المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 445 - بتاريخ: 12 - 01 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٤٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 445

- بتاريخ: 12 - 01 - 1942

ص: -1

‌الطموح والتمني

للأستاذ عباس محمود العقاد

(. . . ولست أدري لماذا تصرون على أن تكون هناك علاقة بين الأدب وقيادة الجيوش، أو بينه وبين انجذاب أهل الطريق. ففي رأيي أن لا علاقة هناك إلا علاقة الطموح والرغبة في نعم الشهرة المنعقدة فوق جبين الكثيرين. . . فطموحكم من مطالع صباكم هو الذي حبب إليكم أن تكونوا شيخاً يحيط بكم ما كان يحيط بمشايخ حيكم من احترام وتبجيل في بيئة كالتي نشأتم بها، والتي يبدو لي أنها كانت شديدة التقوى كثيرة الاحتفاء بالدين ورجاله، ثم تحولت الأنظار إلى الجيش المصري والإنجليزي الهابطين من السودان وكثر الحديث عنهما وعن قوادهما في بلدكم، فتحولت (بوصلة) الطموح عندكم إلى هذا القطب الجديد. هذا رأيي الذي أظنه الصواب، وقد جريت مثل ذلك بنفسي، وتمنيت وأنا في المدرسة الابتدائية أن أكون لاعب كرة يحيط بي من تصفيق الطلبة وإعجابهم ما يحيط بمشاهير اللاعبين. ثم تمنيت من أول دراستي الثانوية أن أكون محامياً وأنتم تعلمون شدة اهتمام الجمهور بقضايا عهد صدقي باشا السياسية.

(وفي انتظار تكرمكم بإبداء وجهة نظركم في رأيي هذا إما بكتاب خاص أو بمقال في الرسالة، أكرر تهنئتي وأقدم لكم الشكر والتقدير. . .)

ادورد حنا سعد

إيرادات بلدية الإسكندرية

ورأيي أن الطموح تفسير وليس بتفسير.

فالناس يشتهرون بألوف الأشياء ويظهرون بين أقوامهم بكثير من المزايا التي تكفل لاصطحابها الوجاهة وارتفاع الصوت والصيت: بالمال والمنصب والهيبة الدينية، أو الدنيوية، وبالعلم على اختلاف أبوابه وتعدد مناحيه، وبالنبوغ في الألعاب والفنون التي يدركها الجمهور بداهة أو يدركها محاكاة لمن هم أرفع منه في المنزلة والمعرفة، وكلهم طامح وكلهم محقق لما تمناه من الطموح

فليس بتفسير أن يقال إن هذا الشاعر العظيم بلغ مكانه من الشهرة الشعرية لأنه طامح، وأن هذا المهندس العظيم بلغ مكانة من الشهرة العلمية لأنه طامح، وأن هذا الغني العظيم بلغ

ص: 1

مكانه من الثراء واليسار لأنه طامح، وأن كل عظيم طمح فاشتهر لأنه تعلق بالطموح

كلا. ليس هذا بتفسير فيما أرى

وليس هذا بالحقيقة فيما أعلم من شأن نفسي، وفيما أعلم من شأن البواعث التي حفزتني إلى معالجة (الدروشة) والكرامات الدينية، وحفزتني إلى قيادة الجيوش والغلبة في القتال، وحفزتني حيث استقر بي المطاف إلى المضي في طريق الأدب والكتابة دون كل طريق

فلو كانت المسألة طموحاً وتطلعاً إلى الحفاوة لكان الأولى بي أن أطمح إلى جمع المال والتوسع في التجارة لأنها قبلة الأنظار في بلد له في التجارة تاريخ عريق حتى قيل إن اسم الإقليم مستمد من اسم السوق

بل لو كانت المسألة طموحاً إلى الحفاوة التي يلقاها رجال الدين لكان الأولى بي أن أطمح إلى مكانة القضاة الذين يخرجون بين الحراس والحجاب ويتقدمون على رجال الحكم ورجال الجيش حينما اجتمعوا معاً في مكان حافل أو مأدبة حكومية، أو لكان الأولى بي أن أطمح إلى منزلة كمنزلة أستاذنا الفقيه الأديب الأستاذ أحمد الجداوي رحمه الله وكانت له حلقة دينية أدبية يتردد عليها أعاظم القوم ويجلسون بين يديه جلسة الخشوع والتوقير، وكانت له إلى جانب ذلك مساجلات أدبية يحج إليها المعلمون والمتعلمون، ويتندر بفكاهاتها وطرائفها من يدرسون ومن لا يدرسون

أما حياة (الأسرار) الدينية فلم تكن محل ظهور ولا وجاهة بين الناس، ولم يكن أحد ممن يقتدي بهم في هذا المجال على مظهر يشوق الطفل الناشئ أن يحكيه أو يعيش على غراره: مظهر مسكنة وحرمان وشظف وانقطاع

وأدل من هذا على خطأ التفسير بالطموح في هذا الصدد أن الظهور وطلب الكرامات والأسرار نقيضان كما تنبئنا أول صفحة من أول كتاب في مناقب الصالحين

فمن طلب الظهور فلا سبيل له إلى كرامة ولا نفاذ له إلى سر مكنون من أسرار القداسة والولاية

إنما تناول الكرامات والأسرار بالإعراض عن المظاهر والزهد في الحفاوة، وأن ننذر نفوسنا للفاقة والشظف والحرمان، ونجنبها غواية الزهو والترف والإعلان، وهذه هي الأمنية التي تمنيتها لأنني تمنيت البحث عن الحقيقة والهيمنة من طريق معرفة الحقائق

ص: 2

على ما حولي من قوانين الكون وعناصر الطبيعة

فالطموح كما قدمنا ليس بتفسير لطلب العظمة كائناً ما كان مجالها والغرض منها. فبعد الطموح يبقى لنا سؤال آخر عن علة طلب العظمة من هذا الطريق وعن التوفيق بين نوع العظمة المطلوبة ونوع المزاج النفسي الذي يطلبها ويؤثرها على غيرها

والطموح بعد ذلك ليس بالتفسير الصحيح في الحالة الخاصة التي ذكرتها عن أمنيتي؛ لأنني لم أطلب الظهور بل ضحيت به في سبيل الحقيقة التي أصل منها إلى هيمنة لا ظهور فيها؛ ولا يزال الظهور الشائع مفسدة لها وداعية إلى حبوطها

وما لنا ولهذا والأديب صاحب الخطاب يذكر حالة تنفي تعليل كل شيء بالطموح فيما ذهبنا إليه؟

قال في خطابه: (تمنيت وأنا في المدرسة الابتدائية أن أكون لاعب كرة يحيط بي من تصفيق الطلبة وإعجابهم ما يحيط بمشاهير اللاعبين. . .)

فليعلم الأديب صاحب الخطاب أن التصفيق لم يحط بلاعب كرة كما كان يحيط بلاعبيها الأسوانيين في ذلك الحين. فقد كانت العناية بالرياضة البدنية يومئذ في أبانها، وكان للجيش الإنجليزي بأسوان فرق مدربة تسترعي أنظار المدنية بأسرها ويتمنى كل طالب أن تتغلب فرقته المدرسية عليها، وكانت فرقة أسوان تسافر إلى إدفو وقنا وسوهاج وأسيوط لتلاعب هناك فرقة بعد فرقة وتعود من تلك البلاد غالبة أو مغلوبة يتطلع الزملاء إلى أخبارها كما يتطلع قراء الصحف إلى أنباء المعارك الحاسمة، ومع هذا كله فشلت مساعي المدرسين في إغرائي بالانتظام في فرقة الكرة أو الفرق الرياضية على اختلافها لنفوري منها، وظللت أتجنبها وأفضل الحبس على حضور حصة الرياضة البدنية في أوقاتها المفروضة علينا، ولم يستهوني الطموح ولا الشهرة ولا التصفيق إلى هذا الجانب المغري لكل طالب، ولم أكن أفهم دهشة زملائي لرفضي دخول الفرقة وهم يتحرقون شوقاً إلى دخولها ويتمنون لو وهبوا تلك الصفات الجسدية التي جعلت المدرسين حريصين على ترشيحي لفرقة الكرة وكل فرقة رياضية

فليست المسألة يا صاحبي مسألة طموح وظهور، ولكنها مسألة شوق باطني وجد مصرفه في هذه الناحية أو تلك حتى استقر من الناحية الأدبية إلى قرار

ص: 3

ومن الواجب أن نربط بين النزعة الدينية والقيادة العسكرية والملكة الأدبية إذا أردنا أن ننفذ إلى خاصة من خواص النفس البشرية التي تؤلف بين النقائض حتى تنتظم في نسق واحد، وهي كما تبدو على وجه الأمور غير قابلة للتناسق والائتلاف

وربط هذه الشعب المتفرقات واجب هاهنا لأن العلاقة بينها صحيحة متغلغلة ملموسة؛ فلابد من سبب اتصال بينها، ولابد من النفاذ إليه، وليس النفاذ إليه بعسير

فالنزعة الدينية - نزعة الأسرار والهيمنة على العناصر الطبيعية - تلاقي البحث الأدبي من طرفين: أحدهما الاستطلاع والاستكناه وهو أصيل في طلب الأسرار الدينية وأصيل في طلب الأسرار الفكرية على الإجمال

أما الطرف الآخر فهو طرف لإثبات النفس، وهو في جانب التدين سيطرة على أسرار الكون، وفي جانب الأدب تعبير عن النفس وتوجيه للأفكار وامتلاك لناصية الحقائق، وكلا الطرفين قريب من قريب

ولا صعوبة في التوفيق بين التدين والقيادة العسكرية، وإن ظهر لأول وهلة كالنقيضين المتدابرين

إن النضال لعميق في روح الدين لم تخل منه الأديان الأولى ولا أديان الكتب المنزلة التي يدين بها معظم الأمم اليوم

فإله الخير وإله الشر، أو إله النور وإله الظلمة، ما برحا متصارعين عند الجاهليين من أقدمين ومحدثين

وكل دين من أديان الكتب المنزلة يؤمن بالصراع بين الملائكة والشياطين، وبالحرب الدائمة بين جنود الله وجنود إبليس

وكل ساعة من ساعات الضمير فهي مصارعة ومغالبة قلما تنتهي بالنصر الحاسم لجانب من الجانبين. وما هي حياة الضمائر إن لم تكن حياة العراك والمقاومة والانتصار؟ وما هب أسرار الكون إن لم تكن أسرار التجاذب والتدافع بين دواعيه ونواهيه؟

فالنضال أصيل في روح الدين

والتقاء التدين وطلب الغلبة وطلب التعبير فترة واحدة أو فترات متعددات في النفس (المتطورة) ليس بالأمر الغريب ولا باللغز العسير التعليل

ص: 4

وكم أديب مناضل وجندي يحمل السلاح وهو غير مطبوع على النضال!

وقد تركت أمل القيادة العسكرية منذ الصبا الباكر ولكني لم أتركه إلا في الظاهر الذي لا يتعدى الملابس والأزياء

فما هو إلا أن أسلمتني المناوشات الصبيانية إلى نظم الشعر للتحدي والمناجرة حتى انتقلت إلى عالم التعبير والكتابة وانتقلت إلى هذا العالم الأدبي لأناضل وأقضي العمر كله في نضال باطن بيني وبين نفسي ونضال ظاهر بيني وبين الآخرين

فما الغرابة في التوفيق بين هذه الأماني؟ وما الصعوبة في هذا التوفيق؟ وأيهما أسهل وأدني إلى القبول: تعليل كل أمنية بالطموح وليس هو بالتعليل الشافي ولا بالتعليل الصحيح، أو النظر إلى ما وراء الطموح من بواعث متقاربات تتلاقى عندها الظواهر المتباعدات؟

الراحة الكبرى تنال على جسر من التعب كما قال أبو تمام، والسهولة الكبرى في تعليل الحقائق تنال بعد خطوات من السهولة العارضة على وجه الأمور، ولكنها بعد اجتياز هذه الخطوات أسهل من كل سهل قريب، لأن هذا السهل القريب لا يؤدي إلى شيء ولا يستريح الواقف لديه

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الصوم عن القاهرة في يوم العيد

(رسالة مهداة إلى الأستاذ الزيات، وإلى من تعنيهم مكانة القلم

البليغ)

للدكتور زكي مبارك

كان من السنن الجميلة أن أقضي يوم العيد بين أهلي في الريف وكان للعيد في حياتي تأثير جميل؛ فقد كنت أسمع من أمي وخالاتي وعماتي دعوات أكاد أشهد صعودها إلى السماء

وما أذكر أني قضيت العيد بعيداً عن أهلي إلا في الأعوام التي قضيتها بين الاعتقال والاغتراب، ولله حكمة عالية في ابتلاء القلوب بألوان من الضجر والضيق تؤهلها لإدراك بعض المجاهيل من بيداء الوجود

وفي صيحة أحد الأعياد مضيت إلى (سنتريس) وأنا خالي الذهن من المفاجئات، فراعني أن أرى أبي يجذب يدي فيقبلها بحرارة وشوق، وكنت أنا الذي يقبل يمناه في جميع فرص اللقاء ولو أتيحت في اليوم الواحد عشرات المرات، فماذا فهمت من ذلك العطف الجديد؟

قدرت أن أبي سيموت، وأنه لم يقبل يدي إلا إيذاناً بالوداع، وأنني لن أره في مثل ذلك اليوم من السنة التالية، وأن الدنيا لن تسمح بأن أرى العيد في صحبة صديق كان غايةً في صباحة الوجه، وحصافة العقل، وطهارة الوجدان. وهل رأت عيناي رجلاً أفضل من أبي؟

وصفه المسيو دي كومنين لأحد محدثيه بهذا الوصف الطريف:

'

يرحمك الله، يا لأبي! ويرحم أيامي في رعاية قلبك الرفيق!

كان أبي يحبني إلى حد الإسراف، وكنت خليقاً بذلك الحب، فما بات من أجلي ليلة واحدة وهو مخزن ومكروب. وهل جشمت أبي ما لا يطيق، أو فرضت عليه أن يحسب لمتاعبي أي حساب. مع أنه لم يمت إلا بعد أن تمرس كاهلي بحمل الألوف من المصاعب الثقال؟

ثقل على قضاء العيد في الريف بعد موت أبي، فكيف كان العوض من ذلك الحرمان؟

أشار أخ كريم بأن أزور قصر جلالة الملك يوم العيد لأقيد اسمي في دفتر التشريفات، فماذا غنمت من تحقيق ذلك الاقتراح الجميل؟

ص: 6

كنت أبكر قليلاً، لأسير في شوارع القاهرة لحظات قبل أن أصل إلى قصر جلالة الملك، فعرفت من جمال القاهرة ما لم أكن أعرف. وما ظنكم بمدينة لا يستطيع العيد أن يزيدها جمالاً إلى جمال؟

كان يروعني أن أرى القاهرة لا تتأثر بالعيد، وكيف وجميع أيامها أعياد؟

وهل يمكن أن تمر بأحد شوارع القاهرة في أي وقت، ثم تعود وأنت في أمان من الفتون؟

إني أحسد من يرى القاهرة لأول مرة، أحسده وأحقد عليه. فالبرغم مني أن يكون لي في هواها شريك، ولو كان من أكابر أهل الوفاء

وأقول (أول مرة) لأني أخشى أن يكون طول الإلف قلل من طرافتها في عيني، وإلا فكيف جاز أن يكون طوافي بشوارعها مقصوراً على أوقات الأعمال؟ ألا تمر أسابيع في أيام الإجازات بدون أن أستصبح بنورها الوهاج؟

وأرجع فأدون أني كنت أصل إلى قصر جلالة الملك بعد أن أطوف بشوارع القاهرة لحظات، فأرى القصر يموج بالمهنئين من الوزراء والقضاة والمحامين والنواب والشيوخ والأعيان، وألتفت فأراني أستقبل كل قادم، وأودع كل ذاهب، كأنني في داري، وأنتهب الفرصة فأدير المناقشات الأدبية والاجتماعية مع من أصادف هنالك من رجال القلوب والعقول، ولا أنصرف إلا بعد أن أطمئن إلى أني عيدت على أكثر من أجب أن أراهم في يوم العيد

وكان جلالة الملك رأى أن يخفف على شعبه الأمين تكاليف التشريفات، فكان الوافدون على القصر للتهنئة لا يشعرون بالفروق الموروثة بين الطبقات، وكان حظ أي زائر مماثلاً تمام المماثلة لحظ رئيس الوزراء

ثم ماذا؟ ثم جاء هذا العيد بجديد لم ألتفت إليه من قبل

نظرت في منهاج التشريفات فهالني أن لم أجد فيه مكاناً لرجال القلم البليغ، مع أن لرجال القلم نصيراً في قصر جلالة الملك، هو الرجل أحمد محمد حسنين، وكان من لطائفه أن يراعى هذا الشأن الدقيق

مليكنا العظيم الشاب يسره أن يشهد جميع ما في وطنه من القوى الحيوية، وأعظم القوى في مصر هي قوة القلم البليغ، فكيف يصعب علينا أن نصافح جلالة الملك في يوم العيد،

ص: 7

ونحن رسل الثقافة المصرية في الشرق؟

إن أقلامنا هي زينة الوطن في أعوام النعماء، وسناده في أيام البأساء، فكيف يحال بيننا وبين مصافحة رمز الوطن في يوم العيد؟

رجال الدين لهم في التشريفات الملكية مكان، وللوزراء والسفراء مكان، ولكبار رجال الأعمال مكان، فأين المكان المحفوظ لأقطاب القلم البليغ؟

أعيذ القارئ أن يتوهم أني أطالب بمغانم رسمية، تغض من سمو المنزلة الأدبية، فما نحن طلاب ظواهر، وإنما نحن طلاب معاني، والقصر هو الرمز المعنوي لروحانية هذه البلاد، ونريد بصراحة أن يكون لنا في ظلاله مكان، باسم الفكر والبيان.

