المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 442 - بتاريخ: 22 - 12 - 1941 - مجلة الرسالة - جـ ٤٤٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 442

- بتاريخ: 22 - 12 - 1941

ص: -1

‌على ذكرى (عيد الميلاد)

بعد ثلاثة أيام تتجدد ذكرى (مولد المسيح) فيقف أبناء (قابيل) آلة الحرب؛ ثم يخرون جاثين لله في الثكنات والمطارات والبوارج والخنادق والمخابئ والكنائس يرتلون حاسرين نشيد السلام المأثور:

(المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام!)

فإذا أصبحوا انقلبوا سراعاً إلى آلات الفناء فأرسلوا منها الصواعق على إخوانهم الذين هتفوا معهم بالمجد لله في السماء، وبالدوام للسلام على الأرض! فسحقوهم أو أحرقوهم على رمال لوبيا، وفوق ثلوج روسيا، وبين أطباق الهواء، وتحت أعماق الماء؛ كأنما اختلت الدنيا، واختبلت الناس، وانقلبت المعاني، فصار الدين معناه الكفر، والسلام معناه الخصام، والمفاوضة معناها الختل، والمعاهدة معناها الغدر، والأخوة معناها العداوة؛ وأصبح هذا الكوكب بقاراته ومحيطاته وسكانه كرة من النار تتقاذفها الأرجل الحديدية بين فريق هتلر وموسولينى والميكادو، وفريق تشرشل وروزفلت وستالين. ولا يدري إلا الله من سيقذفها في (الجول)؛ وما الجول هنا إلا عبودية الأبد أو حرية الأبد!

كان العالم المسيحي في مختلف أقطاره يجدد بعيد الميلاد ما أنطمس في نفسه من معاني المودة والرحمة والأسرة والطفولة، فيصل بالتزاور ما انقطع من أسباب القرابة، ويؤكد بالتهادي ما وهي من عرى الصداقة؛ وكان الميكادو على وثنيته يقوم بدور الشيخ الطيب (نوبل)، فيحمل اللعب من اليابان بأبخس الأثمان إلى كل بيت فيه طفل؛ فلما صُلِبت المسيحية في أوربا على صليب النازية المعقوف، انتكست الطباع وانعكست الأوضاع، وانكفأ بعض الشعوب إلى البربرية الأولى، يغالبون بعصبية الجنس، ويسودون ببأس الحديد. وجامل الميكادو في الشر كما جامل في الخير، فترك دور الشيخ (نوبل) وقام بدَور الأب (فويتار)، فاستبدل بلعَب الأطفال من صور الدبابات والطائرات والسابحات، قطعاً كالجبال من الحديد والبارود تدك مدائن البر، وتبتلع جزائر البحر، وتشعل النار فيما بقى من أطراف الأرض، حتى أوشك أن يجاوز الصواب قول الفلكيين إنها كوكب مظلم!

بعد ثلاثة أيام تعاود الناس ذكرى ليلة الميلاد وهم من تفاعل المذاهب والقرون في رجفة من الصراع الماحق توشك أن تقيم عليهم القيامة. وسيذكر الشباب المجندون لمجالدة الحق أو مجاهدة الباطل أنهم كانوا في مثل هذه الليلة أمام المواقد أو حول الموائد قرة عيون

ص: 1

وزينة بيوت، وأنهم في هذا اليوم يستقبلون عيد الحياة وهم مشردون في مجاهل الأرض ومساقط الموت لا يعرفون متى يصرعون ولا أين يقبرون. ثم يقول هذا الشباب الريَّق الريان لنفسه: أبعد الترتيب والتهذيب والعيش الناعم والأمل الباسم والغد المرجو نصير طحيناً لهذه الرحا الهائلة من غير سبب موجب إلا نزوة من نزوات الطيش، في رأس رجل من طلاب العيش؟!

أما الستة الذين يحاولون أن يقرروا مصير العالم على مشيئة الله أو على هوى الشيطان، فسيذكرون بمولد المسيح أشياء أُخَر: سيذكر هتلر بيلاطس وديقليانوس، والدتشي يهوذا ونيرون. وسيذكر رزفلت بولس، وتشرشل قسطنطين؛ أما استالين إن ذكر فسيذكر لوثر؛ وأما الميكادو فلا يذكره العيد معنى من حياة المسيح، ولا مغزى من تاريخ المسيحية؛ إنما يذكره تلك اللعب التي كان يقدمها إلى لهو الأطفال ليربح من ورائها القروش، فأصبح اليوم يقدمها إلى قتل الرجال ليربح من ورائها الممالك!

سبحانك ربَّ السموات والأرض! ما كان لنفس مؤمنة أن تحسبك تركت أمر هذا العالم لهؤلاء الحمقى من خَلقك.

لا جرم أن لك من هذه القارعة الصغرى حكمة تدق على بصيرة ابن آدم

إن مع القيامة نشوراً أكمل وحياة أفضل. كل نظام سنه ابن العاصي سيتغير، وكل قانون نزغ فيه الشيطان سيلغى. لن يبقى يا مولاي غير شرعك، ولن يدوم غير دينك

وكَلْت ابن آدم إلى نفسه فجرب قواه كلها في تدبير أمره وتسخير غيره، فما أنتج غير الاضطراب والخراب والفوضى.

تبجح بعلمه وتشريعه وفلسفته؛ وزعم أنه هيمن على الغريزة بقوة الخلق، وسيطر على الطبيعة بسلطان العلم، وتوهم أنه يستطيع بما كشف من الأسرار وذلل من القوى أن يصنع مفاتيح الغيب ويقتحم أبواب القدر؛ فلما ابتليته بتحقيق زعمه وتطبيق فهمه، تحرك في طبعه الطين الراسب، وتيقظ في نفسه الحيوان الراقد، وتألبت الأهواء على رأيه فاضطرب وتفرق، وتغلبت المطامع على جمعه فتنازع وتمزق!.

رباه إنا مؤمنون، وإنا مطمئنون! فأدام علينا نعمة الهداية، واكفنا شرّ هذه الغواية، واجعلنا الإدلاء على طريقك، والأمناء على حقك، حتى تنجلي هذه الغمة عن الدنيا، فيرجع إليك

ص: 2

النوى، ويخضع لك القوى، ويلوذ بك الضعيف!

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

ديوان حافظ إبراهيم

للدكتور زكي مبارك

تمهيد - اهتمام العرابي باشا بنشر آثار الأدب الحديث - شرح ديوان حافظ والنص على (محاسن) الشارحين - درس الديوان - توجيهات أدبية - المحدث حافظ إبراهيم - ما هو السر في انتصار شوقي على حافظ؟ وما قيمة حافظ على وجه التحديد؟

تمهيد:

لما شعر (شوقي) رحمه الله بأن الشيخوخة بدأت تراوحه وتغاديه أقبل بجدّ على طبع (الشوقيات) ليأمن الخوف على شعره من الضياع قبل أن يموت.

واتفق بعد ظهور الجزء الأول والثاني من (الشوقيات) أن قضيت ساعة مع (حافظ) في منزل السيد حسن القاياتي فاقترحت عليه أن يجمع أشعاره على نحو ما صنع شوقي، فأجاب بعبارة تنذر بالتسويف، ويرجع ذلك إلى أن (حافظ) لم يكن يملك من الصبر على المراجعة بعض ما كان يملك (شوقي)، فقد كانت حياته اليومية مهدًّدة بالقلق، وكان لا يجد الأنس، في غير الانتقال من مكان إلى مكان، ليخرج من عزلته البيتية بمحادثة من يصادف من الرجال.

وبعد أن انتقل حافظ إلى جوار الله في صيف سنة 1932 قام جماعة من أصدقاءه وقرروا الاحتفال بذاكره، وكانت لهم يومئذ مشروعات عظيمة، منها تأليف كتاب في إظهار عبقريته يشترك فيه فحول الباحثين؛ ومنها طبع ديوانه، وإقامة قبره على قواعد عالية تذكّر الناس بمنزلته السامية؛ ومنها دعوة الأدباء في سائر الأقطار العربية للاشتراك في حفلة التأبين، إلى آخر ما يجود به الخيال في مثل تلك الحال.

وفي ذلك العهد كتبت كلمة (البلاغ) قلت فيها أن تلك القرارات لن ينفذّ منها شيء، ورجوت أصدقاء (حافظ) أن يقفوا وفاءهم على عمل واحد وهو طبع الديوان، فقد كنت أعرف أن أدبائنا في اغلب أحوالهم رجال أقوال، لا أعمال وهل صنعوا شيئاً في إنقاذ ما ترك (زكي باشا) من الآثار الأدبية، وفيها نفائس قد لا يجود بمثلها الزمان؟ وهل تضنهم يلتفتون إلى

ص: 4

جمع ما تبددْ من آثار (محمد مسعود)؟.

لم يصنع أصدقاء حافظ شيئاً يؤكد الوفاء لذلك الروح الوهاج ولكن الله لم يشأ أن يضيع حافظ في هذه البلاد، فكانت تلك الالتفاتة الكريمة من وزير المعارف الأسبق، (علي زكي العرابي باشا)، الألتفاتة التي قضت بأن يُطبع ديوان حافظ على نفقة وزارة المعارف، وأن يكون ظهوره بداية لطائفة من المطبوعات تُحي ما يُخاف عليه من آثار الشعر الحديث، فقد كان من العجب أن تكون مصادر الأدب في القرن الثاني أقرب إلى الأيدي من مصادر القرن الرابع عشر، وتلك ظاهرة لا نسكت عنها إلا كارهين.

وفي هذا المعنى كتبت في جريدة المصري مقالاً جاء فيه:

(أن العرابي باشا أخذ جزاءه الأوفى يوم ظهر ديوان حافظ، فقد استطاع أن يؤدي إلى اللغة العربية خدمة جليلة بأحياء شاعر كان في عصره ملء المسامع والأفواه والقلوب. . .

وما الذي يمنع أن يتفضل فيشير بطبع مجموعات وافية مما نظم الشعراء وكتب الكاتبون منذ فجر النهضة الحديثة إلى اليوم؟! أنه خليق بأن يجعل ديوان حافظ فاتحة لعهد جديد من المطبوعات العلمية والأدبية التي تشهد بما صنعت مصر في العهد الحديث وهو أن حقق هذه الرغبة فسيمكنّ الأدباء في مصر وفي سائر الأقطار العربية من الوقوف على طلائع النهضة الأدبية، وهي نهضة نرجو أن تقوى وتستفحل لتُشعر الأبناء والأحفاد بأن لهم لغة قوية تطاول اللغات الحية وتسابقها في ميادين العلوم والأدب والفنون. فأن قال الوزير إن أمثال هذه الأعمال مما يقوم به الأفراد لا الحكومات فإنا نجيب بأن الحال في مصر تختلف عما عداها بعض الاختلاف؛ لا يزالون يودون أن ترفع عنهم حكومتهم كثيراً من التكاليف ومن شواهد ذلك مطبوعات الجامعة المصرية ومطبوعات دار الكتب المصرية؛ فهذه المطبوعات يعجز عنها الأفراد، ولا تستطيع المكاتب أن تنهض بها إلا بجهد عنيف. وما بالنا نلح على الوزير في تحقيق هذا الغرض؟ أنه يعرف أن دراسة الأدب الحديث مقررة في المدارس الثانوية والمعاهد العالية، ودراسة هذا الأدب ستضل ضعيفة ما دامت المصادر بعيدة عن أيدي الأساتذة والطلاب؛ فهو حين يحقق هذا الغرض يؤدي خدمة أساسية لا كمالية، ويجعل أبناءه في المدارس الثانوية والعالية قادرين على التمكن من ناصية الأدب الحديث، وهو كذلك سيسن شريعة جديدة لأمثاله من وزراء المعارف في مختلف الأقطار

ص: 5

العربية؛ فقد نسمع بعد قليل أن وزراء المعارف في الشام والعراق والمغرب والحجاز قرروا نشر ما اندثر عندهم من معالم الأدب الحديث، وعندئذ تقترب هذه الشعوب بعضها من بعض، وتضيع مآرب الباغين العادين من خصوم لغة القرآن)

وإنما أعدت هذه الفقرة من مقال نشرته قبل سنين لأني أجد فيها دعوة يجب أن تجدد في كل يوم، فما تزال الحكومات العربية قليلة الالتفات إلى أهمية الأدب الحديث، وما يزال في الدنيا أقوام يرون الأدب الجديد أقل قيمة من الأدب القديم، مع أن أدبنا في أكثر نواحيه أعظم حيوية من أدب القدماء، وهو يصور ما نحن عليه من قوة وضعف، وإيمان وارتياب

شرح ديوان حافظ

شرح هذا الديوان ثلاثة من أهل الأدب، هم الأساتذة: أحمد أمين، وأحمد الزين، وإبراهيم الإبياري. وقد نص الأستاذ أحمد أمين في المقدمة على أن هذا الشرح أُريد به ثابتة الأدب وناشئة الشعر، ولم يُرَد به الخاصة والمنتهون

ومعنى هذا الكلام أنهم قد يوضحون ما لا يحتاج إلى توضيح رعاية لإفهام المبتدئين

وكان الأمر كما قالوا في المواطن التي تسعفهم فيها المعجمات، كأن يقولوا إن السدة هي الباب، والشجون هي الأشواق

أما إذا احتاج للشرح إلى بحث فالمبتدئون في حكم المنتهين، ولا موجب للعناء!

ومن أمثلة ذلك:

1 -

وردت في شعر حافظ كلمة (آذار) فقال الشارحون: (شهر من شهور السنة المسيحية معروف)

فهل في الحق أن المبتدئين من شبان مصر يعرفون آذار؟ كان الواجب أن ينص على أن (آذار) هو شهر (مارس)

والقول بأن آذار من شهور السنة المسيحية خطأ في التاريخ؛ والصواب أن يقال من شهور السنة الشمسية، فقد عرف التقويم الشمسي قبل المسيح بأزمان طوال

ونحن اليوم نقول سنة قمرية وسنة شمسية أما أسلافنا من العرب فكانوا يقولون: سنة هلالية وسنة خراجية

2 -

ورد في شعر حافظ اسم (مائي) فقال الشارحون: (هو صاحب مذهب المانوية

ص: 6

المشهور)

فهل يمكن القول بأن مذهب المانوية مما يعرف المبتدئون؟ ثم أراد الشارحون أن يعينوا الوقت الذي ظهر فيه (ماني) فقالوا إنه ظهر في أيام سابور بن أردشير

وأقول إن هذا الكلام كان ينفع من يعيشون قبل ألف سنة، يوم كان العرب على بينة من تواريخ الاكاسرة، أما اليوم فهو كلام غامض المدلو.

3 -

ورد اسم (روسو) في شعر حافظ فقال الشارحون:

(روسو كاتب فرنسي معروف، وهو صاحب كتاب الاتفاق الجمهوري)

وما أعرف شيئاً عن كتاب (الاتفاق الجمهوري) ولعلهم يريدون كتاب (العقد الاجتماعي) إلا أن يكونوا أبصر مني بالأدب الفرنسي، وذلك جائز!

4 -

وكلمة (معروف) كثيرة الدوران على ألسنة الشارحين: فأبو تمام شاعر عباسي معروف، والبحتري شاعر عباسي معروف، وجمال الدين الأفغاني فيلسوف معروف، ومحمد باشا سعيد هو الوزير المعروف، إلى آخر ما نثروا في الشرح من هذا اللفظ المعروف!

5 -

والترقيم خطأ في بعض الأحيان، فقد جاء في المقدمة أن حاجة الشاعر إلى الخيال الخصب أقوى من حاجة الناثر، والعبارة صحيحة، ولكنها ختمتّ بعلامة التعجب، ولا موجب لذلك.

