الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 443
- بتاريخ: 29 - 12 - 1941
العامية والفقر
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاء في خطاب مطول من الأديب (عبد القادر العشماوي) يروى فيه مناقشة أدارتها جماعة (الرابطة المصرية ضد التدخين) وقالت فيها الأستاذة الفاضلة نعيمة الأيوبي - على رواية الأديب - (لنكن عاديين في أحاديثنا لنقدر أن نعبر عن شعورنا وأفكارنا ونتفاهم في أغراضنا وشؤون إصلاحنا، لا سيما مع الطبقات الفقيرة. ولنخلع عنا ذلك الرداء المزيف الصناعي الذي نلبسه كلما قابلنا عظيماً أو وقفنا في حفل للخطابة؛ فلا ندري أأخطأنا في التركيبات النحوية أم في التعبير عن أفكارنا. ولنتكلم الآن باللغة التي نستعملها في كل مناقشاتنا حتى في مرافعاتنا أمام القضاء، ألا وهي العامية).
قال الأديب عبد القادر العشماوى: (ثم نهض الأستاذ كامل الكيلاني عقب الدكتورة نعيمة الأيوبي وقال ما فحواه: (إنه لا يسمح بأية حال من الأحوال بالموافقة على نصرة العامية على اللغة العربية الفصحى. ومن لم يستطع التعبير بالعربية الفصحى فما هو بمستطيع أن يعبر عنها بالعامية. . .)
وهكذا إلى آخر ما ورد في خطاب الأديب. ثم قال سائلاً: (ما رأيكم في هذا الخلاف؟ وهل يمكن نصرة اللغة الفصحى في بلد سواده الأعظم من الأميين؟ وإذا خاطبت إنساناً فقيراً باللغة الفصحى لتسدي إليه النصح والإصلاح هل يفهمك أو يظن انك تسخر به فيحز ذلك في نفسه وينصرف عنك متألماً؟ وأرجو أستاذي إذا تفضل بالجواب أن يكون رده على صفحات مجلة (الرسالة) الزاهرة المحبة إلى نفوسنا، واليكم عظيم الاحترام. . . الخ)
تلك رواية الأديب، وهي لا تستلزم في الجواب عليها أن أتعرض لتفصيلات رأيين لم أقف منهما على غير هذه الإشارات التي لا تشمل كل ما يقوله صاحب الرأي في شرحه والدفاع عنه.
فحسبنا أن نحصر الكلام هنا في العلاقة بين الفقر والعامية، وهل من دواعي العطف على الفقير أو من دواعي النظر في مشكلة الفقر أن ننصر العامية على الفصحى، وأن نعبر عن آرائنا باللغة التي يتكلمها الفقراء؟
فالعامية قبل كل شئ هي لغة الجهل وليست بلغت الفاقة أو بلغة اليسار
وبين الأغنياء كثيرون لا يحسنون الكلام بغير العامية التي لا جمال لها ولا طلاوة على عباراتها
وبين الفقراء من يحسنون التعبير بالفصحى، أو يعبرون بالعامية تعبيراً يزينه جمالها وتبدو عليه طلاوتها
فإذا عطفنا على العامية فإنما نعطف على الجهل ونستبقيه ونستزيده، ولا نخفف وطأة الفقر ذرةً واحدة بتغليب عبارات الجهالة على العبارات التي تصاغ بها آراء المتعلمين والمهذبين
إن علاج مشكلة الفقراء هي أن ترفع طبقهم معيشة وتفكيراً وحديثاً ومنزلة من التعليم والتهذيب، وليس علاج تلك المشكلة أن نسجل عليها حالة من العجز والجهالة هي التي يشكون منها ويسألون المعونة على علاجها
وماذا يفيد الفقراء أن يسكن الأغنياء الأكواخ؟
وماذا يفيد الفقراء أن يتكلم المتعلمون لغة الجهلاء؟
وماذا يفيد الفقراء أن تساويهم في الحرمان من المال والعلم ومن الفصاحة وقدرة التعبير؟
إنما يفيد الفقراء أن تصبح أكواخهم قصوراً أو كالقصور في الإراحة وتصحيح الأبدان
وإنما يفيدهم أن يكون نصيبهم من اللغة كأحسن نصيب يتعلمه المتعلمون. فان لم يبلغوا هذا المبلغ فالفائدة ألا يكون نصيبهم منها أحقر نصيب، وألا نسجل عليهم هذه الحالة المزرية كأنهم لا يصلحون لغيرها ولا يطمحون إلى ما فوقها.
وإنما يفيد الفقراء أن يساووا أحسن الناس لا أن يصبح أحسن الناس مثلهم في المعيشة والعمل والعلم والكلام
ولم يقل أحد أننا حين نبني القناطر والجسور والمستشفيات لعلاج داء الفقر ينبغي أن ننسى الهندسة لأن الفقراء لا يعرفونها
ولم يقل أحد أننا حين ندبر الطعام للمعوزين ينبغي أن نبطل أطايب الطعام لأن المعوزين لا يملكون أثمانها
فلماذا يقول قائل إن إهمال اللغة الفصحى واجب عند البحث في مشكلة الفقر والجهل لأن الفقراء والجهلاء لا يحسنون اللغة الفصحى، وأن المناقشة في تلك المشكلة ينبغي أن تدور بالعامية لأنها هي اللهجة التي يتكلمها الفقراء والجهلاء؟
يقول الأديب صاحب الخطاب (إذا خاطبت إنساناً فقيراً باللغة الفصحى لتسدي إليه النصح والإصلاح هل يفهمك أو يظن أنك تسخر به، فيحز ذلك في نفسه وينصرف عنك متألماً؟)
فمن اللازم أولاً أن نفرق بين اللغة الفصحى واللغة الصعبة التي لا يفهمها إلا الأقلون؛ إذ ليس كل فصيح صعباً ولا كل عامي ركيك سهلاً على سامعيه
ومتى فرقنا بين الفصاحة والسهولة أدركنا أن السهولة تتوافر للكلام الفصيح وتنفذ إلى أسماع الجهلاء غير حائل بينها وبين النفاذ إلى تلك الأسماع حركة الأعراب ولا صحة التركيب
هذا أولاً
أما (ثانياً) فمن اللازم أن نذكر أن العظات إنما تتلقى بالخشوع والتوقير كلما اقترنت في ذهن السامع بملابسات الخشوع والتوقير
والعظات التي تقترن في ذهن السامع بالمسجد وحلقات العلم أحرى أن تقترن بالنفوس الخاشعة والأسماع المصغية من عظات تحمل طابع السوق ومجالس اللهو والمزاح. وهذه المقارنة النفسية أشبه بمقارنة الهيبة التي تسري إلى قلوب السامعين وهم يصغون إلى الواعظ في المسوح ولا تسري إليهم وهم يصغون إليه في مباذل البيت وملابس السهرة وكسوة (الردنجوت)
أما شعور الجاهل الفقير وأنت تخاطبه بالفصحى فقد تختلف فيه الأقوال حسب اختلاف الأحوال، ولكنه لو أنصف لأمتعض ممن لا يخاطبه إلا وهو متنزل إلى لغة أوضع الطبقات، كأنه يترفع عن مخاطبته باللغة التي يخاطب بها أقرانه وزملاءه. وما أظن الجاهل الفقير يجب أن يترفع الأغنياء عن لقائه في حجرة الاستقبال التي يلقون فيها أقرانهم وزملائهم ليخرجوا له إلى المراء حيث يجلس بغير مقعد وبغير مهاد. . . فلماذا يحب الجاهل الفقير أن يتنزل مخاطبه من أسلوبه وأسلوب أقرانه وزملائه ليخاطبه بما هو دون ذلك الأسلوب؟
إننا لم نسمع أن أحداً تواضع حباً للفقير فخلع حذائه ليمشي حافياً أو يلبس النعال؛ فما بال أناس يتواضعون فيخلعون لغة المعرفة والثقافة لأنها كما يزعمون لغة لا يفهمها الفقراء؟
ما خلت الدنيا قط ولن تخلو من التعلم والتعليم، وإن اليوم الذي ننبذ فيه كل ما نتعلمه
ونتعب في تعلمه لهو اليوم الذي ينحدر فيه الإنسان إلى الجهل الذي هو أشيع شئ بين الناس وأغناه عن معلمين ومتعلمين وعن جهد في التعليم والتحصيل
وإذا كنا نحتج لبقاء اللغة العامية بأنها اللغة التي يعرفها الجاهل بغير تعلم فلماذا لا نحتج لكل جهل بمثل هذا الاحتجاج؟ وأي شئ أحق من العقل الإنساني ومن النفس الإنسانية بأن نفهمها على الوجه الأمثل حين نفهم اللغة الصالحة لإبداع أشرف المعاني وأرفع الصور الذهنية وأحقها بالبقاء والتخليد
واللغة العامية بطبيعتها لغة وقت محدود وجهة محدودة، فهي لا تصلح لبقاء أثر من الآثار التي تستحق البقاء. ولن نكسب شيئاً ولا الفقراء يكسبون بصيانة حديث العامة وإهمال الحديث الذي يخلد المتنبي والمعرى وابن الرومي وشكسبير وهوميروس وسوفكليس وفرجيل
وما ارتقى العامة قط لأنهم فهموا نظام الصحة وقواعد الحكم وهم جهلاء أميون، ولكنهم يرتقون حين يتعلمون ويقتدرون على فهم الكلام في لغة المعرفة والإرشاد. أما وهم أميون جهلاء فلن يفهموا ما يقال، ولو قيل لهم بلغة الجهال
وأنها لبدعة عجيبة تلك التي سرت في الزمن الأخير وتعلق بها أناس منا مخلصين وأناس منا مخدوعين وأناس منا يسيئون النية وهم على علم بالغرض مما يدعون إليه
فالدعوة إلى تغليب العامية إنما تنبع في مصدرها الأول من جانبين متناقضين وإن اتفقا في غرض واحد
فجانب الشيوعيين المنكرين للعقائد والأديان يحقدون على اللغة الفصحى كحقدهم على كل امتياز وارتفاع، وغرامهم بكل ما يهبط إلى مرتبة الصعاليك؛ ثم هم لا ينسون أن القضاء على العربية الفصحى فيه قضاء على دين المسلمين الذي يحاربونه كما يحاربون كل دين
وجانب المبشرين لا يعنيهم من الأمر إلا أن يحاربوا الدين بين الأمم العربية، فلا يعنيهم في بلادهم أن يغلبوا الكلام المسف المبتذل على الكلام المهذب الفصيح.
ومما يكشف عن سوء نية هؤلاء وهؤلاء انهم يفضلون الكتب التي تؤلف بكلام العامة فيما يختارونه للترجمة إلى اللغات الأوربية؛ مع أن الترجمة لا تظهر فرقاً بين أسلوب العوام وأسلوب الخواص، ولا يدري من يقرأها وهو لا يعرف الأصل أهي من الكلام الدارج
منقولة أم هي منقولة من كلام تلتزم فيه الفصاحة وحركات الأعراب.
فهو إذن تشجيع للعامية في وطنها وليس بتشجيع للعامية في اللغات الأخرى، ومن هنا ينكشف سوء النية الذي أومأنا إليه.
فرأي فيما سأل عنه الأديب أن تغليب لغة الجهل كارثة على الأمة العربية وعلى العقل الإنساني لا تقل عن كارثة الفقر وسوء العيش، وإن علاج مسألة الفقر لن يتوقف في وجه من وجوهه على ترك الكلام الفصيح وتقديم الجهالة الكلامية، ولن يختلف الأمر هنا بين طب الأمراض البدنية وطب الأمراض الاجتماعية. فلا الطبيب مضطر إلى إهمال لغة الطب وهو يعالج مريضه، ولا المصلح الاجتماعي مضطر إلى إهمال لغة المعرفة وهو يعالج الفقر أو الجهالة، وليس ما يفهمه الفقير الجاهل من عبارات العامة بأكثر مما يفهمه من لغة الخاصة إذا كانت الصعوبة في الإدراك أو كانت الصعوبة في الموضوع. فلو نقلت أر سطو إلى أوضع اللهجات لما سهلت فهمه إلى أقل تسهيل، بل لملك تزيد الصعوبة بإقحام المعاني الرفيعة في لغة لم تتهيأ لتمثيلها منذ زمن بعيد.
ولنرحم الفقير الجاهل برفعه إلى طبقة اليسار والمعرفة، والتسوية بينه وبين من يفصحون ويفقهون
أما رحمته بإبقائه حيث هو في عمله وكلامه ومداركه فتلك هي القسوة التي لا يشيعها الرحماء.
عباس محمود العقاد
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
(الشوقيات)
للدكتور زكي مبارك
أين مقدمة هيكل باشا؟ - رأى الدكتور طه حسين في شاعرية
(شوقي) - أخلاق شاعر الأخلاق - دسائس صحفية! - كيف
يدرس المتسابقون شعر (شوقي)؟ - نهج البردة - الأندلس
الجديدة - انتحار الطلبة - التغني بالآثار المصرية - الحرب
العثمانية اليونانية - تكليل أنقرة - انتصار الأتراك في الحرب
والسياسة - رحالة الشرق
أين مقدمة هيكل باشا؟
المقرر للمسابقة هو الجزء الأول من (الشوقيات)، وبه مقدمة بقلم معالي الدكتور هيكل باشا، وكان في النية أن أنظر في تلك المقدمة نظرة نقدية، على نحو ما صنعت بالمقدمة صدر بها ديوان البارودي، ولكني لم أجد المقدمة المنشودة في النسخة التي بين يدي، فأين ذهبت؟ وكيف رضيت أن تظل نسختي عاطلة من تلك المقدمة العصماء؟
لذلك تاريخ يجب تسجيله قبل أن يضيع، فقد تأتي أيام يجهل فيها ما مر بالشوقيات من ظروف، وللتاريخ الأدبي علينا من حقوق، فما ذلك التاريخ؟
النسخة التي بيدي ناقصة، ولكنها نفيسة جداً، لأنها على نقصها مصححة بقلم (شوقي) في مواضع كثيرة، وليس ذلك بالمغنم القليل
وأواجه ذلك التاريخ فأقول:
كانت الصلة قوية بيني وبين (شوقي) في سنة 1925، وكان شرع في طبع (الشوقيات)، فشاء لطفه وكرمه أن يدعوني لكتابة المقدمة بعبارة لا أزال أذكر نصها بالحرف:
(سيكتب الدكتور هيكل مقدمة تاريخية، وستكتب أنت مقدمة أدبية)
وبعد أيام تلطف فأهدى إليّ ما طبع من الجزء الأول مصححاً بخطه الجميل، لأكتب في تقديمه ما أريد
ورجعت إلى نفسي فتذكرت إن المقدمات يلتزم فيها الترفق، وذلك ما يجمل بكاتب مشغول بالنقد الأدبي مع شاعر لا يزال في الميدان، وأسرعت فكتبت إليه خطاباً قلت فيه: أني لا أستطيع كتابة المقدمة التي ينتظرها أمير الشعراء، لأني أخشى أن أقول فيها كلاماً يصدني عن نقده إن رأيت في أشعاره المقبلة ما يوجب الانتقاد، وهو - بارك الله في عمره - لا يكف عن مساورة الشعر والخيال صباح أو مساء
وفي عصرية اليوم الذي كتبت فيه ذلك الخطاب قابلت الدكتور طه حسين وأخبرته بما وقع، فغضب أشد الغضب وقال:(ليتك استشرتني قبل أن تصنع ما صنعت! ألا تعرف انك أضعت على نفسك فرصة من فرص التشريف؟ لو طلب (شوقي) مني ما طلب منك - وأنا خصمه - لأستجيب بلا تردد، فشوقي في رأيي هو أعظم شاعر عرفته اللغة العربية بعد المتنبي)
وبعد شهور طوال ظهر الجزء الأول من (الشوقيات)، وبه مقدمة الدكتور هيكل، ونادى المنادي بوجوب الاحتفال بتكريم أمير الشعراء احتفالاً يشترك فيه من يستطيع من أدباء الأمم العربية، وبرعاية الزعيم سعد زغلول
ثم يقام الحفل الحافل بدار الأوبرا الملكية في التاسع والعشرين من نيسان سنة 1927، ويقول الشعراء والخطباء في (شوقي) ما يقولون في إطناب وإسهاب
ويلتفت الدكتور هيكل كاتب مقدمة (الشوقيات) فيرى من الواجب إصدار عدد خاص من (السياسة الأسبوعية) لتكريم (شوقي)، ويدعى للاشتراك في تحرير ذلك العدد الخاص رجال كان فيهم كاتب هذا الحديث. ويرى (شوقي) من حقه أن ينظر قي محتويات ذلك العدد فيشير بحذف مقالات كان منها مقال. . . ألم أستكبر عليه فارفض كتابة مقدمة (للشوقيات)؟!
