب نيسابور وقم والكوفة: (ورجع صاحبي آنفا من هراة فذكر انه سمع في السوق صبيا ينشد ان محمداً وعلياً، لعنا تيماً وعدياً. فقلت ان العامة لو علمت معنى تيم وعدي، لكفتني شغل الشكاية، وولي النعمة شغل الكفاية، ويل أم هراة، أنصب الشيطان بها هذه الحبالة، وصرنا نشكو هذه الحالة. والله ما دخلت هذه الكلمة بلدة إلا صبت عليها الذلة، ونسخت عنها الملة، ولا رضي بها أهل بلدة إلا جعل الله الذل لباسهم، وألقى بينهم بأسهم. هذه نيسابور منذ فشت فيها هذه المقالة في خراب واضطراب الخ)
أدبه
قدمت في المقالات الماضية طرفا من سيرة الهمذاني وأخبار أسرته وأحوال عصره، وأبين الآن عن أدبه: نثره وشعره
كان أحمد بين الحسين الهمذاني أعجوبة في ذكائه وحفظه، فتيسر له علم واسع باللغة
والأدب. وهو يقول في حديثه عما شجر بينه وبين أبي بكر الخوارزمي: (فقلت يا أبا بكر هذه اللغة التي هددتنا بها وحدثتنا عنها، وهذه كتبها وتلك مؤلفاتها، فخذ غريب المصنف ان شئت، واصلاح المنطق ان أردت، وألفاظ ابن السكيت ان نشطت، ومجمل اللغة ان اخترت، فهو الف ورقة، وأدب الكاتب ان اردت، واقترح على أي باب شئت من هذه الكتب حتى اجعله لك نقدا، واسرده عليك سردا، فقال اقرأ من غريب المصنف رجل ماس خفيف على مثال مال وما أمساه فاندفعت في الباب حتى قرأته فلم أتردد فيه، وأتيت على الباب الذي يليه، ثم قلت اقترح غيره، فقالوا كفى ذلك، فقلت له اقرأ الآن باب المصادر من أخبار فصيح الكلام ولا اطالبك بسواه، ولا اسألك عما عداه، فوقف حماره، وخمدت ناره، وقال الناس اللغة مسلمة لك أيضاً فهاتوا غيره، فقلت يا أبا بكر هات العروض، فهو أحد أبواب الأدب وسردت منه خمسة أبحر بألقابها وأبياتها، وعللها وزحافها، فقلت هات الآن فأسرد كما سردته. . .).
وقد أعجب الناس بذكائه وبديهيته، وتحدى هو الناس بهما فجاءه كثير من منشآته عفو البديهية، ولو روى فيه لجاء خيراً من ذلك.
قال الثعالبي في اليتيمة: (ولم ير ولم يرو أن أحداً بلغ مبلغه من لب الأدب وسره، وجاء بمثل إعجازه وسحره، فانه كان صاحب عجائب، وبدائع وغرائب، فمنها أنه كان شديد القصيدة التي لم يسمعها قط، وهي أكثر من خمسين بيتاً، فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها، لا يخرم حرفا ولا يخل معنى، وينظر في الاربعة والخمسة أوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهد بها من ظهر قلبه هداً، ويسردها سرداً. وهذه حاله في الكتب الواردة عليه وغيرها. وكان يقترح عليه عمل قصيدة أو انشاء رسالة في معنى بديع، وباب غريب، فيفرغ منها في الوقت والساعة والجواب عنها فيها. وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخر سطر منه ثم هلم جرا إلى الاول، يخرجه كأحسن شئ وأملحه، ويوشح القصيدة الفريدة من قوله بالرسالة الشريفة من انشائه، فيقرأ من النظم والنثر، ويروي من النثر والنظم، ويعطي القوافي الكثيرة فيصل بها الأبيات الرشيقة. ويقترح عليه كل عويص وعسير من النظم والنثر فيرتجله في أسرع من الطرف على ريق لا يبلعه، ونفس لا يقطعه، وكلامه كله عفو الساعة. . . وكان يترجم ما يقترح عليه
من الأبيات الفارسية المشتملة على المعاني الغربية بالأبيات العربية فيجمع فيها بين الابداع والاسراع، إلى عجائب لا تحصى، ولطائف تطول ان تستقصي).
لدينا من آثار الهمذاني ديوانه ورسائله ومقاماته. فأما الديوان فيتضمن زهاء ثلاثمائة والف بيت، منها ست وثلاثون قصيدة وقطعة من المدح مدح بها من الملوك والأمراء: شمس المعالي قأبوس بن وشمكير، والسلطان محموداً الغزنوي، وبنى فريغون وخلف بن احمد، وبني ميكال. ومن الوزراء الصاحب بن عباد، وأبا نصر بن زيد - ومدح جماعة من رؤساء جرجان ونيسابور ونسا وهراة. وهو يجري في المدح على السنن المعروف، ولكنه لا يلتزم الغزل في أول المدائح، ولا يطيل في معظمها.
ومن جيد شعره في المدح القصيدة التي أولها:
على إلا أريح العيس والقتبا
…
وألبس البيد والظلماء واليلبا الخ
وقوله في بني فريغون:
ألم تر أني في نهضتي
…
لقيت الغنى والمنى والأميرا
ولما التقينا شممت التراب
…
وكنت أمرأ لا اشم العبيرا
لقيت امرأ ملء عين الزما
…
ن يعلو سجايا ويرسو ثبيرا
لآل فريغون في المكرمات
…
يد أولا واعتذار أخيرا
إذا ما حللت بمغناهم
…
رأيت نعيما وملكا كبيرا
وأما الغزل فيه غير ما في قصائد المدح ست قطع تحوي وأحداً وعشرين بيتاً. والبديع ليس غزلا، ولكنه حاكى الشعراء في ضرب ألفوه وافتنوا فيه وعدوه من فروض الشعر.
وله قطع في وصف الاسد، والليل، والمجمر. . وقطعته في وصف الليل نموذج من شعره المرتجل. ارتجلها حين اقترح عليه الموضوع والقافية:
أنعت ليلا ذا سواد كالسبج
…
مخدر الصبح خدارى الدعج
أدرج العالم فيه لا ندرج
…
أو نسج الحرمان منه لا نتسج
ليلا حرون النجم قاري النهج
…
العمر فيه نقطة لو انفرج
والدهر من اجزائه ولا حرج
…
أيسر ما فيه الشهور والحجج الخ
ويجود شعر الهمذاني في الرثاء والمواعظ. وفي ديوانه ست مرات إحداها في واقعة
كربلاء، وله اثنتان وعشرون قطعة صغيرة في المواعظ تنبئ بما في نفسه من الانقباض والحزن والتشاؤم كما قدمت في الكلام عن أخلاقه. ومن مرثية الحسين بن علي:
يالمة ضرب الزمان
…
م على معرسها خيامه
لله درك من خزامي
…
م روضة صارت ثغامه
فوربه قامت به
…
للدين أشراط القيامة
لمضرج بدم النبوة
…
م ضارب بيد الإمامة
متقسم يطأ السيوف
…
م مجرعا منها حمامه
منع الورود وماؤه
…
منه على طرف الثمامة. الخ
وقد قدمت آنفا مرثية الخوارزمي التي أولها:
حنانيك من نفس خافت
…
ولبيك من كمد ثابت
ويقول في المواعظ، وهو في هذا يشبه أبا العتاهية:
يا حريصا على الغنى
…
قاعدا بالمراصد
لست في سعيك الذي
…
خضت فيه بقاصد
ان دنياك هذه
…
لست فيها بخالد
بعض هذا فإنما
…
انت ساع لقاعد
ويقول:
يا قلب ما أغفلك
…
عن حركات الفلك
ويحك هذا الردى
…
اليك يسعى ولك
انت على سفرة
…
يشيب منها الحلك
من انتحى نهجه
…
بغير زاد هلك
ويقول:
أجدك ما تنبه للمنايا
…
كأنك واجد عنها ملاذا
لذاك على الغنى تزداد حرصا
…
وفي حلبات سكرتها نفاذا
هب الدنيا تحقق ما ترجي
…
من الآمال ويحك ثم ماذا؟
ونراه يتكلم بلسان الصوفية في القطعة التي أولها:
ان لله عبيدا
…
في زوايا الارض غبرا الخ
ويقول في صديق له حبس:
مالي أرى الحر ذاهبا دمه
…
ولا أرى النذل ذاهبا ذهابه
أفلح من لؤمه وسيلته
…
وليس ينجو من جرمه حسبه
من شاء إلا يناله زمن
…
فليكن العرض جل ما يهبه
أراحنا اله منك يا زمنا
…
أرعن يصطاد صقره خربه
يا ساغبا جائع الجوارح لا
…
يسكن إلا بفاضل سغبه
يا ضرماً في الانام متقدا
…
والجود والمجد والندى حطبه
يا صائدا والعلى فريسته
…
وناهبا والجمال منتهبه
يا سادتي لا تلن عظامكم
…
لعضة الدهر ان يهج كلبه
بل هو حين يحض على التمتع بالدنيا، واهتبال فرص العيش ينم عن حزن وتشاؤم يذكرنا بعمر الخيام فإنما يلهو لينسى تباريح الحياة
إنما الدهر الذي يص
…
دقني حر المصاع
كالني مدا وأجزي
…
هـ من الحلم بصاع
فاغنم الأيام ما أل
…
فيتها خضر المراعي
إنما نحن من الده
…
ر بواد ذي سباع
لا تدع من لذة العي
…
ش عيانا لسماع
ويقول في قصيدة يمدح فيها أبا جعفر الميكالى:
نستبيح الدهر والأي
…
ام منا تستبيح
ضاع ما نحميه من أن
…
فسنا وهو يبيح
نحن لاهون وآجال
…
المنى لا تستريح
يا غلام الكاس فاليأ
…
س من الناس مريح
أنا يا دهر بأبنا
…
ئك شق وسطيح الخ.