6 -

وأشير في المقدمة إلى (حادثة المؤيد) بلا نص على مكانها من صفحات الديوان، فهل أهملت لأنها من الحوادث المعروفة؟

7 -

وكذلك أشيرَ إلى (وداع اللورد كرومن)، والصواب (لورد كروم)، لأن (كروم) في هذه العبارة لا يقع موقع عطف البيان، وإنما يقع موقع المضاف إليه من المضاف، وهذا أمر قد يخفى على المبتدئين، كما خفي على الأستاذ أحمد أمين.

8 -

وفي المقدمة: (لئن نقص حظ حافظ في الخيال فقد غطى عيبه شيوع الجمال في سائر نواحيه)؛ والصواب (لقد) وحافظ نفسه يقول:

لئن هَدَوْكم لقد كانت أوائلكم

تهدي أوائلهم أزمان أزمان

وقد عثرت على شواهد وقعت فيها الفاء في مكان اللام في مثل هذا التعبير، وإذن تقبل تلك

ص: 7

العبارة بقول مرجوح، وإنما أدافع عن هذا الخطأ لأنه وقع في بعض أشعاري!!

9 -

وفي ص 151 ج1 قال حافظ في محمد المويلحي:

فإذا نثرت على الصحيفة خِلتها

غرساً ألحّ عليه صوب قطار

وجاء في الشرح أن القطار جمع قطر بفتح فسكون وهو المطر، ثم قال الشارحون: إن الديوان المطبوع فيه (نثار) مكان (قطار)

وأقول: إن الصواب إثبات (نثار) وتصحيح كلمة (غرساً)، فيكون للبيت:

فإذا نثرت على الصحيفة خلتها

عرساً ألحَّ عليه صوب نثار

والنثار هو المعروف في مصر بالنقوط في يوم العرس، وذلك هو المراد.

10 -

وفي ص 66 ج1 قال حافظ في تحية واصف غالي:

مازلت تُلقي على أسماعهم حججاً

في كل ناد وتأتيهم بسلطان

حتى انثنيت وما للعُرب بحتريٌ

على البناء ولا زار على الباني

والصواب وضع كلمة (الغَرب) مكان (العُربْ)

11 -

وفي الصفحة عينها أن رينان هو الفيلسوف الفرنسي المعروف الذي رد عليه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فيما رمى به الإسلام والمسلمين من تهم، وما نعرف أن الشيخ محمد عبده كانت له مواقف مع رينان، وإنما كانت له مواقف مع هانوتو، أما الذي ردّ هجوم رينان على المدنية الإسلامية فهو جمال الدين الأفغاني

12 -

وفي ص60 ج1 قال حافظ:

فانبرت ظبية الشام وقالت

بعض هذا فقد رفعت الشآما

وجاء في الشرح: أي قولي بعض هذا، إذ لا نستحق كله.

والصواب أن يقال في الشرح: أطوي بعض هذا، فما نستحق كل هذا الثناء

13 -

والاضطراب في رسم الأعلام الأعجمية يقع أحياناً في هذا الشرح، فهو جُو الشاعر الفرنسي نراه مرة هيجو ومرة هوغر ومرة هوجو؛ وهنا نذكر أن الأعلام الأوربية نُشرتْ جميعاً بحروف عربية، وكان يجب أن ترسم أيضاً بالحروف اللاتينية ليُعرف نطقها بالضبط، فإن تعذر هذا على الأستاذين أحمد الزين وإبراهيم الإيباري، فقد كان يسيراً على الأستاذ أحمد أمين.

ص: 8

14 -

والأخبار الأدبية المتصلة بقصائد حافظ لم تأخذ حقها من البيان، وستصير هذه الأخبار من المنسيات بعد حين، فكان من الواجب أن تسجل قبل أن تضيع، فإن لها أهمية في توضيح مرامي ذلك الشاعر العرَّيض.

15 -

وسكت الشارحون عمن سيفهم إلى شرح (القصيدة العمرية)، وقد شُرحتْ مرتين: شرحها المرحوم محمد بك الخضري، وشرحها المرحوم مصطفى بك الدمياطي، والنص على مثل هذا واجب في الطبعات العلمية. وكان يجب أيضاً أن يُنص على تأثير هذه القصيدة في الشعر الحديث، فعلى غرارها صاغ الشيخ محمد عبد المطلب (القصيدة العلوية)، وصاغ الشاعر عبد الحليم المصري قصيدته في الجد الأكبر للملك فؤاد، وكان لتلك القصائد رنين في المحافل الأدبية، وقد تكون مصدر الوحي للشاعر أحمد محرم في (الإلياذة الإسلامية).

درس الديوان

المقرر للمسابقة هو الجزء الأول، ولكن النظر في الجزء الثاني ينفع، لأنه يكمل صورة حافظ الشعرية

وفي الجزء الأول مقدمة كتبها الأستاذ أحمد بك أمين، وهي مقدمة وافية، ومراجعتها بعناية تعين الطلبة على اجتياز الامتحان

ونقدم التوجيهات الآتية:

أولاً - جاء في الجزء الأول أشعار تصور أشجان حافظ حين كان في السودان، فيجب الرجوع إلى ما يتصل بهذه الناحية في الجزء الثاني

ومع هذا لا يستطيع الطلبة تصور محنة حافظ بأيامه في السودان، إلا إن نظروا في كتاب (ليالي سطيح)؛ والرجوع إلى هذا الكتاب مفيد جداً؛ ففيه صفحات هي أقوى وأجمل من كل ما هتف به حافظ في دنياه؛ وقد تكون أعظم ما أُِثر من الثورة على الاستبداد

وكان حافظ يحفظ (ليالي سطيح) عن ظهر قلب، كما يحفظ قصائد الجياد، ومن لم ير حافظ في (ليالي سطيح) فهو عن أدبه من الغافلين

ثانياً - حافظ كثير الكلام عما عرف من الرجال، فديوانه ليس إلا صوراً جميلة أو دميمة لخلائق من أتصل بهم من قرب أو من بُعد، ولهذا تقل في شعره التأملات النفسية، لأنه

ص: 9

دائماً موصول بالمجتمع

ثالثاً - حافظ كثير التعريض في مدائحه وأهاجيه، وهو تعريض لم يظفر بما يستحق من الشرح، فإن استطاع الطلبة أن يواجهوا لجنة الامتحان بأشياء سكت عنها الشارحون فقد يظفرون بطيف من الثناء!

رابعاً - قد أرخت أكثر قصائد حافظ، وبقي فريق منها بدون تأريخ، فعلى الطلبة أن يبحثوا عن المناسبات، وإليهم هذا الشاهد:

في ص 201 ج1 قال حافظ أبياتاً في توديع شوقي يوم سافر إلى مؤتمر المستشرقين، وننظر في الشرح فنجد إحالة على الحاشية رقم 5 ص50. فإذا رجعنا إلى تلك الحاشية لم نجد كلاماً عن المؤتمر ولا عن مكانه في التاريخ، فماذا نصنع؟

نرجع إلى الجزء الأول من الشوقيات، وهو أيضاً مقرر لمسابقة الأدب العربي، فنجد أن ذلك المؤتمر عُقِد في جنيف (سبتمبر سنة 1894)

خامساً - وقد يظن أن الشارحين دونوا جميع قصائد حافظ، وليس الأمر كذلك، فلحافظ قصائد لم تضف إلى هذا الديوان وسندل الشارحين على تلك القصائد عند الطبعة الثانية

سادساً - قال الأستاذ أحمد أمين إن الحزن الذي غلب على طبيعة حافظ هو الذي قضى بأن تكون أكثر قصائده في المراثي.

ونقول إن الرثاء كان يفرض على حافظ في كثير من الأحايين، ومن هنا تقل اللوعة في أكثر مراثيه، فيستر الموقف باجترار حوادث التاريخ

سابعاً - قيل وقيل إن حافظ لم يكن من أهل الصدق في الغزَل والتشبيب، فما سبب ذلك؟

يرجع السبب إلى أن ضجيج المجتمع شغل حافظ عن سحر الجمال، وقد يرجع إلى ضعف في حاسته الذوقية من هذه الناحية، فالإحساس بالجمال يتفاوت عند الشعراء، كما تتفاوت الحواس عند سائر الناس

وربما جاز القول بأن حافظ كان في سريرة نفسه من عبيد المجتمع، فهو يغني على ليلى المجتمع قبل أن يغني على ليلاه، والمجتمع كان ينتظر منه البكاء على المصائب اليومية، قبل أن ينتظر منه التغريد فوق أفنان الجمال

ثامناً - تشهد أشعار حافظ بأنه كان ابن زمانه وابن وطنه، فلم تكن له نزعة فلسفية ولا

ص: 10

وثبة إنسانية إلا في أندر الأحيان، وأشعاره في مآسي بعض الأمم الشرقية أو الغربية لم تكن إلا صدى للعواطف المصرية في ذلك الحين، وهي في الأغلب عواطف تخلقها الجرائد والمجلات

المحدث حافظ إبراهيم

نقول في شعر حافظ وفي نثره ما نشاء، ونتجنى عليه كما نريد؛ أما حافظ المحدث فهو أديب لم تر مثله أندية الأدب منذ أجيال طوال

وما ظنكم برجل كان الزعيم سعد زغلول يتشهى حديثه كما يتشهى عودة الشباب؟

لا أذكر أني رأيت رجلاً في مثل ظرف حافظ، ولا أكاد أصدق أن الدنيا ستسمح بأن يكون له ضريب أو مثيل

سألت أستاذي الشيخ (رنيه دوميك) عن أهم خصائص أناطول فرانس فأجاب:

،

ولو أن شاعرنا حافظ كان يكتب كما كان يتكلم لكان سحره في اللغة العربية شبيهاً بسحر أناطول فرانس في اللغة الفرنسية

وبراعة حافظ في الحديث هي التي قضت بأن ينتصر عليه غريمه شوقي. . . كان حافظ يتحدث ويتحدث إلى أن تنفد قواه فلا تبقى له قدرة على الغناء؛ وكان شوقي يصمت ويصمت ليستجم فتبقى له القدرة على السجع والهُتاف. والقوى الإنسانية لها حدود، وإلا فكيف جاز أن يكون المدرسون أعجز الناس عن الشعر والخطابة والتأليف؟

ألا يرجع ذلك إلى أنهم يضيعون نشاطهم في الدرس، فلا تبقى لهم عافية يساورون بها تلك المواهب الأدبية؟

أراد حافظ أن يمتع أهل زمانه فأضاعوه. كان زينة الأندية والمحافل، وكان حديثه أشهى من وعد الحبيب بعد طول الجفاء، وأطيب من اندحار الرقيب، وأشهى إلى النفس من الانتصار على السفهاء، إن كان الانتصار على السفهاء من الممكنات!

عليك - يا حافظ - تحية الشعر والنثر والحديث

وإلى روحك في عالم الخلود، نقدم آيات الثناء، يا حجتنا الباقية على أن مصر مهد الروح المتوهج والقلب الخفاق

ص: 11

زكي مبارك

ص: 12

‌بحث مقارن

الوضع الاجتماعي للمرأة في الإسلام

للأستاذ محمد عبد الرحيم عنبر

مقدمة

لم يتسع نطاق الحديث عن المرأة في عصر من العصور بقدر أتساعه في العصر الحاضر الذي يمكن أن يسمى بحق (عصر المرأة). ففي كل زاوية من زوايا المعمورة نشمُّ رائحة المرأة: شخصاً، أو موضوعاً، أو عاطفة، أو هدفاً. وبالجملة هي تشغل حيزاً كبيراً من تفكير الرجال وضمير المجتمع. وإذا كان كل شيء في ذاته قابلاً للمدح والذم فأن المرأة قد تفردت بالحصول على نهايتهما!

ولا عجب أن تحتل المرأة هذه المكانة العريضة، فإنها لم تعد محلاً لقضاء شهوة، أو سلعة تباع وتشتري، أو خادمة ذليلة، أو مواطناً لا حقوق له، أو حتى تمثالاً جميلاً يركع الرجل تحت قدميه؛ وإنما أصبحت الممثل اللاعب في حياة الرجل من وراء ستار، و (القالب) الفذ العميق الذي تتشكل فيه شخصية المجتمع، ويحمل أفراده ملامحه، وينطبع فيهم كل ما به من خير أو شر. ثم هي قبل كل شيء ما زالت - كما كانت منذ فجر البشرية - حجر الزاوية في الأسرة الإنسانية

ومن البدهي أن يعنى المفكر العصري بالكلام عن المرأة بعد إذ ظفرت بحقوق كثيرة، ووثبت هذه الوثبة الاجتماعية الكبيرة، وليبحث فيما إذا كانت قد جاوزت بذلك حدود طبيعتها، واعتدت على حقوق الرجل، وجنت في النهاية على نفسها وعلى غيرها أم لا؟ وأي الشرائع أهدى لها وأكثر اعتناء بها؟

ثم هل الشريعة الإسلامية قد حررتها وأعزتها وصانتها أم قضت بعبوديتها وأذلتها وابتذلتها!

المرأة في غير الشريعة الإسلامية

يروي لنا علماء الاجتماع أن الرجل، عند بدء الخليقة، كان يعيش عيشة الحيوان، يطوف في الأرض، ولا يعرف الأسرة بالمعنى الذي نفهمه. ويعتقدون أنه لم تكن له يومئذ أوضاع

ص: 13

مرعية في اتصاله بالمرأة، وكان كل احتفاله بها منصباً على أن يقضي شهوته البهيمية منها ثم ينصرف عنها لا يلوى على شيء، وتظل هي وحدها حتى تضع حملها، وتسعى لتقوت بنيها الذين لا يعرفون لهم أباً، ولا يستشعرون الأبوة، ولكنهم ينسبون إليها، ومن ثم كانت - المرأة - تبني الأسرة بمفردها. ولم تكن لها في تلك المرحلة قِبلَ الرجل أو القبيل الذي تنتمي إليه أي نوع من أنواع الحقوق، بل كانت حياتها كلها واجبات!

وبعد ذلك استقر الرجل بعض الاستقرار، وبدأت (زعامة الأب بعد (زعامة الأم وفي هذا الدور احتكر الرجل المرأة التي جعلها من عبيده وسراريه

وإذا كانت المرأة آنئذ قد تخففت من بعض العبء الذي كان ملقى على كاهلها إلا أنها لم تكن أكثر من ظل للرجل.

فهؤلاء هم الأثينيون - أكثر الأمم القديمة حضارة - عاملوا المرأة معاملة سقط المتاع، تباع وتشترى في الأسواق، بل سموها رجساً من عمل الشيطان، وحرّموا عليها كل شيء سوى تدبير البيت وتربية الأطفال، وأباحوا للرجل التزوج بأي عدد من النساء. أما في إسبرطة، مع أن الرجل كان ممنوعاً من أن يتزوج بأكثر من واحدة إلا في أحوال قاهرة، فقد أبيح للمرأة أن تتزوج بأي عدد تشاء من الرجال!

وكانت المرأة عند اليهود تكره على الزواج والبغاء، وتورث ولا ترث، وكان محجوراً عليها التصرف في مالها الخاص.

وكانت بعض الشرائع تبيح للأب بيع ابنته، ولم تكن المرأة في القانون الروماني شيئاً يذكر، فهي قبل زواجها تحت سلطة أبيها، فإذا تزوجت دخلت في سلطة زوجها.

وكان العرب في الجاهلية يئدون بناتهم، وكان فيهم من يرى أنه لا قصاص ولا دية في قتل المرأة!