كانت (للسياسة الأسبوعية) في تلك الأيام توجه التيار الأدبي في مصر وفي سائر البلاد العربية، وكان إصدار عدد خاص عن شاعر من مثل تلك المجلة يعد تزكية أدبية تفوق الوصف؛ ولكن (شوقي) لم يرتح كل الارتياح إلى ذلك العدد الخاص، فقد ظهرت فيه
عبارات تغض كثيراً أو قليلاً من مقام أمير الشعراء
أخلاق شاعر الأخلاق
غضب (شوقي) على ذلك العدد من (السياسة الأسبوعية) وكان (شوقي) إذا غضب غضب معه ألف مرتزق من أدعياء الأدب، فمضى أولئك المرتزقة يقولون في الدكتور هيكل ما تسمح بنشره الوريقات المتسمة زوراً بوسم الجرائد والمجلات، فكتب الدكتور هيكل في (السياسة الأسبوعية) مقاله المأثور:(أخلاق شاعر الأخلاق)، وهو مقال فصل فيه ما كان بينه وبين (شوقي) وتوعده توعداً أليماً، فقد نص على أن (شوقي) لن يظفر منه مرة ثانية بمثل ذلك الاحتفال!!!
ورأيت أن ارجع إلى الدكتور طه استفتيه، فابتسم وقال:
كان مصيرك سيكون أفضع من مصير هيكل لو كتبت مقدمة (الشوقيات)!!!
ثم ماذا؟ ثم ذهب (شوقي) الحقود، (شوقي) الذي قطع ما بينه وبين كرام الرجال لأسباب لا تستحق أن ينصب لها ميزان، وبقى (شوقي) الشاعر، (شوقي) الذي رثاه (المازني) يوم مات، بعد أن قال فيه ما قال!
دسائس صحفية
فسد ما بيني وما بين شوقي بعد اعتذاري عن كتابة مقدمة الشوقيات، فانقطعت عن لقائه بمكتبه في شارع جلال، وأنقطع هو أيضاً فلم يعد يسأل عني. وجاء ظاغور أمير شعراء الهند فأقام له حفلة في داره دعا إليها أساتذة الجامعة المصرية، ولكنه تجاهل أسمي فلم يدعني إلى استقبال ذلك الشاعر الصناج.
وسمع بذلك الحادث جماعة من الصحفيين فحرضوني على إيذاء شوقي بمقال أو مقالين، وزعموا أن مال شوقي لا ينال بغير الهجاء!
وما أنا ومال شوقي أو غير شوقي؟
هل منحنا الله نعمة القلم الصوال، لنبتز الأموال؟
إن شوقي الحقود حرمني فرصة التمتع بصوت طاغور، وما صوت طاغور بالقياس إلى الموسيقية الشوقية؟
شوقي شاعر مصر، وهو على جحوده أستاذ الأساتذة في ميدان القصيد، فمن الواجب أن أحفظ عهده إلى أن يموت، وقد مات قبل أن يسمع كلمة نابية من قلمي أو لساني.
فعليك يا شاعرنا العظيم ألف تحية وألف سلام! وحفظ الله عهدك بين أقطاب الأدب الرفيع!
كيف يدرس المتسابقون شعر شوقي
الغرض من هذه الدراسات هو توجيه من سيتبارون في مسابقة الأدب العربي، فماذا نقول في توجيه أولئك الشبان؟
أهم قصيدة في الجزء الأول من الشوقيات هي قصيدة (نهج البردة). ولهذه القصيدة تاريخ يجدونه في الطبعة الثانية من كتاب (الموازنة بين الشعراء)، وما أريد أن أغتنم الفرصة فأعلن عن كتابي في مجلة الرسالة بالمجان، وإنما هي فرصة للطلبة الأعزاء، فأن درسوا ما كتبت عن تلك القصيدة في ذلك الكتاب فسيشغلون لجنة الامتحان بأبحاث تجوز بهم السراط في أمان.
وهنالك مرجع ينفعهم في هذا الموضوع الدقيق، وهو كتاب (المدائح النبوية في الأدب العربي) وفي ذلك الكتاب تفصيل واف لتطور المدائح النبوية من عهد حسان إلى عهد شوقي، فقد بدأ هذا الفن مدحاً خالصاً، ثم تحول إلى نزعة من (التشيع) ثم صارفنا بلاغياً يسجل فنون (علم البديع) ثم عاد مدحاً صرفاً على لسان شوقي والبارودي والحملاوي، مع تفاوت في أسلوب الأداء.
أما القصيدة الثانية فهي (الأندلس الجديدة) ويجب حفظها عن ظهر قلب، لأنها من محفوظات لجنة الامتحان، ولأنها فيما نعتقد أعظم شعر جاد بها الشعر الحديث في تصوير التعاطف بين الأمم الإسلامية:
مقدونيا - والمسلمون عشيرةٌ -
…
كيف الخؤولة فيكِ والأعمامُ
أتَرَيْنهم هانوا، وكان بعزهم
…
وعُلوُّهم يتخايلُ الإسلام
إذ أنتِ ناب الليثِ، كل كتيبة
…
طلعتْ عليك فريستةٌ وطعامُ
وقد سما شوقي بهذه القصيدة سمواً لا يدرك مداه غير من يعرف أسرار الشعر وسرائر القلوب.
ولهذه القصيدة أهمية في شاعرية شوقي، فقد كادت آراء النقاد تجمع على إن عبقرية شوقي
لم تتفتح ألا بعد نفيه في أيام الماضية، وهو قد نظم هذه القصيدة في سنة 1912 قبل النفي بأعوام.
ثم تجئ قصيدة (انتحار الطلبة) وهي قصيدة طوِّقت بها وزارة المعارف بأطواق من حديد، فالطالب المنتحر:
ناشئٌ في الورد من أيامهِ
…
حَسْبُهُ الله أبالورد عَثرْ؟
سدد السهم إلى صدر الصبا
…
ورماه في حواشيه الغُرَر
بيدٍ لا تعرف الشر ولا
…
خُلِقتْ آلا لتلهو بالأُكر
ولكن كيف صنع الطالب بنفسه ذلك الصنع المقوت؟
قال ناسٌ: صرعةٌ من قَدَر
…
وقديماً ظلمَ الناسُ القَدَرْ
ويقول الطبُّ: بل من جِنَّةٍ
…
ورأيت العقل في الناس نَدَر
ويقولون: جفاءٌ راعَهُ
…
من أبٍ أغلظَ قلباً من حجر
وامتحانٌ صَّبتْه وطأةٌ
…
شَّدها في العلم أستاذ نَكر
لا أرى ألا نظاماً فاسداً
…
فكك العلم وأودَى بالأُمر
من ضحاياهُ - وما أكثرها! -
…
ذلك الكاره في غض العُمُر
وتلك قصيدة نادرة، فليتفهمها الطلبة وليحفظوها عن ظهر قلب، فموضوعها يكاد يتجدد في كل يوم، وهي تنهي عن آفة من آفات الضعف في هذا الجهل.
التغني بالآثار المصرية:
فاتحة الشوقيات هي قصيدة شوقي عن (كبار الحوادث في وادي النيل) وهذه القصيدة تصحح غلطة وقع فيها صاحب (الموازنة بين الشعراء) فقد نص على أن إسماعيل صبري هو أول شاعر من مذاهب القول في وصف آثار الفراعين، بعد أن ثار الجدال بينه وبين خليل مطران في سنة 1904، ثم تشاء المقادير أن يعرف ذلك المؤلف أن شوقي سبق صبري في التغني بتلك الآثار الخوالد في القصيد الذي ألقاه في مؤتمر المستشرقين سنة 1894
فما ذلك القصيد؟ هو قصيد طويل سجل به الشاعر ما كان لمصر من تحليق وإسفاف في أعوام تزيد على خمسة آلاف.
وهنا يظهر أعجب العجائب، فقد كان شوقي ناشئاً يوم نظم ذلك التاريخ ولكنه مع ذلك عرف كيف يهتف:
قل لبانِ بني فشادَ فغالى
…
لم يجز مصرَ في الزمان بناءُ
ليس في الممكنات أن تُنقل الأج
…
بال شماً وأن تنال السماء
أجفل الجنُّ من عزائم فرعوْ
…
نَ ودانت لبأسها الآناء
شاد ما لم يشد زمان ولا أنش
…
أعصرٌ ولا بَنَى بنَّاء
هيكلٌ تُنثر الدِّياناتُ فيه
…
فهي والناسُ والقرونُ هباءُ
قبورٌ تحط فيها الليالي
…
ويواري الإصباحُ والإمساَء
وهذه الباكورة كانت البشير بأن ستكون لشوقي مكانه في وصف آثار الفراعين
لقد طوفت بأقطار كثيرة من الشرق والغرب، فما رأت عيني مثل ما تركت الفراعين بوادي النيل، وسيجتمع المؤتمر الطبي العربي بعد أيام بمدينة أسوان، وسيعرف رجاله صدق هذا المقال بعد أن يزوروا آثار الأقصر، عليها أزكى التحيات!
الحرب العثمانية اليونانية
هي حربٌ وقعت في عهد السلطان عبد الحميد، ولم يذكر الديوان تاريخها بالضبط، ولا أتسع وقتي لتحقيق ذلك التاريخ، وأين من يصدق أني أكتب هذه الصفحات وأنل في (قطار الصعيد)؟
هي إحدى قصيدتين أعترف فيها حافظ بشاعرية شوقي، ولم يكن حافظ يعترف لشوقي بشيء، ولا كان شوقي يعترف لحافظ بشيء، وآه ثم آه من تحاسد النظراء!
أعترف حافظ بقيمة البائية:
بسيفك يعلو الحق والحق أغلب
…
وينصرُ دين الله أيان تضرب
أعترف حافظ بقيمة هذه البائية في كتاب (ليالي سطيح) ولا أعرف الآن موقع هذا الاعتراف من ذلك الكتاب، فعهدي بقراءته يرجع إلى زمن بعيد
أما القصيدة الثانية فهي بائية شوقي في (توت عنخ آمون) وكان حافظ يحفظ هذه البائية وقد أنشد فيها مرات، وكان له في إنشادها ترجيع لطيف
كانت البائية الأولى فتنة العصر الذي ظهرت فيه، وكان جمهور الأدباء يحفظها عن ظهر
قلب، وراويها في هذا اليوم هو الأستاذ محمد سعيد لطفي بك، وله بها هيام وغرام، فهو ينشدها كما لاحت فرصة للحديث عن شوقي
اقرءوا هذه البائية، يا شباب اليوم، لتعرفوا كيف نستهين بما ينظم الأطفال من الشعر في هذه السنين العجاف!