وللهمذاني قطع كثيرة في الالغاز والمعميات، وكان الرجل نادرة في الذكاء والبديهة فكان يختبر الناس ويختبرونه بهذا الضرب. وفي الديوان منه اثنان وعشرون، ويكثر في شعره
الترجمة عن الفارسية. وفي الديوان ثلاث عشرة قطعة مترجمة عن هذه اللغة. وكانت الترجمة بين العربية والفارسية سنة شائعة بين متأدبي المسلمين في ايران وما يجاورها، وإذ كان الشعر الفارسي قد بلغ اشده، وكانت العربية لا تزال لغة العلم والأدب. وكثير من شعراء هذا العصر وما بعده نظم باللغتين، ولقب ذلك بذي اللسانين، وفي يتيمة الثعالبي أمثلة من هذا. وهذه الترجمة تهم دارس الأدبين العربي والفارسي. ولكن يقلل خطرها اننا نجد الترجمة ولا نجد أصلها، ولم اعرف من الشعر الفارسي الذي ترجمه البديع إلا قطعة أثبتها محمد عوفي في كتاب لباب الألباب في ترجمة المسطقي الشاعر الفارسي، ويقول عوفي ان الصاحب بن عباد أمر البديع بترجمتها، فقال على أية قافية؟ فقال الطاء. قال ومن أي بحر؟ قال أسرع يا بديع، في البحر السريع، فترجمها ارتجالا والأبيات:
بك بوي بد زويدم أزدوزلفت
…
جون زلفت زري أي صنم بشانه
جونانش بسختي همي كشيدم
…
جون موركه كندم كشدنجانه
باموي بخانه شدم يدركفت:
…
منصور كدامست أزين دوكانه
والترجمة:
سرقت من طرته شعرة
…
حين غدا يمشطها بالمشاط
ثم تدلحت بها مثقلا
…
تدلح النمل بحب الحناط
قال أبي من ولدي منكما
…
كلاكما يدخل سم الخياط
وير انه تصرف في ترجم البيت الثالث. وأصله: (ذهبت إلى الدار بالشعرة. فقال ابي: منصور أي الاثنين؟. وفي الديوان بيتان قبل هذه الثلاثة.
ومن الترجمة التي يتجلى فيها اسلوب الفارسية هذان البيتان
فؤادك أين؟ سباه بماذا
…
بمقلته. من؟ غزال ربيب
سلابا. نعم. اين؟ وسط الطريق
…
متى؟ اليوم. هذا سلاب غريب
وهي تذكر دارس الأدب الفارسي بمطلع قصيدة محتشم من شعراء الدولة الصفوية في رثاء آل البيت.
وفي الديوان قطعة فيها كلمات وشطرات فارسية، والشعر المنظوم بلغتين أو أكثر يسمى الملمع في عرف أدباء الفرس أو الترك وهو كثير عندهم.
ويكثر في شعره المجزوء، ولا سيما الهزج الكامل. وسأعود إلى هذا حين الكلام في سجعه.
واحسب بديع الزمان نظم معظم شعره في أوائل حياته. ففي الديوان أبيات نظمها وهو في الثانية عشرة، وهو يذكر سن العشرين في بعض شعره:
إني بعشرين تصاريف ما
…
بعد الثمانين تعرفتها
ويذكر الخامسة والعشرين وهو يمدح خلف بن احمد:
ألم يك في خمس وعشرين حجة
…
تسنمتها هاد لمثلى الطرائق
ثم هو يلعن لنظم في كلامه عن الخوارزمي في بعض رسائله وذلك دليل على انه مال عن الشعر: (هو خوارزمي، ولست من خوارزم، وهو شاعر ولعن الله النظم) واوضح من هذا قوله في رسالته إلى ابن ظهري رئيس بلخ
(كنت نويت إلا أقول الشعر فأبت النملة إلا الدبيب. وأجدني قد اكتهلت والكهل قبيح به الجهل).
يتبع
عبد الوهاب عزام
من طرائف الشعر
الى البحر
للشاعر الوجداني علي محمود طه
قِفْ من الليل مصغياً والعباب
…
وتأملْ في المزبداتِ الغضاب
صاعدات تلوك في شِدقها الصخر
…
وترمي به صدور الشعاب
هابطات تئنُ في قبضةالر
…
يح وترغي على الصخور الصلاب
ذلك البحرُ: هل تشاهد فيه
…
غيرَ ليلٍ من وحشة واكتئاب؟
ظلماتٌ من فوقها ظلماتٌ
…
تترامى بالمائج الصخاب
لا ترى تحتهن غير وجود
…
من عباب وعالم من ضباب
أيها البحر كيف تنجو من اللي
…
ل؟ وأين المنجى بتلك الرحاب
هو بحرٌ أطمٌ لجّا وأطغى
…
منك موجاً في جيئة وذهاب
اوما تبصرٌ الكواكبَ غرقى
…
في دياجية كاسفات خوابي؟
وترى الارض في نواحيه حيرى
…
تسأل السحب عن وميض شهاب
ويك يا بحر ما أنينك في الي
…
ل أنينَ المروع الهَّياب
امض حتى ترى المدائن غرقى
…
وترى الكون زخرة من عباب
إمض عبر السماء مواطغ على الاف
…
لاك واغمر في الجو مسرى العقاب
ذاك أويهتكَ الظلامُ دياجي
…
هـ وينضو ذاك السواد الكابي
وترى الشمس في مياهك تلقى
…
خالصَ التبر واللجين المذاب
أقبل الفجر في شفوف رقاقٍِ
…
يتهادى في منظرٍ خلابِ
حُللٌ من وشائع النور زهر
…
يتماوجن في حواشي السحاب
وإذا الشاطئ الضحوك تغنى
…
حوله الطير بالأغاني العذاب
ونسيمُ الصباح يعبث بالغا
…
ب ويثني ذوائب الاعشاب
من الشمس جمرة في ثنايا ال
…
موج يذكر ضرامها غير خابي
ومن البحر جانب مطمئن
…
قزحيٌّ الأديم غضٌ الأهاب
نزلت فيه تستحمُّ عذارى ال
…
ضوءِ من كل بضة وكعاب
عاريات يسبحن في اليمِّ لكنْ
…
لفّها الرغو في رقيق الثِياب
فإذا البحر يرقص الموج فيه
…
وإذا الطير صُدَّحُ في الروابي
راقصات الامواج علْمن قلبي
…
راقصات المغرِّد المطراب
وأفيضى عليه من سلسل الوح
…
ى نميراً كالجدول المنساب
واستثيري عواطفي ودعيني
…
أسمعُ البحرَ أغنيات الشباب
لي وراء الامواج يا بحرُ قلبُ
…
نازح الدار ماله من مآب
نزعته منّى الليالي فأمسى
…
وهو ملقى في وحشة واغتراب
ذكرياتَ تدنى القصىَّ ولكن
…
اين منى منازل الاحباب
أنا وحدي هيمان في لجك الطا
…
مي غريقٌ في حيرتي وارتيابي
أرمق الشاطئَ البعيدَ بعين
…
عكفت في الدجى على التسكابْ
فسواء في مسمعي من ذَرَاهُ
…
صدحةُ الطير أونعيق الغراب
وسواءُ في العين شارقةُ الفج
…
رِ أو الليل أسود الجلباب
بيد أني أحسُّ فيك شفاءً
…
من سقامى ورحمة من عذاب
أنت مهد الميلاد والموت يابحر
…
ومثوى الهموم والأوصاب
فأنا فيك أطرح الآن آلا
…
مي وعبء الحياة والاحقاب
السائلة.
. .
كاعبٌ زادها الشحوبُ جمالا
…
وكساها اليتمُ الرهيبُ جلالا
أمُعَنَ الهمُ في مدامعها نَزُ
…
حاً وفي قدِّها النضير هُزالا
// لبست بالي الثيابِ وجَرت
…
إثْرَها من جلالها أذيالا
تُمعنُ الَخَّلةُ والعزّ
…
ة في قلبها الكليم نضالا
كم تمَّنتْ على الصَّبِا نعمةَ المو
…
ت إباء فما تطيقُ السؤالا
ولو ان الحمامَ طوع بنان الن
…
اس، كان الإنسان أسعدَ حالا
حثها الجوعُ للسؤالِ كما تحْ
…
تَثُّ للموتِ مجرماً قتالا
فأتت سيداً وقد جَرَّرَ الأذ
…
يال تيهاً على الورى واختيالا
سألته قِرشاً ومدَّت له الكف
…
فَّ ترجّى من الكبير النوّالا
ناهدٌ، لو رَجَت نوالَ صخور
…
لجرى الصخرُ بالدموع وسالا
ردها عنه صاخباً، بكلام
…
كان في قلبها الكسير نبالا
فانثنت عنهُ والفؤادُ جريحٌ
…
وانثنى دمعُها أسى هطّالا
ويلها شرعةً أعزَّتْ لئيما
…
فتمادى على الكريم وصالا
بعض هزل الزمانِ أن يوسع الأح
…
رار ظُلما ويكرمَ الأنذالا
زمنٌ يُنزلُ المراتعُ قطعا
…
ن الخنازيرِ والصحارى التبالا
عجبى للغنىّ يغفو قريرَ ال
…
عينِ في ليلهِ وّينعْمُ بالا
بينما النسوة الضّوأمر يَبك
…
ينَ ويُكثرنَ في الدُّجى إعوالا
من يَعولُ الفتاةَ أرمضها الجو
…
عُ وآضت بها الهمومُ خيالا؟
لا أبُ يُمسكُ الانينَ إذا لجَّ
…
ولا الدمعَ إن ألحَّ وسالا
أتُراها تقضي من الجوع بينا
…
غيرُها يمرحُ السنيَّن الطِّوالا
عزَّت اللقمةُ الطَّهورُ عليها
…
مثلما عزَّتِ السُّها أن تُنالا
فغداً تاخذُ الطريق إلى المن
…
كر كرهاً وتخلعُ الأسمالا
وتجلىّ كالبدر في أفق الشر
…
بهاء وروعةِ ودلالا
وترى سادة النضار عبيداً
…
يَتًمَّنون عطفها بُذالا
. . ويقول الإنسان تلك فتاة
…
لؤَمت نفُسها وساءت فعالا
باعتِ العرض باللذائِذ طوعاً
…
فستلقى من الالهِ نكالا
كذبوا! فالاله أعدلُ من أن
…
يجزي الساغبَ البرئ وبالا
نخلق المجرمين نحن بأيدي
…
نا ونسقيهم الرّدى أشكالا!
دمشق
أمجد الطرابلسي
أحيي الربيع
أتى من يبشرني بالربيع
…
ويعجب لي كيف لا أفرحُ
وكيف تكون الربى في حبور
…
وتزهو الحقول ولا أمرح
وكيف الطيور على غصنها
…
بأشجى أناشيدها تصدحُ
وما للبنفسج من زرقة
…
ومن عبق روحه تنفح
فقلتُ وقد ضفت باللوم ذرعاً
…
وفي وجنتي عبرة تسبح
أحي الربيع وفي مهجتي
…
شتاء من الغمّ لا يبرح
حسين شوقي
ليت قلبي.
. .!