وقد قرر أحد المجاميع العلمية (كذا!) في روما أن المرأة حيوان نجس لا روح له ولا خلود، ولكن يجب عليها العبادة والخدمة، وأن يكمم فمها كالكلب المسعور لمنعها من الضحك والكلام!!

وفي سنة 586 ميلادية عقدت بعض الولايات الفرنسية اجتماعاً عاماً، شهده الآلاف من الرجال الذين ظلوا ساعات طوالاً يبحثون فيما إذا كانت المرأة إنساناً أو غير إنسان؟! وبعد

ص: 14

مناقشات جدية عنيفة أصدر المجتمعون بأغلبية الأصوات قراراً يمنح المرأة درجة (الإنسانية)، ولكنه يقضي فيما عدا هذا بأنها (لم تخلق إلا لخدمة الرجل)!!

ويذكر التاريخ أن أهم إنصاف نالته المرأة قبل ظهور الإسلام بنحو ربع قرن ما منحه إياها القانون الروماني، فإن هذا القانون قد ترك للعذراء والأرملة كل حريتهما ما دامتا بالغتين سن الرشد. أما المتزوجة فقد وضعها تحت سلطة زوجها المطلقة؛ فهي، بحسب هذا القانون أشبه ما تكون بالمحجور عليه أو القاصر من الناحية القانونية، ولزوجها السلطة الواسعة في مراقبة شئونها الشخصية، وهو حر التصرف في ملكها ومالها من دونها، وله أن يمنعها من الاجتماع بأي شخص لا يريد اجتماعها به، وأن يفض رسائلها الصادرة منها أو الواردة إليها!

(وكما أنه من جهة أخرى كانت الكنيسة في القرون الوسطى تعلم الأولاد أن الوحشية صفة التنين، وأن المكر صفة الأفعى، وأن المرأة قد جمعت بين الرذيلتين، وكان رينان الفيلسوف الفرنسي العظيم (1833 - 1892) يلاحظ أن الكنيسة رفعت المرأة إلى درجة جلب الخطيئة! ونرى مارتن لوثير المصلح الديني الألماني الكبير، ومؤسس المذهب البروتستنتي في النصرانية (1483 - 1546) قد كان نصيراً لمذهب القائلين بحرمان المرأة من الثقافة. ونرى أيضاً الملك هنري الثامن يصدر أمراً بتحريم مطالعة الكتاب المقدس على النساء وآخرين من طبقة منحطة! وقد كان النساء طبقاً للقانون الإنجليزي العام (حوالي سنة 1850) غير معدودات من (المواطنين)؛ وكان لذلك مباحاً لبعولهن أن يضربوهن بعصا لا يزيد حجمها على رأس الإبهام. كذلك لم يكن لهن حقوق شخصية، ولا حق ملكية في ملابسهن ولا في الأموال التي يكسبنها بعرق الجبين)!

وقد حدث، في عهد قريب، أن باع رجل إنجليزي زوجته لشخص كان يغازلها بخمسمائة جنيه بسبب فقره وعدم توافق طباعهما. ولما قدم الزوج المحاكمة قال محاميه للقاضي أن لا وجه لإقامة الدعوى لأن القانون الإنجليزي كان يبيح بيع الزوجات، بل لقد بلغ (سعر) الزوجة في سنة 1801 ستة بنسات (أي نحو 24 مليماً)!! ولكن القاضي لم يأخذ بدفاع المحامي اللبق، وقضى بالحكم على الزوج بخمس سنوات، ذاكراً في أسباب حكمه أن القانون الذي يشير إليه المحامي ويستند عليه قد ألغى في عام 1805 (أي بعد نزول

ص: 15

القرآن، وإعلان حرية المرأة المسلمة بنحو أثنى عشر قرناً!!)

واليهود هم أول أمة سمحت أن يكون الزواج مبنياً على مجرد الاختيار الشخصي، وتقدمت عندهم حقوق المرأة بخطى كبيرة. وقد جاءت المسيحية من بعدهم فضاعفت هذه الحقوق، وحرمت تطليق المرأة إطلاقاً، ثم إباحته بشروط مخالفة بذلك شرعتها، بعد أن تبين لها أنه ضروري للرجل والمرأة معاً، وأعلنت استقلال المرأة بملكيتها كالإسلام! أما تعدد الزوجات فلم تسمح به

والشائع في أوربا اليوم هو الزواج المدني، والتحرر السريع من القيود الدينية المسيحية فيما يختص بالمرأة وعلاقتها بالرجل. فالطلاق مباح، والزواج العرفي معترف به وبآثاره وبما يترتب على عشرة السوء! وبالجملة قد تخلصت المرأة مما تقيدها به ديانتها، وساعدها الرجل على ذلك، وحصلت على حرية واسعة بلغت حد الإباحة، وعلى احترام كبير وصل إلى درجة التقديس، لا لأنها مخلوق ضعيف يستحق الرعاية والتنعم والصيانة، بل لأنها مخلوق لطيف، مؤنس، رشيق، يفوح منه عبير العطور، وينشر في مجالسه السحر المذاب الحلو، وأشياء أخرى تدل عليها الآثام العميقة التي كانت تسبح فيها أوربا قبل هذه الحرب، والفضائح التي كانت تزكم الأنوف!

المرأة في الشريعة الإسلامية

ظل الناس في بداوة الجاهلية الأولى ضاربين، وفي غمرة الشهوات الهمجية غارقين، وظلت المرأة تعاني مرارة الذل وقسوة الحيف والاستعباد حتى جاء (منقذ المرأة ومحررها)، محمد النبي العربي بكتاب سماوي يقول:(ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة)؛ فكانت هذه الآية الكريمة الوثيقة القانونية الأولى التي تعترف بإنسانية المرأة، وحريتها، وحقها في الحياة، ومساواتها للرجل مساواة نبيلة أبية لا فضل فيها لمخلوق. ولقد فصل الإسلام حقوق المرأة تفصيلاً دقيقاً بديعاً، وتغلغل في صميم حياتها حتى أنه عالج أصغر هواجسها، وأتفه شؤونها، وتناول أدق وأحرج أسرارها. فهو قد شمل حقوق المرأة بوصفها بنتاً وزوجاً وأماً وأختاً، وكذلك يوصفها عضواً في المجتمع الإنساني؛ وفيما يلي موجز ذلك:

2 -

أوجب الإسلام للبنت النفقة شرعاً في حياة أبيها حتى تتزوج، وليس له أن يلزمها

ص: 16

طلب الرزق كالابن. وإذا ما تزوجت ثم طلقت فعادت إلى بيت أبيها عادت نفقتها عليه بعد انتهاء مدة نفقتها الزوجية. وقد قررت الشريعة ذلك حماية للبنت من السقوط في حمأة الرذيلة إذا أمسك عنها أبوها أو ألزمها طلب الرزق

3 -

جعل الإسلام رضا البنت عند بلوغها سن الرشد شرطاً لصحة العقد عليها. وليس لمخلوق كائن من كان يكرهها على الزواج بمن لا تريد. ولنا في رسول الله أسوة حسنة؛ فقد كان إذا أراد أن يزوج امرأة يأتيها من وراء حجاب فيقول لها: (يا بنيَّة، إن فلاناً خطبك فإن كرهته فقولي (لا) فإنه لا يستحي أحد أن يقول (لا)، وإن أحببت فإن سكوتك إقرار). وهذا الحق الطبيعي الرائع الذي منحته المرأة المسلمة في القرن السابع للميلاد حُرمته المرأة الأوربية حتى القرن السادس عشر!

4 -

وقد أراد الرسول (ص) أن يدفع الناس إلى الاعتناء ببناتهم بعد أن حرم الله وأدهن، وأعطاهن حق الحياة المقرر للرجل فقال: من كانت له بنت جعلها الله له ستراً من النار، ومن كانت عنده ابنتان ادخله الله الجنة بهما.

5 -

وكان بعض الرجال يسيئون معاملة زوجاتهم، ويمتنع الزوج الكاره زوجته عن تطليقها حتى تفتدي نفسها بمهرها، فنزلت الآية الكريمة (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)؛ وقوله:(هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن)؛ وقوله: (هو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)؛ وجاء في أخبار الرسول أنه قال (ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حق. أما حقكم على نسائكم فأن لا يوطئن فراشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ولا يأتين بفاحشة، فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع)؛ وقال: (حق المرأة على الزوج أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت)؛ وقال: (عليكم باللطف والرفق بنسائكم: لا تظلموهن، ولا تضيقوا عليهن، فأن الله تعالى يغضب للمرأة إذا ظلمت كما يغضب لليتيم). وفي ذلك كله تبين روح الآداب الزوجية التي يبثها الإسلام في تعاليمه، وينزلها الله تعالى على لسان نبيه الكريم، وفي تصرفاته، وقدوته لعشيرته، وبني قومه الذين حكموا الدنيا ودوخوا العالمين عندما كان الرجال يتقون الله في نسائهم، وكانت الأسرة الإسلامية منبع سرور وشهامة

ص: 17

وإن من آداب الإسلام العائلية لما يذهب إلى أبعد من هذه الحدود، فقد روى أنه جاءت إلى عمر بن الخطاب امرأة قالت: إن زوجي يقوم الليل ويصوم النهار. فقال لها عمر: لقد أحسنت الثناء على زوجك! فقال كعب بن سوار الجالس بجواره: بل لقد شكته! تزعم أن ليس لها من وقت زوجها نصيب. قال عمر: فإذا قد فهمت ذلك فاقض بينهما - فقضى. ولو تدبرنا هذه الفئة الإسلامية العابرة لوجدناها ترمز إلى إشكال عريق في حياة المرأة ومصدر سوء تفاهم مزمن في حياة كثير من الأسر!

وإذا كان المصلحون الاجتماعيون في أوربا وأمريكا لم يهتدوا إلى الطريق الأمثل لفض المنازعات الزوجية إلا في القرن الحالي، فقد أشار الإسلام إلى ذلك في القرن السابع. فقد قال سيدنا عمر بن الخطاب مخاطباً الأزواج:(إذا لم يفد المرأة الوعظ والهجر والضرب (ولن يضرب خياركم - وفي هذا المعنى الحضر لشيء أباحه الله لضرورة قاسية بشروط حتى لا يساء استعماله) عمد الرجل إلى التحكيم، وهو أن يؤلف (مجلساً) من أهله وأهلها فيعرض كل من الزوجين ما يشكوه من الآخر، فإن تمرد المحكوم عليه منهما فرقوا بينهما بالطلاق وهو آخر أنواع من التأديب)

(البقية في العدد القادم)

محمد عبد الرحيم عنبر

ص: 18

‌بين موسَّيه وخالد الكاتب

للأستاذ صلاح الدين المنجد

أذكر أني قرأت منذ شهور بعاد مقالاً ذكر فيه صاحبه أن الشاعر الفرنسي (موسّيه) كان يُشابه خالداً الكاتب في بكائه وألمه وهواه، وأن من الحق أن يسّمى خالد (موسّية الشرق)!

وقول كهذا القول يطوي في ثناياه من التسرَّع في الحكم والجهل في المقايسة النصيب الكبير؛ فليس من الصحيح إقامة الموازنات بصلة هزيلة أو نسبة ضعيفة، وليس من العلم إطلاق الألقاب بدون حذر أو أناة

لقد أحبَّ (موسَّيه) وأحبَّ (خالد) وبكى موسًّيه وبكى خالد؛ فكانا في الحب مختلفْين وفي البكاء متباينيْن. أما الأول فقد بكى وتألم حتى سمى الشاعر الألم. وكان الدافعَ إلى ذلك حبَّ مفجع وقلب محطم وكان شاباً ناعماً يفوق لداته بالرشاقة والأناقة والنبوغ. فلما أحب (جورج صاند) غرَّد بحبها في أشعاره وملأ به أناشيده وأغانيه. ثم حملها إلى إيطاليا بلد الجمال والفن ليقضيا حياة حلوة كالعسل، رفافة كالنعيم، ويتمتعا بالجمال البارع والحب الوليد على أنها تركته بعد قليل وتبعت (باجيلو) الطبيب الإيطالي. وكأنها كانت كالفراشة النشوى يروقها رشف الرحيق من كل زهرة! فثار موسَّيه لما رأى إعراضها وهم أن يقتل الحبيبة والطبيب معاً، ولكنه فضل البكاء على الجريمة، ورحل عن (فينسيا) باليأس والخيبة؛ فهام في رباع أوربة ثم عاد إلى فرانسة وأخرج للناس آيات رائعات، غنى فيها بأشعار رقاق من السهل الممتنع، آلامه المبرحات وحبه الجريح، ويأسه الداجي، وإخفاقه المر. والحق أن موسَّيه كان بارعاً في تصوير ذلك، لأنه كان صادقاً، والصدق يؤثر في القلب الشاعر ويطربه؛ ولأنه آلامه ويأسه وإخفاقه عواطف، تجدها قد لامست كل قلب وأقرحت كل كبد، ولذلك يشعر المرء أن في أشعار موسَّيه ترجماناً مما يعتلج في حنايا ضلوعه. ولقد كان شاعرنا إذا وصف ألمه وذكر المرابع التي رآها والأحوال التي صادفها واليأس الذي لقيه برع وأجاد. ولقد سما في وصفه لحبيبته (في ليلة تشرين) ففي هذه القصيدة تجد صورة أخاذة للحبيبة الشهوانة ذات العينين السوداوين. العطشى للحب، الظمأى للقبل، التي لا تفي لحبيب، ولا تقنع بحبيب. ولعل هذا آت عن فرة حسها وفرط شاعريتها وسعيها وراء لذتها التي خلفت لها وأغوت الناس بها

ص: 19

على أن موسَّيه قد أتخذ من بكائه وألمه وسيلة للتعليم كما أرى، فجاء طرف من شعره تعليمياً أبان فيه عن ضرورة الألم وأثره في النفس، ومحاسنه التي لا تنفد ومزاياه التي تهذب الروح وترهف الحس. يقول:(أن الرجل صانع والألم معلمه. والمرء لا يعرف نفسه إلا إذا تألم؛ ولا شيء كالألم يجعلنا عظماء ذوي شأن). ثم يدعو إلى الألم ويبرع في الدعاوة له وتزينه للناس. ويقولون إن أهل عصره كانوا يسيغون أشباه هذه الأقوال، ويعجبون بمن يذرف الدمع ويصعد الحسرات، وينظرون إلى الذين يقاسون آلام الحب وأسقام القلب نظرة إعجاب؛ بل كانوا يشتهون ذلك. فمن عانى التهيام والتحنان والسهر؛ والبكاء وما يدعو إليه الهوى فقد امتاز عن غيره بكثير

ولقد كان فلاسفة اليونان الأقدمين ينصحون للفتى إذا سألهم النصح (أن اعرف نفسك بنفسك) وكانوا يحسبون إن السعادة الكبرى في هذه الحروف الثلاثة. ثم تساءلوا: كيف يعرف المرء نفسه؟ فركب كلٌ مركباً؛ أما موسّيه فقال (ينبغي لك أن تتألم كي تدرك ما تريد، لأن المرء يعرف نفسه إذا تألم) وهو في كلامه هذا ينطق عن تجربة، ويعتقد أنه عرف نفسه وعبقريتها، لما أدمى الحب قلبه فتألم. وعندئذ علا صوت قلبه الشجي. وصوت القلب كما يقول يصل وحده إلى القلب، فهو يود أن يدع قلبه يتكلم دائماً في كل حال. لأن على الشاعر أن يصغي إلى قلبه ويدع عقله، وأن يبتغي رضا القلب قبل مرضات الناس، والحب إذا فجر الألم من القلب جعله غلاباً للمصاعب، عزاماً في المصائب، لأن الألم رمز القوة وهو سبيل الخلود. والخير الفرد الذي بقى لنا في الدنيا هو تذرافنا الدمع في بعض الأحايين

أفيكون حال خالد كحال موسَّيه؟

لا جرم أن ما نعلمه من حياة موسَّيه أوفر مما نعلمه عن حياة خالد. لا شك أن كلا أحب وكلا بكى، ولكن شتان ما بين البكاءين. ولقد ذكروا أن خالداً كان كاتباً في الجيش، وأنه كان يهوى جارية لبعض الوجوه ببغداد فلم يقدر عليها، وأن محمد بن عبد الملك ولاه الإعطاء في الثغور، فخرج إليها، فسمع في طريقه منشداً ينشد ومغنية تغني:

من كان ذا شجن بالشأم يطلبه

ففي سوى الشأم أمسى الأهل والشجن

فبكى حتى سقط على وجهه مغشياً عليه؛ ثم أفاق مختلطاً واتصل ووسوس. أفيكون سبب

ص: 20

بكائه ونحيبه هواه لهذه الجارية أم هناك سبب آخر؟ يقول صاحب الأغاني إن خالداً كان مغرماً بالمرد ينفق عليهم كل ما يفيد، وأنه هوى غلاماً يقال له عبد الله كان أبو تمام يهواه، فتهاجيا بسببه وأنه وسوس على أثر ذلك

وهنا نتساءل: (هل اتخذ خالد من بكائه وألمه ما اتخذه موسَّيه؟!)

