المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 440 - بتاريخ: 08 - 12 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٤٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 440

- بتاريخ: 08 - 12 - 1941

ص: -1

‌بعض الكلام في (مي)

بمناسبة الأربعين

وُلدت (ميّ) ثم ماتت كما يولد النهر من قَطْر السماء، فتربيه الطبيعة الهادئة الفسيحة، ثم تبعثه برسالة الحياة إلى حوضه، فيشق بالجهد والصبر طريقة الموحش في صخور الجبل وقفار الأرض وأصول الغاب؛ ثم يُلقي على شاطئ الوادي ما حمل من فضل الله، فيحيا المَوات، وتتجمع الخيرات، وتنشأ الحضارات، وتتألف الملاحم، ويتكلم التاريخ؛ ثم يأخذ النهر مجراه بين

الحقول الناضرة والمدن العامرة شادياً بالمال والجمال والحب حتى يذهب في عباب البحر كما تذهب الروح الطيبة في قضاء اللانهاية!

لن تجد (لميّ) في حياتها وموتها أقرب من هذا التشبيه. فقد كانت من خلال ما غشى الشرق

من الهمود والظلام قبساً من الحياة من يمسَسْه وهيجه وساء انتعش ما همد منه، واستنار ما أظلم فيه

كانت (ميّ) في حياة القاهرة ظاهرة من الظواهر العجيبة! والعجب فيها أنها كانت كممدوح المتنبي واحدةً من ناس دنياها وليست منهم: كانت جنساً من الخلق الجميل تميز بخصائص الجنسين، فكان فيه أفضل ما في الرجل وخير ما في المرأة. فمن كان يسمعها خطيبة في محفل، أو يشهدها محدثة في منزل، كان يحسبها - وقد استدارت على رأسها الأنيق هالة من السحر والفتنة - (قليوبَ) إحدى بنات (جوبير) التسع، وإلهات الفنون التسعة، قد سرقت من أخواتها أسرار فنونهن ثم هبطت من فوق (البرناض) إلى ضفاف النيل تجدد في الناس آي المسيح تميت القنوط وتحي الأمل

ومن يستطيع أن يحسب (ميّ) غير هذا وهي فتاة قد نشأت في عهد كانت المرأة فيه شيئاً من المتاع، ترى ولا تعلم، وتسمع ولا تفهم؛ ثم تحذق هي الكتابة والشعر والفلسفة والتصوير والموسيقى، وتتقن العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية والإسبانية، وهي لم تولد في قصر، ولم تتخرج في جامعة؟!

أبصرتْ (ماري زيادة) الدنيا أول مرة في (الناصرة) بلد المسيح، ومن هنا استوحى أبواها

ص: 1

اسمها الأول على ما أظن؛ ثم أرسلت إلى منبت أسرتها في قضاء كسروان بلبنان، فثقفت طفولتها قليلاً في (عين طورة)؛ ثم هاجرة إلى مصر مع والديها، فتفتح صباها الغض على ماء النيل، وتفتق ذهنها الصافي على نسيم الوادي. وكان والداها إلياس يحترف الصحافة ويصدر (المحروسة)؛ فكان لها من عمل أبيها، ومن أصالة الملكة فيها، حافز سديد

التوجيه إلى الأدب. ولكن أدبها على الرغم من نشوئه وبلوغه ونبوغه في القاهرة لم يتأثر

بأدب مصر، وإنما تأثر في شكله وموضوعه بأدب لبنان. ذلك لأن الأدب اللبناني كان وحده في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر مظهر الحياة والجدَّة والتنوع في الأدب العربي الحديث. فبينما كان الأدب المصري يصدر عن الأزهر، والأدب العراقي يصدر عن النجف، والأدب السوري يجري على أسلوب هذين الأدبين، كان الأدب اللبناني يصدر عن

مدارس تتسم بسمة الدين، ولكنها تعترف بوجود الدنيا؛ فهي تعلم العلوم الحديثة، وتلقن اللغات الحية، وتعتمد في أدب القلب على الإنجيل، وفي أدب اللسان على القرآن؛ فبيضت الكتب الصفراء، ورتبت المعاجم المشوشة، ونشرت الكتب المقهورة، ولقحت الآداب الأوربية، وكان من أثر هذا اللقاح النقد والترجمة والصحافة والتمثيل والقصص؛ وكان من ثمر هذا اللقاح طلائع هذه النهضة من آل اليازجي والبستاني والشرتوني وزيدان وصروف وشميل والريحاني وجبران ومطران؛ وكان لابد لمارى العربية أن تجنى ثمر الثقافة مما غرس الفرنسيسكان والأمريكان والمارون، وأن تقبس نور العروبة من الضياء والهلال والمقطف، وأن تناجى عنادلنا الغَرِدة في رياض مصر وخمائل لبنان ومنارة الدنيا الجديدة، وأن يحملها الاعتداد بجنسها ولغتها على أن نقتصر من أسمها الأعجمي على طرفيه ليكون منها اسمها العربي (مي). وعلى هذا النهج بلغت مي غايتها من الأدب والعلم والفن، فاستفاض ذكرها على الألسنة، وعظمت مكانتها في الأفئدة؛ ووصلت بينها وبين كثير من أولى الفكر والجاه أسباب من الروح، فكان صالونها في أيام الثلاثاوات كصالون الولادة بنت المستكفي منتجع الصفوة من أقطاب السياسة وأعيان الأدب، يعكفون على أصدق مثال للأناقة واللباقة والذوق في فتاة بارعة الظرف، تشارك في كل علم، وتفيض في كل حديث، وتختصر للجليس سعادة العمر كله في لفتة أو لمحة أو ابتسامة!

ص: 2

لقد كان لي ولصالون مي في أدب العصر آثار وسمات: ألهمت صبري، وأوهمت الرافعي، وألهبت جبران؛ ثم أخرجت من سواد المداد صوراً مختلفة الألوان متنوعة الأفنان أضافت إلى ذخائر الفكر الإنساني ثروة.

ثم تقدم العصر وطوت (مي) أكثر مراحل الشباب، فتنكر الدهر وتغير الناس؛ وورد أبواها متعاقبين حياض المنون فاستكانت للحزن، وأخلدت إلى الوحدة، فانفض السامر الأنيس، وانطفأ السراج اللامع، وانحدرت (مي) في طريق الوحشة والمرض والنسيان إلى نهايتها الأليمة!

أما بعد فقد قال بشار لبعض جلسائه ذات يوم: ما سمعت شعر امرأة قط إلا أحسست فيه الضعف! فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ فقال في لهجة الفطِن المحترس: تلك فوق الرجال!

ونحن نقول في مي مقال بشار في الخنساء، ونزيد عليه أن مي هي الأدبية الكاملة في تاريخ الأدب العربي كله! أما إجمال هذا التفصيل فله مناسبة أخرى.

(المنصورة)

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

معرض الآراء الحديثة

للدكتور زكي مبارك

كلمة المترجم - كيف يقرأ الطالب هذا الكتاب - تنبؤات سياسية - غاية وطنية - ما هذا الكلام؟ - وما هاذ أيضاً؟ - التماسك في الأخلاق البريطانية - الغيرة على الريف - فكرة فلسفية - وثبة جديدة موضوعات الدرس - اختبار جديد.

(معرض الآراء الحديثة) كتاب ألفه لويس دكنسن، وترجمة محمد رفعت. ونشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهو يقع في 115 صفحة بالقطع المتوسط، وثمنه ستة قروش.

كلمة المترجم

لم يبذل المترجم جهداً في التعريف بالكتاب، ولعله أساء إلى المؤلف بالكلمة التي نص فيها على أن في الكتاب بعض المغالطات وبعض الخطأ في الآراء، فأنا أرجح أن المؤلف قصد تلك المغالطات وتلك الأخطاء، ليبين ما قد يقع في المجتمعات السياسية والأدبية من الانحراف، أو ليتخذ منها وسيلة للنقاش والجدال.

فعلى الطلبة أن يراعوا هذه الناحية وهم يدرسون الكتاب

وحدثنا المترجم أنه حذف عبارات لا يستسيغها الذوق العربي وليته لم يفعل؛ فإن الغرض من نقل المؤلفات الأوربية إلى اللغة العربية يشمل التعريف بما بيننا وبين الأوربيين من اختلاف الأذواق.

وأراح المترجم نفسه من ترجمة العبارات التي وُشِّيت بالتشبيهات والإشارة إلى الأساطير اليونانية في خطبة (فيفيان) لأنه (وجد أن كل عبارة من عبارته تستلزم شرحاً وتعليقاً طويلاً) وبهذا الكسل أضاع فرصة من فرص الترجمة، وهي إعطاء القارئ العربي فكرة عن اتصال التعابير الإنجليزية بالأخيلة اليونانية في بعض الشؤون

فأرجو أن يلتفت المترجم إلى هذه الملاحظات في الطبعة الثانية.

كيف يقرأ الطلبة هذا الكتاب

أراد المؤلف أن يصور الاتجاهات السياسية والاجتماعية والأدبية في بلاد الإنجليز،

ص: 4

بأسلوب يشبه بعض الشبه أسلوب أفلاطون؛ فأنطق ثلاثة عشر خطيباً بأقوال تلخص ما كان يعتلج في ضمير المجتمع البريطاني عند تأليف الكتاب، وبهذا صح له أن يسميه (معرض الآراء الحديثة) وهي آراء جماعة بعضهم من المحافظين، وبعضهم من الأحرار، وبعضهم من الاشتراكيين، وبعضهم من الفوضويين وفيهم الأستاذ والصحفي والشاعر والأديب ورجل الأعمال

والمؤلف يصور هذه الجماعة وقد اجتمعت في داره بالريف في ليلة من ليالي يونيه، وقد حملها القيظ على أن تسمر فوق السطح كما يصنع الناس في بغداد، وفي تلك السهرة تحدثت الجماعة بلا تحفظ ولا احتراس، فقال كل خطيب ما قال وهو في أمان، بدون أن يخطر في البال أن كلامه سيدون في كتاب خاص

ويمعن المؤلف في توكيد هذا الخيال الطريف؛ فيشرح كيف كانت الأحوال النفسية لأولئك الخطباء، وكيف كانوا يتبرمون بالجدل من حين إلى حين، كأن يقول على لسان أحد المجادلين:(لقد خلت الحلبة واختفت المقاعد الصامتة في جوف الليل وبدت في ضوء القمر الضعيف أشباح روحانية ترفرف على مشاهد خلافاتنا العارضة، وهذه الأشباح هي التي تقف من خلفنا وتسدد الضربات التي يلوح أنها تصدر عنا، فإذا ما انقضت آجالنا استنفرت هذه الأشباح خلقاً غيرنا للقتال والنزاع، وإذا سحب النسيان ذيله على أسمائنا أحيطت أسماء غيرها بهالات من المجد الفاني. فعلام إذن نقضي الليل كله حتى مطلع الفجر في كدح وضجيج؟ إن سماء واحدة تضلنا، ونجوماً بعينيها تطلع وتغرب علينا، وليست آراء رمنهام إلا زبداً يذهب جفاء، وإن التيار ليجرف الجميع على سواء نحو القدر المحتوم، فلنتقابل ولو فترة قصيرة أمام قوته الصامتة الجارفة، ولنمد أيدينا لنتصافح في هذه اللحظة من وراء المنضدة).

فهذه لفتة أديب متوجع من إيغال أهل الفكر والرأي في الخصومة والعِداء، ولهذه اللفتة نظائر لا تخفى على القارئّ وهي تشهد بروحانية هذا الأديب

وأرجع فأقول إنه يجب على الطالب أن يذكر أن المؤلف يجسم بعض الآراء عامداً متعمداً، ليصح له أن يناقشها بعد ذلك بقوة أو بضعف، ليصور اتجاه الآراء في بلاده أو ليصور اتجاهه الخاص، وإن كان السياق يشهد بأنه نزه نفسه عن التحيز لهذا الرأي أو ذاك.

ص: 5

تنبؤات سياسية

لم يحدثنا المترجم في مقدمته الوجيزة عن التاريخ الذي ظهر فيه كتاب (معرض الآراء الحديثة) ولم أجد من الوقت ما يسمح بتحقيق ذلك التاريخ، فقد كانت النية أن أقرأ الكتاب في القطار وأن أكتب مقالي عنه بالليل، حين أصل إلى أحد البلاد، ولكن رفيقي في السفر وهو الأستاذ محمد خلف الله شغلني عنه بحواره الطريف، فلم يبق إلا أن أقرأ الكتاب وأدّون ملاحظاتي عليه في وقت لا يتسع لما ضاق عنه وقت المترجم المفضال! وهل يطالب المسافر بما لا يطالب به المقيم؟

في الكتاب عبارة تدل على أنه أُلف قبل الحرب الماضية، لأن المؤلف يشير في بعض عباراته إلى (عاهل ألمانيا) وهو بالتأكيد رجلٌ غير هتلر، فهو غليوم الثاني.

وهنا يظهر ما في الكتاب من تنبؤات تصورها العبارة الآتية: (إني أرى المستقبل ينذر بالحروب وإشاعات الحروب ويُخيل إلىّ أن هذه الأمة بنوع خاص قد أصبحت هدفاً لحسد شعوب أوربا وشرهها وكرامتها وأطماعها، وما ذلك إلا بسبب ثرائها وقوتها ونجاحها المنقطع المثيل. أرى هذه الشعوب تتطلع إلى الخارج تبحث عن منافذ لسكانها المتزايدين، ولكنها تجد أن الجنس البريطاني قد سبقها إلى احتلال كل ركن من أركان المعمورة، وأن الراية البريطانية تخفق على جميع جهات الأرض، ولكن أملنا الأكبر في المستقبل ينبعث من هذا الخطر الرئيسي، لأن بلاد الإنجليز لم تعد مقصورة على إنجلترا نفسها، بل إنها قد بذرت في كل قارة من قارات العالم بذوراً حية قوية ترجو أن تتعهدها بالعناية لكي تدب فيها الحياة، فيصبح كل منها عضواً نافعاً قائماً بواجبه في جسم هذه الإمبراطورية، بل إنني لأرى الروح قد أخذت تسري في هذه الأعضاء، وأعتقد أن المستعمرات البريطانية لن ينفرط عقدها فتسّاقط عنا تساقط الفاكهة الناضجة عن الشجرة، ولن تكون ممتلكاتنا غنيمة لغيرنا. وسوف تستيقظ الأمة عاجلاً أو آجلاً لتؤدي رسالتها الإمبراطورية وسوف تخفق معنا إخواننا الإنجليز من وراء البحار، ويكون الاتحاد الذي أتنبأ به هو اتحاد الشعوب البريطانية في جميع أنحاء العالم، اتحاد الإنسانية كلها).

فإن كان هذا الكلام قبل الحرب الماضية فهو عجب، وإن كان قبل الحرب الحاضرة فهو أعجب، وهو نفسه الكلام الذي يهتف به الإنجليز في هذه الأيام، والذي يستنفرون به

ص: 6

أنصارهم في الشرق والغرب صباح مساء.

غاية وطنية

وهذه العبارة تدلنا على أن للمؤلف (غاية وطنية)، فهو يريد تنبيه قومه إلى ما يحيط بهم من أخطار بسبب تحاسد الشعوب الأوربية، ويحاول أن يخلق لبلاده عصبية في الأقطار التي تخفق فوقها الراية البريطانية.

ومع أن المؤلف لا يجهل أن أصطرع الآراء المتنافرة قد يعرض بلاده لأخطر المصاعب، مع هذا لا يفوته أن يعرض تلك الآراء بترفق وتلطف، وكأن لسان حاله أو مقاله يشهد بأن تلك الآراء ليست إلا نباتات بريطانية جديرة بالعناية والاهتمام، وإن لم يخل بعضها من شذوذ.