الأدب للأدب. . .

ولهذا المعنى نطالب بأن يكون له في التشريفات الملكية مكان

قد يقال إن حملة الأقلام في مصر يعدون بالعشرات أو بالمئات، ومن الصعب أن يوضع لهم نظام في التشريفات.

وأجيب بأن من السهل أن يكتفي بالطبقة الأولى، وأفرادها لا يحتاجون إلى تعريف، ثم تكون هذه الطبقة رمزاً للقوة الأدبية في التشريفات، ليعرف رجال القلم أن حظهم غير ضائع في هذه البلاد

كان متوسط ما يصدر عن المؤلفين المصريين اثنا عشر مجلداً في كل يوم، قبل أن ترتفع أثمان الورق، فهل أقيم لجهودنا ميزان في وزارة المعارف أو رياسة مجلس الوزراء؟

واسم مصر يرتفع من يوم إلى يوم في أقطار اللغة العربية بفضل القلم البليغ، فهل جوزي حملة الأقلام على ذلك الجهاد؟

نحن أغنياء بأقلامنا وأرواحنا عن ثناء الأمة المصرية، ولكننا نشتهي أن تكون أمتنا غاية في الوفاء، وهو أشرف الخصال، فهل تسمع أمتنا هذا الصوت؟

شاءت المقادير أن تكون لمصر الزعامة الأدبية في الأقطار العربية والإسلامية، أفلا يكون من العيب أن يحفظ قدر القلم المصري في جميع الديار، إلا الديار المصرية؟

بأعصابنا ودمائنا غنمنا المعركة الأدبية، بعد نضال حشدت فيه قوى كريمة تتمتع بالهواء الذي تنسمه ملك بني أمية، وملك بني العباس.

ص: 8

ولن تنزع الراية الأدبية من أيدينا، ولو عاد عهد الخلفاء في قرطبة ودمشق وبغداد، فإن شاء بنو الأعمام والأخوال أن يناضلوا من جديد فنحن على استعداد للنضال

وهل يحتاج بنو الأعمام والأخوال إلى مثل هذا الوعيد؟

إن عطفهم مبذول بغير حساب، ونحن لا نشكو غير تجني الحكومة المصرية، فهي لا تعترف للقلم بحق إلا إن كان صاحبه من السياسيين، وسنؤلب جميع أدباء اللغة العربية على الحكومة المصرية، فلتعرف هذه الحكومة أن صبرنا لن يطول على تجنيها الجميل!

أما بعد فقد عز على أن يحظى ناس بمقابلة جلالة الملك، ثم لا يكون نصيبي غير كتابة اسمي في دفتر التشريفات، وأنا من فئة قليلة تحمل المصابيح لإنارة القلوب والعقول، ولها فضل معروف أو مجهول في بناء هذا الجيل

وكذلك قررت الصوم عن القاهرة في هذا اليوم، والصيام في العيد حرام لا حلال، فهل يغفر الله هذا الذنب الدميم؟

أين أنا من القاهرة؟ وأين القاهرة مني؟

لقد سكنت الدنيا من حولي، ولم يبق غير الأصوات الصواخب في أعماق الوجدان

أهو يوم أضعته؟ لا، والله، بل هو عمر ضاع، فليس من رؤية القاهرة عوض، ولو انتفعت بالاعتكاف لتسجيل أعظم حديث يجود به القلب الخفاق

وهل استوفيت حظي من الحياة حتى أسأل عن نصيبي من القاهرة في مثل هذا اليوم؟

صمت عن القاهرة في يوم يحرم فيه الصيام، فما جزائي؟

الجزاء هو الحرمان من رؤية وجهها الأصبح في يوم عيد، وقد تجمعت الخلائق لشهود معترك الحسن والوجد في ساحتها الفيحاء. . .

للقاهرة في كل يوم مذاق، فكيف أصوم عنها في يوم العيد، وهي فيه ألوان من الأذواق؟ أمن أجل الغضب لقوم لا يغضبون لأنفسهم أصوم عن القاهرة في يوم عيد، وهو فيها صنوف، من الحسن الموصوف؟

لقد ضحيت ما ضحيت لأغنم الثواب في التنويه بجمال بلادي، فما ثوابي عند القاهرة، وقد جعلت الصيام عنها في العيد من المحرمات؟ الجواب عند روحها اللطيف.

زكي مبارك

ص: 9

‌المدينة الفاضلة

للدكتور جواد علي

والمدينة الفاضلة هي أصغر مجموعة بشرية كاملة تصورها الفيلسوف الفارابي فيلسوف المسلمين في كتابه: (آراء أهل المدينة الفاضلة) وقد نعت مدينته هذه بهذا الاسم ليميزها بذلك عن المدينة الجاهلية والمدينة الفاسقة والمدينة المتبدلة والمدينة الضالة وغيرها من المدن التي ابتكرها عقل الفارابي، وقد سجل أسماءها وخواصها في كتابه حيث ذكر خواص كل مدينة من هذه المدن وعلاماتها الفارقة وميولها من خير أو شر

وكتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة) في ذاته نوع من أنواع الإيتوبيا (طوبي) أراد فيه مؤلفه الفيلسوف المعلم الثاني معالجة قضية من أشكل القضايا البشرية التي جابهها المسلمون ألا وهي قضية شكل الحكومة المثلية والنموذج الأعلى لنظام الحكم في هذا العالم كما فعل قبله الفيلسوف اليوناني الكبير أفلاطون في جمهوريته أو كما فعل المعلم الأول الفيلسوف أرسطو في سياسته وكما فعل فيلسوف المسيحية الأول القديس أوغسطين في كتابه مملكة الإله أو وكما عالج نفس هذه المشكلة فلاسفة آخرون من القدماء والمحدثين ممن كانوا قبل عصر الفارابي أو ممن جاءوا من بعده بقليل أو كثير

وآراء الفارابي في هذه المدينة تكاد تنطبق على عالم أهل السماء أكثر من انطباقها على عالم أهل الأرض. هو فيلسوف ينظر إلى الحقائق بنظرات مجردة تختلف كثيراً عن وجهة نظر السياسي المحترف أو الإداري العملي إلى الأمور. هو مفكر له مثله العليا ويريد تطبيق مثله هذه على جميع شؤون الحياة. وقد أصاب الهدف في جهات ولم يصبه في جهات أخرى. ولقد كان شأنه في مدينته هذه كشأن توماس الأكويني في شرحه لكتاب السياسة لأرسطو أو دانته الشاعر الإيطالي الفيلسوف في كتابه (المملكة) حاول أن يوفق بين آراء أفلاطون وأرسطو، وبين كتاب الجمهورية وبين كتاب السياسة، وبين الحاكم والمحكوم. فكان يرى الفارابي في الخير الخير العام وفي السعادة السعادة العامة للحكام والأتباع معاً

ويريد أن يوفق بين هذه الآراء وبين آرائه الشخصية، وبين مقتضيات الزمن. ومقتضيات زمانه السياسية من اصعب الأشياء إذ عليه أن يرضى حماته أصحاب الحل والعقد وإلا

ص: 11

جلب على نفسه السخط والنقمة وعليه أن يرضي ضميره وضميره ضمير فيلسوف عالم لا يؤمن إلا بالعلم ولا يثق إلا بالعقل، وهذا ما لا يرضي معظم الناس طبعاً

وقد اتبع الفارابي في معالجة ضروريات مدينته والدوافع الطبيعية التي تدفع الإنسان إلى الاجتماع طريقة الفلاسفة الطبيعيين مبتعداً في كثير من الأحايين، وعلى الأخص في القسم الأخير من كتابه على طريقة الفلاسفة المنطقيين. تراه يشبه المدينة بجسم حي ثم يأخذ في شرح أهمية كل عضو من أعضاء هذه المدينة، يفعل ذلك على نحو ما يفعل علماء الاجتماع في هذا اليوم، ويتوصل من ذلك إلى نظرية يضعها هي نظرية التفاوت بين قابليات الأفراد وبين قابليات العناصر البشرية وبين قابليات الحكام والأتباع. وهي نظرية عامة يطبقها حتى على المعايير الأخلاقية والقواعد الأدبية والاجتماعية

يترأس مدينة الفارابي رئيس لا يرؤسه إنسان آخر أصلاً هو الإمام، وهو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة، وهو رئيس الأمة الفاضلة، وهو رئيس المعمورة من الأرض كلها، ولا يمكن أن تصير هذه الحال إلا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة قد فطر ذلك الرئيس عليها. واجتماع هذه الخصال كلها في إنسان واحد عسر، لذلك لا يوجد من حظي بهذه الفطرة إلا الواحد بعد الواحد والأقل من الناس. فإذا اجتمعت الحكمة في شخص والصفات الأخرى في شخص كانا هما رأسين في هذه المدينة، فإذا تفرقت الخصال في جماعة وكانوا متلائمين كانوا هم الرؤساء الأفاضل

وللحكمة في هذه المملكة حظ عظيم كما هي في مملكة أفلاطون؛ ولكن حكيم أفلاطون حكيم زمني لا يأتيه الوحي ولا يعتمد على إلهام من السماء؛ أما حكيم الفارابي فهو حكيم مسلم بكل معنى الكلمة يمثل زمان الفارابي خير تمثيل، يأتيه الوحي ويتنزل عليه الإلهام؛ وله سلطان واسع في الحكم لا حد له هو أفلاطون في ثوب رسول كريم. وفي هذه النقطة من البحث تجتمع العقلية الشرقية بالعقلية الغربية، تجتمع وجهة نظر أفلاطون بالنسبة للفيلسوف الحكيم الحاكم بوجهة نظر الشرقيين، وهي السيادة المطلقة التي هي من ضروريات الحكم لدى الشرقي، وهنا تلتقي الفلسفة اليونانية بالفلسفة الإسلامية، فيتكون من امتزاج الفكرين صورة جميلة على أحسن ما يكون

يظهر التأثير الإسبارطي واضحاً في جمهورية أفلاطون، وفي (السياسة) لأرسطو، وتظهر

ص: 12

الروح الفردية بصورة جلية على الأخص في مملكة أفلاطون؛ وفي آراء كل من الفيلسوفين انعكاس تام لآراء اليونانيين الخاصة بالنسبة لسياسة المدن حيث كانت حكومة المدن هي النموذج الأعلى لنظام الحكم لدى اليونانيين القدماء. أما في مملكة الفارابي فالمثل الروماني بالنسبة لطريقة الحكم هو المثل الأعلى إذ يسيطر الرئيس الذي افترضه الفارابي على المعمورة الفاضلة كلها، وفي حالة تعذر وجوده يقوم رئيسان أو ثلاثة أو أربعة أو غير ذلك من توفرت فيهم شروط الرآسة الفطرية والقابليات الطبيعة بنظام الحكم على طريقة تشبه طريقة حكم المسلمين في أوائل عهدهم وإلا هلكت المملكة أو المدينة وتاهت البشرية. وإن تعذر وجود الرؤساء قام وكلاء عن الرؤساء بالأمر يدبرون شؤون الناس ويقومون بتنفيذ الأحكام والعدل بين الناس وتكون لهم سلطة عليا لا حد لها تستند على حق طبيعي شرعي افترضه العقل على الإنسان فرضاً

وعلى الرئيس الحاكم أن يسعى في جلب السعادة لأتباعه المرؤوسين؛ ومتى حصل ذلك، وكانت الخصال التي رآها الفارابي قد توفرت فيه كان ذلك الرئيس هو الرئيس الفاضل، وكانت المدينة هي المدينة الفاضلة ولا يهم الفارابي بعد ذلك شكل الحكم إذ هو فيلسوف يفني في السعادة ويرى الخير كل الخير فيها على نحو ما يذهب إليه المتصوفة وما ذهب إليه الفيلسوف أرسطو

والرؤساء هم الذين يعينون شكل المدن ويهدون الناس إلى الصراط المستقيم. فإذا كان رؤساء المدينة أو الرئيس الأول من طبقة الحكماء الذين دأبهم الخير للمجتمع كانت المدينة فاضلة، وإذا كان دأب الرؤساء أو الرئيس الأول استغلال أهل المدينة والتحكم في الناس كانت المدينة مدينة جاهلية أو ضالة أو متبدلة حسب المعاملة الغالبة التي تكون بين رؤساء هذه المدينة أو أبنائها. ويحاول الفارابي أن يضع العلامات الفارقة التي تبين شكل المدينة ولكنه لا يحاول أن يعين نوع الحكم ولا طريقة الحكم كما فعل القديس أوغسطين أو توماس الأكويني أو توماس مور أو سنت سيمون أو غيرهم من الأيتوبيين

لم يعتقد الفارابي بنظرية المساواة الاجتماعية ولم يتصور في مدينته الفاضلة أية صورة للمساواة الاشتراكية التامة أو الناقصة سواء أكان ذلك بين أهل المدينة بصورة عامة أو بين طبقة معينة كما تصور ذلك أفلاطون. والفارابي فيلسوف عملي من هذه الناحية يرى

ص: 13

التفاوت حتى في درجات الفضيلة ينظر من جهة أخرى إلى ما يحتم عليه الوضع السياسي وآداب مجتمع ذلك العصر.