اقرءوا هذه البائية احفظوها، فهي من آيات الشعر الحديث
وما السيف آلا آية الملك في الورى
…
ولا الأمرُ إلا للذي يَتغلبُ
فأدِّب به القوم الطغاة فأنه
…
لنعم المربى للطغاة المؤدب
تنام خطوبُ الملك إن بات ساهراً
…
وإن هو نام استيقظت تتألب
تكليل أنقرة وعزل الآستانة
تلك قصيدة كافية تسجل انحسار الخلافة عن استنبول، بعد حوادث تشيب ناصية التاريخ، وتصور عزة الترك بأنقرة في عهدهم الجديد
وفي هذه القصيدة توجع شوقي لعزل استنبول، وأعتذر عن أبنائها الاماجد فما نقلوا مركز الملك إلى أنقرة ألا رعاية لخطة من خطط الدفاع عن البلاد
لو أن سلطان الجمال مخلّد
…
لمليحةٍ لعذلتُ من عزلوك
خلعوك من سلطانهم فسليهمُ
…
أمِن القلوب وملكها خلعوك
لا يحزُنك من حُماتك خطة
…
كانت هي المُثلى وأن ساءوك
أيقال فتيان الحمى بك قصروا
…
أم ضيعوا الحُرمات أم خانوك؟
وهم الخفاف إليك كالأنصار إذ
…
قلّ للنصير وعزَّ من يفديك
والمشتروك بمالهم ودمائهم
…
حين الشيوخ بجبة باعوك
هدروا دماء الذائدين عن الحمى
…
بلسان مفتي النار لا مُفتيك
شربوا على سر العدو وغردوا
…
كالبوم خلف جدارك المدكوك
لو كنت مكة عندهم لرأيتهم
…
كمحمد ورفيقه هجروك
وهو يشير في هذه الأبيات إلى ما وقع من رجال الدين في استامبول، فقد أفتوا بوجوب مقاتلة الكماليين بوجوب طاعة الخلفاء، وكانوا احتلوا استامبول، ولم يجلوا عنها بعد ذلك ظائمين، وإنما أكرهتهم السيوف الكمالية على الجلاء
والشاعر يجعل انتقال أتاتورك ورفاقه من استامبول إلى أنقرة شبيهاً بانتقال الرسول ورفيقه من مكة إلى المدينة، وهو تشبيه على جانب من الجمال
انتصار الأتراك في الحرب والسياسة
ثم يلتفت القارئ مرة ثانية فيرى شوقي يرجع إلى تمجيد أتاتورك من جديد، بقصيدة بائية على غرار بائية أبى تمام في فتح عمورية، وقد تلاعب فيها بالمعاني وجال في فنون القول كل مجال
كان عصمت باشا مندوب الأتراك في مؤتمر لوزان، وكان رجلاً ضعيف السمع لا يصل إليه الصوت إلا بالصياح، فجعله شوقي:
أصمٌ يسمع سر الكائدين له
…
ولا يضيق بجهر المحنق الصخب
والذي يقرأ أخبار الحرب في هذه الأيام يرى الانسحاب يوصف بالجمال، وقد سبق شوقي لغة هذه الأيام فقال في انسحاب اليونان:
جدِّ الفرارُ فألقى كل معتقل
…
قناته وتخلّى كلُّ محتقب
يا حُسْنَ ما انسحبوا في منطقٍ عَجَب
…
تُدعى الهزيمةُ فيه حُسْنَ مُنسحَب
وكان ساسة اليونان منوا شعبهم بمملكة جديدة في بلاد الترك، فقال شوقي:
هم حسِّنوا للسواد البُله مملكةً
…
من لِبدة الليث أو من غِيلة الأشِبِ
وأنشئوا نزهةً للجيش قاتلةً
…
ومن تنزه في الآجام لم يؤب
وكان الدكتور طه حسين كتب مقالاً في جريدة الاتحاد أراد به التهوين من شأن هذه البائية، فهل ينظر فيها من جديد ليعرف أنه كان من المخطئين؟
رحالة الشرق
وهذه قصيدة عينية قالها شوقي في تكريم الرحالة محمد حسنين باشا، وكان استكشف واحتين في الصحراء الروبية
ويضيق المقام عن شرح ما في هذه القصيدة من أغراض، ومع هذا لا يفوتني أن أدل للطلبة على سجية شوقي في الجنوح إلى التأمل العميق من حين إلى حين. وهل وازن أحد بين الصحراء والحياة على نحو ما وازن بينهما شوقي إذ يقول:
كم في الحياة من الصحراء من شَبَهٍ
…
كلتاهما في مفاجأة الفتى شَرَعُ
وراَء كل سبيل فيهما قَدَرٌ
…
لا تعلم النفس ما يأتي وما يدع
ولست تأمن عند الصحو فاجئةً
…
من العواصف فيها الخوف والهلع
ولست تدري وأن قدرت مجتهداً
…
متى تحط رحالاً أو متى تضع
ولست تملك من أمر الدليل سوى
…
أن الدليل وأن أرداك متَبع
والبيت الأخير من وثبات الخيال
أما بعد فهذه كلمات سريعة بددت بها ساعات من الطريق بين القاهرة و (المنية) ولم أنظر فيها بعد ذلك، فليتلقها القارئ على هواه، بالحمد أو بالملام، وهل يكلف الله نفساً فوق ما تستطيع؟
أثنيت على شوقي مرات وأنا أراجع الشوقيات؛ ثم لمته مرة أو مرتين!
لقد أشرف بنفسه على طبع الجزء الأول والثاني، فما كان ضره ولو أرخ جميع القصائد، ونص على جميع المناسبات ليتمثل القارئ صور البواعث الروحية أو السياسية؟
قصائد شوقي تمثل معضلات عصره أصدق تمثيل، ولكن القراء لن يروها خليقة بهذا الوصف إلا إذا شرحت مناسبتها بإسهاب، فأين من ينهض بهذا الواجب قبل أن تنسى تلك المناسبات؟
ثم أقول أن الشوقيات زادت أيماني بمجد بلادي، فقد امتطيت القطار وأنا متخوف من ضجر الطريق وما هي ألا لحظة حتى كانت الشوقيات وحياً يهتف بأن كل بقعة من أرض مصر معهد مجد أو محراب فتون
ليت شعري والدهر حرب بنيه
…
وأياديه عندهم أفياءُ
ما الذي داخلَ الليلي منا
…
في صبانا ولليلي دهاءُ
في هذه اللحظة أشعر بالندم على آني ركبت القطار السريع، ولم أركب القطار (القشَّاش) وهو القطار الذي يقف على جميع المحطات، ويباع فيه القصب والبرتقال بسخاء؟!
وما أسعد من يمر بالقطار على جميع المحطات المصرية، وقد بلغ عددها (532)
يمر القطار السريع على قرى الصعيد مرور الطيف، فلا يكاد المسافر يتذكر أن كل قرية من تلك القرى فيها أرواح وقلوب، ولأهليها تاريخ أو تواريخ
هذه منارة تدل على مسجد، فأين من يذكر أن مساجد الصعيد كانت لها أياد في حفظ العلوم الإسلامية؟
وذلك فلاح يناجي الأرض مناجاة الحبيب للحبيب، فأين من يذكر أن الفلاح المصري قد يكون أخوف الناس من الله، ثم لا تمنعه تقواه من انتهاب شبر أو فتر من أرض الجيران؟
وهل يستطيع أحد أن يقنع الفلاح المصري بأن الجنة أجمل من أرضه الغالية؟
ذنبك مغفور - أيها الفلاح - فأعص الله كيف شئت في انتهاب أرض جيرانك، فذلك شاهد بأنك تقدر نعمة الله على أهل هذه البلاد!
ثم ماذا؟ ثم اذكر أن هذا الكلام يخرج عن موضوع هذا المقال، وأني سأصل إلى (المنية) بعد لحظات، وأن التمادي في الثرثرة أمر غير مقبول!
وما ذنبي إذا فتنتني بلادي؟
أمِن الإثم هُتافي بالجمال
…
في بلادٍ كلُّ ما فيها جميلْ
لو بعيني نظر اللاحي وجال
…
لرأى الفتنة في كل سبيل
حار الناس في تعليل التفاوت بين شوقي وحافظ، لعرفانهم بأن حافظ كان أذكى من شوقي بمراحل طوال، فهل آن لهم آن لهم أن يعرفوا أن شوقي تقدم لأنه كان من أكابر المُلاّك في هذه البلاد، وأن حافظ تخلف لأنه بشهادة نفسه لم يملك من أرض مصر نصف فدان؟
ما أنا وهذا الكلام؟ هذه ثرثرة لا تليق برجل منَّ الله عليه بركوب قطار الصعيد، وهو قطار يساير نهراً بين جبلين، وتلك حال توحى بإعزاز السرعة والقسوة واللين، ومن هذه العناصر الثلاثة يتكون جسر الخلاص؟
أحبك - يا وطني - أحبك أحبك بأعظم مما أحبك مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول
أحبك - يا وطني - وأستعذب عذابي فيك، لأنك في عيني وقلبي غاية في روعة الجمال
لم يعان أحدُ من الظلم في وطنه مثل ما عانيت، فما زادني ذلك الظلم الأثيم إلا عرفاناً بجمال وطني. وهل رأيتم جميلاً غير ظلام؟؟
(قطار الصعيد في 171241)
زكي مبارك
مظاهر النظام التجاري النازي
للأستاذ فؤاد محمد شبل
أن دراسة طرائق ألمانية التجارية أمر من الأهمية بمكان، إذ يقودنا إلى تفهم أسلوبها في السيطرة الاقتصادية على وسط أوربا والبلقان التي تبعها النفوذ السياسي. كما تعتبر هذه الأساليب أهم جانب يشرح لنا النظام الجديد في أهم صوره العملية، ويظهر للعالم ما ينتظره من وراءه وما يتوقعه من تطبيقه من إلغاء حرية التعامل وتقييد التبادل تقييداً غير محدود المدى، وتدخل الدولة في كل ما جل ودق من شؤون الفرد. وسيظهر لنا تحليل السياسة التجارية التي أتبعت في فترة تولي النازي أزمة حكم ألمانيا أن هذا النظام معناه تسخير الشعوب لمد ألمانيا بما يعوز صناعاتها من المواد الخام، فضلاً عن إلغاء جميع الأوضاع النقدية المقررة التي ألفها العالم واطمأن إليها، كما يبين لنا شرح هذا النظام مدى مسئوليته عن الحرب الحاضرة.
1 -
تقييد حرية نقل الأموال
يعتبر عام 1931 السنة التي ولد فيها نظام التحكم في التجارة الخارجية التي كانت الغاية المرجوة منه الحيلولة دون سحب القروض الأجنبية من ألمانيا التي كانت دعامة ترتكز عليها قيمة المارك في الخارج. ولما تولى النازي أزمة الحكم في ألمانيا، هرعت رؤوس الأموال الأجنبية فيها إلى الخروج منها حتى بلغت قيمة ما سحب منها 4. 5 مليار ريشمارك في المدة 1932 - 1934. هنا صدر مرسوم يقيد نقل الأموال التي يحصل عليها الأجانب من استثماراتهم داخل ألمانيا، وخول للمدينين الألمان التخلص من التزاماتهم تجاه الخارج بإبداع قيمتها ماركات في حساب خاص في برلين. على أنه أستمر تحويل الفوائد والأقساط المستحقة لغرض (داوز) والفوائد المستحقة لغرض (يونج). أما أقساط الاستهلاك للقروض الأخرى، فقد أوقف صرفها، ودفعت نصف الفوائد المستحقة لها، فحسب بالعملة الأجنبية إلى نهاية سنة 1933. أما الفوائد غير المحولة، فأن الدائنين الأجانب منحوا سندات في مكنهم بيعها لبنك خصم الذهب ليحصلوا مقابلها على العملة الأجنبية. بيد أن هذا البنك لم يكن ليقبل شراء هذه السندات إلا بنصف قيمتها الاسمية؛ أما النصف الأخر فكان يستخدمه البنك المذكور لإعانة الصادرات التي يأمل الحصول - عن
طريقها - على النصف الذي يحول. فكان الدائن الأجنبي يخسر من هذه العملية ربع الفوائد المستحقة له. ولقد جلبت ألمانيا في هذا الحين على نفسها السخط من جراء تنظيمها التحكمى للنقد الأجنبي، وسماحها بوجود عدد من فئات الماركات تعمل في درجات مختلفة من الخصم، إلا إنها كانت تبرر هذه الإجراءات بأن الدول الدائنة ترفض أن تقبل ديونها بضائع
وفي صيف عام 1934 أصبح التبادل الألماني الخارجي في أسوأ الحالات، فعلى حين كانت الواردات الألمانية في ازدياد، كانت الصادرات في هبوط. فقاد هذا بالطبع إلى تواصل الضغط على الذهب وعلى العملة الأجنبية التي بها تدفع ألمانيا ديونها للخارج، فأصبح من المتعذر عليها الاستمرار في عمليات التحويل وفقاً للأساس السابق مما دعاها في يونية 934 إلى إيقاف صرف الفوائد المستحقة عليها بالعملة الأجنبية وعرضت على الدائنين الأجانب سندات أجلها عشر سنوات بفائدة 3 %. فأسرعت البلاد الدائنة إلى المفاوضة مع ألمانيا للحصول على شروط أسخى؛ وكثير منها قبل عقد اتفاقات مقاصة لتسوية ديونه، وهذه الاتفاقات كان أثرها مزدوجاً فزادت صادرات ألمانيا إلى البلاد التي قبلتها وزادت صادراتها هي إلى ألمانيا
ولقد كان النظام المتبع في الاستيراد منح المستوردين الألمان حصة من العملة الأجنبية بقيمة ما أستورده في عامة 1931. إلا إن هذه الحصة هبطت في فبراير 1934 إلى 50 % منها؛ وفي مايو من نفس السنة أصبحت 5 % وأخيراً غدت تقدر يوماً بيوم طبقاً لنظرة بنك الريخ وخطته إزاء العملة الأجنبية
2 -
نظام المقاصة الفردية
في سبتمبر 1934 أعلن الدكتور شاخت وزير الاقتصاد منهاجاً جديداً للتجارة الخارجية، فألغى نظام الحصص السابق واستعيض عنه بنظام يقوم على الحصول على شهادة قبل إجراء كل عملية تتعلق بالتبادل الخارجي. وتنفيذاً لهذه الفكرة أنشأت سبع وعشرون إدارة تمثل سبعاً وعشرين صناعة أو مادة أولية؛ وهذه الإدارات أصبحت المسئولة عن إعطاء تصاريح الاستيراد وعلى تقرير لأي البلاد أو لأي السلع تستخدم هذه التصاريح. ولهذه الإدارات إشراف على الصادرات كذلك
ولقد أظهر التطبيق العملي للسياسة الجديدة مدى قيامها على المتاجرة الثنائية ومبادلة السلعة بالسلعة. كما أنشأت نظاماً متشابك الناجي لاتفاقات المقاصة الفردية التي تمثلت في طرائق ثلاث نشرحها على الوجه التالي:
مدار الطريقة الأولى أن المستورد الألماني الراغب في شراء سلع من الولايات المتحدة مثلاً يسعى للعثور على مصدر ألماني يريد بيع سلع للولايات المتحدة، ولكنه لا يستطيع الحصول على ثمن ما باعه الذي يبلغ بسعر الصرف س % (مثلاً) أكثر من السعر العالمي. فعلى المستورد الألماني أن يدفع ال س % هذه وبذلك يكن المصدر من تقبل السعر العالمي لسلعته. وفي مقابل الحصول على هذه ال س % يقبل المصدر الألماني التنازل عن حقوقه في النقد الأجنبي الذي يحصل عليه من بيع بضاعته إلى الولايات المتحدة. ولما كان قد دفع علاوة س % للمصدر فإنه يتقاضاها برفع سعر السلعة داخل ألمانيا. ومن الواضح إن مقدار الإضافة سالفة الذكر (س % فرضاً) تتغير بتغير العلاقة بين مستوى الأثمان في الداخل والخارج كما يتعلق بطبيعة السلعة المستوردة ومدى الطلب عليها
والشكل الثاني الذي اتخذه نظام المقاصة يجري على النسق التالي: مستورد ألماني (1) يرغب الحصول على سلعة من مصدر إنجليزي (ب). فإنه يعرض عليه إضافة في السعر الذي يشتري به زيادة عن السعر العالمي للسلعة المشتراة. والمصدر الإنجليزي بدوره - لضمان حصوله على ثمن سلعته - يبحث عن مستورد إنجليزي (ج) على استعداد أو يمكن ترغيبه (بإعطائه جانباً من الإضافة المذكورة آنفاً) لشراء السلعة التي يصدرها مصدر ألماني آخر (د). وتتم العملية كلها بحدوث المقاصة بين (ج) و (ب) بالإسترليني وبين (ا) و (د) باليشمارك!
