الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 446
- بتاريخ: 19 - 01 - 1942
مشكلة الرغيف.
. .
وكيف لا يكون للرغيف مشكلة، والمشكلات منذ هبط الإنسان الأرض إنما تتناسل من أب واحد هو الرغيف، ومن أم واحدة هي المرأة؟
سمِّ الرغيف وسيلة حفظ الحياة، وسم المرأة وسيلة حفظ النوع؛ ثم حاول أن تنسب بشيء من التحليل الدقيق جميع ما سجل التاريخ من خصومات ومشكلات وأزمات وثورات إلى هاتين الوسيلتين، أو هاتين الغريزتين، فلن تجد في نسبة البنات إلى أبويهن غموضاً ولا مشقة.
كانت المرأة في بدء الخليقة هي حواء، وكان الرغيف في حياة الجنة هو الشجرة، وكانت الأثرة والطمع والحسد هي إبليس، وكانت الضحية لهؤلاء جميعاً هي سعادة آدم!
ثم مضى الرغيف والمرأة وإبليس يعملون في دنيا الأرض ما يشاء القدر: يصلحون هذا ويفسدون ذاك، ويعمرون هنا ويخربون هناك، ويخلقون التنافس لتنشط عناصر الحياة، ويوجدون الخلاف لتتفق عوامل الموت، وينزعون الملك من يد إلى يد، وينقلون الحكم من دولة إلى دولة، حتى قال ابن أبي الحديد بحق:(لم تسل السيوف إلا لوجه أصبح من وجه، ولقمة أسوغ من لقمة)
ولو كان الملائكة يأكلون الرغيف ويخالطون المرأة لكانوا أناساً كالناس، ولكان الملكوت الأعلى كالملكوت الأدنى، ولكن الله لم يشأ أن يجعل النور كالظلام، ولا أن تكون السماء كالأرض!
على أن الرغيف لاكتنان سر الحياة فيه كان أشد الثلاثة إيقاداً للخصومة!
كان مالك بن أنس يذكر عثمان وعلياً وطلحة والزبير فيقول: (والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر)
وأنت إذا ذكرت في تاريخنا العدنانية والقحطانية، والقيسية واليمانية، والمهاجرين والأنصار، والهاشمية والأموية، والعباسية والعلوية، والعروبة والشعوبية، والتركية والفارسية، والهلالية والصليبية، والإسلامية والقبطية، والسعدية والعدلية، والفُلانية والعِلاَّنية، لما قلت إلا ما قال أنس بن مالك.
كذلك إذا ذكرت في تاريخ الناس الشرقية والغربية، والديمقراطية والدكتاتورية، والرأسمالية والشيوعية، لما وجدت لهذه الأسماء معنى ولا مغزى إلا ما قاله كثير بن شهاب لغلامه وقد
طلب منه الطعام يوماً فقال ما عندي إلا خبز وبقل: (ويحك! وهل اقتتلت فارس والروم إلا على الخبز والبقل؟)
لذلك كله عالج الدين مشكلة الرغيف بتنظيم المعاملات، وفرض الصدقات، وكفكفة النفوس الشرهة بالقناعة والعفة والحدود؛ واتقت الدول جرائر الرغيف بالعلم والنظام والإصلاح والاستعمار؛ فإذا غلب الكفر أو طغت الأثرة؛ شبت الثورة أو نشبت الحرب. ذلك أن الفرد أو الشعب يصاب في حريته فيصبر، ويؤذي في كرامته فيستكين، ويفتن عن عقيدته فيرضى؛ ولكنه إذا حرم الرغيف انقلب ضارياً كالوحش، أو جازفاً كالبركان، لا يذر من شيء أتى عليه إلا جعله كالرميم.
هذه مصر هبة النيل وجنة الشرق وملتقى البحرين والبرين طالما عركتها الخطوب فاستكانت للقدر، واستعانت بالصبر، ومضت على حسن ظنها بالله تتربص الدوائر بالمغير، وترجو الغوائل للظالم، حتى إذا أخذت هذه الحرب الأكول تنازعها الرغيف، أصبحت كلها لساناً واحداً يتضاغى مخافة انقطاعه، فلا تجد في الأمة ولا في الحكومة إلا سائلاً عنه، أو شاكياً منه، أو باحثاً فيه، أو ساعياً له؛ وكأنما اختُزلت لغات الناس فأصبحت لا تعدو ألفاظ التخزين والتموين، والإحصاء والاستيلاء، والاستيراد والاستكثار، والمطاحن والمخابز، وما يدخل في هالة الرغيف النورية من مادة وأدب! فليت شعري إلام تأول الحال إذا تأزم الأمر، وضاقت موارد الرزق، فلا أرض تغل ما يكفي، ولا بحر يسد ما ينقص؟! تمثيل الحال في الخيال مرعب، فما بالك بتقرير الحس وتصوير الواقع؟
الأمر جد لا مساغ للبعث فيه، والخطر بادٍ فلا مناص من الاعتراف به، والتقصير ثابت فلا سبيل إلى التنصل منه. وإذا فاتنا الاستبصار للمستقبل، فلن يفوتنا الاعتبار بالحاضر. وإذا عجزت السياسة أن تحل مشكلة الرغيف فلا أزعم أن يحلها الأدب. وكل ما يستطيع الأديب أن يقوله للسياسي أن مشكلة التموين لا يحلها أن يكون لها وزارة، ولا أن تُقصر على أمورها السياسة والإدارة؛ إنما يحلها أداء الحاكم للواجب، وقضاء المحكوم للحق. وأقسم بالله جَهْدَ القَسم لو أن القائمين على شؤون الناس بسطوا لها الأيدي النظيفة، وتحروا فيها الأوجه الصالحة؛ ثم ساووا بين العامة والخاصة في القسمة، وعدلوا بين الأقوياء والضعفاء في التكليف، وأيقظوا العيون لخفايا الحيل، وأنضجوا الآراء لمشتبهات الأمور؛
ثم عاونهم الشعب بفضائله، فلا يطمع المنتج، ولا يدخر المستهلك، ولا يحتكر التاجر، ولا يشح الغني، ولا يجوع الفقير، لما كان للرغيف في مصر مشكلة، ولا كان للتموين في الحكومة وزارة. ولكن مشكلة المشكلات هي أن مكارم الأخلاق لا تُباع ولا تُعار ولا تكسب في الزمن القليل، إنما هي تهذيب الدين الصحيح وصقال الدهر الطويل.
احمد حسن الزيات
بين الورق والدوح
(رسالة مهداة إلى المسيو (دي كومنين))
للدكتور زكي مبارك
حدثت قرائي غير مرة أن ذاكرتي فيها انحراف غريب: فهي ضعيفة كل الضعف فيما يتصل بالأرقام والأعلام، وقوية كل القوة فيما يتصل بالحوادث والمعاني، ولها قدرة عجيبة على تمثل الملامح والأصوات والألوان، فمن السهل أن أصف حادثاً رأيته قبل عشرين سنة، مع الإحاطة بما لابسه من دقائق التفاصيل، ولكن من الصعب أن أتذكر رقماً سمعته قبل يومين، إلا أن يتصل بأمر تلتفت إليه الذاكرة بعض الالتفات، ولأجل هذا أقيد ما يهمني من الأرقام في دفتر خاص.
وفي هذه اللحظة أتذكر جيداً كيف شهدت عدوان الخريف على آثار الربيع، ولم أكن شهدت ذلك العدوان قبل أول أيلول قضيته في باريس، وأتذكر أيضاً كيف كانت قدماي تخبّان في أوراق الأشجار وأنا أخترق حديقة (لكسمبور)، وأكاد أتمثل كيف انتشيت حين رأيت ذلك المنظر الجميل، وما هو في الظاهر بجميل، ولكنه أعانني على فهم جوانب من حيوية الأدب الفرنسي، ففيه ألوف من صور العدوان البغيض، عدوان الخريف على آثار الربيع، بلا تهيب ولا استحياء.
وفي يومٍ عاصف جلست تحت (الدوح) وهو ينظر بحزن إلى تساقط (الورق)، فوعيت من حواره أحاديث لن أنساها ما حييت. وكيف أنساها وقد زلزلت قلبي، وأطلعتني على بعض ما كنت أجهل من سرائر (الأدواح) و (الأوراق)؟
سمعت (الدوح) يقول في صراخ مبحوح:
(إلى أين يمضي هذا الورق الساقط؟ وكيف جحد جميلي عليه؟ حملته وهو ضعيف لا يقدر على التماسك، وأمكنته من شرب الندى وارتشاف أكواب الضياء، وحرمت نفسي عذوبة التمتع بصحوة الشمس في الربيع، ونشوة القيظ في الصيف، ليجد الفرصة لتذوق النعيم، فهل حفظ هذا الصنيع؟
(لقد أبحته أن يمتص دمي كيف شاء، ليواجه نور الوجود بحرية الطفل الغافل عن جهاد أبيه، ولكل أب جهاد يجهله الأبناء ولو كانوا من الملهَمين، فهل عرف الورق الساقط أنني
حرمت نفسي نعيم الندى والضياء ليتخايل ويستطيل؟)
وسكت (الدوح) لحظات، ثم صرخ من جديد:
(والآن يعرف الورق أن الشتاء قادم، أنني سأحتاج إليه لدفع عوادي البرد والجليد، فهو ينخلع عني، ليتركني بلا غطاء، في قر الشتاء!)
ويسمع الورق أنين الدوح فيهتف:
- ما عتبك عليّ أيها الدوح؟ ما عتبك عليّ وقد بذلت في البر بك غاية ما أملك؟ ألا تذكر أني صبرت على مصاحبتك في السيطرة والاستعلاء شهوراً من الزمان؟ ألا تعرف أني عققت من أجلك أمنا الأرض؟ فما ذنبي إذا اشتهيت العودة إلى الأم الرءوم، وهي أيضاً تحتاج إلى من يدفع عنها البرد والجليد؟
وسمع الدوح هتاف الورق فأجاب:
- الأرض أمي وأمك، ولكني فهمت عنها ما لم تفهم، فقد حدثتني ألف مرة أنها لا تريد أن يرجع إليها غير الأموات من أبنائها الأعزاء، فإن كنت مت أيها الورق فارجع إلى أمك الأرض!
فزمجر الورق:
- أنا مت؟ أنا؟ وهل يموت من يرجع إلى حجر أمه الغالية؟
فيقول الدوح:
- نعم، ثم نعم، يموت من يرضي بأن تدوسه الأقدام، ولن يكون لك نصيب غير الدوس، يا جهول!
وهنا قال الورق للدوح:
- هل تنسى أني أدفأتك في الصيف؟
فقال الدوح للورق:
- لم أكن أحتاج إلى دفء في أشهر الصيف؛ وإنما أحتاج إلى الدفء في أشهر الشتاء
فقال الورق للدوح:
- لا أستطيع سماع صوتك وأنت مجلل بالسواد
فقال الدوح للورق:
- إنما تجللت بالسواد حداداً عليك. ألا تذكر أنني كنت أحبك حباً هو الغاية في الكرم، لأنه حب القوي للضعيف؟ ألا تذكر أني كنت أقاوم العواصف والزوابع لأقي خدودك ذلة الالتصاق بالأرض؟ ألا تعرف أنني أعني لفراقك كروباً لا تطاق؟
قال الورق:
(أتحبني إلى هذا الحد، أيها الدوح؟)
فتأوه الدوح ثم أجاب:
(لا أحبك لأنك ورق، فأنت تعرف أني صبرت على تقلب الأوراق أربعين عاماً أو تزيد، ولن أموت يوم أموت بسبب تقلب الأوراق - وإنما أحبك لأنني أنشأتك كما يحب الله هذا الوجود، فأنت بعض ما صنع دمي أيها الورق، ولن تعيش بعد فراقي إلا بفضل ما سكبت في عروقك من الدم النفيس، وقد حل عليك غضبي، فلا بقاء لك بعد اليوم. . . وهل تستطيع أن تطبّ لما صنعت بنفسك أيها الورق الساقط؟ لقد دعوتك إلى الترفق بمصيرك فلم تسمع، ومن أجل غفلتك لبست عليك ثوب الحداد، ولم استغرب من فرحك بمصافحة الأرض، فأنم أعرف أنه لا يرحب بالاستعلاء غير الأقوياء، كما أعرف أن الأم لا ترحم من أبنائها غير الضعفاء)
قال الورق:
(وبأي حق تستطيل علي، أيها الدوح، وأنت أسود مظلم، لا ترَجى لك صحوة ولا معاد؟)
قال الدوح:
(ذلك سواد الشباب، يا أحمق، وليس سواد الحداد، ولن تقيم الحياة لدلالك أي ميزان، وهل تطول حياتك حتى ترى ازدهائي بالورق الجديد في الهوى الجديد؟ إن الدم الذي سوّاك، سيسوي ورقاً سواك، وسأعبث هذا العبث بالأوراق إلى أن أبلغ الثمانين أو التسعين!)