ما هذا الكلام؟

المؤلف حريص على ضرب الآراء بعضها ببعض، ولكنه يتسامح مع الخطيب الذي شرح مزايا الأمة الأمريكية، فما هذا الكلام؟ ولأي غرض قريب أو بعيد استباح المؤلف أن يثني على الأمة الأمريكية بلا اقتصاد ولا اعتدال؟

لذلك أغراض:

الغرض الأول هو التعريف بحقيقة الأمة الأمريكية في مذاهبها المعاشية، وهنا يهتم المؤلف بتقرير ما عليه الأمريكان من احترام الواقع الملموس، وكأنه يدعو قومه إلى فهم هذا الجانب من الذهنية الأمريكية.

يقول الأمريكان: (دعونا نأكل ونشرب) يقولون ذلك وهم مؤمنون إيماناً قوياً صحيحاً، ولا يزيدون عليه ذلك القول المتبط السقيم (فإننا سنموت غداً).

ومع أن المؤلف ساق هذا الكلام مساق السخرية من الأمريكان فأنا أرجح أن له غاية في عرضه على مواطنيه، عساهم ينتبهون إلى تفاهة الاهتمام بالنظريات. الغرض الثاني هو الغض من قيمة المناقشات الدينية، وهي المناقشات التي بددت قوى الشعوب الأوربية في أجيال طوال

من رأي المؤلف أن الدين في أمريكا نبات طفيلي بلا جذور وان انتسابهم إلى المسيحية

ص: 7

ليس إلا وهماً من الأوهام، برغم ما تشهد الظواهر من تعلقهم بالدين.

الغرض الثالث هو حرب البلادة الممثلة في اجترار الماضي، فهو ينبه قومه إلى أن حرمان الأمريكان من الماضي الجميل في الآداب والفنون لم يحل بينهم وبين الظفر بالمكان الأول بين أقوياء الشعوب.

الغرض الرابع هو الحط من قدر الثرثرة الاجتماعية، فالأمريكان لا يفكرون في غير الابتكار والاختراع، ليكونوا أقدر الناس على غزو الأسواق بالمنتجات التي تسير التمدن الحديث. وهو اتجاه ظاهر النفع بلا جدال.

وما هذا أيضاً؟

أعطى المؤلف الكلمة لرجل أيرلندي فوضوي ليقول على لسانه وهو يعرض أحد الأناشيد: (هو أقوى تحدّ وجّه إلى إنجلترا بلادكم، البليدة الطبع، العقيمة الخيال، الضعيفة التصور)

ومع هذا لم يفته أن ينطق ذلك الخطيب بأنه لا يقصد إنجلترا بالذات، وإنما يقصد أوربا وأمريكا والعالم كله، فما معنى ذلك؟

معناه أن للمؤلف غاية نبيلة، هي إيقاظ العبقرية الإنسانية، وهي لا توقظ بغير العنف، ثم يقرر بلسان ذلك الخطيب (أن ما قام بالسيف لا يُمحى بغير السيف، وما أسس على العنف لا يقضى عليه بغير العنف) وينطلق فيقرر مرة ثانية بلسان ذلك الخطيب أن في العالم فوضويين لم يُلقوا خطاباً ولم يحملوا سلاحاً، وهم المحاربون بقوة الروح.

(إن في العالم أشياء بلغت من الشر مبلغاً لا تصلح معه إلا للاحراق، وإن فيه عقبات قد وصلت إلى درجة من الهول والضخامة لا يغني معها إلا النسف بالديناميت، وإن الهدم مقدمة ضرورية للخلق والبناء).

كذلك يقول المؤلف بلسان ذلك الفوضوي الأيرلندي، فهل نراه يتربص بالأمة الإنجليزية، هل نراه يدعو إلى العنف والعسف؟

لا هذا ولا ذاك، وإنما هو رجل يصور اشتجار الآراء في عصره بنزاهة وإخلاص.

ولكن ما غرض المؤلف من شتم إنجلترا بلسان أحد الأيرلنديين؟

له من ذلك غاية وطنية، هي وصف إنجلترا بسعة الصدر، وسماحة القلب، وإلا فكيف استباح أحد أبناءها أن يُنطق رجلاً ايرلندياً بأن النظام البرلماني في إنجلترا واهي الأساس؟

ص: 8

(ما أتعس حظ عضو البرلمان حين يضطر لإعطاء صوته في مسائل لا حصر لها، ولا يدري منها أولياتها، ولكنه يفعل ما يفعل إطاعة لأوامر رؤساء الأحزاب الذين تسيطر عليهم آلة حزبهم العمياء البلهاء! إن ذلك النظام يجعل من الشعب عبيداً مسخرين للنواب، ويجعل النواب مسخرين لرؤسائهم، والرؤساء مسخرين لآلة عمياء مجردة من الضمير. . .)

والمؤلف لا يثور على النظام البرلماني في كل وقت، وإنما يمنح فرصة الثورة على ذلك النظام لرجل أيرلندي، وهو يرجو أن يكسب بذلك عطف الأيرلنديين على الإنجليز، بأسلوب طريف، هو (تصعيد) ثورتهم المكبوتة على الأمة الإنجليزية.

التماسك في الأخلاق البريطانية

أشرت من قبل إلى أن هذا الكتاب يصور اشتجار الآراء بين جماعة من البريطان، وأذكر الآن أن ما فيه من صيال ونضال يصور حيوية التماسك في الأخلاق البريطانية، وللإنجليز (في بلادهم) أخلاق صحاح، وكلمة (في بلادهم) مستعارة من حافظ باشا عفيفي، والنص عليها واجب، لأن الإنجليز في نمير بلادهم معرضون للخطأ والانحراف، ويرجع ذلك إلى أن الإنجليزي بطئ الذهن وإن كان قوى الخلق، وهو لذلك. ينتظر إلى أن توجد الحجج التي يحكم بها لك أو عليك، وبهذا تضيع عليه فرص قد تعود وقد لا تعود.

وأقول إن (معرض الآراء الحديثة) ألفه إنجليزي مطمئن فهو يحاور ويجادل تحت ظلال الأشجار في الصيف أو بجانب الموقد في الشتاء.

أرجع إلى الصفحات التي تصور ما عانى المؤلف وهو يضرب الآراء بعضها ببعض في تشريح مذاهب الأحرار والمحافظين

أرجع إليه وهو يكاد يهتف بأن الكفر من الشرائع، وهو موقفٌ وصفه المترجم بأنه ينافي الذوق العربي، ولو أنصف لقال إنه ينافي الذوق الإسلامي، فما كانت العبارات التي حذفها المترجم إلا فناً من الكفر الملفوف، وهي مع ذلك ليست إلا تصويراً لما يساور قلوب المؤمنين في بعض الأحايين.

الإنجليزي يكفُر حين يشاء، ولكنه يكفُر كفُر الرجال لا كفر الأطفال؛ فهو يشرّح ما يجول بصدره من حقائق وأباطيل، ليعرف المصادر التي توحي إليه بالشك أو اليقين.

ص: 9

والذي يقرأ كتاب (معرض الآراء الحديثة) بدون إدراك هذا المعنى لن يكون له من فهمه غير أشباح وأطياف!

الريف، الريف

في الكتاب كلامٌ كثير عن الريف وسادة الريف، ومن ذلك الكلام ندرك أن الأمة الإنجليزية ترى الريف ملجأها الأمين، وقد تراه الأصل في مجدها الأثيل. وشعور الإنجليز بأهمية الريف يُخلق في كتّابهم ومصلحيهم فكرة العناية الموصولة بتجميل الريف والتألم لما يقع فيه من فقر أو عناء!؟

وهنا يلتفت المؤلف إلى سوء العاقبة، عاقبة الإسراف في تجسيم شقاء الريف بلسان أحد الخطباء:

(لقد كنت أقرأ في أحد الأيام مقالاً من تلك المقالات المروّعة عن حال الزراع، ثم ذهبت بعد ذلك راكباً إلى الريف فتبين لي أنه لم يبلغ من السوء الحد الذي وصفه به الكاتب، ولا أعني بذلك أن حال الريف كلها كانت مما يسرّ له الإنسان، ولكنه رغم هذا كان مدهشاً حقاً؛ فقد رأيت خيلاً ضخمة يتدلى من جباهها شعرٌ أشعث، ترعى في المروج الخضراء، ورأيت ماشية تخوض في الماء الضحل، وجداول تحف بشطانها أشجار الصفصاف، وعصافير تزقزق، وقنابر وطيوراً أخرى مغرّدة. ورأيت بساتين الفاكهة ترتدي حلة من الزهر الأبيض النضر، وحدائق صغيرة اهتز ورقها وربا في ضوء الشمس الساطع وظلال السحب المارة فوق السهول، ورأيت الزارع الذي أفاضوا في وصف حاله وسط هذا كله، فلم أره بمظهر البؤس المجّسم كما يقولون، بل رأيته يفكر رأيته يفكر في خيله أو في عيشه وجبنه، أو في أطفاله يَحْبُون في الطريق، أو في خنازيره وديكته ودجاجه. ولست أظن بالطبع أنه يدرك ما في هذه الأشياء كلها من جمال، ولكنني واثق من أنه كان يشعر شعوراً مريحاً بأنه جزء من هذا كله، وأن حاله طيبة، ولم يكن قلقاً من حاله كما تقلقون من حاله. ولست أعني من هذا أن لا حق لكم في القلق، ولكني أعتقد من واجبكم أن لا تظنوا العالم كله شراً لا يطاق لمجرد أنكم تستطعيون أن تصوروا عالماً خيراً منه).

غاية فلسفية

ص: 10

ونظرة المؤلف في هذا الموضوع نظرة إصلاحية، وهي تشهد بأن الإنجليز يعانون بعض ما نعاني من كثرة الكلام عن متاعب أهل الريف، وهو كلام يضّر أكثر مما يفيد، لأنه يزعزع طمأنينة الريفين، ويحرمهم الاستمتاع بما في الحياة الريفية من خيرات وثمرات.

ولكن للمؤلف من وراء هذا الكلام غاية فلسفية تمثلها دعوته الصريحة إلى الترحيب بالوجود في جميع مناحيه، ومن رأيه أن (الحياة نفسها هي المتعة، وهذه المتعة دائمة في جميع العصور ولجميع الطبقات). ثم يندفع فيقرر أن (المثُل العليا لا وجود لها في الحقيقة) وهو بهذا يريد أن الحرمان من النعيم الموجود لا يعوَّض بالنعيم المنشود؛ ثم يقفز إلى أعلى أبراج الفلسفة الشعرية فيهتف (إني حين أغادر اجتماعاً أو أفرغ من قراءة مقال مروّع عن الإصلاح الاجتماعي أشعر كأن من واجبي أن أعانق كل شيء وكل شخص أقابله لمجرد أنه أحسن إلى العالم بوجوده فيه، أرى كأن من واجبي أن أعانق سائقي السيارات العامة والمركبات وأصحاب الحوانيت والأكواخ القذرة ومن فيها من الضحايا واللصوص. إن هؤلاء جميعاً في الوسط الذي يعيشون فيه يطفون فوق نهر الحياة العظيم الذي كان وجوده في الماضي والحاضر - وسيكون وجوده في المستقبل - مبرراً كافياً لوجوده مهما كان البلد الذي يجري فيه).

وهذه لفتة شعرية على جانب من الصحة والقوة، فإن التشكي الكثير من نظام الوجود ليس من علائم العافية، إلا حين يراد به خلق نظام جديد ميسور، لا تخيُّل نظام لا وجود له إلا في أذهان المتكلفين.

وثبة جديدة

ولكن المؤلف يثب بعد ذلك وثبة جديدة بلسان خطيب آخر فيقرر أن الإنسان في طور التكوين، وأن واجبه منذ هذه اللحظة أن يكوّن نفسه بنفسه، فقد سارت به الطبيعة إلى الحد الذي وصلت به إليه، فوهبته أعضاء جسمه وعقله ومبادئ روحه، وأصبح في استطاعته أن يكمل هذا الهيكل البديع أو يفسده إذا شاء.

فماذا يريد المؤلف أن يقول؟

يريد أن يجعل عبء الكمال فوق كاهل الإنسان لا كاهل الطبيعة (لآن الطبيعة لا تريد أن

ص: 11

توجد إنساناً لا يستطيع أن يوجد نفسه، فإذا عجز هو عجزت هي أيضاً، ورجع المعدن إلى بودقته، وبدأت العملية من جديد، أما إذا نجح فنجاحه عائد عليه وحده، فمصيره إذن في يده هو لا في يد غيره) وهذه لفتة أخلاقية ساقها المؤلف على لسان أحد الشعراء، وتظهر قيمة هذه اللفتة لمن يتذكر الفروق بين الإنسان القديم والإنسان الجديد، فقد استطاعت الإنسانية بتطورها المستمر أن تصل إلى آفاق كان يعجز عن تصورها الخيال.

موضوعات للدرس

يظهر أن المقال لن يتسع للإلمام بما في الكتاب من العناصر الأساسية، فعلى الطلبة أن يراجعوا المسائل الآتية، ليواجهوا اللجنة الامتحان وهم على بينة من أكثر ما في الكتاب من أغراض:

1 -

الفرق بين النظرة العلمية والنظرة الدينية: (راجع ص 52)

2 -

هل تتدخل الدولة لتنظيم الزواج؟ (ص 53 و54)

3 -

هل يستطيع الشعب أن يحكم نفسه؟ (ص 55 و56)

4 -

تحرر الجيل الجديد من أوهام الجيل القديم (ص 57)

5 -

بين العقائد والعواطف والعقول (ص 46 و47)

6 -

نظرية المساواة دُرست في مكانين، فلأي غرض نوقشت هذه النظرية؟

7 -

أنظر نقض فكرة الحرية في (ص 17)

8 -

هل تستطيع الاشتراكية أو الفوضوية أن تغير الحقائق الأساسية؟ (ص 73 و74)

9 -

هل تعيش الحكومات لأنها سرقت حقوق الناس؟ (ص 31 و23)

10 -

الهجوم على التعليم الابتدائي والثانوي والعالي (54)

11 -

وضع المترجم تذييلاً تحدث فيه عن بعض الآراء وبعض الأعلام، فانظر في ذلك التذييل، فقد يوجَّه إليك سؤال متصل بما فيه من المعلومات الفكرية أو التاريخية

12 -

إن غام أمامك جوّ هذا الكتاب، فاقض ساعة أو ساعتين في درس كتاب (الإنجليز في بلادهم) لتعرف المشكلات التي تعرّض لها (دكنسن) بالنقد والتشريح، فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، كما قال القدماء

اختبار جديد

ص: 12

من المحتمل أكون عضواً في اللجنة التي تحكم في مسابقة الأدب العربي، فما السؤال الذي أوجهه إلى المتسابقين عند اختبارهم في هذا الكتاب؟ سأسألهم عن الفروق بن اتجاهات الخطباء من طريق العبارة والأسلوب

وأدلكم على الجواب فأقول:

عبارة (كنتلوب) تختلف عن عبارة (فيفيان) أشد الاختلاف، ولكن كيف؟ إليكم يوجه السؤال!

وعبارة (إلس) تغلب فيها المعلومات على الدراسات، فما سبب ذلك؟ فكروا قليلاً تجدوا الجواب! وبين أشخاص الكتاب خطيب دخل في شعاب غير شعاب مهنته الرسمية، فمن ذلك الخطيب؟

المفهوم أن هذا الكتاب يصور أصطراع الآراء في عهد المؤلف، فهل ترون أن إنجلترا كانت فيها مشكلات لم يتعرض لها المؤلف؟

أدلكم على الجواب فأقول: كنا ننتظر خطيباً يتحدث عن متاعب إنجلترا في المستعمرات، وخطيباً يتكلم عن أزماتها الروحية، وخطيباً يشرح خصائص الفرنسيين والألمان، على نحو ما صنع الخطيب الذي شرح خصائص الأمريكان

وقد مرّ المؤلف مرور الطيف على المعضلات التعليمية، فما سبب ذلك؟

اقرءوا حياة المؤلف، كما لخصها المترجم! تجدوا الجواب!