جواد علي

ص: 14

‌ثقافة فلكية

عمر أمنا الأرض

للأستاذ خليل السالم

يجد الباحث البصير أن تاريخ أي علم من العلوم مملوء باللمعات الفنية والخطرات الثاقبة والإشراقات الذهنية والفكر الدقيقة التي تشبه الوحي ينزل من الملأ الأعلى على العالم أو المخترع أو المكتشف. وإن الباحث ليقف إزاء لحظات التجلي التي تمر بالعالم وقفة كلها دهشة وروعة وإعجاب ندر أن تتسنى له وهو يتفرس في محاسن التمثال الخالد، أو يستشف مواطن الإبداع في القصيدة الرائعة، أو يغيب وعيه في الاستماع إلى قطعة موسيقية ساحرة

أنا لا أقول هذا اعتباطاً؛ وإنما أقوله عن اعتقاد جازم مكنه في نفسي شعور من يوثق بأقوالهم وشعوري أنا الداخلي الصادق. تأخذ الاكتشافات العلمية بعضها برقاب بعض؛ فاكتشاف حقيقة بعينها يقود بقليل من التدبر والوعي إلى اكتشاف أو وضوح حقيقة أخرى لا تمت إلى الأولى بصلة سوى أن اكتشاف الأولى سبب في اكتشاف الثانية. فالروعة إذا كامنة في نقطة الاتصال أو في الطريقة التي تم بها اكتشاف تلك النقطة. وليسمح لي القارئ أن أدرس معه في هذا الفصل القصير مشكلة عمر الأرض. فلا شك أنه رأى - أو سيرى - الأرقام الكبيرة التي يزعم العلماء أنها عمر هذه الحسناء التي تنعم كل عام بالربيع الطلق والحيوية النابضة مختلف أعضائها، والتي لا تبدي من شيبها دليلاً على صدق أقوال العلماء. ولعل حيرة القارئ تزول بعض الشيء إذا عرف الطرق العبقرية التي تم بها انتزاع هذا العمر الطويل من فم الحسناء نفسها، ولعله يفهم أيضاً معنى تلك الإشراقات الذهنية التي أشرت إليها أولاً

سأل الناس منذ القدم عن عمر الإنسان على الأرض أو عمر الأرض في الكون، فلم يجدوا جواباً شافياً. واحتال العلماء على الأرض لعلها تعترف بعمرها، ولكنها - كالعادة في بنات جنسها - أبت إلا كتماناً وإصراراً على الكتمان حتى قيض الله لهالي (عالم فلكي إنجليزي) في لحظة من لحظات الإلهام أن يستنطق المحيطات فتجيبه عن عمر الأرض. من كان يظن - قبل أن يقول هالي - أن ملوحة ماء البحر تكشف سر الأرض؟ وهل يرى القارئ

ص: 15

بسهولة العلاقة بين عمر الأرض وملوحة المحيط؟. . . إليك ذلك:

يتبخر الماء من المحيط دائماً، ثم يعود إلى المحيط مع الأنهار الجارية. فبقليل من التساهل نستطيع أن نفرض أن مقدار الماء في المحيط ثابت ما دامت العودة إلى المحيط تتم بنفس السرعة التي يتبخر بها الماء؛ لا يهمنا هذا بقدر ما يهمنا أن نعلم أن ملوحة المحيط تزيد زيادة مطردة أثناء هذه العملية المستمرة. فالماء الذي يتبخر كما لا يخفي مقطر خال من الأملاح. أما الماء الذي تحمله الأنهار، فيعود وقد ذاب فيه قدر ضئيل من الأملاح. فإذا عرفنا معدل الزيادة السنوية لملوحة ماء المحيط، استطعنا أن نعين بكثير من الدقة عدد السنين التي انقضت على استمرار هذه الظاهرة الطبيعية؛ وهكذا كان، فإن الإحصاءات والدراسات الحديثة لمعدل الزيادة السنوية لملوحة ماء المحيط، استطعنا أن نعين بكثير من الدقة عدد السنين التي انقضت على استمرار هذه الظاهرة الطبيعية؛ وهكذا كان، فإن الإحصاءات والدراسات الحديثة لمعدل الزيادة ومقدار الملوحة الحالية تبين لنا كما يقول جينز المحيطات تعود في عمرها إلى مئات من ملايين السنين

لم يرق للعلماء هذا الاعتراف ولن يخفف من غلواء جدلهم، فقد تكون الأرض قد كذبت عليهم وغررت بهم، وكان أن اتسعت شقة الخلاف بين البيولوجيين والجيولوجيين من جهة، وعلماء الطبيعة من جهة أخرى: أولئك يؤيدون وهؤلاء يكذبون. وحجة أولئك أن تلك المخلوقات التي تعني بها الأرض وترعاها لا تبلغ هذا الكمال في نشوئها إلا في غضون أجل طويل سحيق في القدم. وحجة الآخرين أن الأرض لم تهرم بعد، وهي تبرد من نفسها وفي كل عام تفقد من حرارتها وتخسر من نشاطها وحيويتها؛ وإذا كان ما يقوله خصومهم صحيحاً فيجب أن تكون الأرض الآن جثة هامدة باردة الأطراف لا يعيش عليها حيوان ولا ينبت نبات. واحتدم الجدل واشتد النقاش، والأرض صامتة لا تعي، لاهية عما يبحثون، نشيطة في رياضتها وطفرها حول أمها الرءوم (الشمس) ولكن جفرز (عالم إنجليزي) رفع عينيه نحو السماء لعل عندها بعض الخبر، ولحسن حظه وقوة عبقريته ونفاذ فكرته وجد عند شقيق الأرض - عطارد - نبأ مهماً. ماذا لاحظ؟ لاحظ أن مدار عطارد يكاد يقرب من الدائرة، وانتقاله من الشكل الإهليلجي إلى ما يقرب من الشكل الدائري تم بفعل المواد المنتشرة في الفضاء التي تناثرت عقيب انفصال السيارات عن السديم الشمسي، فقد

ص: 16

كان عطارد لقربه من الشمس يصطدم بتلك المواد. فالمدة التي انقضت حتى بلغت المدة (0. 2) هي عين المدة التي انقضت حتى فنت تلك المواد. فلو بقيت لتمت الاستدارة، ولو فنت قبل أن تصل المدة مقدارها الحالي لما وصلته حتماً. وبموجب الحساب الدينامي وجد جفرز أن عمر الأرض أو عمر النظام الشمسي على الإطلاق ينحصر بين (1000 - 10000) مليون من السنين

لم يتأكد العلماء أيضاً من شهادة عطارد، فعادوا ثانية إلى الأرض يقرءون في وجهها أخاديد الكبر ويجسون نبضها ويفحصون قلبها الكبير، وكان أن قضى الله أمراً كان مفعولاً على يد العالم الطلعة رسل (عالم فلكي أميركي) فقد وجد هذا عمر الأرض مسطوراً في مناجم الراديوم وغيره من العناصر المشعة. وفعل الإشعاع هذا حجة دامغة ضد الذين قالوا بفتوة الأرض. فالأرض لا تبرد من نفسها كما كان يظن. ليس هذا فحسب، وإنما هي تسخن بفعل هذا الإشعاع. فصار علماء الطبيعة مستعدين أن يقدروا للأرض عمراً لم يفرضه خصومهم من قبل

ما هي نقطة الاتصال بين إشعاع الراديوم وعمر الأرض؟ يعلم كل مثقف أن عناصر الراديوم والنوريوم المشعة تتحول من عناصر ثقيلة إلى أخرى تكون أعدادها الذرية أقل من أعداد الأولى. ويجيء الرصاص مسكا لختام هذه السلسلة

ولحسن الحظ وجد أن الرصاص المتكون بفعل الإشعاع يختلف عن الرصاص العادي في أن وزن الأول الذري (206) بينما الوزن الذري للثاني (207. 18)، ومن هنا سهل التفريق بين النوعين. وفي مناجم الراديوم لا تجد اليورانيوم دون أن تجد معه الرصاص الذي تكون من إشعاع اليوزانيوم. ولما كان معدل التحول من اليورانيوم إلى الرصاص وهو (1 %) كل (66) مليوناً من السنين معروفاً أصبح من السهل جداً أن نعرف عمر الأرض بمعرفة النسبة بين الرصاص واليورانيوم في منجم واحد. وقد قدر عمر النظام الشمسي بما لا يقل عن (1300) مليون من السنين. وهو كما يلاحظ القارئ يتفق تمام الاتفاق مع ما قدره جفرز من قبل

وجاءت من السماء رسائل تؤيد هذا التاريخ حملتها الشهب والنيازك التي عجز الهواء المحيط بالكرة الأرضية أن يحرقها تماماً فسقطت جلاميد كبيرة على الأرض وأحدثا أغواراً

ص: 17

عميقة كحفرة أرزونا مثلاً، وفي كثير من هذه الجلاميد يلتقي عنصر الراديوم ونفايته وقد وجد أنه ليس بين الحجارة التي امتحنت ما زاد عمره على (2900) مليون من السنين وما قل عن السن التي شهدت بها الصخور الأرضية

وكما أن لكل بداية نهاية فلا بد للأرض أن تهرم وتموت، متى؟ هذا بيد الله، فربما لا يزيد هذا الزمن الذي يحير عقولنا ويشعرنا بعظمة الكون عن أن يكون لحظة قصيرة عابرة في مخيلة المهندس الأكبر وربما يكون المستقبل أرحب وأوسع بكثير من الماضي

وفي نفس الوقت الذي يكون القارئ لنفسه رأياً في هذه الأرقام الضخمة، أرى أن أذكره بتلك اللمعات الفنية والإشراقات الذهنية التي تمر بذهن العالم، وأن أشير عليه أيضاً بالتزود ما استطاع من الثقافة العملية. ففي الأخيرة لذة وطرافة وقصص رائع لا تقل عما يلقى في غير العلم من ميادين الثقافة الواسعة

(تجهيز السلط)

خليل السالم

(ب. ع.) من الدرجة الأولى في الرياضيات

ص: 18

‌مدينة طرابلس الغرب

للأديب مصطفى بعيو الطرابلسي

من بين المدن العديدة التي يتردد ذكرها في هذه الأيام على صفحات الجرائد (مدينة طرابلس الغرب) عاصمة الإقليم المعروف باسمها ومقر حكومة لبيا الإيطالية، وهي مدينة إغريقية في اسمها ومعناه المدن الثلاث، وهي (سبراتا وكان البربر يسمونها (زواغة) قبل أن يلقبها العرب (بصبرة)، وهي اليوم تدعى (زوارة)؛ ثم (أوا التي هي أويات في نظر البربر قبل أن يحرفها الرومان إلى اللفظ السابق عند استيلائهم على تلك البلاد، وأخيراً (ليبدس التي لم يبق منها إلا آثار متهدمة تشهد على عظمتها في سابق عهدها، وقد حلت محلها اليوم مدينة (الخمس) العامرة، وأصبح أهالي البلاد يطلقون اسم (لبدة) على تلك الأطلال الخربة

وجدير بالملاحظة أن كلمة (طرابلس) لم تكن معروفة حتى القرن الرابع (ق. م) عندما أطلقها الكتاب الرومانيون على تلك المدن الثلاث السابقة الذكر، ولكن هذه الكلمة تغير مدلولها في العصر البيزنطي، وأصبحت تطلق على (أوا) فقط دون غيرها ولما جاء العرب استعملوها على هذا النحو، إلا أنهم أضافوا إليها كلمة (الغرب) تمييزاً لهذه المدينة عن مدينة (طرابلس الشام)، وكانوا يسمونها أحياناً (أطرابلس) بزيادة الهمزة في أولها، على أن صاحب القاموس قد ضبط اسمها بفتح الطاء وضم الباء واللام وجعل الهمزة من مميزات الشامية، ولكن البكري والتيجاني وغيرهما يرون إلحاق الهمزة بمدينة (طرابلس الغرب)، وهذا ما أرجحه لأن الأهالي إلى وقتنا هذا ما زالوا ينطقونها أحياناً بهذا الشكل

ويرجع تاريخ إنشاء مدينة (أوا) إلى أوائل القرن الخامس ق. م ونظراً لحسن موقعها وصلاحية مرساها للسفن بسط الفينيقيون سيادتهم عليها حتى تتم لهم السيطرة على البحر الأبيض المتوسط؛ ثم ورثهم في هذه السيطرة خلفائهم القرطاجنيون الذين أسلموها بدورهم إلى الرومان على أثر هزيمة قرطاجنة في الحروب البونية خلال القرن الثاني ق. م. ويذكر لنا بروكويبس أحد مؤرخي الرومان أن الوندال عندما استولوا على مدينة أوا (طرابلس الحالية) هدموا أسوارها، ولكن ليس هناك شك في أن البيزنطيين قد أعادوا بناءها عند استرجاعهم لها في عصر الإمبراطور جستنيان بدليل ما نراه من أثر التجديد

ص: 19

البيزنطي في بقايا الأسوار التي ما زالت إلى اليوم. ولكن هذه الأسوار لم تكن تامة الإحاطة بالمدينة من جهة البحر مما سهل على العرب فتحها على أيدي جنود عمرو بن العاص؛ ولهم في ذلك قصة ترويها كتب التاريخ تتلخص في أن عمرو بن العاص قد ضرب حصاراً على المدينة من جهة البر وأقام يتحين الفرص للاستيلاء عليها حتى وافاه ذلك عندما خرجت جماعة من جنوده للصيد، فلما شعرت بوطأة الحر توجهت إلى البحر لتخفيف ما تشعر به، وكانت المدينة تشرف على البحر مباشرة لا يفصلها عنه أي حاجز؛ فوجد الجنود طريقاً إلى المدينة على أثر جزر البحر فتسللوا إلى داخلها. وكم كانت دهشة الرومان عظيمة عندما سمعوا تهليل هؤلاء الجنود وتكبيرهم مما دفعهم إلى الاحتماء بسفنهم. وأبصر عمرو أصحابه في جوف المدينة فأقبل بجيشه واستولى عليها بعد أن سهل عليه أصحابه تلك المهمة. وقد فطن العرب إلى هذا النقص في تحصين المدينة فيما بعد مما دعا هرثمة بن أعين - وإلى المدينة من قبل الخلافة العباسية أن يعمل على إتمام هذه الأسوار من جهة البحر. وبدخول العرب لمدينة طرابلس دخلها الإسلام وانتشرت فيها اللغة العربية ولا تزال لغتها ولا يزال الإسلام دينها على رغم بعض المحاولات الفاشلة

ومما تجب ملاحظته هنا أن المؤرخين قد اختلفوا في تحديد زمن تبعية هذه المدينة للعرب؛ فبعضهم يقول إن ذلك تم في سنة 22هـ والبعض الآخر يقول إن ذلك كان في سنة 23هـ ويمكنا التوفيق بين الطرفين مع عدم أهمية هذا الخلاف لبساطة الفارق الزمني إذا اعتبرنا جزءاً من الحملة العربية على مصر قد توغل غرباً بعد فتح مصر حتى وصل مدينة طرابلس ثم تبعته بقية الحملة في سنة 23هـ. والحقيقة التي لا مراء فيها أن مدينة طرابلس نفسها لم تخضع للعرب خضوعاً تاماً حتى سنة 26هـ عندما حاول عقبة بن نافع التوغل في أفريقية وفتحها، فاتخذ منها قاعدة حربية لأعماله الجديدة وبقيت بها حامية عربية. وكان والي مصر هو في نفس الوقت حاكماً لمدينة طرابلس، ولكنها سرعان ما انفصلت عن مصر عندما عين عمرو بن العاص والي مصر ابن خالته عقبة ابن نافع بن عبد القيس الفهري والياً عليها من قبله، فكان بذلك أول ولاتها الذين لم تصلنا أسماؤهم بعد

وكانت مدينة طرابلس خلال القرن الثاني والثالث الهجريين ميداناً للقلاقل والفتن الدينية نتيجة لأعمال فرقة الأباضية إحدى فرق الخوارج التي وجدت لها أتباعاً بين قبائل البربر

ص: 20

من هوارة وزناتة؛ فأقلقوا بذلك بال الخلافة العباسية بهجومهم المتوالي على المدينة ومحاصرتهم لها. وكذلك كانت حالة طرابلس أثناء حكم بني الأغلب مما سهل على العباس بن أحمد بن طولون والي مصر أن يغزو تلك المدينة بعد أن استولى على إقليم برقة واستطاع أن يتغلب على حاكمها محمد بن قرهب عند لبدة سنة 255هـ وحصره في مدينة طرابلس ثلاثة وأربعين يوماً تمكن من بعدها أن يفك الحصار عن نفسه