إيه يا دهر ما مخالبك العص
…
ل بأقسى عليَّ من مقلتيَّا
نظراتي للناس تترك في القل
…
ب ضرأما يكوى ضلوعي كيَّا
// لا أرى في الحياة غير حزين
…
يذوب الدمع بكرةً وعشيَّا
وكئيب إذا تنفس خلت الن
…
ار تذور لظى الجحيم عليّا
ليت قلبي من الحجارة صلد
…
ليس يدري من الحقيقة شيئاً
أنا يا قوم شاعر ملأ الشع
…
ر جناني وفاض من جانبيا
قلبي النظم لمعةً وضياَء
…
غير اني أرى الظلام قويَّا
من رملة فلسطين
عبد الرحمن رباح
القلب الطريد
إن بين الضلوع قلباً طريداً
…
عاثر الجد لم يُقَل من عثارهِ
قام دهراً إلى اليسارِ ربيئاً
…
مشرفا قابضاً على منظارهِ
آملا أن يلوح قلب نقيّ=يبذل الود سإذج في نفارِه
يعرف الحب والحياة فيُلقى
…
عن فؤاد المحب ثوب صغارِه
عالم بالجمال في كل لون=وخبير بخافيات مَثارِة
يستطير الذكاء منه شعاعا
…
ساكباً ضوأه على اقطارِه
يشرق القول من سناه ويمشي
…
شرطيّ العفاف في أنوارِه
ويفيض الحنان نهراً دفوقاً
…
يجرف العازلين في تيارِه
آملاً أن يراه منه قريباً
…
قبل موت الهوى وقبل اندثاره
إن شدا بالغرام هب مجيباً
…
ذلك القلب شادياً بجوارِه
يرسل اللحن في الفضاء قويا
…
ويسر الأنين في أوتارِه
جامد الطرف ذائبا من حنين
…
مسنداً رأسه إلى قيثارِه
ويحه لم يجد مبادل حب
…
أو صديقاً يصون من أسرارِه
هام شرقاً وهام غرباً كئيباً
…
يستميح الحنان في أطمارِه
طارقاً للفؤاد من كل ظبي
…
حُفّ أو لم يحف لى بمكارِه
ويوالي الهجوم حتى أراه
…
مشرئباً يشب في أسوارِه
كلما دقّ باب قلب تراءى=فيه شخص يجيل في أنظاره
خافتٌ رده يقول تأخر
…
ت كثيراً يا صاح عن ايجارِه
طال تسايره وآب ولم يح
…
ظ بغير الكلال في تسيارِه
فأبى بعدها القلوب مقيلا
…
واستعاض البيوت من اشعارِه
يشتكي دهره ويدلع فيها
…
من سعير الغرام ألسن نارِه
كاحلا بالدماء من مهجة القل
…
ب عيون القصيد في أشطارِه
هدنة ما أقمت شهرا عليها
…
ثم عاد الفؤاد ماضي سُعاره
فهو يغلي به ويطغو عليه
…
وجده المستثار من أغوارِه
هابطا بالهموم أو مستطارا
…
داويا بالانين فوق مطارِه
زاخرا بالدماء فالحب فيه
…
متعب يرتمي على احجارِه
قابضا كفه على ذكريات
…
كن بالامس في رمال قرارِه
باسمات وهن حول غرامى
…
مغضبات مضين في آثارِه
ذكريات اثارها من جديد
…
ستثير الغرام من أوكاره
عابث بالنهى كثير التأبى
…
حارس غصنه وطيب ثمارِه
باسم عندما يراني وحيدا
…
وخجول إذا مررت بدارِه
سارح الطرف إن رآني وصحبي
…
ذاهل كالغريق في افكارِه
اسجحى يا حبيبتي ففؤادي
…
قلبٌ كالحياة في أطوارِه
زاخرا بالدماء فالحب فيه
…
متعب يرتمي على احجارِه
قابضا كفه على ذكريات
…
كن بالامس في رمال قرارِه
باسمات وهن حول غرامى
…
مغضبات مضين في آثارِه
ذكريات اثارها من جديد
…
ستثير الغرام من أوكاره
عابث بالنهى كثير التأبى
…
حارس غصنه وطيب ثمارِه
باسم عندما يراني وحيدا
…
وخجول إذا مررت بدارِه
سارح الطرف إن رآني وصحبي
…
ذاهل كالغريق في افكارِه
اسجحى يا حبيبتي ففؤادي
…
قلبٌ كالحياة في أطوارِه
قد ملكت القياد منه وصارت
…
بسمات من فيك إكليل غارِه
فاحذري أن يثور بعد سكون
…
فيطير الغرام في إعصاره
المنصور
نزيل القاهرة
في الأدب الفرنسي
الدوق دي لاروشفوكو
للدكتور حسن صادق
كتب اديب فاضل في عدد الرسالة الغراء رقم (40) يقول ان السبب الأول في سقوط روايات كورني الاخيرة يرجع إلى غلو هذا الشاعر (في مبدئه الذي يعنى بتصوير الاشخاص كما يجب أن يكونوا، فجاءت شخصيات قصصه الأخيرة خارجة عن حدود المعقول)، لا إلى اضمحلال قواه الذهنية من أثر الهرم كما ذكرت في مقالي عن هذا الشاعر العظيم. وأعتقد اني محق فيما ذهبت إليه لأن كورني قال عن نفسه بعد فشل قصصه الأخيرة (شعري ذهب مع اسناني)، ولأن شخصيات قصصه الأولى الخالدة كالسيد وهوارس وسنا تعلو على الضعف الإنساني وعلى الرغم من ذلك أبلغت الشاعر قمة المجد وأكسبته لقب: كورني العظيم.
ثم قال الأديب الفاضل ان كلمات فولتير: (الشرح الوحيد لكتب كورني يجب أن يكون بكتابة هذه الكلمات في أسفل كل صحيفة! جميل. جليل. إلاهي!)، على ما جاء في كتب الآداب الفرنسية، قيلت في راسين لا في كورني. وأصر على أن فولتير الذي عرف بالبخل الشديد دفعه اعجابه بكورني إلى أن يتبنى ابنة اخته ويزودها بمهر ثم يزوجها. ولم يكفه هذا بل نشر كتبه وشرحها إمعانا في اظهار إعجابه بالشاعر الأكبر، وكتب في مقدمة شرحه تلك الكلمات. وأرجو من الأديب الفاضل ان يتفضل بإرشادي إلى كتب الأدب التي ذكرت أن فولتير قال تلك الكلمات في راسين لا في كورني وله مني وافر الشكر.
والآن نتحدث عن الدوق دي لاروشفوكو الذي شغل أذهانس الناس في عصره وأقلام الكتاب والنقاد في العصور العصور التالية. ولم يخرج هذا الرجل للناس من الآثار الأدبية غير مذكراته شأن أمثاله النبلاء الاغنياء، وكتاب صغير الحجم عنوانه:(مواعظ أو تأملات وأحكام أخلاقية) جمع فيه كل آرائه في العواطف الإنسانية، بعد أن خيبت الحياة أماله ودكت أحداث الزمن صروح أحلامه، وذهبت الحقيقة المريرة بأوهام طموحه، فجاءت هذه الآراء معتمة حزينة تلقى على عواطف الإنسان رداء من الشك الأليم وتظهرها في صورة بشعة مخوفة، وهي تتلخص في كلمتين:
فلسفة الاثرة، وهذه الفلسفة هي التي حركت الاقلام وأثارت المناقشة، وألقت باسم صاحبها إلى الاجيال في إطار الخلود.
ولا يستطيع الإنسان ان يفهم (مواعظ) هذا الكتاب إلا إذا درس حياته وعرف الحوادث التي اشترك فيها، وتركت في نفسه أثرا عميقا. وهذا السبب سيدعونا إلى الاطالة والتفصيل.
وسنقسم حياته إلى أدوار ثلاثة: دور الشاب الخيالي، ودور الرجل الطموح، ودور الشيخ الفيلسوف.
الشاب الخيالي
ولد فرانسوا السادس دوق دي لاروشفوكو بباريس (شارع بتي شان) في 15 سبتمبر عام 1613. وهو من أسرة عريقة لها تاريخ حربي مجيد، وتملك ثروة طائلة في (بواتو وانجوموا)، ومقام آل روشفوكو يلي مباشرة مقام أمراء البيت الملكي. وقد كتب في عام 1648 إلى الوزير مازاران يقول: (أستطيع أن أقول وأثبت أن ملوك فرنسا منذ ثلاثمائة سنة يعاملوننا معاملة ذوي الرحم، لا يجدون في ذلك عيبا ولا بأسا) وهذا يدل على مبلغ اعتزازه بأسرته واعتداده بأرومته.
ولما حان وقت تعلمه، أخذ منه في الريف قسطا ضئيلا، إذا اتجهت عناية أهله إلى التمرينات الجسدية ليجعلوه من حملة السيف شأن أبناء النبلاء في ذلك العصر. ثم زوجوه وهو في الخامسة عشر من فتاة ولدت في حجر صالح ونشأت في خير جزيل، هي (أندريه دي فيفون). وقد قال في كبره:(يوجد زواج طيب، ولكن لا يوجد زواج عذب شهي). وما لبث بعد زواجه أن اتبع هذا الرأي قبل أن يقوله، وبحث خارج بيته عن ضرورة اللذة التي لا تهيئها العيشة الزوجية. وتناهت أخباره إلى امرأته، ولكنها صانت عفتها، ولم يتألفها العبث من نفرتها. وأنجبت له أولادا ثمانية.
ثم خاض أول معركة حربية في إيطاليا وهو في السادسة عشرة من عمره. ولما عاد منها دخل البلاط الملكي. وكان الفن السائد فيه كما قال فولتير، هو تدبير الدسائس لقهر الوزير الكبير الكادردينال ريشليو. فاستدرج هذا الفن فرانسوا ودفعه إلى أحضان النبلاء الذين كانوا يئنون من سلطان الوزير ويأتمرون به في كل حين. ورأى بعينيه سطوة الوزير
وأنواع العذاب الذي ينزله بهؤلاء النبلاء ليخضعهم للقانون العام، ولكنه لم يجبن ولم يرجع عن سبيله.
وكان في ذلك الوقت كثير الكبرياء، طموحا بلا غرض معين، حي الذهن، دقيق الملاحظة، خجولا كلفا بالخيال، شديد الميل إلى مجالس النساء. وقد لازمه هذا الميل طيلة عمره. وعقب دخوله البلاط اتصل بأحب فتيات الملكة (آن دوتريش) إليها، وهي الآنسة دي هوتفور التي يحبها الملك لويس الثالث عشر حبا افلاطونيا. وهذه الصلة عبدت له الطريق إلى اكتساب ثقة الملكة البائسة المضطهدة من جراء الريبة في نيتها وأغراضها. وقد سببت له هذه الثقة ضررا كبيرا، كما ذكر في مذكراته:(أسباب أتفه من هذه كانت كافية لان تبهر نظر الرجل لم يسبر غور الحياة، وتدفعه في سبيل ضارة بمصلحته، وقد جلب على هذا السلوك غضب الملك والكاردينال ريشلييه، وسلسلة طويلة من المحن أدخلت الاضطراب على حياتي).
وفي عام 1633 سافر مختاراً مع شبان الطبقة العالية إلى محاربة الأسبان في الفلاندر، وأظهر ساحة القتال من ضروب البسالة والاقدام ما أثار الاعجاب. ولما عاد من الحرب، أمر بمغادرة باريس والاقامة في أملاك أبيه، لأنه اتهم ظلما بأنه أفشى جميع ما دار في الموقعة. ولكنه أدرك ان الملك أصدر هذا الأمر انتقاماً منه لصلته بالملكة والقهرمانة دى هوتفور.
