المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 441 - بتاريخ: 15 - 12 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٤١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 441

- بتاريخ: 15 - 12 - 1941

ص: -1

‌وأمنيتي.

. .!

للأستاذ عباس محمود العقاد

(. . . فهمنا من مقالكم (أمنيتي) ما هي العلاقة بين الفروسية وقرض الشعر، أو بين أن تتمنى قيادة الجيوش وأن تتمنى النبوغ في الأدب. ولكن تسمحون لي أن أقول إن العلاقة بين التدين والأدب لا تزال غير جلية، فهل تتفضلون بتوضيحها. . .

(. . . ولا أدري هل تمنيتم الأدب ولم تتمنوا شيئاً آخر من الدنيا؟ ألم تتمنوا السعادة مثلاً؟ ألم تتمنوا لذة من لذات الحياة؟ أليس الحب أمنية للشاعر وإخوانه من رجال الفنون الجميلة؟ فما قولكم في هذا؟ هل يغني الأدب وحده عن كل هذه الأماني!. . .)

محمود حسين

هذه نبذة من خطاب مطول في التعقيب على مقالنا السابق عن أمنيتي في الحياة، نعود بها أو تعود بنا إلى هذا الموضوع الذي لا يزال أبداً في حاجة إلى تكملة كاحتياج المرء إلى التمني

واستكناه ما يتمناه وإطالة القول في هذا وذاك.

ويلوح لي أن الأديب المستفهم يبحث عن علاقة بي الأدب والتدين كالعلاقة بين الأدب ونظم الشعر في ميدان القتال والتهويل على الأنداد.

فالشعر قريب من الفروسية لأن الفرسان كانوا ينظمون الشعر بين الصفوف، فهم فرسان وشعراء؛ والقرابة بين الطائفتين واضحة على هذا المنوال.

ولكن ما هي العلاقة بين الإيمان الديني والنزعة الأدبية؟ هنا يقول الأديب المستفهم إن العلاقة يحيط بها شيء من الغموض

والواقع أن العلاقة هنا أوضح وأقرب إذا بحثنا عن المناسبات السطحية التي من قبيل نظم الشعر بين صفوف القتال للتحدي والتهويل؛ فإن كثيراً من الشعراء ينظمون في الأغراض الدينية وفي الغزل الإلهي وفي شطحات الصوفية وأهل الطريق.

فإن كان هذا هو المقصد من العلاقة بين الإيمان الديني والنزعة الأدبية فما أوضح الموضوع وما أبعده من الغموض!. . .

إن الشعراء الصوفيين لا يقلون عن الشعراء الحماسيين، وقصائدهم رائحة بين الناس

ص: 1

كرواج قصائد الفرسان، لأن حلقات الأذكار وما يشبهها أشيع في الأندية والمجالس التي تنشد فيها سير الأبطال بلغة الفصحاء أو بلغة العوام.

ومن ذكرياتي في هذا الصدد أنني نظمت الشعر في الأغراض الدينية كما نظمته في المناجزة والدعوة إلى القتال.

فقد أسلفت بمقالي السابق أنني أوشكت أن أسلك طريق (الدروشة) وأنقطع عن الدنيا ومساعيها. وكنت خلال ذلك أسمع الأذان من مؤذن المسجد المقارب لبيتنا وهو منشد مشهور بجمال صوته وحسن إلقائه، فكان شجوني أن أسمع مقدمات الأذان قبل صلاة الجمعة وهي الأناشيد الثلاث التي كانوا يسمونها حسب ترتيبها بالأولى والثانية والثالثة، وكلها من الشعر المنظوم في التصوف أو مدح النبي عليه السلام.

وكان مسموحاً للناشئين أن ينشدوا هذه القصائد مع المؤذن أو على انفراد، بل كان إنشاد الناشئين مفضلاً مستحباً لأنهم أقرب إلى صفاء النفس وطهارة العبادة.

فاستأذنت في إلقاء إحدى هذه القصائد مرات، واخترت في بداية الأمر شعراً من دواوين البرعي وأمثاله. ثم تجرأت على نظم قصيدة طويلة أحكي بها شعر المديح النبوي، وأنشدتها دون أن أخبر أحداً بأنني ناظمها، وخفت أن يسكثروها عليَّ بعد ظهور الحقيقة فختمها ببيت لا أذكر منه إلا الشطرة الأخيرة وهي:(عباس من هو بالأشعار مدرار)

وإنما أذكرها لأنها هي الشطرة الوحيدة التي انتقدها أبي رحمه الله حين أطلعته على الحقيقة. فتبينت الفرح في أسارير وجهه والتشجيع في صريح كلامه، ولكنه قال لي برفق: ما ينبغي أن تثني على نفسك هذا الثناء وأنت ترى كيف يختم الأئمة المادحون قصائدهم بالتذليل والتوسل وتصغير ما قالوه وأسلفوه من الصلوات والعبادات.

فهذه علاقة بين التدين ونظم الشعر كالعلاقة بين نظم الشعر والحماسة العسكرية، ولكنها كما قدمت علاقة سطحية توجد بين الأدب وبين كل موضوع ينظم فيه الشعراء. ففي وسعك على هذا القياس أن تقول مثلاً إن الهندسة (الميكانيكية) قريبة من الشعر لأن بعض الشعراء ينظمون في وصف الطيارة، وأن تقول كذلك إن علم الحيوان قريب من الشعر لأن بعض الشعراء ينظمون في وصف الخيل أو وصف العصافير.

إلا أنها علاقة سطحية لا يرجع إليها في استكناه أسرار الشخصية الإنسانية وروابط

ص: 2

الملكات والطبائع الخفية، وغير هذه العلاقة أردنا حين قلنا:(إن التعبير عن النفس يجتمع فيه عندي تحقيق وجودها ومتعها واستكناه حقيقتها وحقيقة ما حولها).

فالتعبير عن النفس هو الأدب في لبابه

وما هو التعبير الذي عنيناه؟

التعبير الذي عنيناه هو كشف المكنون وتوضيح الأسرار وتمثيل في صورة تخرجها ن عالم الخفاء إلى عالم النور.

وهنا العلاقة الوثيقة بين أعمق أعماق الدين وأعمق أعماق الأدب: هنا العلاقة بين استطلاع أسرار الوجود وبين معرفة النفس ومعرف الإفصاح عن معانيها والإبانة عن أشواقها بلسان الأدب أو بلسان الفن على التعميم.

فكل تعبير ينطوي على سر موضح مكشوف

وأي سر أعمق من سر الوجود وأحوج منه إلى التعبير والتقريب والإلحاح بعد الإلحاح في الاستكناه والاستطلاع

ذلك ما أردناه حين قلنا إن الصومعة قريبة من الروضة الأدبية، وذلك هو التغيير عن النفس بمعنى إثبات حقيقتها وإثبات العلاقة بينها وبين الحقائق الكبرى.

ولكل نفس تعبيرها على حسب ما تحسه وتتوق إليه، فليس من الضروري أن ينتهي التعبير بكل إنسان إلى التعمق في أسرار الدين، ولكنه إذا انتهى ببعض الناس إلى التعمق في تلك الأسرار فليس ذلك بغريب

أما أنني تمنت الأدب ولم أتمن السعادة فسبب ذلك بسيط لا نطيل الإفاضة فيه.

سببه أن السعادة أمنية عامة وليست بالأمنية المحدودة أو الأمنية الخاصة.

فمن قال إنه يتمنى السعادة فكأنما قال إنه يتمنى ما يتمناه كل إنسان، وكأنه بذلك لم يقل شيئاً يستحق السؤال.

كلنا يتمنى السعادة، ولكن سعادة هذا غير سعادة ذاك

سعادة هذا في المعرفة، وسعادة ذاك في جمع المال، وسعادة غيرهما في السطوة والاستعلاء، وسعادة آخرين في الراحة والقناعة، وكلهم يتمنون السعادة على نحو من الأنحاء

ص: 3

فإذا سألني ماذا تتمنى فهو لا ينتظر مني أن أحيله إلى السعادة مجملة غير مفصلة، بل هو ينتظر مني أن أبين له الأمنية التي تسعدني أن ظفرت بها، أو التي أعتقد أن طريقها هو طريق السعادة وإن لم أصل إليها

وكذلك لذة الحياة أو لذات الحياة. فهي مسألة وظيفة من وظائف البيئة الحية لا تحتاج إلى سؤال، وما من حي إلا وهو يشتهي أن يشعر باللذة وأن يجتنب الألم.

وغاية ما بين الأحياء من فروق في هذا الباب أن يختلفوا في أسباب اللذة ودرجاتها على نحو قريب من اختلافهم في أسباب السعادة ودرجاتها

هي وظيفة وليست أمنية.

ومن قال إنني أطلب اللذة فكأنما قال إن لي معدة ولي عينين ويدين وقدمين، وذلك غني عن المقال.

أما الحب وأنه أمنية للشاعر وإخوانه من رجال الفنون فذلك صحيح.

ولكن من قال إن (التعبير عن النفس) لا يشمل الحب في بعض نواحيه؟

ومن قال الاشتياق إلى الحب والاشتياق إلى التعبير عن النفس شيئان مختلفان؟

إن الإنسان لا يجد في شئ كما يجدها في الحب، وإنه لا يعرف ما فيها من قوة وضعف، ومن عطف وجمود، ومن رحمة وقسوة، ومن خفايا وظواهر، ومن فجيعة وضحك، ومن حكمة وحماقة، وممن إنسانية وحيوانية كما يعرف ذلك جميعه في الحب

فالحب ومعرفة النفس صنوان.

ومعرفة النفس منتهية لا محالة إلى العبير عنها، ولم يكن هذا التعبير بالمنظوم والمنثور

ونحن حين قلنا إن (التعبير عن النفس) يجمع ما تفرق بين الثكنة والصومعة والروضة الأدبية قد قصدنا أن تحيا النفس أولاً وأن تشعر بالحياة شعورها الخاص بها أن يتاح لها تمثيل ذلك في صورة من صور التعبير.

ولم نص الحب وحده بين دوافع الشرور؟

لم لا نذكر المجد أو البر أو الجهاد الإنساني أو الوطنية أو غير ذلك من معارض الشعور ومعارض الشوق إلى التعبير؟

فالتعبير عن النفس عندنا كلمة مقابلة للشعور بالنفس. ومتى شعرت النفس بحقيقتها

ص: 4

فالعواطف الكبرى جميعاً حاضرة بغير استثناء، مذكورة بغير تسمية، معممة بغير تخصيص.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الحياة صادقة!

(إلى ضحية الحرمان والأحزان النابغة (مي)!)

للأستاذ عبد المنعم خلاف

هذه الشعلة التي تسكن جسم الحي، تتطلب إحساساً كاملاً بها وذوقاً مستوعباً لها يتملاها ملياً، وينهل من حرارتها عباً ورياً. . .

هذه الشعلة تنادي الجسد أن يحيا ليحيا بها، ويُمدها بوقود ليستدفئ ويستضيء. . .

إنها كمعنى النار: حرارة في جسم حار. . . عرض على جوهر لا انفكاك بينهما، ولا استقلال لوجود أحدهما عن الآخر. . .

إنها لا تغتفر لمن يحاول كبتها وإخمادها، وإنما تختفي فيه فتُصليه وترديه. . .

شعلة الحياة هي أكبر هبات واهب الحياة؛ لأنها نفحة من وجوده الخالد! فكيف يأبى العود الأخضر أن يدب فيه النماء، ويتسرب فيه الماء، وتنبثق منه البراعم ذات الأفراخ الزغب، والأوراق الخضر، والزهرات النضر، والثمرات الصحاح المملوءة بأسرار الحياة؟!

لا جرم أن يصير هذا العود المتأبي على عوامل الحياة والنماء حطباً يحترق بعوامله الذاتية ويموت في موضع الحياة، حتى تأتي يد الحطاب فتأخذه لنقذفه في النار، وتنفي منه صفحة الحقل الخصيب. . .

إن الحياة صادقة، وذوو الفلسفات الذين ينادون بالحرمان من ينابيعها كاذبون!

إنها لا تحابي أطفالها الذين يأبون رضاع أفاويقها، ولا تمكث بجوارهم لتعللهم طويلاً إلا ريثما يدركون وجهاتها ويصيرون صالحين لحمل شعلتها ذات الأمانات والأسرار ثم تجازيهم على العقوق والمخالفات. . .

فلتحذر القلوب الشابة الشاعرة التي قد يخدعها ما في الفن من تزاويق وضباب ملون، أن تستلم لخطفات الشعراء المتشائمين، وأخذات الرهبان المتسامين، وشطحات المتصوفة المنقطعين. . . أولئك الذين يسيرون أحراراً من قيود الأرض لا يعيشون في عش. . . وإذا عاش الإنسان في عش خضع لقوانين الأرض، وارتبط بها كارتباط الحيوان والنبات بحبل الذرية. . . فلم يفكر في الشرود.

وأني له الشرود ودواعي الأرضية تناديه في قلبه بالعواطف الأبوية والزوجية، وفي جسمه

ص: 6

بالمحافظة لمقاومة عوامل هدم العش، وفي فكرة بالتدبير للاقتناء والتوريث. . .!

أما إذا ظل متفرداً حتى جاء أوان الإدراك الكلي، وحان بلوغ الأشد، فسيموت في نفسه الخوف من الحياة والحب لها، وحب الارتباط بالواقع. . . وسيكفى التدبير والعمل للاقتناء والتوريث، وسيستمر حتى يخلص فكراً طليقاً بعيداً عن قيود الأجسام وضرورات الأرض، ويكون قلبه وكراً لساكنات غريبات من الأفكار والأوهام، كما يكون الركن الحرب مسكناً لطيور وحشرات لا تحبها الحياة، ولا تحب هي نور الحياة. . .!

لن يجدي الإنسان شيئاً أنه يقف على ملء يديه بالأضواء والرياح والمياه، وما لا قبض عليه ولا محصول يدوم منه إلا صوراً بيانية في ورقات جافة. . .

إن الحياة هي كلمة الله النافذة إلى القلوب، لا يحسها إلا من يحملها بأعبائها، ثم يحاول أن يسلمها لغيره. . . وقد أودعها الله قلب آدم، (فجعلها كلمة باقية في عقبة إلى يوم يرجعون. . .)

إنها كلمة السر! من لا يعرفها لا يستطيع أن يسير في المسالك والدروب التي طرقتها أرجل القافلة منذ فجر الحياة إلى يوم الناس هذا. . .