وتبعاً لقيام الخلافة الفاطمية في المغرب خضعت طرابلس لسلطانها، وتولى حكمها أفراد من بني خزرون الذين أسلموها إلى بني حفص أصحاب اليد الطولى في رخائها وتعميرها كما يحدثنا بذلك التيجاني في رحلته عندما زار المدينة سنة 1308م فيخبرنا بإقامة الحاكم في قصر بديع ربما كان القصر الحالي قد بنى على أنقاضه. ويحدثنا عن طريقة حكم المدينة بواسطة مساعدة مجلس من شيوخ المدينة يتكون من عشرة أعضاء. ولا يخفى التيجاني إعجابه بحمامات المدينة ونظافتها وشوارعها الواسعة المنسقة التي يتلاقى معظمها بزوايا منظمة، كما أعجبته آثارها ومسجده الملقب بالجامع الأعظم، ومدرستها المسماة بالمستنصرية، وأسوارها المحصنة بالأبراج والخنادق. والخلاصة أن الحياة كانت فيها كما وصفها لنا ناعمة مزدهرة. ولكن تنازع أفراد بني حفص على الحكم وانشغالهم عن الإصلاحات الضرورية جعل المدينة تأخذ في التدهور والضعف مما عرضها لهجمات أهل جنوا، إذ كان كثير من تجارها يترددون عليها، فعرفوا نقط الضعف فيها، ولم ينقذها من أيديهم إلا تلك الفدية التي قدمها لهم أبو العباس أحمد بن مكي صاحب قابس وقدرها خمسون ألف مثقال من الذهب الخالص

وما كادت المدينة تسترجع أنفاسها بعد هذا الغزو الأجنبي حتى وقعت مرة أخرى في قبضة الإسبانيين سنة 1510م الذين مكثوا فيها عشرين عاماً عاثوا فيها فساداً ولكنهم مع ذلك جددوا قصر حاكمها الذي ما زال محتفظاً ببعض شكله حتى يومنا هذا كما أصلحوا ما تهدم من أسوارها وبنوا الرصيف المعروف باسمهم في ميناء المدينة لرسو سفنهم واتخذوا منها قاعدة بحرية لمعاكسة أعمال العثمانيين في البحر الأبيض المتوسط في ذلك الوقت. ثم انتقلت بعد ذلك إلى أيدي فرسان القديس يوحنا في جزيرة مالطة الذين بقوا فيها حتى سنة 1551م بمساعدة شارل الخامس إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة رغم ما عانوه من

ص: 21

هجمات ثوار العرب بمساعدة سكان البلاد الداخلية. وتروى لنا كتب التاريخ قصة طريفة عن مقدمات احتلال الأسبان لمدينة طرابلس، وهي ولاشك أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة وتتلخص في أن الأسطول الإسباني التجاري قدم إلى الميناء فأتى أحد أهالي المدينة واشترى جميع سلع المراكب ودفع لأصحابها الثمن فوراً، ثم استضافهم رجل آخر في بيته بعد أن جهز لهم طعاماً فاخراً، ولما أخرجه لهم أخذ ياقوتة ثمينة وسحقها ورشها على طعامهم فبهتوا لذلك الأمر، ولما انتهوا من الطعام قدم لهم بطيخاً فطلبوا سكيناً لقطعها فلم توجد في داره تلك الآلة البسيطة الضرورية ولا عند جاره إلى أن خرجوا إلى السوق وأتوا بسكين. فلما رجع هؤلاء التجار إلى بلدهم سألهم ملكهم عن حال البلد التي قدموا منها، فقالوا: ما رأينا بلداً أكثر منها مالاً وأقل سلاحاً وأعجز أهلاً عن مدافعة عدو. وحكوا له الحاكيتين فتشجع بذلك وتأهب للاستيلاء عليها

على أن تفاقم استبداد الإسبانيين بأهالي مدينة طرابلس أجبرهم على الهجرة منها والالتجاء إلى مدينة (تاجوراء)؛ ثم انتخبوا وفداً للذهاب إلى دار الخلافة العثمانية طالبين تخليصهم من أيدي الإسبانيين فأجاب السلطان سليم الأول طلبهم وأرسل معهم مراد بك أغا أحد أغوات الحرم الذي تمكن من تخليصها من أيدي الإسبانيين في 13 أغسطس سنة 1551م بعد أن فر حاكمها إلى جزيرة مالطة. وبذلك أصبح مراد أغا حاكماً للمدينة وما زال مسجده الذي بناه في سنة 1554م في تاجوراء يحمل ذكراه إلى يومنا هذا. وعبثاً حاول الأسبان وشركاؤهم فرسان مالطة استرجاع المدينة. ولم تبق لهم طريقة ينتقمون بها من العثمانيين سوى انسلال مراكبهم إلى داخل الميناء ليلاً وإحراق السفن العثمانية

هكذا أصبحت طرابلس تحت الحكم العثماني يتولى شأنها ولاة يعينهم السلطان، ولكن نظراً لبعد المدينة عن الحكومة المركزية في الأستانة وضعف خلفاء بني عثمان بمرور الزمن عمل الولاة على الانفصال عن الحكومة المركزية خصوصاً بعد أن اختلطوا بأهل البلاد. فنرى أحمد باشا القره مانلي يعلن استقلاله في سنة 1711م مؤسساً أسرة القره مانلية التي حكمت حتى سنة 1835م. وقد خلفت لنا هذه الأسرة الكريمة عدة آثار قيمة تشهد بعظم شأنها وحكمها ولاسيما أحمد باشا القره مانلي الذي حكم حوالي أربعة وثلاثين عاماً كانت بمثابة العصر الذهبي لتاريخ هذه المدينة، إذ استطاعت بسط نفوذها على داخل البلاد حتى

ص: 22

فزان وحدود برقة شرقاً، وعمل على حفر قنوات لجلب المياه العذبة للمدينة من العيون القريبة، فضلاً عن حفره عيناً على الساحل لتزويد البحارة بالمياه العذبة، وهذا لا يعد شيئاً بجانب مسجده الذي شيده في سنة 1738م، ومدرسته التي ما زالت عامرة بالطلبة حتى يومنا هذا تستمد نشاطها من الأوقاف المخصصة لها. وكان قصره ندوة لقناصل الدول لكسب صداقته. خصوصاً وأنه أتبع سياسة التسامح نحو المسيحيين فكثر عددهم في المدينة فضلاً عن أنه أحسن معاملة بعثات الفرنسسكان. هذا قليل من كثير يشهد بحسن أعمال مؤسس هذا البيت، ولولا ضيق المقام لأتيت على باقي أعمال أفراد هذه الأسرة التي رفعت من شأن طرابلس وجعلت دول أوربا تخطب ودها نظراً لما كان لأسطولها من سطوة في مياه البحر الأبيض المتوسط

ولولا ذلك الوباء الذي اكتسح المدينة على أثر مجاعة حلت بها سنة 1784 - 1785م والذي قضي على أربعة عشر ألف نسمة من سكانها البالغين مائتي ألف؛ ولولا تلك المنازعات العائلية من أجل تولي الحكم والتي أفسحت المجال للتدخل الأجنبي؛ ولولا دسائس قنصل فرنسا وإنجلترا لافتراس البلاد لبقيت طرابلس محتفظة باستقلالها وكيانها مدة أطول من تلك الفترة التي تمتعت بها ولكن كل هذه العوامل عجلت تداعي الكره مانلي ما ساعد تركيا على استعادة البلاد مرة ثانية يوم 28 مايو سنة 1835م. وبابتداء ذلك التاريخ تبدأ صفحة جديدة في تاريخ مدينة طرابلس الغرب حاول الأتراك خلالها إصلاح الحال ولكن الأجل لم يساعدها على تحقيق ذلك إذ سرعان ما احتلت الجيوش الإيطالية تلك المدينة في عصر يوم 5 أكتوبر سنة 1911م على أثر إعلانها الحرب على تركيا

وبابتداء هذا التاريخ أيضاً تدخل مدينة طرابلس الغرب في حياة جديدة أرجو التحدث عنها في مقال آخر مع ذكر أهم آثارها ووصف موجز لبعض إحيائها وعادات أهلها وأشهر علمائها ورجالها

مصطفى بعبو الطرابلسي

كلية الآداب - القاهرة

ص: 23

‌الصحيفة المثالية

لرجل الصحافة (ويكهام استيد)

بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي

حاولت فيما عرضته أن أوحي إلى القارئ بما يجب أن تتوفر الصحافة على خدمته من مثل أعلى، وأن أدله على ضوئه إلى ما كان من تقصير الصحافة البريطانية في أمره ونيتها في نهجه وقصورها عنه، وبوسعي أن أتخيل صحفياً أثقله عمل لم يؤده إلى بجهد جاهد ودرى بما يرسف فيه من أغلال وما نصب له من أشراك دراية جامعة وهو يحاورني عن علم وخبرة قائلاً:(عافنا من عسير أرمك يا أخي وترسل فيما يجتال بخاطرك من نسج النظر ووهم الخيال!) فأي نوع من الصحافة يسعك أن تبدعه إذا هيئوا لك الفرصة، وأطلقوا في الأمر يدك؟

هبك كنت (توماسن) بصحيفته (التربين)، أو (الفردهارموث) بصحيفته الناضجة (الديلي ميل) أو (ليفي لوسن) بصحيفته (الديلي تلغراف)، وقل لي لعمرك ماذا عساك صانعه - وأنت مقيد بقيود الصحافة الحاضرة - لتظفر بالحرية وطيب الحياة لصحافة أمست وهي تخضع خضوعاً كبيراً للاعتبارات التجارية؟؟

أغلب ظني أنه حوار حكيم وسؤال عادل، وقد يتأتى لي أن أجيبه إجابة نظرية عما سأل بقدر ما يشق على أن أقارعه الحجة بالحجة من الوجهة العملية الناجحة وأضعها نصب عينيه حقيقة واقعة؛ فهذا شأن آخر له قدره وأثره، وليس يتوفر لجميع الصحفيين من البراعة وبسطة الكف ما يسعهم معه إنشاء صحيفة؛ فقد كان (و. ت استيد) مثلاً صحفياً عبقرياً ورئيس تحرير نابغاً وهو إلى عبقريته ونبوغه قد أخفق إخفاقاً محزناً في إخراج صحيفة يومية، وإني على العموم لست قانعاً بأني أملك لنفسي من الكفاية والأداة ما يسعني معه أن أطالع الناس بصحيفة يكتب لها النجاح من الوجهة التجارية؛ كما وسع (جون) و (ولتر الثاني) صاحب (التيمس)، وليفي لوشن صاحب (التلغراف)، ويوسف بوليترز صاحب (النيويورك ويرلد)، وأدولف أخ صاحب (النيويورك تيمس)، والفرد هارمسورث صاحب (الديلي ميل)؛ في مذاهبهم الخاصة وطرقهم المختلفة، أو كما وسع (لورد بيفربروك) صاحب (الديلي اكسبرس)، ولورد كامروز صاحب (الديلي تلغراف)، (السندي

ص: 24

تيمس) من أصحاب الصحف الحاضرة. فجميع هؤلاء الرجال قد حققوا آمالهم وطفروا من (الصحافة) بمأربهم باعتبارها من المؤسسات الاستغلالية؛ ولقد كان فريق منهم - وما زال بعضهم - من الصحفيين الأفذاذ

إلا أنه سواء لدى أكانت الصحافة استغلالاً خصيباً أم كانت مستراداً جديباً ما دمت لا أومن إيماناً تاماً بأن ما يرجى للصحف من نجاح تجاري هو أفضل مقياس للصحافة الممتازة الطيبة. فصحيفة (ألوست مانشستر جازت) مثلاً ما تهيأ لها قط أن تعيش من غير أن تقترض، ومع ذلك فأي صحافي يسعه أن يقول إنها لم تكن صحيفة فذة جديرة بالإعجاب. وما كانت صحيفة (ألمانشستر جازت) لتصبح يوماً ما في ذاتها وبذاتها معقد رجاء أصحابها في أن تغدو منجماً ذهبياً وتثميراً رابحاً ولكني إلى ذلك لا أرى لها من تفوقها الممتاز نظيراً في أي قطر كان

إن ما أنشده من مثل أعلى للصحافة لينطوي في تقصي واستيعاب نوع الصحيفة التي سيكون بوسعها أن توفق بين رسالتها المعنوية وما تترقبه من ثروة مادية من غير أن تضحي في هذا النهج الدقيق بشيء من النزاهة الصحفية والخلق القويم

وما إن يحفل خاطري بالآمال الحسان شأن غالبية الصحفيين حتى يتملكني العجب أحياناً، وأسائل نفسي: أي نوع من الصحافة يجمل بي أن أخرجه للناس إذا ما اجتمع لي من الجنيهات مثلاً مليون أو يزيد، وأطلق لي التصرف فيه. فكان بوسعي إما أن أبدعها صحيفة جديدة لنفسي، أو تطلق يدي في صحيفة من الصحف الحاضرة لأغير أسلوبها وأقوم نهجها وأجعل طابعها وفق ما أريد؟؟ وهل يتيسر لصحيفة تثقلها تلك القيود التي يخضع لها الآن:(الإنتاج الصحفي) أن تحرر من أغلالها وترتفع فوق مستوى ما يقيدها أو ترجعه إلى الوضع الذي يسعها معه أن تسترد حرية الصحافة وتصونها؟

الجواب عندي أن هذا الوضع هو ما يجب أن يكون، ولو أني لا أنكر أن الرجل الذي يتهيأ له أن ينهض بهذا العمل قد يكون بحاجة إلى كفاية أسمى شأناً ومقدرة أبعد أفقاً مما يسعني أن أظفر به أو أطمع فيه، وقد تعمل ضرورة الساعة على بعث هذا الرجل وقد لا تعمل. ففي الحرب العظمى كانت هنالك حاجة ملحة للبحث بين جيوش الحلفاء عن قائد حربي ذي رأي عبقري وكفاية فذة ليتولى أمر القيادة العامة، وهبهم لم يعثروا بهذا الرجل أفكان ذلك

ص: 25

أو لم يكن لأن الحالة آنئذ بلغت من التعقيد والإعجاز مبلغاً لا يسمح بالسيادة لأي رجل كان؟؟

لقد أتيح لي في أوائل عام 1921 وقبل الذكرى المئوية لوفاة نابليون بأسابيع قليلة أن أسأل المارشال (فوش)(الذي عرف عن نابليون أكثر مما عرفه أي قائد آخر من قادة الحلفاء) عما إذا كان قد همس بضميره يوماً ما وهو القائد العام لقوات الحلفاء والجيوش المتحدة في أواخر الحرب العظمى الماضية أنه كان بوسع نابليون لو حل محله أن يكون أوفر منه كفاية وأحكم قيادة وأكثر توفيقاً أم كانت طبيعة الظروف الحديثة من شأنها أن تجعل من نابليون رجلاً أدنى قدراً وأقل شأناً. وقد أجابني (فوش) أنه كثيراً ما وجه لنفسه هذا السؤال بعينه إبان الحرب العظمى الماضية ووقتما كان يمر بقبر نابليون في (الأنفاليد). وأن رأيه قد استقر آنئذ على ما امتاز به نابليون من البطولة الفذة والقلب الصارم في كفاحه ومن الكفاية الممتازة والبأس الصادق في الاضطلاع بالصعاب ومجالدة الأعداء كان من شأنه أن يمكنه من التسلط على الحرب الحديثة في قرابة الستة أسابيع. قائلاً: (وآنئذ كان يسع نابليون أن يضع لجيوشه خططا وأساليب جديدة ويبدع للحرب فنوناً لا عهد لها بها من قبل ثم يعمل ما توفر له من عبقرية ودهاء في أن يضرب أعداءه وقد هالهم الفزع الضربة القاضية.

وأغلب ظني أنه على هذا النهج بعينه يسع منشئ الصحيفة النابغ أن يسيطر على ما يصادفه عقبات جسام في طريق إنشاء الصحف الحديثة سيطرة تامة تنعكس معها آية تلك العقبات فإذا هي فرص مواتية وصفقات رابحة. وإذا هو يحدق بأعدائه المناهضين لمشاريعه فيهزمهم هزيمة نكراء قبل أن يتنبهوا إليه من حيث لا يعلمون. وغالب الأمر من نجاحه أنه رهن كفايته في قراءة ما يجول برءوس أبناء الأجيال الناشئة والإفصاح لهم عما تحفل به رءوسهم من أفكارهم وتوجيههم إلى ما تطمح أنفسهم له وتنصرف أمانيهم إليه لو أنهم اهتدوا إلى سبيله.