أما بعد، فهل ترون أنى دللتكم على أسرار هذا الكتاب؟

لم يبقى إلا أن تطلبوا أن أؤدي امتحان المسابقة بالنيابة عنكم، يا أشقياء!

وأنا والله حاضر، إن سمح وزير المعارف!

زكي مبارك

ص: 13

‌كيف يكتب التاريخ؟

للدكتور حسن عثمان

مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب

- 7 -

نقد الأصول

تحري نصوص الأصول وتحديد العلاقة بينها

نبحث الآن ناحية أخرى في نقد الأصول التاريخية. فلا بد المؤرخ قبل استخدام المعلومات التي ترد في تلك الأصول أن يتحرى نصوصها، وأن يتثبت من حرفيه ألفاظها وعباراتها سواء المخطوط أو المطبوع. وعلى المؤرخ أن يبحث هل كتبت هذه الأصول بخط المؤلف، أم أنها نقلت عن نسخه المؤلف الأصلية؛ وإذا كانت قد طبعت فهل طابقت مخطوطة المؤلف الأصلية؟ وألم يدخل عليها بعض التحريف اللفظي أو النقصان أو الزيادة الطفيفة سواء عن قصد أو غير قصد؟ وأنه ليتضح لنا أهمية تحري نصوص الأصول التاريخية وألفاظها عندما نجد أن مؤلف اليوم بالرغم من إمكانه مراجعة تجارب المطبعة بنفسه، فإنه قد تفوته بعض الأخطاء القليلة. وعمال المطبعة كثيراً ما يجعلون المؤلف يقول كلاماً لم يقصده بالمرة؛ وإن تغيير حرف بسيط في كلمه قد يغير المعنى رأساً على عقب.

ولقد ضاع الكثير من الأصول التاريخية ولم يبق إلا نسخ أو صور منقولة عنها. فهل هذه النسخ قد نقلت عن الأصول الأولى، أم نقلت عن صور لها؟ فينبغي أن يتأكد الباحث من أن النص الموجود أمامه يطابق الأصل الأول الذي وضعه المؤلف. وإذا وجدت أخطاء في النسخة - وهو الغالب - لا بد من محاولة تصحيحها بالرجوع إلى الأصل الأول، إن كان من المستطاع ذلك. وإذا ما اعتمد الباحث على نص منقول عن أصل أول، ويحتوي على أخطاء في النقل، فإنه يحمِّل المؤلف أموراً غير مسؤول عنها، وإنما المسؤول عنها الناقل. ومشاهير المؤرخين لا يتحرون دائماً صحة نصوص الأصول التي يعتمدون عليها. وحتى وقت قريب كانت تطبع الأصول التاريخية بدون مراعاة طرق النشر العلمي، سواء لتجنب المجهود أو للعجلة. إلا أنه قد حدث تقدم كبير في هذا الميدان المهم في الوقت الحاضر

ص: 14

والأصول التاريخية المخطوطة يمكن لأن نقسم من ناحية تحري النص وتحقيق اللفظ إلى ثلاث حالات. فالحالة الأولى هي أن يكون أمام الباحث الباحث الأصل الأول بخط المؤلف نفسه. ويمكن التأكد من ذلك بملاحظة نوع الورق والحبر وبدراسة خط المؤلف ولغته ومعلوماته من كتاباته الأخرى، إن وجدت. وبتطبيق ذلك على الأصل الموجود يستطيع الباحث أن يستفيد وهو مطمئن من هذه الناحية، من المعلومات التي يوردها هذا الأصل الأول، كما يمكنه أن ينشر هذا الأصل التاريخي لفائدة العلم. إنما ينبغي أن يراعي عند النشر في كل الحالات، إبقاء الأصل الأول كما هو بحروفه وألفاظه وأجروميته وأخطائه الخاصة به، بدون تصحيح أو تعديل في النص نفسه. لأن أي تغيير قد يغير المعنى. وبقاء النص الأول كما هو يساعد الباحث على فهم تاريخ ذلك العصر المعين كما كان فعلاً؛ فيدرك الباحث عقليه رجال العصر وأساليبهم في التعبير، ويلم بتطور اللغة والاصطلاحات التي سادت في زمن مضى

ومن الأمثلة على ذلك ما أورده أحمد الخالدي الصفدي في كتابه عن تاريخ الأمير فخر الدين المعنى من ألفاظ وأساليب عاميه لبنانية محلية مختلطة بالتراكيب العربية، (سبق أهله وجاء حتى يعلم الأمير. . . فوصل بحال الليل إلى باب القلعة ودق الباب على البواب حتى يروح يعلم الأمير. . .). ومن الأمثلة على ذلك أيضا ما ورد في الفرمانات السلطانية العثمانية من التعبيرات الخاصة مثل (قدوة الأمراء الكرام، عمدة الكبراء الفخام، المختص بمزيد عنايت الملك العلام. . .). أو الوثائق المحفوظة في دور الأرشيف الأوربية والتي تحتوي على معلومات مدونة بلغة وأجرومية خاصة بالعصر الذي دونت فيه، مثل ، في الوثائق الإيطالية؛ ومثل ألفاظ وو الواردة في الوثائق الفرنسية؛ ومما يخالف ذلك ألفاظ وأساليب ومصطلحات هذه اللغات في الوقت الحاضر. فإذا ما نشرت مثل هذه الأصول التاريخية ينبغي أن تبقى كما هي بغير تعديل.

والحالة الثانية في هذه الناحية من نقد الأصول، هي التي تضيع فيها نسخة المؤلف الأولى، ولا يبقى أمام الباحث إلا نسخة واحدة منقولة عنها. فدراسة هذه النسخة المنقولة الوحيدة للتثبت من صحة ألفاظها ونصوصها تستلزم الدقة والحذر. ومهما كانت دقة الناسخ وأمانته فإنه قد يتعرض للخطأ في النقل. وتوجد أسباب وأنواع للاختلافات التي يمكن أن تلاحظ

ص: 15

بين الأصل الأول وبين المنقول عنه. فقد تسقط ألفاظ أو جمل عند النقل من باب النسيان أو السهو، أو لعدم وضوح المعنى، أو للخطأ في قراءة بعض الألفاظ أثناء النقل، أو للخطأ في السمع إذا ما أملى على الناسخ ما يكتب. وبعض النساخ يغيرون ويعدلون الألفاظ التي ظنوا أنها وردت خطأ في الأصل الأولى، واعتقدوا أن من واجبهم تصحيحها.

والتغيرات الناتجة عن عمد أو عن خطأ في فهم النصوص من الصعب تحقيقها فضلاً عن كشفها. وبعض الفقرات التي تسقط قد لا يمكن التعويض عنها. ولكن من المستطاع معرفة الأخطاء التي تحدث عفواً أو سهواً، بملاحظة الارتباك في المعنى أو الخلط في بعض الحروف والكلمات، ووضع أحرف أو كلمات مكان أخرى، أو تكرار بعض المقاطع أو تكرار بعض المقاطع أو كتابة مقاطع بعض الكلمات مرة واحدة بدلاً من مرتين، أو الخطأ في تقسيم بعض الكلمات أو بعض الجمل. وكل هذه الأنواع من الأخطاء والتغييرات في النصوص الأولى والتي تحدث سواء عفواً أو عن قصد، قد قام بها الناسخون في كل اللغات وفي جميع الأقطار وفي كل عصور التاريخ.

وعلى الباحث في حالة ضياع نسخة المؤلف الأولى مع بقاء نسخة واحدة منقولة عنها، أن يدرس هذه النسخة ويعرف كل خصائصها من ناحية الشكل واللفظ والمصطلحات والمعلومات التاريخية؛ ثم يدرس حياة المؤلف ومؤلفاته الأخرى إن وجدت ويلم بأشهر الكتاب المعاصرين الذين تناولوا نفس الموضوع الذي كتب عنه. وتطبيق هذه المعلومات على النسخة الوحيدة المنقولة يساعد في أحوال كثيرة على تحري نصها وعلى التثبيت من صحة ألفاظها. ولقد حقق الدكتور أسد رستم مثالاً يوضح هذه الحالة. فهو قد وجد أن عدداً كبيراً من الأصول الأولى لمناشير إبراهيم باشا في سوريا قد فقد، وإنه لم يبق منها إلا نسخة واحدة منقولة ومطبوعة؛ مثل المنشور الذي أصدره إلى متسلم دمشق في صفر 1248هـ عن بعض حوادث اصطدامه بالعثمانيين والذي ورد في كتاب (مذكرات تاريخية بقلم أحد كتاب الحكومة الدمشقيين) ونشره الأب قسطنطين الباشا. ولاحظ الدكتور رستم أن بعض ألفاظه غير واضحة. فبحث طويلاً حتى وصل إلى سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس، وعثر على منشور أصدره إبراهيم باشا إلى متسلم طرابلس ويحتوي على نفس المعلومات التاريخية؛ وأمكنه أن يستنتج أن ناسخ منشور إبراهيم باشا إلى متسلم دمشق قد

ص: 16

أخطأ في فهم بعض الألفاظ فقرأ استغاثوا (استفاقوا) وحيث أن (حنان) وأغثناهم (غنامهم) وهكذا.

وعلى كل حال فإن النسخة المنقولة عن أصل أول مجهول قد تقاوم كل جهود النقد لمحاولة الوصول إلى ذلك الأصل الأول وصحيح أن النقد كثيراً ما يمكنه أن يحدد التغييرات والأخطاء في النص الوحيد المنقول، ولكنه كثيراً ما يقف عند ذلك دون أن يتخطاه إلى معرفة الأصل الأول. والباحث في التاريخ قد يبالغ في الشك في بعض النصوص التي تتغير لم تتغير على الإطلاق، ويناقش النصوص أكثر مما ينبغي، ويضع افتراضات مبالغ فيها. ويعتبر عمل الباحث في هذه الناحية نوعاً من الاجتهاد قد يصل إلى حد المغامرة.

والحالة الثالثة هي التي يضيع فيها الأصل الأول، وتبقى عدة نسخ تتشابه وتختلف فيما بينها، ولا تعرف الصلة بينها، ولا الصلة بينها وبين ذلك الأصل الأول. والباحثون السابقون كان عليهم أن يكافحوا للوصول إلى استخدام أول نسخة تقع في أيديهم، ومهما كان نوعها ومهما كانت صلتها بالأصل الأول ثم أخذ الباحثون يتجهون إلى استخدام أقدم نسخة موجودة، ولكن قِدَم تدوين نسخة ما لا يعني دائماً أنها أصح النسخ المنقولة عن الأصل الأول المجهول. فمثلاً مخطوط من القرن السادس عشر والذي ينقل عن أصل قديم ضائع من القرن الحادي عشر، قد يكون أكثر قيمة من نسخة أخرى نقلت عن ذلك الأصل الضائع في القرن الثالث عشر، وتحتوي على تغييرات وأخطاء في النص الأصلي. ولا شك في أن الباحثين المحدثين يمتازون عن سابقيهم في هذه الناحية؛ فهم يستطيعون أن يقارنوا بين النسخ المتعددة المنقولة عن الأصل الأول، فضلاً عن إمكان حصولهم على معلومات أفضل وأدق عن تلك النسخ وعن العصر الذي وجدت فيه، بقصد الوصول إلى النص الأول الصحيح بقدر الإمكان.

وفي هذه الحالة يعمد الباحث إلى تحديد النص الأول، أو أقرب ما يمكن إليه بالدراسة المقارنة، وعلى أساس التشابه والاختلاف بين النسخ المختلفة، وعلى أساس فهم لغة المؤلف وروحه والإلمام بعصره، كما سبق الإشارة إلى ذلك. ولنفرض بأنه لدى الباحث عشرون نسخة لمخطوط واحد، وأصلها الأول مفقود؛ وأن ثماني عشرة نسخة منها تتشابه نصوصها، ولنسمها مجموعة (ا) وأن نسختين منها تتشابهان ولنسميها (ب) فالأغلبية

ص: 17

العددية هنا لا قيمة لها، ولا تدل على أن نصوصها هي الصحيحة. فمن الجائز أن سبع عشرة نسخة من مجموعة (ا) قد نقلت عن النسخة الثامنة عشرة. ففي هذه الحالة تكون مجموعة (ا) عبارة عن نسخة واحدة تكررت في النسخ التي نقلت عنها. فيكون البحث موجهاً إذاً إلى تحديد أي النصين أقرب إلى الأصل الأول الضائع، هل هو النص (ا)، أم النص (ب)؟

ويلاحظ الباحث عند تحديد العلاقة بين النسخ المتعددة لمخطوط واحد، قاعدة شبه عامة، وهي أن النسخ المتشابهة التي تحتوي على نفس المعلومات واردة بنفس اللغة وبنفس الأخطاء، أما أن تكون قد نقلت عن بعضها البعض، أو أنها قد نقلت جميعاً عن أصل أقدم منها، أخذ عن الأصل الأول الضائع، ويحتوي على نفس المعلومات ونفس الأخطاء. ولا يعقل من الناحية السيكولوجية أن عدداً من الناسخين ينقلون مستقلين أصلاً تاريخياً معيناً ويوردون نفس المعلومات بنفس اللغة وبنفس الأخطاء؛ بل لابد من وجود فوارق مختلفة بينهم.

فعلى الباحث إذاً أن ينبذ جانباً النسخ المنقولة عن أصل واحد محفوظ، وأن يستبقي فقط وبقدر المستطاع النسخ الرئيسية المستقلة التي نقلت عن الأصل الأول مباشرة، أو التي نقلت عن أصل ثانوي معين منسوخ مباشرة عن ذلك الأصل الأول المجهول. وتقسم النسخ إلى جماعات وفصائل على أساس التقارب والاختلاف، والقرب والبعد عن الأصل الأول، إذا ما ثبت ذلك وأنه لأفضل دائماً أن يكون لدى الباحث عدة نسخ أخذت مستقلة عن الأصل الأول الضائع. ونلاحظ أن كثرة النسخ تتعب الباحث أحياناً بدلاً من مساعدته في العمل. وعند طبع الأصلي التاريخي، في هذه الحالة، ينبغي أن ترفق به في الهامش الاختلافات التي توجد النسخ الرئيسية الأخرى.

(يتلى)

حسن عثمان

ص: 18

‌آمال.

. .

للأستاذ محمد محمد المدني

أخذت جماعة كبار العلماء تهتم بآمال الأمة المعقودة عليها، وتفكر في أن لها رسالة، وتنظر في الوسائل التي تؤدى بها هذه الرسالة.

أخذت الجماعة تفكر في هذا كله، وتهتم بهذا كله، فتؤلف له اللجان، وتضع له الخطط، وذلك على أثر الاقتراح الذي رفعه إليها حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت بعد انضمامه أليها.

وكان من آثار ذلك أن الأمة أخذت تلتفت إلى هذه الجماعة وتنظر أليها بعين الرضا بعد أن كانت تنظر أليها شزراً، أخذت تدرك فائدتها وتستبشر خيراً بنهضتها المباركة، ورجا الناس أن يغفر التاريخ لها ما ضيعت من عمر طويل يربى على الثلاثين عاماً، وهي تغط في نوم عميق هادئ متصل، لا تكدر صفوه الأكدار، ولا تقطع اتصاله واطراده حوادث الليالي والأيام!