لا جرم أن خالداً لم يذهب مذهب موسيه في بكائه وألمه، ولم يفطن للألم وأثره في النفس، ولم يبرع في تصوير الألم براعة موسَّيه، ولم تكن في شعره تلك الصفة الإنسانية التي تجدها عند موسيه. فقد تجد بعض التكلف في العواطف والغلو في المعاني لديه؛ على أنه تفنن في وصف الدمع، وشعره فيه يعذب ويرق. ولا شك أنه الشاعر الفرد الذي بلغ في وصف الدمع ما لم يبلغه أحد من شعرائنا، وهذا ما يمتاز به من موسيه

ويحدثنا خالد في ديوانه أنه أصبح دنفاً هائماً بمن صارمه واحتجب عنه، فبكى؛ وجعل الدمع مداداً يكتب به على خده ما في فؤاده!

ثم طلب من الحبيب أن يفهم معاني دمعه. فلما أعرض عنه هواه وفقد الراحة، لج في تذراف الدمع حتى تقرحت عيناه وطلبتا العذر منه، فلم يعذرهما لأن قلبه لا يعذره ولا يشفق عليه

ولقد كان إذا مرض فله عائدوه، ونأى عنه طبيبه، دعا الدموع فهي مطيعة له، تسرع إليه وتجيبه. وهو ينصح لمن كان هذا شأنه أن يفعل ما فعله، وإذا أنكر الحبيب حبه ودنفه فهو يتخذ الدمع شفيعاً شهيداً. وما زال يبكي حتى كاد يعشب خده:

ولو أن خداً كان من فيض عبرة

يُرى معشباً لا خضر خديًّ فأعشها

كأن الربيع الزهر بين مدامعي

بما اخضل فيه من ضني وتصيبا

على أنني لم أبك إلا مودعاً

بقية نفس ودعتني لتذهبا

وما زال هكذا حتى تخاصمت عينه وقلبه:

القلبُ يحسد عيني لذة النظر

والعينُ تحسد قلبي لذة الفكر

يقول قلبي لعيني كلما نظرتْ:

كم تنظرين؟ رماك الله بالسهر

العين تورثه هماً فتشَغلُه

والقلب بالدمع ينهاها عن النظر

هذان خصمان لا أرضى بحكمهما

فاحكم فديتك بين العين والبصر

ص: 21

فإذا نفد دمعه نادى:

نفدتْ عبرتي فهل

عبرةٌ أستعيرها؟

فأنت ترى من هذه اللمحة الموجزة أن الشاعرين مختلفان في حبهما وألمهما وبكائهما، وأن لكل مزايا. ولعلي أعود إلى خالد فأوسع الكلام عنه

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 22

‌التفسير الكيميائي

لأعمال العقل والحياة

للأستاذ حسين الظريفي

إن الحقائق العلمية التي أسفرت عنها بحوث الكيمياء الحيوية قد دلت على ارتباط مظاهر العقل والحياة بما يحمله الدم من مواد

قال أحد علماء علم الأحياء: (كنت أرتاب قبلاً في أن البحوث الكيميائية الحيوية والكيميائية النفسية تستطيع أن تسفر عن رأي من الآراء في ظاهرة ليست من ظاهرات الطبيعة والكيمياء، إلا أنني الآن أرى غير ذلك. ولأضرب على ذلك مثلاً غريباً بما قد يستطيعه بعض العلماء في المستقبل من القطع بأن نقصاً في إحدى مركبات الفسفور، وزيادة في فعل التأكسد في ناحية معينة من قشرة الدماغ، يصحبان دائماً العبقرية في الشعر

ولندلل على حقيقة عنوان المقال ببعض آثار ما تفعله الغدد الصماء؛ فقد ظهر أن هرمون البرولاكتين، وهو مما تصنعه وتدفعه الغدة النخامية في فصها الأمامي، ذو أثر خاص عند الإناث يدل على أن حب الأمومة قائم على أصل غزيولوجي ممثل بشكل مادة كيميائية قد تكون مؤلفة من جزيئات زلالية كبيرة

وعندما يبلغ أحدنا دور المراهقة تبدأ الغدد التناسلية بإفراز هرموناتها الخاصة، تلك التي تبدو على أثرها أعراض الصفات الجنسية الثانوية، مثل ظهور الشعر في الوجه وتضخم الصوت عند الذكور، ونمو الحوض والصدر وترسب الشحم تحت الجلد عند الإناث. فإذا كان في الغرائز الجنسية ما يبعثها على التهيج والغليان، فإن الطبيعة تسلك في تهدئة هذه الغرائز طريقاً كيميائياً يحدثه لها هرمون البرولاكتين. فقد ظهر أن من مزاياه عرقلة مغالبة الغدد التناسلية عندما تكون بها حاجة إلى التهدئة

على أن هذه الكتلة النسيجية الحمراء المستكنة في منخفض عند قاعدة الجمجمة التي لا يزيد وزنها عن نصف غرام ولا يربو حجمها على حجم حمصه كبيرة - وأعني بها الغدة النخامية - تعتبر الغدة الحاكمة في الجسم وإليها مرد الفضل في أعمال النمو البيولوجية

كذلك ظهر أن هرمون الثيروكسين وهو مما تفرزه الغدة الدرقية يقوم بأعمال الهدم والبناء في جسم الإنسان، وإذا قل مقداره عن حده المعتدل تعرض الإنسان للبله وقصر القامة؛ وأن

ص: 23

بتأثير هرمون هذه الغدة يتميز الأذكياء عن الأغبياء والأقوياء عن الضعفاء بالرغم من أن ما يوجد منه في الجسم مقدار يسير

أما هرمون الأدرنالين وهو مما يفرزه الكظران، فذو علاقة كبيرة بالتعبير عن الانفعالات القوية، ذلك أنه يؤثر في الشجاع فيقدم وفي الجبان فيحجم، ولهذا يزداد إفراز هذه المادة إذا تعرض الإنسان إلى خطر، وبمقدار هذه الزيادة تزداد قوته العادية فيندفع إلى القتال والاستبسال أو إلى التعلق بأذيال الفرار

وقد جاء الأطباء أن مركز الانفعال كائن في جزء من مؤخرة الدماغ، وأن بينه وبين الكظرين صلة وثيقة، فإذا وقف الإنسان في موقف أغضبه أو أخافه فأن مركز انفعاله في الدماغ يرسل في الجهاز العصبي سلسلة من الرسائل إلى الكظرين فتحملهما على إفراز هرمون الأدرنالين لإيصاله عن طريق الدم إلى الكبد، حتى إذا وصله حمله على إطلاق بعض السكر المخزون فيه لإيجاد طاقة جديدة، يدفع بها المرء عنه الخطر بالمقاتلة أو الهزيمة

إن هذه الحقائق العلمية تذكرني بما كتبه أحد الأساتذة في موضوع الرقة في النفس والذهاب إلى أنها من مظاهر القوة دون أن يقوم هذا التقرير على غير مجرد التفكير والإدلاء بالأدلة البيانية والواقع أن رقة النفس ككل ظاهرة أخرى إنما تقوم على أصول فزيولوجية تبعثها بعض المواد الكيميائية وليست هي وليدة ضعف أو قوة، وقد نجد قوي النفس أو الجسم قاسياً أو رقيقاً

إن جريمة القتل وهي أفضع ما يجره الإنسان على غيره، قد تصدر عن رجل لم تعهد فيه القسوة أو الغلظة، ذلك لأن الجاني لا يقوم بالجريمة مندفعاً بعامل من دماغه وإنما هي شيء يقع مما وراء الدماغ حيث يقوم الخلل في توازن ما تفرزه الغدد الصماء حتى لقد قال أحد العلماء:

إن غدد القاتل هي التي تسحب المسدس وتسدده نحو القتيل وتطلق عليه النار فترديه، وأن غدد السارق هي التي تنقل قدميه إلى مكان الجريمة، وهي التي ترفع يديه لأخذ مال الغير، وهي التي تدفع به إلى التواري والهرب.

فالإنسان من حيث تركيبه الكيميائي يقوم بالإجرام كما يقوم بغيره ومظهر الرقة ولطف

ص: 24

المزاج قد يكون في الجاني وقد يكون في غيره، بالنظر إلى قيام أو عدم قيام المواد الكيميائية التي ينبعث عنها ذلك المظهر.

وما تقدم في صدر هذا المقال عن قرض الشعر لا يخرج عن حدود الواقع، وقد ضربت لقريحة الشاعر مثلاً بالبطرية الكهربائية، فتأليف القصيدة يستهلك من قوي القريحة ما تحتاج فيه إلى أمد تستطيع به إعادة خزن ما فقد، شأنها في ذلك شأن البطرية الكهربائية فإنها تحتاج إلى الشحن المستديم بقدر ما تطلق من كهرباء.

هذا قانون طبيعي يجري حكمه على قريحة الشاعر كما تنفذ كلمته على البطرية الكهربائية سواء بسواء والنتيجة الحتمية لهذه الخاصة الآلية، هي أن الشاعر إذا أجهد ذهنه في قرض الشعر غير مبال بالاستهلاك دون التعويض، انحدر شعره إلى هوة الضعف في معانيه ومبانيه، كشأن كل مصباح يوصل بتيار بطرية لا يأتيها المدد بعد أن تنفذ.

إن عمل الفنان ورجل الصناعة وجناية الجاني، كل أولئك آثار ما تنفعل به مجاميع المواد الكيميائية، ولكن مجال هذه المواد لم يزل البحث فيه عند بداية طريق طويلة، ومتى يصل البحث فيه إلى الذروة يظهر كل شيء عند هذه المواد.

(بغداد)

حسين الظريفي المحامي

ص: 25

‌مدرسة.

. .

للأستاذ أحمد الطاهر

سجا الليل وغشى المدينة ظلام دامس، وكنت قد اخترت لليلتي كتباً أخلو إليها كما يختار الأصدقاء، قليلة العدد كثيرة الوفاء ولكنني برمت بها وبمجلسي، فطويت أجنحتها وعمدت إلى المصباح فأغمضت عينيه، واندفعت إلى شرفة بمنزلي ففتحت بابها وخلوت إلى السماء؛ فإذا القمر يطل منها على الأرض، ويسكب عليها فيضاً سخياً من ضوئه الوهاج. ولا يستطيع أولو الأمر في الحرب أن يرقوا إليه فيسدلوا عليه حجاباً أو ينذروه عقاباً وقلت في نفسي ما يقوله الناس في هذه الأيام: وا حسرتاه! كنا نجد في ضوء القمر لذة ومتاعاً حين كان السلم يبسط رواقه على العالمين، واليوم نوجس منه خيفة وارتياعاً، حين اتخذت الطائرات ضوءه سلماً تهبط به على الآمنين. وما كادت الحرب تخطر ببالي حتى دفعتها عنها دفعاً. وأرسلت البصر إلى السماء، فرأيت سحابة باسطة الذراعين تجرر أذيالها تسعى إلى القمر في تؤده ووناء؛ ثم تبسط يدها على وجهه فيخبو ضوءه قليلاً؛ ثم تنداح فتحجب أكثر هذا الضوء؛ ثم تنحاب عنه فإذا هو خارج من غمرته منبسط الأسارير كما عهدته وإذا السحابة تخلفه وراءها وتمضى وهو باسم بسمة الحليم حين يمتحن في حلمه وهي مطمئنة اطمئنان القوى حين يفوز بخصمه

سبحانك اللهم! وغفرانك! حسبنا أنا حرمنا نعمة الضياء بهذه الحرب فبسطت لنا في سمائك كتاباً فيه سطور من نور. وحسبنا أننا قطعنا الأسباب على كل مبعث للضياء بما أسدلنا من سجف وأستار وإذا ضياء سمائك لا يحجبه حاجب ولا يمنعه ستار!

ترى هل أستطيع أن أقرأ في هذا الكتاب المبسوط في السماء؟ هل من سبيل إلى فهم بيان السماء؟ هل أفوز من القمر والحساب والسماء والنجوم بحديث اطلع به على الناس مغتبطاً كما يزهو الصحفي حين يفوز بحديث زعيم أو عظيم مع ما بين الحديثين من تفاوت؟

ودار بخاطري أننا أنشأنا مدارس لتعليم اللغات الحية وعكفنا على دراستها حتى قتلناها وأنشأنا معاهد لتعليم اللغات الميتة، وعكفنا على ذكرها حتى أحييناه واحتدم بيننا الجدل فيما نفعل حتى اختلط الشك باليقين، وانتصر قوم لزكي مبارك وتشيع قوم لأحمد أمين، وما في ثبت تلك المدارس والمعاهد مدرسة لتعليم لغة الطبيعة ولا (حصة) لدراسة لسان لا سماء

ص: 26

والأرض الذي تنطق به كل المخلوقات ولا يفهمه إلا الأقلون؟!