حرم عليه دخول الحاضرة اربعة اعوام. وهيأت له المصادفة التعسة أثناء ذلك مقابلة الدوقة دي شفريز، شيطانة الدسيسة كما سماها سانت بيف، وعقد أواصر الصداقة معها. وقد وصفها الكادينال دي رتز بأنها (كانت تحوك الدسائس، لأنها جاءت في عصر الخداع والختل. ثم اتصلت بالدوق بوكنجهام والكونت دي هولاند فدفعاها في هذه السبيل، فاستفادت لأنها كانت تفعل كل ما يسر حبيبها. وكانت دائمة الوفاء للغرام، كثيرة التغيير للموضوعة. وإني لم أر إنسانا اقل اكتراثا للأخطار، ولا امرأة أكثر احتقارا للواجب منها. ما عرفت في حياتها غير واجب وأحد: هو أن تحصل على إعجاب صاحبها بها).
وكان ريشليو قد أبعدها إلى (داميير) حتى يقطع الصلة التي بينها وبين الملكة، ولكنها كانت تأتي لزيارته خفية، وتمهد لها طريق الاجتماع بالدوق بوكنجهام الانجليزي في حديقة
اللوفر. وعرف ريشليو هذه الأخبار فأبعد الدوقة إلى التورين، وهناك قابلت لاروشفوكو، واستطاعت بدهائها أن تستخدمه رسولا بينها وبين الملكة. ولم تقف عند هذا الحد، بل نظمت مراسلة سرية خطرة بين ملكة فرنسا وملك أسبانيا. وعرف ذلك الوزير الساهر على مصلحة بلاده، فأوعز إلى الملك ان يطلق زوجه ويخرجها من الارض الفرنسية.
ولما شعرت الملكة بعزم الكاردينال، استدعت لاروشفوكو وتقدمت إليه ان يسهل لها طريق الهرب إلى بروكسل. وهو يقول في مذكراته عن هذه الحادثة:(لما وقعت في هذا المأزق لم تجد وفيا لها غيري وقهرمانتها الآنسة دي هوتفور، فعرضت على أن أختطفهما وإذهب بهما إلى بروكسل. وقد بعثت أخطار هذا العمل والصعاب التي تقوم في وجه إنفاذه سرورا كبيرا في دخيلتي. كنت في سن تحبب إلى الإنسان أن يأتي أعمالا خارقة ذات دوي عظيم. ولم أجد عملا يرضي هذا السن أكثر من اختطاف ملكة من زوجها، وفتاة من ملك يهواها).
ولكن ريشليو أحبط هذه الخطة، وآلم الملكة جد الألم. وخافت الدوقة دي شفريز بطش الوزير فاعتزمت الهرب. وكانت تجيد ركوب الخيل، فغادرت مدينة (تور) في زي رجل، ومعها خادمان وكان ذلك في السادس من شهر سبتمبر عام 1637. ولما صارت على مسيرة فرسخ من (فرتي) التي التجأ إليها لاروشفوكو، أرسلت إليه تقول إنها رجل من النبلاء اضطر إلى الهرب عقب مبارزة، وتسأله أن يرسل إليها عربة مقفلة وبعض الخدم. وما أن ألقى على الرسالة نظرة حتى عرف خطها، ولكنه لم يستطع الذهاب إليها لأن ضيوفه أرادوا أن يصحبوه. وأرسل إليها في الحال ما طلبت، فسارت آمنة حتى بلغت حدود أسبانيا. ثم أرسلت إليه جميع حليها وقيمتها 200000 دينار راجية منه أن يقبلها منها هدية إذا قضت نحبها، أو يردها إليها في أحد الأيام إذا قدر لها ان تعود إلى بلادها.
وقد ذكر مسألة الحلي في مذكراته للدلالة على الثقة التي يلهمها وفاؤه، مع انه ينكر في كتاب (مواعظه) الثقة النقية الخالصة ويقول:(ليس لنا أن نفخر باكتساب ثقة هي دائما مشوبة بالغرض) وذكر أمامه أحد أصدقائه جاك اسبريه هذه الحادثة وقال يداعب صديقه في شيخوخته: (مما يثير العجب أن يفخر الإنسان بأن أميرة لجأت إليه ووضعت بين يديه حياتها وحريتها، مع أنها لم تفعل ذلك إلا خشية الوقوع في يد العدالة، وأن يفخر بأن هذه الأميرة ائتمنته على حليها الثمينة وهي خارجة من وطنها، مع انها لم تفعل ذلك إلا في
سبيل مصلحتها الذاتية، أي حرصا على مالها وخوفا عليه من السرقة في الطريق!) وهذا رد ساخر على كتاب لاروشفوكو الذي يرجع كل العواطف الإنسانية إلى مصدر وأحد هو: المصلحة الذاتية أو الاثرة.
ثم عرف ريشليو أن لاروشفوكو ساعد الدوقة على الهرب فاستقدمه إليه وأنبه. ولما رأى منه غلظة في الاجابة على أسئلته، أرسله إلى سجن الباستيل، ولكنه أمر مدير السجن بأن يتلطف في معاملته ويسمح له بالاستراضة على الشرف كل يوم. وبعد مرور ثمانية أيام على سجنه، أطلق سراحه فحمد الله على خروجه بعد هذه المدة الوجيزة في عهد حرص الباستيل فيه على حرفائه، وأنساه شعوره برضى الملكة وقهرمانتها والدوقة عن عمله، مرارة السجن قسوته.
وعقب استرداد حريته أمر بمغادرة باريس والاقامة في (فرتي) وهناك جاءه رسول من الدوقة وتسلم منه حليها، وعاش في ذلك لريف عامين هادئاً مطمئنا، وأصبح بيته ملتقى النبلاء والعظماء. وقد ذكر هذا العهد في مذكراته فقال (كنت شابا في ذلك الوقت، وكان الملك ووزيره يدانون رويداً من القبر، فرجوت أن أحصل على خير كثير بعد موتهما وتغير الحال. وكنت سعيداً في أسرتي، أحظى بكل مسرات الريف وأجد حولي كثيراً من النبلاء الأغنياء المغضوب عليهم من الوزير، لهم مثل أماني وآمالي). وهنا يظهر الرجل الطموح في ثوب الشفيق على ملكة تعسة.
ولما دارت رحى الحرب في (البلاد الواطئة)، سمح له بالانضمام إلى الجيش بعد طول إلحاحه، وأبلى بلاء حسنا في موقعتي سان نيقولا وسان فينان. وعرض عليه ريشليو رتبة سامية مكافأة له على بسالته فرفض إذعانا لأمر الملكة، إذ كان في نيتها إن تجنبه قيد الوزير حتى يستطيع أن يسل سيفه في وجهه لما تمكنها الظروف من إشهار عداوتها له.
يتبع
حسن صادق
2 - بين الموسيقى الشرقية والغربية
بقلم مدحت عاصم
لانعام
يضم جميعا من الخلان حفل يستمعون فيه إلى مغني عذب أو موسيقى شجية، وقد ملكت البابهم النغمة، واستأثرت بمشاعرهم المثاني والمثالث، ولا تتعدى معرفتهم باللحن أو المعزوفة عن أن اسمها كذا، وأن مؤلفها هو فلان، ولكن اخذهم قد يهتف في نشوة من الطرب، ما أحلى هذه الترجيعة (البياتي) أو ما أجمل تلك الحركة (السيكاه)!: فينظر الي رفقاؤه نظرة تقدير واعجاب، ويعتدل هو في جلسته مزهواً مستزيداً من اشارته، وايماءاته، كيف لا وقد وفق لسر من أسرار الانغام وسيرها، وأطلع رفاقه على قدر علمه ومعرفته! ولو عرف الرفاق أن القدرة على تعيين النغمة لمجرد سماعها، إن أعوزها شئ من الخبرة بالمران، فهي ليست من الخطر بالقدر الذي يتصورونه، لاقتصدوا في تقديرهم واعجابهم. أما أنا، فأذكر أني وفقت في صغري إلى جلسة ضمت جمعا من الوافدين من ليلة من ليالي رمضان المكرم، وقد اجتمعوا حول شيخ مقرئ يسمعهم طرفا من المولد، وقد استولى عليهم الطرب الممزوج بالخشوع، ولم يكد ينتهي حتى أسرعوا يكبرون ويمدحون الشيخ المقرئ وبراعته وصوته الحنون القوي. ثم تكلم أحدهم، وكانت له عند الشيخ مكانة وله عليه دالة، فطب قصيدة (يا نسيم الصبا)، وأردف طلبه قائلا (والله يا سيدنا، اني أحب نغمة الصبا هذه، ولا أكاد أحبس الدمع عند سماعها.) فهمهم الشيخ ودمدم وأراد أن يرد الحق إلى نصابه ويمنع الخطأ أن يروج فقال (يا بني هذه القصيدة من نغمة الحجاز). وكأنه شعر بقدر الخيبة التي لحقت الطالب فاسرع بانشادها تعويضا له، فكان هذا أول درس وعيته في علم النغم، وكنت بعدها كلما سمعت نغمة طبقتها على (يا نسيم الصبا)، فأن وافقتها فهي حجاز، وان خالفتها فعلمها عند الله والراسخين في العلم. ومن بعد (نسيم الصبا) عرفت أن مارش (عباس) من نغمة (النهاوند) وأن (يا طالع السعد)(رصد)، وهكذا أصبحت أقيس كل ما أسمعه على معرفته، وبذا أستطيع تعيين نوع النغمة.
غير أن علماء الانغام يرون أن ميزان الإذن قد لا يعدل، وأن هذه الطريقة الساذجة لا تصح أن تكون حجة علمية دقيقة يعتمدون عليها في قوانينهم وأبحاثهم، فهم لذلك يعمدون
إلى تحليل النغمات تحليلا صوتيا حسابيا، ويفرقون بين درجات السلم الموسيقي بنسب مضبوطة ثابتة لا يعتورها خلل، ولا تعرض للأحداث والغير.
وأرى هنا قبل ان أتحدث عن تقسيم النغم الشرقي والغربي أن أثبت التقاسيم العامة في السلمين ليظهر جليا تركيب التقسيم في السلم الشرقي وبساطته في السلم الغربي.
1 -
السلم الغربي (من اليمين إلى اليسار تنازليا)
دو - سي - لادييز - لا - صول دييز - صول - فاد - فا - مي - ري د - ري - دود - دو
والمسافة بين كل هذه الاقسام متساوية في السلم المقرب وهو
المستعمل في العالم الغربي الآن وتساوي نصف مسافة كاملة
1516
2 -
السلم الشرقي
8204859049 8
9218765536 9
نوا - تيك حجاز - حجاز - نيم حجاز - جهار كاه - تيك -
بوسلك - سيكاه - تيك - كردي - دوكاه - تيك - زنكلاه - نيم - رصد
2048 59049 8
218765536 9
- رصد - تيك - كوشت - عراق - تيك - عجم عشيران -
حسيني عشيران - تيك - قباحصار - قباحصار - نيم قباحصار - يكاه -
8204859049 8
9218765536 9
نوا - تيك - حجاز حجاز - نيم - جهار كاه - تيك - بوسلك -
سيكاه - تيك - كردي - دوكاه - تيك - زنكلاه - نيم - رصد -
تيك - كوشت - عراق - تيك - عجم عشيران - حسيني عشيران - تيك -
قباحصار - قباحصار - نيم - قباحصار -
2048 59049 8
218765536 9
ويراعى في تقسيم هذه المسافات، النسب التي ذكرناها تحت باب السلم الموسيقي الشرقي في عدد أسبق من الرسالة.