الشكل الثالث للمقاصة هو نظام ماركات الأسكي، ومضمونه أن المصدر الأجنبي الذي يبيع سلعته لألمانيا يتقاضى نضيرها اعتماداً بماركات الأسكي. وهذا النوع من الماركات يمكنه بيعها - بخصم كبير - لمستورد السلع الألمانية. وبهذا يستطيع أداء ما اشتراه من ألمانيا بهذه الماركات. ولما كانت ماركات الأسكي هذه لا يتأنى بيعها إلا بعد دفع جانب منها. فكان المصدر الأجنبي يدخل في حسبانه هذا الأمر فيزيد ثمن سلعته بما يحقق له الحصول على
الثمن الأساسي. هذا وقد خصص لكل قطر نوع خاص من ماركات الأسكي
3 -
مساوئ نظام المقاصة
العيب البارز في سياسة المقاصة كما ظهر تطبيقاً في ألمانيا هو تعقد أوجهها وتشابك مناحيها وعظم تكاليفها، عوامل كان لها أثر بالغ في الحد من تقدم تجارة ألمانيا الخارجية. يضاف إلى ذلك أن تقييد الواردات مع زيادة الطلب على المواد الخام قد حتم تقييد توزيع هذه المواد داخل ألمانيا، وتطبيق اتفاقات المبادلة والمقاصة في تجارة ألمانيا الخارجية معناه تقليل نصيبها من القطن الأمريكي والصوف الأسترالي وغير ذلك من حاصلات البلاد التي تعتنق مبدأ حرية التبادل. وفي كثير من الحالات كان التباين كبيراً بين المواد الأولية موضوع المقاصة والمواد التي تتطلبها حاجات للصناعة. وهذا ما ظهر أثره واضحاً على صناعة المنسوجات الألمانية بسب احتياجها إلى المواد الخام واختلاف نوع المواد المستوردة عن المطلوبة من الجهة الأخرى.
وأخيراً فإن تقرير سياسة القيمة الاسمية للمارك في الخارج جعل أسعار الجملة الألمانية أعلى من مثيلاتها في الخارج فأصبح من الضروري إعانة حركة الصادرات بشتى الوسائل. وهذا ما تحقق بقرض ضريبة على الصناعة بلغت في عام 1935 حوالي الألف مليون مارك أي من ربع إلى خمس القيمة الاسمية للصادرات الألمانية في هذه السنة. وقد حول الاقتصاديون الألمان تبرير هذا الأجراء بقولهم إنه تدبير اتخذ لمجابهة هبوط العملات الخارجية ولا يقصد به إغراء الأسواق الأجنبية بالبضائع الألمانية.
وإزاء هذه العيوب الخطيرة عمدت الحكومة الألمانية إلى تثبيت مستوى الأسعار في داخل ألمانيا، ومنع تصدير رؤوس الأموال منها على نطاق واسع، وذلك بأن لا تستورد إلا ما تستطيع دفعه مما تحصل عليه من صادراتها، وأن توجه صادراتها إلى تلك الأقطار التي تتقبل بضائعها، والتي ألمانيا في حاجة إلى منتجاتها. وتنفيذاً لهذه السياسة أنشأت شبكة من الإدارات لا تشرف على الواردات فحسب، ولكن على تنظيم حركة المواد الأولية داخل ألمانيا أيضاً.
4 -
الميزان التجاري
حققت سياسة توجيه السياسة والأشراف عليها الغاية المرجوة منها من توازن ميزان ألمانيا التجاري، فبينما نتج عن عام 1934 عجز في ميزان ألمانيا التجاري قدره 284 مليون ريشمارك أسفر عام 1935 عن موافقة الميزان التجاري لها بنحو 111 مليون ريشمارك، وصعد هذا الرقم إلى 550 مليون ريشمارك في عام 1936، وتعزى هذه النتيجة أساساً إلى تقييد الواردات التي هبطت في عام 1936 عن مثيلتها في عام 1934 بنحو 233 مليون ريشمارك. ويلاحظ تغير في نوع السلع المستوردة عام 1936 عن تلك في عام 1934، فقد زاد المستورد من المواد الغذائية قليلاً فشغلت 36. 6 % من مجموع الواردات في عام 1936 مقابل 34. 6 % في عام 1934. أما المواد الأولية ونصف المصنوعة فقد شغلت 55 % في عام 1936 مقابل 52. 4 % في عام 1934 في حين هبطت نسبة الوارد من البضائع التامة الصنع من 12 % من مجموع واردات 1934 إلى 9. 4 % من واردات 1936 كما كان هناك تغير ملحوظ في واردات ألمانيا. فقد زادت وارداتها من البلاد المجاورة لها وخاصة أوربا الجنوبية الشرقية وأمريكا الجنوبية بينما هبطت وارداتها كثيراً من الولايات المتحدة واستراليا وفرنسا وهولندا وروسيا
أما الصادرات فقد زادت في عام 1936 عن مثيلتها في عام 1934 بنحو 600 مليون ريشمارك، وتعزى هذه الزيادة إلى حد كبير إلى انتعاش أحوال التجارة العالمية كما يرد جانب منها إلى إعانة التصدير التي أشرنا إليها، وإذا ما علمنا أن ثمن واردات ألمانيا قد ارتفع بين عامي 1935 و1936 بمقدار 3. 8 % بينما هبط ثمن صادراتها في نفس المدة بمقدار 2. 8 % فأدركنا إن التبادل التجاري بمعناه الصحيح لم يكن موافقاً لها، مما جعل مركزها التجاري يزداد صعوبة، ولم يتح الفائض في الميزان التجاري في عامي 1936 و1937 لألمانيا إلا حظاً ضئيلاً إذ كان عليها إن تدفع فوائد ديونها الخارجية التي ارتفعي في عام 1935 إلى 550 مليون ريشمارك بسب بعض اتفاقات المقاصة مع فرنسا ويوجوسلافيا بصفة خاصة
ولقد زادت واردات ألمانيا من 4. 2 مليار ريشمارك في عام 1936 إلى 5. 5 مليار ريشمارك في عام 1937 وصادراتها من 4. 8 مليار إلى 5. 9 مليار. وبلغت زيادة صادراتها عن وارداتها 443 مليون ريشمارك في عام 1937 مقابل 550 مليون
ريشمارك. وبهذه الزيادة في الصادر والوارد استطاعت ألمانيا أن تساهم في حركة الإنعاش العامة للتجارة الدولية في عام 1937. بيد أن التبادل التجاري ظل في غير مصلحتها بالنظر لزيادة أثمان وارداتها بمقدار 10. 2 % في حين زادت أثمان صادراتها بنحو 3. 6 % فحسب وكان الميزان التجاري غير موافق لألمانيا عام 1938 نظراً لهبوط معدل صادراتها من جهة وزيادة وارداتها من المواد الخام التي عملت على تخزينها استعداداً للحرب. ومن الأحرى بالذكر أن صادرات ألمانيا تتكون غالباً من المواد التامة الصنع التي تكون السلع الإنتاجية فيها نسبة كبيرة جداً وبالتالي فهي أكثر تأثراً بالأزمات الاقتصادية من الصادرات البريطانية مثلاً الأكثر تغيراً وشمولاً
وفي مقال تال سنشرح اتجاهات التجارة الألمانية قبل الحرب وطرائق التوسع التجاري الألماني.
فؤاد محمد شبل
مفتش تموين الإسكندرية
علماؤنا يعودون إلى المجتمع
لأزهري الكبير
. . . وأخيراً حققت الآمال العظيمة التي طمح إليها دعاة الإصلاح في مصر والشرق الإسلامي، وتوِّج هذا الجهاد الحافل بالفوز والتوفيق، فأنصت الأزهر لهذه الدعوة الصارخة، وآمن بها، وأخذ يضيف إلى تاريخه التليد صفحات طريفة مجيدة. فمنذ أسابيع قرأنا إن عضواً بارزاً من جماعة كبار العلماء قدم إلى الجماعة اقتراحاً جديداً تشيع فيه الرغبة الصادقة في توجيه الثقافة في هذه الجامعة العظيمة وجهة جديدة صالحة تجمع بين أمرين عظيمين:
الأول: بعث روح الإنتاج العلمي، والاضطلاع بأعبائه في شتى فروع الثقافة الدينية.
الثاني: العناية بشؤون المجتمع؛ وبحث مشكلاته الخلقية والاجتماعية والاقتصادية وبيان موقف الدين الإسلامي حيالها.
ثم علمنا أن هذا الاقتراح يشق طريقه نحو التنفيذ، فأيقنا أن الأزهر مصمم على السير إلى أبعد غايات الإصلاح، مؤمن بتوفيق الله ورعايته.
ولا يخالجنا شك في إن الجماعة - وقد ضمت عناصر جديدة ممتازة - ستظفر بتحقيق هذه الآمال، وستكتب في تاريخ الأزهر الحديث أروع الصفحات. وليس هذا على الجماعة بكثير فقد عنى بها الأستاذ المراغي عناية كريمة فآثر بعضويتها أولى الكفايات من العلماء الحريصين على مسايرة الحياة إلى أسمى غاياتها، وتوجيه الحياة الاجتماعية بنور الدين وهدايته.
إن المجتمع في حاجة إلى الأزهر، والأزهر في حاجة إلى المجتمع، ولا ريب في أن اتجاه علمائنا نحو المجتمع وبحث شئونه ومشاكله ستجعل الناس على بينة من دينهم، وتهديهم إلى سبل الخير والفضيلة والرشاد.
لقد مضى زمن الجدل في العقائد، والبحث النظري في القشور دون اللباب، وسئمنا الكلام في المياه التي يجوز بها التطهير والتي لا يجوز، وفي إثبات كرامة الأولياء ونفيها، وفي طبقات السماء أمن فضة هي أم من ذهب، إلى غير ذلك؛ وهانحن أولاء نشاهد إشراق عهد جديد يشارك فيه علماؤنا الناس، وينزلون من عزلتهم التقليدية إلى حيث يسير الناس
وتتحرك الحياة، ويضمنون شؤون المجتمع ومشاكله نصب أعينهم، ويقفون منه موقف الناصح الأمين.
ولعمري لقد ملئ الإيمان قلوب الناس، بل وعقولهم يوم كان الدين روحاً وعقيدة وخلقاً وعملاً. ولم يمتحن المسلمون بأعظم من الجدل في العقيدة والخلاف في الدين، حتى انحل ما كان معقوداً من ألفتهم، وخمد ما كان متأججاً من روحهم. ولقد ظهر الغزالي في عصر مفعم بالفتن والاضطرابات والجدل والخلاف، فدعا الناس إلى دين الله بلغة العاطفة والقلب حين رأى الدعوة إليه عن طريق الخصومة والجدل داعية فتنة وثائرة ضلال؛ ولكن الغزالي يأس من المجتمع لأنه كان يود أن يراه مجتمع ملائكة أبرار لا مجتمع شياطين أشرار، فزهد في الحياة، وعزف عن المجتمع، واعتزل الناس، إيثاراً لسلامة الدين والنفس وبعداً عن شرور المجتمع وسيئاته؛ وقلده في مذهبه الاجتماعي أصحابه ومريدوه، فظلت تلك الروح نزعة لعلمائنا حتى العصر الحديث.
ولقد كانت أسمى غاية للأستاذ الإمام محمد عبدة من إصلاح الأزهر أن يحمله على الاندماج في المجتمع، والتغلغل في أعماقه، والسمو به - عن طريق الإرشاد والتهذيب الديني الصحيح - إلى أبعد ما يستطاع من غايات؛ وكان يريد من وراء ذلك أن يذكى في الأمة الإسلامية روح القوة والفضيلة، وأن يدفع بها إلى الحياة الكريمة العزيزة، لتستطيع أن تذود عن حريتها، وتحافظ على تراثها المسلوب، وحتى يتسنى لها - إذا تابعت السير في هذا المضمار - أن تستعيد ما كان لها من مجد باذخ وجلال قديم، فتسير في قافلة الحياة البشرية داعية خير وهدى وسلام. ولقد أبى الأزهر حينئذ أن يستجيب لدعوة الأستاذ الإمام، وآثر أن يعيش في ظلام الجمود والحيرة عزوفاً من جديد الذي كان يؤمن بأنه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. . .
وبعد ربع قرن من وفاة الأستاذ الإمام تكشف غيوم الحيرة، وخضدت شوكة الجمود وحماته، وألقيت مقادة الأزهر في يد تلميذ من تلامذة الإمام، فأخذت دعوته طريقها إلى قلوب الأزهريين وعقولهم، وسرت في الأزهر روح جديدة، وأيقن رجالاته بضرورة الإصلاح، وإن اتجهوا في ذلك وجهات مختلفة متباينة. . .
فليعد علمائنا إلى المجتمع حاملين في ظلمات الحياة الاجتماعية نور الدين وهدايته، ناشرين
في ضلال الحياة الإنسانية دعوة الله ورسالته، هادين الناس إلى الحق وإلى طريق مستقيم. . .
(باحث)
بحث مقارن
الوضع الاجتماعي للمرأة في الإسلام
للأستاذ محمد عبد الرحيم عنبر
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
(6)
الدين الإسلامي قد قرر استقلالا المرأة بمالها وبحريتها في حدود معقولة لا حرج فيها ولا تضييق. فالمرأة المسلمة تعتبر من الناحية القانونية الشرعية حرة فيما تملك من مال وعقار، لا يمنعها مانع من التصرف بأي نوع من أنواع التصرفات، ويجري عليها في ذاك ما يجري على الرجل سواء بسواء، وهما أمام القانون سواسية كأسنان المشط مهما كانت درجة قرابتها به، وانتسابها إليه، كما أنه ليس لزوجها أن يطلع على أسرارها إلا إذا حدث منها ما يوقعه في الشبهة، ولا يسافر بها إذا شرط لها أن لا يخرجها من بلدها.
(7)
وقد ترفق الدين الإسلامي بالمرأة مما يتناسب وكرامتها وعفتها، وظروفها الاجتماعية، ولها فيه أحكام خاصة بها من طهارة، وصلاة، وصيام، وحج، وزواج، وطلاق، وجهاد، وشهادة وحداد، وكل ما يتصل بشؤونها.