ولعهد غير بعيد بعث كاتب برسالة لصحيفة (ألمانشستر جارديان) رثى فيها لحال أبناء هذا العصر لما يستبد بهم من شعور بحاجتهم إلى مثل أعلى يعيشون له أو يموتون في سبيله إذا دعتهم الحاجة إلى ذلك. وكان جماع رأيه أن حياتهم بحاجة إلى نصيب من الصفات

ص: 26

الروحية والمقدمات المعنوية. ويغلب على ظني أن ما شكاه من أمرهم قد بنى على أساس صحيح. فالناس قد اختلط عليهم الأمر وفترت عزائمهم وضلوا السبيل، وهم - ولا سيما شبابهم - يزجون بأنفسهم في ميادين الخطر ومسارح اللهو حيثما يكون أعظمهم مخاطرة أفضلهم شأناً. وكثير منهم عاملون على الاحتفاظ (بكفايتهم) لركوب هذه الأخطار. ولو أن قليلاً منهم يسعهم أن يجيبوا هذا الناشئ الموفور القوة على ما يسألهم عنه وقد تملكه العجب من احتفاظ الرياضي بكفايته من غير مران يعتصم به قائلاً:(لقد أنفقت جميع أوقاتي في الاحتفاظ بكفايتي. ولكن علام احتفظ بهذه الكفاية؟؟)

لقد أصبح الكثير وهم من (هواة الطيران) الذين لا يتهيبون أن تمزق أوصالهم وتتحطم رؤوسهم. أو ممن يتولون قيادة (سيارات السباق) ليندفعوا بها في سرعة طياشة قاتلة. كما أصبح المتقدمون في السن منهم وهم يرقصون تلك الرقصة الشاقة المضنية المسماة برقصة (الجاز) أو يلتمسون الرياضة العقلية في (حل الألغاز). أما شأنهم في الميادين الاجتماعية ونصيبهم منها فيا لهما من شأن موجع ونصيب منقوص. فهم بالإضافة إلى الشئون العامة ليس لهم من عقيدة تصدر عن تفكير رشيد. وهم لا يؤانسون في التعلق (بالوطنية) بدورها ما يشبع جل رغباتهم وإن كانت (الشيوعية) بالقياس إلى غيرها قد أمست وهي تجذب إليها قليلاً منهم. على حين أفل نجم داعي (الاشتراكية) - وهي صورة مخففة وطابع معتدل من الشيوعية - ففقد بريقه وضيع الافتنان به. وما برحت النازية أو الفاشية وهي أقل شأناً من أن تلفت أنظارهم إليها كعلاج ناجع لجميع الأدواء الاجتماعية. وهم إلى ذلك كله لم يظفروا من الإلمام بالمبادئ الحرة إلا بنصيب هو من قلة المحصول وضآلة الشأن بحيث لا يصلح لأن يكون وحياً للخاطر أو مصدر للإلهام. ولو أن غالبهم يميل إلى المبادئ الحرة ميلاً تقليدياً لا يصدر عن خبرة صحيحة أو إدراك سليم. وهم وقد صارت تلك المبادئ التي ينادى دعاتها بوجوب صيانة السلام العالمي ويزعمون أن القضاء على الحرب أمر محبوب ميسور وهي أجنبية عن فطرتهم، نجدهم ينفرون من الحرب ويشق عليهم أمرها. وهم يبحثون عن أشياء أجل من حياتهم شأناً وأعظم من أنفسهم قدراً يقفون عليها حياتهم وأنفسهم ولكنهم لا يملكون لها طولاً ولا يستطيعون إليها سبيلاً. وهم لم يظفروا من نتاج الأدب وخطب المنابر ومن سياسة الساسة وتشريع البرلمان ومن فلسفة الفلاسفة وعلم

ص: 27

العلماء إلا بما هو كالسراب من الماء أو الحصباء التي لا تنفع أقواماً يفتقرون حقيقة إلى الخبز.

يضاف إلى ذلك كله أن انطباع الحياة بذلك الطابع الآلي المطرد الأسلوب من شأنه أن يفوت عليهم الفرصة في الانتفاع بجهودهم وتجديد نشاطهم.

(البقية في العدد القادم)

زين العابدين جمعة

ص: 28

‌التبعة والعقوبة في المجتمع البشري القديم

للأستاذ رفعة الحنبلي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

تبعة الطفل

إن أكثر الشرائع الأوربية الحديثة لا تحمل الطفل تبعة ما، لكن بعضها لا يبرئه منها، وقد تختلف باختلاف رقي المجتمع ورفعة البيئة وتتباين بتباين التقاليد والعادات. ففي إنجلترا وروسيا مثلاً لا يؤخذ الطفل بالتبعة إن أقدم على جريمة ما حتى العام السابع من عمره، والسنة الرابعة عشرة في مقاطعتي (فو السويسرية وفالوا الفرنسية، والسادسة عشرة في بلجيكا. أما في فرنسا عام 1810 فقد حددت التبعة حتى السادسة عشرة، وأدخل عليها بعد ذلك تعديل آخر إلى أن تدنت إلى السابعة أو الثامنة ثم عدلها مجلس الأمة الفرنسي إلى العام الثالث عشر

والشرائع الإنكليزية الحديثة لها نصيبها في إقرار هذه التبعة على الطفل، وإن قبلت الحكومة - تحت تأثير الرأي العام وبعض أصحاب الضمائر الحية من القضاة - مبدأ إعفائه منها إعفاء جزئياً أو كلياً أو تعديلها تعديلاً يتلاءم مع الحياة الاجتماعية الإنكليزية، إلا أنها أبقتها كمبدأ قد يعمل به من حين آخر. ففي عام 1457 أخذ وليد له من العمر أربع سنوات بجريمة قتل، وحكم على مراهق لم يتجاوز الاثنتي عشرة سنة بجريمة أيضاً، وفتاة لم تشرف على ربيعها الثامن أخذت بالتبعة لإشعالها النار في مسكن

على أن بعض الشرائع تحتم على الولد نفسه، دون غيره، أن يتحمل تبعة عمله، والبعض الآخر تحمله وتحمل أسرته معاً؛ وفي كلتا الحالتين لا ينجو الولد منها وإن كانت التبعة في الثانية أخف وطأة عليه من الأولى

أما في العهد القديم فالقانون الصيني لم يخل من تشريع غريب في صدد هذه التبعة يتنافى مع التبعات الأخرى في المجتمعات الثانية؛ فالولد الذي يرتكب إثماً أو جرماً ولم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره - مثله مثل رجل جاوز السبعين من سنيه، أو شيخ فقد عيناً واحدة أو ذراعاً واحدة - يتمكن أن يستبدل المال بالإعدام إذا كانت الجناية ليست بذات

ص: 29

أهمية - أي لا تستوجب الإعدام - ويكون المال حينئذ كفارة عن ذلك الإثم أو الجريمة؛ أما الولد الذي يؤخذ بجريمة تستوجب الموت ولم يتجاوز العشر سنوات من عمره - فمثله كمثل رجل أربى على الثمانين، أو شيخ فقد عينه أو ذراعيه - يسمح له أن يطلب عفواً خاصاً من جلال الإمبراطور. والوليد لذي لم يتجاوز الربيع السابع من سنيه - مثله كمثل صاحب التسعين - لا يتحمل أية تبعة ما وبالتالي لا يحكم بأية عقوبة إلا في حالتي الخيانة والتمرد. فالولد في هذه الحالة يؤخذ بالتبعة هو وأسرته ويتحملان العقوبة بمعنى أن كل أفراد أسرته الذين لم يتجاوزوا الخامسة عشرة من سنيهم، من كلا الجنسين، يخضعون لعبودية ثقيلة قد تكون وبالاً عليهم في المستقبل، فالذكور منهم يرسلون إلى مستشفيات خاصة حيث يعقمون بينما الإناث يقضين بقية حياتهن في خدمة المجتمع!

أما تبعة الوليد عند اليونانيين القدماء فيختلف باختلاف الحكومات القائمة في ذلك العهد؛ فحكومة أثينا، تمشيا على شريعة أرسطو، طرحت جانباً تبعة الوليد واستنكرت معاقبته في حال قيامه بإثم عرضي غير مقصود به أي ضرر، ولكنها تأخذه بجرمه إذا ما ارتكب جريمة قتل الإنسان ولا تقر شريعة أفلاطون التبعة على الوليد الآثم، وهو في أدوار الجنون والمرض والطفولة حتى في حالة الخيانة والكفر والزندقة، ولكن أفلاطون استثنى حالة واحدة هي جريمة قتل الإنسان؛ أما إذا قدر للولد أن يجرح مواطن له، فإبعاد عام واحد عن البلاد، وإن سولت له نفسه العودة قبل إتمام هذه المدة، فسجن عامين كاملين؛ أما حكومة إسبارطة فيبعد الوليد إلى خارج بلاده وإلى أمد بعيد أن أرتكب جريمة قتل دون قصد منه. وهذا الإبعاد هو بمثابة انتقام خاص لعائلة القتيل وإرخاء رمزي لها؛ وفي حالتي الخيانة والصبأ، فالعقوبة تتناوله فوراً دون النظر إلى عمره، وقد تتناول أسرته أيضاً.

ولا تقر الشرائع الجرمانية القديمة التبعة على وليد أخذ بسرقة ولكنها تأخذه بجريمة قتل وتحده، وربما رأفت به وخففت العقوبة عنه؛ وتحاكى هذه العقوبة الأحكام المقررة على الراشد الذي يقترف القتل عفواً.

يتبين مما تقدم أن التبعة تلازم الولد - منذ اقدم الأزمنة حتى الآن - ملازمة لا ينجو منها، وإن فكرت بعض الأمم في تحقيقها، لكن البعض الأخر أخذ في بداءة هذا القرن يجتهد في إلغائها عن ولد لا يفقه معناها، ولا يفهم النظم الاجتماعية لأن تجريمه هو بمثابة ظلم لا

ص: 30

مسوغ له.

تبعة المجنون:

اختلف المتشرعون الحديثون في أهمية الدور الذي يقوم به المجنون في المجتمع الإنساني وما يتركه من أثر قوي أو ضعيف فيه، ولكنهم أقروا - وإن اختلفوا في الاجتهاد - مبدأ واحداً هو أن لا تبعة على المجنون وأنه معفى من العقوبة.

وماذا يراد بالجنون؟ لقد عرفه الأستاذ (مرسيه بأنه (اختلال في أي عنصر من عناصر القوى العقلية؛ وقد يكون هذا الاختلال تشويهاً أو توقفاً في النمو أو انحلالاً والتواء في عنصر من تلك العناصر) مما يجعل (الفرد غريباً عن الوسط الذي يعيش فيه، وقد يصطدم اصطداماً يضر به وبالمجموع معاً دون أن يدرك عاقبة عمله). ويقول الأستاذ (مرسيه) أيضاً: (إن أكثر حالات الجنون سببها تسمم بطيء يؤدي إلى انحلال العرى بين المراكز العليا والمراكز السفلى، ثم يؤدي إلى انحلال العناصر التي تكون ذلك المركز) وقد عرفت الشريعة المجنون (بالغرد الذي خرج عن قواه العقلية فلا يصحو إلا في فترات نادرة أو لا يصحوا أبداً). وإذا كانت هذه وضيعة المجنون المحزنة وعقليته القاصرة، فكيف أجاز المجتمع البشري لنفسه أخذه بالتبعة والحكم عليه بالعقوبة؟!. . .

كان كثير من المجتمعات القديمة والحديثة، تأخذ المجنون بالتبعة والعقوبة. ففي القرن الثامن عشر أصدر بعض قضاة فرنسا أحكاماً مختلفة على بعض المجانين، فأثارت هذه الأحكام حفيظة نواب مجلس الأمة، واحتفظ هذا المجلس، بما له من سلطة تشريعية، بتخفيف هذه العقوبة أو إلغائها، ولكنهم أقروا مبدأ التبعة والعقوبة في حالة جريمة يرتكبها المجنون تتناول صاحب الجلالة أو أمراء الأسرة المالكة أو الرئيس الأول أو غيرهم من الزعماء كبار القادة.

والشريعة الصينية تميل بعض الميل إلى تخفيف التبعة عن المجنون وتعديل عقابه. فالجريمة التي تستوجب الإعدام يستعاض عنها بالسجن والتصفيد بالحديد عند عفو أهل القتيل عنه، وإذا قدر للمجنون أن يجرح أباه، فعلى هذا أن يبعث برسالة خاصة إلى صاحب الجلالة يتوسل فيها أن يعطف على ولده، ويعفو عن خطيئته ويغفر له ذلته؛ أما إذا قتل أباه فيؤخذ بالعقوبة وبأشد ما تكون قسوة وعنفاً حيث تقطع أوصاله وتحرق حتى ولو

ص: 31

قضي نحبه قبل تنفيذ الحكم فيه.

وكان الرومانيون يعاملون المجنون معاملة القاصر - وهي تشبه إلى حد ما معاملة اليونانيين - ألا إنه قد يدفع في بعض الأوقات مبلغاً من ماله أو قسماً من أملاكه يتناسب مع أهمية الجريمة التي ارتكبها. وفي نهاية القرن الثاني أصدر الإمبراطور (مارك أوريل) وابنه الإمبراطور (كومود) قانوناً يبرئ فيه المجنون من التبعة ويرفع عنه التهمة، وينقذه من العقوبة، وساندهما في ذلك كبار المتشرعين آنئذ، وحجتهما أن الجنون بعينه هو عقوبة في حد ذاتها؛ أفلا يكفي المجنون عقوبة أن تكون الطبيعة قد حرمته من نعمة العقل، ولذة الفكر، وسعادة الحياة، حتى يزيده المجتمع شقاء بتجريمه وعقابه!!. . . إن هذا لكثير على امرئ بائس مسكين. . .

وهكذا زي المجتمع البشري يعاقب المجنون ويحمله التبعة ليس لأنه يتجاهل حالته العقلية والنفسية، ويتعامى عن وضيعته الشاذة المضطربة بل تمشياً لما جاء في الشرائع من أن المجنون يؤخذ بالتبعة والعقوبة.