وقد رأى موسيقيو الغرب ان كل ما يستعملونه من الانغام ينحصر في نوعين رئيسيين، اطلقوا على أحدهما اسم النغمة الكبرى والثاني اسم النغمة الصغرى وجعلوا الدرجة الاساسية للسلم الكبير وهي دو وللسلم الصغير لا. وينسبون اسم النغمة الاساسية فيقال نغمة دو الكبيرة ونغمة لا الصغيرة ولا بأس من أن نوضح هنا نسب المسافات بين الدرجات في سلمي النغمتين.
النغمة الكبرى دو 1615 سي 98 لا 98 صول 98 فا 1615
مي 98 ري 98 دو
النغمة الصغرى لا 98 صول 98 فا 1615 مي 98 ري 98
دو 1615 سي 98 لا
وقد جعلوا شرطا في كل لحن ان ينتهي بالدرجة الاساسية في نغمة دو يجب ان تكون آخر درجة في ختام اللحن هي دو وكذلك في لا. كما انهم أباحوا للملحن أن يختار أي درجة من درجات السلم الموسيقي لتكون درجة اساسية للحن مع مراعاة النسب المفروضة للنغمة المستعملة سواء أكانت الكبرى أم الصغرى، وجوب انتهاء اللحن بالدرجة الاساسية.
وقد رؤى بعد ذلك أن هناك نوعين من النغمة الصغرى إحداهما تشابه النغمة وهبوطها، والأخرى يختلف السلم هبوطا عنه صعودا إذ يرسون موقع الدرجة السادسة نصف مسافة في الصعود، وعند الهبوط تكون النسب بين الدرجات هي نفس نسب النغمة الكبرى وسميت النغمة الاولى بالصغرى المطربة والثانية بالصغرى المتوافقة أو المتجانسة فرضوا أن من الشروط اللازمة في علم الانغام ان المسافة التي بين الدرجة السابعة والثامنة يجب ان يكون مقدارها نصف مسافة، كاملة وسميت الدرجة السابعة في السلم
بالدرجة الحساسة - وان كنت لا ادري مصدر هذه التسمية - واحسب ان علماء النغم انفسهم لا يستطيعون لذلك تفسيرا دقيقا.
هذا في الموسيقى الغربية، أما في الموسيقى الشرقية فشد الله ازر المشتغلين بالانغام فيها، ويسر لهم من أمرها ما عسر، فلا قاعدة عامة، ولا نغمات معدودة محصورة يسهل على الفكر ادراكها وتحديدها. وإنما هي نغمات تعد بالمئات، ولكل نغمة قاعدتها الخاصة أو قل قواعدها في ترتيب النسب لمسافاتها ودرجاتها. ولذا يستحيل علينا ان نجد عالما شرقيا، مهما بلغ به العلم، قد الم بكل هذه النغمات وأحاط بها. وليس هذا يعني ان كل النغمات في الموسيقى الشرقية عسيرة المطلب شاقة المنال، بل ان فيها من الانغام ما يستطيع الموسيقي العادي ان يلم بها بدون حاجة إلى جهد أو كبير عناء. بل إن من هذه النغمات ما يجعل الموسيقى الغربية في يأس قاتل لعدم بلوغها تلك المرتبة من دقة التقسيم وعذوبة التوقيع وحساسة الإذن.
وفي الموسيقى الشرقية اختلاف عن بساطة التسمية للنغمات الغربية فقد قلنا في النغمات ان النغمة الكبرى أو الصغرى يصح ان تنتقلا على كل درجات السلم محتفظين باسميهما مع نسبة اسم الدرجة التي تعتبر أساسية إلى النغمة. أما في الموسيقى الشرقية فلا يمكن حصر النغمات. ولنأخذ مثلا النغمات التي درجتها الاساسية الرصد، وأولها نغمة الرصد، ثم السوزناك والحجاز كار والنهاوند والنوا أثر والنكريز وطرزنوين والسازكار، وهكذا إلى حوالي الثلاثين نغمة. ولا يقتصر الأمر على هذا. وينهج النهج الغربي عند اعتبار درجة اساسية اخرى غير الرصد للنغمة بل يزداد التعقيد، فمثلا نغمة الحجاز كار ودرجتها الاساسية الرصد وسلمها الموسيقي كما يلي:
كردان 21872048 أوج حصار 21872048 نوا 98
جهاركاه 21872048 سيكاه 21872048 زيركوله
21872048 رصد 256243 98
فلو اتخذنا درجة الدوكاه أساساً لهذه النغمة فان اسمها يتغير ويصبح مشهناز، ولو اتخذنا نفس هذه النسب أيضاً لدرجة اساسية هي الحسيني عشيران لتغير اسم النغمة وأصبح
سوزول وباتخإذ درجة اساسية هي العراق يصبح اسم النغمة اوج أرا، ويقول الراسخون في علم الانغام الشرقية - ولسنا نعرض لقولهم الآن - ان هذا التركيب والتعقيد في اختلاف اسماء الانغام وتنوعها مع تشابهها لهو عقدة فنية محبوكة، والفخر كل الفخر لمن استطاع ان يلم من هذه الانغام باكثرها تعقيدا واكثرها غرابة في الاسم والتصوير، ثم يعللون هذا أيضاً بأن تلك الانغام وان تشابهت حقا في ترتيب سلمها فان هناك اختلافا بسيطا في سير النغم عند الصعود أو الهبوط.
هذا ابسط مثل لنغمة واحدة في انتقالها على ثلاث درجات مختلفة، ولو اردنا ان نحصر عدد الانغام التي يمكن تكوينها على درجات السلم الشرقي وعددها اربع وعشرون - من النغمات التي درجتها الاساسية هي الرصد فقط لاحتجنا إلى خبير حسابي ليستعين بعمليات التباديل على اجابتنا إلى ما نرغب. ولما كان الغرض من هذا البحث هو التعرض بوجه عام إلى الفروق الظاهرة بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية، فانا نرجئ التكلم عن محاسن ومساوئ الموسيقى الشرقية إلى اجل قريب.
مدحت عاصم
العلوم
ويسألونك عن الأهلة
للدكتور احمد زكي
- 3 -
سطح القمر
إذا اعتمدنا في حكمنا على الأمم القديمة من مصرية وكلدانية وهندية وفارسية على المرقوم مما خلف التاريخ، واعتمدنا عليه وحده، خرجنا على أن هؤلاء القدماء وُفقوا إلى دراسة مدار القمر دراسة دقيقة كشفت عن أهم الصفات الخاصة بهذا المدار، أما رأيهم في القمر نفسه، ما جوهره وماذا عليه؟ فلم يصلنا مما قد كانوا علموه من ذلك شئ.
ومن أقدم ما نعرف في هذا الصدد ما أرتاه العالم الإغريقي طاليس (640 - 550 ق م) فقد ارتأى ان القمر ان كان أكثره من الشمس، فان بعضه يخرج بالاشعاع من القمر نفسه. ودلل على ذلك بأن الأجزاء المعتمة من الأقمار الجديدة والأهلة لا تعتم كل الاعتام، بل يبقى فيها برغم احتجابها عن الشمس بقية قليلة من ضياء تتبينها العين.
ومن القدماء الفلاسفة الفيثاغوريون علموا أن القمر كرة بلورية ملساء ينعكس منها الضياء كما ينعكس على المرايا، وتتراءى فيه صور الأشياء كما تتراءى في المرايا، فالمناطق التي تظهر على سطح القمر بيضاء ناصعة، أو سمراء داكنة، ليست إلا صورة الكرة الارضية انعكست فيه ببحرها وخلجانها، وجبالها ووديانها، وتابعهم في ذلك ارسطو، فأظهر جهلا كجهلهم تاماً بأبسط قواعد الضوء وانعكاساته، وبما لاشك كان معلوما في هذا العصر من الحال التي عليها دار القمر. فهذه القواعد الضوئية والمعلوم من المدارات القمرية لا يمكن ان يؤلف بينها العقل العادي - بله عقل أرسطو - وبين أن القمر يرينا دائما وجها وأحداً وصورة واحدة لا تتغير. فلو أنها كانت صورتنا تنعكس الينا لتغيرت حتما باختلاف أوضاعنا واوضاعه.
وسبق هذه الآراء وتخللها وتبعها آراء أخرى للأقدمين كثيرة، كان من الطبيعي أن تحظى من الخيالى بحظ أكبر من الحقيقة لعجز العين الإنسانية عن استيضاح ما هنالك.
ثم جاء جاليليو، وفي عام مايو عام 1606م وجّه إلى القمر أول منظار صنعه، فعلم من تلك النظرات الأولى أن لا ملاسة في سطح القمر، وأنه سطح خشن فيه خروج وفيه دخول، وفيه تكسر وفيه انحناء والتواء. ثم تهيأ له منظار الأكبر فحرره إليه، فرأى لأول مرة جبال القمر تمتد في سلاسل كسلاسل الأرض، تدور على الأغلب في حلق يضيق ويتسع. ورأى على حافة الأهلة الداخلة نقطا لامعة في بقع سوداء، عرف أنها قمم الجبال، نالتها وحدها الشمس فأضاءت، بينما الوديان المحدقة بها في ظلام بهيم، وتتبع ظلال تلك الجبال القمرية فوجدها تطول وتقصر، كما تطول وتقصر الجبال الارضية بشروق الشمس عليها وغروبها عنها. إنما الذي حيره أن جبال القمر ووديانه كانت تنير بغتة، وتظلم بغتة، كانت تعرف البياض الخالص والسواد الخالص، وتجهل ما بين هذين الطرفين من درجات، بينما جبال الأرض لا تكاد تنالها الشمس حتى يصيب الوديان من نورها نصيب ولو ضئيلاً. حيرة إحتارها جاليليو من تلك الحيرات الغوالي التي كثيرا ما تنكشف عن حقيقة غالية، حيرة نعرف الآن انها كانت أول دليل على أن القمر لا جو له ولا هواء يلفه كهوائنا، فان هذا الجو الارضي، وهواء دينانا هذا الذي نعيش فيه، يكسر أشعة الشمس إذ تمر فيه فينشرها وينال بها فيما ينال مواقع تلك الظلال التي لولاه لكانت سوداء كالليل، وظلماء كالظلال على القمر.