وقدرت أن من الخير لنا أن نهيب بالشعراء والأدباء ليدلوا الناس على هذه المدرسة ويبسطوا لهم نظامها ونهج الدراسة فيها ليقبلوا على دراسة لغة الطبيعة وتخصص أسرارها بالبحث، وقدرت أن الإقبال على هذه المدرسة رهن بما يثار حولها من دعاوة وإعلان. ولما لا نحيط الفكرة بالدعاوى والإعلان ليقبل الناس عليها ونحن في هذا الزمان نحيض الباطل بالدعاوى والإعلان حتى نحسبه حقاً، ونبهرج الكذب والمين حتى يبدو لنا صدقاً واستوت لي في هذا التفكير صورة (إعلان) عن هذه المدرسة فإذا هي كما ترى:

مدرسة تعليم اللغة الطبيعية

المدرسة مؤسسة منذ أن خلق الله الكون وجعلها تذكرة وعبرة لأولى الألباب. مواد الدراسة فيها لا يحصيها حصر ولا يحيط بها بيان، ويأخذ منها الطلاب ما تسع جهودهم وتحمل إفهامهم: منها السماء ونجومها، والسحب وأمطارها ورعودها وبروقها، والشمس والقمر، واليابس والماء، والجبل والسهل، والشجر والثمر، والرياح والعواصف، والرمل والحصى، وكل ما تفزع إليه الأبصار البصيرة حين تضيق بها سبل الحياة فتلتمس في جمالها النجاة، وحين تحتبس النفس في ظلمة المادة فتلتمس الفرج في نور الطبيعة. ويدرس بالمدرسة الإنسان وطبائعه والحيوان وخصائصه كما تدرس العلل والأمراض في مدارس الطب وصحة الأبدان والدراسة في هذه المدرسة ليلية حتى دراسة الشمس! وقد اختير الليل لأن سواده ينم عن أدق أسرار الطبيعة كما ينم سواد العيون عن أسرار القلوب. والطبيعة خفِرَة رقيقة يؤذيها الأضواء الوهاجة وتؤلمها الأصوات الصاخبة، فلا تبدو في أنصع أثوابها إلا في سواد الليل، ولا يشرق وجهها إلا بعد غروب الشمس، ولا تستيقظ إلا حين ينام الناس، ولا تنطق إلا حين يصمت كل لسان. ويشترط للانتظام بهذه المدرسة أن يقدم الطالب شهادة بأنه قد مارس الجمال والحب والفن فلم يفرق بين ثلاثتها، وذاق لذاتها وآلامها وحلاوتها ومرارتها. ولا تقوم وثيق الزواج مقام هذه الشهادة. وأن يقدم شهادة موقعاً عليها من أثنين من كبار علماء الأرض يعترف فيها معهما بأن مبلغ علمه وعلمهما أن الثلاثة لا يعلمون شيئاً. والمدرسة تعد الطالب للعلم بلغة طبيعية، وعليه بعد هذا أن يناجيها بلسانها فيفهم أسرارها ويستودع أسراره ويقدس جمالها ويحدث عن جلالها. وأنه لموفق سعيد إن استطاع

ص: 27

أن يمضي معها في سبيل.)

وبعد فالشاعر أو الناثر الذي يفهم لغة الطبيعة ويتمرس بها لن يكون أدبه غثاً ولا تافهاً، ولن يجد فيما يخرج للناس أو لنفسه من شعر أو نثر عناء ولا عنتاً إلا بمقدار ما يختار من الألفاظ جزلها وما يسبغ على أسلوبه من طلاوة. ذلك بأنه في إبراز المعاني والأخيلة والتشبيهات لا يمنح من بئر عميق، ولا يرحل إلى مكان سحيق إنما يتناول ذلك كله مما أنطبع في نفسه، وأوحى به حسه، وانبجس من وجدانه، يجربه في قصبة يراعه فإذا هو شعر أو نثر يتسلسل تسلسل ماء النهر

هذا هو الأدب الذي توحي به الطبيعة أن صادفت نفساً صفية وإحساسا دقيقاً ووجداناً سامياً وخاطراً سريعاً. تجده أدباً حياً ناطقاً يصدر طواعية لإحساس موجود وشعور قائم بالنفس؛ ولا مراء في أن انطباع الصور في نفس الأديب شاعراً كان أم ناثراً هو الوسيلة التي تطوع له جيد الشعر أو النثر وذلك هو ما يعبرون عنه بهضم المعاني، يقصدون بالتعبير أن يكون المعنى قد أستقر في (بطن الشاعر) وجرى منه مجرى الدم وسرى فيه سريان الروح فلا يصدر إلا عما انطوى عليه إحساسه وقام بنفسه. وأنه ليجري مجرى هذا القول ما نراه من تأثر شاعر أو ناثر بشعر شاعر قبله أو ناثر تقدمه، أن كان المتأخر قد بذل جهداً في دراسة أدب المتقدم، وتقفي أثره وترسم خطاه. هنا لا نلبث أن نرى في شعر المتأخر وأدبه روح المتقدم ونفسه. وهنا يخطئ كثير من الناس فيحكمون على المتأخر بالسرقة؛ وإنه لتجن لا مسوغ له، وتعسف ليس له ما يجيزه. خذ مثلاً شعراء الأندلس في القرن الرابع الهجري، ترى أنهم أعجبوا بطريقة المتنبي ومذهبه وحاولوا السير على نهجه الذي ابتدع ولم يكن ذلك بدعاً فأن أهل المغرب إذ ذاك قد أغرموا بالتشبه بفحول الشعراء والأدباء من أهل المشرق؛ وأنك لواجد روح المتنبي ظاهرة بارزة في قول أبن هانئ الأندلسي:

فجزعتُ حتى ليس بي جزع

وحذرتُ حتى ليس بي حذر

ومن ذا الذي لا يلمس المتنبي في قول أبن زيدون:

سر أن في خاطر الظلماء يكتمنا

حتى يكاد لسان الصبح يفشينا

وهاك ابن زيدون هذا يقول في رسالته الهزلية: وغناك مسألة، ودينك وعلمك محزقة. ألا

ص: 28

يذكرنا هذا بما قاله المتنبي في ابن كيغلغ في ميمته التي أولها: لهوى النفوس سريرة لا تعلم؟ ولندع المتنبي فقد تقفي آثاره كل من جاء بعده فتأثر به بعضهم وسطاً عليه البعض؛ ولننظر إلى البحتري يصف بركة المتوكل:

إذا علتها الصبا أبدت لها حبكا

مثل الجواشن مصقولاً حواشيها

ولنضع إلى جوار هذا البيت بيتاً لأبن حمديس يصف بركة المنصور:

وكأنما نسج النسيم لمائه

درعاً فقدر سردها تقديراً

أنا لنجد الجوهر في البيتين واحداً، ولا يقبل بأي حال أن يحمل هذا محمل السرقة، وإنما هو تفاعل نشأ من امتزاج شعر الشاعر المتقدم بنفس الشاعر المتأخر

على هذا النحو من التفاعل يكون أثر الطبيعة في شعر الشاعر أو نثر الكاتب الذي يفهم لغة الطبيعة ويتأثر بصورها ويؤخذ بمظاهرها، ويفتن بجمالها ويؤمن بجلالها: تفيض عليه غيثاً دافقاً، وتوحي إليه وحياً صادقاً

وكذلك يكون الشعراء والأدباء

(الإسكندرية)

الصاغ أحمد الطاهر

ص: 29

‌3 - قيمة الحرية

للصحافي العالمي ويكهام أستيد

بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي

(تابع)

تصبح مدارك الحرية اقتصادية كانت أو سياسية، وهي آراء نسبية أي خاضعة لمقتضيات الظروف. والعلاقة الصحيحة القائمة بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية في وقت معين وفي ظروف خاصة هي عندي موضوع يجب أن يعرض في حينه للبحث الحر والدراسة الصحيحة والاستقراء السليم، وليست بتلك المذاهب السياسية أو الاقتصادية الموضوعة. فأصحاب المبدأ الذي نادى بحرية التجارة ورفع القيود الجمركية من ناحية، وأتباع العقيدة المرقصية من ناحية أخرى، مسئولون مباشرة أو من طريق غير مباشر عما أصاب لفلسفة الحرة من كسوف تلك الفلسفة التي كانت دعامة النظر الحر في القرن التاسع عشر. ولو قدر لدعاة الاشتراكية أن يقفوا اليوم وقد تملكهم العجب وحاروا من أثر ما يرونه من مقاومة الحكومات الاستبدادية لإقحام العقيدة المرقصية في روسيا وإكراه الناس على اعتناقها، فإنهم يحسنون صنعاً لو أنعموا في الأمر النظر ليعرفوا إلى أي حد قد يتكشف تحقير المرقصية والاشتراكية لمبادئ الحرية السياسية عن دواعي الشرور التي ألموا لها وبكوا عليها. إن ديكتاتورية الطبقات الدنيا ومذهب صراع الطبقات ليتناقضان مع النظر الفلسفي الصائب مثلما تتناقض معه عقائد الفاشية والنازية؛ إذ لا يتهيأ للناس مع الحكومات الاستبدادية التي تتولى السلطان باسم الطبقات الدنيا أو الطبقات المجردة من الملكية من كفالة العيش والاطمئنان للحياة أكثر مما يتهيأ لهم مع الحكومات الاستبدادية التي تنهض بالحكم على حساب جماعات الشعب الأخرى التي قد يكون لديها من حطام الدنيا ما يفرض عليها أن تفقده ويعز عليها أن تتخلى عنه أو تفقده. ولقد كان هتلر في عبارات قليلة من كتابه (كفاحي) أكثر فطنة وأبعد نظراً منه في تلك العبارات التي عبر بها عن مخاوف الطبقة المتوسطة الضعيفة من أن ترجع القهقرى فيلقى بها في غمار الطبقة الدنيا من الأجراء البائسين التي عملت على الإفلات من التردي في غمرتها. وما أصابه هتلر من

ص: 30

النظر الألمعي الذي هداه إلى أن يجعل حركة (الاشتراكية الوطنية) في وضع يتفق إلى حد ما مع رغبات الطبقة المتوسطة الرقيقة الحال الضعيفة الشأن في ألمانيا، لم يكن في واقع الأمر بأقل مما أصابه مرقص والمرقصيون الاشتراكيون الذين أسسوا ما رسموه من خطة للانقلاب الثوري الناجح على عقيدة قوامها أنه إذا تهيأ للطبقات الدنيا في جميع أنحاء العالم أن تتحد وتظفر من وحدتها بقوة لا تقف أمامها قوة، وبسلطان لا يقهره سلطان، وسعها أن تحطم أغلالها وتحقق آمالها. والفاشية والنازية قد طبعتا الظلم بطابع رسمي وهما تحسبان أنهما تذودان عن الملكية وتسهران على حمايتها. ولقد أعرب (دون سالفادور دي مدارياجا) عن حقيقة الأمر في أوجز عبارة ممكنة وبما مرن عليه من قوة البيان ودقة الأسلوب بقوله:(ليست الفاشية سوى صورة للشيوعية تراها العين على صفحة ماء يضطرب من الخوف).

وهنا وكما قصدت أن أبينه تتكشف الحقيقة عن أنه لم يكن بدعاً أن ينتظم هذه السلطات الاستبدادية المطلقة معنى واحد، هو أنها لا تحتمل للصحافة حرية، بل لا بد لها، أن تقضي عليها؛ وأولئك الرجال الذين لا يتأصل معنى الحرية في أنفسهم نتيجة لشعور سليم وإيمان متين غالب أمرهم أن يضيقوا بحرية الصحافة ذرعاً. إلا أننا من جهة أخرى نجد مجرد التشدق بالفضائل الديمقراطية والتمدح بالانضواء تحت لوائها، وهو لا ينهض بديلاً عن الإيمان بالحرية إيماناً صادقاً رشيداً. والحق أن فقر الفكرة السياسية وعقمها في الجماعة والأحزاب القديمة العهد، وفي الأمم التي ما زالت تنعم بحريتها هو من أعظم الشواهد العقلية على ما تكابده من خمول الشأن في زماننا هذا.

ومادام الناس قد كتب عليهم أن تستأثر المادة برغباتهم وتملك عليهم عقولهم ومشاعرهم فلا يعملون إلا لها، ولا يهتفون إلا بها، ويتأصل في معتقداتهم أنهم يعيشون للخبز وللخبز وحده، ومادام أغلب ظنهم أن بيد الاقتصاد السياسي مفاتيح الغيب التي تنفتح معها جميع الأبواب لتنفذ منها الحكمة الاقتصادية، فسوف لا تصبح لغة الحرية يوماً ما وهي لغتهم الشعبية. وسوف لا يتحدثون بها بذلك الأسلوب القوي السليم الذي يجري على لسان عظماء القادة ممن يقدرون قيمة الحرية حق قدرها، وإذ يعرفون لها فضلها يؤثرونها لذاتها. ومع ذلك قد تتكشف لهم الحقيقة عن أولئك القوم من رعاع الناس المحتقرين، ومن أعداء البشر من الممولين النهمين، ومن العمال المستضعفين ما برحوا وهم ينعمون بنصيب كاف من

ص: 31

الفطنة والرشد يدركون معه أن اختيار النظم الحرة للهيئات الاجتماعية اختياراً موفقاً صائباً لا يستقر في الأفكار والعقائد التي تنادي بها جماعة الشيوعية الاستبدادية من ناحية اليسار، والمذاهب والآراء التي تفرضها الهيئات الفاشية والنازية من ناحية اليمين، بل يجب أن ينهض على المبادئ الحرة المنظمة التي ظلت أعظم ما يصبو إليه النظر، وتنصب عليه التجارب في بريطانيا رجاء النهوض بمدينة الجنس البشري

إننا بحاجة لأن نمعن في تقصي هذا الموضوع والاستزادة من استقرائه ودراسته ما دمنا نترقب ما قد ينتهي إليه من التحكم في حرية الصحافة. وهنا نجد لزاماً علينا أن نتساءل لمَ بلغ تهديدهم للحرية هذا المبلغ الخطير، ولماذا انتهى إلى هذه الحال المروعة؟ ولماذا ضيع أمثال هؤلاء الناس العظام من الطليان والألمان حريتهم واستكانوا للذلة وخضعوا للطغيان؟ ولم يدلنا ظاهر أمرهم على أنهم يفخرون بتلك النظم التي تقضي على كرامة الإنسان وتضيق الخناق على الحرية؟ ولم نرى في بريطانيا هؤلاء القوم من عظماء الرجال العموميين وأصحاب الصحف الخطيرة الشأن الواسعة السلطان يطأطئون رؤوسهم ويطمئنون من نخوتهم أمام دعاة تلك النظم الاستبدادية وقادتها؟ ولم يتعامون عن تلك الجرائم النكراء التي تنادي بمسئولية قادة تلك النظم وهم إلى ذلك يعيرونهم آذاناً واعية ويمجدون أعمالهم؟

والجواب على ذلك هو أنه وقتما ينهض في الشعب نظام استبدادي كالشيوعية الروسية ويطبع نفسه بطابع من القوة الغاشمة والعنف المروع ثم يتأنى له بعون من رجال الشرطة الجبابرة القساة المنبثين في كل مكان أن يسحق الحربتين السياسية والشخصية ويحرم على الناس الملكيات الخاصة، تقف منه النظم الأخرى التي تزعم لنفسها حماية الملكيات الخاصة موقف المعارضة والمناضلة، ثم لا يكون منها هي الأخرى إلا أن تتخذ من سلاح القوة والعنف ومن رجال البوليس السري عوناً لها، لا للقضاء على أولئك الرجال وتلك الأحزاب من شيعة الشيوعية فحسب، بل ولتحطيم سند الحرية وحماتها وممثلي الديمقراطية أيضاً.

زين العابدين جمعة

ص: 32

‌18 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل السادس - الحياة المنزلية

جرت العادة أن ينصرف التاجر بعد تناول الفطور مباشرة إلى حانوته أو مخزنه ولا يعود إلى المنزل قبل الأصيل. ولديه هناك الفراغ الكافي للتدخين متى شاء، وكثيراً ما يدخن حرفاؤه معه، فيقدم إلى بعضهم شبكه الخاص، والقهوة يستحضرها من أقرب مقهى. وقد يمضي أغلب يومه في التكلم مع الحرفاء أو مع جيرانه من التجار. والتاجر يقيم صلاته على العموم في دكانه، ويتناول بعد صلاة الظهر طعاماً خفيفاً مثل طبق من كباب ورغيف من الخبز يحضرهما إليه خادم صغير من المنزل أو من السوق يومياً، أو بعض الخبز مع الجبن أو المخللات، أو غير ذلك مما يشتريه من الباعة المتجولين. ويدعو التاجر دائم الحريف إلى مشاركته الطعام، وقد يلح في الدعوة. ويحتفظ في دكانه بقلة كبيرة يملأها عند اللزوم سقاء متجول، ويعود التاجر إلى منزله مساء للعشاء، وسرعان ما ينام. . .