من الظواهر التي تدل على التفات الأمة لهذه الجماعة، ورضاها عن هذه النهضة، تلك الرسائل التي جعلت تتري على رياسة الجماعة، وأعضاء الجماعة: فهذه رسالة تحمل معاني الغبطة والسرور، وتتحمس في التأييد والتشجيع؛ وهذه رسالة تحث على تعجيل البر بهذه الأمة في دينها وفقهها، وعقائدها وعباداتها، ونظمها ومعاملاتها؛ وهذه رسالة تشفق على هذه الأغراض النبيلة من اللجان، وما ألف الناس من تواكلها وتناقلها، وموت المشروعات النافعة على أيديها؛ وهذه رسالة تتقدم باقتراحات تراها جديرة بالنظر والتنفيذ، أو بالشكوى من عيوب مختلفة تريد لها الإصلاح والتقويم. . . إلى غير ذلك

لقد لمست الأمة إذن في هذه الجماعة معنى جديداً، وأحست روحاً سرى في أعضائها فسرت به (الآمال)، وتجاوبت له أصداء النفوس بالمطالب والرغبات، وأصبح الناس يتطلعون إلى هذه الجماعة لتنقذهم مما هم فيه، ويرقبون على يديها إصلاح كثير من شئونها في دينها ونظمها وثقافتها، فإذا كنا نهنئ الجماعة الموقرة بهذه الثقة العظيمة من الأمة، فإننا نحمد الله قبل كل شيء على هذه الظواهر الكريمة التي تدل على حسن اتجاه الأمة إلى هذا الدين، وتلمسها الأسباب للعودة إلى أحضانه، والعمل بمبادئه، والاهتداء

ص: 19

بهديه.

إننا نحمد الله على ذلك، ونستبشر به خيراً، لأنه يدل على تأصل الروح الإسلامية في المسلمين، وعلى أن الأحداث لم تعبث بهذه الروح ولم تفسدها، وعلى أن الأمة لا تنتظر إلا القادة المصلحين، لتسير وراءهم غير مترددة ولا وانية، تحت راية القرآن الكريم!

من ظن أن رسالة جماعة كبار العلماء رسالة سهلة يسيرة، يكفي أن تتنبه لها، وتأخذ في أسباب أدائها، وتجمع لها لجنة أو لجنتين، وتعقد لها جلسة أو جلستين، فقد ظن عجزاً

ذلك بأنها رسالة يجب أن تتضافر عليها الجهود لأعوام وأعوام، وأن تحشد لها القوى المختلفة، كما تجند الأمم قواها للحروب!

وهي رسالة تحتاج مع القوة إلى الشجاعة في مواجهة الحقائق، والجراءة على الباطل الذي مد رواقه، وضرب بجرانه

وهي رسالة تحتاج مع القوة والشجاعة إلى الصبر والمثابرة والإخلاص للعلم والعمل والإنتاج.

ستنظر الجماعة في البدع التي شاعت وذاعت، وتغلغلت في أوساط العامة والخاصة حتى عد الناس كثيراً منها من الدين، وأصبح عزيزاً عليهم يدفعون عنه، ويغارون عليه.

ستنظر الجماعة فيما لنا من عادات تتحكم فينا وتفرض علينا سلطانها الجبار، وإرادتها القاهرة فنحافظ عليها ولا نتسامح فيها، وربما عددناها من شعائرنا وحسبناها من تقاليد ديننا، وزحمنا بها أنفسنا وأموالنا وحكمناها في مصائرنا.

ستنظر الجماعة في هذا وأمثاله لتقرر ما هو بدعة وما ليس بدعة، وتضع لذلك الأصول، وتضرب فيه للناس الأمثال، لعلهم يجتمعون على الحق، ولا يهيمون في أودية الباطل.

وهنا ينبغ أن تتجلى شجاعة العلماء، فما كان من خير أقروه، وما كان من شر أنكروه؛ أما الخوف من العامة ومجاملتهم أو ممالأتهم على العقائد التي يعتقدونها، أو العادات التي يألفونها، وتأويل ذلك لهم على وجه له ظاهر من الصحة والقبول، فهذا هو الخطر الأكبر، ولو فعلته جماعة كبار العلماء لكان حكم التاريخ عليها قاسياً لأن التاريخ سيقول إن جماعة كبار العلماء قد سكتت عن رسالتها ثلاثين حولاً، فلما استيقظت لها جعلت تجاري أهواء الناس ورغبات الطوائف، ولم تجرؤ على هدم الباطل، فالتمست له المعاذير، وأفتت فيه

ص: 20

بالتأويل والتخريج! ستنظر جماعة كبار العلماء فيما جد من نظم الأمة في معاملاتها وقضائها واقتصادها، وسترقب الأمة آراءها وبحوثها في ذلك كله بقلوب واجفة لتعلم بأي روح سيمضي كبار العلماء في حل مشاكلها وإصلاح نظمها، أبالروح التي تدرك حاجات الناس، وظروف الزمان، وسماحة الشريعة، وابتناها على المصالح وعدم الحرج؟ أم بالروح الجامدة المقلدة التي تتقيد برأي فلان وفلان، وقواعد فلان وفلان، مما اصطلح عليه المصطلحون في زمان غير هذا الزمان، وفي كتاب الله وسنة رسوله منأى عنه، ومخلص منه، وتيسير عظيم؟

ستنظر جماعة كبار العلماء في تفسير القرآن، وما أدخلته الروايات المدسوسة عليه من إسرائيليات شوهت جمال القرآن وشغلت قارئه والمتدبر فيه عن العظة والاعتبار، لتنبه على ذلك كله، وترشد الناس إلى الصواب فيه، وربما وضعت تفسيراً وسطاً للناس تنفي عنه الدخيل والضعيف والمكذوب.

وهنا ينبغي أن ننبه إلى شيء آخر لا يقل خطراً عن هذه الإسرائيليات في الإساءة إلى تفسير القرآن: ذلك كثرة الروايات المأثورة في المعنى الواحد، أو في أسباب النزول.

إنك لتقرأ الآية من كتاب الله فتراها واضحة لا غموض فيها، حتى إذا أردت أن تستظهر على معناها الذي فهمت منها بكتاب من كتب التفسير وقعت في بحر لجي لا ساحل له، ورأيت روايات مختلفة متعارضة وغير متعارضة، فلا تدري بأيها تأخذ، ولا بأيها تترك، فتعود من حيث أتيت آسفاً على ما أثارته في نفسك هذه التفاسير من شكوك.

وهذا معنى يشكو منه الناس مر شكوى، وخصوصاً ضيوفنا من البلاد الإسلامية، وفي بقائه صد عن القرآن الكريم وحجب عن نوره وهدايته.

وقل مثل هذا في (أسباب النزول) فليس من شك أن هذه الأسباب تفيد فائدة ما تجلية المعنى والإرشاد إليه، ولكن الروايات فيها قد تعددت في الموضع الواحد، وتضاربت، وربما أخرجت الآية أو الآيات إلى معنى سقيم يشهد الذوق السليم أنه لا يتفق وبلاغة القرآن وما له من عموم في الهداية والتشريع ولو شئنا لضربنا لذلك الأمثال ولكنه بحث مستقل نرجو أن نعالجه بعد حين.

فمن الخير إذن أن ينشر بين الناس تفسير تعتمده الجماعة يكون مع تنبيهه إلى

ص: 21

الإسرائيليات خالصاً من هذه الروايات المتضاربة التي لا يعرف لها سند صحيح، ولا يقرها ذوق سليم وستنظر الجماعة في واجب الدفاع عن الدين، ورد المطاعن التي توجب إليه، والشبه التي تثار حول عقائده أو قواعده

وأول واجب في ذلك هو تبسيط العقائد، وتنقية علم الكلام ولو إلى حد ما من الفلسفة التي طغت عليه وعقدته وجعلته فوق مستوى العامة وكثير من الخاصة. ثم الرجوع إلى طريقة السلف الصالح في الإيمان بالغيب وما أستأثر الله بعلمه دون تدخل فيه أو تهجم عليه، فليس يضير المسلم ما دام مؤمناً بأصل الحساب والسؤال أن يلقي الله من غير أن يعلم بالتحديد: هل سترتفع الأرض بنصف الميت الأعلى ليجلس للسؤال أو ستنخفض بنصفه الأسفل. وليس يضيره أن يلقى الله جاهلاً بلغة الملائكة السائلين أهي السريانية أم غيرها، ولا بالموازين التي توزن بها أعمال الناس يوم القيامة: أمن حديد هي أم من نحاس؟ وهل لها كفتان تسع كلتاهما السماوات والأرض لو وضعت فيها أو هي على شكل آخر ما دام أصل الإيمان بالوزن والموازين كما ذكرها الله في القرآن موجوداً والاعتقاد به حاصلاً.

وستصدم الجماعة حين تقوم بواجبها في الدفاع عن الدين بفكرة التبشير، وستسلم - حين تدرسها عن كثب - بخطرها الشديد على ناشئة هذا الجيل والأجيال المقبلة، هذا الخطر الذي يسري في خبث وخفاء، كما تسري الصلال في رمال الصحراء، أو كما تسري الأمراض الخبيثة في الأجسام، هذا الخطر الذي يعتمد على الزمن، وعلى أخلاقنا الكريمة المتسامحة، وعلى تهاوننا في مدافعته، وعلى ثقتنا بمناعة هذا الدين وحصانته

سيلمسون بأنفسهم هذا الخطر، وسيقفن أمامه وجهاً لوجه، وسيرى الله عملهم ورسوله والمؤمنون، فإذا سوّغوا لأنفسهم أن يهادنوه أو يسكتوا عنه، أو يغمضوا عيناً على قذاه، مجاملة لهذا الرئيس أو مراعاة لهذا الحاكم، أو احتفاظاً بصداقة هذا الوزير، أو تسامحاً حين يكون التسامح تفريطاً لا يغتفر، فقد أضافوا إلي الخطر خطراً أشد، وقد أعانوا عدوهم على أنفسهم، ومكنوه من دينهم وعقائدهم، وبالله نستعيذ!

إن الإسلام دين حصين وإن له مناعة وقوة يستمدها من مبادئه الموافقة للعقول السليمة، والطبائع المستقيمة: ذلك حق لا مريه فيه، ولكننا إذا اغتررنا به، واستنمنا إليه لعبت بنا فنون الدعاوى وأثرت في شبابنا أفاعيلها الخلابة، وغررت بنا وسائلها الخادعة الفاتنة،

ص: 22

ويومئذ نرى السيل جارفاً، فلا نستطيع أن نقف في طريقه ونرى هذا المستصغر من الشرر وقد اندلع نيراناً حامية، تلتهم كل شيء وتأني على كل شيء!

ستنظر الجماعة في هذا كله، وستصدم بهذا كله، فإن صبرت عليه، واحتالت له، وفرت له الجهود والقوى، ومسّكت فيه بأهداب الشجاعة، واستعانت على تذليل عقابه بالإخلاص والتضحية، كتب الله لها النجاح، وحقق الله بها الآمال.

وإن كانت الأخرى. . . لا! لا أقولها ولا أفرضها، فإني أرتاع من هولها وأشفق منها، وأسأل الله السلامة من شرها!

أما بعد: فهل آن أوان النهوض والتقدم، أو تلك آمال وأحلام يتعلل بها الراغبون في الإصلاح، وتتراءى لهم في عالم الخيال؟ وهل أحيلت هذه الرغبات والمقترحات إلى لجنة من الجماعة لتلبث قيد البحث والنظر أعواماً بعد أعوام حتى تصاب بالموت أو الهزال كما ألف الناس فيما يحول إلى اللجان؟

لا. لا، ومعاذ الله أن يكون ذلك هو الغرض، فإن على رأس الجماعة الموقرة رجل الإسلام المصلح الغيور على مبادئه الدين والخلق: الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، فلولاه ما نظرت الجماعة في مثل هذه المقترحات، ولولاه ما دارت في نفس مقترحيها، ولولاه لتشكك فيها المتشككون، وشغب عليها أهل الفتنة، وابتلعتها لجج الجامدين!

وإن على رأس اللجنة التي تنظرها لرجلاً من رجال الأمة، يعرف فيه الناس العلم وصفاء العقيدة ورجاحة العقل والميل إلى مبادئ الإصلاح: ذلك هو المفتي الأكبر الأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم.

فإلى هذين الرجلين العظيمين، وإلى أعضاء الجماعة الموقرة عامة تتوجه الآمال: آمال الأمة، وآمال الدين، وآمال الأزهر.

حقق الله الآمال.

محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة

ص: 23

‌ظاهرات نفسية

في مسرحيات محمود تيمور

للأستاذ زكي طليمات

مفتش شئون التمثيل بالمعارف

- 1 -

أصدر الأستاذ الكبير محمود تيمور مؤلفاً يتضمن ثلاث مسرحيات صغيرة هي: (الصعلوك) و (أبو شوشه) و (الموكب) مكتوبة باللهجة العامية، تناولتها الأقلام بما هي جديرة به من الاهتمام؛ لأن لتيمور بك اسماً نابهاً متفرداً بطرائقه في عالم القصص المصري، نُقل بعضه بأقلام كتاب غربيين إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وأثيرت حوله بحوث من جانب بعض المستشرقين المعنيين بالأدب العربي المستحدث. وفوق ذلك فإن تيموراً سليل بيت عريق في خدمة الأدب العربي والتبريز في مجلاته المختلفة.

بيد أن ما دبجته أقلام النقاد عن هذه المسرحيات الثلاث لم يتجاوز تسجيل مفاتنها الظاهرة، وذلك من حيث رشاقة الأسلوب، ورونق السياقة، وحبكة الوضع، ومن حيث الأغراض الاجتماعية التي تهدف إليها

والأسلوب وما يتبعه، والأغراض الاجتماعية وما يتعلق بها لا تعنيني بقليل أو كثير، لأنها ليست حقائق خالدة؛ بل هي أشياء تغير لبوسها من عصر إلى عصر، وأوضاع تتحور وتتبدل، تتغير النظرة إليها بتغير المزاج الاجتماعي، وبتبدل الذوق البياني في التركيب الإنشائي وفي السياقة وبتحور الصيغ الفنية الخاصة بكتابة المسرحية؛ والإنسان في هذا - كما يثبت الاستقراء في التاريخ - يحرق اليوم ما كان يعبده بالأمس، ثم يعود فيعبد ما حرق!

فإذا صح لي أن أعني بمسرحيات تيمور - وهي طريقة جديرة بالعناية - فإن موضع اهتمامي سيكون مقصوراً على ما بتلك المسرحات من حقائق ثابتة لا تتغير. والثابت الخالد من الحقائق في العمل الأدبي أو الفني إنما هو ما يتصل بالنفس البشرية وما تمتد أعراقه في تربة الإنسانية. وذلك لأن النفس خالدة، والإنسانية وحدة قائمة متماسكة في كل زمان

ص: 24

ومكان لا تتجزأ ولا تتقسم، والنفس والإنسانية في المسرحية يتمثلان في أبطالها وشخوصها من ناحية تقويمهم في أصدق تكوين نفسي لكل منهم

إن المتمعن قراءة هذه المسرحيات المستبطن دخائلها يطالعه شيء لابد أن يستوقفه برهة يخلد أثناءها إلى التأمل والمراجعة، ذلك أن أبطال هذه المسرحيات لا يجرون في الكشف عما في نفوسهم على سنة الوضوح التام والمنطق المنظم، وهو المألوف المتعارف عليه في الأدب الاتباعي والرومانسي والواقعي، وهو المتداول أيضاً في نتاج أدبنا العربي المستحدث ما عدا القليل النادر

أجل، إن أبطال تيمور في مسرحياتها الثلاثة يغمضون أو يلغزون أحياناً وقد يغلقون الإغلاق كله، وهم يعطون قولاً ما يعارضونه فعلاً، وهم يثبون وثبات نفسية لا تستقيم مع المنطق الظاهر المألوف، فيتراءون وكأن كل واحد منهم قد ركب فيه شخصان أو أكثر!!

هل لي أن أجشم القارئ مشقة استذكار هذه المسرحيات؟

لا، بل حسبي أن أستأذنه متفضلاً أمر التلويح له ببعض الشيء منها، مما لا غنى عنه حتى يستقيم هذا البحث.