تبعة الأموات

لقد عرف المجتمع القديم هذه التبعة كما عرف غيرها من التبعات الأخرى التي تتناول الحيوان والبحار والنبات. وكان الاعتقاد السائد، في ذلك الزمن، أن التبعة تتناول الميت نفسه باعتبار أن جثة المجرم عليها أن تتحمل العقوبة، وعلى هذا الاعتبار أقروا مبدأ التنفيذ

ويذكر التاريخ لنا حوادث عديدة من هذا النوع الطريف؛ ففي الهند يقطع رأس المجرم الميت ويحمل على الحراب ويسلخ جلده؛ وفي اليونان تقطع أوصاله وتحرق؛ وقد يحتفظ بجمة من شعره كذكرى لهذه العقوبة

ولا يؤخذ بهذه العقوبة إلا في حالتين اثنتين: أولاهما في حالة الانتحار؛ وثانيتهما في حالة ارتكاب جريمة تتناول الأمة والوطن. فالمنتحر يحكم وتنفذ العقوبة في جثته، فيسام إلى الجلاد حيث يصلب ويمثل به أشنع تمثيل، ولا يحتفل بدفنه احتفالاً دينياً، ويحرم من الرقود في باطن الأرض بسلام

وعرفت الأمة المصرية هذا النوع من العقوبة أيضاً، فكان المجرم - وهو الجثة الهامدة -

ص: 32

يمثل أمام محكمة كهنوتية فإذا أخذته بجرمه حكمت عليه حكماً يحاكي في أصوله وفروعه الأحكام اليونانية؛ وكذا الحال في الأمة الفارسية فقد قطع الملك الفارسي رأس أخيه - وكان يناصبه العداء ويوثب الأمة عليه - ومثل فيه تمثيلاً فظيعاً بعد ن سقط في إحدى المعارك قتيلاً

وعرف المجتمع اليوناني أيضاً أنواعاً كثيرة من هذه العقوبات فمنها ما ينتهي بالتمثيل بجثة المجرم وحرقها، وما ينتهي بسحقها تحت الرحى وذرها في البحر، وما ينتهي بالحرم الديني ورمي الجثة خارج البلاد وغيرها

والواقع أن مثل هذه العقوبات تدلنا دلالة واضحة على عقلية المتسرعين الضيقة الذين لم يدركوا كل الإدراك ما في هذه العقوبات من إسفاف وسخف وتفكير عقيم

تبعة الحيوان

وكما أن التبعة والعقوبة كانتا تلازمان الإنسان في المجتمعات القديمة فهما تلازمان الحيوان أيضاً. فمن تقاليد قبيلة أن تأخذ بثأر أحد أفرادها إذا ما قتله نمر أو فهد وذلك بقتل الحيوان المفترس أو قتل آخر من فصيلته؛ ومن تقاليد القبائل الساكنة في جزيرة مدغشقر الاقتصاص والانتقام من التماسيح؛ فأفراد قبيلة التي تربطهم بالتماسيح رابطة الأخوة والصداقة - وهي التي وعدت وأقسمت، حسب اعتقادهم، ألا تأكل إخوانها من بني الإنسان - لا تتوانى عن معاقبة أحدها إذا حنث بيمينه أو رجع عن وعده

ينفر رئيس القبيلة أفراده، ويوثب جماعته لأخذ الثأر من هذا الأخ الحيوان الذي لم يرع حرمة الأخوة والصداقة، ويوحي هذا الثأر في نفوسهم حب الانتقام منه، ويشتد إضغانهم عليه، فينهضون حالاً إلى ذلك النهر وعلى وجوههم إمارات الجرأة وعلامات البأس، حتى إذا ما اقتربوا من ساحله المرمل، ونزلوا بقبالة مسايله وخلجاته، يتقدم رئيسهم بالشكوى المريرة إلى إخوانه التماسيح - تمشياً على الشريعة المقدسة - ويتبسط في سرد الجريمة على مسمع منها، ويتلوم القائل على فعلته هذه ويتوعده - وهو الذي أقسم وعاهد ألا يفتك القائل بأخيه الإنسان - طالباً منها أن تسلم القائل صباح الغد للاقتصاص منه، ملقياً في النهر شصاً كبيراً تتدلى منه قطعة كبيرة من اللحم حجمها قرابة من ربع بقرة؛ ومن ينكفئ كل منهم إلى مسكنه، وينصرف إلى نفسه يتوفر على الاستعداد للانتقام صباح الغد؛ فالنساء

ص: 33

يأخذن في جدل الشرائط الحريرية، والفتيات في غزل خيوط القنب، والرجال والأيفاع في شحذ الأسنة والحراب والرماح

فما يكون الغد حتى يتوافد زمر الرجال والنساء، وجموع الفتيان والفتيات إلى مضرب الزعيم يتشاورون معه في كيفية المحاكمة، وتساورونه في طرق الانتقام، حتى إذا جمعوا جموعهم واكتمل عددهم، أخذوا سمتهم إلى ذلك النهر الهادر بأمواجه، مكان الجريمة وموضع الاستغفار والتوبة

يتقدم الزعيم فيغمز الشص متربصاً بغريمه مواتاة الفرصة، وقد لا يطول ثواؤه حتى يظفر به ويهب بجماعته أن يساعدوه ويعاونوه، وما أن يظهر التمساح على سطح الماء حتى يأخذوه بالعنف والقسر ويبادرونه بالأهازيج والأغنيات رمز الظفر والغلبة، ويتسابقون في إحكام أربطة القنب والحبال على جميع أطرافه إحكاماً قوياً لا يستطيع معه حراكا. وبعد أن يتحلق القوم حوله يعمد رئيس القبيلة إلى التبسط في الجريمة وإلقاء التبعة على هذا التمساح، معتذراً إلى رجال القبيلة بمحاكمته والحكم عليه بالموت - باعتباره أخاً لهم - وما أن يحكم عليه حتى يندرئ القوم بغرز الأسنة والرماح في بطنه إلى أن تقر حركته وتهدأ ثورته وتخمد أنفاسه، حينئذ تتقدم النساء بنزع الأربطة واستبدالها بأربطة حريرية ثم يزمله الرجال بالأكفان الناعمة بين عويل أولئك وبكاء هؤلاء حتى يواري في رمسه، وهو رمس لو تعلم جميل، أعد له ولأمثاله منذ أمد بعيد، وذلك باحتفال ديني مهيب. . .

وهكذا نرى أن هذا الحيوان السائم الذي لا يعرف ما ينفعه وما يضره يعاقب عقاب من يرتكب إثماً من بني الإنسان، ويحتفل به احتفالاً قد يقل نظيره لأبن آدم. . .

والمزدكيون التابعون لمذهب زرادشت يأخذون الحيوان بالتبعة والعقوبة فالكلب المسعور يعاقب بصلم أذنه اليمنى إذا افترس حملاً أو جرح رجلاً، وتصلم أذنه اليسرى في حالة الإعادة، وإذا تعددت آثامه وشروره ففرضة في رجله اليمنى واليسرى ثم يبتر ذنبه؛ وبما أن مبادئ المزدكيين لا تسمح بتقطيع أوصال المجرم - إنساناً كان أو حيواناً - فالعقوبة لا تتعدى حدود ما ذكرنا

وقد تشمل التبعة والعقوبة صاحب الحيوان أيضاً، وهذا ما تأخذ به المجتمعات القديمة والحديثة، فالشرائع القديمة كانت تحمل صاحب الحيوان ما يسببه هذا من ضرر وأذى،

ص: 34

وتحمله على أداء تعويض مالي أو ترغمه على إعطاء عقار أو متاع يوازي قيمة الأضرار التي صدرت عنه، والمجتمع العربي القديم كان يعرف هذه التبعة ويأخذ صاحب العجماء بها على اعتبار أنه هو وحده مسئول عن الإهمال أو بالأحرى عن الضرر الذي تأتى عن الحيوان، فلو أن صاحب العجماء عقل الحيوان عقلاً تاماً ورعاه رعاية فيها كثير من الحذر واليقظة لما سبب إضراراً لهذا وأنزل خسائر بذاك، بل ذهبت الأمة العربية في الزمن الغابر إلى أبعد من هذا الحد، فأخرت مبدأ شهادة الحيوان أمام القضاء، فقد أورد مؤلف الأغاني قصة الشاعر (الحزين الديلي) الذي كثيراً ما كان ينصرف بمفرده إلى تعاطي الأشربة المحرمة في ظاهر مكة ولا صديق يؤاكله ويشاربه إلا حماره الذي يحمله ما يحتاج إليه من آكال لذيذة وأشربة خمرية معتقة

أحب جماعة من أهله وأصحابه أخذه بهذا الإثم وإقامة الحد الشرعي عليه وكانوا يؤبون في كل مرة بفشل مرير، ولم يكن لهم من طريقة أخرى إلا أخذ الحمار كقرينة على ارتكابه الإثم، ولما مثل الشاعر أمام القاضي وسئل عن التهمة أنكرها، فأراد القاضي أن يأخذ الحمار كقرينة على ارتكابه الإثم، وأحب أن يحده الحد الشرعي، وما أن سمع الشاعر قولته حتى بادر القاضي بقوله: إني أقبل هذا الحد - وإن لم يكن شرعياً - لكن أخوف ما أخافه أن يضحك منا أهل العراق ويتقولوا أن أهل مكة يأخذون بشهادة الحمير

والواقع أن الأخذ بمثل هذه القرينة هي بمثابة نوع من أنواع التبعة التي كانت تلازم الحيوان فيما مضى، وهي أيضاً بمثابة رجوع العربي إلى المنطق القبلي الذي كان يأخذ الحيوان بالتبعة

أما في العصر الحاضر فإن العرب لا يأخذون بهذه النظرية خلاف الأمم الأوربية التي تأخذ بها لاسيما في الأجرام الجزائية. ففي الثورة الفلسطينية عام 1936 - 1939 عمل الإنجليز بشهادة كلاب الأثر وفرضوا العقوبات الصارمة وطبقوا قانون الطوارئ الذي يقضي بالإعدام على كل من حمل سلاحاً، إلا أن قضاة العرب لم يوافقوا على ذلك إذا عرضت عليهم قضايا من هذا النوع كما جرى مع أحد القضاة الذي رفض الأخذ بشهادة الكلاب كما ورد في سياق حكمه

وجاءت الشريعة الإسلامية فهدمت ما أخذ به الجاهليون من هذه النظم، وأقرت مبدأ التبعة

ص: 35

على صاحب الحيوان فحسب، وكذا الحال في المجتمعات المتمدينة الحديثة التي تكون قد اتصلت بالحضارة الإسلامية وتفهمت شرائعها ونظمها فأقرت ما أقرت وهدمت ما هدمته

ويخبرنا أرسطو بأنه شاهد بنفسه، في أثينا، محاكمة الحيوان المجرم في محاكم خاصة، وكثيراً ما كانت العقوبة تتناول قتل الحيوان وطرحه خارج حدود المدينة؛ ويقول أفلاطون أن حيوان النقل يؤخذ بالتبعة والعقوبة إذا أودى بحياة فرد خلال حالات خاصة كالاحتفالات الدينية والأعياد الوطنية؛ وعقوبته إما القتل أو الإحراق

وهناك نوع من العقوبات الدينية، مصدرها الكنيسة الكاثوليكية، تختلف عن بقية العقوبات اختلافاً كلياً تتناول الحيوان الوحشي دون الأليف باللعنة الدائمة والجرم الأبدي

تبعة النبات والجماد

وكما تقع العقوبة على الحيوان تقع أيضاً على النبات والجماد على حد سواء، فقبائل تقتص من الشجرة إذا أودت بحياة أفرادها وقت وقوعها والاقتصاص منها إنما يكون بتقطيعها إرباً إرباً وسحقها سحقاً ناعماً وذرها في الهواء؛ وعند سكان استراليا يحرق سلاح القاتل

ويروي التاريخ أن أحد ملوك فارس جلد البحر عقب معركة بحرية هزم فيها، وأن إمبراطور بدد ماء نهر لأنه حال دون انتصاره على أخيه

وأخبرنا ديموستين الخطيب اليوناني الكبير أنه شاهد بنفسه محاكم خاصة صلاحيتها محاكمة الجماد دون غيره، وحدث أن عائلة يونانية تسكن جزيرة رفعت الدعوى على تمثال بطل عظيم من أبطال اليونانيين لحادثة وقعت على أحد أفرادها من قطعة صغيرة منه، إلى أن فازت بالحكم على التمثال وألقت به في البحر

تلك هي التبعة والعقوبة في المجتمع البشري القديم التي أظهرت لنا حياة اجتماعية متأخرة، وبيئة حقيرة، وحضارة فقيرة وواضحت نظماً وقوانين قد لا يأخذ ببعضها أو بأجمعها المجتمع الحاضر وعادات وتقاليد قد لا يقرها أيضاً، وإنما عالجنا هذا البحث لكي توقف القارئ العربي على درجة من درجات تفكير المجتمع القديم ومظهر من مظاهر الروابط الاجتماعية فيه

رفعة الحنبلي

ص: 36

‌21 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

(في النصف الأول من القرن التاسع عشر)

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل السادس - عاداتهم

سرعان ما يترك العريس - بعد عودته من المسجد - أصدقاءه في الدور الأسفل ينعمون بتدخين الشبك واحتساء القهوة والأشربة. وتظل أم العروس وأختها أو غيرهما من قريباتها في الدور الأعلى بينما تكون هي والبلانة في غرفة منفصلة. وينبغي أن يبدي العريس الشاب بعض الحياء مثل العروس؛ فيحمله لذلك أحد أصدقائه في بعض الطريق المؤدي إلى الحريم. وقد تجلى العروس إذا كانت من الطبقات الموسرة أمام العريس في ملابس مختلفة تصل إلى سبعة. وعلى العموم يرى العريس عروسه مع البلانة وحدها، فيمنحها عند دخوله الغرفة منحة فتنسحب في الحال. وتغطى العروس رأسها بشال لا يرفعه العريس قبل أن يهبها هبة مالية تسمى (كشف الوش) بينما تظهر العروس في سبيل رفع الغطاء نفوراً وممانعة شديدة لتعبر عن خفرها البتولي. ويبسمل العريس عند كشف النقاب ثم يحي العروس قائلاً:(ليلة مباركة!) فتجيبه إن لم يرتج عليها من الخجل: (بارك الله فيك). وقد يرى العريس حينئذ لأول مرة وجه عروسه. ويجد العريس على العموم أن العروس كما وصفت له تقريباً. وكثيراً ما تنجز حينئذ طقوس عجيبة، فيرفع العريس ملابس العروس جميعها ما عدا القميص، ويجلسها على حشية سرير يتجه نحو مكة كما يولي ظهر العروس هذه الجهة، ثم يجذب حجر قميصها إلى الأمام ويبسطه على الحشية ويقف أمامها على بعد ثلاث أقدام تقريباً ويصلي ركعتين واضعاً رأسه ويديه عند السجود على هذا الجزء من القميص. ولا يبقى العريس مع عروسه أكثر من بضع دقائق بعد أن يكون قد أشبع فضوله بمشاهدة جاذبيتها، ويطلب من النساء - اللاتي يتجمعن عند الباب

ص: 38

وهن قلقات - أن يزغردن. وتصل الصيحات الحادة إلى مسامع الرجال في الدور الأسفل وإلى الجيران وتتجاوب النساء بالزغاريد مخبرات أن العريس رضي بعروسه. ثم يهبط العريس إلى أصدقائه ويبقى معهم ساعة أو أكثر قبل أن يعود إلى زوجته، ويندر جداً أن يطلق الزوج زوجه إذا خاب فيها رجاؤه وإنما يستبقيها أسبوعاً أو أكثر

الآن وقد وصفت طريقة الاحتفال بزواج العذراء في القاهرة أضيف بعض كلمات عن بعض حفلات شاهدتها في أحوال أخرى خاصة بالعذراى والثيبات سواء

يندر أن يذهب بنات العظماء إلى الحمام العمومي قبل الزواج لوجود الحمام في المنزل. وعندما تخلو منازل العائلات الموسرة أو المتحضرة من حمام، تذهب العروس مع قريباتها وصديقاتها إلى حمام عمومي يستأجر لهن خاصة. ويفضل الكثيرات الذهاب إلى الحمام وإلى منزل العريس دون زفة راكبات الحمير فوق البراذع المرتفعة. وتتدثر العروس بشال كشميري على طريقة الحبرة. وقد ترافق حاشية العروس فرقة عوالم يركبن الحمير أيضاً ويغنين طول الطريق

وقد يكون لعائلة العروس أو العريس أغاوات فيتقدمون العروس راكبين. وقد يجري على رأس الزفة رجل يصيح: (صلوا على النبي) وينثر هذا الرجل عند باب المنزل بعض أوراق السلق ليسير عليها السيدات اتقاء لأحداث الدهر. ثم يصيح الرجل نفسه قائلاً: (نصر من الله وفتح قريب)

وقد يتم عقد الزواج عند المصريين من غير أبهة ولا احتفال حتى في حالة زواج العذراء، برضا عائلتي العروسين المتبادل، أو بموافقة العروس نفسها. أما الثيب فلا تزف أبداً عند الزواج. ويكفي أن تقول المرأة لمن يتقدم لزواجها:(وهبت لك نفسي) فتصبح امرأته شرعاً متى كانت بالغة من دون شهادة إذا استحال الحصول عليها. وقد يعقد المسلمون في مصر وغيرها من البلاد العربية الزواج بالثيب بهذه الطريقة البسيطة. ويبلغ مهر الثيب على العموم ربع مهر العذراء أو ثلثه أو نصفه

وتتم حفلات الزواج في القاهرة عند الطبقات التي تعلو الطبقات السلفى وإن حقرت معيشتها بنفس طريقة الطبقة الوسطى. إلا أنهم يراعون البساطة عندما يستحيل تحمل نفقات مثل هذه الزفة السابق وصفها، فتسير العروس متدثرة بشال أحمر ويحيط بها فريق

ص: 39

من قريباتها وصديقاتها في أحسن حللهن أو فيما يستعرن من الملابس. ولا يبهج الموكب من صيحات الفرح غير الزغاريد التي يرددنها من وقت لآخر

وتختلف الزفة في القرى عن الزفة السابقة. فالعادة أن تركب العروس جملاً وهي متدثرة بشال حتى تبلغ منزل العريس. وقد يجلس معها على الجمل بعض النساء والبنات، اثنتان على جانبها واثنتان أو ثلاث وراءها. ويكون الهودج كبيراً ويغطى بالبسط وغيرها. ويتبع العروس جماعة من النساء يغنين. وكثيراً ما يتقابل أصدقاء الطرفين وصديقاتهما في منزل العريس مساء يوم الاحتفال والأيام السابقة ويلهون في الهواء الطلق طويلاً بالأغاني والرقص الذي ينقصه المهارة على ألحان الدف والطبل. ويغني الجميع رجالاً ونساء ويرقص النساء فقط. وقد اختصرت الكلام في وصف الحفلات الريفية لتجنب ترديد الوصف في موضوعات متشابهة. ولنرجع إلى عادات أهل القاهرة.