والعادة أن ينام الرجل هو وزوجه في سرير واحد، إلا أن أفراد الطبقة الموسرة يتخذون غالباً سرراً منفصلة. ويتكون السرير عند متوسطي الحال مما يأتي: حشية طوله حوالي ست أقدام، وعرضها ثلاث أقدام أو أربع، توضع على سرير منخفض من جريد النخيل، ومخدة ليستريح عليها الرأس، وملاءة تفرش فوق الحشية والمخدة. وغطاء الصيف خفيف، ويسمى (حراما)، أما غطاء الشتاء فغليظ محشو بالقطن ويسمى (لحافا). وقد توضع الحشية على الأرض إذا لم يوجد سرير، أو توضع اثنتان معاً واحدة فوق الأخرى، وكثيراً ما يكتنفها مسندان من مساند الديوان؛ والكلة تعلق فوق السرير بأربعة خيوط تشد إلى مسامير تدق في الحائط. ويندر أن يغير المصري ملابسه عند النوم. وفي الشتاء ينام بملابسه

ص: 33

العادية جميعها إلا الجبة والملابس الجوخية. أما في الصيف فينامون عراة أو شبه عراة. وينصب السرير شتاء في غرفة صغيرة تسمى (خزنة) وصيفاً في غرفة واسعة. ويطوي فرش السرير نهاراً ويوضع على جانب، أو في الخزنة السابق ذكرها. وعند اشتداد الحر ينام أغلب الناس على أسطح المنازل أو في (الفسحة): وهي غرفة لا سقف لها؛ ولكن تعرضهم للهواء الطلق أثناء الليل يسبب لهم الرمد وأمراضاً أخرى. وأكثر أنواع الأسرة شيوعاً ما يصنع من جريد النخل، وهو يجلب البق الذي يكثر كثرة فاحشة في مصر أثناء الصيف مثل كثرة البراغيث في الشتاء، وقد سبق ذكر هذه الحشرات والبلايا الأخرى التي يتعرض لها المصريون ليلاً ونهاراً. والقمل أكثر هذه الحشرات إثارة للاشمئزاز؛ ولكن الذي يغير ملابسه الداخلية كل يومين أو ثلاثة أيام قلما تضايقه هذه الحشرة، وأن لم يكن تجنبها سهلاً دائماً حتى مع النظافة التامة. وإذا كان القمل يضايق فأن من السهل الخلاص منه، لأنه لا يلصق بالجلد وإنما يوجد على العموم في الثياب. ومن الممكن أن ينظف المنزل من البراغيث بكثرة الغسل والكنس، وأن يمنع الذباب من الدخول بوضع الشباك على الأبواب والنوافذ، وإن كانت حلقاتها واسعة، ولكن من المستحيل أن يطهر المنزل المصري من البق إذا كان أثاثه من الخشب كما هو الحال غالباً.

وحياة الخدم الذكور كلها دعة وراحة ما خلا السائس الذي يجب عليه أن يرافق سيده وقت الركوب فيجري أمامه أو بجانبه وقد يقوم بعمله هذا في أشد الأوقات حراً ولمدة ساعات طويلة دون أن يبدو عليه التعب. ولكل ثري من أثرياء القاهرة تقريباً بواب يلازم باب المنزل، وعدة خدم ذكور آخرين. وأغلب هؤلاء مصريون. ويستخدم أيضاً النوبيون في القاهرة وفي غيرها من مدن مصر. وكثيراً ما يقوم النوبيون بحراسة الأبواب؛ وهم على العموم أكثر أمانة من الخدم المصريين. وأجرة الخادم تافهة لا تتعدى ريالاً أو ريالين في الشهر، إلا أنه يتناول منحاً كثيرة فيعطي السيد كل خادم في عيد الفطر بعض الملابس الجديدة أو خلعة كاملة من عرى وطربوش وعمامة. وعلى الخادم أن يدبر لنفسه ملابسه السنوية الأخرى ما عدا الحذاء أحياناً. وقد يتناول، علاوة على ما يعطيه السيد، بعض النقود من الضيوف أو من التجار الذين يعاملهم السيد وعلى الأخص عندما يشتري صفقة كبيرة. وينام الخدم بملابس النهار على الحصر، ويغطون أنفسهم شتاء بدثار أو حرام.

ص: 34

وكثيراً ما يرفع الخادم الكلفة مع سيده فيضحك ويمزح معه. وفي بعض الأحوال الأخرى يخضع كل الخضوع ويظهر له كل الاحترام، ويتقبل كل ما يوقعه عليه من العقوبة البدنية بهدوء الأطفال.

ويراعي السيد الخادم العبد أكثر من الخادم الحر؛ ويحيا العبد حياة توافق طبيعته الكسولة. ويمكنه إذا كان غير راض عن عمله أن يجبر سيده على بيعه. وأغلب عبيد مصر يلبسون الملابس العسكرية التركية. وهم على العموم أشد الناس تعصباً في مصر وأكثر تعوداً على إهانة المسيحيين وكل من كان على غير دينهم الذي اعتنقوه دون أن يعرفوا من مبادئه أكثر مما يعرف أطفال العرب الذين لم يمض عليهم في المدارس أكثر من أسبوع. وسأذكر بعض أخبار الجواري في الفصل القادم.

ومعرفة أحوال المصريين المحدثين كثيراً ما تجرنا إلى مقارنة عاداتهم المنزلية بعادات الأوربيين في القرون الوسطى؛ وما في هذه المقارنة من مشابهات، تعتبر اكثر تأثيراً مما فيها من مباينات، هذا بالنسبة للرجال؛ أما بالنسبة للنساء فالآمر على العكس

الآن وقد أطلت الحديث عن الرجال يجب أن أنتقل إلى الكلام عن الحريم. ولكن يجب أولاً أن أذكر بعض الشيء عن الزواج وحفلاته.

يعتبر المصريون امتناع الرجل عن الزواج بلا مبرر عند بلوغ السن الملائمة مخالفاً للآداب ومسيئاً للسمعة. وقد لقيت أنا نفسي لارتكابي هذه الخطيئة (أقول ذلك حتى لا أذكر ما هو أشد قسوة)، مضايقات ومكاره كثيرة، واحتملت عتاباً شديداً أثناء زيارتي الأوليين لمصر. فقد بدا لي في المرة الأولى أن أنتقل من المنزل الذي سكنته بعض شهور في شارع كبير من شوارع القاهرة إلى منزل آخر في حي مجاور، وكتبت عقد الإيجار ودفعت العربون، ولكن جاءني وكيل المالك بعد يومين يخبرني أن سكان الحي وأكثرهم أشراف يعترضون على سكني بينهم لأنني أعزب؛ ولكنهم يقبلونني بكل سرور إذا اقتنيت على الأقل جارية تنفي عني عار العزوبة. فأجبته إنني لا أنوي الإقامة بمصر فلا أحب أن أتخذ لي زوجة أو جارية قد يضطرني الرحيل إلى تركها. فأعاد إلي العربون. وساعدني الحظ في حي آخر فلم يعترض على عزوبتي أحد، وإنما طلب مني الوعد بعدم السماح لأي شخص يلبس القبعة أن يزورني في الحي. ولكن بعد أن أستقر بي المقام أخذ شيخ الحي

ص: 35

يحاول إقناعي بوجوب الزواج. ولم يقم وزناً لكل ما أبديته من الحجج التي تمنعني عن الزواج وقال: (تذكر لي أنك تريد ترك مصر بعد سنة أو سنتين. وأن هنا أرملة شابة جميلة تسكن على مقربة منك، ويسرها أن تصبح زوجتك مع رضاها بأن تطلقها حينما تترك البلد. وفي وسعك طبعاً أن تفعل ذلك إذا لم تعجبك.) وقد استطاعت هذه الشابة مراراً أن تجعلني أبصر وجهها الجميل أثناء مروري بالمنزل الذي تسكنه مع أهلها. فقلت لصاحبي إنني رأيت وجهها بطريق الصدفة، وإنها آخر امرأة أرغب في الزواج منها في مثل هذه الظروف لتأكدي من أنني لا أستطيع طلاقها أو فراقها إذا عشت معها. وقد شق عليّ أن أسكت صديقي الخدوم. لقد ذكرت في المقدمة أن الأعزب أو من لا يقتني جارية يضطر إلى السكنى في الوكالة إلا إذا كان يعيش مع أهله، ولكن الإفرنج الآن يّعفون من هذا القيد.

وتبلغ المصريات في سن مبكرة قبل نساء البلدان الباردة. وكثيراً ما يتزوجن في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة. وقد ينضجن قبل السن بشكل يستحق الاعتبار ويتزوجن في العاشرة. إلا أن هذا الزواج المبكر غير شائع. وقلما تبقين بدون زواج بعد السادسة عشرة. وقد تصبح الفتاة المصرية أماً في الثالثة عشرة أو قبل ذلك. ونساء مصر على العموم ولودات، ولكن الأجنبيات اللاتي توطن مصر عقيمات غالباً. ويندر أن يعيش من يولد في مصر من أولاد الأجانب إلى سن الكهولة ولو كانت الأم مصرية. ولهذا يرجع السبب في تبني المماليك المعتقين غيرهم من المماليك.

ومن الشائع بين العرب في مصر وغيرها أن يتزوج الرجل من ابنة العم أو الخال. ويستمرون بعد الزواج على التنادي بألقاب القرابة. لأن رابطة الدم لا تفصم، ولكن صلة الزوجية عرضة لزوال. ومثل هذا الزواج يدوم على العموم بسبب رابطة القرابة، وقد تربطهما وحدة البيئة في طفولتهما، ولكن قلما يسمح للفتى أن يرى وجه قريبته في الطبقتين العليا والوسطى، أو يقابلها أو يحادثها حين تقرب من سن البلوغ إلى أن تصبح زوجته.

ويتم زواج العذراء بالطريقة الآتية، إلا إذا كانت أرملة أو مطلقة فيكون الحفل صغيراً. تبدأ أم الراغب في الزواج أو إحدى قريباته بوصف الفتاة التي تكون عرفتها وذكر أحوالها، وترشده في اختياره. وقد يستخدم خاطبة وهي امرأة عملها أن تساعد الرجال في الزواج.

ص: 36

وقد يستخدم أكثر من خاطبة. وتقدم الخاطبة بيانها عن الفتيات مساره، فتصف الواحدة أنها كالغزال جمالاً ورشاقة صغيرة السن، والأخرى أنها ليست جميلة ولكنها غنية، وهكذا. والعادة أن تذهب أم الخاطب وبعض قريباته مع خاطبة لزيارة عدة بيوت. وللخاطبة حق الدخول لاحترافها سمسرة الزواج، إذا أن النساء كالرجال يستخدمنها أيضاً، وقد تقوم الخاطبة بمهنة (الدلالة) أيضاً تبيع الحلي والملابس الخ، فيسهل عليها دخول البيوت تقريباً، وتقدم النساء اللاتي يرافقن الخاطبة، للبحث عن زوجة لقريبهن، باعتبارهن زائرات فقط، وقد لا يلبثن طويلاً إذا لم يصادفن مرادهن، ويفهم الطرف الآخر طبعاً القصد من الزيارة ولكن إذا وجدن بين نساء المنزل (ولا بد من رؤيتهن جميع من يصلحن للزواج) فتاة أو امرأة شابة تتحلى بالصفات اللازمة يكشفن عن قصدهن ويستفهمن، إذا لم يكن طلب الزواج وقتئذ مستقبحاً، عما تملك الفتاة من أملاك وحلي الخ. وقد تملك الفتات إذا توفى أبوها منزلاً أو اكثر وحوانيت كثيرة الخ. وتملك كل بنت على وشك الزواج، في الطبقتين العليا والوسطى، مجموعة من الحلي الذهبية والجواهر في جميع الأحوال تقريباً. وبعد أن يستعلم الزائرات عن هذا وغيره يقدمن تقريرهن إلى الراغب في الزواج، فإذا رضى بذلك البيان يقدم إلى الخاطبة هدية ويرسلها ثانية إلى عائلة الفتاة لتعرفهن رغباته، وتبالغ الخاطبة على العموم في حديثها عن صفات الرجل الجذابة وثروته الخ، فتتحدث مثلاً عن شاب خامل تعلم هي أنه لا يكاد يملك شيئاً ولا يمتاز بشيء بقولها:(يا ابنتي، إن الشاب الذي يرغب في الزواج منك صغير السن لطيف العشرة أنيق أمرد ثرى جميل الملبس مغرم باللطائف؛ إلا أنه لا يستطيع أن يتمتع بهذا الترف وحده فهو يريد أن تكوني شريكته. وسيعطيك كل ما يشتري بالمال؛ وهو لا يخرج كثيراً؛ وسيمضي وقته كله إلى جانبك يلاطفك ويدللك).

عدلي طاهر نور

ص: 37

‌اللحن الجديد

(للشاعر المجهول)

بَعَد السنينَ الطوالْ

ورغَمَ كيدِ الأعاِدي

قد جازَ فيكَ المُحَالْ

ونِلتُ منك مرادي

الليلُ غَفْوَانَ يدري

ما كان بيني وبَيْنَكْ

وكنت في الليل بَدري

وكان نورُك حُسْنكَ

في لحظةٍ صار عيشي

يَفوقُ عُمرَ الوجودْ

فليحرسُ الحبُ طيشي

في قطف تلك الورود

تهْ بعد هذا وسافِرْ

إلى أقاصِي نَوَاكْ

لم يَبْقَ لي ما أحاذرْ

من شقوتي في هواك

لِمَنْ صفاؤك بَعدِي

كدَّرتُ بألفَتْكِ وِرْدَكْ

أعيش أن رُمتُ وحدي

فِعش إن استطعتَ وحدك

أنت الأسيرُ الرهينْ

لصَبْوَتي وخَبَالي

فأحذَرْ حِذارَ الطعين

من سطوتي وصِيالي

أأنت تُخِلف وعدكْ

وكنتَ رمز الوفاء؟

أأنت تُنكر عهدكَ

يا جذوةً من صفاء؟

لِمن تكون؟ أجِبِني

فأنت فوقَ الظنونْ

بمن أهيم؟ أعِذني

قد طاب فيك الفُتُون

لو شئتُ، لا شِئتُ، طارت

غوايتي عن حِماك

ولو أردتُ لجالتْ

مآثمي في رُبَاك

يا مِحنتي في المساء

وِفتنتي في النهارْ

قد طال فيك العناء

فأين مِنْك الفرارْ؟

ماذا يريدُ غِضَا بُكْ

ماذا يروم جَفَاكْ

إلى الفؤاد إيابُكْ

إذا أردتُ لَقِاك

ارجعْ إلي تَجِدني

كما عهدتَ وأسمحْ

ص: 38

أو فانْتَظِرْ بَعدُ مني

فَتى يسًّمى ويذبح

ظبي يروح ويَغْدُو

في شائكات السُّهوب

ويأمنُ الليثُ يَعدو

أأنت ذاك اللعوب؟

سأستبيحُ احْتِبَالكْ

إن ثارَ شوقي إليك

سأستجيزُ اغتيالك

إن طال خوفي عليك

بيني وبين اقتناصِكْ

صُبَابةُ من حَيَاءْ

فاسلُكْ سبيل خلاصِكْ

إن اشتهيتَ البقاء

إن كنتَ تنُكِرُ جهلاً

فَتْكَ القلوب الجوارحْ

فسوف أسقيك سَجْلاً

يُدمى عيونَ النوائح

لا، لن تكونَ لغَيِرِي

والله، لا، لن تكونْ

وكيف يا وَحْيَ شِعري

أهابُ فيك المَنُون

أضلُّ حُّبك قلبي

والحبُ كالنُّور يهدي

أكان عندكَ ذنبي

أني وفيتُ بعهدي؟

لولا التقَى لجعلتُكْ

تسبيحهً في الصلاة

ألا تراني أصرتُكْ

تغريدةً في الحياةْ

أدوسُ جَمْرَ الجحيمْ

عند ارتياد جمالكْ

فأين روضُ النعيمْ

عند استياف وصالك

لَحنُ كلحِن الرحيقْ

في الكأس، ذاك بغامك

فهل تراني أفِيقْ

ومن شرابي كلامُكْ؟

خدًّاكَ خَّداكَ، آهاً

من الجمال الفصيحْ!