كثير من المتطلعن المتوسمين لما يولد في الكون من عجائب يحبون أن يروا مخدوعاً شاذاً يأتي إليهم بطبائع غريبة وألوان مستحدثة من الحياة والتفكير. ومن هنا كان إعجابهم بأمثال (أبي العلاء) و (نيتشه) و (شوبنهاور) وغيرهم من المتشائمين المتشككين الذين أبوا أن يمدوا أيديهم إلا الحنظل والأشواك ويتركوا ما في الحياة من تفاح وأزهار. ومنشأ إعجابهم بأمثال هؤلاء أنهم يحبون أن يروا الشذوذ ليدركوا منه القاعدة العامة التي تنتظر حياتهم.

إنهم يحبون أن يروا الضحايا المصلوبين ليتخذوا منهم مادة لأقوالهم وخيالهم وتأملاتهم.

وكثيراً ما يخدع الشباب المفتون بهذه الحياة الشاعرة الحادة المتشائمة المنطلقة من قيود الأرض التي لفتت النقاد والمتكلمين ودعتهم إلى التحليل وإضفاء النعوت والألقاب وضفر أكاليل الغار ونثر الأزهار. فيحب أولئك الشبان الشعراء أن يحوزا مثل تلك الشهرة ولو أصابتهم أوجاع المصلوبين والمحرومين. . .

ولكن ما جدوى الشهرة وأكاليل النار على من أقفر قلبه من بشاشات الحياة؟ وعلى من رأى الحياة عبئاً ثقيلاً يود الفرار منه ولو إلى جهنم؟

ص: 7

إن السعادة لن يكون منشؤها غير الفيض الذاتي من القلب الذي يتصل بأعماق الحياة ذات المسرات الأصلية. ولن تأتي بها شهرة أو مال أو ألقاب يخلعها عشاق الأعاجيب.

فليحذر الشباب أن يصدقوهم ويكذبوا الحياة. . .

كلا. لم نخرج إلى الوجود لنفهم أنفسنا عن أطايبه إلا ما يه تأثيم ومساس بحقوق الجماعة التي تنمو بينها عوامل الحياة

فلنأخذ طوعاً من الوجود كل طيب مريء كما نحمل كرهاً على تناول الخبيث الوبئ من آلامها. . . وليس من العدالة أن نقبل الألم ونأبى السلامة، إلا إذا أردنا أن تكون حياتنا سلسلة من النقمة والسخط والوجيعة واجتراز الأحزان ورؤية الحياة من وجهها المظلم وحده. . .

ولندفع أنفسنا إلى غايات الكبرى في شئ من الخديعة والتلبيس كما ندفع الأطفال إلى غايات مستقبلهم. . .

وإن الاعتراف بازدواج المساءات والمسرات في الطبيعة هو أول أسس النجاح واجتياز محنة الاختبار في هذه الدار. ونكون سعداء حينما تخرج من هذه الحياة متوازنة فينا نواحي الآلام والمسرات. ونكون أسعد حينما متفائلين طيبة نفوسنا راضين عن الحياة وواهب الحياة. . .

وإن الأقدار ترمينا بيد السوء لتمسح عنا بيد النعمى. فإذا وقعت علينا إحدى اليدين فمن الفطنة ألا ننسى أن الأخرى وراءها. فواجب أن نفر من الحزن ولا نحسبه ضربة لازب، وألا يطيش بنا الفرح فحسبه ضربة لازب. . .

عينان لعينين، وشفتان لشفتين، ويدان ليدين: تريان وتذوقان وتذودان!

تلك شركة إنسانية أرادها الله وطبع عليها الحياة. فمن رأى بعينيه وحده لا يرى نفسه. . . ومن ذاق وحده قتل حسَّه. . . ومن زاد وحده لم يحمِ جنسه. . .

شركة أرادها الله ليخرج من بينها أيدياً وشفاهاً وعيوناً تنظر وتذوق وتعطي شعلة الحياة حطباً، ونواميسها عملاً، وطواحينها طِحناً. . .

هذا الجنس الطيني لن يكون ملكياً خالصاً وهو في الأرض والمطلوب منه ألا ينسلخ ويتجرد من قوانين التراب. ومن قوانين التراب المزاوجة والتجمع والمؤلفة بين

ص: 8

المتشابهات. فبدوات الآمال المحررة، وأحلام الانطلاق الكلي لم تخلق لهذا العالم الأرضي، وإنما هي نماذج مما سيكون هناك. . . تراها أرواحنا لتتعلق بها وتعمل على بلوغها بعد الرحلة. . .

والناس يحيون هنا بالجسد أكثر مما يحيون بالروح. فهم إن عجبوا من المتحررين من الأجسام فما ذاك لأنهم يريدون اقتفاء آثارهم، وإنما يقفون أمامهم لحظة أو لحظات ثم ينفلتون إلى غمرات الحياة ذات السحر والسلطان الآسر القاهر!

فلا تأخذنكم خواطف العزلة يا شباب الشعراء ولا تتخطفكم الأشباح والأوهام من رحاب الجماعة وأحضان الطبيعة ذات المنطق العملي؛ فإن لذلك عقاباً صارماً وثمناً غالياً يدفع من الأعصاب والدماء وقوى الجسد والروح. ولا مقابل لذلك إلا قبض على ريح، ومضغ لماء، واغتراف من سراب!

ما نحن المتكلمين تجاه وجه الحياة الواضح المعروف إلا نكرات مبهمة لا يعرفها أحد. أما هي فوجهها معروف السمات صادق القسمات. فإذا طالعنا الناس بوجوه مخالفة لها كذبونا وصدقوها. . .

وما منطقنا تجاه منطق الأبد العميق الذي يجر الأحياء إليه بقيود وحبال من سحره الخفي، إلا منطق تافه ذو صوت خافت تذهب به ضجة الحياة ذات المراكب الثقيلة والمواكب المتلاطمة. . .

فليكن وجه أدبنا صورة من وجه الحياة الصادق. . . وليكن منطقنا منتزعاً من منطقها الصارم. . . ليكونا أدباً ومنطقاً يخدمان أهداف الحياة ويخففان أعبائها. . .

وليكن عرضنا للآلام والأحزان عرض المذكر بدولتها على النفوس حتى لا تطيش بها الأفراح والمباهج، لا عرض الذي جعلها محور فنه. وليكن أدب الحرمان بمقدار الحرمان الذي في الحياة، لا يزيد عليه ولا يجترُّه. . .

والحياة وَهُوبٌ معطاءٌ أكثر مما هي بخيلة ضنينة. فليكن تصويرنا لها بالفن كما هي، بل إن استطعنا أن نزيد بالفن ألوان مسراتها وأنواع عطاياها فلنفعل. . .

إن الحياة هبة عظمى ثمينة من واهبها! فلنعرف لها مقدارها. . .

ولنهتز مع أعوادها الخضر للرياح والنسمات والأنداء والأضواء اهتزاز النماء والإنتاج

ص: 9

والإثمار وإعطاء الأسرار للأبناء بعد أخذها من الآباء. . .

ماض (مَيّاً) لو عاشت (أنثى) للبيت والأمومة والفن المخفف بدل تلك الرهبانية التي اختطفها من رحاب الحياة وانتهت إلى اختطافها من صومعة الفن كذلك؛ فحرمت العروبة وحرمت الأدب من أعذب صوت نسوي يشدو ببيان عربي؟

إن الفن تفر إليه النفس لتخفيف أعباء الوقع؛ فينبغي ألا يتخذ غذاء دائماً للنفس وإلا فقد سحره وأورث النفس سآمة لا دواء منها. ومن أين الدواء وقد صار (أفضل ما في النفس يغتالها). وصارت الغصة مما كان يزيل الغصة؟!

وما كان ضرها لو مرت بموت أبويها كما يمر سائر الناس بموت الآباء والأمهات: بكاء على الفراق حتى نتعود الفراق، فيندمل الجرح وننسى إلا في ساعات الذكرى التي لابد فيها من استحضار صور الأحباب والأعزاء الذاهبين، فتدمع عيوننا دمعاً لذيذاً رقيقاً يغسل غشاوات القلب بما غير حميم لذاع. . .

إن احتجاز الأحزان الثقيلة واجترارها أعظم ما يبتلى به القبل به الأعصاب ويمحو بشاشات الأيام ويحبس النفس في جدرانها تحت ظلل من الخواطر القاتمة. . .

مسكينة (مي)! استغنت عن صداقتها ومجالس أسمارها وأحاديثها في أشد أوقات حاجتها إلى السلوى بها!

لقد نجاها الموت من عذاب مثلث الأوجاع: التفرد، والشكل، والمرض. . . وما كان لأنثى أن تحمل مثل ما حملت وتنهض به. . .

عبد المنعم خلاف

ص: 10

‌مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

نداء المجهول

للدكتور زكي مبارك

التعاون بين الأدباء العرب - شخصية محمود تيمور - درس

الطبقات الفقيرة هو أسهل الجوانب في الدراسات النفسية -

فتنة المستشرقين - الولد سر أبيه - وهو أيضاً سر أخيه -

صدق محمود تيمور يتمثل في (نداء المجهول).

الأدباء العرب

حديث اليوم عن (نداء المجهول) للأستاذ محمود بك تيمور، وتطلب الطبعة الثانية من مكتبة المعارف بالقاهرة، وثمنها عشرة قروش.

ورعاية للوفاء نذكر أن هذا الكتاب طبع أول مرة في بيروت بعناية (دار المكشوف)، وقيل في المقدمة إن نشره هنالك (برهان جديد على السعي الجدي في سبيل التعاون بين الأدباء العرب) - وهذا حق - فإخواننا في فلسطين وسورية ولبنان والعراق ينتهزون جميع الفرص لتوكيد صلات الإخاء بينهم وبين زملائهم في الديار المصرية، وتلك عاطفة بذكرها المصريون بالحمد والثناء، ولا يعلم إلا الله مقدار الاستيحاش الذي عانيناه يوم قضت الحوادث منذ أشهر بانقطاع البريد بيننا وبين تلك البلاد.

شخصية محمود تيمور

كنت أشرت وأنا أتحدث عن الأستاذ إبراهيم المازني إلى أني سأضع الأستاذ محمود تيمور فوق المشرحة - وكذلك صنعتُ - فكتبت عنه مقالاً يؤذيه بعض الإيذاء، ثم مزقت ذلك المقال حين تذكرت أن محمود تيمور لم يشترك قبل اليوم في المعارك الأدبية، ولم يتعود دفع النضال بالنضال، وما يجوز ذوقاً أن نهجم على رجل لا يفكر في الدفاع.

ولكني مع هذا مسئول أمام قرائي، ومن الواجب أن أحدثهم عن رأي في أدب محمود تيمور

ص: 11

بلا مواربة ولا رياغ، وهل من الحتم أن نعلن الحقيقة بعنف، ونحن تملك إعلانها برفق؟ سأقول كل شئ في محمود تيمور بدون أن أعرضه للضجر والامتعاض، إلا أن يغضب من الحق، كما يقع لبعض الناس فمن محمود تيمور؟

هو شخصية ساهية لا ينم مظهرها على شئ، إلا بعد التأمل والتدقيق، كأن يذكر المتوسم أنه كاتب معروف، ولابد أن تنطق معارف وجهه بأشياء، وفي الناس من لا ينطق إلا إن أنطقناه بالعنف أو باللين.

وعند التفرس في وجه محمود تيمور نرى أنه (وَلدٌ واعي) كما تقول العبارة البلدية، وهو في الواقع غاية في الوعي. وسحنته الساهية تؤيد المثل الذي يقول (تحت السواهي دواهي)، وهذا أجمل ثناء يقدم إلى هذا الرجل الحصيف.

والدليل على أن محمود تيمور داهية هو إقباله على فنه الأدبي بطريقة جدية من حي لا يشعر أحد بأنه من أصحاب الأهداف، فمنذ أكثر من عشرين سنة وهو يفكر ويكتب بنظام لا يعرف الملال، وقد يتفق له في أحيان كثيرة أن يهيم في شوارع القاهرة بلا غرض ظاهر، فهل يصنع هذا الصنع إلا ليستوحي القاهرة ويتعرف إلى شمائل الناس في الغدو والرواح؟ الرأي عندي أن ذلك هو حاله في جميع ما عرف من البلاد، فأقاصيصه تشهد بأنه ينقل عن عيان لا عن سماع.

ويحدثك ناس أنهم زاروا محمود تيمور وسامروه، وأنهم سألوه عن كيت فأجابهم بذيت، وتنظر فتجد بعض أولئك من ذوي الغفلة العقلية، فما غاية هذا الرجل من الترحيب بأمثال أولئك الناس؟ ما غاينه وأكثرهم يتوهمون أنه تلميذهم المطيع، وأنه سيمنحهم نعمة الخلود في ظلال العقل، لا في حظائر الخبال؟

محمود تيمور له غاية من صحبة من لا يمتون إليه بصلة نفسية أو ذوقية، وغايته هي درس الغرائز والأحاسيس فيمن يلقي من الناس، ولو كانوا من الأوشاب.

ألم أقل لكم إن تشريح أجسام الضفادع لا يقل قيمة في نظر العلم عن تشريح أجساد الأسود؟

ولكن هذا الدهاء لم يمض بلا جزاء، فاهتمام تيمور بدرس النفوس الصغيرة حرمه نعمة التحليق في الجِواء السامية، فمن النادر أن نراه يلتفت إلى المخاطر التي تصاول كبار النفوس.

ص: 12

وأندر من ذلك أن نراه يهتم بتصوير الأزمات التي تصارع كبار العقول. وهل تخطر هذه الأشياء على بال وهو لا يتمرس بالجانب الوعر من صخرة الوجود!

محمود تيمور يهتم بدرس الطبقات الفقيرة، مع أنه (ابن ذوات) فما سبب ذلك؟

أكاد أجزم بأنه يختار الجانب الأسهل من الدراسات النفسية؛ فالفقير ينفض همومه بين يديك حين تحادثه لحظة زمان، أما الغني فيطوي همومه عن جميع الخلائق، وقد يلهو ويلعب وبين ضلوعه نيران تأكل الجبال.

الغني يعرف عن الفقير كل شئ، لأنه يراه في كل وقت ممثلاً في الخادم أو السائق أو الصانع أو الفلاح، ومن إلى هؤلاء من تقوم على كواهلهم قواعد المجتمع، وهم لسذاجتهم ينطقون بما يشتجر في صدورهم من آلام وآمال. ولو شئت لقلت إن الفقير يتحدث عن كل شئ، حتى الدسائس التي يحوكها عقله الضيق، والحيل التي يصوغها ذهنه الكليل.

فهل تحتاج متاعب هؤلاء إلى كاتب فنان؟

تمد يديك لمعاونة امرأة فقيرة على ركوب الترام فتهتف:

(الله لا يغلّب لك ولية)

وهي كلمة لا يهتف بمثلها الغني ولو أنقذته من أنياب القضاء في تهمة تبديد

محمود تيمور رجل هادئ أو كسلان، وإلا فكيف جاز أن يقضي عشرين سنة في صحبة القلم بدون أعداء؟ وكيف يعادي رجل لم يستطع قهر الجمهور على درس إحدى المعضلات؟!