(8)
والمرأة في الإسلام غير مكلفة بتعلم ما لا حاجة لها به في دينها وبيتها الذي ألقيت إليها مهمة إدارته وتدبير شؤونه على أحسن وجه. وليس لولى أمرها أن يلزمها طلب القوت، وإذا كانت لا عائل لها فلا يمنعها من أن تتعلم ما تريد لا لتنافس الرجال ولكن لتعيش. وتحبيها لها في وظيفتها التي هيئتها الطبيعة لها قال رسول الله (ص) مخاطباً النساء جميعاً:
(مهنة إحداكن في بيتها تدرك جهاد المجاهدين إن شاء الله). ولعلي لا أجاوز الصواب إذا قلت إن تعليم المرأة علوم الرجال يفسد أنوثتها فساداً لا يمكن إصلاحه، ولا حتى تخفيف آثاره. وإذا كانت حياتنا الاجتماعية المضطربة قد سمحت لنفر من الكتاب المنافقين أن يضللوا المرأة، ويخدعوها، ويحرضوها على الالتواء عن وظيفتها الطبيعية وعلى أن تلج أبواب الجامعة والمدارس العالية حباً في العلم ذاته فأنهم بذلك يقولون بألسنتهم ما لا يؤمنون به في قلوبهم. فهم أنفسهم الذين عادو، بعد إذ لبت المرأة دعوتهم بعد تأثير إغرائهم،
يصرخون مما ترتب على تلك الحال من مآس موجعة، وظلال كبير، وينذرون المجتمع بالويل والثبور! وبجوار هؤلاء الداعين الزاعقين فريق أخر يتظاهر بالرصانة ولكنه لا يقل عنه خطراً إذ يهدئ الروع كذباً، ويطمئن النفوس عن غش وملق، ولو كشف عن نية هذا الفريق الأخير لوجدت ما يقصده هو إن الذي يفزع منه الناس اليوم سيصير في اعتقاد الجيل القادم شيئاً عادياً، لاشيء فيه، وهو تطور حقيقي في نفسية الشعوب! وليس أدل على صواب العقيدة الإسلامية وبعد نظر الإسلام من أقوال بعض أساطير أوربا ودهاقينها في كل العصور. فقديماً قال نابليون العاهل الفرنسي العظيم (إن التعليم العام لا يتفق وطبيعة المرأة لأنها لم تخلق لتعيش بين الجماهير؛ فأن الزواج وتدبير شؤون البيت هما أجمل ما تحلم به كل امرأة غير شاذة). وقال حكيم أوربي (إن أماً صالحة لخير من مائة معلم) وقال فيلسوف فرنسي (آني لا أعترض على زوجة جاري إذا رأيتها تحرق رأسها وتمزق أصابعها في الكتابة والتأليف، ولكنى لا أريد من زوجتي ألا تعرف سوى حياكة الملابس وإتقان طهي الطعام). وما أبلغ قول من قال منهم إن المرأة التي تقلد الرجال ترتكب خطأين في وقت واحد؛ فهي تزيد عدد الرجال الآثمين، وتنقص عدد النساء الصالحات!)
ومن الغريب إن وزارة المعارف تتجاهل فيما تتجاهل هذه الحقيقة؛ فهي لا تهتم بتهيئة الفتاة للقيام بوظيفتها الطبيعية اهتمامها بحشو رأسها الصغير بعلوم لا حاجة لها بها، وتجعلها مغرورة بنفسها، غير ملمة بمهمتها الأصلية وهي (البيت) أولاً وآخراً. فالفتاة التي تقتصر على التعليم الابتدائي أو الأولى لا تدري قليلاً أو كثيراً عن ذلك البيت الذي ينتظرها، والزوج الذي يحلم بها. وتشاركها في ذلك أختها التي تلج أبواب الجامعة. آما المدارس التي تلقن الفتيات التدبير المنزلي، أو الثقافة النسوية فهي قليلة، ولا توجد إلا في مدن تعد على أصابع اليد. ووزارة المعارف ترتكب بذلك، ولا شك، في حق أمهات المستقبل خطأ لا يغتفر!
9 -
ولما كان الله قد اختار لكل دين خلقاً فقد جعل خلق الإسلام الحياء. والله سبحانه وتعالى لم يفعل ذلك عبثاً، فعصمة المرأة في حيائها، وخروجها عن ذلك الحياء يكلفها الكثير من التضحيات المرة التي لا قبل لها بها. فالمرأة التي تبدو في الطريق شبه عارية، وتخالط الرجال في المجتمعات الصاخبة مخالفة للحياء وموقظة للفتنة النائمة. ومحط
أنظارهم، وهدف اهتمامهم مهما تنكرت، وهي مزهوة بذلك مهما أنكرت! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يا عدوا بين أنفاس الرجال والنساء فأنه إذا كانت المعاينة واللقاء كان الداء الذي ليس له دواء) وقال: (والذي نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان بينهما). وسأل يوماً إحدى بناته: (أي شئ خير للمرأة؟) فقلت: (ألا ترى رجلاً، وألا يراها رجل) فضمها النبي إلى صدره وقال: (ذرية بعضها من بعض). والدين الإسلامي يتشدد في المباعدة بين النساء وغير محارمهن من الرجال لا يريد بذلك إن يحجر على حريتها، ولا أن يحرم عليها التمتع بمباهج الحياة جميعاً، وإنما يبغي صونها من كل سوء لأن سمعتها تتأثر من كل شئ. والذين يخدعونها عن هذه الحقيقة لا يرحمونها إذا علق بها أقل شك، أو لحقت بها أدنى ريبة! وليس المخلوق أرحم أو أعلم بالمرأة من خالقها الذي صنعها. والدليل على ذلك كثرة حوادث الطلاق بين الطبقات أو الأسر التي لا تبالي بتقاليد دينها، وتركت الأمر فوضى بين أفرادها. وإلا فليذكر لنا أولئك السادة أي شئ أفادته المرأة المسلمة من تمزيق نقاب الحياء، وهجرها لبيتها، واختلاطها بالرجال؟ وليقارنوا مقارنة بسيطة بين مركزها الاجتماعي على هذه الحال، ومركزها الاجتماعي الذي حدده لها الدين!
وعليه فليس في التزام المرأة المسلمة لبيتها، وعدم اختلاطها بالرجال الأجانب عنها خمول ولا ذله ولا حرمان من مباهج الحياة وإنما فيه انصراف إلى واجبها، ومحافظة على سمعتها، وتعفف عما يؤذي كرامتها ومستقبلها. وفي حدود حريتها المعقولة تستطيع إن ترقى، وتتذوق متع الحياة، وتتعلم، وتأخذ بأساليب المدنية الحديثة الرفيعة.
10 -
وبأخذ بعض الناس على الإسلام تقريره حق الطلاق أو الخلع أو تعدد الزوجات. وهم لو علموا حكمتها وقيودها لأدركوا أي ضمان وضعه الإسلام بذلك لتقوية أركان الأسرة، ولسلامة بنيان المجتمع.
قال الله تعالى: (الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) وقال: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن). وقد ورد في القرآن الكريم آيات أخرى تدل كلها على مشروعيته. أما عن السنة فقد روى أن النبي طلق إحدى زوجاته ثم راجعها. وقد طلق فريق كبير من الصحابة نسائهم، منهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
وقد شرع الطلاق للتخلص من رابطة الزوجية عند تباين الأخلاق، وعروض البغضاء
الموجبة عدم إقامة حدود الله بحيث يفوت الغرض المقصود من الزواج وينقلب مضره. فالناس مفطورون على التمايز والاختلاف في وجوه الرأي، ومجهولون على الحب والبغض. والزواج قبل كل شئ هو اندماج رجل وامرأة اندماجاً كلياً بقصد التعاون على الحياة. ولما كان من المستحيل أن يندمج كل رجل مع كل امرأة، كما أنه ليس من الميسور أن يتعرف كل رجل على المرأة التي تناسبه، فقد جعل الطلاق والخلع فرصة لكل زوجين إن ينفصلا عندما يكون الانفصال أمراً لازماً حتى لا يتحرجا في الوقوع من المحظور، فضلاً عما تجلبه العشرة الإجبارية من شقاء وعذاب لا حد لهما. والزواج عقد يجب أن تصان به حرية المتعاقدين الكاملة في الإنشاء والإلغاء مع تقييدها بما لا يخرج عن دائرة المنفعة. فإلزام زوجين متباغضين استحكمت بينهما حلقات النفور الموجع قد يكون، من الوجهة الاجتماعية والإنسانية والخلقية، نكبة أكبر من نكبة السماح لهما بالفراق.
ولكن لما كان الطلاق في حد ذاته مع فائدته ومشروعيته آثار عنيفة، فقد رتبت الشريعة الإسلامية ما يخفف من حدة هذا الضرر فضلاً عن تزهيدها الناس في استعمال هذا الحق، حتى لا يساء استغلاله وتفوت حكمته. فقد شرط لإباحة الطلاق قيام الحكمة التي دعت إلى تشريعه، فإذا لم تقم كان إيقاع الطلاق محرماً شرعاً. قال الله سبحانه وتعالى:(فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا): أي فلا تطلبوا الفراق؛ وقال الرسول: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)؛ وقال: (لعن الله كل ذوَّاق مِطلاق). ويقاس على الطلاق الخلع الذي أبيح للزوجة بمقتضاه أن تفتدي بنفسها عندما لا تجد في الزواج ما كانت تنشده، فتشعر بالحرج في البقاء مع زوجها، ويستخلص بعض الفقهاء من ذلك كله أن الأصل في الطلاق الحظر والإباحة، استثناء زيادةً في تقييده وتضييق حدوده.
وليس أصدق شاهد على ضرورة الترخيص للزوجين بالطلاق أو فصم عري الزوجية عند اللزوم من مخلفة غير المسلمين لشرائعهم، وتحايلهم على نصوصها فيما يختص بتحريم الطلاق!
ثم أن الشريعة الإسلامية قد جعلت الطلاق آخر حل ينتهي إليه الزوجان، فقد أشار الله تعالى بالتحكيم بين الزوجين فيما يقع بينهما من الشقاق، حتى إذا لم يفد ذلك، كان الطلاق على يد جماعة من أهله وجماعة من أهلها؛ وفي ذلك نزلت الآية الكريمة: (وإن خفتم شقاق
بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما، إن الله كان عليماً خبيرا)؛ وقد أسلفنا قول عمر بن الخطاب عن (مجلس التحكيم)
أما مسألة تعدد الزوجات، فان أساس تشريعها قوله تعالى في سورة النساء:(وإن خِفتم ألا تُقسطوا في اليتامى فأنكِحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورُباع، فإن خِفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا)؛ وقد فسر الفقهاء هذه الآية التشريعية تفسيرات شتى متباينة، ولكنها تجتمع كلها عند نقطتين بارزتين مهمتين هما:
الأولى: إن التزوج بأكثر من واحدة إلى أربع مباح ابتداءً
الثانية: إذا خاف الرجل الجور وعدم العدل بين نسائه إذا تعددن، يحرم عليه التزوج بأكثر من واحدة
وعلى ذلك يكون الأصل الثاني قيداً للأصل الأول، وهذا القيد مقصود به منع اضرر الذي ينشأ عن استعمال حق التزوج بأكثر من واحدة. ويتبين ذلك من قوله تعالى:(ذلك أدنى ألا تعولوا): أي أقرب من عدم الجور والظلم؛ وهذا يطابق ما تتقيد به كافة الحقوق في الشريعة الإسلامية
وبالرغم من أنه قيل: إن الحرمة الناتجة عن خوف الجور بين النساء إذا تعددن لا يترتب عليها بطلان عقد الزواج شرعاً، فإن لولى الأمر ديانة أن يراقب استعمال هذا الحق، ويحول دون استغلاله في عكس ما قصد منه، لأن الله يزع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن، فقد نتج في استعماله مفاسد جمة. وقد وضعت وزارة العدل سنة 1928 مشروعاً لتعديل بعض أحكام الأحوال الشخصية، اشتمل على تقييد استعمال حق التزوج بأكثر من واحدة بما يتفق وحكمة الشرع وروح نصوصه؛ وقد تضمنت ذلك المواد الثلاث الأولى من المشروع، ونصها:
المادة الأولى - لا يجوز لمتزوج أن يعقد زواجه بأخرى، ولا لأحد أن يتولى عقد هذا الزواج أو يسجله ألا بإذن من القاضي الشرعي الذي في دائرة اختصاصه مكان الزوج
المادة الثانية - لا يأذن القاضي بزواج متزوج إلا بعد التحري وظهور القدرة على القيام بحسن المعاشرة والأنفاق على اكثر ممن في عصمته ومن تجب نفقتهم عليه من أصوله وفروعه
المادة الثالثة - لا تسمع عند الإنكار أمام القضاء دعوة زوجية حدثت بعد العمل بهذا القانون إلا إذا كانت ثابتة بورقة رسمية
وكان المشروع يتضمن مادة أخرى في هذا الباب حذفت منه أخيراً؛ وكان نصها: (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر، أو بغرامة لا تزيد على عشرة آلاف قرش، أو بهما معاً المتزوج الذي يخالف المادة الأولى، وكذلك من يتولى عقد هذا الزواج أو يسجله)
ويبدو من نصوص هذا المشروع بقانون أن المشرع قد أصاب الهدف الاجتماعي والإنساني العائلي الذي يرمي إليه الدين الإسلامي؛ فلم يقصد منع استعمال حق وإنما يقصد تنظيمه بما يتفق والحكمة التي دعت إليه. وقد أشارت الوزارة إلى ذلك في مذكرتها الإيضاحية. وقد قال الله سبحانه وتعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة). وقديماً قال الفقهاء: (إن الزواج عند العجز عن النفقة محرم). ولكن المشروع السالف الذكر لم يصدر بسبب مهاجمة بعض العلماء له، وعند تهيؤ ذهن الرأي العام الإسلامي لمثل هذا التنظيم الاجتماعي العصري في المسائل الدينية وهو ما يسمى (السياسة الشرعية). وإذا علمنا إن مهاجمتهم للمشروع لم تنصب على ضرورة التقييد حق التعدد وإنما على عدم جواز وضع هذا التقييد بيد الحاكم أو القاضي، بحجة أنه أمر شخصي اعتباري من المتعذر تحديده بواسطة الغير. والرأي الأصح الذي يميل إليه جمهرة العلماء المصريين هو أن التعدد ليس حقاً مطلقاً، وإنما هو حق معلق على قيام سبب يدعو إليه، وأن الرجل إذا أساء استعمال حق له فإن لولي الأمر أن يحول بينه وبين ذلك بما له من ولاية سد الذرائع اتقاء للضرر قبل وقوعه. وعلى هذا الأساس شرع الحجر على السفيه المبذر. ومن هذا كله يتبين مدى سماحة الشريعة الإسلامية، والضلال الذي يسير عليه بعض المسلمين والتي هي منه براء
وحق التعدد في حد ذاته إذا ما استكمل الشروط اللازمة لاستعماله في الحدود السالف ذكرها، ليس فيه من الضرر الذي يصوره أعداء الدين الإسلامي، فقد تدعو إليه ضرورة ماسة، ويرتفع به حرج يقع على الزوجة إذا طلقت بسبب المرض أو العقم أو غير ذلك من الأسباب التي تجر إلى المحظور
النتيجة:
يلخص مما قدمنا إن الدين الإسلامي وضع المرأة من الناحتين الشخصية والاجتماعية في
أحسن وضع وأرحمه وأعدله وأيسره.