عيناكَ عيناكَ، واهاً

من الفُتُون الجريح!

لم يُؤذني بُخْلُ لفظِكْ

في جَهْرِه واُلْخُفوتْ

عرفتُ من وْحي لحِظكْ

أن الهوَى لا يموتْ

لو قيلَ يومَ احتضاري

هذا شقيقُ الفؤادْ

لأشرقتْ بك داري

وكان يوم المَعاد

ص: 39

مَن أنتَ؟ ضلَّ العَذُولْ

في غابة الافتضاحْ؟

مَن أنتَ؟ لا، لن أقولْ

سِر الهوَى لا يُباح؟

(الشاعر المجهول)

ص: 40

‌الزنبق

للأستاذ خليل مردم بك

حَيًّتْكَ باسمةً ثغورُ الزنبق

مفترةً عن طيَّبٍ متألقَِّ

ضَمًّتْ براعُمها شِفاهَ مقبًّل

وحنتْ عليكَ حنو صبٍ شَيَّقِِ

وكأنها في الماء خود شًّمرَتْ

عن ساقها عند الورود لتستقي

وكأنها استحيتْ فغضًّت طرفهَا

وتطأمنتْ خفراً برأس مطرق

نهلتْ أفاويقَ الندى زهراتهُا

فتفتحتْ كالشارب المتمطق

لم تقوَ صُغراها على برد الندى

أفما تراها ذاتَ ثغر أزرق

وترى عناقيد البراعم تنضوي

متلازماتٍ في عناقٍ ضًّيق

من طيًّبِ الأنفاس والأردان ذي

جفنٍ على حلم التعانق مطبق

عذراءُ تستهوي العيونَ بطلعةٍ

وضًّاءة بيضاء كالعرض النقي

تختال من زهو الصبى في ميعةٍ

ومن الشباب وحسنه في ريًّق

فكأنها ببياضها وسنائها

برزتْ إليك من الضحى في رونق

وتسربلتْ بغلالٍة وبريطةٍ

من سندسٍ خُضْرٍ ومن إستبرق

خفًاقة الأقراطِ زهراء الحلي

معقودة الإكليل فوق المفرق

ما أقبلتْ إلا بثغرٍ باسمِ

وبمقلٍة نشوى ووجهٍ مُشرق

وكأنها سكرى تمايل عنقُها

ورنتْ بجفنٍ النعاس مرنًّق

مر النسيم على الندى بجفونها

فترجرجت قطراته كالزئبق

أني ليشجيني الندى متعلقاً

بجفونها كالمدمع المترقرق

تُغني بريًّاها وطيب شميمها

عن بابليٍْ في الدنان معًّتق

أنفاسُها تحي النفوسُ وريحها

روحُ تشيع بسائف متنشق

هيفاء إن رفًّتْ أعاليها بدتْ

في الحوض شروي راية في زورق

ما شئت في زهراتها من كوكبٍ

متألقٍ بشعاعه متمنطق

كم زهرةٍ رفًّتْ فخلتُ فراشةً

بيضاء رفًّ جناحُها بترفق

أطباقها مثلُ الأنامل شُبًّكَتْ

في كل كمٍ تلتقي في مأزق

ص: 41

أو كالجفون طويلة أهدابُها

من ناعسٍ ومغمًّض ومحدًّق

أو لؤلؤ رطب تشظى حوله

صدف أناف على بياض المهرق

إن الذي خلق الأزاهر خصًّها

بقضيبها وبتاجها والبيرق

الحوُرُ في جنات عدنٍ تُجتلي

والِبيضُ منها في خمائل (جِلًّقٍ)

(دمشق)

خليل مردم بك

ص: 42

‌البريد الأدبي

غُبْر وعَبْر

لخص الأستاذ الكبير ا. ع في كلمته المنشورة بالعدد 438 من الرسالة

القضية التي بيننا حول كلمة (عبر) واحتجاجي لها واحتجاجه عليها.

وكنت قد أزمعت أن أفصل بالشواهد رأي. حتى نشرت الرسالة بالعدد 439 كلمة للأديب محي الدين صابر بدار العلوم يدلنا على رواية أخرى لهذه الكلمة في بيت سوار بن قارب وجدها في تفسير ابن كثير وهي:

فشمرت عن ساقي الإزار ووسَّطَتْ

بي الدعلب الوجناء غبر السباسب

ثم قال إنه لا يستبعد أن تكون رواية عبر مصحفة عن غبر، ثم نقل عن اللسان أن الغبراء هي الأرض التي لا يهتدي إلى الخروج منها.

وأقول: إنها رواية سديدة جيدة، ويؤيدها كثرة ورود هذه المادة (اغبر - غبراء. . .) في وصف السفر وقطع السباسب والفلوات، ومن ذلك قول ذي الرمة:

وغبراء يقتات الأحاديث ركبها

وتشفى ذوات الضغن من طائف الجهل

وقول القُلاخ:

وبلدٍ أغبر مخشيَّ العطب

يضحي به موج السراب يضطرب

وقول ذي الرمة أيضاً:

وغبراء يحمي دونها ما وراءها

ولا يختطيها الدهر إلا المخاطر

ومع هذا أقول: إن لهذه الرواية وجهاً من الضعف لا يخفي على اللبيب. . .

ذلك أن العامل في كلمة غُبر في رواية ابن كثير هو الفعل (وسطت). . . والكلام بهما مستقيم لا غبار عليه. ولكننا نعلم أن الرواية في بعض المصادر (أرقلت) وهذه لا تتفق مع كلمة غبر جمع غبراء ولا يستقيم الكلام بهما لأن الأرقال هو الإسراع وفعله لازم. فما معنى (وأسرعت بنا الناقة غبر السباسب)؟

زد على ذلك أن الروايات مختلفة في هذه الكلمة فهي (عبر) في جمهرة شعر العرب ص 26، وهي (بين) في سفينة الراغب ص 638، والسيرة الحلبية ج1 ص 267، وشرح لامية العجم للصفدي ج1 ص 18، وهي غبر في ابن كثير.

ص: 43

واختلاف الروايات على هذا النمط - مضافاً إليه وجه الضعف الذي ذكرت يعوز رواية ابن كثير إلى مرجح. فلسنا نستطيع إذن أن نقطع بها إلا بهذا المرجح المنشور

وبعد. . . فقد رجا الأديب محي الدين أن تكون هذه الرواية قد حلت ما بيننا من ألغاز النحو وأحاجيه، وأقول أن القضية قد خرجت من كلمة (عبر) صحيحة كانت أو فاسدة، إلى قضية نحوية أخرى جديرة بالبحث والتمحيص، قلت وقال فيها الأستاذ أ. ع وليس من مصلحة اللغة أن يبتر الكلام فيها. . . هي قضية المصدر الذي يقع حالاً. وإن لي في هذا الموضوع بحثاً للاجتهاد فيه نصيب كبير أرجو أن أوفق إلى عرضه إن اتسع صدر الرسالة لمثل هذه البحوث وإنه لكذلك إن شاء الله

محمد محمود رضوان

رسالة المعلم الإلزامي وكيف ينبغي أن تكون

أبنا في كلمتنا السابقة عما يجب أن يكون عليه المعلم الإلزامي ووعدنا القارئ الكريم أن نجيب على تلك الأسئلة التي طالما جهر بها المشفقون على الأمة عن رسالة المعلم الإلزامي وهل يقدرها المعلم؟ وهل أداها على الوجه المرضي؟ وإذا لم يكن فلماذا.

إما أن المعلم يعرف رسالته فهذا ما لا سبيل إلى جحوده، وإما أنه أداها على الوجه الأكمل فهذه مسألة فيها نظر. . .

قام المعلم بعمله على قدر ما وسعه جهده، ولكنه ارتطم بعوامل قوية حدت من عمله، وأضعفت من معنويته، وكان من أهم تلك العوامل.

1 -

أن وضع نظام (التعليم الإلزامي) لم يكن الوضع الطبيعي لمسايرة حاجة المجتمع فلم يحدد له هدف، ولم يرسم له خطة فنظام (نصف اليوم) وتخبط الوزارة في خطط الدراسة والمقررات وعدم الاستعانة بعنصر المعلم الإلزامي فيما يعتروها من مشاكل جعلته يمش حبواً.

2 -

عدم تقدير المعلم، لا من الحكومة ولا من الشعب، والحكومة وضعت العراقيل في طريقه ولم توفر له وسائل العمل، والشعب نفسه لم يتهيأ لأن يهضم هذا النوع من التعليم، ونظر إليه نظرة المتشكك الوجل - وكان الناس في هذا فريقين: فريق الأغنياء، وقد خشوا

ص: 44

على أنفسهم أن يتعلم الشعب، في هذا انهيار لهم كما كانوا يظنون. . . وفريق العامة، وقد كانوا نحو التعليم كالطبيب المداوي مع مريضه الجاهل.

3 -

مرتب المعلم: حددت له الدولة راتباً ضئيلاً لا يكفيه القوت الضروري، فجعلته يئن تحت عبء الحاجة

4 -

أرهق بالعمل إلى درجة الإعياء، وضنت عليه الدولة بما يفتقر إليه من كتب ومراجع وأدوات

ولكن المعلم بقي وحده يصارع تلك العوامل بقوى نفسية عجيبة كان من أثرها قيام (اتحاد التعليم الإلزامي)، فساعد المعلم على إزالة تلك الأشواك من طريقه، وأمكنه أن يسمع صوت المعلم لمن بيدهم الأمر، وهاهو ذا قد نجح بعض الشيء، وكان من أثر ذلك أن تهيأت الأسباب لقبول دعوته، وأرهفت الآذان وتفتحت لسماع حجته، فتحركت الوزارة أخيراً فنشطت للعمل، وهاهو المجلس الأعلى ينظر ويبحث.

ولو أن الدولة كرست جهودها لتحقيق مطالب التعليم الإلزامي ويسرت للمعلم أسباب العمل - كفاها مؤونة تلك الجهود التي تذهب سدى من تلك الجمعيات - ولقام هو بأفضل مما تقوم به وزارة الشؤون الاجتماعية

والأمل كبير في الله وبفضل الاتحاد والاعتصام بالعروة الوثقى، ومن كان لهم الفضل في الأخذ بيد المعلم وعلى رأسهم أستاذناً الكبير الزيات أن تثمر رسالة المعلم وينجح التعليم، وأن تنهض البلاد، وفقنا الله إلى ما فيه الخير

محمود محمد عبد

وكيل نقابة القاهرة للتعليم الإلزامي

خطأ في كتاب المفصل

في كتاب (المفصل في تاريخ الأدب العربي) - تأليف بعض رجال المعارف - الأبيات التالية منسوبة إلى ابن رشيق القيرواني:

ولما بدا لي أنها لا تحبني

وأن هواها ليس عني بمنجلي

تمنيت أن تهوى سواي لعلها

تذوق صبابات الهوى فترق لي

ص: 45

فما كان إلا عن قليل وأشغفت

بحب غزال أدعج الطرف أكحل

وعذبها حتى أذاب فؤادها

وذوقها طعم الهوى والتذلل

فقلت لها، هذا بهذا، فأطرقت

حياء وقالت: كل عائب ابتلى

وهذه الأبيات نسبها أبن رشيق في عمدته إلى علي بن الله من سلالة جعفر بن أبي طالب حيث قال: (ومثل هذه الحكاية ما قاله بعض الكتاب، وقد دخل على علي بن عبد الله بن جعفر ابن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وهو محبوس، أين هذا الجعفري الذي يتديث في شعره؟ قال علي: فعلمت أنه يريدني لقولي: ولما بدا لي الأبيات فقلت أنا هو جعلت فداك)

(العراق - حلة)

جواد كاظم

بين صبري وابن دريد

وقع نظري على أبيات في الغزل لإسماعيل صبري وردت في ديوانه. . . بعثت في نفسي دهشة عجيبة لا لروعتها وفتنتها، بل لأنها خلقت مشكلة عجيبة، فما هي هذه المشكلة؟

المشكلة أن هذه الأبيات بقليل من التحريف اللفظي وجدتها منسوبة (لأبي بكر بن دريد) في مقال للشاعر الكبير محرم بالعدد الثاني من المجلد الثالث لمجلة أبولو (أكتوبر سنة 1932)

أما البيتان الواردان في ديوان صبري فهما:

إن الذي أبقيت في مهجتي

يا متلفَ الصبِ ولم يشُعِر

حُشاشة لو أنها قطرةُ

تجول في عينيكَ لم تُنْظَرِ

وأما بيتان (أبي بكر بن دريد) الواردان في مقال الشاعر محرم فهما:

إن الذي أبقيت (من جسمه)

يا متلفَ الصَّبِ ولم يشعر

(صُبابةُ) لو أنها قطرةُ

تجول في جفنيكَ (لم تقطر)

فليس من شك في أن صبري قد سرق البيتين وليس له غير تغير لم يوفق فيه. وليس من شك أيضاً في غفلة المحققين لديوان صبري عن هذه السرقة العجيبة.

حسين محمود البشبيشي

ص: 46

أيهما أصلح لتعليم الأطفال المعلم أم المعلمة؟

كنت أعتقد بعد أن كتب الأستاذ الزيات كلمته عن المعلمين وبعد أن قدم الأستاذ مصطفى شكري بك تقريره عن التعليم الأولي، أن وجه الحق في هذا الموضوع قد أصبح واضحاً، وأن مجال القول لم يعد في حاجة إلى إعادة، وباب الكلام لا يتسع لزيادة!

ولكني قرأت في جريدة (المصري) رأياً لوكيل وزارة المعارف المساعد الأستاذ شفيق غربال بك استحسن فيه إحلال المعلمات محل المعلمين، وتمنى لو استطاعت الوزارة أن تعمم هذا في جميع المدارس. وقال:(إن إحلال المعلمات محل المعلمين في المدارس الأولية والإلزامية للبنات مشروع عظيم؛ لأن المعلمة كالأم، والأم أولى بحضانة الطفل، ولو استطعنا أن نعمم ذلك في المدارس الأولية والإلزامية، لكان هذا أوفق وأحسن)

قرأت هذا وفهمت منه أن الأستاذ الوكيل يرى أن المعلمة أوفق وأحسن من المعلم حتى في تعليم البنين، لأنها كالأم والأم أولى بحضانة الطفل!!

ولا شك أن هذا الكلام يقال في مقام العواطف لا في مقام التربية والتعليم، وإن حرمان الطفل من عناية المعلم أبلغ في الضرر من حرمانه من رعاية المعلمة! وحاجته إلى أبيه، لا تقل عن حاجته إلى أمه، وإذا قلنا إن المعلمة ستبعث في نفسه الحنان والعطف والرقة والشعور بالجمال، فأنه سيبقى مع ذلك في حاجة إلى من يعلمه الرجولة والشجاعة والحزم والتضحية والبطولة والاعتداد بالنفس

ومن الذي يستطيع هذا غير المعلم؟

أما الحضانة فليست للأم إلا قبل سن التعليم. فإذا بلغ الطفل السابعة كان لأبيه بنص الشريعة؛ لأنه أدرى بتربيته، وأبصر بمصلحته.