هو طبيب في يده مشرط، ولكن مشرط (هذا) الطبيب صورة ثانية من المرسوم فوق صفحة من كتاب!

وذلك مصير كل كاتب يهتم بإرضاء الجهلاء المتعالين، وهم دعاة الموت، أو هم الأموات وإن تردوا بأردية الأحياء

فمتى ننقل تيمور إلى صفوف المكافحين لنضع في دمه شيئاً من الحديد؟

فتنة المستشرقين

محمود تيمور من أكابر العقلاء، ولكنه مهدد بأحد الأخطار المواحق ومن البر بصديقك أن تبذل في نصحه ما تملك، وهذا الرجل من أعز أصدقائي، فأنا ماض في نصحه بلا تحفظ

ص: 13

ولا احتراس.

صديقنا (تيمور) مفتون بالمستشرقين، وما أريد بهم الجماعة التي تعني بدرس حياة العرب قبل الإسلام، أو الجماعة التي تدرس حياة العرب في عصر النبوة، أو الجماعة التي تدرس حياة المدنية الإسلامية في عهود العباسيين والأمويين، أو الجماعة التي تدرس ما صار إليه أدب العرب بعد سقوط بغداد، أو الجماعة التي تدرس العقلية العربية فيما سيطرت عليه من الممالك الأوربية. ما أريد هذه الجماعات العلمية، فمحمود تيمور لا يلتفت إلى هؤلاء العلماء، وإنما يلتفت إلى المستشرقين المشغولين بدرس الأدب العربي الحديث، وهم شبان على جانب ضئيل من التحصيل ولا يهمهم غير البريق

وأنا أعرف هؤلاء الشبان، وأعرف غرضهم القريب والبعيد. همُّ هؤلاء الشبان أن يوحوا إلى أبناء العرب أن مصير اللغة العربية مصير اللغة اللاتينية سواءً بسواء، وقد تفرعت اللاتينية إلى لهجات، فما الذي يمنع من أن تتفرع العربية إلى لهجات؟ وهل يكون ما بين مصر والشام والعراق من وشائج أقوى مما كان بين الفرنسيس والطليان والأسبان؟

يجب أن تحرص كل أمة من الشرق العربي على وجودها الذاتي بحيث يصيح لكل أمة لسان، وإلا فهي أمم متأخرة لا تنصاع لقانون التطور، وهو قانون!!!

وهؤلاء من المستشرقين يسرهم أن يسجلوا أن أول من كتب العامية بحروفها النطقية هو فلان، والأستاذ محمود بك تيمور يسره أن يكون ذلك الفلان.

ألم تقرءوا المسرحيات التي نشرتها مجلة (الحوادث) منذ أسابيع، مع تقديم لطيف يشير بجعل العامية لغة الأدب المسرحي في هذه البلاد؟

هذا الصنف من أهل (الاستشراق) له تأثير سيئ في حياتنا الأدبية، وهو يظلل الجمهور أشنع تضليل. ألا ترونه يقدم ويؤخر في أقدار الأدباء، مع أن نقاد الأدب في بلاد العرب هم أصحاب الحق الأول في تقويم الآثار العربية؟

منذ أعوام نشرت جريدة (باري سوار) مقالات دمية عن (ليالي القاهرة)؛ ورأت الحكومة المصرية أن تمنع تداول تلك الجريدة في مصر بسبب تلك المقالات، فما قصة الكاتب الذي قال في (ليالي القاهرة) ما قال؟

هو أديب فرنسي قدم القاهرة ولم يزر غير الحانات، فكان نصيبه نصيب المستشرق الذي

ص: 14

زار مصر ولم ير غير الأدباء المفتونون باللغة العامية، وهم بشهادة أنفسهم من المتخلفين عن رعيل أهل الفكر والبيان.

والخطر الخوف من مذهب محمود تيمور يرجع إلى أنه رجل محترم، فهو من أدبائنا الكبار بلا جدال، وإقباله على التعبير بالعامية ستكون له عواقب سود، لطف الله به وهداه!

في مَدَى أربعة عشر عاماً لم يجرؤ واحد من الأثمة على كتابة العامية العربية بالحروف النطقية، كما صنع محمود تيمور في المجموعة التي نشرتها مجلة (الحوادث)، وهي مجموعة تشهد بأنه انقاد لفتن المستشرقين أبشع انقياد، وسيهوى بها في قاع جهنم ألف خريف.

الولد سر أبيه

أترك هذا الجانب الشائك، وأنتقل إلى شرح مسألة طال حولها الخلاف، وهي البعد بين تيمور الأب وتيمور الإبن، فجمهور أهل النقد يرى أن محمود تيمور يسير في طريق ينكره أحمد باشا تيمور، وكان هذا الباشا من أكابر أهل البحث والتحقيق

وأسارع فأقرر أن (محمود) سر أبيه في اللغة وفي القَصص، ولكن كيف؟

ألف تيمور باشا رسالة في اللغة العامية، ولهذا المنحى من التأليف مدلول، فهو يشهد بأن ذلك الباحث العظيم كان يرى أن اللغة العامية خليقة بـ (ردِّ الاعتبار)، فهي لغة فصيحة لا ينقصها غير الإعراب، وليس الإعراب شرطاً في البيان إلا عند خوف اللبس والغموض.

وقد ورث محمودٌ عن أبيه هذه النزعة مع شيء من الانحراف أغراه به صنائع المستشرقين.

ومحمود سر أبيه في القصص، ولتوضيح هذه النقطة الدقيقة أقول:

مؤلفات تيمور باشا تغلب عليها النزعة القصصية، وإن كانت في الأغلب من فنون البحث القائم على الأسانيد.

هل قرأتم كتاب تيمور باشا عن (أعيان القرن الثالث عشر)؟

قد تقولون: إن الأخبار الواردة في هذا الكتاب منقولة عن الواقع لا عن خيال؛ وأقول: إن تلك الأخبار الواقعية فيها نزعة خيالية، وهل كانت القصة الجميلة غير حكاية صحيحة؟

تيمور باشا لم يخترع ما في كتابه من حوادث، ولكن أسلوبه في تخير الحوادث يشهد بأنه

ص: 15

مبدع أقاصيص

وما الغرض من القصص؟

للقصص غرض واحد: هو إنطاق الحوادث بما كان يجب أن تقوله لو نطقت، وهذا درس أقدمه لبعض الخلائق بالمجان

ولتيمور باشا كتاب عن أبي العلاء، فإن قرأتم ذلك الكتاب، فستعرفون أن المؤلف يرى الناحية القصصية أساس التأليف.

والولد سر أخيه

لمحمود تيمور أستاذ هو أخوه محمد تيمور، وكان هذا الأخ مفتوناً بدرس الملامح البلدية، وكتاب (ما تراه العيون) يؤيد هذا الفتون.

كان محمد تيمور فتى تذوق أفاويق الحياة في باريس. ويقول من رأوه إنه كان من نوادر أهل الجمال، وشاءت لوذعيته أن يشترك في بناء المسرح المصري بالتأليف والنقد والتمثيل. ولا أزال أذكر كيف كنت أتعجب من مثل قوله على صفحات جريدة (المنبر) وهو يبدي إعجابه بأحد الممثلين: له ثنائي وقبلاتي! ولو رجعنا إلى مقالاته في النقد المسرحي لوجدنا الإعجاب لم يكن له صورة في قلمه غير العناق!

فماذا ورث محمود عن محمد تيمور؟

ورث عنه النظرة إلى الحياة الشعبية، ولم يرث عنه النظرة إلى السريرة الأريستوقراطية، ولو عاش محمد تيمور لصار من أكابر الشعراء في حدود تفتن أهل هذا الجيل

ولكن محمود تيمور له موهبة لم يظفر بمثلها أخوه، وهي الصدق في الوصف، الصدق الصادق الأمين، فما قرأت شيئاً لمحمود تيمور إلا أدركت أنه يختزن ما يشاهد من الأحلام والأوهام ليزود به قلمه الوصاف.

نداء المجهول

ويتجلى فن محمود تيمور في قصة اليوم، وهي:(نداء المجهول) وأي قصة؟

قرأتها في جلسة واحدة، مع أنها تقع في أكثر من مائة وستين صفحة؛ ثم تلفت إليها في اليوم التالي فاشتهيت قراءتها من جديد.

ص: 16

لم أقيد على المؤلف غير غلطتين اثنتين: الأولى تنويهه بأن الفندق الذي نزل لم يكن يمانع في أن يجلس الزائرون على المائدة بالملابس البلدية، وكان هذا غلطاً لأن حوادث القصة تقع في سنة 1908 وفي قرية من قرى لبنان ليس فيها غير ثلاثة بيوت، وليس من المعقول أن يكون لمثل تلك القرية في ذلك الوقت تقاليد إفرنجية.

أما الغلطة الثانية فهي أفظع، ولكن كيف؟

هام بطل الرواية بفتاة إنجليزية، فأنست به واطمأنت إليه، وقالت لنكن صديقين، ثم شاء لها الدلال أن تقول: إنها امرأة بلا قلب.

وهنا يذكر بطل الرواية أنه شعر بالخيبة والإخفاق

ولو تأمل هذا (البطل) لعرف أن ذلك إغراء

وكيف يعرف وهو محمود في سنة 1908؟ وهل كان في ذلك الوقت غير طفل لا يعرف طبائع النساء؟

نقد رفيق

قد أتعصب لمصر إن جبل لبنان لم يظفر بوصاف في قوة محمود تيمور، ولكن أخانا تيمور أخلف الظن في فهم لبنان بعض الإخلاف، وهل تكون الأخلاق اللبنانية في مثل ذلك الاتساق الرتيب؟

(الشيخ عاد) نبيل الأخلاق من أول يوم إلى آخر يوم و (الدليل مجاعص) سخيف من أول يوم إلى آخر يوم.

و (حبيب) خادم الفندق أبله في جميع الأوقات

و (السائح المصري) لم يقدر على استغواء (سائحة إنجليزية) شرح الله ولا شرعك، يا تيمور!

أما كان في مقدورك أن تلون الحيوية في أخلاق أولئك الأبطال؟

أما بعد فهذه (رواية) لم يكتب مثلها كاتب في الموضوع الذي صيغت فيه، وقد اشتهيت أن تكون هذه الرواية من وحي قلمي على شرط التحرر من أخطاء كاتبها المفضال!

وهل تعاب الرواية من أجل غلطة أو غلطات؟

ألا يكفي أن المؤلف استطاع أن يقنعنا أنه البطل بحق وصدق؟

ص: 17

زار كثير من المصريين لبنان، وفيهم أدباء فضلاء، فهل كان فيهم من استمع لـ (نداء المجهول) على نحو ما استمع هذا الفنان؟

ثم أما بعد فلطلبة السنة التوجيهية أن يعرفوا أن رواية اليوم رواية وصفية من جميع الجوانب، فهل يعرفون أين يقم ضرام التشبيب في تلك الصفحات؟

ما المرض الذي كان يساور (مس إيفانس)؟

وما السبب في تخاذل (الأستاذ كنعان)؟ وما وجه السخرية من نزعته العلمية؟

وكيف سخر المؤلف من بعض الأوضاع والتقاليد؟

لم أقل شيئاً، مع أني قلت كل شئ، ولكن كيف كان ذلك؟

أجيبوا أيها الفتيان النجباء

زكي مبارك

ص: 18

‌أول مقالة نشرتها وأول درس ألقيته

للأستاذ علي الطنطاوي

إني لأحظ عنوان هذا الفصل وأنا أسخر من نفسي، إذ أحدث الناس حديث مقالاتي، والناس في شغل عني وعن مقالاتي بهذا الهول الهائل، والبلاء النازل، والغلاء الشامل، وبالله العوذ مما هو أشد وأعظم.

ولعمر القراء ما أكثر الحديث عن نفسي لا لزهو ولا لكبر ولا غرور؛ ولكنها صناعة الأدب يسوغ معها ما لا يسوغ مع غيرها. وإني (إذا أردت الجد) لمن أشد الأدباء زهادة في الأدب، وأخال أن الناس في أدبي لأزهد، ولولا كليمات أسمعهن أحياناً فيهن تعليق على ما أكتب أو ثناء عليه، أو رسائل في مثل ذلك قد يأتيني، أو فقرات قد أقرأها في صحيفة فيها تنويه بي، لولا ذلك (وما ذلك؟!) ما ظننت أن أحداً يقرأ مقالاتي!

وما قصدت هذا الموضوع قصداً، ولكني نبشت أوراقي أفتش عن ورقة أريدها، فخرج في يدي (عدد) من المقتبس قديم، تاريخه سنة أربع وعشرين وتسعمائة وألف، ففتحته أنظر فيه، ففتحت لي دنيا من الذكريات اللذة، وقرأته فقرأت فيه تاريخ نفسي: رأيتني في الصفوف الأوائل من الثانوية، وحولي رفقة ما رأيت بعدهم مثلهم في إقبالهم على الدرس وجلدهم عليه، وفي رسوخ ملكاتهم الأدبية، وقوة طبعهم في الأدب وسليقتهم في اللغة، وتسابقهم إلى مطالعة نفائس المصنفات، ومعرفة المصادر والأمهات، ولم يكونوا كشباب اليوم الذين يحاولون الكتابة قبل القراءة، ويغتربون بالنشر فيحسبون أنهم أنداد وأقران لكل من يكتب في الصحيفة التي تنشر لهم، ويعلن أحدهم عن كتابه الذي سيصدره قبل أن يكتب منه عشر صفحات، وينتقد الكاتب الكبير وهو لا يحسن أن يقيم لسانه في قراءة مقالة من مقالاته، ويخدع المجلة عن أدبه فتظنه شيئاً فتخدع به القراء، وما لم أذكر من صفاتهم آلم وأنكى. . .