في الصباح التالي للزفاف يعرض (الخولات) والغوازي (رجالاً ونساء) ألعابهم أمام منزل العريس أو في الفناء. وفي الصباح عينه إذا كان العريس شاباً يدعوه الشخص الذي سبق أن حمله إلى الحريم إلى قضاء اليوم في الريف مع الأصدقاء. ويسمى هذا (الهروبة). وقد ينظم ذلك العريس نفسه ويشترك في النفقات إذا زادت على ما يقدمه أصدقاؤه من النقوط في هذه المناسبة. ويستأجر الموسيقيون والراقصات لتسليتهم. ويسير العريس من الطبقة السلفى في مؤخرة الموكب مسبوقاً ببعض الطبالين والزمارين. ويحمل كل من أصدقائه وغيرهم باقة من الزهر كما يفعلون عادة في زفة الليلة السابقة. ويرافق الحاشية حاملو المشاعل والمصابيح عند عودتها بعد الغروب بينما يحمل الأصدقاء علاوة على الباقات شمعاً. وهناك حفلات لاحقة تقام بمناسبة الزواج أيضاً ستوصف في فصل لاحق

ويفضل العريس على العموم إذا وفق إلى ذلك أن تعيش أمه في منزله حتى يتسنى لها أن تحمل شرف زوجته وبالتالي شرفه أيضاً. ويقال إن الحماة تسمى كذلك لهذا السبب ويقال إن المصريات يملن إلى الدسائس، وأخشى ألا يكون هذا الحكم ظلما. وقد يسكن الزوج زوجه في بيت أمها ويتولى الإنفاق عليهما. وهذا يوجب على الأم أن تهتم بالنفقات جد الاهتمام وأن تدقق في ملاحظة ابنتها خوفاً من أن تطلق. ولكن يقال إن الأم في هذه الحالة تعمل وسيطة لابنتها، فتعلمها الحيل والمكايد التي تتسلط بها على زوجها وتبذر نقوده.

ص: 40

ويندر أن يقل الخوف من تأثير أم الزوجة عليها ولو كانت لا تنعم برؤية ابنتها إلا في مناسبات عرضية. ولذلك يرى الرجال أنه من الحكمة أن يتزوجوا بنتاً لا أم لها ولا قريبات، حتى أن بعضهم يحرم على زوجته أن تستقبل امرأة غير قريباته؛ ولكن قلما يفرض هذا التقييد الشديد.

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 41

‌الصحراء الغربية

للأستاذ عبد اللطيف النشار

صحراَء مصرَ سلمتِ يا صحراء

فلحكمة لم يجر فيك الماء

تحمى الكنانة من أذى أعدائها

وهي الخصيبة، تربة جرداء

يا نيل، صحراواك جدبُهما غِنىً

يا كنزُ، بابُك صخرة صماء

إن الطبيعة لا مردَّ لحكمها

الفقر سور خلفه النعماء

أحنى القلوبِ جسومها مَوْضونة

والناعمات قلوبهن هواء

ووداعة الدمث الرقيق وأمها

أَلاَّ تفارق ربَّها الخيلاء

يا هِّيناً سلس المقادة لِّيناً

هل في ثيابك حية رقطاء

أعداءُ مصرٍ جاوروا صحراءها

أتُقِلُّ جمعهمو لنا الصحراء؟

جسرٌ إلينا أنت أم جسر إلى

قاع الجحيم وللطغاة جزاء

باء الحليف بنصرة مرجوَّة

وتسابقت في عونه حلفاء

لكن نصر الله في بحر بلا

ماء وأرض ما بها أرجاء

ومَضَلة أفواهها مغفورة

أبد الزمان وما لها أحشاء

درداء تلتهم الخميس بأسره

وتطير في لهواتها الأحياء

ظمأٌ وجوع أنشآها نشأة

لا البحر يشبهها ولا الغبراء

تُخفِي معالمَ جُرْمها فيظنها

قديسة أعداؤها الجهلاء

خوّارة موّارة لا أرضها

أرض ولا أجواؤها أجواء

نادوا يجبكم في مجاهلها الصدى

وتبينوا إن الجواب نداء

ردٌ ولا رد ويُوهِمُ آلهُا

أن الذي يروي النواظرَ ماء

هيا إلى إعصارها وسمومها

فالغول جاع وجاعت العنقاء

وجسومكم وحديدكم ونحاسكم

خُبْزٌ لدائمة الطوى وشِواء

عُبَّادَ هتلرَ أقبلوا أو أدبروا

حُمَّ القضاء ولن يُرَد قضاء

كثر الطغاة وكاثروا عداد الحصى

ومضى الجميع فكلهم أسماء

أو غير من خَلَقَ الصحارى خالق

الخياليات وهُنَّ بَعْدُ مِلاء

ص: 42

فليعرف الصحراء في أبنائها

من لا تبين لعينه الأشجاء

أممٌ وأديانٌ وفن ناصع

بعثت بها في العالم الصحراء

وطوت نظائرها وتطوى هتلرا

والآخر الجعجاع حين تشاء

آثار روما من محاجرها التي

تبقى وروما ساحة بلقاء

عبد اللطيف النشار

ص: 43

‌الحكمة الحائرة

للأديب عبد الرحمن الخميسي

(إِذَا لَمْ يُعَكِّرْ صَفَاَء السِّماء

نِثَارٌ مِنَ السُّحُبِ الْعَابِرَةْ

فَلَيْسَتْ تَبِينُ تَهَاوِيلُهَا

وَلَا صَفْوُ قُبَّتِهَا السَّاحِرَةْ

وَإِنْ لَمْ يَثُرْ في حَوَاشِي الْحُقولِ

شِتَاءٌ، هَوَاطِلُهُ غَامِرَةْ

فَمَا تَتَرَعْرَعُ أَغْرَاسُهَا

وَمَا تُورِقُ الْخُضْرَةُ الزَّاهِرَةْ

وَلَوْلا شُبُوبُ الْحَرِيقِ لَمَا

فَزِعْنَا إلى الْغُدُرِ الْهادِرَة

وَهذَا الصَّبَاحُ يُطِلُّ خِلَالَ

نَوَافِدَ حَالِكَةٍ بَاسِرَةْ

وُيولَدُ في رَاحَتَيْ ظُلْمَةٍ

لِيَنْفُثَ أَنْوَارَهُ الْبَاهِرَةْ

فَلَا بُدَّ لِلشَّرَّ من أن يَعِيشَ

وَتَحْرُسَهُ الأَنْفُسُ الْخَاسِرَةْ

لِتَبْزُغَ في عُمْرِهِ هَالَةٌ

مِنَ الْخَيْرِ صَادِقَةً طَاهِرَةْ

وَتِلْكَ نَوَامِيسُ هذَا الْوَجُودِ

وَتِلْكَ هِيَ الْحَكْمَةُ الْحَائرَةْ)

كَذَلِكَ قَالَتْ لِنَفْسِي الْحَيَاةُ

وَأَوْحَتْ مَعَالِمُها السَّاخِرَةْ

وَقَالَ لِيَ الصَّقْرُ في عِزَّةٍ:

أُحَلِّقُ فَوْقَ الذُّرَى النَّافِرَةْ

وَأَنْقَضُّ في اللَّيْلِ فَوْقَ الْوُكُورِ

وَأَنْهشُ أََطْيَارَهَا السَّادِرَةْ

وَأَتْرُكُهَا لِلدُّجَىَ وَالسُّكُونِ

هَوَاتِفَ بِالْفَجْعَةِ الْغَادِرَةْ

وَيُسْفِرُ في الرَّوْضِ وَجْهُ الصَّبَاحِ

فَتُعْوِزُهُ الْجَوْقَةُ الطَّائرَة

وَيَسْأَلُ مُسْتَنْجِداً بِالْغُصُونِ

عَنِ الطَّيْرِ وَالغُنْوَةِ الْبَاكِرَةْ؟

فتَهْتَزُّ هَامَاتُهَا حَسْرَةً

وَتَدْمَعُ أَزْهَارُهَا الْعَاطِرهَ

لأِنَّ الْعَصَافِيرَ مَا اسْتَيْقَظَتْ

وَمَا هَلَّلَتْ بِالشَّذَى سَاكِرَة

وَمَا اسْتَقْبَلَتْ بِالْغِنَاءِ السَّنَى

وَمَا حَوَّمَتْ في الْفَضَا ذَاكِرَة

وَيَنْسَابُ بَيْنَ الْعَشَاشِ الضِّيَاءُ

لِيُوقِظَ أَطْيَارَهَا الشَّاعِرَة

وَيَرْتدُّ مُنْذَعِراً بَاهِتاً

وَتَفْتُرُ لمْعَتُهُ الْوَاهِرة

إِذَا مَا جَرَى فَوْقَ أَعْشَابِها

عَلَى جُثَثٍ مَيْتَةٍ ضَامِرَة

وَيَعْلَقُ بِالنَّسَماتِ النَّدَى

دُمُوعاً مُبَلْوَرَة ثَائرَة

ص: 44

كأَنَّ السَّمواتِ تَبْكِي الُّطُيورَ

وَتَبْكِي أَهَازيجهَا الْغَابِرَة

وَتَجثَمَ فَوْقَ الرُّبَى وَحْشَةٌ

وَتمْتَدُّ في الأَيْكَةِ النَّاضِرَة

وَمِنْ ثَمَّ يُعْرَفُ قَدْرُ النَّشِيد

وَقَدْرُ بَلَابِلِهِ الآسرَة

وَلَولَا افْتِرَاسِيَ أَسْرَابَها

لمَا افْتَقَدتهْا الرُّبَى الزَّاهِرَة

وَإِنْ لَمْ يُعَكِّرْ صَفَاَء السَّمَاءِ

نِثَارٌ مِنَ السُّحُبِ الْعَابِرَة

فَلَيْسَتْ تَبِينُ تَهَاوِيلُها

وَلَا صَفْوُ قُبَّتِهَا السَّاحِرَة

وَتِلَكَ نَوَامِيسُ هذَا الوجُودِ

وَتَلْكَ هِيَ الْحَكْمَةُ الْحَائِرَة!

عبد الرحمن الخميسي

ص: 45

‌البريد الأدبي

وضع نشيد للسلام الملكي

انتهت لجنة (وضع النشيد للسلام الملكي) إلى دعوة الشعراء والأدباء لنظم نشيد يجري في توقيعه مع موسيقى السلام الملكي جرياناً دقيقاً؛ ويشترط في هذا النشيد أن يكون مؤلفاُ من ثمانية أبيات، ولا يزيد على اثني عشر، وأن يدور معناه حول العرش رمزاً لمصر الخالدة، وحول الملك رمزاً لآمال الجيل. وينبغي أن يكون هذا النشيد (مشرق اللفظ، محكم النظم، رائع المعنى، منشطاً للهمم)

وقررت اللجنة أن تمنح الفائز في هذه المسابقة مائة جنيه، وجعلت آخر موعد لتقديم الطلبات منتصف الشهر القادم

روح الإسلام

تحدث صاحب السمو الملكي الأمير فيصل نائب جلالة الملك عبد العزيز آل سعود إلى بعض الصحفيين المصريين قال: (إن الإسلام خير دين تعالى به الله عما يحاول أن يلصقه به المؤتفكون، فليس في الإسلام - كما يزعم هؤلاء - خمول ولا تواكل ولا استذلال ولا خضوع، وإنما هو دين الجد والكد والتوثب والنهوض. ولو أن المسلمين اعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله، واستمسكوا بالعروة الوثقى، وتآزروا وتعاونوا على البر والتقوى، لكانت لهم قوة مرهوبة تبعث الرجفة في القلوب

(لقد جمع كتاب الله وسنة رسوله من الأحكام ما ينير للناس طريق الدين والدنيا معاً، فما بال بعض المسلمين يتنكبون هذا الطريق السوي المستقيم؟

(ولو أننا ألقينا نظرة على الدول الغربية، لرأينا أن الآخذة منها بما يقرب من أحكام ديننا في المعاملات والحقوق والشرائع والحرية والديمقراطية، هي أكثرها نجاحاً وأعظمها تقدماً وفوزاً)

واستطرد الأمير فقال: إن بعض الناس يدعى أن ضعف شوكة المسلمين يرجع إلى التدخل الأجنبي فيما بينهم؛ وأنا أقول: إن التبعة كلها واقعة على المسلمين أنفسهم الذين يوسعون شقة الخلاف فيما بينهم، والذين تفرقوا شيعاً وطرائق فرقت الشمل وأوهنت من قوة الإسلام وأضعفت شوكته

ص: 46

ومن واجب المسلمين الصادقي الإيمان أن يقضوا على هذا الحال، وأن يعودوا جميعاً إلى جبهة واحدة، لا موئل لها ولا قبلة سوى الكتاب والسنة، وأن يعملوا متكاتفين متساندين، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى (غن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ويوم يتم ذلك للمسلمين، لن نتوانى نحن (آل السعود) وأبناء نجد والجزيرة عن تبوئ مكاننا من هذا الموكب الجليل بين الصفوف

مؤتمر التعليم للأقطار العربية

تبحث اللجنة المؤلفة في وزارة المعارف للتمهيد لعقد المؤتمر العربي على ضوء الحاجة إلى إصلاح النظم الحالية وتعديل السياسة المتبعة في كثير من المسائل التعليمية في مصر وجاراتها

وفي انتظار موافقة مجلس الوزراء على عقد هذا المؤتمر تعمل هذه اللجنة على أن تنتهي من عملها على الوجه الأكمل حتى يمكن الاتصال بالأقطار العربية بعد موافقة المجلس مباشرة

ونستطيع أن نذكر أن الموضوعات الرئيسية التي يفكر كبار رجال التعليم في مصر في طرحها على بساط البحث في هذا المؤتمر تشمل المسائل الآتية:

1 -

واجب الدولة نحو التعليم العام والتعليم الأولي

2 -

وسائل تدريس اللغة العربية

3 -

تبادل الزيارات العلمية بين طلاب الأقطار العربية والمدرسين بها

4 -

تنظيم الانتفاع بالكتب التي تطبع حديثاً في هذه الأقطار في مختلف العلوم والفنون والآداب

5 -

مواصلة السير على ندب مدرسين من قطر إلى آخر حسب ما تقتضيه روح التعاون الثقافي

ومما لا ريب فيه أن عقد هذا المؤتمر سيكون نواة لتعاون واسع النطاق بين البلاد العربية التي باعدت بينها ظروف خاصة، وأن الانتفاع به على الوجه الصحيح سيعزز مكانة مصر في الشرق. وقد يلاحظ أن حرص العراق يماثل حرص مصر على عقد هذا المؤتمر الأول من نوعه في العصر الأخير، وذلك يدل على تجاوب الآمال بين البلدين في إقامة الوحدة

ص: 47

العربية الفكرية على أسس متينة بحيث يتاح لجميع البلاد التي تنطق لغة واحدة وتتأثر بشعور واحد أن تواجه مستقبلها بقلب مطمئن واتحاد وثيق

مكافحة الأمية بين الفلاحين والعمال

فكر لفيف من طلبة جامعة فؤاد الأول في أن يشغلوا أوقات فراغهم في عطلة الصيف بالعمل لمحو الأمية ورفع مستوى التفكير للفلاح والعامل. وقد وضعوا لذلك مشروعاً هو قيد البحث الآن مع كبار رجال التربية والتعليم والإصلاح الاجتماعي وهم يواصلون جهودهم في ذلك السبيل المشكور في كل فرصة تتاح لهم. وقد انتخبوا من بينهم وفداً لمقابلة صاحب المعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة بك وزير الشؤون الاجتماعية لعرض هذا المشروع عليه ورجاء معاليه تعضيد الوزارة له.