لماذا مزق (دردير أفندي) - وذلك في مسرحية (الصعلوك) - رزمة الألف جنيه وهي كل سلاحه الذي ينيله ما يريده من (وحيده هانم) القينه الفاتنة؟

وهل يعقل أن صعلوكاً يعيش بين الخصاصة والكسب الطارئ يتلف ألف جنيه من غير ما سبب قاهر؟

ولما أحجم (مؤنس بك) وذلك في مسرحية (أبو شوشة) عن معاودة اتصاله بحسنية هانم معشوقته السابقة - وقد سنحت له الفرصة التي أخطأته فيما مضى، وقد وجد كل منهما في قلبه الميل نحو صاحبه؛ ما الذي يحجزها عن إحياء الماضي الجميل؟

وكيف تأتي أن فضل الله باشا - وذلك في مسرحية الموكب - يقول بشيء ثم يفعل غيره، وينهي عن أمر ويأتي مثله؟

ما حقيقة هذا المقنع الذي يخفى مسراه في نفوس هؤلاء الثلاثة ويظهر أثره سافراً في فعالهم؟ وهل حق أن الإنسان قد يبدو أحياناً وكأنما تسكن نفسه شخصيتان متناقضتان؟!

عن هذا الشيء أنشأتُ فصلاً طويلاً في العدد الماضي من هذه المجلة، أبنت فيه كيف أن

ص: 25

علم النفس في اتجاهه الأخير أصبح يأخذ بما قرره العلماء والفلاسفة من أن كياننا النفسي الكامل يتألف من العقل الظاهر (الوعي)، ومن العقل الباطن (اللاوعي)، وأننا في تصرفاتنا خاضعون إلى التيارات الخفية التي تنطلق في واعيتنا الباطنة، وأن عقلنا الظاهر لا يستطيع أن يفسر اللوامع الخاطفة التي تبدر من هذه الواعية الباطنة، فتسلمنا إلى التناقض وإلى التعقيد، حتى نبدو وكأنما تعيش فينا شخصيتنا تتناقضان أحياناً.

على هدى هذا الاتجاه الأخير الذي يساير العلم في تقدمه، سنأخذ في نقدنا هذه المسرحيات من الناحية النفسية. وأغلب الظن أننا سنجد تفسيراً كافياً لتلك التعقيدات النفسية التي تتمثل واضحة ملموسة في شخصيات:(الصعلوك)، (مؤنس بك)، (فضل الله باشا)، إذا حاولنا أن نرد كل تعقيد نفسي فيها إلى حقيقته اللانهائية التي تتجاوز مناطق الذكاء وحدود البيئة والوراثة، ولم نعبأ بأعراض العقل الظاهر أكثر من أن نتخذه دلالة ظاهرة لأشياء مضمرة، وتغلغلنا منحدرين إلى أعماق النفس ومتاهاتها، حيث تتحوى الغرائز وتنطوي على نفسها مكبوتة مغلولة، وحيث تصطخب تيارات خفية لا تتراءى على سطح الروح الذي قد يعدم هدوءاً ظاهراً.

لنبدأ بمسرحية الصعلوك

الصعلوك في مسرحية تيمور هو (دردير أفندي) وحكايته تبدأ بمجرد ما يقدمه المؤلف إلينا؛ فنراه يقتحم خدر الفاتنة (وحيدة هانم) وهي واحدة من بنات التفريط وأشباه الحرائر. يقتحمه بسلاحه المألوف وهو تصعير الخد والملق والاسترضاء بالدعابة وإثارة الفضول. وإذ يلمح الرضاء في عيني الفاتنة الحُوَّل ويستوثق من غبطة مزاجها يصارحها بأنه يحمل في جيبه أوراق نقد مالي قيمتها ألف جنيه ربحها بطريق اليانصيب، وأنه معتزم أن يهبها لمن ترضى أن تقضي معه ليلة حمراء تمنحه فيها أفاويق اللذة الحسية. إنه يخرج أوراق النقد من جيبه وبعدها فلا تلبث (وحيدة) أن تهب مدومة شباكها فوق رأسه في تلميح لا يخفى عليه، ويحس بأنه نائل منها ما عز عليه مناله من قبل. هاهي خمر (الشمبانيا) تطري حنجرة سيد الساعة، وهاهي (وحيدة) ذات الحول والطول بأناقتها وجاذبيتها قد تهيأت لتقدم له ما يبتغيه. الفرصة سانحة، والليل يستر العاشق ويبعث رواقد الأحلام، ولكن. . .

ص: 26

ولكن بدلاً من أن نرى (دردير أفندي) يهوى بذراعيه يعتق المعوقة المستسلمة ويروي ظمأه حسه منها، إذ به يأخذ بأطراف حديث لا علاقة له بجوهر الموضوع القائم بينهما:

حديث خيالي عن الجمال وقداسته؛ والحرير الأبيض - شبيه خدها الناعم - ولطيف ملمسه، وكيف تنتهك حرمة نصاعته إذا تأتي أن يدب عليه ذكر خنفس أسود مهما كان يحمل هذا الخنفس على ظهره من كريم الجوهر الغالي؛ ثم لا نلبث أن نرى (دردير أفندي) يحطم الكأس التي في يده ويخرج الأوراق المالية من جيبه، وينهال عليها دعكا وتمزيقاً في ثورة صاخبة، يشتبك فيها الضحك بالبكاء؛ فلا تلبث وحيدة أن تنهال عليه بالشتائم والضرب وتطرده شر طردة لتستلقي بعد ذلك على وجهها وتشتهي بالبكاء في غيظ ثائر!

الآن نتساءل كيف بدرت هذه البادرة الغريبة من الرجل وليس فيما سبق منه ما يمهد لها أو يبعثها؟ كيف استقيظت هذه الخالجة الطارئة لتبدو في نطحة نفسية عجيبة؟

قد يقول قائل إنها الخمر التي أفقدته رأسه وأسلمته إلى هذا الهذيان؛ ولكننا نقول - دفعاً لهذا التعليل - إن الرجل متمرس بالخمر يصمد لحمياها كما تشير إلى ذلك حياته السابقة. وفوق هذا فإنه لم يحتس من أخف أنواعها - وهي الشمبانيا - غير أربع كاسات!!

(قد يقول قائل - والقائل بهذا أحذق من الأول -: إن الرجل لابد أن يكون عنيناً هامد الحس فافتعل هذه الفعلة يفتدي بها فضيحة، وفي دفع هذا التعليل نقول إن المؤلف لم يشر إشارة صريحة أو غير صريحة إلى هذا الأمر.

إذن ماذا!

فلنحاول أن نرد دردير أفندي هذا إلى حقيقته

(دردير أفندي) هو - كما رسمه المؤلف - واحد من ذلك الصنف الإنساني الذي أعرفه باسم المفلس الطروب. هو الرجل فقير بجيبه غني بنفسه، حبته الطبيعة القلب الكبير والحس المرهف، ولكنها لم تحبه الحظ المادي الذي يجعل حياته تستقيم على ما تقتضيه كرامة حسه وقلبه. هو جواب ذليل لآفاق الترف والنعيم لا يأخذ منها غير ما يؤذن بأخذه لكلب مدلل أو قط مرموق. بل هو أدنى مرتبة من ذلك. إنه مسخ يتفكه بنفسه كما يتفكه به الناس من أهل اليسار وفي مقدمتهم معشوقته (وحيدة). وأعجب من هذا أنه يحس بكل شيء فيه، فهو الضحكة الذي يعي موضع الفكاهة والسخرية فيه، وهو الصعلوك المؤمن

ص: 27

بصعلكته. مثل هذا الشخص يحب العالم ويمقته في آن واحد. يحبه بعقله الظاهر، فتراه متهالكاً على ملاذه بقدر ما لديه من وسائل محدودة. وهو يكرهه بدافع شيء آت من وراء الوعي. لأن هذا العالم قد أذله وحرمه ما تتوق نفسه إلى اجتنائه دائماً، فتراه يسخر؛ وإذا هبط عليه شيء من المال بطريق الكسب الطارئ - سباق، ميسر، يا نصيب - لم يتوان عن القضاء عليه بالإنفاق السريع المتلف، وكأنه بدافع لا شعوري يثأر لنفسه من المال الذي يطول دائماً ارتقابه إلى مجيئه، وكأنه أيضاً، وبنفس الدافع اللاشعوري يلتمس التمتع بمظاهر الفخفخة والعظمة المادية التي حرمها بمجرد أن تصل إلى يديه وسائلها، وهي المال. فهو يلقي به إلى البوار من أجل متعة عابرة بها، هو يفعل كل هذا لأن عقله الباطن متشوف تشوفاً مكبوتاً إلى هذه المظاهر. ولعل هذه الظاهرة النفسية العجيبة تفسر لنا بعض ما نلحظه كثيراً في سلوك معوزين وفقراء يحبوهم الحظ السعد في لحظة بمال غير قليل فنراهم يتلفونه إسرافاً وتبذيراً بدلاً من أن يقيموا عليه ويتدربوا في صرفه. هذه هي حقيقة (دردير أفندي) بكامل كيانه النفسي، أي بعقله الظاهر وبعقله الباطن. . .

بعد هذا، ألا يرى القارئ معي أن هذه البادرة الغريبة من جانب (دردير أفندي) في إتلافه المال الذي يملكه وهو واقف أمام معشوقته إنما ترجع إلى أمرين مأتاهما العقل الباطن: الأول يقظة الثأر من الحرمان الذي يكابده في المال وما يجره من أسباب المتعة، وهي يقظة جامحة تستنفد كل مدد في العناصر التي تتاح لها حتى تقضي على نفسها وعليها. فالمتعة لا تستقيم في نظره إلا إذا استنفدت كل معينه من الوسائل المادية، فيكون قد جرى، فيما أتاه، على مألوفة في مواقف سابقة تحدث عنها في الرواية وكلها تشهد بأنه قد ألف القضاء على كسب طارئ من غير مبرر معقول!!!

والأمر الآخر انتفاض خالجه هامدة ارتفعت فجأة من أعماق الغرائز، وقد تهيأت لها الظروف، فأراد أن يثأر لنفسه من الذل الذي فرضته عليه هذه الغانية (وحيدة)، هي ودنيا الغني اللتان دأبتا على أن تتخذا منه ضحكة وبهلولاً!!

وقد يتساءل القارئ كيف ثأر (دردير أفندي) لنفسه من (وحيدة)؟ والجواب واضح لا يحتاج إلى تبين لأنه واضح في سياق المسرحية.

ونعود فنقول: أتى هذا الرجل كل هذا، وخرج على العقل والمنطق وهو لا يشعر، لأنه إنما

ص: 28

كان مسيراً بعقله الباطن الذي تكمن فيه الغرائز مكبوتة بفعل المختلق من الأوضاع الاجتماعية أو بضغط الظروف القاهرة. وما حديثه عن الجمال والحرير والخنفس إلا صدى ما ركبه عقله الظاهر، وهو عقل لا يملك إلا التكييف السطحي لتصرفاتنا وانتحال الأسباب وفاقاً للمنطق. كما أن الحديث نفسه هو وسيلة المؤلف للتعبير والتعليل وأداته للإيضاح، وهو يحاول متعثراً أن تنشئ علاقة بين هذه البادرة الباطنية الغامضة، وبين الواضح والمعقول في أقوال وأفعال (دردير أفندي)

ولابد من الإشارة إلى أن المؤلف أطال في تعليل وتفسير هذه البادرة أو هذه العقدة النفسية، لأنه نحا في هذا نحو الكتاب الرومانسيين كما يتضح ذلك في بحثنا السابق عن اتجاهات علم النفس في مراحل المسرحية.

نعم إن تيمور صاغ مسرحيته على أساس الرومانسية، فلم يكن له بد من أن يجري على شرعتها في تفسير العقدة النفسية، وهو في هذا قد أحسن التمهيد لهذه العقدة، وذلك الانطلاق الغريزي في ناحية من نواحي النفس بأن جعل (دردير أفندي) يحتسي خمراً، والخمر تساعد على إيقاظ هوامد النفس وانطلاق الرابض المكبوت في أعماقها، وتعمل على إسقاط القناع الذي تخفى النفس وجهها الأصيل وراءه.

وليس في جرى (تيمور) على سنة الرومانسيين في إنشاء مسرحيته هذه ما يسلب شخصية الصعلوك طرافتها من الناحية النفسية، إذ أن شخصية (دردير أفتدي) عريقة في إنسانيتها تحيا بيننا ونحس بها، هي أنموذج بشري طريف سجل سماته قلم تيمور في عالم المسرحية المصرية.

(للحديث بقية)

زكي طليمات

ص: 29

‌الحرب والطبيعة البشرية

للأستاذ محمد أديب العامري

لا يظهر للقارئ من الكلمة التي أرسلها الدكتور محمد حسني ولاية أن نزعتان جنسيتان، مع أن ذلك هو خاصتهما كنزعتين؛ وإنما يظهر له أن هاتين النزعتين صفتان في البشر عامتان فقط، وأنهما تكتمان آناً وتبدوان آناً آخر على صورة مصطنعة وفجائية.

وربما كان الدكتور ولاية يحب أن يورد النزعتين مردودتين إلى أصلهما البيولوجي، ولذلك كان ما يمكن أن يفهم قارئوه من السادية أنها نزعة تعني (أن يهدم الإنسان سواه ليخلو له الجو ويستأثر بالحياة. . . أما الماسوشية، فتعني أن يهدم الإنسان نفسه).

(ويؤدي العرف في أوقات السلم) في نظر الدكتور أيضاً (إلى أن يكبت الرجل شطراً من ساديته لينسجم مع المرأة والبيئة، أما في زمن الحرب فتتحكم السادية في العقل الواعي، وحينئذ يتحكم الحيوان الرابض في الأعماق. . . وحين تسير الجيوش لملاقاة العدو يتناسى كل جندي شخصيته، ويعود إلى ماضيه الفطري، ويعمل كما كان يعمل آباؤه الأولون، وهو في هذه الحالة وهذه الإرادة البشرية الأزلية. . .)

وهذه التعاريف والاستنباطات القطعية التي تحمل طابع العلم الذي يؤمن به الناس اليوم ويخضعون له كانت تكون يسيرة الخطر لو أنها - على ضعف مبرراتها - لا تنتهي إلى تثبيت فكرة الويل والدمار والهلاك الرانية على قلب العالم؛ فلا يمكن أن يفهم قراء الدكتور ولاية إلا أن الحرب على شكلها الحاضر متصلة بنزعات عميقة، وإلا أن المحارب يشتق نفسيته من هذه النزعات المتأصلة؛ ومن هنا بطبيعة الحال ستسمر الحرب هكذا، بل وتشتد جيلاً بعد جيل إلى ما شاء الله!

والذي أرى هو غير هذا في المقدمات وفي النتائج

فالسادية والماسوشية - كما يرى كرافت إبنج وفرويد وغيرهما - إنما هما نزعتان متصلتان بالجنس مباشرة كما سبق أن أشرنا، وإنهما في حالة بروزهما تعتبران انحرافاً جنسياً - أي نوعاً من أنواع الضعف التناسلي - ويعتبر لخت أن عدم وقوعه على إشارات سادية وماسوشية في المصادر الأدبية اليونانية يدل على أن حياة اليونانيين كانت حياة صحية (يقصد الحياة التناسلية)

ص: 30

أما تصوير هاتين النزعتين كأنهما دافعان أساسيان للحرب والقتل الدائر اليوم أو مثله، فليس له مبرر؛ ولكن الذي له مبرر فيما يظهر هو أن الأصول البيولوجية لهاتين النزعتين ترجع إلى (الحاجة إلى التغلب على أية مقاومة يبديها الهدف الجنسي، ولا تجدي معها حركات المداعبة). وهو تعليل بسيط قريب الصلة بالمظاهرة التي نحن بصدد الكلام عنها.