وكنت قد قرأت طائفة من الكتب أذكر أن منها (حياة الحيوان للدميري) وهو أول ما طالعت من الكتب، وهو دائرة معارف (كما يسمونها اليوم) أو هو معلم جامع فيه فقه ولغة وأدب وقصص وتاريخ وخرافات وعلم وحقائق أفدت منه كثيراً، (والصباحي لأحمد بن فارس) وقد ألقى في نفسي إجلال العربية والإيمان بسعتها وجلالها، وحبب إلى جزالة الأسلوب

ص: 19

وفحولة اللفظ، ولا أزال إلى اليوم أعجب برسالة ابن فارس هذا إلى من أنكر فضل الجديد لأنه جديد، ومال إلى تقديس كل قديم لأنه قديم، وأعدها من نفائس الآثار، وهي في مقدمة الكتاب، و (بلوغ الأدب للألوسي) وقد أورثتني التعصب للعرب والمبالغة في ذلك، ثم علمت أن قد كان فيه زيف كثير كما كان فيه صحاح كثير، وما زلت أحفظ جملة صالحة من أخباره صحيحها وباطلها؛ و (الأغاني) قرأته كله، أعني أخباره وقصصه دون ما فيه من أسانيد وأصوات وأشعار وأصوات وأشعار وأنساب، وهو رأس مالي في الأدب؛ وقرأت (الكشكول) و (المحلاة) و (مراقي الفلاح) في الفقه الحنفي ألزمني والدي قراءته، أسبغ الله عليه رحمته، (وشرح رسالة ابن زيدون) المطبوع على هامش (الغيث المنسجم) وكانت طريقتي في المطالعة أني إذا فرغت من دروس المدرسة دخلت مكتبتنا فتخيرت كتاباً فأخذته فنظرت فيه، فإن أعجبني مضيت فيه لا أدعه حتى أتمه وإلا أخذت غيره، لا أستعين على ذلك بمرشد، ولا أستهدي بهاد، إلا ما كان شيخنا لأستاذ اللغوي الشيخ عبد القادر المبارك يسمعه لنا من الكتب ويرشدنا إليه. وكنا نأخذ الأدب عن الأديب الضليع المتفنن الأستاذ سليم الجندي، وكان يحذرنا (جزاء الله عنا خيراً) أن نقرأ الجرائد والمجلات وكتابات أهل العصر، على اعترافه أن فيهم من أطفأت شمسه بدور البلغاء من الأوائل، خشية أن نسيء الاختيار فتصيبنا عدوى الركاكة وهي شر من عدوى الكوليرا والجذام. فدخلت الجامعة وأنا لا أعرف من العصريين إلا المنفلوطي رحمة الله، وكنت أظنه أبلغ كتاب العصر، ولا أعدل بأسلوب (نظراته) شيئاً حتى وقع في يدي (رفائيل) للزيات، فوجدته كنزاً من أغلى كنوز النثر، وصغرت معه (عبرات) المنفولوطي حتى صارت كلا شيء. ثم عرفت الرافعي وقد أصدر كتابه (تحت راية القرآن) رفع الله به درجاته في الجنة، فعلمت أن الله قد خلق من هو أبلغ من المنفلوطي، إي والله ومن عبد الحميد وابن المقنع وابن العميد، ومن كنا نراهم يومئذ أئمة البلاغة والَّلسن. على أني لم أنس المنفلوطي وترجمت عن شكري له ولأستاذي الجندي والمبارك بإهداء الثلاثة كتابي (الهيثميات) وهو أول كتاب ألفته (1930)

أقول إني أحسست بعد قراءة ما ذكرت من الكتب بشيء تجيش به نفسي، فنفست عنها بمحاولة الكتابة فاستوى لي مقال، نسيت اليوم موضوعه، قرأته على رفيقي أنور العطار

ص: 20

وكان يومئذ يجرب قول الشعر، فأشار على أن أنشره فاستكبرت ذلك، فما فتئ يزينه لي حتى لنت له. وغدوت علة (إدارة) المقتبس وكانت في شارع السنجقدار العظيم الذي صار خرائب وأطلالاً. فسلمت على أبي بسام الأستاذ أحمد كرد علي رحمه الله ورحم جريدته. . . ودفعت إليه المقال، ولم يكن من إخواننا من يعرف طريق صحيفة أو يجرؤ على النشر فيها. وكنا يومئذ متلبسين بجريمة الحياء التي أقلع عنها شباب اليوم والحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه. فنظر في المقال فرأى كلاماً مكتهلاً ناضجاً، ونظر في وجهي فرأى فتى فطيراً، فعجب أن يكون ذاك من هذا، وكأنه لم يصدقه فاحتال علي حتى امتحنني بشيء أكتبه له زعم أن المطبعة تحتاج إليه فليس يصح تأخيره، فأنشأته له من يسابق قلمه فكره، فازداد عجبه مني ووعدني بنشر المقال غداة الغد، فخرجت من حضرته وأنا أتلمس جانبي أنظر هل نبتت لي أجنحة أطير بها لفرط ما أستخفي السرور. ولو أني بويعت بإمارة المؤمنين ما فرحت أكثر من فرحي بهذا الوعد. وسرت بين الناس وكأني أمشي فوق رؤوسهم تعالياً وزهوراً. وما احسبني نمت تلك الليلة ساعة، بل لبثت أنقلب على الفراش أتصور أي جنة من جنات عدن سوف أدخل في غداة الغد. . . أي كنز سأجد. وجعلت أترقب الصباح ولا ترقب عاشق متيم ينتظر وصلاً بعد طول الهجران، حتى إذا أنبثق الصبح وأضحى النهار، أخذت الجريدة، فإذا فيها المقال وبين يديه كلمة ثناء لو قيلت كلمة ثناء لو قلت للجاحظ لرآها كبيرة عليه. . .

وعدت أنظر إلى الجريدة القديمة الصفراء وهي مائلة بين أوراقي، وأفكر في هذا الأدب ماذا جنى علي وماذا جنيت منه. لقد سرت بعد تلك المقالة أعدو في طريق النشر. فكتبت في جرائد الشام ووفدت على خالي الأستاذ محب الدين الخطيب في مصر، فأخذ بيدي وسدد خطواتي، وكان لي أفضل مرشد ومعين، وأفدت من خلقه ومن علمه ومن ماله، ثم عدت إلى دمشق، ثم اتصلت بالرسالة صديقة روحي وسميرة وحدتي، وكانت لي خير مدرسة، فيها الأستاذ الزيات خير مدرس. وكنت إذا نظرت في كتاب، أو أصغيت إلى حديث، أو ضمني مجلس، أو شملتني عزلة، أو اضطجعت لأنام، أو نهضت من منام، أو ذكرت ماضياً، أو فكرت في آت، أو أغمضت عيني متأملاً، أو فتحتهما على مشهد من مشاهد السماء والأرض، أجد في كل ذلك موضوعاً لمقالة أكتبها أو فصل أنشئه، وأجد

ص: 21

الهمة حاضرة والذهن نشيطاً. ثم كرت أيام، وغبر دهر، وأصبحت لا أستطيع أن أخطر سطراً على قرطاس، وإذا كتبت لم أدر كيف أكتب، ولا لماذا. وأبعث بالذي أكتبه إلى (الرسالة) مضطرب الأعصاب مزلزلها، فإن أخرته غضبت، وإن ألفيت به تطبيعاً وخطئات لم يتنبه لها المصحح تألمت وإن وجدته نسب إليَّ ما لم أقل، ويجعل في المقالة أخطاء تدل على جهل الكاتب وما هي مني ولا أنا صاحبها، عزمت على ترك الكتابة بالمرة وكبر على الأمر، ثم إن جاءت المقالة منشورة قرأتها مرة لأطمئن عليها ومرة لأنقذها مجرداً من نفسي ناقداً لها، ثم أرميها فلا أطيق النظر فيها، ولا أجد من يحدثني عنها كأني أكتب لصخور الجبل لا لبنى آدم. . .

فماذا أفدت من الأدب؟ أما إني لم أجد الأدب إلا عبثاً، ولم أجد إلا مجانين، يسمى الناس وراء المال ويسعون وراء سراب خادع يسمونه (المجد الأدبي). كلما أقبلوا عليه نأي عنهم فما هم ببالغيه حتى يموتوا. وما ينفع ميتاً ذكر في الناس، ولا يغني عنه مجد، ما ينفعه إلا ما قدم من عمل صالح - ولقد كان رفيقي سعيد الأفغاني أعقل إذ كان يمد شفته ساخراً كلما حدثته عن آمالي في الحياة ورغبتي في أن أكون كاتباً يشار إليه بالأصابع؛ وكنا يومئذ في المدرسة الثانوية نتسابق إلى مطالعة الكتب ونتبارى في تلخيصها والملاحظة عليها. فما صنع الزمان بآمالي؟ لقد أراني أني كنت أسعى أطلب السراب، فلا أصل إلى شئ، وما ثمة شئ حتى أبلغه. . .

هذه هي قصة ابتلائي بهذا الأدب الذي أنا تاركه اليوم، أو ظان أني تاركه، ومقبل على الفقه أجدد العهد بما قرأت من كتبه، وواهب له قوتي ووقتي، فليهنأ الذين يجدون فيَّ سداً في وجوههم أن يبلغوا من الأدب ما يريدون، والذين يرون أني مزاحمهم على هذا المورد الآسن.

ولقد كنت أهزل يوم كتبت أفضل الأدب على العلم، وأين من أين؟ وهل تستوي الحقائق والأوهام؟ وهل من علم يوازي على الفقه ويضارعه شرفا، وبه يعرف الحلال من الحرام، وبه تضمن الحقوق، ويدرأ الخصام ويعم السلام. . .؟ ولئن فزع الشباب من زي أهل الفقه، وخافوا أن يوصموا بالجمود والرجعية، فما، يفزع ذلك من سمي بالشيخ وارتضاه له اسماً، ولا تثقل عليه عمامته إن كورها، ولا لحيته إن أطلقها. . . وللثياب، لا جرم، عمل

ص: 22

في تكوين طبائع المرء وتوجيه سيرته، فأنت حين تتخفف من الثياب، أو تتخذ ثياب أهل الرياضة (السبور)، فتلبس السراويلات المناكير القصار أو التبان، تشعر بالخفة وتميل إلى القفز والتوثب، وتكره القرار على الأرض؛ فإن أطلت لبسه، أوشك أن يكون ذلك لك عادة، وإن لبست الجبة ولبثت على هامتك العمامة، ملت إلى التوقر والرزانة، ولم تستطع أن تأتي ما هو مناف لها، وتنزهت حتى عن قعود في قهوة، أو ولوج سينمة، أو إسراع في مشية في طريق أو مزحة نابية، أو قهقهة مقرقعة في مجلس. . .

وتتطبع على ذلك حتى يعود لك طبعاً. وإن اتخذت (البرنيطة) جنحت بالضرورة إلى مصاحبة أهلها ومجالستهم، وملت عن المساجد ومجالس العبادة، ولو كنت مصلياً متعبداً، ومن هنا جاء النهي عن التشبه بغير المسلمين، والأمثلة على ذلك كثيرة. . .

على أني إن تركت الأدب فما أنا بتارك الكتابة، وإن من الكتابة لعلماً، وإن منها لإصلاحاً، وإن منها لما ينفع الناس ويدلهم على طرق الخير. . . كما أن من الكتابة ما هو ثرثرة جميلة، وتسلية سخية، ولغو من القول يذهب جفاء. . . فلينظر ذوو الأقلام ما يأخذون منها وما يدعون، ولينظر القراء ما يقرؤون منها وما يهملون. . .!

أعتذر إلى القراء مرة ثانية من الحديث عن نفسي، فإنه أثقل الأحاديث على أذن السامع، ولكنها صناعة الأدب، قاتلها الله. . .

ولقد أردت حين شرعت في هذه المقالة أن أقول أشياء كثيرة زورتها في نفسي وأعددتها، فلما بلغت الكلام عن أول درس ألقيته، وذكرت هذه المرحلة من حياتي التي قضيتها معلماً، وتنقلت فيها في الآفاق، ورأيت فيها من المتع والآلام، ومن بيض الليالي وسود الأيام، ما لا يعلم حقيقته إلا الله. . . وما لم أصف في مقالاتي في (الرسالة) إلا الأقل الأقل منه. . .

لما بلغن ذلك اعتلج في نفسي من العواطف، وثار فيها من الذكر، ما عقل قلمي وحبسه عن المسير. وكيف أجمع في مقالة واحدة ما تفرق من قلبي في جنات دمشق، وقد علمت في كل مدرسة فيها، وفي (الحرش) الفتان من بيروت حيث (الكلية الشرعية) وعلى الشاطئ الوادع من دجلة حيث (الثانوية المركزية)، وفي طريق الأبلة إحدى متنزهات الدنيا الأربعة حيث (الثانوية البصرية)، وعلى سيف الفضاء الأرحب من (كركوك) بلد الذهب الأسود الذي يشتعل أبداً، وعلى ضفة الفرات الجميل في دير الزور، البلد الكريم أهله، وحيث أذكر

ص: 23

ولا أذكر.

إنها لتطر على قلبي الساعة آلاف من الصور التي مرت من قبل على عيني؛ بل إني لأبصر الآن الآلاف من وجوه زملائي في التعليم وتلاميذي الذين أحببتهم، تنبعث من ظلام الذكريات؛ ثم تطيف بي محيية باسمة تتلو على قصة نفسي، وتعيد إلى ما مضى من عمري؛ فكيف إلى الاجتماع بهؤلاء الأصدقاء لأودعهم قبل أن يتجدد الفراق، ولا حدث بهم عهداً، كيف وقد تفرقوا تحت كل نجم! كيف وقد علا منهم من علا وهبط من هبط، وشغلهم شواغل الحياة فلم يعودوا يذكرون معلماً ولو لم ينسهم ذلك المعلم! كيف ومنهم الوفي ومنهم الجاحد والناس معادن. . .

يا رحمة الله للمعلمين، لمن كان منهم قلب، وسلام على أيامي التي صرمتها معلماً. . . وعلى كل من يقرأ هذا الفصل من زملائي وتلاميذي، ولهم مني أوفى حبي، وتحيات قلبي!

(النبك - سورية)

علي الطنطاوي

القاضي الشرعي

ص: 24

‌العقدة النفسية

في طريق التكون وفي طريق الزوال

للأستاذ حسين الظريف المحامي

يراد بالعقدة كل مرض يصيب الحياة العقلية. وتفصيل ذلك أن الطفل يولد وعقله الواعي ستارة بيضاء، حتى إذا اتصل بوالدته وذويه وبالوسط الذي هو فيه، بدأ عقله الشاعر يتكون ويتطور، ودنوت على تلك الستار معاني ما يأخذه عما حوله.

ويمكن إجمال أدوار الطفولة في أن الطفل يشعر بادئ ذي بدء بأنه جزء من أمه، حتى إذا بلغ الثلاث من العمر، أخذ يشعر باستقلال نفسه، وذكت فيه عاطفة فرض ما يريد على الغير ولفت نظرهم إليه.

ويلي هذا الدور، دور السؤال عما حوله كمن يريد أن يحلل ويعلل، ولا يندر أن يسأل الطفل عن نفسه: كيف وجد؟ ومن أين أتى؛ وهو في كل أدواره هذه يعمل على تكوين وتنمية عله الواعي، مفزعاً إياه في الوضع الذي تهيئه له معاني وسطه المحدود.