قال الورق:
(خذني إليك، أيها الدوح، فقد اشتقت إلى ساعدك القويّ المتين)
فأجاب الدوح:
(تعال إلي، إن استطعت، أيها الورق الساقط، فأنا لا أملك البعث كما أملك الإنشاء، وهل أملك مساماة صاحب العزة والجبروت؟)
وتكلف الورق ما لا يطيق ليرجع إلى الدوح من جديد، ولكنه عجز عن تحقيق ما يريد، وتلك نهاية من يجهل السر في تمتعه بشرف الوجود، والشرف معناه الارتفاع، وقد انحط الورق بسقوطه على الأرض، فأمسى وهو ضعيف مَهين.
ثم قال الدوح:
- لن نلتقي بعد اليوم، أيها الورق الساقط، وكيف نلتقي وأنا أجد عناءً في التعرف إلى هويتك؟ وهل أراك إلا وهماً يصوره الرفات المسحوق، مع قرب العهد بالفراق؟
فأجاب الورق:
- ستجدني في الربيع المقبل
قال الدوح:
- سأجد في الربيع المقبل ورقاً غيرك
قال الورق:
- كنت أنتظر أن يكون في سخطك عليّ ما يزهدك في جميع الأوراق
فصاح الدوح:
- كان ذلك لو أني أردت الانتفاع بالتجارب، والانتفاع بالتجارب يدل على العقل، ولكنه يشهد بضعف الحيوية، والخير أن نواجه الحياة في كل يوم بأحلام الناشئين، لا بعقول الكهول، لتبدو لنا الحياة بكراً في كل لحظة، كما تبدو الغابة المؤذنة بالوحشة والأنس في كل حين. ولو أني اكتفيت بما جربت من أخلاق الورق لكان من المستحيل أن أراك، بعد أن عرفت ما عرفت من شمائل سواك.
قال الورق:
- وأستطيع أنا أيضاً أن أغفل الانتفاع بالتجارب وأرجع إليك في الربيع المقبل
فضحك الدوح وقال:
- وهل كانت لك معي تجارب أيها الورق؟ هل رأيت مني ما يعاب حتى تزعم أنك فارقتني عن عتاب يمحوه التفضل بالإعتاب؟ أنا الذي أنشأك، وأنا الذي رباك، وأنا الذي أوحي إليك معاني الشوق إلى الندى والضياء. . . أنت لم تفارقني لأني جفوتك أو أسأت إليك، وإنما فارقتني لأنك ضعفت عن صحبتي، كما يضعف السحاب عن مصاحبة الجبال.
قال الورق:
- خذني إليك، أيها الدوح، لأذوق من دمك ما كنت أذوق
فأجاب الدوح:
- عيب الأقوياء أنهم لا يصفحون عن المذنب ولو عفّر جبينه بالتراب، وأنت أيها الورق الساقط جحدت جميلي، فلن أراك بعد اليوم ولو استشفعت بأزهار الربيع
قال الورق:
- وهل يكون الورق الجديد أجمل مني أو أصدق مني؟
فأجاب الدوح:
- لن يكون أجمل منك ولا أصدق منك، فتجارب أربعين سنة دلتني على أنكم جميعاً من وحلٍ واحد، ولكن الورق الجديد سيلقاني وهو على جانب من الغفلة والجهل، والغفلة والجهل يزيدان في قيمة الجمال، فإذا تعاقل وتعالم، كما تعاقلت أنت وتعالمت، فسيكون مصيره إلى أمه الأرض، وأستريح منه قبل أن يستريح مني
قال الورق:
- أيكون معنى هذا الكلام أن لك سياسة مرسومة في امتهان الأوراق؟
فأجاب الدوح:
- معنى هذا الكلام أني أحقد حقداً أبدياً على من يجحدون المعروف. لقد قضيت أربعين سنة أو تزيد في تعهد الأوراق بالرفق والعطف، فما حفظت ورقةٌ عهدي، ولا اعترفت بجميلي. . . ويعزيني أن الله ينتقم لي فما انخلعت عني إلا كتب الله عليها الذبول والفناء
قال الورق:
ومع هذا فأنت لفراقي حزين، باعترافك في بداية هذا الحوار، وهذا الحزن هو انتقامي من غطرستك وكبريائك، وأنا أتوعدك بقول أحد الشعراء:
سأنساك فانظر كيف تحيا إذا انقضى
…
نصيبك من روحي وحظك من قلبي
ونظر الدوح فلم ير الورق، فأين ذهب؟ أين؟ أين؟
لقد عصفت الريح فأطارت ما كان في (لكسمبور) من أوراق، وباد ما تعاقر الحديقة من (خشخشة) كانت أروع ما سُمع من الغناء في باريس
قال الراوي:
وكنت فتي مصرياً لم يسمع مثل هذا الحوار بين الورق والدوح، فمصر الوفية لا تشهد انحلال الورق عن الدوح في خريف أو شتاء بغض النظر عن الأشجار المجلوبة من بلاد لا تعرف خلائق وادي النيل.
قال الفتى المصري:
وتسمعت ما يقول الدوح بعد ذهاب الورق فوعيت هذه الكلمات:
- إلى أين ذهبت أيها الورق، وكنت الشاهد على أن الضعف من عناصر الجمال؟ إلى أين ذهبت وكان عطفي عليك دليلاً على أني من الأقوياء؟ إلى أين ذهبت وبفضلك سمت تغريد الحمائم والبلابل والعنادل. ولم أر بعد ذهابك غير وقر الجليد في (أعوام) الشتاء، وكل يوم في الشتاء بعام أو عامين لمن يعيش بلا أليف؟
ثم سمعت الدوح يقول:
- لو كنت أملك من أمري ما يريد الهوى لخلعت العذار في البحث عن الورق الذاهب، ولكن الطبيعة التي أمدتني بالقوة قيدتني بالوقار؛ فأنا جاثم في مكاني، وإن كان هواي في بلدٍ بعيد بعيد، وآه ثم آه من المراعاة لما يوجب التغافل عن الهوى المشبوب!
وسمعته يقول:
- سقط عني الورق، لأنه ضعف عن مصاحبتي في أيام الشدائد؛ وهل يطالَب الضعيف بما لا يطيق؟ فما عتبي عليه وهو أضعف من أن يقاسمني المصاعب في أيام الشتاء؟ وهل يتوهج الجمال إلا في أوقات اللين والصفاء؟
ثم سمعت الدوح يقول:
(ألا يمكن اتهامي بإرغام الورق على أن يصير إلى ما صار إليه؟ كان في مقدوري أن أضاعف له الكمية المبذولة من دمي، ولكنني جهلت الواجب فارتضيت أن يعيش في الخريف بمثل ما كان يعيش في الربيع. ولو أني ضاعفت له الدفء لكان من الممكن أن فكر في حفظ الجميل، والدنيا أخذ وعطاء، ولو كره الأوفياء)
قال الفتى المصري وهو يحاور قلبه بعد سماع ذلك الاعتراف:
لقد نطق الدوح بالقول الفصل، وأجاب عن هذا السؤال: (ما الذي يمنع من أن نعيش كما
تعيش بعض الأشجار التي تخلع أوراقها في الخريف لتكتسي بأوراق جديدة في الربيع؟) وما وجهت إلى نفسي هذا السؤال إلا بعد أن عانيت ألوف المكاره من الوقوف عند حالٍ واحد في الحب والبغض، والاقتراب والابتعاد. والأوراق هي العواطف فما بالنا نحرص حرص الأشحاء على استبقاء تلك الأوراق، وفيها ما يصل إلى الذبول والجفاف، ومن الخير أن نخلعه بلا رحمة ولا إشفاق؟ ما بالنا نحرض عليها حين تتصل بأحباب يصعب عليهم أن يقاسمونا شتاء الزمان؟
إن الله لا يضن على الشجر بالورق الجديد عند قدوم الربيع، فهل يضن علينا بالهوى الجديد عند استهلال الرخاء، وقد عرفنا من كرم الله ما لا تعرف الأدواح والأوراق؟ وهل يملك الدوح من الحيوية عند سقوط الورق مثل الذي نملك من الروحانية عند خمود الوجد؟ أكاد أجزم بأن الماء المكنون في الشجرة العارية من الورق لا يقاس إلى الجمر المكنون في القلب الخالي من الحب، فنحن والشجر إلى ربيع قريب، وإن استطال الشتاء.
وبعد لحظات عاد الفتى المصري إلى محاورة القلب
- الدوح مجلل بالسواد، والسواد شارة الحزن، فما بال الدوح يحزن وهو غاية في القوة؟
- الحزن من علائم القوة، وليس من علائم الضعف، فهو دليل على شعورنا بقيمة ما نفقد، ولا يقع ذلك إلا ونحن أقوياء، والجهلة هم الذين لا يفرقون بين الحزن والذهول
- وكيف؟
- أنسيت ما قرأناه لأناطول فرانس من أن الموت نتيجة لضعف الـ
- أذكر ذلك، ولكني أخشى أن يكون الحزن هو أيضاً نتيجة لضعف الحيوية
- أنت مخطئ في هذا التأويل، فالحزن هو صوت الشهوة إلى النعيم المفقود، والشهوة لا تصدر عن النفس إلا في حالة الفتوة والأريحية والطغيان
- وإذن فما بال جماعات من خلق الله تندد بالمحزونين؟
- كما تندد جماعات من خلق الله بالفرحين!
- ماذا تريد أن تقول؟
- أريد أن أقول إن الحسد هو الذي يحمل بعض الناس على التنديد بأهل الأحزان والأفراح، وما قام في الدنيا أدب ولا مجد ولا سلطان إلا بفضل ما في عاطفة الحزن أو
الفرح من ثورة واشتعال
- أتريد أن أحزن، يا قلبي؟
- أريد أن تفرح بالحزن الصادق، فقد كان شعار الأنبياء؛ أما الحزن الكاذب فهو شعار المتصنعين. إن للحزن آداباً يجهلها أكثر الناس، ومن آداب الحزن أن يصدر عن عاطفة لا عن تصنع، وأن يأخذ وقوده من الإحساس لا من الخيال، وأن يردنا إلى الصدق فيما نكتب وفيما نقول، وأن يزيد في احترامنا لأهل الأفراح؛ فهم إخوان أعزاء، ولو نقلهم الفرح إلى آفاق الجنون. أنظر إلى هذا التمثال وذلك التمثال!
قال الفتى المصري:
ونظرت فرأيت تمثالين: أحدهما لعامل مكدود، وثانيهما لفتى تحتضنه فتاة بأسلوب يمنع من وصفه أدب أهل الشرق، فقد ضمته إليها كما يضم الحبيب المحبوب، وما أحب أن أزيد، وهل أستطيع القول بأن ذلك التمثال أفصح عن أشياء ينكرها الحياء؟ من بلايا الزمن أن الكاتب لا يملك من الحرية ما يملك المثّال!
كان هذان المنظران المتباينان يمثلان السلامة الوجودية أصدق تمثيل، فالعامل المكدود هو مثال الحزن الشريف، واحتضان الفتاة للفتى هو مثال الفرح النبيل، وليس من العيب أن نفرج أو نحزن بإفراط وإسراف ما دمنا صادقين. وهل تهجم الفتاة على الفتى إلا طاعةً لغريزة كريمة هي سر البقاء؟ وهل تجعد وجه العامل المكدود إلا في سبيل السعادة لأطفال يتمنى أبوهم أن يجهلوا معنى الفقر في أيام الشتاء: شتاء الزمان؟
ثم عاد الحوار بعد لحيظات:
- حدثتك عما قرأنا لأناطول فرانس، فهل تذكر ما سمعنا لعهد الطفولة في سنتريس؟
- لا أذكر من سنتريس غير أطياف بددتها أحلام باريس، فماذا تريد؟
- كان أهل سنتريس يقولون: (لما يخضرّ التوت، البرد يموت)
- وما معنى ذلك؟
- معناه أن الأوراق هي الوقاية من البرد!
- وإذن!
- وإذن تكون العواطف هي الوقاية من شتاء الزمان
- وما حال الشجرة التي لا ينخلع عنها الورق في أي وقت؟
- هي شجرة سعيدة أعاذها القدر من اختبار الأحباب، ومزية هذه الشجرة أنها تتذوق ما في الأرض والهواء من حيوية عارمة لا تلتفت إلى تغير الفصول إلا في أندر الأحايين!
- وهل في مقدورنا أن نكون مثل تلك الشجرة؟
- إذا تخلقنا بأخلاقها
- وكيف؟
- في الأسبوع الرابع من آذار تظهر تباشير الورق الجديد فوق غصون الأشجار التي عانت آلام العري في الشتاء، وننظر فنرى الأشجار الصغيرة أورقت قبل الأشجار الكبيرة، فنفهم أن للشباب يداً في سرعة الإيراق؛ وقياساً على ذلك يكون الشباب الدائم هو الذي يحمي بعض الأشجار من سقوط الورق في الشتاء
- أيكون لهذا الملحظ دخل في تقديس شجرة (الجميز) عند قدماء المصريين؟
- ليس هذا التخريج بغريب، وقد يضاف إليه أن لشجرة الجميز ميلاً إلى البر بالجبران؛ فهي تمد فروعها لتمتعهم بالثمار والظلال بلا انتظار للجزاء!
- أراك تهرب من الجواب!
- وأراك لا تفهم المعاريض!
- أنا أحب أن أعرف كيف أحتفظ بالشباب
- إذا احتفظت بالعواطف
- وكيف أحتفظ بالعواطف؟
- إذا احتفظت بالشباب!