المرحوم (معاوية محمد نور)

رزئ القطر الشقيق - السودان - بفقد المرحوم معاوية محمد نور من أدباء الشباب المستنيرين الذين قامت بفضل جهودهم الموفقة دعائم النهضة الفكرية الحديثة في مصر الجنوبية

وقد تلاقيت مع المرحوم معاوية لأول مرة على صفحات جريدة السياسة الغراء حوالي عام 1929؛ ثم توثقت بيننا عرى الألفة والزمالة حين أسسنا جماعة الأدب القومي التي كان يرأسها معالي الدكتور هيكل باشا، فجمعية العشرين التي أسسها الأستاذ محمود تيمور بك. وكان الأستاذ معاوية قد تخرج حديثاً في كلية غردون بالخرطوم وأراد إتمام تعليمه في كلية الآداب؛ غير أنه صادف عقبات منعته من الالتحاق بالجامعة؛ واتصل النبأ بسمو الأمير العالم عمر طوسون فرأى أن يرسله في بعثة خاصة على نفقة سموه إلى الجامعة الأمريكية ببيروت. وبعد أن نال إجازتها في الآداب عاد إلى القاهرة واتصل بالأوساط الأدبية وزاول مهنة الصحافة في صحف شتى كالأهرام والهلال والإجبشيان ميل، وكتب على صفحات الرسالة، وساهم بقلمه وفكره في كافة الحركات الأدبية التي اضطلع الشباب بأعبائها. وفي غضون تلك الفترة وقع الاختيار عليه ليكون سكرتيراً لغرفة التجارية بالخرطوم، غير أن فاجعة أليمة وقعت له وانتهت باختلال قواه العقلية

ص: 48

وكان المرحوم معاوية في كافة مراحل جهاده الأدبي يتوق جهده إلى توثيق عرى الصداقة بين القطرين الشقيقين، ويقصر جهده على خدمة أمته عن طريق إذاعة أدبها القومي فكتب بعض أقاصيص سودانية لها صبغة محلية، وصور طبيعة بلاده في صور سحرية أخاذة يساعده على ذلك ثقافة العربية والسكسونية

وأطلعني قبل موته على تجارب كتاب كان ينشر فصولاً منه على صفحات الإجبشيان ميل بعنوان (الأدب المصري وتاريخه) تناول فيه بالدراسة والبحث مدارس التفكير في الأدب المصري وقادته، ثم أدب المقالة والنقد الأدبي فخصائص الأدب القومي والشعر والقصة والمسرح وأثر الجيل في كل حقل من حقوله، وكان غرضه من ذلك أن يقف الرأي العام الإنجليزي على تطور الأدب العربي عامة والمصري خاصة

وكان إيمانه بالأستاذ العقاد يفوق حد الوصف فكتب بعض فصول حلل فيها أدبه وارتباطه بشخصيته، وحلل شعره وأثره في البيئة المصرية. أما أخلاقه فكانت على جانب من السمو. وقد عرف البؤس والفاقة في بعض أويقات حياته غير أنه لم يقاسهما مطلقاً، بل كان يعمل وكان سعيداً أن يرى الناس تفهمه وتقدر جهوده

محمد أمين حسونة

أهلاً وسهلاً بك

من الصواب المخطأ قولهم: (أهلاً بك) فقد قام في زماننا من ينكر هذا القول ويخطئه على صفحات جريدة كبرى

ودخل أستاذ على تلاميذه حاملاً معاجم اللغة مدعياً أن العرب لا تقول: (أهلاً بك) وإنما تقول: (أهلاً وسهلاً) أي حللت أهلاً ونزلت مكاناً سهلاً ومنه: (مرحباً وأهلاً، وناقة ورحلاً، ومستناخاً سهلاً)

قال قائل منهم: وما رأي أستاذي في قول حافظ:

(أهلاً بنابتة) البلاد ومرحباً

جددتم العهد الذي قد اخلقا

فقال: كلام المتأخرين لا يحتج به

ثم دارت الأيام دورتها وإذا بهذا الأستاذ نفسه يملي على تلاميذه أنفسهم قصيدة النابغة في

ص: 49

وصف المتجردة ومنها:

لا مرحباً بغد ولا (أهلاً به)

إن كان تفريق الأحبة في غد

فأعجب للنابغة كيف حكم بين اللغويين العصريين ميتاً كما كان يحكم بين الشعراء الجاهلين حياً

وطالما جرى هذا التعبير على ألسنة الفحول من المتقدمين أمثال ابن دريد في مقصورته والجاحظ في بيانه وتبيينه وأبي الفرج في أغانيه

وفي الصناعتين لأبن المعتز:

أهلاً وسهلاً بالناي والعود

وكأس ساق كالغصن مقدود

قد انقضت دولة الصيام وقد

بشر سقم الهلال بالعيد

ولما دخل الرسول على المتوكل برأس اسحق بن إسماعيل قام علي بن الجهم يخطر بين يدي المتوكل ويقول:

أهلاً وسهلاً بك من رسول

جئت بما يشفي من الغليل

برأس اسحق بن إسماعيل

فقال المتوكل قوموا التقطوا هذا الجوهر لا يضيع.

محمد فتح الباب

برقة وأبو عبادة

طلع علينا الأستاذ النشار - بعد صمت طال حنيننا إليه فيه - بقصيدته الرائعة (برقة)؛ فحمدنا له هذا العود الحميد، على أننا نستميحه المعذرة في ذكر نقطتين من قصيدته عن لنا بسط الرأي فيهما:

1 -

ضبط الاسم في مطلع قصيدته (برقة) بفتح الباء. والذي أعرفه أن اسم هذا الإقليم (برقة) بالضم - وفي معاجم اللغة أن البرقة (بزنة غرفة): أرض غليظة فيها حجارة ورمل وطين، وجمعها برق. . . أما البرقة - بالفتح - فهي الدهشة والخوف، ولم ينظر في تسمية الإقليم إلى هذا المعنى

2 -

يقول الأستاذ في قصيدته مشيراً إلى. . . برقة:

ص: 50

تلك التي حمل ابن أوس همها

في بارع بادي الجمال مخلد

(أصبا الأصائل إن برقة منشد

تشكو اختلافك بالهموم العود)

ونفهم من هذا أنه ينسب البيت إلى (ابن أوس)، أي إلى حبيب ابن أوس الطائي، وهو المعروف بأبي تمام؛ مع أن المعروف أن البيت هو مطلع قصيدة لأبي عبادة البحتري يمدح بها يوسف ابن محمد. . . والأستاذ النشار لم يخطئ في نسبة البيت إلى قائله فحسب، بل نقله على تحريف، إذ صحته كما جاء في ديوان البحتري

أصبا الأصائل إن برقة منشد

تشكو اختلافك بالهبوب السرمد

هذا ما عن لي التعليق به، وعلى الأستاذ منى أزكى السلام

(جرجا)

محمود عزت عرفة

مهرجان أدبي لعيد ميلاد حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك

في كل يوم تتوالى مبرات المليك على شعبه، وتتجلى إمارات عطفه على رعيته، ولأياديه يد بيضاء في كل عمل خيري، وتجابر من صنع يده يتوج به كل مشروع نافع

وللشعب - بحمد الله - قلوب تفيض بإجلاله وتبجيله، وتخفق بحبه والتعلق به، وتنبض على حركاته، لحراسة ذاته وكلاءة الله له؛ ووراء هذه القلوب ألسنة يرطبها ترديد محاسنه، وذكر مفاخره، والدعاء له بطول العمر وفسحة الأجل

ولمناسبة عيد ميلاد جلالته السعيد في 11 من فبراير سنة 1942 تعقد لجنة المهرجان الملكي الأبدية بمشيئة الله مباراة عكاظية، يلتقي فيها الكتاب والأدباء والشعراء والزجالون بخطبهم وقصائدهم وأزجالهم وأناشيدهم كل بما تجود به يراعته وما تفيض به نفسه من إخلاص للمليك المفدى، وولاء وحب لصاحب العرش المكين

وإن ميدان البيان البليغ لمتسع: شباب رائع فتي، وعقل ألمعي، وقلب تقي، وخلق عظيم، ودين مكين؛ قد ضرب أروع الأمثال في رعاية الفقير والترفيه عنه واحتضانه والأخذ بيده

لنا من سيرته الحميدة ومآثره المشهورة نبراساً يضيء الطريق في ميدان الخطابة والإنشاد، وخير حافز على تسجيل نفثات اليراع في كتاب يرفع إلى مقام المليك وينشر على الملأ بعد

ص: 51

أن يذاع منه بحفلة دار الأوبرا الملكية ما هو جدير بالتفضيل

وستضع اللجنة جوائز مختلفة لمن يجوز قصب السبق في المباراة. والمرجو ممن يتقدم لهذه الحلبة أن يبعث بما تجود به قريحته إلى حضرة الأستاذ محمد عبد الجواد المدرس بمعهد التربية للمعلمات بالزمالك في ميعاد لا يتجاوز آخر يناير الجاري

السكرتير

أمين حمدي فرج

ص: 52

‌الكتب

نظرات في كتاب:

أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث

للأستاذ حسن حبشي

(ترى ما نصيب المكتبة العربية من التآليف والتراجم عن بلادنا؟ وما نصيب المترجم في بلاد الضاد؟. . .) سؤالان تبادرا إلى خاطري حين أنهيت مطالعة هذا السفر القيم الذي تناول فيه مؤلفه الغربي (أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث) والذي أبت همة مترجمة الأستاذ جعفر الخياط إلا أن ينفح به المتكلمين بالعربية، والمهتمين بدراسة التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشرق الحديث عامة، والعراق خاصة

قد يكون من اليسير على المؤرخ تدوين الأحداث السياسية في العراق الحديث لكثرة ما يقع تحت يده من المصادر والوثائق الموجودة في دور وزارات الخارجية، وإلى ما قد يحصل عليه من الأخبار الواردة بالرواية، لكن كلما رجعنا بالزمن القهقرى ألفينا قلة المصادر، حتى ليجد الباحث نفسه يضرب في مجاهل مظلمة، فالروايات معدومة، والمراجع نادرة. . . فإذا عرفنا هذا أدركنا أهمية هذا الكتاب الذي ألم فيه مؤلفه (مستر ستفين هملي لونكريك) بتاريخ العراق في حقبة كان القطر الشقيق خلالها نهبة أطماع الدول الأجنبية

تناول المؤلف في هذا الكتاب الظروف التي مرت على العراق منذ مطلع القرن السادس عشر، ودرس الصراع العنيف بين الأتراك والإيرانيين، هذا الصراع الذي يسميه (بالجوع)، حتى إذا طلع القرن السابع عشر ظهر اتحاد قبلي مؤلف من بني مالك، والأجود، وبني سعيد، وتلا ذلك هجرات قبلية بشرية بقصد الاستقرار

ويشير المؤلف إلى تدهور موقف البرتغاليين؛ والواقع أنهم كانوا من أشد المستعمرين تطلعاُ لامتلاك لعراق وفارس، ولا سيما بعد أن عقدوا معاهدة مع الشاه إسماعيل 1515م، مما أدى ببريطانيا إلى التطلع هي الأخرى شطر هذه الجهات لتحد من مطالع البرتغاليين، حتى استطاعت بعد قرن من الزمان أعني عام 1622م أن تقضي بمساعدة الفرس على نفوذهم، لكن وجد الإنجليز أنهم قد أخرجوا البرتغاليين من الميدان ليحل محلهم الهولنديون، مما هو

ص: 53

معروف للملمين بتطورات الشرق الأدنى السياسية في العصر الحديث

وأن الكاتب ليلتفت لدراسة الحركة الوهابية، ذلك الانفجار الديني الذي ولد في واحات نجد وكان ما كان له من الأثر الفعال البارز في تاريخ الشرق الإسلامي في ذلك الحين، والذي كان شوكة في جانب الدولة العثمانية، ويظهر أن المؤلف ممن يعتنقون الفكرة القائلة بأن نشأة هذه الجماعة ترجع إلى عدائها للأتراك، فيقول ص 277: (إن أخشن رعاياهم أو أوحشهم من القبائل والمقاتلين كانت لا تعرف من القرآن والسنة إلا النزر اليسير. . . وكانوا يضمرون للخليفة ولكل شيء تركي استهانة لا تحتمل، وهذه التفاته جديدة في تفسير دواعي نشأة المذهب الوهابي يمكن أن تضاف إلى الأسباب المعروفة في تكوينه.

ويتناول الكتاب بعد ذلك تطور العراق حتى يصل إلى نهاية القرن التاسع عشر في شيء من التفصيل، وحكومة مدحت باشا. ومن الفصول الجديرة بالمطالعة الدقيقة بحثه عن الخطة الجديدة في إسكان القبائل، والتي تتضمن بيع أراض من أراضي الحكومة بأقساط قليلة سهلة. وتتبين روح المؤلف العلمية في هذا الفصل الذي خصصه لدراسة المصادر التي اعتمد عليها في تأليفه، وهي تربى على مائة وعشرين مرجعاً ما بين تركية وفارسية وعربية وأخرى باللغات الأوربية، وكتب السياحات، وكذلك سجلات شركة الهند الشرقية الإنجليزية. وخلاصة القول أن مراجعة ثبت المصادر أبرز دليل على ما تكبده المؤلف من عناء البحث والتدقيق ومقارنة المصادر بعضها ببعض حتى أخرج كتابه هذا

أما الترجمة العربية فقد وفق الأستاذ خياط كل التوفيق فيها، لما اجتمع له من تمكن في الإنجليزية وهو خريج كاليفورنيا، وحسن تبصر في العربية، وسلامة الأسلوب، ودقة الاختيار للألفاظ. وليس هذا الكتاب بأول كتاب يخرجه المترجم الفاضل بل لقد سبق له أن نقل إلى العربية كثيراً من المؤلفات العلمية، مما يشهد له بطول الباع والمران. وعجيب أن يجد من وقته - وهو المشرف على التعليم الثانوي في العراق - فراغاً يستغله في هذه الترجمة العربية الرائعة. وإن المقدمة التي مهد بها الأستاذ جعفر الخياط بين يدي كتابه هذا لنفحة شعرية، تحس فيها بالحسرة التي تغمره وتغمر كل عربي حر حين يذكر مجد الإسلام في هذه البلاد وما ألم به من محن دامية، قضت على مدنيته الزاهرة، وهي توشك اليوم أن تعود سيرتها الأولى

ص: 54

وكم كنا نود أن الأستاذ جعفر أبقى أسماء المراجع الغربية كما هي ولم يترجمها وهي ما زالت بعد في لغاتها الأولى وعلى كل ففضل المترجم غير منكور.

(بغداد)

حسن حبشي

ص: 55