فحياة عقلنا الظاهر يبدأ تاريخها منذ الولادة، غير أن هذه الحياة قد تكون سلسلة متعاقبة الحلقات، وقد تقوم بين هذه الحلقات بعض الحواجز فتفقد السلسلة صفة التسلسل، وما هذه الحواجز إلا العقد التي تعتور العقل الشاعر في طور نموه، فتقف حائلاً دونه، وترغمه على تبديل اتجاهه الطبيعي بآخر معوج يدركه فيه بعض الشلل.

قد تكون هذه (العقد) في صورة إدراك حقيقية مغلوطة تفقد جزءاً من العقل بعض ارتباطه، وقد تكون منبعثة عن سوء تربية الطفل وعما وراء هذا من مختلف العوامل، فينشأ الوليد شاذاً غير سويّ

إن الدافع الجنسي في الطفل تكون بعد الولادة بقليل، ومن مظاهره مص الأصابع، والرغبة في القبض على الثدي بالشفاه، حتى في غير أوقات الرضاع. هذا ما يقوله الدكتور فرويد ويضيف إليه أن الطفل يوزع حبه على أفراد عائلته، غير أنه يهب أكثره لأمه لشدة اتصاله بها، فإذا ألهاها عنه الزوج نشأ عنده الكره لأمه والغيرة من أبيه، ويزداد هذا الانفعال رسوخاً بتكرر الوقائع، حتى يصبح فيه الطفل واقعاً بين عامل الحب لأحد أبويه، وعامل البغض والغيرة، فإذا بلغ الحلم وجه حبه إلى من يختار من الجنس الآخر، وبذلك يجد

ص: 25

الحب له منقذاً طبيعياً يفنى فيه. أما إذا لم يوجه التوجيه الصحيح لجهل الأبوين أو لشذوذ في الطفل، فقد يبقى الفتى محباً لأمه، أو لمن يماثلها من الفتيات، وتبقى الفتاة محبة لأبيها، أو لمن يماثله من الفتيان؛ وهذا مظهر من مظاهر الشذوذ الجنسي، وهو ما يراد من العقدة. ذلك لأن سلسلة الفكر عن الحب وموطن وضعه فيه لم يجر على ما هو بصورة طبيعية، وإنما انحرف عما خلق له، لعامل في نفس الطفل، أو لشذوذ في تربيته، وسلك طريقاً آخر غير سوى، قد يكون مصدر كثير من آلامه طول حياته.

كذلك يمر بالطفل دور يحب فيه معرفة ما يحيط بموضوع الولادة، فيبدأ بالسؤال عنه فتسكته أمه بما يشعر بقبح الموضوع، فيلتهب فيه حب الاستطلاع بطريقة غير حميدة، ويجد في الموضوع لذة على الرغم من إفهامه أنه قبيح، وتكون النتيجة اعتقاد الطفل بأن الشيء اللذيذ هو الشيء القبيح. وهنا تنشأ العقدة. ويترتب على ذلك أحد أمرين، فإما أن يكره الطفل أن تقترب منه أمه، أو تتولد فيه الرغبة في المخالطة المادية، فيتبع إحدى الطريقتين، إما الخجل أو اللذة الجسدية؛ فإذا أنكفئ الطفل على ملذاته ورأى منه والده ما يريب وانتهره ولجأ معه إلى الشدة، انقلب خوف الولد من أبيه إلى الكره له، والاعتقاد بأنه لو لم يكن أقوى منه لما خذله، وتكون العقدة في نفس هذا الطفل، هي شعوره بالضعف. ولما كان الصغير لا يجد أمامه مجالاً للإفصاح عما وقع له فهو يحاول إخفاءه عن الجميع، ويوجد في محاولته هذه الصفات المضادة للصفات التي يحاول إخفاءها، كطرق دفاعية نفسية ضدها يشعر ما يشعر به من ضعف يوشك أن يظهر للناس.

قال فرويد: إن للعقل الباطن طريقتين متناقضتين للتعبير عما فيه؛ فقد يكون رجلاً فاضلاًُ شريفاً ذلك الذي يطيل الحديث عن الشرف والفضيلة، وقد يكون سافل النفس دنيئاً فأرد أن يخفي بهذا الحديث ما يعرفه في نفسه مخافة أن يعرفه الناس. وعلة هذا أن العقل الباطن يجب أن يعبر عن النشاط الكامن فيه فإذا كان أحد الطريقين مقفلاً اختار الطريق المقابل

إن الطفل يحمل كثيراً من الغرائز التي يجب أن تعبر عن ذاتيتها وحيويتها في أعماله؛ فإذا نحن منعناه عن الإفصاح عن إحدى غرائزه، اختار للتعبير عنها طريقاً آخر شاذاً، تنشأ فيه العقدة في نفسه، وقد يضغط على رغبة التعبير عن إحدى الغرائز فتتسرب تلك الرغبة إلى

ص: 26

قاع النفس وهي ممنوعة عن الظهور، إلا أنها لا تسكن في موطنها الجديد، وإنما تبقى فاعلة متفاعلة في حدود العقل الباطن، حتى إذا سنحت فرصة الظهور خرجت من العقل الباطن إلى العقل الواعي ونفست عن نفسها في هذا الخروج.

لنفرض أن طفلاً مدللاً أرسله أبواه إلى المدرسة فلم يجد فيها ما ألفه في بيته من الحنان، فمثل هذا الطفل إما أن يغير سلوكه الذي اعتاده قبل دخوله المدرسة، أو يبقى مستمراً عليه، فإذ هو لم يختر ما وقع له وظل يريد من الحياة أن تكون مثلما رآه في بيته، مملوءة بالحنو والرقة، ففي هذه البداية ينتهي الوليد إلى اعتبار كل زميل له في الدراسة فظاً غليظ القلب فينفر من الاقتراب منه، ويشعر بالبغض له، ومن ثم يحدث له نفور من كل غريب حتى تعذبه كل تعارف جديد. ود تغيب هذه الرغبة الشاذة في طيات عقله الباطن، ويزيدها تطاول العهد إمعاناً في التواري، إلا أنها تبقى حية عاملة وهي تكون جزءاً من عقل العليل. فالرغبة التي تربط الموضوع في هذا المثال، هي العقدة

إن أكثر من نعرف يحمل في طيات نفسه من العقد النفسية ما يخرج حياة عقله عن السواء ويميل بها إلى جانب من الشذوذ يكتنف شعور صاحبه وإدراكه ويملي إرادته على ما يأتيه من قول وعمل. وقد ثبت في دائرة العلوم النفسية أن أخطر سنوات الطفولة ما يقع بين الثالثة والثامنة من العمر، ففي غضون هذه السنوات يقع أكثر ما يدعي بمشاكل الطفولة.

على أن العقدة في ذاتها لا تعد خطراً على صاحبها إلا إذا كانت متوارية عنه، وهي تعمل من وراء حجاب من الزمن. فإذا حلت العقدة زال ما بصاحبها من مرض يصيب العقل في الصميم

غير أن تحليل العقدة إلى العنصر الذي نشأت عنه، وبعبارة أخرى أن تذكر الحادثة الخاصة التي تنطوي عليها العقيدة ليس مما لا يشق على من يعانيه؛ ذلك لأنه إذا فعل وجد نفسه أمام مانع عنيد هو الزمن، فالعقدة لا تكتفي بالاختفاء وراء ثوبها المستعار وإنما تتوارى فيما وراء وقائع الزمن. وفي أحضان هذا الواقع تقع الصعوبة في تحليل العقدة. ولكن مهما يكن الأمر صعباً فأن طريق الخلوص إليه واضح لمن يريد

لنطلق العنان لما لنا من خواطر وأفكار ومنازع يعج بها العقل الباطن حتى نخرج بها إلى الذاكرة، ومن ثم إلى عقلنا الواعي فنحللها فيه ونرجعها إلى مصادرها الحقيقية، فإننا إن

ص: 27

فعلنا ذلك استطعنا حل كافة العقد النفسية، وممن ثم يسهل علينا التحرر منها بالإرادة

وطول الممارسة

تلك هي طريقة التحليل النفسي، بها نخرج بالعقدة إلى العقل الواعي ونربطها بالحادثة التي نشأت عنها فيظهر لنا بطلانها، وبالتالي نتحرر منها وتصبح وكأن لم تكن بالأمس شيئاً.

(بغداد)

حسين الظريفي

المحامي

ص: 28

‌2 - قيمة الحرية

للصحافي العالمي ويكهام استير

بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي

لقد زعموا أحياناً أن الجماعات التي يتولى أمرها سلطان يملي إرادته على الجميع هي أقوى من الجماعات التي يمنعها اختلاف الرأي فيها عن الاتحاد في العمل. وأصحاب هذه الدعوى يزعمون أيضاً أن التسامح آية الضعف، وأن التعصب سجية من سجايا القوة، وأغلب ظني أنها دعوى خاطئة، فلقد يكون لمثل هذه الدعوى ما يبررها لو أنه كان من الممكن أن تظفر بحقيقة سياسية واحدة لا تقبل النقاش أو بمبدأ قاطع بات لا يحتمل الجدل، ولكن ما دام واقع الأمر على النقيض من ذلك إذ يعتذر اقتراض شئ من عصمة الرأي البشري، فإن محاولة القضاء على وجهات النظر المختلفة وتتويج رأي غير معصوم من الزلل بحيث لا يرتفع إليه النقد ولا يسمو إليه الجدل هو في الواقع من دون الرأي القائل بأنه ما دامت جميع الحقائق السياسية حقائق نسبية فمن صالح الجماعة أن تختار لنفسها من هذه الحقائق ما يصادف من ذوي العقول الحرة القبول العام باعتباره أسلم القواعد التي يجب أن تتحكم في المصالح البشرية.

والضعفاء من الناس هم أولئك الذين يستبيحون في حق أنفسهم أن يقضي على رأي الفرد فلا يسمع له صوت ولا يقام له وزن، أو أولئك الذين يتلمسون الفرار من مضلات المعترك الإنساني بأن يعتصموا ببعض النظريات أو المذاهب الاستبدادية المطلقة التي يجدون في قبولها نجاة لهم مما يضطلع بها المواطنون الأحرار من معاناة نقد الآراء وتقصي أوجه النظر ومن التردد بين الآراء وما يلازمه من قسوة الشك وألم الحيرة، ومقياس النظم السياسية مائل فيما يخلفه على المواطن الحر من طابع. ذلك المواطن الذي هو غرس يدها ونتاج تعاليمها، والنظم التي تحرم تنوع الآراء وتعدد المذاهب وتخنق حرية النقد تنتهي بأن تسير أبناء البلاد على نمط واحد مطرد، فتقضي بذلك على مرونة العقول البشرية وتنزل بها إلى الحضيض من ركود الحياة وجمود العقل، وتقف حجر عثرة في سبيل تقدم الخلق الإنساني. فقضية النقد إذن هي قضية خطيرة الشأن عظيمة الأثر بحيث لا يتسنى للمدنية أن تصادف نجاحاً بدونها؛ ولذلك كان حتماً على الجماعة إذا ما تأبت عار الخضوع

ص: 29

ووصمة الجمود أن تبيح النقد إباحة لا يعطلها عقاب ولا يتهددها ضرر.

ومع ذلك يوجد هنا فارق هام بين حرية النقد وحرية النهج، إذ - كما لاحظ مستر (برناد شو) في إحدى مقدمات كتبه - لا يسمح له أن يغير سلوكه الاجتماعي ما لم ينجح نده في أن يغر القانون إذ استطرد قائلاً:(وإننا لعلى جهل خطير بأصول مدنيتنا حتى أن غالبيتنا لتحسب أن لها حقاً في أن تغير منهجها فور الوقت الذي تغير فيه آراءها).

ومن أعقد المسائل التي تواجهنا في حياتنا الاجتماعية والتي قد يتيسر التغلب عليها وحل معضلاتها في المجتمعات الحرة بطريق الثقافة وحده أن نميز بين النقد النزيه مجرد الثورة على الأوضاع الاجتماعية، وأن نفرق بين حرية الرأي المبدأ وبين رخص النهج الاجتماعي.

وإذا قدر أن يكون فعالاً منتجاً لا مجرد هدام للنظم والعادات التي تمت في ظروف غير تلك الظروف التي تغشى الناس في وقت معين أصبح لزاماً أن تتوفر للشعب حرية البحث وحرية المعرفة وحرية الكلام وحرية الكتابة، وصار واجباً أن تناقش الآراء وتمحص الأصول التي أسست عليها تلك الآراء، وهذا أمر لا يتسنى وجوده، كما اعترف بذلك الكتاب النازيون ما لم يقم على دعامة من حرية الصحافة التي تنطوي فيها حرية المعارف علمية كانت أو أدبية. ولقد سجل هتلر نفسه هذه النظرية في كتابه (كفاحي) فقال:(يجب أن يكون هدف الحكومة أن تنشئ (هيئة اجتماعية من الكائنات الحية يتشابه أفرادها مادياً وعقلياً). وزعم الدكتور (ديتريش) وهو الموظف الحكومي المتولي الإشراف على الصحافة النازية أن (رأي المجموع) لا رأي الفرد هو ما يجب أن يكون مصدر الثقافات جميعاً بما يتبعها من الدراسات العلمية. كما سودت الدكتور (أوتوكيلويتر) وهو أستاذ نازي جامعي (فكرة الجماعة) على فكرة الفرد.

ومهما ظهر للشعوب التي تربت في كتف الحرية من تعصب هذه الدعاوي، فهي من وجهة النظر الاستبدادية إصلاح منطقي سديد؛ إذ في البلاد التي ضيقوا الخناق على الحرية فيها لا يمكن احتمال الفكرة الفلسفية العميقة أو التحليل التاريخي الدقيق ما لم تنهر تلك الآراء التي فرضتها الحكومة المطلقة ونادى بها قائدها. فروسيا الشيوعية لا تقبل البحث الحرفي في مسائل كالتي تتعلق بملكية الأشياء؛ وألمانيا النازية لا تسمح للعقائد الخاصة بالدم

ص: 30

والجنس أن تكون موضع بحث أو نقاش؛ وإيطاليا الفاشية لا تطبق النظر الحرفي في طبيعة الحكومة ووظائفها، أو في مكانة الأفراد بالنسبة للحكومة. وحسبها من شر أن أسكتت مثل هذا الفيلسوف العظيم (بنيد توكروس). ولشد ما تثيرني آراؤه عن الحكومة والحياة السياسية. ففي كتيبه (أورنيناتتي) قال: (إن حبنا للدولة هو أن نعمل مع الدولة، وأن تخص الدولة ونغمر حياتها السياسية بكامل ما يتوفر لنا من أسمى معانينا وأنبل مشاعر وأصدق ما يجرى في معتقداتنا من الحقائق، أي تلك الحقائق التي تصدر عن ولاء مكين وإيمان متين، وعما يتهيأ لنا أن نأمله من مثلنا العليا. واشتراكنا مع الدولة على ضوء هذه الاعتبارات هو ما نسميه بالحرية بتعبير آخر. وهذه الحرية ليست بمقاومة الدولة أو بالإساءة إلى هيبتها وعظمتها، ولكنها هي حياة الدولة بذاتها وإلا وسعنا أن نزعم أن الدم الذي يجري مجدداً نفسه بدورة مستعمرة في أوردتنا هي حركة متمردة على ما لنا من سلطان في ضبط حركة الوظائف العضوية من أجسامنا، لهذا لا تكون الحرية ملحوظة في الدولة ما لم تكن حرية سياسية مطبوعة على العمل مع مقتضيات حياة الدولة

والحق أن هذا الفيلسوف الإيطالي قد أثم في حق الثقافة الفاشية إذ أهمل النظر للدولة - كدولة مطلقة - ثم أسرف في الإساءة إلى النظام الفاشي، فلم يشأ أن يعتبر الدولة إلا عنصراً تنفيذياً للهيئة الاجتماعية وإلا مجموعاً كلياً للوظائف العامة التي تفوضها الأمة للهيئة التنفيذية لحماية الصالح العام وتدعيمه.