- وكيف أحتفظ بثروة من أعدائها الليل والنهار؟
- أنت أقوى من الليل والنهار، إذا أردت؟
- وكيف؟
- اجعل الليل والنهار من خدامك
- كيف؟ كيف؟
- لا تضيع لحظة واحدة بلا عملٍ نافع، فالعمل الموصول فن من السيطرة على شباب
الزمان؛ ألم تسمع بأخبار نوح؟
- وما أخبار نوح؟
- عاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً
- وهل يعيش الإنسان ألف سنة إلا خمسين عاماً؟
- بقليل من الفهم تدرك أن عمر نوح لا يرجع إلى الكمية الصورية، وإنما يرجع إلى الكمية المعنوية؛ وقد استطاع نوح باختراع (السفينة) أن ينقذ الإنسانية من (طوفان) الفناء؛ فالعشرات من أعوامه تعد بالمئات. فاصنع صنع نوح، لتعيش عمر نوح!
قال الراوي:
ثم رأيتني أهتف بقول أحد الهائمين:
ولو أن عمري عمر نوح وبعته
…
بساعة وصل منك قلت كفاني
فالله وحده هو الذي يعلم قصة الورق والدوح. وهو الذي يعلم ما أعاني من البلبلة بين القاهرة وباريس وبغداد. وهو الذي يعلم كيف أفر من التصريح إلى التلميح، لينجو (الورق) من الافتضاح.
إن عاد الربيع، إن عاد، فسوف نعقد (معاهدة ودية) لا يقضها خريف ولا شتاء
وشبابي، شباب الجسد والروح يحدثني بأن الربيع إلى معاد ويلطف الله بمن يقول:
لنجواك أستبقي شبابي فعاطني
…
كؤوس الهوى قبل ابيضاض المفرقِ
زكي مبارك
الإنسان الكامل
للدكتور جواد علي
عرّف المتصوفة الإنسان الكامل بقولهم: هو الإنسان الجامع لجميع العوالم الإلهية والكونية الكلية والجزئية، وهو كتاب جامع للكتب الإلهية والكونية؛ فمن حيث روحه كتاب عقلي مسمى بأم الكتاب، ومن حيث قلبه كتاب اللوح المحفوظ، ومن حيث نفسه كتاب المحو والإثبات؛ فهو الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة التي لا يمسها ولا يدرك أسرارها إلا المطهرون من الحجب الظلمانية. فنسبة العقل الأول إلى العالم الكبير وحقائقه بعينها نسبة الروح الإنساني إلى البدن وقواه. وإن النفس الكلية قلب العالم الكبير، كما أن النفس الناطقة قلب الإنسان؛ ولذلك يسمى العالم بالإنسان الكبير.
ويكاد يكون الإنسان الكامل نفس (الإنسان الأول) لدى أرسطو، أو (الحكيم) لدى أفلاطون، أو (الإنسان الفاضل) لدى الفارابي، أو (الإنسان المطلق) لدى جماعة إخوان الصفاء في البصرة؛ وتكاد الفكرة تكون نفس الفكرة (الإنسان الذي لا إنسان فوقه) ? لدى هارينريش مولر من رجال أواخر القرن السابع عشر مبتدع هذه اللفظة لأول مرة والشاعر الشهير جوته، والفيلسوف نيتشه أو فكرة السوبرمان في اللغة الإنكليزية مع اختلاف بسيط سببه وجهة النظر والتفكير.
وفكرة الإنسان الكامل من الأفكار التي ترد على لسان المتصوفة كثيراً. وقد استعملها المتصوف الشهير محيي الدين بن العربي المتوفى سنة (638هـ - 1240م) وعلى الأخص في كتبه ومؤلفاته. وتكاد الفكرة تكون محور تعاليمه والنقطة التي تدور حولها أبحاثه التصوفية. وابن العربي هذا من الشخصيات الإسلامية العظيمة التي تنتمي إلى أرومة عربية عريقة في القدم. شخصية أثرت في الحياة الروحية الإسلامية تأثيراً عظيماً ولا سيما في الحياة العقلية للأتراك والفرس. وتتصل آراء هذا الصوفي بعضها ببعض بصورة متسقة منتظمة اتصال الحلقة أو السلسلة على غموض بعض أفكاره وعويص معانيه، وذلك أمر يقتضيه التصوف ذاته والموضوع الذي يدور حول البحث. والظاهر أنه استمد آراءه في الإنسان الكامل كما استمد ذلك سائر المتصوفة من الصورة التي رسمها مثاليو المسلمين للنبي الكريم، إذ نرى الصورة التي تصورها المتصوفة للإنسان الكامل
تسير جنباً لجنب مع الصورة التي يذكرها أصحاب السير للرسول نبينا العظيم.
استعمل محي الدين بن العربي هذا الاصطلاح كاستعمال أرسطو لكلمة (الإنسان الأول) أو استعمال فلاسفة اليونان لكلمة أو العقل، أو كلمة تقريباً؛ استعمل هذا الاصطلاح ليدل على نسبة العقل الأول إلى العالم الكبير أو النفس الجزئية بالنسبة إلى النفس الكلية ليدل على فكرة طالما أفنى المتصوفة أنفسهم شوقاً إليها إلا وهي فكرة المعرفة والتجلي عن طريقي الوجد والفناء حتى يصل الإنسان في النهاية إلى (الشجرة) وهي درجة الإنسانية الكاملة التي لا إنسانية فوقها أبداً. ونظراً لمكانة هذه الفكرة وما يحيط بها من إبهام وغموض، تصورها المسلمون لذلك بصور شتى وأشكال لا حد لها خرجت في كثير من الأحايين من عالم الفلسفة الإسلامية إلى عالم آخر أبعد من عالم الإسلام والتصوف بدرجات.
وقد ظن المستشرق ماكس هورتن أن ذلك العالم هو العالم البراهمي وهو عالم غني بهذه الأفكار مملوء بهذه الآراء، وظن المستشرق شيدر - وهو مستشرق يرجع أصل كل شيء في الحضارة الإسلامية إلى مصدر إيراني قديم - أن مصدر هذه الفكرة الآراء المانوية الإيرانية القديمة. يرى أن هذه الآراء أثرت في التصوف كما أثرت في فلسفة أبي بكر الرازي وإخوان الصفاء وناصر خسرو وغيرهم، وذل لوجود تشابه رآه هذا المستشرق بين فكرة الإنسان الكامل وبين المعتقدات المانوية القديمة.
وترد نفس هذه الفكرة في فلسفة فيلون وفي الفلسفة البوذية حيث يكون بوذا أكمل مخلوقات الله، فيه اجتمعت المتناقضات، وفيه تم كل شيء، فهو الإنسان الكامل وهو رمز وحدة الوجود، فيه اجتمعت الروح بالمادة بصورة لا نتصورها إلا في الله، لذلك هو المثل الأعلى للبشرية، وهو الإنسان الكامل؛ وعلى كل إنسان يريد أن يصل إلى مرتبة البشرية الكاملة أن يسعى سعياً روحياً للوصول إلى هذه الدرجة التي لا تتم إلا على يد قطب أو وسيط، وهذا القطب أو الوسيط هو نفس الوسيط الذي استعمله الصوفية والإسماعيلية والشيع الإسلامية السرية للوصول إلى واجب الوجود.
وقد مزج المغيرة وهو أحد الذين اتهموا في دينهم (احرق عام 737م) بين فكرة (الإنسان المطلق) وبين نظرية العدد والبروج التي ترد في مذهب الفيثاغورسيين والمنجمين فقال
بأن الإنسان أكمل المخلوقات طراً، لأن له أثني عشر عضواً يقابل كل عضو من هذه الأعضاء برجاً من البروج؛ لذلك فالعالم الأكبر اجتمع هنا في العالم الأصغر، فهو هو هو، والعالم الأصغر هو نفس العالم الأكبر. وحيث أن آدم هو أبو البشر فهو يمثل الصلة بين العالم الأكبر وبين العالم الأصغر فهو إذا اكمل البشر وهو الإنسان الأول أو الإنسان الكامل على الإطلاق.
وتقارب هذه النظرية، على ما يقوله ماكس هورتن، نظرية (الحروفية) وهم الذين يمثلون فلسفة العدد في الإسلام، والذين ينتهون بحكم هذه التعاليم إلى الحلولية على نحو ما ينتهي إليه أمثال هؤلاء في الشرق والغرب، مثل ما انتهى إليه نيقولا كوزانوس الذي كان يقول بأن الواحد مرآة صافية للكل، وأن العالم الأصغر هو هو العالم الأكبر، فيه حل الواحد وفي كل شيء حل الله، على نظرية ما في الجبة إلا الله. وهو في تعاليمه يشابه الفيلسوف العربي الكندي ويكاد يكون أحد تلاميذه أو أتباعه. ومثل الفيلسوف لايبنتز في نظريته عن الذرات الروحية أو طلاجينلا الإيطالي المشهور والشاعر الشهير جوته في مذهب الحلول.
وهذا الإنسان الكامل الذي أبدع في وصفه المتوفة، هو إنسان خيالي روحاني ليس له مثيل بين سكان الأرض، يجمع بين العالمين العالم الروحاني والعالم المادي، لا يعبأ بهذا الكون ولا يقيم له وزناً، وهو على طرفي نقيض مع (الإنسان الأعلى)، أو السوبرمان الذي ابتدعه فلاسفة أوربا المحدثون، ويعنون بذلك الإنسان الذي يحبذ هذا الكون ويقدسه، يريد السيطرة ويحترم مبدأ القوة، لتناقض موجود في الأساس بين الفكرتين الشرقية الخيالية والغربية العملية الاكتشافية.
وقد جمع عبد الكريم الجيلي المتوفى عام 1410م تقريباً آراء فلاسفة الإسلام في الإنسان الكامل، في كتاب سماه:(الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل) استفاد منه المستشرق الإنكليزي نيكلسون كثيراً إذ ذكر وجهات نظر المسلمين في هذا الإنسان أثناء بحثه عن التصوف الإسلامي فليرجع إليه.
جواد علي
مطالعاتي حول المدفأة
المدينة الضائعة
للأستاذ صلاح الدين المنجد
تهت الليلة في مخارم الجبال مع (جوكليه) سعياً وراء المدينة الضائعة. إن هذا الكاتب ليهزني؛ فهو وصاف للعادات مرة، قصاص مغالٍ أخرى، متفلسف هزاء على نحو فولتير تارة، مؤرخ يمزج التاريخ بالأدب أحياناً. . . وهاأنذا أغامر معه الليلة في روايته الأخيرة؛ فأرشف العذوبة، وأهيم مع الخيال، وأسمع نداء الحكمة والحياة.
لا بأس على القراء أن يتيهوا معي، فالرواية طريفة والقصاص بارع. هاهو ذا (جوكليه) في جزيرة (لوسون) من الفيليبين يلتقي بفتى يتدفق حماسة وقوة، يريد أن يفتش عن كنز عظيم تركه ملاح صيني كبير، في مدينة ضاعت بين الجبال، في شرق الجزيرة منذ أربعة قرون. وكان نداء المجهول، وحلاوة المغامرة، يدفعان الفتى إلى البحث عن الكنز، فأثر في رفيقه القصاص وساقه معه.
وكان يصحبهما رفيق ثالث شاذ الطبائع، غامض العواطف، أسمه (دون انطونيو) عرفوه في الفندق. وكان هذا يود الهرب من المدينة الزائفة لأسباب غامضات.
وهام الثلاثة في طريقهم، وقد صحبوا دليلين قويين، وبضعة بغال. . . ثم تغلغلوا في قلب غابات المتوحشين. وكان يصادفهم أخطار ترعب، ومصاعب لا تحد: لذع من الشمس، وخبل من الهواء، وغرق في الماء، ونهس من الذباب، وتيهان في المستنقعات؛ فضلاً عن شهق الجبال وعمق الأودية، واشتباك الغابات، ووفرة الشباك المنصوبة على حفافي الطرقات.
وفاجأتهم قبائل النكريتو بسهامها في إحدى الغابات، ففروا بعد جهد وعذاب. ومضت القافلة الصغيرة تماشي الهضاب، وتصعد في الجبال، وتفتش عن (لمدينة الضائعة) في كل مكان. فاستيقظوا ذات يوم، بعد أن قذفهم واد عظيم، وإذا بهم يرون من شواهق الذرى، في حضن جبل، على حافة بحيرة راكدة: مزارع أرز واسعة، وآثار بناء شامخ، تقوم عند أقدامه مساكن صينية حقيرة. فخفوا نحوها، فاستقبلوهم بصمت وحذر وجفاء، وأدخلوهم باباً في ذلك البناء. . . فعلموا أنهم أضحوا سجناء في مدينة واسعة، قامت في قلب الجبل، لا يدركون من أمرها شيئاً. . .
وساقوهم إلى شيخ صيني نبيل، فأعلمهم بعد جهد، أنهم في المدينة التي شادها (ليموجونك) الملاح الصيني العظيم.