ولا مشاحة في أن بين المسلمين من أساءوا إلى دينهم بفساد تطبيقهم لنصوصه، وجمود تفسيرهم لروحه، وإن المرأة المسلمة لو أتبعت أحكام دينها، وأنصفها الرجل الأنصاف الذي تمليه تلك الأحكام لما أصابها حيف، ولما عاقها ذلك مطلقاً عن رقي صحيح رفيع. فدينها فضلاً عن تقريره لحقوق لا تنالها أخت لها من أي دين وملة جعلها جوهرة بالغ في صيانتها من كل عبث واستغلال. وإذا كانت المرأة الأوربية قد نالت نصيباً كبيراً من الاحترام بفضل تعليمها فإنها لا تتمتع في شرعيتها، ولا في قوانين بلادها بمثل الحقوق الرائعة التي قررها الإسلام. وقد اضطرت إزاء ذلك إن تعوض ما فاتها من حقوق بالحرية الواسعة النطاق التي حصلت عليها، والتي لا ضابط لها م مما أدى إلى حرج مركزها الشخصي، وفقدانها ما هو أعز من هذا القدر الزائد من الحرية، ومما نتج عنه من تفكك عري الأسرة الأوربية، وانهيار المجتمع الغربي تفككاً وانهياراً كانا الشرارة التي أشعلت لهيب الحرب المدمرة الحاضرة. وأظنني لست بحاجة إلى تذكير حضرات القراء بقول بيتان رئيس الدولة الفرنسية، بعد سقوط فرنسا الأخير، ولا بما فعله بعض ساسة أوربا وزعمائها من رد المرأة إلى بيتها لتقوم بمهمتها الأصلية، وتضيق حريتها تضيقاً تمليه مصلحتها الخاصة، ومصلحة المجتمع عامة إنقاذاً للأسرة والأمة معا.
محمد عبد الرحيم عنبر
مفتش بوزارة الشئون الاجتماعية
قيمة الحرية
للصحافي العالي ويكهام استير
بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي
(تتمة)
إذا ما غلب علي ظن الهيئات العادية من أولئك القوم الذين ينعمون بما لهم من رصيد في صناديق التوفير أو ممن يحيون حياة طيبة في أكواخهم أو ممن يهنأهم ما جمعوا أو جمع لهم من ظارف أو تليد، إن ما بيدهم على وشك أن يزول عنهم، ثم تركت لهم الحيرة بين نظامين أحدهما يضيع على الناس أموالهم وحريتهم، والأخر يميل إلى الاستبداد بهم والتضييق على حريتهم، لانصرفت رغبتهم إلى ثاني المصيرين، وفضلوا أن يضحوا بحريتهم في سبيل الاحتفاظ بأموالهم. وعندي إن هذه الرغبة هي من منبع الضلالة وعماد ما يتهدد الحرية عموماً وحرية الصحافة ضمناً من إرهاب أو طغيان هو أكثر أساليب الاستبداد تضليلاً للعقول البشرية، إذ لو ترك لأمثال هؤلاء الناس أن يدركوا ما سيسوقهم إليه خيارهم من مصير لعرفوا انهم سوف يندمون على ما صنعوا ولات ساعة مندم. وسوف تتكشف لهم الحقيقة عن أن خسارتهم في حرية التملك لم تكن بأقل من خسارتهم في حرية التفكير وحرية التصرف وحرية القول ونقائص ذلك النظام الذي يخلعون عليه اسماً غامضاً فيدعونه (بالنظام الرأسمالي) قد ترجح أولاً ترجح على فضائله. إلا أنه في الأمم التي احتفظت بنظامها النيابي الديمقراطي وبالتالي بحرة صحافتها ما زال (للرأسمالية) فضلها في ترك نقادها أحراراً في نقدها إياها، وبعون من النقد العام يتهيأ للإصلاح أن يقلم أظفار (الرأسمالية) ويخفف من غلوائها في استعمال حقوقها استعمالاً مضراً بالآخرين أن لم يسعه أن يضع الأمور في وضعها العادل. فإباحة النقد كما سبق لي بيانه هي سند الحرية في الجماعات التمدنية أو هي كما عبر عنها أحد خدام بريطانيا الممتازين:(ما لنا من حق في أن نقول لأية حكومة كائنة ما كانت لقد ضقنا بك ذرعاً فإلى صقر) فلا ضمان لحرية شخصية، ولا أمل في تحقيق نجاح، ولا عاصم من طغيان، ولا أثر فعل للآراء الخاصة، ما لم تتوفر لنقد حرمته وحريته.
والهيئات الاجتماعية الحرة الني ظفرت من حريتها بقسط كبير تنادي به صحافتها، ويجري على ألسنة جماهيرها في الطرق العامة، ويفصح عنه من يمثلها من نوابها تحت قبة دار النيابة بوسعها وقتما يكون الصالح العام بحاجة إلى تعديل الأساليب أو تغيير النظم أن تتخلص من حكامها وتغير قوانينها من غير أن تحدث حدثاً خطيراً أو توقدها ثورة شعواء. بينما نرى الأمر في الأمم الاستبدادية وهو يجري على غير هذا الوجه إذ لا يتيسر لها تغيير النظم وإصلاح المناهج إلا إذا تمرد الشعب على حكامه، فاشتعلت فيها نيران الثورة. ووثبت القوة الناقمة لمناهضة القوة الغاشمة.
وقد يتهيأ للنظم الاستبدادية في وقت ما وفي ظروف استثنائية خاصة تمليها الضرورة القاهرة أن تكون أكثر نفوذاً وأوفر كفاية من النظم الديمقراطية. إلا إن مثل هذا الفضل الموقوت لا يقتضي حتماً إن الديمقراطيات التي تضطلع شعوبها بشئونها العامة، وتوجهها صحافة يقضه جريئة سوف تضل دائماً وهي أقل كفاية واستبداداً من النظم الاستبدادية
ولا زال الحق الذي لا مريه فيه شاهد عدل على إن ما يتقيد به السلطان في الأمم الديمقراطية من قيود، وما يستنفذه من وقت بين الاعتراف بما يجب أن يكون والقيام به فعلاً عندما تنادي المصلحة العامة بوجوب التعديل أو التبديل هو من قبيل التعمق في التقوى والتحرز من أهوال الطفرة ونكبات الانقلاب
وما زال قيد النظر ومحك التجارب حتى في المسائل المتعلقة بالحياة أو الموت، كالحروب مثلاً ما إذا كانت الديمقراطيات الحرة كنظم سياسة أقل شأناً من تلك الجماعات التي تتنزل عليها الأوامر من عروش قادتها. ومع ذلك ما كانت الديمقراطيات هي الخاسرة في الحرب العظمى الماضية، ولو أن حاجتها الخطيرة إلى انسجام الرأي ووحدة القيادة في تلك الأوقات العصيبة كان من شأنها أن تنتهي بها إلى مصير موجع فاجع يفقدها أمنها وسلامها ويوردها موارد الهلاك
وعندي انهم من ممكن صياغة جميع المسائل المتعلقة بقيمة الحرية في أسئلة ثلاثة:
هل الشخصية الحرة كعنصر من عناصر الحياة البشرية أنبه شأناً وأنفس قيمة من تلك الشخصية التي تنطبع وتتشكل وفقاً لمشيئة القائد الأعلى الحاكم بأمره في مصادر وموارد الدولة الاستبدادية المطلقة؟ وهل يتوقع لإرادة الفرد الحرة أن تخطو بمصالح البشر إلى
الأمام أكثر مما يتوقع لأرادته التي تشب عليها من المهد إلى اللحد على نهج موضوع يصيرها خاضعة لكلمة القيادة العليا خضوعاً غبياً، ومطيعة لأوامر الزعامة طاعة عمياء؟
أو ليس هنالك من ضرر يتهدد الجنس البشري ومن خطر على تقدم المعارف أو انتشار الثقافة ومن خوف على كل شئ نفهمه عن طريق (المدنية) بنشوء هذه الجماعات الغفيرة التي تسير في مناهجها على نمط واحد وتجري في تفكيرها على أسلوب واحد وتنطلق خائفة مذعورة كقطيع من الغنم أمام راعيها؟
وما زال رهن الدراسة وقيد البحث منذ زمن بعيد ما إذا كان عقل الفرد كعنصر من عناصر كيان الحياة البشرية وتوفير الحرية له في التفكير والاستنتاج وتكوين الرأي أغلى قيمة وأكثر نفعاً من عقل هذا الخليط من الكائنات البشرية أو ما يسميه هتلر (بوحدة القطيع)، وعنده أن اتحاد الشعوب البريطانية في الحرب العظمى الماضية كان نتيجة طبيعة لما امتازت به من (وحدة عقلية)، وإن ما صادفته ألمانيا من الفشل في تلك الحرب كان جزاء وفاقاً لشتات الآراء وتقلب الأهواء في الشعوب الألمانية. وغالب أمره أنه لم يفهم إن ما نعمنا به آنئذ من انسجام العقلية كان جني تعاون أعضاء الجماعات الحرة تعاوناً صادقاً للذود عن حياضهم ولإنقاذ حريتهم وقتما ادلهمت الحروب ودق ناقوس الخطر؛ أو أنه لم يدرك أن هؤلاء المواطنين الأحرار قد تخلو عند الشدائد وبمحض أرادتهم عن حقوق كانت صعبة المنال غالية الثمن فكانت أثيرة عندهم عزيزة عليهم، وصدروا في ذهابهم عنها أو ذهابها عنهم عن وجدان سليم وشعور طليق من تكريس حياتهم للصالح العام، وهو شعور كريم لا يتغلغل إلا في نفوس أفراد مارسوا مسائل الحرية مراساً حكيماً وطالت خبرتهم بها فألفوا الاضطلاع بمسؤولياتها. ولقد كان من نتيجة هذا الفهم الخاطئ أن شرع هتلر شريعته عن وحدة عقلية العشائر الألمانية على نهج من الطغيان والاستبداد؛ إذ فرضها على الجماعات جبراً وحملهم عليها بالدعاية تارة وبمجرد الإرهاب تارة أخرى، ظناً منه أن مثل هذا النهج قد ينهض بديلاً عن الانسجام الحر والتعاون الطليق في الشعوب الحرة
وشريعة هتلر هذه لم تكن في مناحيها الحربية والسياسية بأجنبية عن جبلة الشعب الألماني، فهي على استعداد لأن تخضع لسلطان النظام وتتحرك في كتل بشرية مرسومة. وليس في
هذه الشريعة من جديد بالإضافة لتك الفطرة الألمانية. إلا إنها قد قضت على حية الرأي وحرية المعرفة وحرية الاستقراء وحرية النقد، تلك الحريات التي اشتهرت بها الفلسفة والعلوم الألمانية وشيدت على أساسها في الأزمان الخالية
إن تقدم المجتمع الإنساني كما أفهمه لم يكن نتاج نظر (الكتل البشرية) أو جنى العمل على توحيد (عقلية الشعوب). وتلك الخطوات التي خطاها الإنسان من بربريته الأولى إلى ما ينعم الآن من مدينته بل وحتى ما تهيأ له من أصغر نصيب منها كانت ثمرة تفكير أفراد عظماء نادوا بها ومهدوا السبيل إليها
وقوام الأمر من قيمة الحرية أن تهيأ لعقول الأفراد الفرصة في مناهضة الرذيلة والجهل، وإن تتقصى مظان الحق. فإذا ما صادفت منها ضالتها أشاعتها في الناس وقائع صادقة وشهدت بصحتها حقائق مقررة من غير تردد أو وجل. وأن تفسح الميدان أمام الفرد للجهاد والإنتاج. وأن تكون من الناحيتين السياسية والاجتماعية الطريق الموصل إلى الخدمة العامة
أو لا يخلص لنا أذن إنها والنظم الاستبدادية منهجان متناقضان ونقيضان لا يجتمعان، وأنها لا بقاء لها مع إرهاب الحاكم بأمره وطغيان المستبد برأيه.
وليت شعري اليوم ما هو نصيب أولئك الرجال الذين بيدهم مقود الصحافة البريطانية من أدراك قيمة الحرية؟؟ وما هو حظ قرائهم من فهم ما انطوت عليه (حرية الصحافة) من مبنى ومعنى؟؟ وحتى ما سيظل جهلهم بهذه الأمور وتهاونهم فيها عاملاً على الحط من قدر الصحافة حتى يتهيأ للشعب أن يظفر من صحافته بحاجته وغنيته؟
قد يصبح الجواب الشافي على هذه الأسئلة والعلاج الناجح لتلك الأدواء أيسر مطلباً وأقرب منالاً لو أنه تحقق لدينا أن غالبية الصحف البريطانية أو حتى أقليتها النابهة قد تولى أمرها وقام بتحريرها رجال ممن قدروا قيمة الحرية قدرها فعرفوا إنها أسمى ما يمتلكه البشر من متاع الحياة.
لقد حان لوقت لأن نرفع ذلك الغشاء البراق الخادع الذي يغشى ثوب مدينتنا (الديمقراطية) ونعمل على أن تظهر حقيقة ما انطوى عليه من لحمة نسجه. وآن الأوان ولا سيما للصحافة البريطانية وللرجال الذين يتولون أمرها لاختبار خيوط هذا الثوب ليعرفوا ما إذا
كان قد نسج نسجاً متيناً أميناً في تلك الأيام الخالية أو أنه في وضعه الحاضر وفي حياكته تعوزه متانة الغزل، ويعيبه أنه صنع من خيوط ثياب قديمة عفا رسمها، وافتقدت قوتها.