واستخدم جاليليو أطول تلك الظلال في تقدير أطوال الجبال وخرج من ذلك على نتائج وارتأى أول من رأى فوهات القمر، وهي جبال كالبراكين الأرضية تتقور قممها كالجفان، شبهها كما تراءت له بالعيون على ذيل الطاووس.
ورسم جاليليو خريطة للقمر تحكم له بالحذق وتقضي له بالمقدرة، إذا ذكرنا ان منظاره لم يكبر أكثر من ثلاثين ضعفا، ولكن فاق خريطته في الاتقان وسبقها في التفصيل ما تلاها من خرائط الباحثين، فأصبحت هي ولا قيمة لها إلا المتعة بالقديم.
تبع جاليليو رجال نذكر منهم هيفيليوس وريكسيوني وكسيني وشروطر ولو هرمان وبير ومدلر ووب وشمت بحثوا القمر، فزادوا في قوة المنظار، وأكثروا من رؤية التفاصيل، ودونوها على الورق تارة وعلى المعدن تارة أخرى، وبذلوا في ذلك مجهودات كبيرة، وصبروا وصابروا على المشقات الكثيرة، لاسيما مشقة العين وجهد البصر وألم
التحديق.
وانتصف القرن الثامن ففكر القوم في استخدام الفوتوغرافيا في تصوير الأقمار والنجوم فكانت فتحا جديداً.
يتبع
أحمد زكي
6 - في البحوث الروحية
للأستاذ عبد المغنى على حسين
ما هو النوم؟ ثقل يداعب الرأس، ثم تطبق الاجفان، وينعدم الحس، وتهدأ حركة القلب، ويبطئ التنفس ويكون عميقاً، وتهبط حرارة الجسم شيئا قليلا. أما المخ فيتوقف جزء منه عن العمل، فيغيب ما يسمى بالعقل الواعي، وينفرد بالأمر العقل الباطن. والاحلام أكثرها أحاسيس، تغزو الجسم النائم من خارجه، أو تتولد في داخله، فتبرق بها الاعصاب إلى العقل الباطن، فيقرؤها بلغة قصصية رمزية، ويأخذ من سالف الذكريات، وكامن المخاوف والرغبات، فيكمل الاقاصيص، يحوك اطرافها. في الاحلام شواذ، ولكن اكثرها من هذا النوع.
هذا النوم الطبيعي، هدنة يتخذها العقل الواعي. وهناك نوم اصطناعي، هو المعروف بالنوم المغنطيسي، ظاهرة اكتشفها في القرن الثامن عشر طبيب ألماني يسمى مزمر وبأكتشافها انفتحت للاحتيال سوق جديدة، اتاها الدجاجلة يهرعون، من كل موفور الذكاء، منقوص الخلق، فأساءوا إلى العلم، وفوتوا على الإنسانية النفع، وفجع الرجل في اكتشافه، وساءت سمعته، وقضى على اساليبه. ولكن لما كان الشىء الحقيقي لا ينعدم، عاد العلم في أواخر القرن التاسع عشر فتناول الظاهرة المزمرية بالدرس الجديد.
في النوم المغناطيسي لا يغيب العقل الوعي من تلقاء نفسه، بل بتأثير ضغط يقع عليه من عقل آخر. فإذا نظر المنوم في عيني القابل للنوم، أحس هذا بعد حين بثقل في الجفون، ثم يغمض، ويفقد الحس، وتسترخي عضلاته، ويقع في سبات يختلف عن النوم الطبيعي فيما يأتي: -
1 -
لا يكون العقل الباطن حراً مستقبلا كما في النوم الطبيعي بل يكون عبداً طائعاً للشخص المؤثر، يأتمر بجميع اوامره، ويتلقى منه كل فكرة كلها تنزيل. ويمكن تشبيه الجسم في النوم الطبيعي بمملكة غاب مليكها باختياره، وترك آلة الحكومة تدير نفسها، على أن يعود إذا استدعت الحال، أما في النوم المزمري فقد قهر الملك، وكبل عنوة بالاصفاد، فطبيعي أن تقع حكومته لعبة في يد القاهر. هذا تشبيه فقط، والذي يحدث على أي حال هو أن المتأثر يصبح للمؤثر أطوع من بنانه.
2 -
لا يستيقظ المتأثر من سباته إلا بأمر من المؤثر، ولا يستيقظ من تلقاء نفسه ولو قطع اربا.
كيف يحدث هذا التأثير المزمري؟ لا تعرف الآن علة حدوثه على التحقيق، وخير ما يقال في ذلك هو أن الفكرة القوية تثير أمواجا كهرطيسية حادة تنتقل في الأثير، وان المؤثر عندما يحدق في المتأثر يصليه من هذه الموجات شواظا ينصب على مراكز الوعي في مخه فتتخدر. وقد استجدت بحوث تجريبية تشهد لهذا الفرض إلى حد ما، من ذلك ما أذاعه منذ شهور البروفسور فرديناند كازيمالي أستاذ الأمراض العصبية بجامعة ميلانو، من أن موجا كهرطيسياً يتشعع من الجسم البشري عند اضطراب النفس، وانه استقبل هذا الموج بآلة سينمية، فوجده، مما يؤثر في الاشرطة الحساسة.
مهما تكن العلة فالنوم المغنطيسي حقيقة واقعة، وهو أداة خطرة إذا أريد منه الشر والعبث، كما أنه نافع في علاج العادات الذميمة، وشفاء أمراض عصبية ليس سببها تلفا ماديا في الاعصاب.
هذان ظرفان يغيب فيهما العقل الواعي - ظرف النوم الطبيعي، وظرف النوم المزمري - ونود ان نتحدث عن ظرف ثالث، من الناس من تطرأ عليه حالة عصبية، فتعتريه تشنجات، ثم يفقد الحس، ويبدو كنه عقليته تغيرت، فيأتي من الاقوال والافعال ما ليس من عاداته، كان يدلي برغبات لم يكن يبوح بها، أو يوجه عنيف الكلام إلى أهله ومن هم موضع احترامه، ويحتج على إهانات تافهة لحقته ولا يكاد يذكرها أحد، ثم ينتفض فيعود إلى نفسه، ويدور بعينه فيما حوله ومن حوله، لا يدري ما حدث، ولا يذكر حرفا مما قيل.
تشاهد هذه الظاهرة، وتفسيرها سهل، لأن كل ما يلفظ المريض من قول لا يتعدى سابق اختباراته، والطبيعي من رغباته، فالمسألة إذن ثورة داخلية، يتغلب فيها العقل الباطن على العقل الواعي، ويحكم برهة حكم طيش واضطراب، ثم يهبط ثانية إلى مستقره، ويعود العقل الواعي من غيبته. هذه الظاهرة مرض عصبي، يضمه الطب إلى أنواع الهستيريا، وسببه رعب أصاب الشخص في طفولته أو نحو ذلك، فاختل التوازن بين قوى أعصابه، وغدا عقله الواعي مزعزع السلطان.
تلك حالات ثلاث يغيب فيها العقل الواعي. ولكن الحال الثالثة (الهستيريا) ليست من
البساطة كما ذكرنا. فمن هذا النوع أمثلة نادرة وعجيبة. أمثلة لا تدخل في الحقيقة في اختصاص الطب، لأن صاحبها لا يشكو مرضا، تأتيه النوبات من غير ألم، ويتحدث اليك في ذهوله حديثا هادئا متزنا من غير انفعال، زاعما انه شخص آخر غير نفسه، قد يكون امرأة فتنتحل في ذهولها شخصية رجل، أو العكس، وقد يكون صغيرا فيحدثك حديث الكبير أو العكس، فإذا عاد إلى نفسه لم يتذكر شيئا مما كان، وإذا عاودته النوبة برزت شخصيته الثانية بذاكرتها الخاصة، وخبرتها الخاصة، وحكمها الخاص على الأمور، وأذواقها وميولها الخاصة، وتبدأ حديثها معك من حيث انتهيتما في المقابلة السابقة، وبالاختصار تشعر انك تعاشر شخصين مستقلين أحدهما أساسي والآخر يأتي في الفينة بعد الفينة.
هذه الحال يعرفها علماء النفس، ويسمونها الشخصية المزدوجة ويصح ان يتكلفها البعض لغاية في نفس ولا سيما إذا كان من ورائها كسب، ولكن إذا شوهدت في أسرة لا تتجربها، كما هو الحال اللادى كونان دويل أرملة سير آرثر كونان دويل المؤلف الانكليزي المعروف والباحث الروحي الكبير، فالدجل غالبا لا محل له، وقد خبرت هذه الحال في فتاة كانت في سن لا تعرف التكلف إلى هذا الحد، وما كان لها فيه مآرب. أما الشخص الذي يرزق هذه الخاصة فسوء الظن به واجب، وامتحان يتحتم. ومن وسائل امتحانه أن تأتيه من الخلف على حين غرة وتغرز في جسمه إبرة، فأن كان متكلفا فسيفزع من غير شك مهما كان جلدا. وقد وجد الباحثون أن من هؤلاء الناس من تضربه الإبرة من الخلف مفاجأة (بمعرفة طبيب) وهو ماض كأن شيئا لم يحدث، فهو في ذهول حقيقي. ولما كان جمهور الناس يعجز عن التفريق بين الحقيقة والدجل، فالارتزاق بهذه الخاصة ومثلها يؤدي إلى فوضى ومآس خلقية، وتحريمه واجب من غير شك.
ما تعليل هذه الظاهرة العجيبة، ظاهرة الشخصية المزدوجة؟ ليس لدى علماء النفس تعليل لها، ومن يتصد لتعليلها منهم يستعر لها علة الهستيريا، ويعتبرها تبادلا للسلطة بين العقلين الواعي والباطن، ولكن في سلم وهدوء. أما اتزان الشخص في ذهوله، واكتمال شخصيته الثانية، وما قد تنم عنه أحيانا من سمو وسعة علم وتهذيب يفوق بكثير مستوى الشخص الاصلي، فيعزونه إلى أن العقل الباطن بحر لا يعرف بعد مداه، ولا ما قد يحوي من علم
وخلق كامنين، اتياه من طريق الوراثة، أو تجمعا فيه بطريق التلباثي ولكن عددا من الباحثين الذين انقطعوا لدراسة مثل هذه الظاهرة يذهبون إلى تفسير آخر، وهو أن الشخصية الثانية روح مستقلة عن الشخص الاصلي، تستطيع بكيفية تشبه التأثير المزمري أن تنميه، وتتسلط على عقله الباطن، فيكون أداة اتصال بينها وبيننا ويزعمون أنه بهذه الوسيلة يمكن وأمكن التخاطب مع أرواح الموتى. فما يسميه علماء النفس بالشخصية المزدوجة يعتبره هؤلاء الباحثون نوعا من الوساطة الروحية، ويسمونه وساطة الذهول
يتضح مما سبق أن الخلاف على تعليل هذه الظاهرة العجيبة كبير، وأن الباحثين حيالها شيع ثلاث.