ولا يبعد هذا المذهب عما ذهب إليه (جون استيوارت مل) وقتما وفق لأن يلمس بعض الظواهر الإيجابية لحرية الأمة في رسالته الشهيرة عن الحرية فلقد أشار (مل) إلى أنه إذا عمل أي إنسان عملاً من شأنه أن يضر الآخرين كان من مقتضى العدالة أن يستوفي العقوبة التي فرضها القانون، أو أن يلقي جزاءه من الاستنكار والتحقير العام إذا كان ما فعله لا يقع تحت طائلة نصوص القانون، ثم استطرد قائلاً:

وقد تقضي العدالة إلى ذلك بإجباره على القيام بأعمال إيجابية كثيرة شرعت لصالح الآخرين، مثلما يلقي على عاتقه من عبء إثبات ما يدعيه في ساحة القضاء، أو ما يتحمله من نصيبه العادل في الدفاع العام أو ما يضطلع به من الأعمال الاشتراكية الأخرى اللازمة لصالح الجماعة التي ينعم بحمايتها. ومثلما يفرض عليه من أعمال خاصة شرعت لصالح

ص: 31

الفرد كأن يتقدم لإنقاذ حياة إنسان أو يتدخل بين الضعيف الذي لا سند له والقوي الذي لا حجة معه لينتصف للمظلوم من الظالم. وهي أمور إذا ما اتضح أن من واجب الرجل أن يؤديها كان من مقتضى العدالة أن تناقشه الهيئة لاجتماعية الحساب عن عدم وفائه بها. فالإنسان قد يلحق الضرر بغيره بسبب ما يقدم عليه من عمل، أو نتيجة لامتناعه عما يجب عليه من عمل وفي كلا النهجين يجب حقاً وعدلاً أن يكون ملزماً بتعويض الضرر.

وهذا النظر الصائب أنسب لحرية الصحافة وأشد انطباقاً عليها من غيرها. وكم تخفق الصحافة في تأدية رسالتها للأمم الحرة، وفي القيام بواجبها على وجهه الصحيح، إذا هي مرت بالطغيان والظلم مرور الكرام، أو ذلت واستكانت فأغمضت عينيها عما يواجهها من سوء استعمال الحق ومن المتصرفات الضارة بالصالح العام. إذ واجب الصحافة أن تترصد الأخبار لتذيعها على الناس، وأن تتعقب الخفاء حتى يبرح، والخبئ حتى يظهر، وأن تواجه الشبه حتى تنجلي، وأن تفصح عن ذلك كله في عبارة حاسمة صريحة، فإذا بالصبح وقد تبين لدى عينين، وإذا هي لا تدين بولاء ولا تنفيذ بواجب إلا للشعب وللشعب وحده لا لأية سلطة تتولى الحكم في البلاد؛ وإذ الطريق الوحيد لكبح جماح الهيئة الحاكمة والحيلولة بينها وسوء استعمال الحق هو أن تذيع على الشعب كيف يتصرف رجال الحكومة بسلطانهم!

ووقتما أصر (مل) ذلك الفيلسوف الحر، على أن يسأل الرجال، وكذلكم الصحافة من باب أولى، لا عما يجترمونه من جرم فحسب، بل عما يترتب على امتناعهم عما يجب عليهم عمله، لم يكن نظره هذا ببعيد عن تلك العبارة الذائعة الواردة في تعاليم الكنسية الإنجليزية، وهي:(لقد عملنا ما كان يجب علينا ألا نعلمه، وأغفلنا عمل ما كامن يجب علينا أن نعمله، وافتقدنا رجاحة العقل وسداد الرأي)؛ وبعبارة أرى قد تكون جرائم الترك هوان للحرية كجرائم العمد

وإذا كان الانتفاع بالحرية والدفاع عنها بحاجة حقاً إلى مجتمع متمدن نشط يصدر في أفعاله عن إرادة حرة وعزيمة صادقة، فليس بأقل من ذلك وزناً ما نحن بحاجة إليه من إعادة النظر في آرائنا وتنقيح مناهجنا فيما ينظم حريتنا على ضوء ما نتبينه من مجريات الأمور وما ينتهي إلينا أو ننتهي إليه من تطور الأحوال وتغير الظروف. ومنذ قرن مضى كانوا يعتبرون ضريبة الدخل التي تستنفذ اليوم على ربع إيراد المواطن الحر، وتلك الواجبات

ص: 32

والالتزامات المتوالية أو المتواترة التي قد يكون من شأنها أن تستأثر الدولة بنصف ما يفيده المواطن من ثروته. نقول إلى قرن مضى كانوا يعتبرون تلك الضرائب والقيود المالية غارة شعواء غير مشروعة على حق الملكية الخاصة وعلى الحرية الشخصية. أما اليوم فقد صارت هذه الضرائب أمراً مقبولاً أو نهجاً مقرراً لا يشق على الناس أمره ولا يتأذون به. ولأقل من عصر مضى تكلموا كثيراً عن حق المنتجين في ابتياع (جني الجهود الطليقة) في (سوق حرة) وكان أغلب ظن أولئك العمال الذين وسعهم أن يفيدوا أجوراً طيبة من بيع جهودهم أنهم قد أمسوا وهم ينعمون بكامل حريتهم؛ وتاريخ حركة الاتحاد العمالي التجاري في هذه البلاد (إنجلترا) هو تاريخ الجهود التي بذلت لتحقيق (هذه الحرية) وإصلاح شأنها عن طريق عقد الصفقات الاشتراكية الرابحة على الرغم من أن حقيقة نظام هذا الاتحاد التجاري ما كانت لتسمح للأفراد بأن يستقلوا عنها ببيع جهودهم مهما كان الثمن الذي يتهيأ لهم الحصول عليه

وما شرع للمصانع من قوانين كان له بلا ريب أثره في التدخل في حرية المنتجين وانتقاصها أصبح اليوم وهو يرى كأمر ضروري لحماية عمال من أي استغلال غير عادي يكون عليهم غرمه وللمنتجين غنمه. ولا زال لدينا من الأسباب ما يحملنا على الظن بأنه سوف يواجهنا يوم يحتاج الأمر فيه إلى إصلاح يعطل حرية المالك في التصرف في ملكه إذا لم يكب للإصلاح النجاح في القضاء على تلك الظاهرة المائلة في إحلال الماكينات محل العمال والقضاء على تلك الأيدي المبسوطة للعمل بان تساق إلى نوع آخر من الرق الاقتصادي وتنتهي بها حاجتها إلى العمل لأن تكابد شقوة البطالة الإجبارية.

للكلام صلة

زين العابدين جمعة

ص: 33

‌بعد منتصف الليل

للأستاذ م. دراج

الدقائق تمر بطيئة، وصبري يوشك أن ينفد، وكلما تطلعت إلى النافذة توهمت أننا أشرفنا على الصباح. . . وتعددت مني اللفتات حتى عز الأمل في انبلاجه أو كاد، فازداد قلقي، واشتد تبرمي بالفراش فنحيت عني الغطاء بعيداً، وفي حركة عصيبة انتصبت واقفاً، وقد صممت على أن أتنفس هواء الفضاء! فما عدت أتحمل قبلاتها الجائعة تنقض عليَّ في غير رحمة؛ لا، ولا موسيقاها الخبيثة تجفل مها الحواس كل غدو ورواح. وخير لي أن يجف دمي من البرد في الطرقات، ولا تمتصه هذه الحشرة الجائعة. ومن يدري؟ ربما قضت على أن ألازم (الملاريا) وأصادقها ولو لمدة أيام!

كنت لا أحمل ساعة، وأنا كذلك دائماً، وكان مبلغ تشاؤمي لا يتعدى أن الوقت حول الخامسة صباحاً. قلت لنفس هذا الوقت المبكر أصلح جويسري عن الإنسان همومه ومتاعبه، فيه تحتفل الطبيعة بالتقاء الليل والنهار فتلبس أبهى حللها، وتغني طيروها أعذب الألحان. وما ضرني لو شاركت الطبيعة أعظم أفراحها وشهدت كيف تمثل قصتها الخالدة عل مسرح الحياة! لا شئ. أجل، لا شئ.

وأسرعت فارتديت ملابسي وهممت بالانطلاق، ولكني غريب عن المدينة، وفي منزل ليس لي فيه كل الحرية، وليس من اللياقة أن أحرج مضيفي، فأجرح عزة نفسه، ولكن ماذا أصنع وهذه حالي، أنام. . .؟ لا أنام! أبقى. . .؟ لا أبقى، هذا مستحيل! إذن لا مفر من الخروج، وإذا كنت غريباً عن المدينة فأنا ضيفها فأنا في الوقت نفسه، وللضيف حقوق ولو حامت حوله الشبهات. . .! بهذا التفسير غير المقنع أقنعت نفسي، وأخذت أدلف من طريق إلى طريق، وأنعطف مع الشارع إلى الميدان متمهلاً في مشيتي لعلي ألمح تباشر الصباح؛ ولكن الطريق خالية، والناس نيام، والسكون يشمل الفضاء، حتى الطير قد أخلد إلى أوكاره، وأسلم نفسه للكرى، والحراس هنا وهنالك في شبه غفوة يحتاجون إلى من يحرس أسلحتهم من أيدي اللصوص الجبناء. . .! والساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل.

ماذا تراني أصنع. . .؟ إني لا أعرف أين يقع الفندق إن كان ثمة فندق يقبلني في هذا القوت، ولا أعرف أيضاً كيف الطريق إلى (استراحة الحكومة) فأنا مشرد من أجل العمل

ص: 34

في خدمة الدولة، والدولة لا يعنيها من أمري شئ. إنها لتكافئني بالحسرة والخسران على ما أبذل من جهد ونصيب، هي ترهقني ليستريح غيري من أرباب الحسب والنسب وذوي الألقاب والأرقام الضخمة وما أشبه هؤلاء في

مراكزهم بأصحاب (العزب والوسايا) أو هم تماماً كالمهرجات في الهند، كلما تضخمت ثرواتهم، هوت على العب نوازل الفقر والخراب، والشعب هنا أمثالي من الموظفين الصغار، (فالقانون المالي) لا يطارد إلا أمثالي بالحرمان من كل شئ، حتى حق الاطمئنان إلى بقائي لأقوم بواجبي في هدوء وانتظام. . .!

لم أوافق على العودة ثانية من حيث فررت، وإن خفت أن يصيبني سوء من طول الوقت واشتداد البرد في الهزيع الأخير من الليل، وأنا رجل يؤثر البرد في جسمه وأعصابي معاً. . .

الساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل، وعليّ أن أظل هكذا أربع ساعات طوال!!

وقبل أن أفكر في حل لسؤالي، لاح لي شبح في الظلام، يمش مشية الحذر ثم يمض مندفعاً إلى الأمام، ثم يتوقف وكأنه جندي يستكشف مواقع الأعداء، وهكذا بدا لي أمره غريباً فحاولت أن استكشف سره.

يا الله! إنها إنسانة تحمل وليداً وقد احتضنته إلى صدرها وألقت وشاحها الممزق على الخرق المهلهلة المحيطة بجسمه. سألتها عن حالها فتوقفت ولم تحر جواباً. . . ثيابها الريفية الممزقة، وروحها الحائرة، وعقدة لسانها الظاهرة وصمتها البليغ وأخيراً ربيع حياتها. . .! كل هذا كشف عن حقيقة حالها، هي تبيع نفسها من أجل المال، المال الذي تشتري به الخبز، هل أعطيها شيئاً مما وهبني الله؟ وهل يحل هذا الشيء مشكلتها؟ لا. . . لن أعطيها شيئاً. . .! ولم أشفق على حالها فأتركها فريسة لمجتمع مملوء بالذئاب الجائعة فقد تتعود الاستجداء في مقابل ما. . .! وليس الناس ملائكة. . .

هذه الإنسانة لها على الدولة حقوق أهونها أن تكسوها وتطعمها، وإلا فكيف يمكن أن تعيش عيشة شريفة في مجتمع يقتتل فيه الناس من أجل المليم؟ وإذا كان الحكام دائماً من الأغنياء الذين لا يتصورن كيف تجوع المعد الآدمية، فلترسل لهم هذه الإنسانة عبرة الحق لعلهم يهتدون. . . وفجأة ظهر الشرطي بعد نومة طويلة بمظهر اليقظ اللبيب فأمسكت أنفاسي

ص: 35

وظهر على شئ من الاضطراب. حاول أن ينال مني بالغمز واللمز، فنهرته بشدة وأنا أعلم أنه سيركب رأسه.

وهناك حيث (ينام) رجال الشرطة على مصالح الناس انتظرت الضابط طويلاً أين هو؟ أين هو؟ لا أدري، ولكني ألمح منطقته تتدلى من المشجب، وسترته تضيء بأزرارها اللامعة فوق كرسي مكتبه. وهو غائب على ثلاث ساعات طوال؛ وتبينت أخيراً أنها زوجة مات عنها زوجها لثلاثة شهور خلت، ولا تدري كيف تقطع الشقة بين الحياة والممات فهامت على وجهها بعد أن أرخى الليل سدوله، تفتش عن رغيف، ولو كسبته عن طريق غير شريف، نتركها بين محاضر التحري تنتظر مستقبلها المجهول.

وعدت إلى الشارع فوجدت الصبح قد غمر المدينة والناس يستقبلون الحياة في معترك لجب ليس فيه حدود، فإذا تساءلت لماذا؟ أجابوك: إنها الحرية التي تقدسها الدولة.