(لقد قضى الوقت الطويل في البحث عن أعوانه. كان يرد أعواناً لا تبش وجوههم لبريق المال الذي يحيط بهم، ومكاناً لا تصل إليه الأقدام، فاختار هذا الجبل مقاماً له عندما يقفل من قرصنته في البحار. وعاش مع أصحابه حياة هادئة غامضة لا يستطيع مؤرخ أن يكتب شيئاً عنها؛ ثم أخضع القبائل التي كانت تعيش في الغابات المجاورة والجبال، وجعلهم عبيداً له طول الحياة. . .!
(ولم يفكر قط واحد منهم، لا واحد منا، أن يعود إلى البلاد المتمدنة التي يضطرب فيها كل شيء. . . فإذا ومضت هذه الفكرة في رأس أحدنا علمنا أنه مريض. . .
(ولقد وضعنا في طريق ذل العالم المتمدن عقبات كثارا لتعجز كل قوة أنسية عن اجتيازها. . . نعم، أيها السادة، تلك قصة الملاح العظيم، وإني لآسف أن أراكم بيننا، وإن سعادة هذا الشعب الهادئ الذي يعيش هنا توجب على سجنكم عندي لئلا تغروهم بالعودة إلى دنيا المصائب والبلايا. . .!)
وسجن الأصحاب الثلاثة، ولكنهم تحسسوا الأخبار، وعلموا أن ذلك الملاح الشقي، أودع كنوزه إحدى جزر المحيط قبل أن يموت. . . ففروا من سجنهم بعد أن رأوا الموت مرات، وفقدوا أحد الأدلاء. على أن الفتى (ميجيل) ما كان في هذه المرة يبتغي نوال المال، فلقد أراد أن يسعى وراء حياة هادئة، ليس فيها شيء من (الوكر) ولا (السيست) وغيرها. . .
هاهم أولاء يتيهون في البحار، ينتقلون من جزيرة إلى جزيرة دون أن يعثروا على التي سمعوا وصفها، فقرروا أن يعودوا من حيت أتوا. . . ولكن عاصفة مجنونة حملتهم على جزيرة بعيدة: كلها أعشاب خضر، وبرارٍ محروثات. . . وإذا هم بين أناس من الصين علموا أنهم أحفاد الملاح الكبير. . . وأدركوا أن تلك الأراضي كنوز الملاح. . . فعاشوا بسذاجة وانطلاق. . .
وخطر على بال القصاص أن يعود مع الفتى، فعادا. . . أما (دون أنطونيو)، فقد آثر البقاء هناك، وقال:
(لن أستطيع العيش في المدن. إن فيها جدرانا كثيرة تخنق المرء. . . كل يوم فيها اصطدام
واضطراب وظلم. . . إن فيها قيوداً كثيرة. إنها سجون مظلمة. . . وسيبحث عني أولئك الذين عرفتهم فلا يجدوني، وسيحسبون أني مجرم آوتني السجون. . . ليقولوا ما شاءوا. . . فأنا أعيش مع المتوحشين، ولكني حر طليق. . . لا يقيدني قيد، ولا يخيفني مخلوق. . . نعم، وسيعلمون بعد حين أن عدد الهاربين من المدن ومن المدينة ومن الترف إلى الطبيعة سيزداد وينمو. . .!)
وعاد الصديقان وحدهما، وقد علما أنه لابد لهما من العودة يوماً ليستجيبا لنداء المجهول، وليعيشا في الأرض التي لا تعرف الشقاء، أرض الأعشاب والمرجان. . .) أ. هـ
أين أنت أيتها الأرض البعيدة التي ستضمينني؟
أيها المجهول الذي يناديني، ادفعني إلى تلك الأرض الهادئة لأستريح من لؤم الإنسان. . .!
ادفعني. . . لأحيا. . .!
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
في الفلسفة الإسلامية
إخوان الصفاء
للأستاذ عمر الدسوقي
مقدمة
في أواسط القرن الرابع الهجري ذهبت سطوة الخلافة العباسية واستبد بالخلفاء مواليهم من فرس وديلم وترك، وساموهم الخسف وسوء العذاب، فاستقل كثير من الأمراء عن بني العباس وأسسوا دويلات صغيرة: كآل بويه، وأل حمدان، والساسانيين وغيرهم، ولم يبق للخليفة من مظاهر القوة شيء.
بيد أن هذا الانحطاط السياسي في الدولة لم يمنع الحياة العقلية من الازدهار لتنافس الأمراء في تقوية دويلاتهم علمياً وأدبياً؛ فنما الشعر ونضج التفكير، واشتدت حركة النقل والبحث في العلوم الفلسفية على اختلاف شعبها ثم هضمها وصبغها بالصبغة الإسلامية.
وكان من عواقب الانحطاط السياسي للدولة العباسية تكوين كثير من الجماعات السرية وغير السرية التي تحاول القضاء المبرم على العباسيين حتى تضع غيرهم مكانهم، أو توجد لنفسها كياناً مستقلاً. ومن هذه الجمعيات التي ظهرت في منتصف القرن الرابع الهجري (جماعة إخوان الصفاء) وهم من الشيعة الباطنية الذين لم يرضوا عن الخليفة العباسي كما لم يرضوا عن الخلافة الفاطمية في مصر. وحاولوا قلب النظام السياسي بقلب التفكير العقلي وإيجاد ثقافة جديدة يعتنقها شباب عصرهم مقتفين في ذلك أثر الفيتاغوريين وأفلاطون. ومن المعلوم أن الفيتاغوريين كانوا جماعة سرية إصلاحية حانقة على نظام الحكم اليوناني وأنهم حاولوا تغييره بخلق مذهب جديد ونظريات حديثة عن العالم ونشأته داعين إلى الزهد والتقوى. ومن المعلوم كذلك أن أفلاطون كان ساخطاً على حكومة أثينا. فلا الأرستقراطيون أرضوه لما يرتكبونه من ظلم وجور، ولا الديموقراطيون حققوا آماله للفوضى التي ضربت خيامها في أثينا؛ وذلك حد في وضع منهج جديد للحكومة في كتابه الجمهورية وإن كان قد فشل حينما حاول تطبيقه عملياً.
أما إخوان الصفاء فقد نالوا شيئاً من النجاح لأنهم من الإسماعيلية الباطنية. وهؤلاء قد استطاعوا أن يوجدوا لأنفسهم كياناً سياسياً مكن لهم في بعض الأرض ونشر الرعب في العالم الإسلامي. وسنرى فيما بعد أدلتنا على أنهم من الإسماعيلية بل إن رسائلهم هي
دستور هذه الطائفة.
من هم إخوان الصفاء
لقد أحاطت هذه الجماعة السرية نفسها بسياج متين من الكتمان ويقولون في ذلك: (إننا لا نكتم أسرارنا عن الناس خوفاً من سطوة الملوك ذوي السلطة، ولا حذراً من شغب الجمهور من العوام ولكن صيانة لمواهب الله عز وجل لنا. لذلك حار الناس قديماً وحديثاً في معرفة أسمائهم، ولولا ما نقله القفطي عن أبي حيان التوحيدي في هذا الصدد وتعداده لبعض الأسماء المشهورة بينهم لعمى علينا الأمر فقد ذكر في أثناء حديثه عن زيد بن رفاعة (أنه أقام بالبصرة طويلاً وصادق بها جماعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة، منهم أبو سليمان محمد بن معشر البستي (ويعرف بالمقدسي) وأبو الحسن علي بن هاورون الزنجاني وأبو أحمد المهرجاني وأبو الحسن العوفي وزيد بن رفاعة)
مكانهم وزمانهم:
كانت البصرة مركزهم الرئيسي وإن لم يذكر الإخوان شيئاً من ذلك في رسائلهم بيد أن القفطي قال: (وقد أقام زيد بن رفاعة بالبصرة زماناً طويلاً وصادق بها جماعة لأصناف العلم. . . الخ)، وهناك ما يؤيد رأي القفطي وهو أن البصرة كانت منذ أسست عاصمة العلوم الإسلامية ومحط كثير من رجال الفقه، فيها نشأ الحسن البصري ورؤساء المعتزلة، وفيها قام عبد الله بن ميمون بفتنة القرامطة أصل مذهب الإسماعيلية في أواخر القرن الثالث الهجري، وفيها قام أبو الحسن الأشعري يتنصل من الاعتزال، وكانت فيها حلقات العلم من كل فن وفي مربدها ينشد الشعراء قصائدهم؛ فلا عجب إذا أن كانت البصرة مأوى إخوان الصفاء.
هذا وقد كان للجماعة أنصار في مختلف البلدان ولهم دعاة يبشرون بمذهبهم بطرق منظمة؛ وفي هذا يقولون: (إن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد). ويظهر أنه كان في بغداد جماعة أخرى على اتصال وثيق بإخوان الصفا وعنها يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه المقابسات: (من أعضائها أبو سليمان محمد بن طاهر السجستاني، وأبو زكريا العميري، والعروضي أبو محمد المقدسي، ويحيى بن عدي، وأبو إسحاق
الصابي، وماني المجوسي)، ويظهر أن أبا سليمان المنطقي السجستاني كان رئيس هذه الجماعة فكثيراً ما يقول أبو حيان (دارت في مجلس أبي سليمان. . . مناظرات)، ويقول:(أملى علينا أبو سليمان). ويظهر أيضاً أن أمر هذه الجماعة الفلسفية كان على شاكلة أختها في البصرة سرياً؛ فقد ثبت أن أبا العلاء المعري كان يختلف إلى هذه الجماعة بدار عبد السلام البصري أيام الجمع حينما قدم بغداد وهم الذين سماهم إخوان الصفاء حين يقول:
كم بلدة فارقتها ومعاشر
…
يذرون من أسف على دموعا
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى
…
لوداد إخوان الصفاء مضيعا
خالت توديع الأصدقاء للنوى
…
فمتى أودع خلي التوديعا
وقد كان لاحتكاك أبي العلاء مع تلك الجماعة وتعرفه على مختلف النظريات الفلسفية والدينية والصوفية الأثر الأكبر في اتجاه أفكاره وفلسفته، فيقول الأستاذ ماكدونالد (يظهر أن أبا العلاء اتصل بفئة مثل إخوان الصفاء إن لم يكونوا هم أنفسهم)
ومما تقدم نرى أن إخوان الصفاء كان مركزهم الرئيسي بالبصرة وكان لهم فرع قوي ببغداد، وأنصار ودعاة في مختلف البلدان والأمصار.
أما الزمن الذي وجد فيه الأخوان فهو أواسط القرن الرابع الهجري: ومن العسير تحديد السنة، بيد أن هناك ما يرجح أن الرسائل ألفت فيما بين سنتي 334هـ و 373هـ؛ لأن بدء ظهورهم كان على أثر سيطرة آل يويه على بغداد سنة 334هـ، ولم نسمع بهم قبل هذا التاريخ، ومن الجائز أن تكون جماعتهم قد تأسست قبل ذلك وبقيت في طي الكتمان، ولم تتجرأ على إظهار الرسائل إلا بعد هذا التاريخ.
نظام جماعتهم
كانت جماعة إخوان الصفاء تتكون من أربع طبقات: الأولى شبان يتراوح عمرهم بين خمس عشرة وثلاثين سنة، وهم الذين يسمونهم في رسائلهم بالإخوان الأبرار الرحماء. ويظهر أن الرسائل قد ألفت لهذه الطبقة لأن الخطاب فيها موجه دائماً إلى الأخ البار الرحيم. أما الطبقة الثانية فرجال الثلاثين والأربعين يتلقون الحكمة الدنيوية، ويظهر أنه كان يعهد إليهم مراعاة الإخوان ومساعدتهم والتحقق عليهم، وهم الذين يسمون في الرسائل بالإخوان الأخيار الفضلاء. والطبقة الثالثة رجال بين الأربعين والخمسين من العمر وهم
يعرفون الناموس الإلهي، كما أنهم أصحاب الأمر والنهي والسلطة بين الإخوان، وإليهم يعهد بدفع العناد والخلاف عند ظهور المعاند المخالف لهذا الأمر بالرفق والمداراة في إصلاحه)، وهم الذين يسمون بالإخوان الفضلاء الكرام. والطبقة الرابعة وهي مرتبة من يزيد على الستين سنة وهي أعلى المراتب في نظامهم ومن يصل إليها يكون فوق الطبيعة والشريعة والناموس، ويكون ذا كشف يستطيع به أن يشاهد (أحوال القيامة من البعث والنشر والحساب والميزان)
والآن! كيف يقبل المرشح لعضوية هذه الجماعة؟ تجيبنا الرسائل: (أنه ينبغي لإخواننا أيدهم الله حيث كانوا في البلاد إذا أراد أحدهم أن يتخذ صديقاً مجدداً أو أخاً مستأنقاً أن يعتبر أحواله ويتعرف أخباره ويجرب أخلاقه ويسأله عن مذهبه واعتقاده ليعلم هل يصلح للصداقة وصفاء المودة وحقيقة الأخوة أو لا يصلح. لأن في الناس أقواماً طبائعهم متغايرة خارجة عن الاعتدال، وعاداتهم رديئة مفسدة ومذاهبهم مختلفة حائرة)
وكانوا يتحرون عن الشخص الذي يريد الانضمام إليهم كل التحري، ويحذرون إخوانهم من الاغترار بالظواهر:(واعلم بأن من الناس من يتشكل بشكل الصديق، ويدلس عليك بشبه الموافق، ويظهر لك المحبة وخلافها في صدره. فانظر من تصحب وتعاشر ولا تغتر بظاهر الأمور من غير معرفة بواطنها. . . بل ينبغي أن تنتقده كما تنتقد الدراهم والدنانير والأرضين الطيبة التربة للزرع والغرس وكما ينتقد أبناء الدنيا أمر التزويج وشراء المماليك والأمتعة). . . (لأن إخوان الصدق هم الأعوان على أمور الدنيا والدين جميعاً وهم أعز من الكبريت الأحمر، وإذا وجدت منهم واحداً فتمسك به فإنه قرة العين ونعيم الدنيا وسعادة الآخرة وابذل له نفسك ومالك وافرش له جناحك وأودعه سرك وشاوره في أمرك وإن هفا هفوة فاغفر له)
وكانوا يحثون الإخوان على أن يعاون الغني منهم الفقير والمتعلم الجاهل ويؤثرون أصدقاءهم على أنفسهم وأولادهم وأزواجهم، لأن محبة هؤلاء لمصلحة دنيوية، أما الإخوان الذين انضموا إليهم، فيحبونهم لله.