فهناك المطمئنون إلى تركها شاغرة من غير تعليل، لفرط غموضها ولكن ليست هذه بالروح العلمية، إذ الواقع أن تعليلا خاطئا خير من لا تعليل، فهو يفتح باب البحث على الاقل، ويقود يوما ما إلى التعليل الصحيح.
وهناك الذين يعزونها إلى العقل الباطن، وهو رأي يستمد قوته من المحافظة على المذهب المادي، وتلافي كل افتراض روحي وفيما عدا ذلك لا يوجد ما يؤيده.
وهناك القائلون بالفرض الروحي، وهؤلاء يبنون أقوالهم على درس وتجريب طوال نصف قرن أو يزيد، وفيهم رجال يزنون القول ويقدرون المسئولية، مثل سر اليفر لدج، فنفى أقوالهم ليس باليسير، سيما إذا كان النفي من غير اختبار.
عبد المغنى على حسين
القصص
6 -
شهر بالغردفة
تتمة
للأستاذ الدمرداش محمد
مدير ادارة السجلات والامتحانات بوزارة المعارف
عنب جيل الشيب
كان من عادتي أثناء الاقامة في الغردقة أن أقف ساعة في الصباح ومثلها في الاصيل أمام نافذة الاستراحة اشاهد منها جبل الشايب لأمتع النظر بجمال لا يراه عادة في جبال وادي النيل، وكان منظر القمة وهي جاثمة فوق هأمات الجبال في جلال وروعة ومن حولها قمم جبال أم عنبة، وعتلمى وكحيلة وغيرها، كأنها الصغار حول الأب الجبار يوحي إلى النفس بشعور الكبرياء والعظمة. وجبل الشايب لا يبعد عن محطة الاحياء المائية كثيراً، فالمسافة بينهما 45 كيلو متراً تقطعها السيارة في نحو الساعتين في طريق ممهدة، وقد ذهبنا إليه يوم الجمعة 21 يوليه في ثلاث سيارات تحمل إحداهما الخيام والزاد - كان اليوم راكد الهواء مساند جبل الشايب بالقرب من بئر أم دلفة، والبئر عبارة عن حوض في جدار الجبل تظلله الصخور، وينضح إليه الماء من شقوق وعيون في الصخر، فإذا فاض الحوض تدفق ماؤه إلى فجوة أسفله، ومن الحوض يستقي الاعراب، ومن الفجوة تشرب الابل والمواشي. والوادي حول البئر كثير العشب وافر الكلأ، تظلله الاشجار وتسبح في جوه الطيور والعصافير.
وبعد راحة قصيرة حاولت وبعض الرفاق التسلق إلى قمة أم دلفة، ولكن الصعوبة المرتقى وحرارة الشمس جعلتا الصعود شاقا منهكا فاكتفينا بمرحلة متوسطة، وعدنا أدراجنا، وفي العودة التقيت عند البئر شباب من سكان المنطقة وهو من عرب معاذة، أسود البشرة ناحل الجسم، دقيق العظم، وكان معه جمل يحمله بقرب الماء: فقلت له يا أخا العرب: هل من وسيلة إلى قمة الشايب فقال: إن الطريق إليها طويلة شاقة، كثيرة الالتواء والعقبات لا يعرفها إلا نفر قليل منا فلا تطمع في الوصول إليها وحدك، ثم إن الصعود إليها يستغرق
يوما كاملا ومثله للنزول. فقلت كيف ذلك؟ فقال هكذا يقول من صعدوا إليها - ثم سألته عن حال البادية فأجاب، كرب وشدة، فانحباس المطر إحدى عشرة سنة متعاقبات أجدب الوديان حتى كادت تتعرى من الأخضر واليابس، وغاض ماء الآبار وجف كثير من العيون، وتفرقت البيوت فقوم منا لحقوا بوادي النيل، وآخرون أوغلوا صوب الشمال، وبقية بدا لها أن تتشبث بوطنها مثوى الآباء، والأجداد، برغم ما تعانيه من شظف العيش وما تلقاه من حرمان. يعملون هكذا فرارا من معرة الهجرة وهوان الارتحال. فقلت: وما بعد ذلك فقال، سنبقى هنا بالتوكيد حتى يقضي الله أمره فينا. ثم أطرق برأسه وهو يقول فرج الله لا بد قريب، فقلت صدقت يا أخي، اصبر فان الله لا ينسى عباده، فعلت وجهه ابتسامة اطمئنان ويقين. وبعد حديث طويل عن الجبال وأسمائها، ومسالكها والعيون وأماكنها سألته عن حيوانات المنطقة ونباتاتها فقال، يعيش هنا الغزال والتيتل والثعلب والارنب والخروف الوحشي، والأخير كان كثيرا، ولكنه رحل عنا منذ أجدبت الوديان. وعندنا من الطيور العصافير والغراب والصقر وغيرها، ومن الحشرات الثعابين والعقارب والزنابير والخنافس والذباب والنحل وغيرها، ومن النباتات الشيح والسيال (السنط) واللصف واليسر والفطنة (ذات رائحة شديدة كريهة) والحرجل (يستعمل دواء للمغص) والجتيات والمرغادة والأراك وغيرها.
قلت وهل تستفيدون من هذه النباتات، فقال نعم؟ فلكل نبات فائدة نعرفها. ثم اننا نجمع الشيح ونبات المسواك وحب اليسر، ونبيعها في قنا، ومن خشب الطرفا، وهي شجرة الاثل نصنع الفحم وقد كانت له سوق رائجة، ولكن الطلب عليه الآن قليل. ثم قال اننا قوم ذوو همة نتاجر في الاغنام والابل، وننقل التجارة على الجمال من قنا إلى الغردقة، ونستخرج بعض المعادن من الجبال ونبيعها في السويس، وهكذا، فإذا كانت المراعي قد أجدبت فان نشاطنا لم يضعف وعزيمتنا لم تفتر.
وجبال الشايب وما حولها تبدو من الغردقة متلاصقة متجاورة إلا أنها في الحقيقة متباعدة تخترقها الوديان والسهول وتشقها مجاري السيول في كل صوب. وعند الأصيل انطلق الهواء واعتدل الجو فتفرقنا بين الجبال واخذ بعضنا يتبارى في الرماية بالبنادق وإصابة الهدف، وقبيل الغروب عدنا بسلام.
من الغردقة إلى قنا
قضينا الأسبوع الأخير من إقامتنا في الغردقة في إعداد الصناديق وحقائب السفر استعداداً للعودة. وكانت الأيام تمر سراعاً، ويوم الرحيل يدنو مسرعا، وقد أشفقت أن نعود من غير أن أتمكن من الذهاب إلى قنا عن طريق الجبل، ولكن تهيأت الفرصة قبل الرحيل بأيام قلائل فحمدت الله على توفيقه.
وطريق الجبل إلى قنا طويل شاق تقطعه السيارات عادة في ثلاث مراحل: الأولى من البحر إلى مدخل الجبال وطولها نحو 40 كيلو متراً، وهي عبارة عن ساحل كثير الحزون والتلال، والمرحلة الثانية منطقة الجبال نفسها وطولها 70 كيلو متراً. والمرحلة الثالثة من باب مخينق إلى قنا في وادي قنا العظيم وطولها مائة كيلو متر.
وتشتد الحرارة صيفاً في الطريق أثناء النهار لدرجة لا تطاق فكان لابد لنا من القيام من الغردقة ليلا: ففي الساعة الثالثة صباحا كانت تسير السيارات بنا نحو الجبال في طريق صاعدة كثيرة العقبات. وكان الظلام حالكا، والسكون رهيبا شاملا، وهواء الليل بارداً منعشاً ونحن جلوس في صمت عميق، شاخصة أبصارنا نحو مقدم السيارة تتابع ضوءها الكشاف وهو يجلو أمامها الطريق، والسيارة تجاهد مندفعة بسرعة أربعين، والسواق رزين قد استجمع كل حواسه في عينيه، وكل قوته في يديه وقدميه، يقودها باهتمام وحذر، يتلمس الطريق في جوف الليل بمهارة وحذق نادرين - مرت علينا هكذا ساعتان ثم لاحت تباشير الفجر وقد دخلنا منطقة السدود، فكان الطريق بينها خطرا يتلوى في ضيق وانفراج، ثم بزغت الشمس على القمم والروابي فكان منظراً بديعاً حقاً: فجبال شامخات قائمات في استقامة كالجدار، تعلوها كالسهام تناطح السحاب، وقد بدت أطرافها في بوادر الشفق حمراء قانية كأنها تتوقد في أتون من نار، والجبال من تحتها والثنايا والحنايا من حولها في لون ازرق داكن كأنها الدخان الكثيف - ثم علت الشمس. واصفرت الأشعة فبدت القمم كأنها أهرام من ذهب فوق قواعد من رصاص وأخيراً انقشع الظلام واشرق النور فتوارى جمال السحر ليتجلى جمال الطبيعة في حلة الصباح، فكان أشد فتنة وأبلغ أثرا - كنا حينئذ نسير في وادي (بلي) وعن يمننا جبل الدخان (1800 متر) وعن يسارنا جبل القطار والوادي بينهما ضيق عميق يخترق الجبال من الشرق إلى الغرب، وهو كثير العشب والأشجار،
وقد أقام الرومان على مدخله من جهة البحر قلعة للحراسة، وهي الآن انقاض لم يبق من معالمها إلا الجدران - ويتفرع من وادي بلى عند وسطه وادي البديع، وهو يخترق جبل الدخان وينتهي عند بئر البديع حيث توجد مناجم الحجر السماق الامبراطوري، وهو حجر جرانتي دقيق الحبيبات لونه احمر قاتم قد صنعت منه طائفة كبيرة من أجمل التماثيل في العصر القديم، ولا يزال بوادي البدع آثار رومانية قديمة من مبان واستحكامات وطرق - ويتطرق وادي بلى إلى وادي القطار وهو كسابقه فيه العشب وفيه الشجر، وعند الكيلو متر 65 تقوم استراحة بوليس مصلحة الحدود على رابية بجانب الطريق، وبالقرب منها بئر الأمير فاروق وماؤها عذب غزير، ويخرج من وادي القطار عند الاستراحة طريق يؤدي إلى سطح جبل القطار حيث مناجم الموليدات. وهي لشركة طليانية بقيت تستغلها سنوات طويلة، ولكنها منذ سنتين توقفت عن العمل وصرفت العمال، ولم يبق بمركزها سوى المهندس وهو شيخ طلياني طابت له الإقامة ففضل البقاء وحده وسط هذه الجبال - فتأمل - وبلى والقطار من أجمل الوديان والطريق فيهما مرسوم يحاذي الجبال في تعاريج كثيرة بين صعود وهبوط، والجبال هنا موحشة جداً تحمل في طياتها وعلى جدرانها طوابع العصور الطويلة التي تعاقبت، والكوارث التي نزلت من تفتت وتهشيم وتصدع وانكسار وانثناء وتعرية.