م. دراج

-

ص: 36

‌17 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعادتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تباع الفصل الخامس: الحياة المنزلية

يجهز الطعام بحيث يسهل تناوله بالطريقة السابق وصفها، وهو يتكون في مجموعة من (اليخني): وهو لحم مسلوق وبصل مقطع، أو قليل من البامية أو غيرها من الخضر، و (القاوُرمة): وهو لحم كثير التوابل مع البصل؛ و (ورق محشي): وهو ورق العنب أو الكرنب أو الخس: يحشى بالأرز واللحم المفروم بعد أن يبتلا بالملح والفلفل والبصل وغالباً بالثوم والبقدونس، ويسلق، ومحشي الخيار أو الباذنجان أو القرع الكوسة، و (الكباب): وهو قطع صغيرة من لحم الضأن تشوى على السفود، وبعض الألوان تتألف جميعها أو أغلبها من الخضر مثل: الكرنب والرجلة والإسباناخ والبامية والفول والترمس والحمص والقرع المقسم إلى قطع صغيرة والقلقاس والعدس الخ. ويعد السمك المطبوخ بالزيت كذلك طبقاً مألوفاً، وتطهى أغلب الأطعمة بالسمن لعدم وجود الدهن، وتوضع فيها التوابل بكثرة، ويذوب السمن في الصيف تماماً، ولابد من استعمال اليدين معاً ما يقدم من الطيور. وقد يقوم بهذه العملية حصان معاً كل بيده اليمنى فقط؛ ولكن بعضهم يقوم بذلك وحده بدون مساعدة وبيد واحدة، ولا يقبل بعض العرب لمس الطعام - على أي حال - بيسراهم إلا إذا كانت يمناهم مبتورة. وليس من غير المعتاد أن تقدم الطيور المنزوع عظامها المحشوة بالزيت والفستق والخبز المفتت والبقدونس، أو حمل بأكمله محشواً بالفستق الخ؛ وهنا يسهل نزع اللحم بيد واحدة. وكثيراً ما تخلط الحلوى باللحم مثل: العناب والخوخ والمشمش الخ والسكر مع اليخني؛ وكثيراً ما تقدم مختلف أصناف الحلوى دون مراعاة نظام خاص بالنسبة للأصناف الأخرى. ومن أصناف الحلوى المحبوبة الكنافة: وتصنع من دقيق القمح

ص: 37

- وهي أدق من الشعرية - وتقلى بالسمن وتحلى بالسكر أو العسل. ولا تخلو المائدة من البطيخ في موسمه: وهو يقطع قبل الأكل وبترك في الهواء ليبرد بالتبخر، ولكن يجب ملاحظته حتى لا ينفث الثعبان سمه فيه، لأن الثعبان - على حد قولهم - يحب البطيخ حباً شديداً، ويشم رائحته على مسافة بعيدة. والبطيخ كثير في مصر كثرة زائدة، وهو غالباً لذيذ الطعم. وآخر طبق يقدم الأرز المفلفل (بيلاف الأتراك) ويوضع عليه الزبد ويبتل بالملح والفلفل، إلا أن كثيراً ما يتبعه - على موائد الأثرياء - (خشاف): يتكون عادة من الماء والزبيب المسلوق فيه ويحلى بالسكر ثم يضاف إليه عند ما يبرد من ماء الورد. وكثيراً ما يحل البطيخ محله.

ويأكل المصريون باعتدال ولكن بسرعة، وحالما ينتهي أحدهم يحمد الله ويقوم دون أن ينتظر الآخرين، فيقدم له الخادم الطست والإبريق ليتسل يديه وفمه بالصابون والماء كما سبق

ولا يشرب المصريون على الأكل غير الماء. وقد يقدم على مائدة الأغنياء (الشربات) التي سأصفها الآن. ولا يشرب العرب على الأكل إلا قليلاً من الماء، أو لا يشربون مطلقاً، وهم على العموم يتناولون جرعة كبيرة بعد الأكل مباشرة. ويمتاز ماء النيل بحلاوة؛ ولكن ماء الآبار، في القاهرة وغيرها، يميل إلى الملوحة. ويشرب الماء إما في أوعية من الفخار أو طاسات من النحاس وأوعية الفخار نوعان:(الدوق)(شكل 39) و (القلة)(شكل40) والأول ذو حلق ضيق، والثانية حلقها واسع. وهما م صلصال ذي مسام يبرد الماء برودة لذيذة بالتبخر. وهما يوضعان لذلك في تيار الهواء. وكثيراً ما يسود داخل الوعاء بدخان الأخشاب الصمغية، ثم يعطر بدخان خشب (القَفَل) والمصطكا. ويستعمل لهذا الغرض وعاء صغير من الفخار يسمى مبخرة (شكل 41) يوضع فيه الفحم اللازم لحرق الخشب والمصطكا، ثم تعلق القلة أو الدورق مقلوباً فوقه. ويشد حول رقبة الدورق خرقة على بعد بوصة من الخلق لمنع السناج أن ينتشر بعيداً على خارج الوعاء. وكثيراً ما يوضع أيضاً قليل من ماء زهر البرتقال فيكسب الماء طعماً لطيفاً. وللأوعية سدادات من الفضة أو النحاس أو القصدير أو الخشب أو أغطية من السعف المجدول. وهي توضع في صينية يسقط فيها الماء الراشح. وكثيراً ما تستعمل الأوعية الصينية (شكل 42) في الشتاء عوضاً

ص: 38

عن الفخار حتى لا يبرد الماء برودة شديدة ويبين (الشكل رقم 42) كاستي الشرب الأكثر شيوعاً. وبعض الكاسات ينقش في داخلها آيات قرآنية، ولم أر ذلك كثيراً. ويبسمل الشارب قبل الشرب ويحمد الله بعده، فيقول له من الأصدقاء الحاضرين: هنيئاً، فيرد عليه: هناك الله.

وبالرغم من إشارة قصص ألف ليلة وليلة إلى مائدة المدام فإن المصريون المسلمين في هذا العصر لا يقدمون النبيذ في المجتمعات العامة في أي وقت من الأوقات على العموم. إلا أن الكثيرين لا يمتنعون عادة عن شرب النبيذ مع الأصدقاء المقربين. وحينئذ لا يدخل الخادم غير الندامى أما غيرهم فيقول لهم: إن السيد ليس بالدار أو أنه في الحريم. وهؤلاء يحتسون النبيذ أثناء العشاء وقبله وبعده ويستحق قبل العشاء لأنه على حد قولهم يثير الشهية وقد أخبرني صديق مسلم تاب عن الخمر بعد إدمان (ولا يمكنني أن أتحدث في هذا الموضوع عن تجربة لأنني لم أشرب النبيذ أبداً فلم يدعني مسلم قط إلى ندوة شراب) أن مائدة المدام تتألف من صينية مستديرة أو طبق زجاجي توضع على الكرسي ويصف عليها إبريقان للنبيذ والعنبر أو أكر من إبريق معاً أحياناً وعدة أكواب صغيرة وصحن صغير فيه فاكهة يابسة وطازجة أو مخللات أحياناً، وأخبراً شمعتان وغالباً ياقة زهر تثبت في شمعدان أو توضع على الصينية.

ويصنع المصريون عدة أصناف من (الشربات) وأكثرها شيوعاً الماء المحلى بالسكر فقط ويكون زائد الحلاوة (والليموناتة) أو شراب الليمون نوع آخر، وهناك صنف ثالث أحب إلى النفس وهو شراب البنفسج ويكون بسحق زهر البنفسج ووضعه مع السكر في الماء وتركه على النار حتى يغلي، وهذا الشراب أخضر اللون، وشراب التوت والحميض والزبيب الذي يباع في الشوارع، والعرق سوس والخروب، ويقدم الشراب في أكواب مغطاة تسمى الواحدة على العموم (قلة)(شكل 43) وبعض المألوف من هذه الأكواب يزين بزخارف مذهبة من الزهور وغيرها وهي توضع على صينية مستديرة مغطاة بقطعة من الحرير المطرز أو الجوخ المرصع بالذهب، ويعلق على ذراع الخادم فوطة مستطيلة الشكل عريضة الحاشية المرصعة بالذهب والمطرزة بالحرير الملون، ومن الجلي أنها تقدم لمسح الفم بعد الشراب، ولكنها في الواقع تتخذ للمباهاة أكثر منها للاستعمال

ص: 39

يمض المصريون ما بين وجبة المساء وصلاة العشاء في التدخين وشرب القهوة، ويستأذنون لذة التدخين بعد فراغهم من الصلاة. وقد يلعبون الضامة أو الشطرنج أو غير ذلك، أو على الأقل يتسامرون فينقضي الوقت دون أن يشعروا بأدنى ضيق. ويقضي أفراد العائلة المصرية وقتهم عندما تسمح الظروف في حبور وبهجة ولكن في هدوء. وكثيراً ما قوم الرجال بزيارة أصدقائهم ليلاً وقت العشاء أو بعد ذلك، ويستضئيون أثناء خروجهم بمصباح مستدير مموج الجوانب يسمى فانوس، ويصنع من النسيج المشمع المشدود إلى حلقات من السلك بينما أعلاه وأسفله يصنعان من النحاس المبيض. وترى هذا النوع في الشكل رقم 44، وبجانبه النوع الشائع وهو القنديل بغطائه الخشبي العادي الذي يقيه شبه الهواء. وهذا القنديل وعاء زجاجي صغير ذو أنبوبة في قاعة، يدخل فيها ذبالة من القطن تلف على عود من القش. ويصب فيه الماء ثم الزيت وكثيراً ما يعلق القنديل على مدخل المنازل. ويخيم على داخل البيوت أثناء الليل جو قاتم ثقيل. ويكفي لإنارة الأبهاء الواسعة العالية ضوء شمعة أو شمعتين على الأرض أو على كرسي؛ وقد تحاطان بوقاد زجاجي كبير، أو توضحان في مصباح من الزجاج لأن النوافذ من الخشب المشبك. والقليل من المصريين من يسهر أكثر من ثلاث ساعات أو أربع صيفاً بعد غروب الشمس (إذا أن الوقت يحسب عندهم من الغروب) وكثيراً ما يسهرون خمس ساعات أو ستا في الشتاء.

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 40

‌رسالة الشعر

قصيدة العقاد في (مي)

أين في المحفل (مَيٌّ) يا صِحاب

عودتنا هاهنا فصل الخطاب

عرشها المنبر مرفوع الجناب

مستجيب حين يُدْعى مستجاب

أين في المحفل (مي) يا صحاب؟

سائلوا النخبة من رهط الندىْ

أين مي؟ هل علمتم أين مي؟

الحديث الحلو واللحن الشجيْ

والجبين الحر والوجه السنىْ

أين ولى كوكباه؟ أين غاب؟

أسف الفن على تلك الفنون

حصدتها، وهي خضراء، السنون

كل ما ضمته منهن المنون

غصص ما هان منها لا يهون

وجراحات، ويأس، وعذاب

شيم غرٌّ رضيات عِذاب

وحِجى ينفذ بالرأي الصواب

وذكاء ألمعي كالشهاب

وجمال قُدُسي لا يعاب

كل هذا في التراب! آه من هذا التراب!

كل هذا خالد في صفحات

عطرات في رباها مثمرات

إن ذوت في الروض أوراق النبات

رفرفت أوراقها مزدهرات

وقطفنا من جناها المستطاب

من جناها كل حسن نشتهيه

متعة الألباب والأرواح فيه

سائغ مِيز من كل شبيه

لم يزل يحسبه من يجتنيه

مفرد المنبت معزول السحاب

الأقاليم التي تنميه شتى

كل نبت يانع ينجب نبتا

من لغات طوقت في الأرض حتى

لم تدع في الشرق أو في الغرب سَمتا

وحواها كلها اللب العُجاب

يا لذاك اللب من ثروة خصب

نير يقبس من حس وقلب

بين مرعى من ذوي اللباب رحب

وغني فيه وجودٍ مستحب

ص: 41

كلما جاد ازدهى حسنا وطاب

طلعه الناضد من شعر ونثر

كرحيق النحل في مطلع فجر

قابل النور على شاطئ نهر

فله في العين سحر أي سحر

وصدى في كل نفس وجواب

حي (ميا) إن من شيع ميا

منصفاً حياً اللسان العربيا

وجزى حواء حقاً سرمديا

وجزي ميا جزاء أريحيا

للذي أسدت إلى أم الكتاب

للذي أسدت إلى الفصحى احتسابا

والذي صاغته طبعاً واكتسابا

والذي خالته في الدنيا سرابا

والذي لاقت مصابا فمصابا

من خطوب قاسيات وصعاب

أتراها بعد فقد الأبوينِ

سلمت في الدهر من شجو وبين

وأسى يظلمها ظلم الحسين

ينطوي في الصمت عن سمع وعين

ويذيب القلب كالشمع المذاب

أتراها بعد صمت وإباء

سلمت من حسد أو من غباء

ووداد كل ما فيه رياء

وعداء كل ما فيه افتراء

وسكون كل ما فيه اضطراب

رحمة الله على (مي) خصالا

رحمة الله على (مي) فعالا

رحمة الله على (مي) جمالا

رحمة الله على (مي) سجالا

كلما سُجل في الطرس كتاب

تلكم الطلعة ما زلت أراها

غضة تنشر ألوان حلاها

بين آراء أضاءت في سناها

وفروع تنهادى في دجاها

ثم شاب الفرع والأصل، وغاب

غاب والزهرة تؤتي الثمرات

ثمرات من تجاريب الحياة

خير ما يؤتي حصاد السنوات

بعثرتهن الرياح العاصفات

ورمتهن تراباً في خراب

ص: 42

ردَّ ما عندك يا هذا التراب

كل لب عبقري أو شباب

في طواياك اغتصاب وانتهاب

خلقاً للشمس أو شم القباب

خلقا لا لانزواء واحتجاب

ويك! ما أنت برادٍّ ما لديك

أضيع الآمال ما ضاع عليك

مجد (مي) غير موكول إليك

مجد (مي) خالص من قبضتيك

ولها من فضلها ألف ثواب

عباس محمود العقاد

ص: 43

‌قصيدة مطران في (مي)