فإذا ما قبل العضو قرءوا عليه خطبة فيها دعوتهم وغايتهم: (وينبغي لإخواننا إذا حضروا المجلس ومعهم أخ مستجيب يستحب أن يقرءوا عليه هذه الخطبة: اعلموا - أيها الإخوان
- أيدكم الله وإيانا بروح منه، وهداكم للحق، وجعلكم من أتباعه، وسهل لكم سبيل الخير، وأرشدكم إلى معرفة أهله، وعصمكم من الشر، وجنبكم صحبة أهله، وحرسكم من المزور الشيطان، ووقاكم جور السلطان ونكبات الزمان ونوائب الحدثان، ووفقكم لقبول نصيحة الإخوان، إنه ودود منان - اعلموا أن كل دولة لها وقت منه تبتدئ، ولها غاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي؛ وإذا بلغت أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها، أخذت في الانحطاط والنقصان، وبدأ في أهلها الخذلان، واستأنف في الأخرى القوة والنشاط والانبساط والظهور، وجعل كل يوم يقوى هذا ويزيد، ويضعف ذلك وينقص، إلى أن يضمحل الأول المتقدم، ويتمكن الحادث المتأخر. . . وقد ترون - أيها الإخوان - أنه قد تناهت قوة أهل الشر وكثرت أفعالهم في العالم في هذا الزمان، وليس بعد التناهي في الزيادة إلا الانحطاط. واعلموا أن الملك والدولة ينتقلان في كل دهر وزمان من أمة إلى أمة، ومن أهل بيت إلى أهل بيت، ومن أهل بلد إلى أهل بلد. . . واعلموا أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من أقوام خيار فضلاء يجتمعون في بلد، ويتفقون على رأي واحد، ودين واحد، ومذهب واحد، ويعقدون بينهم عهداً وميثاقاً بأنهم يتناصرون ولا يتخاذلون، ويتعاونون ولا يتقاعدون عن نصرة بعضهم بعضاً، ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم، وكنفس واحدة في جميع تدابيرهم.
وقد كان للجماعة دعاة ومبشرون يجتهدون في اختيار أعضاء جدد يضمونهم إلى صفوف الإخوان، وقد كانوا يدربون تدريباً خاصاً على الدعاية: (واعلم أيها الأخ أيدك الله وإيانا بروح منه أن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد، فمنهم طائفة من أولاد الملوك والأمراء والوزراء والكتاب والعمال، ومنهم طائفة من أولاد الأشراف والدهاقين والتجار والتناء، ومنهم طائفة من أولاد العلماء والأدباء والفقهاء وحملة الدين، ومنهم طائفة من أولاد الصناع والمتصرفين وأمناء الناس. وقد ندبنا لكل طائفة منهم أخاً من إخواننا ممن ارتضينا في بصيرته ومعارفه ينوب عنا في خدمتهم بإلقاء نصيحة إليهم بالرفق والرحمة. وقد اخترناك أيها الأخ البار الرحيم لمعاونتهم فامض على بركة الله وحسن توفيقه إلى أخ من إخواننا، وتوصل إليه بالرفق على خلوة وفراغ من مجلسه وطيبة من نفسه فاقرأ عليه منا التحية والسلام، وبشره بما يسره من نصيحة الإخوان، وعرفه شدة
شوقنا إلى إخائه ومودته وولايته، ثم اقرأ عليه هذه الخطبة (المتقدمة الذكر) وعرفه معانيها وفهمه مغزاها ومقصدها. . . (فإن وقعت هذه التذكرة منه مكانها من القبول وسمت نفسه إلى ما أشرنا إليه فذلك هو الذي تريده، وإن توقف وقال ما علامة ما تقولون، وما تصديق ما تزعمون من الرأي والحديث؟ فتقول عندنا دلائل واضحة، فإن أراد أخونا الفاضل الكريم فليبعث إلينا ثقة من ثقاته وأميناً من أمنائه، ومن يشاكلنا في العلوم والمعارف ليتضح له حقيقة ما قلنا.
ويظهر أن هؤلاء الذين يوجه إليهم الأخ البار الرحيم والمنتشرين في أنحاء الأرض كانت ميولهم وأغراضهم السياسية تشبه ميول إخوان الصفاء وأغراضهم، ولم يكونوا قد انضموا إليهم بعد، أو لم يعلموا بوجودهم. . . (واعلم أن من إخواننا وأهل شيعتنا طائفة أخرى بوجودنا شاكون، وفي بقائنا متحيرون فيما يعتقدون من موالاتنا، وطائفة أخرى ببقائنا موقنون، لكنهم غافلون عن أمرنا غير عارفين بأسرارنا، وكلهم منتظرون لظهور أمرنا، مستعجلون لمجيء أيامنا، مشتهون نصرة حزبنا)
(بيروت - يتبع)
عمر الدسوقي
مدير كلية المقاصد الإسلامية
الصحيفة المثالية
لرجل الصحافة (ويكهام استيد)
بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
واجب الصحافة الرشيدة أن تستوعب أمر هذه الحال المفككة الأوصال وتنعم النظر في سبب تلك الأدواء الاجتماعية وعلة هذا الضلال، ثم تتنزل على ضحاياه لتأخذ بيدهم وتأسوا جراحهم وتنهض بهم من غير أن تبتعد عنهم، أو ترتفع في شرعتها عن مستواهم. وهنا تتهيأ الفرصة للصحفي الذي تأصل في نفسه مثل أعلى وتولى زمامه قصد نبيل أن ينشئ للناس صحيفة رشيدة. وقد أخفى مثله ونبالة قصده في نفسه واختزنها لغرضه حتى لا يسخر منه الحمقى ويضعوا من كفايته قبل أن يتمكن من تحقيق لبانته.
أما عن أمر صحيفتي المثالية التي أحلم بها وأصبو إليها فسوف تطالع الناس وهي تستوعب مصادر الأدواء الاجتماعية ومواردها وتتقصى أسباب الضلال والحيرة الماثلين في الحياة الحاضرة، وهي وإن تصدر في ذلك عن إيمان مكين لا يقل شأنه على أية حال عن إيمان الصحف الحاضرة بواجبها في تقصي تلك العلل؛ إلا أنها ستضع للحق أعلاماً لا شبهة فيها فتعالج تلك الأدواء باعتبارها ضلالاً وحيرة لا أشياء أخرى تعدد حقيقتها وتتجاوز قدرها.
وسوف تتلمس الحقيقة الماثلة وراء الظواهر، وتنتهي إليها، وتظفر بها ثم تذيعها على الناس في جرأة وأمانة فلا تبقي من أمرها على شيء كاذب، ولا تصانع الشعب فيما انعقد إجماعه عليه فتحترم ما جرى عليه العرف فيه لمجرد أنه قد صار للناس عرفاً. وهي إذ تقر لذي الفضل بفضله، وتقدر للمحسن إحسانه، وتوجه التكريم إلى الوجهة التي يجب أن يتجه إليها، ولا تقر له شرعة غير شرعة الحق والعدل، ستدعو التصنع تصنعاً وتسمى الخداع خداعاً بكامل ما انطوى عليه اسمهما من لفظ ومعنى.
وسوف لا تتهيب شيئاً كائناً ما كان أو تخشى في الحق لومة لائم. وإذا هي (لا تتحرج) في معالجتها للموضوعات المؤلمة أو المزعجة، وإذا هي تسجل على نفسها خطأها إذا قدر لها
أن تخطيء، والزلل لا عاصم منه فالعصمة لله وحده. وإذا هي لا تقبل من ضروب الإعلان إلا ما يتحقق لها صدق عبارته ومادته وأمانة ذويه. وعندئذ يصبح قبولها للإعلان ضماناً أدبياً يصون مصالح القراء ويكفل حقوق الناشرين على السواء. وإذا هي تتأبى أن تنشر للتجار الشهادات المتعلقة بصافي مبيعاتهم وتحتقر الطواف (بعينات) البضائع لتبيعها لحساب عملائها؛ وإذا هي تتأبى على هؤلاء العملاء وقد غمرها شعور فياض بالكرامة والعزة أن تهبهم شيئاً من الامتيازات المجانية أو أية رخص أخرى؛ وإذا هي تذيع على الناس في قوائم سوداء أسماء الناشرين وشركات الإعلانات ثم تثيرها عليهم حرباً جبارة لا هوادة فيها ولا رحمة تذيع على الناس ما ينتهي إليها من خبئ أمرهم ومستور حيلهم إذا ما حاولوا في نهجها العادل وقصدها الشريف أن يعملوا ما وسعهم من جاه وثروة للقضاء عليها.
وسوف تنفق شطراً كبيراً من رأسمالها في كسب ثقة العقول الشابثة الطامحة الذين سيتعلمون عاجلاً كيف يثقون برأيها ويقنعون بقضائها ويقدرون نصحها؛ وسوف تكون صحيفة مجاهدة يلمس الناس جهادها وضاحاً من أول عمود من أعمدة (أقلام تحريرها) إلى آخر عمود فيها. وسوف لا ترتبط بأية مصالح مهما كان شأنها ما لم تتفق ومثلها الأعلى. ولا تعبأ بعداء أو خصومة مهما كان مصدرها، بل تكون إلى ذلك كله مؤمنة كل الإيمان بما انتهت إليه من منزلة لا يسع كائناً ما كان أن يتجاهلها.
وسوف يكون من ديدن صحيفتي أن تفرغ وسعها في الحصول على الأخبار، وتعني بإذاعتها مبوبة منظمة، فتضع أهم الأخبار في صفحتها الأمامية كما يجب أن تكون، وسوف لا تتحرج أن تطبع عدة أعمدة متوالية (لقصة) واحدة مسلسلة، فهي ستنظر دائماً باحتقار لتلك الحيل المضيعة للوقت من التنقل بالقراء من صفحة لأخرى عن طريق وضع بداءات (القصص) المختلف على القمة من كل عمود.
وسوف لا تخدع قراءها بإقحام عنوان لا تعدو الحاجة إليه، أو ابتكار لا غنية فيه؛ واستعمال حروف الطبع المختلفة النوع والحجم استعمالاً طيباً دقيقاً من شأنه أن يهيئ للقراء الإلمام بما سطر في الصحيفة من غير أن يضيع عليهم شيئاً من الموضوع.
وسوف تتقدم صحيفتي (بالأخبار) الصالحة للنشر في وضوح تام وصراحة مطلقة، سواء
أنفقت هذه الأخبار مع (سياستها) أو لم تتفق، فستكون سياستها بحيث لا تعنى إلا بالحقائق وحدها فلا تخفف من أمر الأخبار أو تبالغ فيها، ولا تعلق عليها أو تؤولها لتتفق مع (سياستها)
وسوف تفسر الشك لصالح النشر في الحالات التي يتردد الصحفي فيها، فيرى أنه قد كون من صواب الرأي أن يمسك عن النشر.
وسوف لا تؤيد أية حكومة بالغة من السلطان والسطوة ما بلغت، أو تزكي أي سياسي كائناً من كان إلا لما تقتنع بصدقه من الأسباب العامة التي لا تخفيها عن الجماهير.
وسوف تكون خادمة وحده، ولصالح الشعب فقط، سوف تعترف بواجب الرعية نحو الحكومة، وتقر ولاء الشعب لأولياء أموره؛ وسوف لا تقود الشعب قيادة عمياء من طريق الزلفى إليه، فإذا هي تعامل جمهوراً وهمياً زاعمة أن القراء لا قبل لهم باحتمال القول الصريح والحقائق المرة؛ إذ من واجب الخادم الأمين أن يقول الحق لسيده.
وسوف تكون صحيفتي صحيفة قومية، لا صحيفة تعني بالروابط الجنسية والفوارق العنصرية؛ وسوف تطبع بطابع عام من سياسة الرجال الأحرار لا بطابع خاص بحزب الأحرار.