وقد يقتضي بقاء المؤسسات الحرة والأوضاع السياسية لحرية الفرد إن تعجل بتجربتها وبحثها، وهي كما سماها (إيرل بالفور)(شريان الحياة) الهيئات السياسية بأجمعها. وليس بينها من شئ له من قوة الدلالة على ما اشتملت عليه من معانيها ومبانيها أكثر مما للصحافة الحرة منها، الصحافة التي تحرر من قوامة القيود التجارية أو الصناعية أو المالية مثلما تحرر من الخضوع لأية سلطة سياسية كانت ما كانت. ولعله ما زال هنالك متسع من الوقت أمام صحافتنا وملاكها لأن يتدبروا أمرهم، ويذكروا المواثيق التي تربطهم بالحرية وتربط الحرية بهم فيدللوا عن طريق رعاية هذه المواثيق والإخلاص لها أنهم قد ظفروا بالحل الصحيح لتلك المسألة التي تعتبر بحق (حجر الزاوية من المدينة الحديثة)
(المنصورة)
زين العابدين جمعة
19 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
قد يزوج أهل الفتاة فتاتهم لمن يشاءون دون موافقتها إذا كانت قاصرة. ويمكنها إن تختار زوجها إذا كانت بالغة، وتعين من ينوب عنها في ترتيب الزواج وعقد العقد. والعادة أن تجتهد الخاطبة وقريبات القاصرة في الحصول على موافقتها. وكثيراً ما يعارض الأب في تزويج ابنته بمن ليس مثله من المهنة أو التجارة، أو في تزويج الصغرى قبل الكبرى. ويندر أن يستطيع العريس اختلاس نظرة من عروسه قبل أن تصبح في حوزته إلا إذا كانت من الطبقة السفلي فيسهل عليه أن يراها
وعندما تشرع المرأة في الزواج تعين وكيلاً ينوب عنها في عقد العقد. وهذا التوكيل واجب إذا كانت الفتاة قاصرة ويكون أبوها حينئذ وكيلها وفي حالة وفاته يكون أدنى الأقارب الذكور أو الوصي المختار أو المعين. أما إذا كانت بالغة فتعين هي وكيلها، أو تعقد الزواج بنفسها وذلك نادر
وبعد أن يختار الرجل عروسه طبقاً لبيان قريباته أو الخاطبة، ويعد المعدات الأولى السابق ذكرنها يقابل مع بعض أصدقائه وكيل العروس ويحصل منه على الموافقة، ثم يسأله عن مقدار المهر إذا كانت العروس قاصرة
ولابد من دفع المهر كما ذكرت في فصل سابق. ويقدر المهر على العموم بالريال باعتبار كل تسعين فضة. والريال نقد اسمي لا وجود له. ويبلغ المهر عادة إذا كان دخل العروسين متوسطاً ألف ريال، وقد لا يزيد على نصف هذا المبلغ. ويقدر الأغنياء المهر بالكيس وهو خمسمائة قرش، ويحددون المبلغ إلى عشرة أكياس أو أكثر. هذا في حالة العذراء؛ أما مهر الثيب فأقل بكثير. وكثيراً ما يحدث بعض المساومة في تحديد المهر كأي عملية مالية أخرى. فإذا طلب الوكيل ألف ريال يحتمل أن يعرض الطرف الأخر ستمائة ثم ينتهي
الأمر بعد الزيادة والنقصان إلى ثمانمائة ريال. ويشترط دفع ثلثي المهر حالاً قبل العقد، ويدفع الثلث الأخير إلى الزوجة عند الطلاق بغير أرادتها أو وفاة الزوج
ويتم الاتفاق على هذا الأمر بقراءة الحاضرين الفاتحة. ثم يحدد يوم قريب، قد يكون بعد اليوم التالي، لدفع مقدم المهر والاحتفال بعقد الزواج الذي يسمى عقد النكاح. ويسمى إنجاز العقد كتب الكتاب، ولكن قلما توجد وثيقة مكتوبة تثبت الزواج إلا إذا كان العريس بسبب انتقاله إلى مكان آخر يخشى أن يضطر إلى إثبات الزواج حيث لا يتيسر له إحضار شاهدي العقد. وقد يتم عقد الزواج حالما ينتهي الطرفان من الأنفاق على المهر، ولكن كثيراً ما يعقد بعد يوم أو يومين من ذلك الوقت. ويذهب العريس في اليوم المحدد مع صديقين أو ثلاثة إلى منزل العروس قرب الظهر عادةً فيستقبلهم وكيل العروس وبعض أصدقائه. ويجب عقد الزواج بشهادة شاهدين مسلمين ألا إذا استحال ذلك. ويقرأ جميع الحاضرين الفاتحة، ثم يدفع العريس مقدم المهر ويعقد بعد ذلك العقد بكل بساطة. فيجلس العريس على الأرض أمام وكيل العروس وكلاهما واضع إحدى ركبتيه على الأرض، ثم يمسك كل منهما يمنى الأخر ويرفع إبهامه ويضغط به على إبهام الثاني. ويتولى تلقين الوكيلين صيغة العقد بعض الفقهاء. فيضع على اليدين المتماسكتين منديلاً، ثم يستهل العقد عادةً بخطبة لا تخرج عن بعض الإرشادات والصلوات وبعض الآيات والأحاديث التي تشير إلى فضل الزواج ومزاياه. ثم يطلب من الوكيل أن يقول:(أخطب لك (أو أزوجك) ابنتي (أو موكلتي) فلانة (ويسمي العروس) العذراء (أو العذراء البالغة) بمهر قدره كذا)، وقد لا يذكر المهر. ثم يطلب من العريس أن يقول:(أقبل خطبتها (أو زواجها) وآخذها تحت رعايتي وأتكفل بحمايتها، واشهدوا على ذلك أيها الحاضرون). ويردد الوكيل قوله هذا على العريس مرة ثانية وثالثة فيجيبه الأخير في كل مرة بما سبق. وحينئذ يقول كلاهما (والسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين آمين)؛ ويعيد الحاضرون قراءة الفاتحة. وليس للخطبة التي تتلى في هذه المناسبة كلام موضوع أو نظام معين وقد تحذف إطلاقاً. وقد يقبل العريس (ويندر ذلك إلا إذا كان من الطبقة السفلى) بعد انتهاء العقد أيدي أصدقائه وغيرهم من الحاضرين؛ ثم يقدم الشربات إليهم ويمكثون حتى تناول الغذاء. ويهدي إلى كل منهم منديل مطرز تقدمه عائلة العروس بينما يتناول الفقيه منديلاً متشابهاً تصر فيه قطع صغيرة
من النقود الذهبية يقدمه له العريس. وتحدد ليلة الدخلة قبل انصراف الحاضرين. وتلك هي الليلة التي تنتقل فيها العروس إلى منزل العريس حيث يراها لأول مرة
ويمهل العريس عروسه حوالي ثمانية أيام أو عشرة بعد عقد الزواج على العموم، ويرسل إليها في أثناء ذلك من حين لآخر بعض الفاكهة والحلوى الخ، أو يهدي إليها شالاً أو بعض الأشياء الثمينة. وتشتغل عائلة العروس في الوقت نفسه بإعداد الجهاز. ويصرف مقدم المهر في شراء الجهاز الذي يصبح ملكا للعروس، فإذا طلقت يعاد إليها. وتدفع عائلة العروس مبلغاً أكبر قد يزيد على المهر نفسه في أعداد الجهاز، ولذلك لا يمكن القول بحق أن الزوجة تشترى؛ ويرسل الجهاز عادة إلى منزل العريس على ظهور الجمال. وكثيراً ما يشمل الجهاز كرسي العمامة الذي سبقت الإشارة إليه، وكرسي العمامة كبير الحجم بسيط الصنعة، إذ يصنع أسفله وظهره من الغاب، وهو لا يستعمل للجلوس أبداً، وقد تكون له مظلة. وتوضع العمامة عليه، وتغطى بقطعة من الحرير السميك ترصع عادة بسلوك ذهبية. وقد يحتوي الجهاز على كرسيين: أحدهما لعمامة الزوج، والآخر لعمامة الزوجة.
ويستقبل العريس عروسه في مساء الجمعة أو الأثنين، ويعتبر يوم الجمعة أسعد الأوقات. فلنقرر إذاً أن العروس تنتقل إلى عريسها مساء الجمعة، ويومئذ تضاء الشوارع أو الحي الذي يسكنه العريس أثناء الليلتين السابقتين أو قبل ذلك بالشمعدانات والفوانيس، أو الفوانيس والقناديل الصغيرة، يعلق بعضها في حبال تمتد من منزل العريس وعدة منازل أخرى إلى المنازل المقابلة على جانبي الشارع، وتعلق أيضاً مع القناديل، أو منفصلة، رايات حريرية ذات لونين: أحمر وأخضر. ويقام في منزل العريس أثناء هذه الليالي - وعلى الأخص الليلة الأخيرة التي تسبق عقد الزواج - عدة حفلات. ومن المعتاد في هذه المناسبات أن يرسل المدعوون والأصدقاء الخلص الهدايا إلى منزل العريس قبل الدعوة بيوم أو يومين: فيرسلون سكراً وبناً وأرزاً وشمعاً أو حملاً. . . وتوضع الهدايا السابقة على صينية نحاسية أو خشبية، وتغطى بنسيج مطرز أو من الحرير. وتستخدم لتسلية المدعوين فرق موسيقية ومغنيات مغنون وراقصات، أو تقام (ختمة) أو (ذكر). وتقدم العائلات الموسرة إلى الخاطبة أو إلى (داية) العائلة وإلى (البلانة) وظهر العروس - بعد إتمام العقد بيم أو يومين - قطعة من النسيج الذهبي، وشالاً كشميرياً، أو قطعة حريرية
مصنوعة من نسيج اليلك والشنتيان؛ فتضع هؤلاء النسوة هذه الملابس على الكتف اليسرى، ويربطن أطرافها معاً على الجانب الأيمن، ويركبن الحمير وأمامهن طبالان أو أكثر، ويمررن على صديقات العروس ليدعوهن إلى مرافقتها إلى الحمام ذهاباً وإياباً، والى حضور الحفلات التي تقام بتلك المناسبة. وكلما يمررن على منزل تؤدب لهن مأدبة، إذ أنهن يعلن عن زيارتهن في يوم سابق، وتسمى أولئك:(مودنات) أو على الأصح (موذنات)، وينطقها العامة (مُدْنات)؛ وقد رأيتهن أحياناً يسرن راجلات، ولا يتقدمهن الطبالون، ولكنهن كن يزغردن بدل دق الطبول. . .
(يتبع)
عدلي طاهر نور
الأرض.
. .
للأستاذ محمد محمد توفيق
(أنطق صديقي الدكتور حسن عثمان البحر بمناجاته الرائعة
على صفحات الرسالة الغراء، وأبى أن يعود بشاعره إلى
الأرض، مؤثراُ عليها عرائس البحر وعجائبه. فنطقت الأرض
أم الكائنات بهذه الأبيات لعل الشاعر أن يعود إلى أحضان
أمه. . .)
أنا الأرضُ فوقي كلُّ حَيٍ وميِّتِ
…
وما البحر إلا ملتقى عبراتي
أنا الأرض مهد الكائنات ولحدها
…
فهل غفل الإنسان عن حسناتي؟
وعيتُ نداء الله في كل خلقِهِ
…
وما طاف بي مسٌّ من الشُّبُهاتِ
ومن قبل خلق الكائنات عبدتُهُ
…
مع الشمس والأفلاكِ منطلقات
أدورُ كما دارت وأسعى كما سعت
…
مُؤَجَّجَةَ النيران، محترقات
تُطَهِّرُناَ النارُ الإلِهَّيةُ اللَّظى
…
وَتَصْهَرُناَ للخير والبركات
أنا الأرض كما حَجَّتْ وفودٌ وأَعْصُرٌ
…
إليَّ وكم بدَّلتُ ثوْبَ حياتي!
وكم طيِّباتٍ فوق سطحي مُشاعةٍ
…
وكم من كنوزٍ فيَّ مُختَزَناَتِ
وكم من حياةٍ تملأ الروحُ كأسَها
…
وتسكبها في أعظمٍ نَخِرَاتِ
وهذى العظامُ الناخراتُ أُحيلُها
…
تراباً عليه تغتذي ثمراتي
أنا الأرضُ لا حيٌّ عليَّ مُخَلَّدٌ
…
ولا ميِّتٌ يبقى بغير حياةِ
وما فتئَ الناموسُ عندي كتابُهُ
…
فهلا وعيتم حكمتي وعِظاتي
فيا بحرُ. . . ماذا أنت يا بحرُ قائلٌ
…
وما صوتك المخنوق بالعبرات؟
وما هتفاتٌ رجَّع الصخرُ شجوها
…
وما قَطَراتٌ ذُبنَ في قَطَرات
وما صرخاتٌ للأواذيِّ صُعَّدٌ
…
تُرَدِّدُها القيعان في الدركات
لقد هاجني يا بحرُ أنّك شاعرٌ
…
وأنّك فَذُّ الشعرِ والسَّبَحاتفأنطقتُ أطوادي وأجريت
أنْهُري=وأوحيتُ نجواها إلى هضباتي
وأسكرتُها بالراحِ من كأسِ كرمةٍ
…
شهدتُ بها مَسّاً من السَّكَرَات
فيا بحرُ. . . قل يا بحرُ ما أنت قائلٌ
…
فقد فاض بي بحرٌ من الكلمات
وقد طال إغفالي جمالي وزينتي
…
وقد طالَ بي صمتي وطال سُبَاتي
أنا الأرض للإنسانِ أُرْسِلْتُ جَنَّةً
…
عليَّ سلامُ اللهِ طولَ حياتي
وكنتُ لخلقِ الله مرعى ومسرحاً
…
وما ضِقتُ بالأنعام والحشرات
فلا نملةُ تشقى إذا طاب سعيها
…
ولا طائرٌ إلا يُصِيبُ فَتاتي
ولا دودةٌ مكنونةٌ وسط صخرةٍ
…
ولا هائمٌ في البيد والفَلَوات
لكلٍّ نصيبٌ منْ ترابي وأنْعُمي
…
وكلٌّ له حظٌّ من النَّسمات
وكلٌّ يناديني بيا أمَّ إن شكا
…
فأغمره بالحبِّ والدَّعَوَات
وأشرحُ صدري للذي ضاق صدره
…
وأعتنق المكدودَ بالقُبُلات
وأسكُبُ دمعي أن أبى المُزُنْ أدْمُعاً
…
وأُرْسِلُ في لحن الصَّبا زفراتي
فَهُنَّ وَدِيعاتٌ عليَّ عزيزةٌ
…
وَصَوْنُ وديعاتِ الإله صلاتي
فإن غربت شمسُ الحياةِ فإنني
…
أشَيِّعُ أبنائي إلى الظُّلُمات
وأنشُرُ من فوقِ التّرابِ عليهمُ
…
رداءً من الأعشابِ والزَّهَرات
ترابي ومائي فيهما كلُّ زينتي
…
وكلُّ أفانيني وكلُّ هِبَاتي
وإنك تُلْقي جوهر الترب وِاحداً
…
ويونع بالأثمار مُختلفات
فآلافُ آلافٍ من الزهر والغضا
…
وآلافُ آلافٍ من الثمرات
تفيض بها أرحامُ تربٍ رحيمةٌ
…
ويُرضِعها التَّهْتَانُ بالقطرات
ولي ريشةٌ في فنَّها عبقرَّيةٌ
…
تُكَوِّنُ أزهاري بماء حياتي
وما طَرَّبي نبتٌ ولا هاجَ يابِسٌ
…
ولا جَفَّ قِطْمِيرٌ بِشِقِّ نواةِ
ولا حملت حُبْلَى ولا خفَّ حملها
…
ولا دَبَّ مسجونٌ من اليَرَقات
ولا سَقْسَق العصفورُ والطلُّ بارقٌ
…
ولا هاجرت طيرٌ إلى القَمَرَات
ولا حَلق النَّسْر الكُميْتُ مُصَفِّراً
…
ولا أنقض مسعُوراً على الوُكُنات
ولا أطبقَتْ أنيابُ لَيْثٍ غَضَنْفَرٍ
…
على رَشَأٍ من ساكني الأَجَماتِ
ولا إنبَجَسَ الماءُ الزلالُ من الصَّفا
…
ولا فاض يَنْبُوعٌ من الرَّبَوَات
ولا طلعت أكمامُ وردٍ وسَوْسَنٍ
…
ولا أخضَرَّ رَيَّانٌ من الورقات
ولا عتَّقَتْ كرْمٌ دِنانً من الطّلي
…
ولا نفخ النَّيْرُوزُ في القَصَبَات
ولا هامَ نحلٌ بالأزاهيِرِ شادِياً
…
يُقَبِّلُ مَعْسُولاً من الوَجَنات
ولا عصفَت ريح الخريف بشاحبٍ
…
من الورقِ الوسنانِ في الشجرات
ولا سَنْبَلَتْ حبَّاتُ قَمحٍ مُبَارَكٍ
…
ولا أبْلَحَتْ عيدانَةٌ بفلاة
ولا أرْطَبَتْ إلا بميقاتِ خالقٍ
…
يفيض على الأكوانِ بالرَّحِمات!