وصلنا ممر محينق قبيل الساعة السابعة، ثم انحدرنا منه إلى وادي قنا، وهنا تغيرت معالم الطريق وطبيعة الجبال، فاصبح الوادي أكثر اتساعا والجبال أقل ارتفاعا، واختفت الجبال القديمة وظهرت هضاب الحبال الكلسية التي تمتد إلى وادي النيل - وبعد أن مررنا بجبل (نجع الطير) ثم بجبل (ابي حد) وطابية الحيط، وصلنا بير (عراس) وهنا زاد الوادي انفراجا وانبساطا، وفي منتصف الساعة التاسعة وصلنا قنا ونزلنا ضيوفاً على نقطة بوليس مصلحة الحدود.
ولوادي قنا شهرة قديمة، فقد كان طريق المصريين والرومان والعرب إلى محاجر الجرانيت ومناجم المعادن وشواطئ البحر الاحمر، ولوقوعه في سفوح الجبال العالية فأنه يترع بالماء وقت الامطار الغزيرة، وتفيض منه سيول جارفة تصب في النيل عند قنا وتجلب معها كميات عظيمة من طمى ناعم يعرف (بالحيب) يصنع منه الفخار القناوي
المشهور - واختراق وادي قنا أمنية قديمة تعلقت بها منذ كنت ناظرا لمدرسة قنا في سنة 1923 وقد حاولت وقتها في مرة أن أمشي فيه يوما كاملا، ولكن ضللت الطريق السوي لتشابه المسالك وجهل الدليل، وبعد أن أقمنا بقنا ليلتين ويوما برحناها بعد نصف الليل بساعتين عائدين في نفس الطريق فوصلنا الغردقة بعد شروق الشمس بقليل. وبعد يومين ودعنا الغردقة ومن فيها وأبحرنا عائدين إلى السويس ثم إلى القاهرة.
وأختم هذه الرحلة بتقديم خالص الشكر لحضرات - الدكتور كرسلاند مدير المحطة، ومحمد بك حبيب مفتش منطقة البحر الاحمر، وسيد أفندي الحملاوي مساعده، والدكتور محمود أبو زيد مفتش المناجم، لما بذلوه عن طيبة خاطر من مجهود عظيم في سبيل راحتنا ومساعدتنا، ويلهج كذلك لساني، بالشكر الوافي لصديقي العالم الكبير الدكتور محمد عبد الخالق بك لما خصني به من جميل العناية والرعاية.
الدمرداش محمد
في الكتب
جولة في ربوع الشرق الادنى
إذا تمثلت الأستاذ ثابت، فلست أتمثل وأحداً من الرجال وكفى، وإنما أتخيل طريقة بأسرها من طرائق العيش، وأسلوبا شاملا في فلسفة الحياة، أخذ يتبلور ويتركز، حتى تجسد في أستاذنا ثابت، فمن الناس من يقضي حياته التي كتب له أن يحياها على ظهر الأرض، في بلد وأحد، بل في دار واحدة، بل في مكان بعينه من الدار. وأجرأ ما يطرأ على حياتهم الضئيلة الآسنة من ارتحال، انتقال من غرفة في الدار إلى غرفة أخرى كما يقول جولد سمث.
وهذا رحالتنا ثابت أراد ان يحيا! هو ذا قد وازن بين حركة الحياة وجمود الموت، وازن بين الأيام تدور، وتدور حول صورة بعينها آسنة راكدة، وبينها تزخر بأسباب الحياة، فلم يتردد في الاختيار. . وأخذ يضرب في مناكب الأرض، يجوس أنحاء أوربا ويخرج للناس وصفا لجولته في ربوعها، ثم يجوس في أنحاء آسيا ويذيع في الناس وصفا لجولته في ربوعها، ثم يجوس في أنحاء أفريقيا وينشر بين الناس وصفا لجولته في ربوعها، وهاهو ذا في الصيف الماضي، قد جال في أرجاء الشرق الأدنى وأخرج للناس هذه الجولة الجديدة التي نحن بصددها.
وان كان القراء قد أمتعهم ما طالعوه من مشاهدات رحالتهم في أوربا وآسيا وأفريقيا، فكم تمتعهم قراءة هذه الرحلة الأخيرة التي لم تكن بين أقوام من غرب بعيد، تربطنا وإياهم صلات مهما تكن - فهي على شئ من الضعف والوهن، ولم تكن بين أقوام من شرق أقصى لا تكاد تصلنا بهم إلا روابط الإنسانية الواحدة والعصر الوأحد، وإنما هي رحلة بين شعوب توشجت بيننا وبينها أواصر من الرحم والقربى هيهات أن تقوى على فصمها الأيام، وهي كما يقول الأستاذ المؤلف حقاً في المقدمة (أقطار تربطنا بها روابط وثقتها أواصر التاريخ والاجتماع والدين. وزادتها رسوخا صلة الرحم قديمة وإخلاص وعمق وعطف متبادل تذكى ناره رغبة مشتركة في النهوض، وطموح متأجج للخلاص بأوطان مهددة ظلت ولا تزال تئن تحت أخطاء أبنائها ونهم الطامعين فيها).
قرأت كتاب الأستاذ ثابت، فكنت أتابعه في رحلته بلدا بعد بلد، وقطر في أثر قطر، جبت معه - على حسابه - فلسطين وسوريا وتركيا والعراق وفارس وافغانستان؛ وكنت أقف معه هذه الوقفات التي تطول حينا وتقصر حيناً؛ أمام روائع الآثار القديمة المنتثرة هنا
وهناك في ربوع الشرق الأدنى، والتي تثير النفس شتى العواطف والذكر. في المسجد الاقصى، عند مبكى اليهود، في كنيسة القيامة؛ على جبل الزيتون، في إيوان كسرى، في الحدائق المعلقة، في ضريح الأمام الرضى، وغيرها. . . كما خالطت وإياه هذه الطوائف المختلفة، فعرفتها معرفة حية بعد أن كانت مجرد أسماء تتردد: السامريون، الدروز، الشيعة، الصابئة، اليزيديون عبدة الشيطان وغير هؤلاء.
وللأستاذ ثابت مقدرة ممتازة في الوصف الدقيق لما يشاهده باسلوب سلس فتشعر كأنما هو يتحدث اليك عن رحلته حديثاً حلواً شيقاً، بحيث يترك في ذهنك صورة قوية، كثيراً ما تميل بك إلى العقيدة بأنك قد رأيتها رأي العين، ولا تكاد تقتنع بأنها صورة قلمية فقط قرأتها عند الأستاذ ثابت!
كنت أشعر بحلاوة الحديث، واندفع مشوقا إلى القراءة متنقلا من بلد إلى بلد. . . . ولكن لم يستطرد معي هذا الشعور في كل انحاء الكتاب، فكأنما عز على الأستاذ ثابت أن يمتعنا متعة محضة خالصة، دون أن يصدمنا في الحين بعد الحين صدمة عنيفة، يضيق بها الصدر، يود عندها القارئ أن لم يكن ذلك الكلف على تلك الشمس المشرقة الضاحية! وإنما اعنى بتلك الصدمات، هذه الحقائق العلمية التي ركزها في صفحات قليلة، نثرها في أركان الكتاب كأنما يريد بها أن يبلو صبر القارئ على القراءة وجلده على احتمال العلم الصارم. وكم كنت احب - وليس الأستاذ ثابت بالطبع مكلفا بأداء ما أحب - أن يكون الكتاب كله من ذلك النوع الذي لا أستطيع أن أقرأه إلا في كتاب الرحالة الذي شاهد ورأى، وقد يكون من الأثرة أن اغتصب الحكم لنفسي دون القراء جميعا، فها هو الكتاب بين أيدي القراء فلا حاجة للاقتباس أو ايراد الشواهد.
ومع أن الأستاذ قد أخذ علينا طريق هذا الاعتراض انه إنما أراد بمزج هذه بتلك، أن يكون الكتاب أداة ثقافية بجانب اللذة والمتاع، فعلى هذا الاساس من وجهة النظر نوافقه في شئ من القلق وبعد، فقد اشترك الأستاذ الرحالة قراءة معه في حياته الزاخرة، وكان عليه وحده الغرم، غرم الارتحال وعناء التسطير ولقرائه الغنم، غنم الفائدة والمتاع السائغ.
زكي نجيب محمود
التربية بالقصص
لمطالعات المدرسة والمنزل
الطفل أب الرجل كما يقول الانجليز، وهو قول صحيح من كل الوجوه، لأن الرجولة مهما اختلف لونها، ليست إلا ثمرة لهذه البذور التي نبذرها في تربة الطفولة الغفل، إن خيرا فخير وان شرا فشر، وفي هذا قال الفيلسوف ليبنتز قوله المشهور:(سلمني قياد التربية وأنا كفيل بتغيير وجه أوربا في قرن وأحد من الزمان) يريد بذلك انه يستطيع أن (يصنع) ما يشاء من الرجال ما دامت تربية الأطفال موكولا أمرها إليه يتوجه بها إلى حيث شاء.
فأن كان هذا حقا لا يحتمل الشك والجدل، فما أحوجنا إذن إلى وضع الخطط المحكمة وتمهيد الطرق التي تؤدي بأطفالنا -
وهم رجال الغد - إلى الرجولة قوية صلبة لا تميل ولا تلين.
وليس من الشك في أن امثل الطرق لتي تحقق لنا هذا الغرض المنشود، هي ما سارت مع طبيعة الطفل وغريزته، أعني يجب أن نقدم له من وسائل التربية ما يتفق مع غرائزه التي تختلف باختلاف السن حتى نفلح الحديد وهو ملتهب. ولما كان ابرز ما تتميز به طبيعة الطفل في سنيه الأولى هو الخيال القوى الشارد، وجب أن نعد له ما يلائمه من غذاء وهو القصة الخيالية، التي نحوكها بحيث نبث في ثناياها مثلا عليا في الأخلاق، بطريقة غير مباشرة. فينطبع الطفل بطابعها وهو لا يشعر.
وليست تقتصر القصة التي نقدمها للطفل على هذه الناحية التربوية، بل إن لها جانبا آخر لا يقل عن ذلك أهمية وخطراً، وهو أن يكون للطفل أدب خاص به، يجد فيه صورة نفسه، ويصادف عنده متعة تحبب إليه الحياة وتروضه على لذة الدرس والمطالعة، فيستمتع بها في أوقات فراغه طفلا وشابا ورجلا.
هذا النوع من القصص التي تهذب الطفل وتمده بما يحتاج إليه من أدب هو ما يقدمه الينا اليوم الأستاذ حامد القصبي في كتابيه (التربية بالقصص) اللذين أعدهما لمطالعات المدرسة والمنزل، فنجح نجاحا يهنأ عليه تهنئة خالصة صادقة، ولم يفته أن يكتبهما بالخط الكبير وان يزينهما بالصور التوضيحية التي تلائم مزاج الأطفال وتبعث إلى نفوسهم اللذة والسرور فجاء مثلا للتأليف الطريف الممتع.
ز. ن. م