وسوف تجاهد في سبيل السلام الحقيقي من غير أن تنشده على ضوء النظريات السلمية التي تتجاوز طبائع الناس وطبيعة الحياة. فتكتشف الستار عن الأمور الجوهرية وتفصح عن المسائل التي تقتضيها ضرورة الحياة، تلك المسائل التي يكون من حق الأمم والرجال أن يحاربوا من أجلها حرباً لها ما يبررها ويزكيها، أو يموتوا في سبيلها موتاً شريفاً نبيلاً إن ضاقت بهم السبل، ولم يتيسر لهم طريق آخر يدعمون به حجتهم من الاحتفاظ بمقومات حياتهم؛ وسوف لا تقع صحيفتي أبداً في ذلك الخطأ الفاجع فيخيل لها أن اجتناب الاصطدام بين الأمم، وأن التوفيق بين المذاهب المتعارضة للشعوب المختلفة أمر ميسور، وهو خطأ اقترفوه عندما حسبوا أن اجتناب الحرب أمر ممكن ومرغوب فيه لذاته.
وسوف تكافح صحيفتي بكل ما وسعها من قوة ذلك النهج العدائي الخرق الماثل فيما يثور بين الأمم من جدل. ولكنها إلى ذلك ستذكر دائماً أن قلوب الرجال سوف لا تنصرف عن الحرب وما تنطوي عليه من روح الإقدام والمخاطرة انصرافاً أبدياً، ما لم يقدر للسلام أن
يطبع ما يكرسون له أنفسهم ويضحون في سبيله بأرواحهم بطابع يوجههم إلى أشياء أجل من الحرب شأناً وأنبل منها غاية.
وسوف تعمل صحيفتي على أن تثبت قواعد المودة بين الأمم، وتدأب على توثيق العلائق بين الشعوب، لا لبغية اجتناب الحرب فحسب، بل لتستعين بذلك في الدفاع عن الحرية الشخصية والحقوق الإنسانية، ولتشق طريقها إلى إنشاء التعاون الدولي. وسوف لا يقل نصيبها في ذلك عن تصيبها فيما ستضطلع به من تجنيد جميع طبقات الشعب فيما يتصل بالشئون القومية والاجتماعية، بغية النهوض بما يتطلبه صرح الجماعة من إنشاء وتجديد.
فهل يتاح لصحيفة كهذه، احكم صنعها من الناحية الفنية، وظفرت بما طمعت فيه من الثقة والتقدير، وسارعت بإذاعة الأخبار بما طمعت فيه من الثقة والتقدير، وسارعت بإذاعة الأخبار في إبانة وصدق، ووجهت ضرباتها القوية بحكمة وحزم غير أبهة بسلطان أو حافلة بمال، ثم تهيأ لها حظ موفور من القوة والنشاط ومجالدة الأعداء، أقول: هل يتيسر لصحيفة كهذه أن تطمع في انتشار واسع يجعلها تتحكم - ولا أقول تلتمس - في دخل كاف من أجور الإعلانان يهيئ لها موازنة ميزانيتها؟!
أغلب ظني أنه سوف يتاح لها ذلك كله متى ما توفر لها من الثروة في أوائل نشأتها (ما يثبت أقدامها) في ميدان الاختبار، إلى أن يتهيأ لها أن تكسب ثقة شعبها.
وقد تتهيأ الفرصة يوماً لرجل عبقري توفرت فيه مؤهلاته وكفايته ان يخرج للناس صحيفة من هذا القبيل. وآنئذ سوف نرى من نغمرهم الآن بمجاملاتنا من أصحاب الإعلان ومن المساهمين في الصحيفة الذين لا يأبهون إلا لما يخلص إلى جيوبهم من ربح ومن يتحرون بالتداول الصحفي، ولو كان تداولاً زائفاً مصطنعاً.
وقد سقط في أيديهم وتملكهم العجب مما تهيأ للصحفي المثالي من نجاح عظيم، وإلى أن يتاح لي تحقيق هذه الآمال المنشودة ستظل صحيفتي المثالية وهي في مملكة المثل الأعلى من عالم الخيال. وستظل الصحافة البريطانية - إذا قدر لها حقاً ألا تستعبد للحكام المستبدين - وهي تسير متثاقلة على نفسها في طريقها الذي تسلطه راحلة حيث لا تنفك بعيدة عن قمة لمجد الصحفي التي تتوق لها نفسي ويخفق بحبها قلب كل صحفي أصيل.
(المنصورة)
زين العابدين جمعة
مع الشمس الغاربة
للأستاذ م. دراج
واعجباً لهذا الفكر المضطرب! كلما تهيأت لأواجه موضوعاً خذلني وارتد القلم يترنح من عنف الصدمة، تاركاً وراءه خطوطاً مائلة منكسرة متعرجة - كتلك التي تجرها يد طفل عابث - هي كل ما أغنمه من أسلاب الفكر المهزوم!. . . حاولت ذلك مرة في الإسكندرية، وأخرى في دمياط، وثالثة في المحلة الكبرى، ومرة أخيرة هنا في القاهرة، ومع ذلك فشلت، وكان فشلي محزناً يدعو إلى الإشفاق. لم أدر لذلك سبباً، فأنا حين أكتب لا أحتاج إلى جو خاص، وليس ثمة ضجيج يمنعني عن الكتابة أو سكون يعينني عليها. ذلك لأني لا أغتصب الفكر شيئاً إلا إذا أحسست رغبة قوية عميقة حارة تدفعني إلى الإذعان له.
وهاأنذا أعود مرة أخرى إلى الإسكندرية لأحاول من جديد إخضاع الفكرة العصية المتمردة لعلها تلين وترضي. . . فهل من سبب لهذه الظاهرة؛ أجيبوا يا أصحاب الخبرة والتجارب؟
كنت أفكر في هذه المرحلة التاريخية التي كان من حظي أن أعيش فيها لأشاهد أعظم انفجار عالمي يوشك أن يزلزل رسوم الحياة، بما فيها من نظم وأخلاق، وعادات وأفكار، تتصل كلها لصميم الحضارة - حضارة القرن العشرين - تلك التي كلما فشلت في رسالتها، قذفت بالبشرية في جحيم باسم الحرية، ذلك الوهم المنحوس.
وكان هذا التفكير يجلو لعينيَّ غامضة، تسطع فجأة، ويتألق نورها، فأرى على وميضه بلاداً غنية التربة، تنتج من الغلال والحبوب فوق حاجتها فلا ترى مانعاً من أن تلقي بالفائض في البحر، كلما وجدت في هذا العمل الشائن ما يحفظ للسلعة سعرها العالمي المناسب. . . فهذه كميات عظيمة من الأذرة تروح (علفاً) للخيل، وتلك مقادير هائلة من ثمار (الموز) تبتلعها الأمواج، وأخرى من البن تلقى بين النيران المتأججة. ثم أشاهد أناساً يسكنون الأصقاع الشمالية ينتفضون من الجوع والبرد، يتضورون بين الدغال طلباً للخبز أو الدفء فلا يكادون يبلغونه إلا على سنان المخاطر. . . ثم أجدني قد انتقلت إلى سوق أخرى تزدحم فيها المصانع، وتتكدس الآلات والمنتجات، ويكثر التعطل والجوع والحرمان!! وتمر الأقطار أمام عيني مراً سريعاً، وكأني أشاهدها على الشاشة البيضاء.
فهذه رقاع من الأرض ضيقة الشقة قليلة الموارد صخرية التربة يتمتع أهلوها بأطايب الحضارة وملذاتها؛ وأخرى بلاد غنية تدر الذهب، وتخصب الشهد، ومع ذلك فهي فقيرة يعيش أهلوها جياعاً حفاة شبه عراة!! وثمة شعوب تابعة ومتبوعة. صور عجيبة متناقضة تنتظم سلك الحضارة، ومع ذلك يأسفون لوقوع الحرب! ويندبون حظ الحضارة الآفلة!!. . .
هذه هي الحياة كما رأيتها على وميض الفكر الواعي: خداع وطمع، وسيادة واستعباد، ترف وحرمان، ضحكات ودموع؛ وحشية عارية تستتر وراء الفكرة الخبيثة التي يسمونها بالحرية! فأنتفع من هذا كله بشيء واحد، برعت المدينة في إبداعه من حيث أخفقت في كل شيء. ذلك هو المظهر الخلاب على الجوهر الرخيص المبتذل. وكأن اللذين فتنتهم هذه المدينة نسوا أن الظاهر تعيش حيناً ثم يعروها التلف والفناء، أما الجوهر فيبقى دائماً كما هو. . .
كانت الشمس تحتضر عند حافة الأفق البعيد، لما أشرقت أفكاري بهذه الصورة الغاربة. وكنت قد أسلمت نفسي لصديقي أتبع خطواته كطفل وديع مطيع، لا أعترض ولا أستفسر عن شيء، حتى أستقر بنا المطاف على متكأ عند شاطئ البحر نشاهد هذا الصراع العنيف بين عناصر الطبيعة، وتتابع تطوراته باهتمام بالغ. فرأينا الشمس الغاربة مكفهرة الوجه، تسيل منها العبرات شعاعاً مخنوقاً يتساقط على مياه البحر، فيصبغها بلونه الأرجواني الحزين. وهناك في الجانب الآخر من الأفق، كانت طلائع الليل الزاحف تتواثب هنا وهناك ملقية ظلالها الكئيبة على الأحياء، والبحر واجم يتلقى أنفاس الشمس اللاهثة بحنان وصمت غريبين. أما الطيور فكانت جازعة، كأم روعها الخطر على وليدها، فهي تروح وتغدو مولولة صارخة تستنجد ولا مغيث! حتى إذا هجم الليل هجومه الأخير، ارتعش النور، واضطربت الشمس، ثم أسلمت نفسها للمغيب. . .
سقطت الشمس الغاربة في هوة المغيب، فأحسس برجة عنيفة تسلبني اليقظة، وتتركني إنساناً بلا وعي. كنت - في الحقيقة - جسماً ملقى على الجدار الصخري القائم عند التقاء اليابسة بالبحر، لا يحس ولا يتأثر بما حوله، فإن بدت منه التفاته إلى هنا أو هناك، فهي بلا شك نظرات لا معنى لها، كتلك التي تصدر عادة من ذوي الأفكار الشاردة. آه، لقد
عرفت الآن أن هذه الرجة التي أصابتني، لم تكن إلا وثبة من أفكاري لحقت بالشمس الغاربة في دنيا المغيب.
أين يذهب هذا النور؟ ولاذا تبدو عليه دلائل الإعياء كلما غرب أو أشرق؟ هذا كانت توسوس نفسي! فتبعث آخر شعاع ينفلت من يد الظلام، وانسللت وراءه أتجسس في دنيا المغيب عن أسرار هذا الكون العجيب. سمعت همساً يدور حول جريحة تنزف الدماء منها بغزارة، وليس في وسع أحد أن ينقذها من الخطر.
هم يقولون: إنها ظالمة لنفسها، وليس ثم من يستطيع علاجها إذا كانت أظافرها هي سبب بلائها! وفجأة، رأيت لهيباً يندلع في الجو، وسحباً داكنة تنعقد في سمائه، ومياهاً باردة ترتطم بوجهي، فأصحو من غشيتي لأسمع زئير البحر الهائج، وقد تدافعت أمواجه وتلاطمت، وقذفت وجهي برشاشها المتطاير. ثم أسمع دوياً هائلاً يهز الأرض هزاً عنيفاً يعقبه طلقات سريعة متتابعة تندفع إلى السماء مزمجرة صاخبة، فأطلع بوجهي إلى حيث استقرت في كبد الظلمة فأرى خطوطاً من النور تمتد وتتطاول، ثم تتحرك في سرعة خاطفة، والأشباح تهوم في الفضاء، والريح البادرة تعصف بشدة، فأدرك في الحال من تكون تلك الجريحة التي كانوا يتهامسون عنها في دنيا المغيب! وأعلم أنها (الإنسانية) التي طعنت نفسها بسلاح الطمع وأضرمت في جسمها نار الحرب!
أما النور الذي يبدو عليه الإعياء كلما غرب أو أشرق! فهو الحرية التي يتعلل بها المجرمون في دنيا الوحشية والطغيان!
وهنا هتف صديقي قائلاً: لقد غربت الشمس، وأسدل الليل ستاره الأخير! فزدت، وانقضت الحرب بصواعقها، وما تدري متى ترفع نقمتها عن العالمين.
م. دراج
22 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل السادس - عادتهم
لا يصعب على من اختلط بمجتمع الرجال المسلمين في القاهرة - كما قد يتصور الأجنبي - أن ينال من غير زواج أدق المعلومات الكثيرة عن شئون النساء وعاداتهن؛ فأغلب رجال الطبقة الوسطى المتزوجين والقليل من الطبقة العليا يتحدثون طوعاً عن مسائل الحريم إلى من يصرح لهم باستحسانه آراءهم في الأخلاق.