أنا الأرض أطياف الرَّبابِ مظَلّتي
…
نهاراً وأسرابُ الغمام سُقاتي
وَرَيدَانَتي شعري وقيثارتي الصَّبا
…
وتغريد أطيار الرّبا نغماتي
وأخطرُ في الأزهارِ وظَّاحةَ السَّنا
…
وأعقد إكليلا من الخرزات
وأبْسَمُ عن لمحٍ من البرق خُلَبٍ
…
وأعبَسُ بالإعصار والهبَوات
وأصرخ حتى يفزَعَ الرعدُ في السما
…
وتنخلعَ الأنكالُ مرتعدات
وأغضبُ حتى يُنكِر الكونُ غضبتي
…
وأبْسُطُ في صفحي يَدَ الحسنات
أنا الأمل الشَّعاعُ في كلِّ غايةٍ
…
أنا الجوهرُ المكنون في الجمرات
أنا الذهبُ اللَّمَّاعُ في الترب والصَّفا
…
تذيبونه بالنار والحسَرَات
تذيبونه من فرط ما تعبُدونه
…
وما فيه من سحر سوى اللَّمعات
وتُسْقَونَهُ كالمُهْلِ يشوي بطونكم
…
فما ذَوبُهُ إلا حميمُ طغاة
حميمٌ لمن لا يعرف الله قلبُهُ
…
ويسبح في بحر من الْحُرُمات
فيا عابدي هذا الفِلِزَّ وما شَرَى
…
وما ابتاعَ من جور ومن سطَوات
ويا صائغيه شهوةً في قلوبكم
…
وزينة شيطانٍ وتاجَ عُتَاةِ
ويا مُرْسِليهِ في الأساريرِ صُفْرَةً
…
وشُحًّا وكِبْراً جامد النظرات
وَتَبْلاً وأطماعاً وحرباً أثيمةً
…
تُبيد وتُفني كلّ ذاتِ حياة
أيا عابدي هذا الفِلِزَّ وما شَرَى
…
وما ابتاع من زهو ومن شهوات
رُوَيدَكُمُ هلاّ أذَبتُمْ قُلوبَكم
…
وقد جَمُدَتْ كالمرو في الصَخَّرات
ويا ليت شعري كم نِداءٍ أتاكم
…
وأنتم من الآثام في غَفلات!
نداءٍ لوَ أنَّ الراسيات وَعَيْنَهُ
…
لأَطْبَقْنَ من أهواله صَعِقَات
وكم من نبِيٍّ كلم الله جائياً
…
وأطلق طوفاناً من العبَرات
فهلاّ خشيتم نِقمتي بعد نِعمَتي
…
أُسَلِّطُهَا سيلاً من اللَّعنات
وأطلق صوتي قاصفاً الرعد داوياً
…
وأنفُخُ في بوق الرّدَى صَرَخاتي
وأُرسلُ زلزالاً عليكم وَعَيْلَماً
…
فَتُطبقُ أطوادي على رَبَواتي
وتندلعُ النيرانُ من كلِّ ثغرةٍ
…
وتندلقُ الأهوالُ من فَجَواتي
براكين من أفواهها تقذف الرَّدى
…
مُسَعَّرَةَ الأحجار، مُحْتَدِمات
تسيلُ على القيعان ناراً وحُرْقَةً
…
تَصَعَّدُ منها أفجعُ الزَّفرات
وفي مثل لمح البرقِ ينهارُ عالمٌ
…
من الكفر والآثامِ والشهواتِ!
أيا ساكني بيتي ذَرُونى أكُنْ لكم
…
كما كنتُ أُماًّ جَمَّةَ الرّحَماتِ
ولا تفجعوني في سنين مريرةٍ
…
تَدِبُّ بها الساعاتُ مُكْتَهَلاتِ
فإِني أخالُ العمرَ قد طالَ وانقضى
…
وأحسبُ إن الحشر في لحظاتِ!
البريد الأدبي
مجلس التعليم الأعلى
عقد مجلس التعليم الأعلى اجتماعه الأول للدورة الحالية في الأسبوع الماضي برئاسة معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف فأفتتح معاليه الاجتماع بخطبة ضافية من جوامع الكلام عرض فيها مشكلات التعليم المختلفة وما يراه من أوجه علاجها.
وبدأ معاليه الحديث معرباً عن سروره بتحقيق المشروعات التي أقرها المجلس في دورته الماضية وأقرها البرلمان لنظم الامتحان والقوانين المتصلة بها، ورجا أن تنتهي الوزارة والبرلمان من إقرار قانون التعليم الإلزامي ونظام المجان قريباً.
ثم تكلم عن التعليم الأولي وتعدد ألوانه بين نظام اليوم الكامل، ونظام نصف اليوم، ورياض الأطفال، وما تجره هذه الألوان من تشكيل مختلف لعقلية التلاميذ؛ وانتقل إلى الكلام عن غرض هذا التعليم وهل هو محو الأمية أو تزويد عامة الشعب بقسط من الثقافة.
وبعد ما عرض لتاريخ التعليم الأولي في مصر قال أن وزارة المعارف في عهده حاولت الاستفادة من التعليم الإلزامي واتخاذه أساساً للحياة العملية فلن توفق في بعض التجارب وكان نجاحها محدوداً في بعضها الآخر.
وعالج أسباب هذه الحالة وهل هي في التعليم الإلزامي نفسه مع ما أسداه من خدمات للبلاد في استنارة الشعب، وتنزيه عامته عن كثير من العادات السيئة، أو مرجعه إلى عوامل أخرى.
وقال بعد ذلك: أن الوزارة بحثت أوجه النقص فرأت أن تتوحد السلطة التي تشرف على التعليم الإلزامي، وإن يستبدل بنظام نصف اليوم نظام اليوم الكامل، وأن تكون مدة التعليم الأولى ست سنوات تبدأ من سن السادسة، وأن توحد خطة الدراسة، فيما خلا اللغة الأجنبية، بين التعليم الأولي والتعليم الابتدائي، فإن تعذر توحيدها فالتقرب جهد المستطاع
وانتقل معاليه إلى الحديث عن مشكلة التغذية والحالة الصحية لتلاميذ الإلزامي وأوجه علاجها وما يقام في طريقها من عقبات مالية، وترك إبداء الرأي لحضراتهم في هذه المسألة
وأستطرد إلى موضوع تعليم اللغات الأجنبية في المدارس الابتدائية، وسأل: هل نأخذ برأي القائلين بعدم تعليم الطفل لغة أجنبية قبل الحادية عشرة من سنه؟ أم أن أحوال مصر
الخاصة تقتضي التجاوز عنه والأخذ بما يخالفه؟
وبعد هذا تحدث عن معهد التربية الابتدائي وما تراه الوزارة من ضرورة أعادته؛ ثم قال: وموضوع هذا المعهد من المسائل المعروضة على حضراتكم في هذه الدورة؛ وأكبر رجائنا أن تتعجلوا درسها والبت فيها، حتى إذا أقررتموها دخلت في ميزانية الوزارة للعام المقبل.
ثم عرض للمسألة الأخيرة التي سيعرض بحثها في هذه الدورة وهي مسألة التعليم الثانوي والغرض منه ومدى نجاحه في الإعداد للجامعة وللتعليم العالي الفني وغيره
وختم معالي الوزير خطبته بقوله: إذا بحثنا هذه المسائل نكون قد حددنا أغراضنا من التعليم في حياة مصر الحاضرة، ووضعنا الأساس السليم لسياستنا التعليمية، وأعددنا أمتنا لمستقبل نرجوه كلنا زاهراً مجيداً
كيف تفسر معجزات داود وسليمان عليهما السلام
ذكر الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في العدد (442) من مجلة الرسالة الغراء، أن بعض المفسرين ذهب إلى أن المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت تسبح كما يسبح كل شيء بحمده، وكان هو عليه السلام يفقه تسبيحها فيسبح، وأن المراد من تسخير الريح لسليمان أنه راض الخيل وهي كالريح، وأن المراد من إلانة الحديد وإسالة القطر استخراجهما بالنا واستعمال الآلات، وأن المراد من الشيطان التي سخرت له ناس أقوياء. ثم ذكر أن نظام الدين النيسابوري جعل ذلك حذلقة لا داعي إليها، لأن قدرة الله في باب خوارق العادات أكبر من أن تحتاج إلى هذه التكلفات
وفي رأي أن هذه التأويلات حذلقة حقاً، ولكن النيسابوري لم يوافق في الرد عليها. فأما أنها حذلقة فلأن صاحبها لم يحمله عليها إلا إرادة حملها على غير بابها من خوارق العادات، فجرى في التفسير وراء ميله وهواه، وللتفسير أصول متبعة، وقواعد مرسومة وشأنه في ذلك كشأن كل العلوم، فليس هوى النفس من سبيل العلم، ولو اتخذناه أصلاً في ذلك لأدى بنا إلى إنكار المعجزات كلها، كما فعل بعض الناس قديماً وحديثاً. ومن المقرر أنه لا يصح تأويل النقل ألا عندما يعرضه العقل، فحينئذ يجب التوفيق بينهما بالتأويل، لأن دلالة النقل ظنية، ودلالة العقل قطعية، والواجب حمل الظن على القطع، ولا يصح العكس
وأما أن النيسايورى لم يوفق في الرد على هذه الحذلقة، فلأن معجزات الأنبياء لا يكفي في
إثباتها الاعتماد على إمكانها وقدرة الله عليها، ذلك لأن الله تعالى يقدر على ما لا وجود له، فقدرته على معجزة من المعجزات لا يكفي في إثبات وجودها
وفي رأي أنه يجب الرجوع في معجزات داود وسليمان عليهما السلام إلى تاريخهما الصحيح، لا ألا ما أحاط بتاريخهما من خرافات التاريخ، فإذا ثبت من تاريخهما الصحيح أنهما عورضا في الدعوة إلى الأيمان، وطلب منهما هذه المعجزات دلالة على نبوتهما، كانت هذه الآيات من باب المعجزات، لأنها استوفت أركان المعجزة من خرق العادات، والاقتران بالتحدي مع عدم المعارضة. وإذا لم يثبت من تاريخهما الصحيح شئ من ذلك، كان لنا تأويل هذه الآيات بمثل ما أولت به أو غيره، ولم يكن ذلك في شئ من الحذلقة
ولكن أنى لنا هذا في عصر طغى فيه الجمود، وأسكت فيه الجامدون صوت الإصلاح، كفانا الله شرهم، وهداهم إلى ما فيه مصلحتنا ومصلحتهم، إنه الهادي إلى سواء السبيل
(عالم)
أخطاء في كتاب المنتخب
وقع نظري في (المنتخب من أدب العرب الجزء الثاني - تأليف بعض رجال المعارف -) على أخطاء في النحو والفهم في قصيدة ابن الرومي التي مطلعها:
يا أخي أينَ عَهدُ ذاك الإخاءِ
…
أين ما كان بيننا من صفاءِ
1 -
فأما الخطأ الأول فهو:
وأرى أن رُقعةَ الأدمِ الأحمر (م)
…
(أرضاً) علّلتها بدماءِ!
فكلمة (أرضاً) خطأ واضح - والصواب (أرضٌ)
2 -
أما الخطأ الثاني فهو:
تقتل الشاة حيث شئت من الرقعة (م)
…
(طِباً) بالقِتْلةِ النَّكراءِ
هكذا بكسر الطاء ثم قالوا في الحاشية: طِبا علماً. . .
والأصوب بل الألين بمقام المدح، والأنسب للفن الشعري أن تكون (طَباً) بفتح الطاء أي عالماً خبيراً. وقد وجدت في (شرح ديباجة القاموس) الطبُّ بالفتح الماهر الحازق بعمله.
وجاء في (أساس البلاغة) أنا طبّ بهذا الأمر عالم به.
كما ورد في المصباح؛ ويقال للعالم بالشيء طَبّ
وعلى هذا يكون المعنى: إنك لتقتل الشاة خبيراً عليماً بالقتلة النكراء حيث ما شئت من رقعة الشطرنج
3 -
وأما الخطأ الثالث فهو:
راحةِ النفس والصيانةِ والعفةِ
…
والأمنِ في حياءٍ (رُوَاء)
هكذا بضم الراء. . . وجاء بالحاشية (حياء رُواء أي جميل) والصواب: حياءِ رَوَاء. . . بفتح الراء أي حياء جم كثير
فقد سُمع حياء جم. . . ولمُ يسمع حياء جميل
حسين محمود البشيشبي
(حاشية): ورد في كلمتنا (صبري وابن دريد)
خطأ مطبعي هو: (وأما بيتان أبي بكر ابن دريد)
والصواب: (وأما بيتا أبي بكر وابن دريد. . .)
المباراة الاجتماعية لرابطة الشباب المصري
تبرع حضرة صاحب السعادة صالح عنان باشا رئيس رابطة الشباب بثلاثين جنيهاً مصرياً - كعادته في كل عام - لتوزع على حضرات الكتاب المشتغلين بالمسائل الاجتماعية. وقد رأت الرابطة أن يكون موضوع مباراة هذا العام عن (تأثير المرأة في توجيه الشعب) وقد حددت الرابطة يوم 31 يناير سنة 1942 آخر موعد لقبول إجابات هذه المسابقة، واشترطت إن تكتب على وجه واحد من الورق وألا تزيد على عشرين صفحة من حجم الفولسكاب، وأن يكتب اسم المتسابق وعنوانه على ورقة مستقلة، وترسل باسم الأستاذ أحمد إبراهيم خطاب سكرتير رابطة الشباب (بوسنة القلعة بمصر). أما جوائز هذه المباراة فسيمنح الفائز الأول خمسة عشرة جنيهاً مصرياً، والثاني عشرة جنيهات، والثالث خمسة جنيهات، أما لجنة التحكم في هذه المباراة فمكونة من الأساتذة: خليل ثابت بك رئيس تحرير المقطم وعضو مجلس الشيوخ، والدكتور أمير بقطر عميد قسم المعلمين بالجامعة الأمريكية، والأستاذ محمد مظهر سعيد المفتش بوزارة المعارف
وستعلن نتيجة هذه المباراة في شهر فبراير المقبل عند انعقاد مؤتمر الشباب الاجتماعي بقاعة بورت التذكارية.