اجل، ترتد النزعتان في نظر بعض العلماء - وهذا إذا تعمدنا تعمقاً أشد - إلى شهوة أكل الإنسان اللحوم البشرية (أي خدمة غريزة حب السيطرة)، ولكن هذا مشكوك فيه كثيراً كما سيتضح الآن

ومهما يكن من أمر فالمرد الأساسي للسادية والماسوشية غير مؤكد الآن، ولذلك يرى (فرويد) أن التفاسير الموضوعة لأصول هاتين النزعتين غير كافية، وانه من الممكن أن تكون هنالك دوافع نفسية عديدة ومتحدة لتكون هاتين النزعتين

وليس صحيحاً أن يقف الناس عندما انتهى إليه فرويد أو غيره من الثقاة؛ ولكن الدكتور ولاية يقول بأن (كل إنسان - رجلاً كان أو امرأة - يحمل نزعة السادية متوازنة مع نزعة الماسوشية). وهذه بالطبع حالة الإنسان العادي. ويقول هفلوك إليس أيضاً إن (جميع حالات السادية والماسوشية تبدي آثاراً من النزعتين في الفرد الواحد نفسه).

وواضح من اجتماع النزعتين دائماً في فرد واحد أن وجودهما معاً لا يمكن أن يعزي إلى شهوة العدوان، ومن ثم غريزة حب السيطرة (دع عنك القتل الإجماعي - الحرب) لأن هذا التأويل إن وضح للسادية فلن يوضح الماسوشية، إلا إذا قلنا إن الإنسان يشتهي أن يقتل نفسه، وهذا يغاير ما تنزع إليه غريزة البقاء، التي لا يرتاب في أصالتها وسيطرتها وشمولها

وإذا كانت الحرب تطوراً للسادية فماذا ترى يكون تأويل دخول المرأة في معترك الحروب اليوم؟ وإذا استمرت الحرب أزمنة طويلة قبل أن يكتشف الناس غباوتهم فيها - فلا ريب أن المرأة ستسير جنباً إلى جنب في الحرب مع الرجل. فهل تصلح الماسوشية، وهي النزعة المتغلبة في المرأة، تأويلاً لمظهر هذه الحرب أيضاً؟

وخلاصة ما أريد أن أقول هو أن هاتين النزعتين كما نعرف هما اليوم جنسيتان، وأن أصولهما غير مؤكدة. على أنه مهما تكن هذه الأصول فمن المؤكد أنها أصول لا تمت إلى

ص: 31

الحرب الإجماعية بسبب

وإذا كان العدوان أصل السادية فإن ذلك لا يعني أن تتطور هذه النزعة في اتجاه العدوان متضخمة. إذا تضخمت السادية كانت انحرافاً جنسياً. ذلك نعلمه بالتأكيد. وهفلوك إليس، وهو ممن أكبر ثقاة المسألة الجنسية، يرى أن (القتل الإجماعي بالحرب ليس طريقه اجتماعية غير ملائمة لدور الحضارة الحالية فحسب، بل إنه على اٌلإطلاق لا أساس له في العالم).

وارجح الرأي أن الدكتور ولاية يفرض أولاً أن الحرب شيء أزلي أو يتفق مع الطبيعة البشرية ثم يمضي ليجد الأسباب العلمية لهذا الغرض. ولما لم تكن الحرب في شكلها الحاضر شيئاً يتفق مع الطبيعة البشرية، ولا مع درجة الحضارة الراهنة للبشر، على أقل تقدير، فإن أية محاولة لإقامة هذه الظاهرة - الحرب - على أساس علمية تكون اصطناعية

إن من السهل أن نلاحظ أن الجندي لا يذهب إلى ساحة الحرب راضياً، وإنما يدفع إليها دفعاً. فإذا ضحى فيها لم يكن عدوانه إلا مظهراً من دفاعه عن نفسه. إنه إن لم يقتل من يواجهه فهو مقتول لا محالة. فقتل غيره هو أضمن السبل لخلاص نفسه. وواضح أيضاً أن الجندي يحب في كل وقت من أوقات الحرب أن يُسرّح ليعود إلى أمنه وطمأنينته، سواء أكان الجيش الذي يحارب فيه مغلوباً أو منتصراً.

إن الحرب الإجماعية على شكلها الحاضر لا تتصل بالنوازع البشرية أو بالغرائز، وإنما تقوم لمصلحة أناس محدودين ضاق نظرهم وتكمن الخوف من نفوسهم. وتشمل هذه المصلحة الدوافع النفسية الملتوية والدوافع المادية على السواء. إن سواد الجنود يحارب لغير دافع من نفسه، فالقتل للقتل صفة غير معروفة. والدكتور ولاية يرى هذا فيقول إن الجندي عندما ينعم النظر في (وعي ذاته ويشعر بأنه شخصية قائمة بذاتها لا تستطيع روحه الاندماج مع الروح التي تقود زملاءه الجنود إلى التلاحم). وهذا القول يقرر أن الوعي البشري مخالف لروح الحرب التي يظن القارئ لمقال الدكتور أنها أزلية فتستمر ابد الدهر مستمدة نفعها من أعماق الطبيعة البشرية.

(السلط)

محمد أديب العامري

ص: 32

‌قيمة الحرية

للصحافي العالمي ويكهام استيد

بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي

(من الممكن عندي صياغة جميع المسائل المتعلقة (بقيمة الحرية) في أسئلة ثلاثة:

1 -

هل الشخصية الحرة كعنصر من عناصر الحياة البشرية أنبه شأنا وأعز جانباً وأنفس قيمة من تلك الشخصية التي تنطبع وتتشكل وفقاً لمشيئة قائد أعلى حاكم بأمره في مصادر

وموارد الدولة الاستبدادية المطلقة؟

2 -

هل يتوقع لإرادة الفرد الحرة أن تخطو بمصالح البشر إلى الأمام أكثر مما يتوقع لإرادته التي تدرج من المهد إلى اللحد على منهج موضوع يصيرها خاضعة لكلمة القيادة العليا خضوعاً غبيا ومطيعة لها طاعة عمياء؟

3 -

أليس هنالك من ضرر يتهدد الجنس البشري، ومن خطر على تقدم المعارف وانتشار الثقافة، ومن خوف على كل شيء نفهمه عن طريق (المدنية) بنشوء هذه الجماعات الفقيرة التي تسير في مناهجها على نمط واحد، وتجري في تفكيرها على أسلوب واحد، وتنطلق خائفة مذعورة كقطيع من الغنم أمام راعيها؟)

ويكهام استيد

من القضايا التي يزعمون أنها من بداءة الرأي قولهم:

(لكل بلاد ما تستحقه من صحافة)، وإذ نفرض صحة هذه القضية م غير أن نسلم بحجتها يسعنا أن نتساءل:(وأية صحافة نستحقها نحن؟)

والجواب على ذلك ليس بالأمر الهين؛ فقد جاء في مقال لكاتب إيطالي - أغفل اسمه - نشر في كتاب سنوي فاشي عن الصحافة الإيطالية قوله: (إذا كانت بريطانيا العظمى لا تزال تملك صحفاً تشغل مكانتها بين خيار صحف العالم، فإنها ما برحت تملك صحفاً أخرى هي بلا شك أسوأ الصحف في العالم، أو على أي حال في أوربا). وإني لا أجد بصدد هذا النظر سوى أسباب ضعيفة أخالفه الرأي فيها. اللهم إن صحافتنا حتى أسوأها شأناً ما زالت إلى الآن لا تخضع لأي رقابة رسمية، أو تستعبد لأية قيادة حكومية؛ إذ لا يسعنا أن تجمع

ص: 34

بين النقيضين: حرية الصحافة وقيود الرقابة.

والحرية التي سمحت لجريدة إقليمية كبرى (كالمنشستر جارديان) بأن تنادي غير هيابة بالحقائق اللازمة لسلامة الكيان السياسي بأجمعه؛ والحرية التي أباحت لصحيفة التيمس عام 1852 أن تلقى على رجال السياسة درساً قيماً عن وظيفة الصحافة الحرة في المجتمع الرشيد، لا يسعنا أن نقيدها جملة رجاء أن نتخلص من الخبيث الضار ونحن نعني بتنشئة الطيب النافع.

ولكن هل الحرية شيء محبوب لذاته عظيم في نفسه، حتى أنه يصبح لزاماً علينا أن نتحمل من أجلها ما هو أقل صلاحية وجودة من شؤوننا؟

إننا عندما ننعم النظر فيما للصحافة البريطانية اليوم من شأن وفيما قد يتهيأ لها من مستقبل تصادفنا تلك القضية القديمة وأعني بها ما لحرية من مكانة وقيمة، فإذا هي منها بمنزلة الأساس من البناء والأصل من الكائنات.

ولقد صار واجباً على جيل أن يحل مشكلات هذه القضية لنفسه. أو ليس يتفق مع طبيعة الحياة الإنسانية اتفاقاً كبيراً ما صاغه جوت صياغة ماهرة في عبارته الخالدة إذ قال: (إذا شئت أن تحتفظ بما ورثه لك آباؤك، فعليك أن تهيئ نفسك لأن تكون قادراً على استرداده والظفر به).

وعندي أن الحرية لا ترتبط ارتباطاً كلياً أو جوهريا بالحالات المادية أو بطرق الإنتاج الصناعي على الرغم مما يذهب إليه كارل ماركس في مذهبه.

وقد توجد علاقة دقيقة بين حق الفرد في أن يظفر بنصيب من الملكيات الخاصة وحقه في التمتع بحريته الإيجابية، إذ القضاء على جميع الملكيات الخاصة من شأنه كما يتوقع له وينتظر من مصيره أن يعتمد الأفراد اعتماداً تاماً على الدولة ينتهي بأولى الأمر فيها إلى حال لا يحتملون معها الأفعال أو الآراء التي لا يرحبون بها، ولا يسمحون للناس معها أن يتبرموا بها أو يلوموهم عليها. اللهم إلا معارضة سالبة صامتة تتردد في صدور البرمين بالأوامر العالية، وإن كانت الحرية المنشودة لجميع المقاصد الحيوية والأغراض العملية هي حرية الكائنات البشرية في أن تعبر عن وجودها وتفصح عن غايتها بالكلام أو الكتابة أو العمل في حدود القوانين التي هي نتاج التشريع الحر والقبول الطليق فإن الصمت

ص: 35

الإجباري وكم الأفواه لا يختلف كثيراً عن إلقاء العقول في غياهب السجون.

والصحافة، وحق الرأي العام في الإفصاح والتعبير وعقد الاجتماعات والنظم النيابية. وسائر المميزات الأخرى للنظام الديمقراطي كل أولئك يحمل معنى الحرية لأنه سبيل المجتمع إلى التعبير الحر والرأي الطليق، وهيهات أن يتهيأ للشعب أن يظفر بحريته بمعناها السياسي ما لم يكن له الحق في النقد والمعارضة. ويندر أن تطمئن عقول الرجال لأسس الحياة وتقبلها قبولاً حسناً ما لم تمتحن هذه الأسس بأذى يهددها أو قوى تنكرها أو تتجاهلها. ولعله بسبب ما يتهدد الحريات الأساسية الآن من عبث العابثين واضطهاد المضطهدين، أو من إنكارهم عليها في مثل هذه المساحات المترامية الأطراف من أوربا والعالم، أن يكون لها قيمة وشأن، أن انصرفت الرغبة أخيراً للتفكير في تلك الأسس. ولتقصي مصادر تلك المذاهب التي بلغت من نفوس أجدادنا ما تبلغه العقيدة الصادقة والإيمان المتين، ولمعرفة ما إذا كان يجب أن تصبح تلك العقائد محلاً للجدل أو هدفاً للانقلاب الاجتماعي وهي العقائد التي قاسى الناس الأهوال في سبيلها ولم تستقر في نفوسهم إلا بعد كفاح أجيال متعاقبة، سأذكر هنا النتائج التي انتهى تفكيري إليها بعد إعمال الفكر في هذه المسائل وفي الكثير من نظائرها وتقصي ما لها من شأن وقيمة، وسوف يتضح من أمرها أنها تمت بصلة وثيقة لمستقبل الصحافة.

إنه لم يكن بالأمر العارض في إيطاليا وألمانيا - وفيهما اختفت الحرية وباتت الصحافة مجرد آلة للدعاية القومية أو الدعاية الخارجية، أن ينادي بالحكومة التي تخدمها تلك الصحافة (كحكومة استبدادية) وأي بحث قائم على التفكير السليم فيما للحرية من قيمة يحملنا فوراً على أن نمحص الحوار القائم بين (السلطان المطلق) و (السلطان النسبي) وينتهي بنا عاجلاً أو آجلاً لأن نقرر أن قوام الحرية العالية هو الإنكار الدائم للسلطان المطلق سواء أكان عقلياً أو روحياً أو سياسياً، وأنها نتاج التجارب المستمرة التي تتهيأ لعقولنا ومشاعرنا، وأنها ثمرة الاتجاه المتواصل لعلاقاتنا وقيودنا الاجتماعية نحو المثل العليا.

والقيود التي تحد من حريتنا في التصرف الآن ترجع إلى القوانين أو الالتزامات التعاقدية، أو إلى عادات المجتمع الذي نرتبط به. والحرية التي ننعم بها الآن هي (شرطية) كما

ص: 36

يعبرون عنها في الاصطلاح السياسي، بمعنى أنه يجب ألا تتعارض مع سلامة المجموع الذي تملك تغيير زمام هذه الحرية وتنعم بجناها. وهذه الحرية لا تمت بصلة إلى الحرية الصورية التي صورها (روبنسن كروزو) على رفعة جزيرته. تلك الجزيرة التي لم يسكنها إنسان قبل أن يبعث فيها إنسانه (فرايداى) إذ بوصول هذا الرجل إليها بدأت تدب فيها عناصر البيئة التعاونية وأسس الهيئة الاجتماعية. وعلى ضوء هذه الاعتبارات جميعاً غدت حريتنا الاجتماعية أو السياسية وهي ليست بالحرية المطلقة. وكلما قدر للمجتمع أن يتجاوز حالته البدائية تجاوزاً نسبياً تلك الحالة التي قد ينعم فيها كل رجل بحرية واسعة المدى يستمد معها قانونه من مشيئته كلما صارت حرية أفراده وهي أكثر اتصالاً وأشد تقيداً بحرية الآخرين. وهي أيضاً أقل إطلاقاً وأكثر خضوعاً للأوضاع والقيود الاجتماعية. ويسعنا أن ندعو هذه الحرية المقيدة (بالحرية الواقعية) ما خضعت لتلك القيود الأجنبية لتلك القيود الأجنبية عنا، والمستقلة عما لأشخاصنا من رغبة أو كراهية؛ كما تتقيد حريتنا بقيود أخرى يسعنا أن نسميها (بالقيود المعنوية) ومثل هذه القيود إذ نألفها ونهيئ أنفسنا لأن نسكن إليها، يخف حملها ولا يشق علينا أمرها. فلا نشعر معها بشيء يقيد حريتنا. لأننا في الواقع لا نتأذى مما يقيد حريتنا من الناحيتين الاجتماعية والمادية لمجرد أنه تقيد لحريتنا فحسب، بل نتأذى به إذا ما أحسسنا بثقله وضقنا به ذرعاً، فنحن بعبارة أخرى نتأثر بقيود حريتنا (المعنوية) أكثر مما نتأثر بضوابط (حريتنا الواقعية) التي لا يشق علينا شيء من أمرها حتى أحسسنا أنه ما من شيء يدعونا للثورة على القوانين أو للتمرد على العادات والنظم؛ وشأننا في ذلك كشأننا مع قوانين الجاذبية من ناموس الطبيعة التي إذا ألفناها لا نجد من سبب للثورة عليها.