ولا تعتبر الزوجة - على العموم - معتقلة في الحريم، لأنها تكاد تكون مطلقة الإرادة في الخروج، وزيارة الصديقات، واستقبال الضيفات؛ ولا جرم أنه ليس للجواري هذا الاختيار، إذ هن سواء خضعن للزوجة كما يخضعن للسيد، أو للسيد فقط، تحت سلطة لا حد لها تقريباً. ومن أهم ما يرمى إليه رب الدار بتخصيص حريم منفصل أن يتلاقى رؤية الخدم وغيرهم من الرجال لنسائه دون نقاب كما ينص الدين. وتبين الآية التالية أنه يجب على المسلمة أن تخفى عن الرجال، خلا بعض الأقارب وغيرهم، ما يلفتهم إلى شخصها أو زينتها:(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن. . .)؛ ويشير النص الأخير إلى عادة رن (الخلخال) الذي يستعمله نساء العرب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يزال المصريات يتحلين به.
ويجب عليَّ أن أذكر هنا تعليقين فاضلين مدرجين في ترجمة سيل للقرآن توضيحاً للآية السابقة، حتى لا تؤديا إلى فهم العادات المتأخرة الخاصة بدخول الحريم أو عدمه فهما خطأ.
والتعليق الأول خاص بكلمة (أو نسائهن) وقد شرحت كما يلي: (أي المسلمات، ويرى البعض أن سفور المؤمنة أمام الكافرة مخالف للشرع أو للحشمة على الأقل، إذ لن تعف الكافرة عن وصفها للرجال. ويفترض الآخرون أن هذا الاستثناء يشمل النساء جميعهن على العموم، وتختلف آراء العلماء في هذا الموضوع). ولا يعتبر الآن - في مصر وفي كل بلد إسلامي آخر على ما أعتقد - دخول امرأة من أي طبقة أو من أي دين حريم المسلم أمراً مخالفاً.
ويتعلق الشرح الآخر بجملة (ما ملكت أيمانهن): (يشمل هذا الاستثناء جميع الأرقاء من الجنسين، وكما يرى البعض الخدم غير الأرقاء مثل هؤلاء المنتمين إلى شعب آخر. ويروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أهدى مرة إلى ابنته فاطمة عبداً، وعندما أحضره أمامها لم تكن متدثرة بثوب ضاف، فكان لابد أن تترك رأسها أو قدمها مكشوفاً؛ فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم حينما لحظ ارتباكها: أن لا تهتم، لأنها ليست في حضرة أحد غير أبيها وعبدها). وقد يكون الحال كذلك اليوم عند عرب الصحراء، ولكن لم يبلغني قط أنه يسمح للعبد البالغ في مصر أن يرى حريم رجل فاضل سواء كان العبد في خدمة الحريم أو لا. وقد أكد لي أنه لا يسمح بذلك أبداً. وقد يكون سبب منح القرآن عبد المرأة هذا الامتياز استحالة الزواج به ما دام عبداً لها؛ ولكن ليس هذا موجباً لمنحه حق الدخول إلى الحريم في مثل هذا المتجمع. ومما يستحق الاعتبار أن الآية السابقة لم تمنح الأعمام حق رؤية بنات الأخ أو الأخت مكشوفات الوجه. ويرى البعض أنهم ليسوا أهلاً لذلك خشية أن يصفوهن إلى أبنائهم، ولا يليق بالرجل أن يصف سحنة امرأة أو شخصها، (كأن يقول أن لها عينين نجلاوين وأنفاً مستقيماً وفماً صغيراً الخ) إلى من تحرم عليه رؤيتها. ولا عيب في وصف المرأة وصفاً عاماً مثل قولك:(إنها فتاة لطيفة مكحلة بالكحل ومخضبة بالحناء)
ولا يسمح للرجل عامة أن يرى غير زوجاته وجواريه ومن حرمن عليه لقرابة أو رضاعة بدون نقاب. وقد أشرت في الفصل الأول إلى قدم عهد النقاب، كما ذكرنا أيضاً أن المصريات يعتبرن تغطية أعلى الرأس ومؤخره ألزم من تغطية الوجه، وحجب الوجه أهم من حجب أغلب أجزاء الجسم الأخرى. فالمرأة التي لا يمكن حملها على كشف وجهها أمام
رجل قد لا تخجل من الكشف عن صدرها أو ساقها. وهناك حقيقة كثيرات من الطبقة السفلى يظهرن دائماً سافرات أمام العامة، ولكنهن مدفوعات إلى ذلك لفقرهن ولصعوبة إحكام الطرحة - التي يندر أن تتجرد منها امرأة - فوق الرأس لتحل محل البرقع؛ وخاصة إذا شغلت كلتا اليدين في تثبيت ما يحملن من الأثقال. وتسرع المرأة الجليلة عندما يصادفها رجل
- مكشوفة الوجه أو الرأس - بلبس الطرحة أو أحكام وضعها؛ وكثيراً ما تصيح: (يا دهوتي! أو يا ندامتي!). ولكن كثيراً ما يدفع الدلال المرأة المصرية إلى كشف وجهها أمام الرجل متظاهرة أنها فعلت ذلك عفواً أو ظنت أنها لا تراه. وقد ينعم الرجل أيضاً برؤية وجه سيدة مصرية أحياناً - بينما هي تعتقد حقاً أنها بعيدة عن الأنظار - من شباك مفتوح أو فوق سطح. ويوجد في القاهرة منازل صغيرة ليس لها غرف سفلى لاستقبال الضيوف من الرجال فيصعد هؤلاء إلى الدور الأعلى صائحين مراراً: (دستور! يا ساتر!)، أو ما شابه ذلك لينبهوا من يصادفون من النساء في الطريق لينسحبن أو يحتجبن، فتسحب المرأة فضلة من طرحتها أمام وجهها إلا عيناً واحدة. ويصل شعور المسلمين بحرمة النساء إلى درجة غريبة، حتى أنه يحرم على الرجال دخول قبور بعض النساء؛ فلا يسمح مثلاً لغير النساء بزيارة زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرهن من أسرته في مدافن المدينة. ولا يدفن الرجل والمرأة في قبر واحد أبداً إلا إذا فصل بين الجثتين حائط. ويوجد مع ذلك من لا يهتم كثيراً بهذا الأمر وإن قل عددهم. ولي صديق مسلم من هؤلاء يسمح لي على العموم أن أرى أمه عندما أذهب لزيارته. وأمه أرملة في الخمسين من عمرها تقريباً، ولكن ضخامة بدنها ودلالة سيماها على عدم الكبر يجعلانها في سن الأربعين. وتقبل عادة إلى باب غرفة الحريم حيث أُستقبل لخلو المنزل من غرف سفلى للاستقبال، وتجلس هناك على الأرض، ولكنها لا تدخل الغرفة أبداً. وقد تكشف أحياناً وجهها تماماً كما لو كان الأمر عرضياً، فتبدو عيناها وقد أحاط بها الكحل الكثير، كما أنها لا تحاول أن تخفي حليها الماسية والزمردية وغيرها، بل على العكس من ذلك تحاول إبرازها. ولم يسمح لي صديقي برؤية زوجته أبداً مع أنه أذن لي بمحادثتها مرة في حضوره خلف زاوية في ممر أعلى السلم.
وأعتقد أن نساء مصر لا يضيق عليهن بالشدة المشاهدة في البلاد الأخرى الخاضعة للباب العالي؛ ولذلك ليس من غير المعتاد أن ترى نساء الأوشاب يتدللن ويمزحن مع الرجال علناً، والرجال يضعون أيديهم عليهن دون حرج. وقد يُظَن أن نساء الطبقتين العليا والوسطى يشعرن بالجور والتعاسة في عزلتهن، ولكن ليس هذا هو الحال عادة، بل على العكس نلاحظ أن الزوجة المصرية التي تتعلق بزوجها قد تظن، إذا أطلق لها زوجها الحرية أنه يهملها ولا يحبها كثيراً، وتحسد أولئك اللاتي يخضعن للرقابة الدقيقة.
وليس من المألوف أن يتزوج المصري بأكثر من امرأة، أو يتسرى بأكثر من جارية، مع أن الشرع يبيح له أربع زوجات كما أشرت قبلاً؛ والتسري، طبقاً للرأي الغالب، حسب رغبته. إلا أن الرجل وإن اقتصر على زوجة واحدة يمكنه أن يبدل كيفما شاء. ويقيناً ليس هناك كثيرون في القاهرة لم يطلقوا امرأة إذا طال أمد الزواج. ويستطيع الزوج أن يطلق زوجه وقتما يريد بقوله:(أنت طالقة). فإذا استقرت إرادته على ذلك عن صواب أو عن غير صواب، وجب على المرأة أن تعود إلى أهلها أو صديقاتها. وتعرض المرأة لطلاق لا تستحقه مصدر لأحزان وقلق اشد مما تتعرض له من أي اضطراب آخر. وقد تصبح لذلك في حالة عوز شديد. وهذا التعرض يبدو طبعاً على العكس تماماً لأولئك اللاتي يأملن تحسين حالتهن. ويستطيع الرجل أن يطلق زوجه مرة أو مرتين ويردها إليه في كل مرة من غير حفل. ولكنه لا يستطيع أن يردها شرعاً في المرة الثالثة قبل أن تتزوج رجلاً آخر وتطلق منه، وهذا بعينه نتيجة الطلاق ثلاثاُ المعبر عنه في جملة واحدة:(أنت طالقة بالثلاثة). ولكن قد يتفق الرجل والمرأة على مخالفة الشرع، أو ينكر الرجل أنه أوقع يمين الطلاق. وتجد المرأة في الحالة الأخيرة صعوبة كبيرة في تنفيذ الطلاق قانوناً إذا أرادت ذلك.
وأذكر لتوضيح هذا الموضوع قضية أدخل فيها أحد معارفي شاهداً على يمين الطلاق. فقد كان جالساً في مقهى مع رجلين آخرين كان أحدهما قد غضب على امرأته لشي قالته أو فعلته. وأرسل هذا بعد حديث قصير في هذا الأمر يدعو زوجه التي أوقع عليها يمين الطلاق ثلاثاً وأشهد زميليه على ذلك. ولكنه سرعان ما ندم على فعله وأراد أن يعيد مطلقته، فرفضت العودة إليه ولجأت إلى (شرع الله) فقدمت القضية إلى المحكمة وقررت
المدعية أن المدعي عليه أوقع الطلاق ثلاثاً ويريد الآن ردها إليه لتعيش معه كزوجة على خلاف الشرع. وأنكر المدعي عليه الطلاق؛ فسأل القاضي المدعية: (هل لديك شهود) فأجابته (عندي شاهدان)، وكانا هما الرجلين اللذين شاهدا الحادث في المقهى. فقررا أن المدعي عليه طلق امرأته ثلاثاً في حضرتهما. فأكد المدعي عليه أن التي طلقها في المقهى كانت امرأة أخرى، ولكن المدعية نفت وجود زوجة أخرى. فلفت القاضي نظرها إلى استحالة معرفتها ذلك، وسأل الشاهدين عن اسم المرأة التي طلقها الرجل أثناء وجودهما، فأجابا أنهما يجهلان اسمها. فطلب منهما أن يقسما إذا استطاعا أن المدعية هي المرأة المطلقة أمامهما. فأجابا أنهما لا يستطيعان ذلك لأنهما لم يريا المرأة سافرة أبداً. فرأى القاضي إزاء ذلك أن يرفض الدعوى. وأجبرت المرأة على العودة إلى منزل زوجها. كانت تستطيع أن تطلب حضور المرأة التي اعترف الرجل بتطليقها في المقهى، ولكن كان من السهل أن يحضر امرأة تقوم بالدور المطلوب ما دام لا يطلب منها وثيقة الزواج. وفي مصر يعقد الزواج دائماً من غير كتابة، ومن غير شهادة أحياناً.
عدلي طاهر نور
بنى وطني.
. .