قد تولى رفاقُنا وبِقينا

يعلم الله بعدهم ما لِقينا

هل من الصاب في كؤوسك سُؤرٌ

قد سقينا يا دهر حتى روِينا

أوداع يتلو وداعاً وتأبين

على الإِثر معقبٌ تأبينا

أيها الشاعر الذي كان حيناً

يتغنى وكان ينحَب حينا

حطِّم العود، إن كر الليالي

لم يغادر في العود إلا الأنينا

أن يُلمَّ الردى بَميّ وأن يط

فئَ مصباحها أليس غبينا؟

طالع السعد كيف بدل نَوْءا

يبعث الريح والسحاب الهتونا

فإذا ما أقرَّ أمسِ عيونا

قَرَّح اليومَ بالدموع عيوناً

نعمة ما سخا بها الدهر حتى

آب كالعهد سالباً وضنينا

أبهذا الثرى ظفرت بحسن

كان بالطهر والعفاف مصونا

لهف نفسي على حِجيً عبقري

كان ذخراً فصار كنزاً دفينا

إيه يا مي أسرف اليتم تبري

حاً بروح كان الوفيَّ الحنونا

فقدك الوالدين حالا فحالا

جعل البيض من لياليك جُونا

ورمى أصغريك رامي الكبير م

ن فذاقا المنون المنونا

أقفر البيتُ، أين ناديك يام

ي إليه الوفود يختلفونا

صفوة المشرقين نبلا وفضلا

في ذراك الرحيب يعتمرونا

فتساق البحوث فيه ضروباً

ويدار الحديث فيه شجونا

وتصيب القلوب وهي غِرَاثٌ

من ثمار العقول ما يشتهينا

في مجال الأقلام آل إليك أجلس

بق في المنشئات والمنشئينا

في لغات شتى وفي لغة الضا

د تجيدين صوغ ما تكتبينا

أدب قد جمعت فيه علوما

يخطئ الظن عَدها وفنونا

وتصرفت فيه نظما ونثرا

باقتدار تَصرَّفَ الملهمينا

تبتغين الصلاح من كل وجه

وتعانين شقوة المصلحينا

وحي قلب يفيض بالحب للخير

ويهدي إليه من يهتدونا

ويود الحياة عزا وجهدا

لا يود الحياة خسفا ولينا

ص: 44

فهو آنا يبث بثاً رفيقاً

يملأ النفس رحمة وحنينا

وهو آنا يثور ثورة حر

عاصفاً عصفة تدك الحصونا

ينصر العقل، يكشف الجهل، يوحي ال

عدل، يرعى الضعيف والمسكينا

أين ذاك الصوت الي يملك الأس

ماع في كل موقف تقفينا

فُجِع الشرقُ في خطيبته الفص

حى وما كان خطبها ليهونا

أبلغ الناطقات بالضاد عَيَّت

بعد أن أدت البلاغ المبينا

أطربته وهذبته وحثت

هـ على الصالحات دنيا ودنيا

بكلام مفصل زانت الحك

مة فيه البيان والتبيينا

قدرته لفظاً ولحظاً وإيما

ء بما ودت المنى أن يكونا

ذاك في العيش ما شغلت به وال

غيد تلهو وأنت لا تلهينا

لم ترومي إلا الجليل وجانب

ت الأباطيل واتقيت الفتونا

وجعلت التحصيل دأباً وآتي

ت جناه فطاب للمجتنينا

فعليك السلام ذكراك تحيا

وبرغم البعاد لا تبعدينا

خليل مطران

-

ص: 45

‌البريد الأدبي

المجمع اللغوي والإنتاج الأدبي

طلب مجمع فؤاد الأول للغة العربية إدراج ثمانمائة جنيه في ميزانية السنة المقبلة لتشجيع الإنتاج الأدبي. وسيخصص نصف هذا المبلغ للممتازين في الآثار الأدبية التي يقرر المجمع أنها تستحق الجوائز، ويخصص النصف الآخر لجائزتين يمنحهما الأول والثاني في فرع من الفروع التي يطلب إلى الأدباء المسابقة فيها.

وعلى اللجنة المؤلفة لهذا الغرض أن تحدد كل عام في شهر فبراير النوع الأدبي للمسابقة وشروطها. فأما الآثار التي تجاز أو ينوه بها، فهي التي يتحقق فيها أن يكون الأثر مظهراً للإنتاج المستقل، وأن يأتي في بفائدة محققة، وألا يكون قد سبق نشره قبل السنة التي تتناولها التقارير. وستضع هذه التقارير فرعية من اللجان العامة، واحدة للشعر، وثانية للقصة والرواية، وثالثة، للمقالات والبحوث الأدبية من نقد وتاريخ ونحو ذلك.

وعلى كل لجنة فرعية أن تنتهي الإنتاج الأدبي في الفرع الذي أسند إليها، وأن تقدم تقريرها في شهر ديسمبر من كل سنة بملاحظاتها العامة على سير الحركة الأدبية في مصر والعالم العربي في هذا الفرع، وعلى ما يمكن أن يكون ممتازاً من الإنتاج امتيازاً يقتضي تشجيع صاحبه معنوياً أو مادياً. ثم تدرس اللجنة العامة هذه التقارير في شهري ديسمبر ويناير، وتعرض تقريرها على مجلس المجمع في شهر فبراير، ثم يعقد المجمع جلسة علنية في شهر مارس تعلن فيها القرارات وأسبابها، وينوه فيها بما استحق التنويه من الآثار الأدبية.

هذا وقد نص على أنه لا يجوز لأعضاء المجمع أن يشتركوا في المسابقات أو ينوه بآثارهم. وسيمضي المجمع في تحقيق هذا المشروع بعد الموافقة على إدراج المبلغ المذكور في الميزانية.

المؤتمر العربي للتعليم

تضمن تقرير اللجنة الفرعية لمؤتمر التعليم في البلاد العربي، الكلام عن أغراض هذا المؤتمر وبرامجه ولجانه.

فقيل عن المقصود به إنه أول حلقة من سلسلة المؤتمرات لبحث الأسس التي تقوم عليها

ص: 46

أنظمة التعليم والمشكلات المشتركة بين البلاد العربية والسياسية العامة التي يجب وضعها للسير بمقتضاها، وأن من أغراضه وضع الأسس التي يقوم عليها التعليم نفسه، وكذلك الوسائل العلمية التي تحقق الغايات السالفة بين مختلف البلاد العربية.

أما برنامجه فيخلص في القيام بالبحوث التالية:

- واجب الدولة بالنسبة إلى التعلم الأولى والعام.

- أغراض التعليم الثانوي ووسائل تحقيقها.

- مدى تأثر التعليم بالروح العربية.

- تعليم اللغات الأجنبية.

- مدى المركزية في التعلم.

- كذلك يشمل البرنامج الكلام عن البعثات وتبادل الطلاب والأساتذة وعن المؤسسات الثقافية، والزيارات العلمية والرياضة، وتوحيد المصطلحات المدرسية، وبحث المعادلة بين الشهادات.

وقد تقرر أن يدعي إلى هذا المؤتمر كل من: العراق وسورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن والحجاز واليمن والسودان

وتقرر أن يفتح باب الاشتراك للهيئات والأفراد من مختلف البلاد، سواء أكانت هيئات لها صبغات رسمية أم غير رسمية

واقترح تأليف إحداهما لوضع الترتيبات الخاصة بهذا المؤتمر، والأخرى لتحضير أعماله الفنية

كذلك اقترح أن يطرح على هيئة المؤتمر تأليف لجنة دائمة للعمل على تحقيق أغراضه طبقاً لما يستقر عليه رأي المؤتمرين.

في المجمع العلمي العربي بدمشق

(أ) كنا ذكرنا منذ شهور أن الأساتيذ أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق قد انتحبوا جميعاً الأستاذ العلامة محمد كرد علي رئيساً للمجمع المذكور. وقد عادوا فانتخبوا منذ أمد قصير الشيخ عبد القادر المغربي نائباً للرئيس، والأستاذ خليل بم أميناً للسر)

والأستاذ المغربي أشهر من أن ينوه بلغوياته وآرائه وهو من أعضاء المجمع اللغوي في

ص: 47

مصر. الأستاذ مردم بك فقد جمع إلى أدب الدرس ورقة الشاعرية النبل وأدب النفس، وهو أرفع من شغل هذا المنصب في المجمع العلمي.

(ب) كانت المحاضرة الثانية من محاضرات المجمع للأستاذ الشيخ نائب الرئيس عنوانها بـ (غريب اللغة في البرشان)، وقدم لها بكلام طويل على ضرورة التسامح في قبول الكلمات الأجنبيات التي لا ينبو عنها السمع أو يأباها الذوق. . . وهو أخذاً بذلك جعل البرشان في عنوان محاضرته. ثم فسر معنى هذه الكلمة، وقرأ ما أرسله إليه أحد أصدقائه من أخبار أهل الكتاب في القدس عنها، ويبين أنه يريد أن يجعل غريب اللغة في أسلوب يسهل على السامع أو القارئ هضمه وقبوله، كما يجعل الدواء المر ضمن (برشانة) ليسهل ابتلاعه. وقد عمد الأستاذ إلى الكلمات الغربية فنسج حولها أقاصيص صغيرة تفهم بها وتحفظ. وقد (برشن) الأستاذ عدداً من غرائب الكلمات سرت الحاضرين وأضحكتهم. وهاكم أنموذجاً منها قال الأستاذ:

(كل خبر من أخبار العرب أو لفظ من ألفاظهم له علاقة بالبحر أو بالملاحة يكون في الغالب مرورياً أو محكياً عن قبائل عرب عُمان، الساكنين على شاطئ البحر والحاذقين بصناعة البحر. غير أنهم لبعدهم عن بلاد مضر، كان لهم لهجة خاصة بهم، ويستعملون ألفاظاً من العربية لا يعرفها الحجازيون. فترى علماء اللغة إذا نقلوا كلمة من لهجتهم عبروا عنها بقولهم: إنها كلمة عمانية أو لغة عمانية. ففي المخصص (ج 9، ص 146):

(القذف غرف الماء وصبُّه بلغة عمان). وقذاف بوزن غراب معناه الغرفة الواحدة من الماء. . .

ومن ملوك عُمان (الجَلَنْدي)، قال إنه هو الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً كما جاء في التنزيل، وقد كان ظالماً حتى ضرب بظلمه المثل قال الشاعر:

كان الجلندي ظالماً

وأنت منه أظلم

وكان للجلندي هذا بنتُ أميرة في نسبها وأصلها، غير أنها بلهاء في تصرفها وعقلها. وكان يحمقونها، وقد اشتهرت على ألسنة اللغويين باسم (العُمانية بنت الجلندي)

ذكروا في حماقتها أنه كان لها غيلمة أي سلحفاة بحرية، أرادت يوماً أن تلهو بها فألبستها حُلي زينتها، وسرحتها تمرح في حدائق قصرها، وغفلت عنها، فهرولت الغيلمة إلى البحر

ص: 48

وقَمست فيه أي غاصت (والقَمس الغوص ومنه القاموس الذي معناه البحر!) وبعد هينهة تفقدت الأميرة سلحفاتها فلم تجدها وتيقنت أنها قمست في البحر. فنادت جواريها ليساعدنها في نزف ماء البحر واسترداد الغيلمة الآبقة، فجعلت وجعلن يغترفن ماء البحر بأكفهن ويصيبنه على رمل الساحل. وكانت الأميرة كلما آنست من جواريها فتوراً وضجراً حمستهن قائلة (نزافِ نزافِ، لم يبق غير قُذافِ) ونزاف اسم فعل أمر بمعنى أنزف، والنزف أن تنزح ماء البئر أو الحوض كله. أما معنى قداف فالغرفة الواحدة توهمن أنهن قاربن الانتهاء.

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

تحرز مفسر عن التكفير في رأي خطير:

يجازف كثير من الناس في هذه الأيام بتفكير أصحاب الآراء الجديدة في الدين، ولا يكتفون بتخطئتها، وترك عقيدة أصحابها لمن هو أدرى بها منهم، ونحن نسوق لهم هذا المثل من تفسير غرائب القرآن لنظام الدين النيسابوري، ليعرفوا كيف كان سلفنا الصالح يقابل الآراء الجديدة بالهدوء اللائق بكرامة العلم، ويحاول ردها في لين ورفق، فلا يقم في ذلك مناحة باسم الدين، ولا يجازف بالتكفير والتضليل كما نجازف اليوم. وقد جاء هذا الرأي الخطير في تفسير الآيات الواردة في قصة داود وسليمان من سورة سبأ، وفيها ذكر تسخير الجبال وتسبيخها مع داود، وتسخير الرياح والشياطين لابنه سليمان، وكذلك إلانة الحديد وإسالة القطر، فقال النيسابوري: زعم بعض المتحذلقين أن المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت تسبح كما يسبح كل شئ بحمده، وكان هو عليه السلام يفقه تسبيحها فيسبح، والمراد من تسخير الريح أنه راض الخيل وهي كالريح، والمراد من إلانة الحديد وإسالة القطر أنهم استخرجوا الحديد والنحاس بالنار واستعمال آلاتها، والمراد بالشياطين ناس أقوياء ولا يخفي ضعف هذه التأويلات، فإن قدرة الله في باب خوارق العادات أكبر وأكمل من أن تحتاج إلى هذه التكلفات.

فالجمهور يرى هذه الأشياء أنها كانت معجزات لداود وسليمان عليهما السلام، ويفهمها على

ص: 49

ظاهرها من الدخول في باب خوارق العادات، فلما ساق النيسابوري ذلك الرأي الذي يخرجها من هذا الباب، لم يفعل إلا أن جعله حذلقة لا داعي إليها، لأن قدرة الله أكمل م تحتاج إلى مثلها، والحذلقة يا معشر الناس شئ غير التكفير والتضليل، وإنما يقال - حذْلق - إذا أظهر الحذق أو ادعى أكثر مما عنده كما فعل هذا المتحذلق.

ولو أن مثل ذلك الرأي ظهر في عصرنا لقامت له الدنيا وقعدت، وامتلأت صفحات الجرائد والمجلات بألفاظ الكفر والضلال والإلحاد والزندقة، وما إلى هذا من الألفاظ المؤذية، وشر الإيذاء ما يتعلق بالعقيدة.

فهل لكم يا معشر المجازفين بتكفير الناس أن تنتفعوا بسوق هذا المثل، وان تقتدوا بما فيه من الظرف واللباقة في الرد، فقد سئم العقلاء جدلكم النابي في الدين، لأنه يضر ولا نفع، ويبغض في الدين أكثر مما يحجب، ولهذا أمرنا أن نجادل بالتي هي أحسن.

عبد المتعال الصعيدي

1 -

نص خطير

أكثر المفسرين على أن الآية الكريمة (وقرن في بيوتكن) خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن الإمام القرطبي يقول في تفسيره الجامع: (معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت وإن كان الخطاب لنساء النبي (ص) فقد دخل غيرهم بالمعنى - هذا لو لم يرد دليل في جميع النساء - فكيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة). انتهى

2 -

جاء في كتاب أحكام القرآن للإمام أبي بكر بن العربي

في سورة التوبة: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره

حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعقلون)

نفى الله عنهم العقل لنفي فائدته من الاعتبار والاستبصار، وقد

ينتفي الشيء بانتفاء فائدته، إذ الشيء إنما يراد لمقصوده، فإذا

ص: 50

عدم المقصود فكأنه لم يوجد. . . الخ

والصواب: (لا يعلمون) بدل (لا يعقلون). فالتفسير غلط في غير موضعه

أحمد صفوان

ص: 51