ولكننا مع ذلك بحاجة لأن نكون على حذر من أمرنا قبل أن نقبل أسس الحرية التي نساق لها أو تساق إلينا، ولا سيما إذا كانت تلك الأسس من ذوات الطابع (المعنوي) وإلا انتهت قيود حريتنا بأن تستبد بنا استبداداً واسع المدى بالغ الأثر. فننتهي معها إلى أن نصبح عاجزين عن الاحتفاظ بحريتنا في التفكير أو القول أو العمل. وآنئذ نفتقد عقائدنا وبالتالي إرادتنا في مقاومة التدخل في شئون حريتنا الواقعية. ويكون من أمرنا أن نتساهل فيما لا يجمل التساهل فيه، وأن نستبيح في حق أنفسنا أن تخوف بالاستبداد المنظم الذي يشق

ص: 37

علينا أمره ويصعب علينا احتماله. وعلى ضوء هذه الاعتبارات جميعاً كانت أولى النتائج التي انتهيت إليها من دراسة قيمة الحرية. إن من صواب الرأي أن نعلم أن الاستبداد بالرأي هو الشيء الوحيد الذي يلزمنا ألا نتسامح فيه إذا أردنا أن نظل أحراراً. لذلك كان لزاماً علينا مثلاً أن نتسامح في أمر الصحف الرديئة لنظل أحراراً في أن نحتفظ بصحافة طيبة، وهذه النتيجة تعود بي إلى قضية النسبية. فالأصل في التسامح أن يثير الموازنة بين الحرية المطلقة والحرية المقيدة، وهذه الموازنة تنتهي بنا لأن ندرك أن جميع الحقائق نسبية، وأنه لا توجد حقيقة واحدة مطلقة سياسية كانت أو اجتماعية. وأن ندرك أيضاً أن الأمر لا يقتصر هنا على وجوب التسامح في الآراء والعقائد، بل يتجاوزهما إلى التسليم بالحق في النقد والاعتراف بحرية النقد، تلك الحرية التي أصبحت الآن عماد حرية الفرد ومصدر ما يصيبه من نجاح في الثقافة أو العمل، إذ تحمل في ثناياها المميزات الأساسية للجماعة الحرة، تلك المميزات التي يفصح عنها ما ينطبع في الشعب من سجية التسامح في الآراء التي قد لا يسلم بصحتها الكثير من أفراده، ولا تروق في أعين غالبيتهم. وإذا ما تسامح الناس في تقبل الآراء في الوقت الذي لا ينعقد لهم إجماع على صحتها، وإذا ما تأبوا على أنفسهم أن يبطشوا بها أو يضيقوا بها ذرعاً، وإذا ما حرصوا أن يكون سبيلهم في مناهضتها عن طريق المحاجة والإقناع، فإنهم على هذا النهج القديم يعترفون بحقيقة ما بين العقول البشرية من خلاف نزيه في النظر والتقدير. وأنه لأشد رعاية لحرمة الرأي البشري أن تمتحن المذاهب المختلفة عن طريق مقارنة الحجة بالحجة، ومقارعة الرأي بالرأي لا أن يفرض على الناس واحد من هذه الآراء أو تلك تحت سلطان القوة التهديد. والحرية السياسية لا تتفق مع تلك الحال التي يفرض فيها على الأمة رأي واحد، ويكون لزاماً عليها أن تتشابه فيها العقليات ويوحد النظر. بل هي على النقيض من ذلك تنهض على ما يجب أن ينعقد إجماع الشعب عليه من إباحة الاختلاف في الرأي، كما تنهض على أن يعترف الجميع اعترافاً إيجابياً عملياً بأن اختلاف الآراء في الهيئة الاجتماعية يجعل حياتها أخصب تربة وأكثر إنتاجاً مما يتيسر لها لو سارت على نهج واحد مناطراد المذهب ووحدة النظر. والجماعة إنما ينعم بحريتها على وجهها الصحيح متى كانت عادتها وقوانينها في الوضع الذي يفسح المجال لرأي الفرد ويهيئ الميدان لتصرفاته الشخصية، فلا تضيق الخناق على

ص: 38

حريته في الرأي والتصرف إلا إذا أجراهما على نهج غبي لو ترك وشأنه فيه لحال بين الآخرين وتمتعهم بحريتهم

والفرد لا ينعم في الجماعة الحرة بما يظفر به من الحرية لمجرد أن قوانينها وعاداتها هي القوانين والعادات التي قد يفضلها على ما عداها، بل لأنه يحظى بنصيب كبير من توجيه شؤونها العامة والاجتماعية أن كان لكل مواطن حقه في أن يدلي برأيه في شؤون الدولة ويكون له أثره الفعال في توجيه سياستها وإن كان من واجبه إلى ذلك أن يخضع لحكم الأغلبية وأن يقاسم بني وطنه الحياة والعمل.

(يتبع)

زين العابدين جمعة

ص: 39

‌16 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل الخامس - الحياة المنزلية

أما القهوة فهي تصنع قوية لا تحلى بالسكر ولا تحفف باللبن. وفنجان القهوة صغير لا يسع الكثير منها. وهو من الخزف ولا أذن له. فيوضع في ظرف من الفضة أو النحاس تبعاً لحالة الشراب. وهو يشبه تقريباً في شكله وحجمه ظرف البيض عندنا ولتحضير القهوة يغلي الماء أولاً، ثم يضاف إليه البن بعد أن يحمص ويطحن حديثاً، ويقلب، ثم يعاد وعاؤه على النار مرات حتى تنضج القهوة رويداً رويداً، ثم تصب في الفناجين قبل أن يزول ما تكوّن على سطحها من القشدة ويحب المصريون القهوة الخالصة حباً شديداً، وقلما يضيفون أليها السكر؛ وبعضهم يحليها عندما يشعر بتعب. ولا يضيفون اللبن أو القشدة أبداً ولكن كثيراً ما يضعون فيها الحبهان. وتبخير الفناجين بالمصطكا شائعة. وقد يعطر الأغنياء القهوة بعطر العنبر اللذيذ. والطريقة الشائعة أن يوضع حوالي قيراط من العنبر في وعاء القهوة ويذاب على النار ثم تنضج القهوة في وعاء آخر بالطريقة السابق ذكرها، وبعد قليل تصب في الوعاء الأول (شكل 34) ومن الناس من يستعمل العنبر للسبب نفسه بطريقة مختلفة. فهم يأخذون قيراطين من العنبر بعود صغير يضعونهما في قاع الفنجان ويصبون القهوة بعد ذلك. ومثل هذه الكمية تكفي أسبوعين أو ثلاثة أسابيع. وهذه الطريقة كثيراً ما يتخذها م يحب لنفسه شرب القهوة معطرة بالعنبر دون ضيوفه. وقد يقدم (بكرج) القهوة موضوعاً على جمر في وعاء من الفضة أو النحاس يسمى (عازقي) شكل 35 ويعلق هذه الوعاء في ثلاث سلاسل. ويقدم الخادم القهوة ممسكاً أسفل الظرف بين الإبهام والسبابة، وعندما يتناول الفنجان والظرف يستعمل كلتا يديه واضعاً شماله تحت يمينه.

ص: 40

وتستعمل مجمرة تسمى (منقلاً) ويسميها العامة (منقداً) من النحاس المبيض بالقصدير ويحرق فيه البخور أحياناً. ويتلذذ المصريون بالعطور تلذذاً عظيما. وكثيراً ما يبخرون غرفهم، وأكثر المواد استعمالاً لهذا الغرض بخور من نوع رديء يسمى (بخور البز) ويستعمل كذلك الجاوي والعود.

وقلما يرى المصري ماشياً أبعد من عتبة داره إذا استطاع أن يقتني ركوبه أو يستأجر حماراً. ولكن القليل من أهل القاهرة والمدن الأخرى من يخاطر باقتناء جياد، معرضاً نفسه إلى الاشتباه في أنه يمتلك أموالاً زائدة تفرض عليها ضرائب ورسوم أشد مما كان سيتحملها بوجه آخر. وتحشى عدة الجواد الحديثة بالقطن وتغطي بالجوخ أو المخمل وتطرز أو تزخرف؛ ويزين اللجام عند الرأس والصدر بشراريب حريرية وقطع نقدية وغيرها من الزخارف الفضية. والعادة أن يركب البغال أغنياء التجار وكبار العلماء، وعدة البغال كعدة الحمير تقريباً وعندما يكون الراكب عالماً تغطي العدة بسجادة، وكذلك قد تكون العدة التي يستعملها النساء بالرغم من شدة الاختلاف بينهما. وتستعمل الحمير في شوارع القاهرة الضيقة المزدحمة. وهناك عدد كبير للكراء. واشتهرت القاهرة من زمن بجودة حميرها، فهي أكبر من حمير بلادنا وأفضل منها في كل ناحية. ويقدر ثمن الحمار الأصيل المدرب بحوالي ثلاثة جنيهات أو أربعة، وقد يزيد بعض الحمير على ثمن الجواد العادي. ويجهز الحمار بعدة محشوة يغطي مقدمها بالجلد الأحمر، ومقعدها بشرائط صوفية ناعمة، ويكون الركاب عالياً دائماً. ويتقدم الراكب خادم أو خادمان ليفسحا الطريق، ويحمل كل منهما (نبوتاً) قابضاً عليه من أسفل رافعاً إياه إلى أعلى. وقد يرافق الراكب للغاية نفسها خادم يجري بجانب الحمار أو أمامه صائحاً في المارة ليخلو الطريق يميناً أو شمالاً. ومع ذلك يجب أن يكون الراكب حذراً فلا يعتمد على خادمه كل الاعتماد لئلا تصرعه أحمال الجمل الكبيرة. وهذه الحوادث قد لا يكون مفر منها في شوارع القاهرة الأكثر ضيقاً والأشد ازدحاماً، وعندما ينزل السيد إلى منزل ما أو دكان ما يملأ الخادم له الشبك ويشعله ويقضي المصري أغلب وقته، إذا لم يكن له عمل منتظم يشغله في الركوب والزيارة، أو شراء حوائجه، أو في التدخين أو شرب القهوة كثيراً وعلى مهل، أو في التحدث مع الأصدقاء في المنزل، أو التنعم بترف الحمام ساعة أو أكثر صباحاً. وفي الظهر عليه أن يؤدي الصلاة

ص: 41

إذا كان يقوم بفروضه الدينية، إلا أنني لاحظت أن القليل من المصريين نسبياً قد لا يهمل هذه الفروض، وأن هناك كثيرين يندر أن يقيموا الصلاة أبداً. وبعد الظهر مباشرة (إذا لم يكن فطوره متأخراً) يتناول غداء خفيفاً ثم يأخذ الشبك والقهوة. وعندما تشتد حرارة الجو لا يمنع نفسه من القيلولة. وكثيراً ما ينسحب ليستريح في الحريم حيث تراعي زوجته أو جاريته راحته أو تدلك له قدميه؛ وحينئذ، أو عندما يرغب في الخلوة يقول الخادم للزائرين إن السيد في الحريم، فلا يستدعيه أحد إلا إذا كان لعمل ضروري. وهو يتمتع مرة أخرى بين صلاة العصر إلى الغروب بالتدخين والقهوة بمصاحبة أصدقائه في المنزل أو في الخارج. وبعيد غروب الشمس يتناول عشاءه.

ويجب على الآن أن أصف وجبتي (الغدا) و (العشا) وكيفية تناولهما ونظامهما. ولم ألاحظ فرقاً بينهماً، غير أن وجبة العشاء هي الأهم. والعادة أن يجهز الطعام في العصر، وما يفضل بعد وجبة العشاء يقدم أثناء وجبة الغداء في اليوم التالي إذا لم يكن بالمنزل ضيوف. وعلى العموم يتناول رب الدار طعامه مع زوجته أو زوجاته وأطفاله. إلا أن كثيراً من الرجال وعلى الأخص رجال الطبقة العليا، يمنعهم كبرياؤهم أو يشغلهم ارتباطهم بمجتمعاتهم عن تناول الطعام مع العائلة، إلا في بعض المناسبات القليلة، وحتى بعض رجال الطبقة السفلي يندر أن يأكلوا مع زوجاتهم وأولادهم. ويجب على رب الدار عندما يكون في منزله صديق له أن يأمر بإحضار الطعام في وقته وهذا لابد منه إذا كان الضيف أجنبياً.

ويغسل كل شخص يديه، وفمه أحياناً، بالصابون والماء قبل أن يتناول الطعام، أو على الأقل يصب على يده اليمنى بعض الماء (أنظر شكل 36) وبحضور الخادم لذلك طستاً وإبريقاً من النحاس الأبيض أو النحاس الأصفر. وللطست غطاء به عدة ثقوب، وفي وسطه نتوء لوضع الصابون، فيمر الماء عند الغسيل خلال هذه الثقوب إلى داخل الطست بحيث إذا قدم هذا إلى شخص آخر لا يرى الماء القذر، ويعطي لكل فوطة.

والمائدة صينية مستديرة من النحاس المبيض، أو من النحاس الأصفر أحياناً، قطرها بين قدمين أو ثلاث أقدام. وتوضع على كرسي ارتفاعه حوالي خمس عشرة بوصة. ويصنع الكرسي من الخشب وقد طعم بالصدف أو الباغة أو العظم الخ.

ص: 42

فالصينية والكرسي يكونان السفرة (أنظر شكل 37) وتوضع على الصينية أرغفة الخبز المستديرة التي سبق وصفها، كاملة أو مقطعة أنصافاً. ويصف معها حول الصينية أنصاف من الليمون لتعصر على المأكولات التي قد تحتاج إلى الحامض، وملعقة من خشب البقس أو الأبنوس أو الباغة لكل آكل. وكثيراً ما يستعمل الخبز بدل الصحون. وبعد ذلك توضع أطباق اللحوم والخضر على اختلاف أنواعها، جميعها مرة واحدة مرة واحدة تبعاً للعادة المصرية أو طبقاً طبقاً حسب الطريقة التركية. وهذه الأطباق تكون من النحاس المبيض أو الخزف.

ويجلس الآكلون على الأرض حول الصينية وعلى ركبتي كل منهم فوطته. أما إذا وضعت الصينية بجانب ديوان منخفض فيجلس البعض على الديوان والآخرون على الأرض. ولكن عندما يكثر العدد توضع الصينية في وسط الغرفة ويجلس الجميع حولها واضعين إحدى ركبتيهم على الأرض والأخرى (اليمنى) قائمة. وهذا هو الوضع المستحسن أثناء تناول الطعام (أنظر شكل 38) وبهذه الطريقة يستطيع اثنا عشر شخصاً أن يجلسوا حول صينية سعتها ثلاث أقدام. ويشمر كل شخص عن ذراعه اليمنى حتى الكوع أو ما تدلى من كمه. وقبل أن يشرع أحد في الأكل يسمى باسم الله بصوت منخفض ظاهر ويبدأ رب الدار بالبسملة. ويعتبر هذا ملاطفة منه ودعوة إلى المدعوين لتناول الطعام. وعلى من يقال له بسم الله أو تفضل أن يقول إذا رفض الدعوة (هنيئاً) أو ما شابه ذلك. وقد يكون ذلك أيضاً خشية شر العين إذا وقعت على الأكل. ويقولون في هذا: (لا بركة في الطعام إذا اشتهى). إلا أن الإلحاح الذي يدعو به المصرّي الأجنبيّ إلى مشاركته الطعام يبين أن الذوق السليم وواجب الضيافة يحتمان عليه قول البسملة. ويبدأ بالأكل رب الدار ثم يتلوه الضيوف مباشرة.

والمصريون لا يستعلمون السكين ولا الشوكة، وإنما يستعملون بدلاً منهما الإبهام وإصبعين من اليمنى. وتستعمل الملاعق لتناول الحساء أو الأرز أو غيرهما من الأصناف التي لا يسهل تناولها بدونها. وقد تستخدم اليدان معاً في أحوال سأذكرها الآن. وفي حالة ما توضع الأطباق جميعها مرة واحدة يغترف كل واحد من أي صنف يشتهيه أو من جميع الأصناف على التعاقب. وعندما يقدم الطعام طبقاً طبقاً يتناول الواحد من الطبق بعضه ثم سرعان ما

ص: 43

يرفع ليقدم غيره. ومن الأدب أن تناول صديقك قطعة مختارة. وأرى أن طريقة تناول المصريين والشرقيين طعامهم بالأصابع أرق مما يتصور الأوربيون الذين لم يشاهدوهم أو لم يسمعوا الوصف على حقيقته. فالواحد منهم يأخذ من الخبز قطعة يغمسها في الطبق ثم يرفعها إلى فمه مصحوبة بقطعة صغيرة من اللحم أو غير ذلك من محتويات الطبق، وتكون قطعة الخبز مزدوجة بحيث تحيط بقطعة اللحم الخ ولا يستخدم عادة غير الإبهام والإصبعين الأولين. وإذا تناول شخص قطعة لحم على اللقمة وضعها عادة على رغيفه.