وإذاً يكون الاستدلال بحق الأم في الحضانة غير مستقيم مع قواعد المنطق، ولا مع وقائع الحال والناس يرون الرجل الذي تنفرد المرأة بتربيته ناقص الرجولة ويقولون عنه (إنه ابن امرأة!!)

ولم تأخذ البلاد الأوربية إلى الآن بنظرية انفراد المعلمة بتربية الطفل مع أن المرأة عندهم سبقت المرأة عندنا بأجيال! كما أن ثقافة المعلم عندنا أرقى من ثقافة المعلمة، لأن منهاج

ص: 47

مدارس المعلمين أوسع من منهاج مدارس المعلمات؛ والمعلم يزيد في ثقافته بالدرس والمطالعة، بينما المعلمة لا تفكر في شيء من هذا بعد خروجها من المدرسة. والوزارة نفسها جعلت مناهج البنين غير مناهج البنات في المدارس الإلزامية! وفي كل هذا ما لا يستقيم مع رأي سعادة الوكيل!

على أن الوزارة قد حاولت تجربة هذه الطريقة منذ خمس سنوات، فأشركت المعلمات مع المعلمين في مدارس البنين. وترتب على هذا أن ساءت الحالة العلمية وأختل النظام؛ لأن المعلمة كانت تقف في وسط التلاميذ حائرة. فإذا ثاروا وعجزت عن إسكاتهم جلست تبكي مغلوبة على أمرها، حتى يأتي أحد المعلمين فيسكت التلاميذ عند رؤيته ويلزم كل وأحد منهم عمله!

وأذكر أن معلمة ذهبت تشكو لرئيس المدرسة تلميذاً، لأنه كان كلما ضربته بالمسطرة على يده يضحك ويسألها المزيد!

واضطرت الوزارة أخر الأمر وبعد أن ضج المفتشون من الفوضى. إلى تخصيص المعلمات بالتعليم في مدارس البنات! وإذن يكون القول بإحلال المعلمات محل المعلمين في المدارس الإلزامية مجازفة غير مؤمنة العاقبة، وفكرة أثبتت التجارب السابقة فشلها!

وأكبر ظني أن مثل هذه الآراء المرتجلة، هي التي أضاعت التعليم الإلزامي، وأفسدت طرائقه، وغيرت حقائقه، وحالت بينه وبين الإنتاج المنشود. ولو أنصف القائمون بأمره لردوا الأشياء إلى أصولها، والأصول إلى قواعدها، ولرجعوا إلى المعلم يسألونه رأيه فيما هم فيه مختلفون، ويستخبرونه عما لا يعلمون.

(المنصورة)

علي عبد الله

ص: 48

‌القصص

الميتة. . .

لجي دي موباسان

بقلم الأديب كمال رستم

أحببتها حباً عنيفاً! لم يحب الإنسان؟ أليس عجيباً ألا ترى في العالم إلا إنساناً! ألا تقوم في النفس إلا فكرة! ولا في القلب إلا رغبة! ولا في الفم إلا اسم! أسم يرقى دواماً!. . . يرقى كماء نبع ثجاج من أعماق نفس ولهى! يرقى إلى الشفاه! نذكره! ونذكره! نتمتم به دائماً، وفي كل مكان كأنه صلاة!

سوف لا أقص قصتنا؛ فليس للحب إلا قصة واحدة! قابلتها وأحببتها! هذا كل ما في الأمر! وعشت عاماً تغمرني برقتها، وتحتويني بين ذراعيها، وتخصني بظرفها وترعاني بلحظها؛ وتلفعني بأدثرتها، وتهمس إلي بكلماتها!. . محاطاً مطوقاً، حبيساً في كل ما يصدر عنها بهذه الطريقة الفاضلة التي لم أحاول أبداً أن أعرف غيرها، ليلاً كان أو نهاراً، حياً كنت أو ميتاً، على هذه الأرض العجوز أو في مكان آخر!

ماتت زوجتي إذن! كيف؟. . . لا أدري!

عادت ذات مساء مطير، يبلل المطر ثيابها، وفي اليوم التالي حملت، واستمرت تشغل حوالي أسبوع لزمت بعده سريرها!

كيف حدث ذلك؟. . . لا أدري!

عادها أطباء. . . وصفوا الدواء. . . ومضوا!. . .

واستحضرت أدوية. . . وامرأة تجرعها إياها!. . .

كانت يداها دافئتين وجبهتها متقدة منداة، ولحظها وامضاً حزيناً. حدثتها وأجابتني! ما الذي قلناه؟ لا أدري!

نسيت كل ما قيل! كله. . . كله!. . . ماتت إذن! وإني لأذكر جيداً آهتها الخافتة. آهتها الأخيرة!. . . وتأوهت الممرضة قائلة: (آه)! فأدركت. . . أدركت!. . .

لا شيء عرفت أكثر من ذلك أبصرت قساً انفرجت شفتاه عن كلمة (خليلتك)! خيل ألي أنه

ص: 49

سبها فليس لنا الحق منذ ماتت أن ندعوها كذلك، ولذلك طردته!

وحضر آخر وكان طبيب القلب للغاية، لطيفاً للغاية حق لقد استعبرت عندما حدثني عنها! ولقد أخذ برأي في ألف شيء بخصوص الجنازة، لا أذكر الآن منها شيئاً مطلقاً وإن كنت أذكر جيداً صورة ناووسها؛ وصوت المطرقة حينما أغلقوه عليها!. . . أواه يا إلهي!. . . وووريت. . .! ووريت! هي! في هذه الحفرة! وحضر بعض الناس! بعض الأصدقاء! فررت منهم همت على وجهي طويلاً في الطرقات! ثم عدت أدراجي إلى منزلي؛ وفي اليوم التالي قمت بسفرة طويلة!. . .

رجعت أمس إلى باريس!. . .

وعندما رأيت ثانية غرفة نومي؛ غرفة نومنا! مهادنا أثاثنا، كل ما في هذا المنزل. . . كل ما بقى من حياة شخص بعد موته. . . أصبت برجعة حزن محض! فقمت إلى النافذة وأطلت منها على الطريق!. . .

ولما لم أستطع أن أصبر على الإقامة بين هذه الأشياء، بين هذه الجدران، تناولت قبعتي وخرجت أبغي فكاكا! وفي طريقي إلى الباب مررت بمرآة البهو الكبيرة التي وضعتها هناك، لترى فيها نفس من رأسها إلى أخمص قدميها كل يوم عند خروجها لتتأكد من زينتها كاملة، وأنها تبدو جميلة آسرة من حذائها إلى قبعتها!. . .

وقفت أحدق في هذه المرآة التي طالما عكست صورتها طالما! طالما!. حتى خيل إلى أنها تتراءى فيها!. . .

كنت ثم واقفاً، مرتجفاً، وعيناي مثبتتان على زجاج المرآة، على الزجاج المسطح! الضيق! الرحيب!. . . الزجاج الذي يحتويها بأكملها؛ يتمتع بمشاهدتها أكثر مني؛ أكثر من نظرتي الولهة!. . . خيل إلي أني أحببت هذه المرآة! لمستها؛ ألقيتها باردة أواه! يا لها من ذكرى يا لها من ذكرى!

مرآة مؤلمة! مرآة متقدة مرآة حية! مرآة مروعة!. . . سعداء هؤلاء الذين يحكى قلبهم مرآة؛ يدعون صور المرئيات تنزلق عليها، ويزيلونها متى شاءوا، فينسى كل قلب ما احتواه؟. . . كل ما سر أمامه! كل ما شاهده! كل ما سدد إلي عواطفه!. إلى حبه. . . كم أتألم!. .

ص: 50

وخرجت، وعلى غير وعي! على غير إدراك؛ دلفت إلى المقابر. وثم رأيت رمسها بسيطاً جداً. . . رأيت صليباً من الرخام نقشت عليه هذه الكلمات؟. . .

(أحبتني وأحببتها ثم ماتت)!

كانت هناك! في أسفل! عظاماً نخرة! يا للهول!

لبثت هناك طويلاً، طويلاً. . . ولما أقبل الليل قامت في نفسي رغبة غريبة، رغبة مجنونة، رغبة نفس قانطة! تشوقت إلى قضاء الليلة قريباً منها. . . ليلة أخيرة أذرف دمعي على قبرها!

ولكنهم سيبصرون بي وسيطردونني؛ فما العمل؟. . . نهضت، وأخذت أضرب في مدينة الموتى هذه. . . مضيت! مضيت! كم هي صغيرة هذه المدينة إلى جانب أختها؛ تلك التي نراها، ومع ذلك فالأموات أكثر عدداً من الأحياء.

وأنه لمن المفارقات حقاً أن تكون كل هذه الدور الفخيمة، والميادين الفسيحة؛ كل هذه المساحة الشاسعة للأحياء القليلين، يرقبون النهار ليتنفس، ويكرعون ماء الينابيع وسلاف الكروم، وينعمون بخيرات السهول، بينما لا يكون لكل أجيال الموتى شيء. . . حقل. . . تقريباً لا شيء. تستردهم الأرض. تجعلهم نسياً منسياً. . . تبتلعهم. . . ثم الوداع!. . .

وفي نهاية القبور المأهولة، أبصرت فجأة القبور المهجورة، حيث بليت جسوم الموتى على طول الزمن وتم اختلاطها بالثرى! حيث الصلبان نفسها قد تداعت. . . وحيث يرقد في الغد هؤلاء الذين قدر لهم أن يفنوا. . . مكان مليء بالورود المبعثرة، وأشجار السرو السوداء السامقات. . . حديقة حزينة شاسعة تعيش على جثث البشر. . .

وكنت هناك وحدي فتسلقت شجرة خضراء وتواريت بين أفنانها الغليظة الظليلة كغريق يتشبث بما يصادفه. . .

ولما إحلولك الليل. . . غادرت مكمني ومشيت في خطوات وئيدة في خطوات مخنوقة على هذه الأرض المفعمة بالموتى. . . وأخذت أجول طويلاً طويلاً دون أن أقف لقبرها على أثرها. . . الذراعان ممدودتان. . . العينان مفتوحتان. . .

متلمساً القبور بيدي، بقدمي، بساقي، بصدري، برأسي نفسه. . .؟

مضيت كضرير يتلمس طريقه. . . لمست الأحجار، والصلبان، والنوافذ الحديدية،

ص: 51

والتيجان الزجاجية، والأكاليل الزهرية الجافة. . .

ورحت أقرأ الأسماء بأصابعي أمر بها على الحروف. . . يا لها ليلة، يا لها ليلة؟ لم أجد قبرها. . .

وكان القمر غائباً فاستولى علي الخوف، وخوف مروع في هذا المكان الموحش. . . بين صفين من القبور. . .؟

القبور! القبور! القبور. . .!

قبور. . . إلى اليمين وإلى اليسار. . . إلى الأمام وإلى الخلف. . . في كل صوب قبور. . .!

تهالكتُ على واحد منها، لأني لم أستطع أن أتابع السير أكثر من ذلك. . . لأن ساقي كانتا تلتويان. . . أصخت بأذني أصغى لو جيب قلبي. . . أصغي أيضاً لشيء آخر. . . ماذا. . .؟ نبأة مبهمة لا أسم لها. . . أكان ذلك في رأسي المجنونة. . . أكان ذلك في غبش الليل الضارب سجوفه وإسداله أم تحت الأرض الخفية. . . تحت الأرض المزروعة بجثث البشر؟!

كم من الوقت مكثت هناك؟ لا أدري. . . غدوت قعيداً من الخوف. . . أصبحت ثملاً من الرعب. . . على أهبة الصياح. . . على أهبة الموت. . . وفجأة، خيل إلي أن لوح الرخام الذي كنت جاثماً فوقه قد تحرك. . . حقاً، تحرك كما لو كان قد رفع. . . وبفطرة واحدة ألقيت بنفسي على الجدث المجاور. . . وشهدت. . . نعم، شهدت الحجر الذي غادرته قد انتصب واقفاً وظهر الميت. . . هيكل عظمي ليس غير. . .! وإن كان الليل وقتذاك قد نشز على الكون ذوائبه. . . فقد رأيت. . . رأيت جيداً على الصليب هذه الكلمات:(هنا يرقد (جاك أوليفان) المتوفى في الواحدة والخمسين من سني حياته، كان محباً لذويه، شريفاً، طيب القلب. . . وتوفي إلى رحمة الله. . .!)

ولما قرأ الميت هذه الكلمات المنقوشة على قبره، انحنى إلى الأرض، والتقط قطعة من الصخر. . . قطعة صغيرة مدببة. . . واخذ يزيل هذه الكلمات بعناية ودقة. . . أزالها عن آخرها ببطيء وهدوء، محدقاً بعينيه الواسعتين في المكان الذي كان منذ برهة متوارياً فيه. . . وبطرف العظمة التي كانت يوماً ما سبابته. . . كتب بحروف براقة لامعة:

ص: 52

(هنا يرقد (جاك أوليفان) المتوفى في الواحدة والخمسين من سني حياته، تعجل بقسوة قلبه موت أبيه ليرثه، عذب زوجه، أشقى أولاده، خدع جيرانه، سرق كل ما استطاع سرقته، ومات شقياً. . .!)

. . . ولما انتهى الميت من كتابته أخذ يشهد نتيجة عمله. . . ولاحظت في عودتي أن كل القبور قد فتحت، وأن كل الهياكل العظمية خرجت منها، وان الجميع مسحوا تلك الأكاذيب التي خطها ذووهم على قبورهم ليوهموا على الناس؛ ورأيت أنهم كانوا جميعاً قساة القلوب، حقودين، مرائين، كذابين، خبثاء، مفترين، حساداً. . . رأيت أنهم سرقوا وخدعوا وارتكبوا كل الأفعال المخجلة، ووصموا بكل خلق دنيء. . . وهؤلاء الآباء الطيبون. . . هؤلاء الزوجات الوفيات. . . هؤلاء الأبناء المخلصون. . . هؤلاء الحفيدات العفيفات. . . هؤلاء الرجال وهؤلاء النساء. . . لا لوم عليهم جميعاً، لأنهم لا يستطيعون أن يقرروا الحقيقة المؤلمة. . .!

وراحوا جميعاً يخطون في وقت واحد على عتبة مسكنهم الأبدي الحقيقة القاسية، الحقيقة المروعة، الحقيقة المقدسة، التي يجهلها الجميع أو يتجاهلونها وهم على قيد الحياة. . .!

وأيقنت أنها لا بد قد قامت تكتب على جدثها، وبدون أدنى خوف الآن. . . فركضت وسط التوابيت نصف المفتوحة، وسط الجثث، وسط الهياكل العظمية. . . مضت إليها واثقاً أني سأجدها في الحال. . . ورأيتها من بعد. . . من غير أن أستجلي وجهها، لأنها كانت قد غطته بالكفن. . . وعلى الصليب الرخامي الذي قرأت عليه منذ برهة:

(أحبتني وأحببتها ثم ماتت!)

لمحتها تكتب: (خرجت يوماً لتخون زوجها، فأصابها برد تحت شؤبوب منهمر وماتت!)

ورأيتني أهوى إلى الأرض مغشياً عليّ. وفي اليوم التالي وجدوني مسجى إلى جانب مقبرة. . .!

(المنصورة)

كمال أحمد رستم

ص: 53