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 44

‌إلى (مي).

. .

للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان

طرحتِ الحياةَ وعبَء الحياةِ

يا سميرةً من كِبار السِّيَرْ

نعاكِ النعيُّ إلى الخافقينِ

فعلّمني كيف يهوى القمر

مضيتِ كأن لم تكوني ضياءً

ينيرُ القلوب ويجلو الفِكر

لعمركِ، لو قام قبل النشور

رفاتٌ تلاشي وعظم نخِر

لقامت سكينة في إثر عمر

ة تستقبلانك دون الحفر

نهار الثلاثاء يا (مي) حالَ

محيّاه فهو شَجٍ مكفهر

لأقسم بعدك ما أن يرقُّ

نسيمُ أصائله والبكر

تفقد مجلسَك المستطابَ

وحلو الحديث وأنسَ السمر

وفكراً يُفيض على السامرينَ

جمالَ خيالاته والصور

وإذ يَتْنَثّرُ طَلُّ الحديثِ

على المنصتين نِثَارَ الزهَر

فتعبق حولك دنيا القلوبِ

ودنيا العقولِ بنشْر عطِر

وتهفو النفوسُ، ويعنوا لسحرِ

بيانك كلُّ بيانٍ سحر

مآثركِ الغرُّ تنبئُ كيفَ

يُخَلّدُ كلُّ عظيم الأثر

كأني بها قَبَسَتْ من طهو

ر سيناَء يا (ميُّ) تلك الغرر

اهذي (صحائفك) المشرقاتُ

أم الذهن ضاَء خلالَ السُّطُر

وهاتيك أَهْيَ (سوانحُ) أم ثا

قبُ الفكر جَلَّى طباعَ البشر

خَبَرْتِ الحياة وحالاتِها

وأفعمتِ منها بحلوٍ ومُر

وكنتِ بِشرْعتها تعلمينَ

فبينّتِ أحكامَها والعبر

تغلغل روحُك في سرها

وكشَّف كُنهه ما استتر

وإذا جُزْتِ يا (ميّ) أسفارها

وما هي إلا سبيلٌ وَعُر

إلى عالمٍ دقَّ تفسيره

وليس لواردِه من صَدَر

فكيف وجدت لديه المُقامَ

وكيف يُصرَّف فيه العمر؟

بربكِ هل تستريحُ إليه ال

قلوبُ وتنعمُ بالمستقر

ص: 45

بنفسي نُزُوعٌ إلى خُبْرِهِ

فهاتي حديثكِ وأروى الخبر

هنالك أودعتُ نفساً صَفَتْ

إذا نَغِلَتْ أنفسٌ من كدر

أخٌ إن عثرتُ أقال عثارى

وكان ملاذيَ والمدَّخر

أحنُّ وأذكرُ آلَاءه

فيصدعُ قلبي عذابُ الذكَر

وأنضرُ في إِثره العابرينَ

فأشتاقُ لو كنتُ فيمن عَبَر

هنا ضقتِ بالعيش ذرعا فقَرِّى

هنالك عيناً بطيب المقر

تُظلُّكِ من سدرة المنتهى

غصون دنا ظلُّها وانتشر

فلا النفس تَوْهن من شِقْوةٍ

ولا الروحُ يا مي تشكو الضجر

(نابلس)

فدوى عبد الفتاح طوقان

ص: 46

‌البريد الأدبي

يوم (مي)

في يوم الخميس الماضي حفلت دار الاتحاد النسائي بصفوة من رجال الفضل والعلم أجابوا دعوة السيدة هدى هانم شعراوي لتأبين المغفور لها الآنسة (ميّ) وكان الكلام لنخبة من أمراء البيان جلوا مآثر الفقيدة في نواحي الثقافة والصحافة والسياسة والإصلاح، فتكلمت رئيسة الاتحاد عن (فقيدة العروبة النابغة)، وتكلم معالي الدكتور هيكل باشا عن (مي والسياسة)، وتحدثمعالي الأستاذ مصطفى عبد الرزاق باشا عن (ذكريات مي)، والآنسة ابنة الشاطئ عن (مي الإنسانة)، والدكتور منصور فهمي بك عن (مي والعروبة والأمومة)، وألقى الأستاذان عباس محمود العقاد وخليل مطران بك قصيدتين من عيون الشعر. ثم تحدث الدكتور طه حسين بك عن (مي والأدب العربي)، والأستاذة عزيزة عصفور عن (رسالة مي)، والدكتورة نعيمة الأيوبي عن (مي والأبوة). ثم نهض الأستاذ أنطون الجميِّل بك فوجه الشكر عن أسرة الفقيدة إلى كل من شارك في هذا العرس الحزين بقلبه أو لسانه. ثم ارفض الحفل وفي قلب كل من شهده حسرة لاذعة على أفول هذا النجم الذي لمع في سماء الأدب حيناً ثم خبا والشرق أحوج ما يكون إلى وحيه وهديه. وفي العدد القادم سننشر جملة من مختار ما قيل. رحم الله الفقيدة الكريمة، وعوض الأدب من فقدها خير العوض.

هناء

أُعاود بعدما قال الأستاذ المكرّم علي الطنطاوي، فأقول: إني سئلت عن (الهناء) فأجبت بأنه مذكور في (تاج اللغة وصحاح العربية)، ولكن لا أدري الآن الحكم الصحيح، لأنه يجوز أن يكون في النسخة (المخطوطة) التي اطلع عليها الأستاذ سهوٌ، والعلم لله).

(وحيد)

تيسير الكتابة العربية

تجتمع في الأيام القريبة المقبلة لجنة الأصول بالمجمع اللغوي لإقرار مشروع (تيسير الكتابة العربية) في صورته الأخيرة بعد أن فرغت اللجنة التي كانت مؤلفة من بحثه ودراسته وإدخال التعديلات عليه. وأساس هذا المشروع اقتراح الأستاذ علي الجارم بك،

ص: 47

ومبادئه الأساسية هي:

أولاً: يبقى للقرآن الكريم رسمه المأثور.

ثانياً: تبقى صور الحروف العربية كما هي:

ثالثاً: توضع علامات للحركات والسكون والتنوين، على أن تكون هذه العلامات داخلة في بنية الكلمات، لا هي فوقها ولا تحتها كما هو الآن، حتى لا يخطئ اللسان في بناء كلمة إعرابها.

رابعاً: الحرف المفتوح لا توضع له علامة اختصاراً، فترك العلامة دليل الفتحة، وقد اختيرت الفتحة لكثرة دورانها في الحروف، فترك علامتها اختصار كثير.

خامساً: لكل من الكسرة والضمة والسكون والتنوين علامة خاصة أشبه ما تكون بحرف جديد يتصل بالحرف الأصلي مباشرة.

وقد احتوى المشروع إلى جانب ذلك على قواعد تسهيل كتابة الهمزة والألف المتطرفة، وكذلك وضعت قواعد للتقليل من العلامات، وقواعد أخرى لمراعاة النطق في الكتابة.

ومما لاحظته اللجنة في دراستها للمشروع ما تقتضيه الناحيتان الخطية والطباعية، فروعي ذلك مراعاة عملية، توصلاً إلى إمكان تنفيذ المشروع في المطابع وفي الكتابة العامة.

والمنتظر أن تفرغ لجنة الأصول من إقرار هذه القواعد والعلامات، لتعرض على مجلس المجمع في جلساته الأولى المقبلة، حتى يعرض المشروع بعد ذلك بحذافيره على جمهور المشتغلين بالعلم والأدب والفن في مصر والبلاد العربية.

المؤتمر التعليمي العربي والأبحاث التمهيدية للدعوة إليه

اجتمعت في الأسبوع الماضي برياسة وزير المعارف اللجنة التي وكل إليها وضع منهاج لمؤتمر التعليمي الذي ستدعو إليه مصر الأقطار العربية، والذي تأمل وزارة المعارف أن تجعل منه فرصة مناسبة لتقريب الفكر العربي من المركز الثقافي في القاهرة، وأن نسعى به إلى تحقيق أمل قديم في جعل شباب الأقطار العربية يتلقون ثقافة متقاربة موحدة بقدر الإمكان.

وقد علمنا من بعض أعضاء هذه اللجنة أن أهم أعمال المؤتمر ستدور حول غرضين رئيسيين أولهما (الثقافة العامة) وثانيهما (المناهج المدرية). أما الغرض الأول فيقصد به

ص: 48

ربط الشعوب العربية بلون ثقافي متجانس يستمد طابعه من المقومات المشتركة بين هذه الشعوب. وأما الغرض الآخر فمن السهل تحقيقه؛ وعند ذلك يمكن للطالب في أي قطر عربي أن يستكمل مراحل دراسته الثانوية أو العالية في أي قطر آخر - وخصوصاً الآن في مصر - من غير أن يواجه بسياسة تعليمية مضادة لما نشأ عليه.

وسيعني المؤتمر في الموضوعات التي سيتعرض لها بالمشاكل التعليمية التي تشغل البال اليوم في جميع البلاد العربية ومنها مصر وأهمها طرق التدريس، وفي هذا الشأن قد تنتفع الأقطار العربية من خبرة المصريين بطرق التدريس الحديثة؛ ولكن من المشكوك فيه الآن أن نحصل على اتفاق في توحيد المناهج في الوقت الذي راجت فيه عندنا فكرة التعليم الإقليمي أي وضع مناهج خاصة لكل إقليم على حدة بحسب ظروفه وحاجاته.

أسرة الشعر بكلية الآداب

حددت أسرة الشعر بكلية الآداب برنامجها هذا العام فيما يلي

1 -

ترحب الأسرة بكل دراسة تحليلية للشعر في مختلف أوضاعه وللشعراء في شتى نزعاتهم ويتناشد الأدباء والشعراء في مصر والأقطار الشقيقة لهذه الغاية.

2 -

ستقوم الأسرة بتنظيم حفلات نصف شهرية في أحد مدرجات الكلية لإلقاء هذه الدراسات وعرض الأشعار المنتجة وسماع الموسيقى والأغاني وستعطي للمستمعين فرصة للنقد والتعليق.

3 -

ستصدر الأسرة مجلة (الشعراء) شهرية مؤقتاً تضم البحوث الفنية في الشعر وروائع الشعر الحديث والقديم.

4 -

ستقيم الأسرة في نهاية العام (ليلة للشعر).

5 -

المكاتبات تكون باسم حضرة سكرتير أسرة الشعر بكلية الآداب.

تحقيق تاريخي

قال الأستاذ أحمد أمين بك في مقال نشرته مجلة (الثقافة) بعددها 130: أن الشيخ يوسف الشربيني مؤلف كتاب: (هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف) من أعيان القرن الحادي عشر الهجري، وقد تعرض لكتابة (هز القحوف) بالتحليل في هذا المقال، ولا

ص: 49

يعنيني الرد عليه في صورته التحليلية وإنما الذي يعنيني أن أذكر أن (الشربيني) من أعيان القرن الثاني عشر، لا من أعيان القرن الحادي عشر، وأنه كان من العلماء الأعلام، فلقد وقفت بخزانة كتب مولانا العلامة المؤرخ الشيخ محمد محمد حامد المراغي الجرجاوي على ما كتبه بخطه على نسخة (هز القحوف).

في الفهرست لدار الكتب الأميرية ص 213 ج 6 ما لفظه (هز القحوف) بشرح قصيدة أبي شادوف، تأليف العلامة الشيخ يوسف بن محمد بن عبد الجواد بن خضر الشربيني من علماء آخر القرن الحادي عشر كان موجوداً سنة 1109

وقد علق على هذا العلامة المؤرخ المراغي الجرجاوي بقوله: رأيت مؤلفاً اسمه (السيف الصقيل، في عنقي من يرد المطلقة الثلاث من غير تحليل) صرح فيه بالرد على هذا الضال، وأنه شرع في تأليفه يوم الثلاثاء سابع عشر المحرم من شهور سنة 1109 هـ ولفظه:

وبعد، فيقول العبد الفقير إلى الله تعالى يوسف بن محمد بن عبد الجواد بن خضر الشربيني، كان الله له ورحم أباه وسلفه، لما كان يوم الثلاثاء المبارك سابع عشر المحرم من شهور سنة 1109 هـ، وأنا قاطن بثغر دمياط ومحل الخير والرباط. . . الخ

ففي أوائل القرن الثاني عشر كان المؤلف على قيد الحياة، فهو من علماء القرن الثاني عشر، وهو من العلماء الأعلام، لا كما يقول الأستاذ أحمد أمين بك أنه كان من المهرجين.

هذه إلمامة موجزة أزجيتها لخدمة التاريخ، والله ولي التوفيق.

(جرجا)

محمود عساف أبو الشباب

رسالة المعلم الإلزامي وكيف ينبغي أن تكون

في العد السابق من (الرسالة) الزاهرة أبان صديقي الأستاذ (محمد كامل حته) ماهية رسالة التعليم الإلزامي من حيث هو (مادة) وأجلى للقائمين بالأمر من أن التعليم الإلزامي أسمى مما يظنه البعض نحو قصوره على محو الأمية فحسب.

وإتماماً للفائدة رأيت بهذه المناسبة أن أتكلم عن رسالة الذي عهد إليه عملية هذا البناء

ص: 50

والذي وكل إليه مستقبل هذه الأمة وعن الأمانة التي وضعت في عنقه فحملها عن طيب خاطر ألا وهو - المعلم الإلزامي -

المعلم الإلزامي له رسالة داخل المدرسة حيث الطفل لا يزال كالعجينة، فهو الذي يصهرها ويصيغها كيفما شاء. وله رسالة خارجها: حيث الشعب وسواد في القرية والمدينة

ومن هنا يجدر بنا أن تؤمن بأن المعلم الإلزامي له شأن آخر يختلف عن زميله الجامعي أو العالي من حيث الأهمية والخطر. . . فهو رسول الأمة في تعليم أبنائها داخل المدرسة وخارجها

ولذا يجب أن تكون حياته ملأى بالمثل الصالحة الجديرة بإنهاض الأمة وتثقيف عقول أبنائها وتقويم أخلاقهم.

وأن يكون هدفه المباشر مصلحة الطفل في المدرسة وخارجها، وأن ينظر في أمر إصلاح القرية من نواحيها المختلفة؛ فهناك فساد النفوس وإعراضها عن الحق، وعلل الأجسام والأمراض الفاشية، وسوء الحالة المادية وفساد النظام الصحي.

وإن من أهم ما يثير حيويته حين ينشد الحياة الصالحة أن يكون عارفاً لنفسه حقها وأن يكون رجلاً أبياً عيوفاً ذا إرادة حديدية لا تغلب، وعزيمة جبارة لا تقهر، وأن يؤمن بشرف رسالته فيكون خير مثال يحتذي به في القول والعمل جاعلاً نصب عينيه التفاني في الواجب وإنكار الذات.

ولكن هل المعلم الإلزامي يعرف رسالته؟ وهل هو جدير بها؟ وهل يؤديها على الوجه الأكمل؟ وإذا لم يكن فلماذا؟ وهل وجد اتحاد التعليم الإلزامي لتحقيق هذه الرسالة؟ أم أن جهوده قاصرة على تحسين حال المعلم المادية فقط؟

هذه أسئلة تدور على ألسنة كثير من الناس، وهي جديرة بالرد عليها - وموعدنا العدد القادم إن شاء الله

محمود محمد عيد

وكيل نقابة القاهرة للتعليم الإلزامي

ص: 51