لشاعر العراق الأستاذ معروف الرصافي
بنى وطني ماذا أُؤمِّل بعد ما
…
تفشَّت سعاياتٌ لكم بالتجسسِ
أقول لن قد لامني في تَشدُّدي
…
على كل تدليسٍ أتى من مدلِّس
لو أسودَّ وجه المرء من قبح فِعله
…
لما كنت تلقى عندنا غير مُدفِس
ولو نال بالإخلاص مثرٍ تراءهُ
…
لما كنت تلقي بيننا غير مفلس
نحاول عزَّا بابتذال نفوسنا
…
فنشري خسيساً بالثمين المقدس
ومن جهلنا استكراهُنا في معاشنا
…
شقاءً نزيهاً للنعيم المدنَّس
سأرحل عنكم للذي قد أقامني
…
على موحشٍ من أمركم غير مؤنس
أبَيْتُ لنفسي أن تحلَّ مكانةً
…
من العيش إلا فوق عز مؤسس
ولو أنَّ هذا الصبح كان انبلاجُهُ
…
بغير شروق الشمس لم يتنفَّس
فلا أبتغي بالذل عيشاُ مرفَّها
…
ولو عشت في العُزَّى بقولٍ مُدمَّس
وما أنا كابن العبد إذ عانق الردى
…
لِجَدْوَى أَبَتْهَا رغبة المتلمِّس
إذا ابتسمت لي عفتي ونزاهتي
…
فلست أبالي بالزمان المعبّس
أقابل أخلاق الرجال بمثلها
…
وأعرف منهم وجهها بالتفرس
فأعنو لمن يعنو وأقسو لمن قسا
…
واظهر كالغطريس للمتغطرس
ولست أُجازِي المعتدي باعتدائه
…
ولكن بصفح القادر المتحمس
وما أنا من أهل الدعارة والخنا
…
ولا من أولى حمل السلاح المسدّس
ولكنَّ لي فيكم يراعاً إذا شدا
…
أتاكم بكافٍ من عُلاه ومُخرِس
وما خالق الأكوان إلا مهندس
…
وإن جل عن تعريفه بالمهندس
تجلّى على أكوانه بصفاته
…
وأغلس فيهم كُنهُهُ كل مُغلَس
وأقبسهم نوراً شديداً جلاؤه
…
فساروا به كالعُمى في كل حِندس
وألبسهم حمر الغرائز فاغتنوا
…
بحمرتها عن كل ثوب مورَّس
وما مُقبِس عند النهي غير قابس
…
ولا لابس عند النهي غير مُلبس
فأيَّان جال الطرف لم ير غيره
…
إذا كان في ألحاظه غير مُبلِس
حقيقة مخلوقاته لم تكن سوى
…
حقيقة دع عنك حدس المحدّس
ألا إنني للكائنات موحّد
…
ولو أرغمت كل المذاهب معطسى
معروف الرصافي
الأسطول البريطاني
للأستاذ عبد اللطيف النشار
تَخَيَلها ولم يرها جرير
…
وزان خياله لفظٌ نضيد
فقال كأنه يصف الجواري
…
ونبصرهن نحن فما نزيد
(وسُخِّرت الجبالُ وكنَّ خُرساً
…
يُقطَّعُ من مناكبها الحديد)
ترى أي السفائن كان يعني
…
ألم يطلع على الدنيا جديد؟
وهل شهد القدامى ما شهدنا
…
وشق بحارَهم جبل صلود
تمنى شاعر ضخَم الأماني
…
فحققت الذرارى ما يريد
وما كنا لنشهد ما نراه
…
إذا حُرمت من الشعر الجدود
حياة الحالمين بلا قيود
…
فمن أحلامهم كان الجديد
وهل يعني الطوائرَ أم سواها
…
جريرٌ والقصيد هو القصيد
يقول وقوله أبداً غريب:
…
أما حَدَّث منازعه الحدود؟
(تصَّيدن القلوب بنبل جن
…
ونرمي بعضهن فما نصيد)
هل امتدت نُبوءته إلينا
…
لعمري إنه نظرٌ بعيد
فقال وليل مصر كما نراه
…
وقد شملت إضاءتها القيود
(نظرنا نار جعدةَ هل نراها
…
أبُعدٌ غال ضوءك أم همود)
أطلتُ أطلتُ لا أعني جريراً
…
وضلَّل منْطقي فكرٌ شرود
أرى الأسطول أم أهرام مصر
…
ولكن أم (خفرعه) ولود
أرى الأهرامَ فوق الماء تجري
…
لماذا ذلك العدد العديد
وعند ذويه لو شاءوا مزيد
…
لعمري إنه شعب سعيد
أرى الأسطول عند جدار داري
…
ألا شعرٌ لديَّ؟ ألا نشيد
وأبغضُ ما تكون الحرب عندي
…
ولكن كيف عن وطني أذود
أُحب سكينة الراضي بحال
…
فهل ترضى عن الراضي الحُقْود
فأفٍ للسكينة حيث كانت
…
هي الذلُّ المهين، هي الجمود
على الكأس السلام فقد تولت
…
محبتها وقد صدق الوعيد
وأنظر لا أرى إلا سفيناً
…
وإلا البحر تحميه الأسود
ضراغم من أراهم أم جنود
…
وطارفهم أجل أم التليد
وما الماضي بمنسيٍّ ولكن
…
مضى الماضي وليس له معيد
ونحن ونبتنا البردي ادري
…
بما تعنى المواثق والعهود
سبقنا بالكتابة كل شعب
…
ولسنا عن مواثقنا نحيد
وتعجبني الروائع إذ أراها
…
وصاحبها هو الخصم اللدود
بلادي ما أعزك يا بلادي
…
أمالك عن مسالمة محيد
أمالك مثل ما لهمو سفين
…
ولا في الجو أجنحة ترود
أرى الذهب الحبيب إلى أناس
…
بغيضاً والحبيبُ هو الحديد
فليت جدودنا كانوا قيوناً
…
فيحمي مُلكَنا ركن شديد
فَرِحتُ بقصة وببيت شعر
…
ويحميني المحالف والعقيد
وعندي ما أقول وعند غيري
…
ولكني سكتُّ فما أزيد
عبد اللطيف النشار
البريد الأدبي
قرار لجنة كبار العلماء وبرنامج الإصلاح
يعرف القراء أن جماعة كبار العلماء قد قررت في جلستها الأخيرة تأليف لجنة برياسة حضرة صاحب الفضيلة المفتى الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم لبحث المقترحات الهامة التي رفعت إليها من بعض حضرات أعضائها.
وقد عقدت اللجنة عدة جلسات لهذا الغرض، وتلقت في إحدى هذه الجلسات كتاباً مرسلاً إلى فضيلة الأستاذ الأكبر من الأستاذ الشيخ حسن البنا يقترح أن تقوم جماعة كبار العلماء بإنشاء معجم جامع للحديث يضم شتات كل الأحاديث المحتج بها الخ.
وبعد بحث هذه المقترحات بما فيها هذا المقترح الأخير رأت اللجنة أن تقوم جماعة كبار العلماء بما يأتي:
أولاً:
(أ) إيضاح ما قد يخفى من أصول الدين
(ب) بيان ما هو بدعة وما ليس بدعة
(ج) بيان أحكام الشريعة في المعاملات التي جدت وتجد.
(د) الإفتاء فيما يرى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر أخذ رأي جماعة كبار العلماء فيه.
ثانياً:
(أ) وضع مؤلفين يجمع أحدهما تفسير القرآن تفسيراً سهل التناول يوافق أصول الدين وقواعد اللغة العربية، مع التنبيه على ما في كتب التفسير المتداولة من الإسرائيليات والآراء التي لا تتفق وأصول الدين العامة وقواعد اللغة؛ ويجمع الآخر الأحاديث التي تصلح للاحتجاج والتي لا تصلح مع بيان درجاتها المختلفة.
(ب) التنقيب عن الكتب الإسلامية التي يعظم نفعها في مختلف العلوم، والعمل على إخراجها اخرجاً صحيحاً متقناً
ثالثاً: إنشاء مكتب علمي يعهد إليه بتنفيذ هذه المقترحات، ويكون من اختصاصه بحث ما يقدم إليه من المؤلفات التي يقوم بها علماء الأزهر وغيرهم في العلوم الدينية والعربية
وسائر العلوم التي تدرس في الأزهر وكلياته، وتقدير قيم هذه المؤلفات والعمل على نشر النافع منها ومكافأة أصحابها، ليكون ذلك مدعاة إلى تنشيط الإنتاج العلمي.
وتقترح اللجنة أن يكون هذا المكتب برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وعضوية عشرة من أعضاء الجماعة - ذكرتهم اللجنة في تقريرها - على أن يستعين المكتب بمن يختار من علماء الأزهر وغيرهم.
وقد اقترحت اللجنة على فضيلة الأستاذ الأكبر إلى جانب ذلك:
أولاً: أن تشرف جماعة كبار العلماء بواسطة لجنة منها على مجلة الأزهر، ليكون ذلك وسيلة ناجحة إلى تنفيذ معظم هذه المقترحات، وليكون ما ينشر في المجلة التي يصدرها الأزهر متفقاً وما يبتغي العالم الإسلامي لهذه المجلة من علو المكانة ورفعة الشأن.
ثانياً: أن يعمل فضيلة الأستاذ الأكبر على تأليف لجنة يمثل فيها الأزهر، ووزارة الأوقاف، ووزارة الشئون الاجتماعية، ومشيخة الطرق الصوفية، تكون مهمتها وضع الخطط النافعة في الوعظ والإرشاد واتخاذ ما يلزم لتعميم النفع به من إلقاء خطب أو إذاعات أو طبع رسائل توزع بالمجان على الناس، وغير ذلك مما تراه نافعاً في تقويم الخلق وإصلاح المجتمع.
هذا هو ما رأته اللجنة في شأن المقترحات وطرق تنفيذها، وقد رفعت تقريرها بذلك - قبيل عيد الأضحى - إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر، ليتخذ ما يرى في سبيل عرضه على الجماعة تمهيداً لإقراره وتنفيذه.
وبهذا أصبح برنامج الإصلاح في كفالة الأستاذ الأكبر المراغي رجل الإصلاح.
إلى الأستاذ محمود عزت عرفة
عفا الله عني نضو نُعمي وأبؤس
…
تمتع حيناً ثم أضناه ما يضني
لحنتُ وأنحلتُ امرأً غير شعره
…
وحرَّفت ما أروى فويليَ من سني
وما كنت شيئاً من أولئك أتقي
…
ولا خلت أن الشيب من صفة الجن
ويأبى وفائي أن أغالط محسناً
…
أأُهدّى إلى وجه الصواب ولا أثنى
فقل للوليد البحتري وصنوه
…
حبيب بن أوس ما جنيت ولا أجني
هما الخمر والماء الطهور وأنملي
…
معودة مزج السلافة في الدن
لك الحمد يا محمود من ذي مروءة
…
يرى الشكر فرضاً والجحود من الجبن
عبد اللطيف النشار
بين صبري وابن دريد
شهد الأديب الفاضل حسين محمود البشبيشي على الشاعر إسماعيل صبري باشا بسرقة بيتيْ شعر وردا في ديوانه، إذ رآهما في مقال للشاعر محرم منسوبين إلى صاحب المقصورة الدريدية
والبيتان اللذان في الديوان هما:
إن الذي أبقيتَ في مهجتي
…
يا متلف الصب ولم يشعرِ
حشاشة لو أنها قطرة
…
تجول في عينيك لم تُنظرِ
وفي مقال الشاعر محرم وردا بتحريف بسيط فكانا هكذا:
إن الذي أبقيت في (جسمه)
…
يا متلف الصب ولم يشعر
(صُبابة) لو أنها قطرة
…
تجول جفنيك لم (تقطر)
قلت: إنها شهادة لعمر الحق جائرة. فما كان لشاعر كإسماعيل صبري سما في شاعريته البارعة إلى أعلى مراتب الشعر الغنائي أن يسف هذا الإسفاف الفاضح المعيب، فيعزو إلى نفسه قول غيره. ونحن إذا علمنا كيف جمعت مقطوعات الديوان من هنا وهناك بعد وفاة الشاعر بأعوام طويلة. ظهرت لنا براءته مما وصم به. ففي كلمة الأستاذ أحمد الزين في الديوان نرى أن صهر الشاعر صاحب العزة حسن رفعت بك قد حمل على عاتقه عبء جمع الديوان وهو عبء يجهد لقلة ما كان الشاعر يعني بجمع شعره وترتيبه. يقول الأستاذ أحمد الزين إن صهر الشاعر جمع مقطوعات الديوان من بطون الصحف التي بعد بها العهد ومن أفواه الرواة المعاصرين له والمتصلين به فكان لا يسمع بإنسان جالس إسماعيل صبري إلا زاره وكتب عنه ما يحفظه من شعره - أنظر الديوان صفحة 41 - ومن المرجح عندي فيما يختص بهذين البيتين أن يكون هناك مَن ضمه مجلس بإسماعيل صبري وسمعه ينشدهما فظنهما له ورواهما لصهر الشاعر على حسب هذا الظن. وهب أن البيتين وجدا مكتوبين بخط الشاعر فليس بعجيب أن يكتب الإنسان في أوراقه شعراً
أعجبه، ولكنه سهو تقع تبعته على الذين أشرفوا على جمع الديوان. وقل مثل ذلك في الأبيات التي وردت في وصف النيل على أنها لإسماعيل صبري وهي لابن الخروف أبى الحسن الأشبيلي من شعراء القرن السادس. ومما يجعلني أقطع في براءة إسماعيل صبري هو أن هاتين المقطوعتين وردتا في الديوان دون أن تشتملا على شهادة بنسبتهما إلى الشاعر كما نرى في بقية أشعار الديوان.
بقيت هنالك مسألة التحريف اللفظي، ولعل الأديب الفاضل يراها مما يقوى زعمه، إذ يعد هذا التحريف تغييراً من إسماعيل صبري لكي يموه على الناس، ولكنه تغيير لم يوفق فيه، على رأى الأديب. والذي أراه أن هذا التغيير الذي لم يمس جوهر ذيتك البيتين الرائعين ما هو إلا تحريف لفظي كثيراً ما يقع في الشعر القديم. فبينما أنت تقرأ في كتاب الأغاني مثلاً تراه بعينه في كتاب آخر، ولكنه محرف بعض الألفاظ، ومثل هذا كثير. فلعل الكتاب الذي وعى منه إسماعيل صبري هذين البيتين هو غير الكتاب الذي أخذهما منه الشاعر محرم منسوبين إلى أبي بكر ابن دريد، ومن هنا حصل هذا التغيير الذي جعل الأديب حسين محمود البشبيشي يشهد هذه الشهادة الجائرة على الشاعر رحمه الله.
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان
القصص
بدلة الأسير
للأستاذ نجيب محفوظ
كان (جحشة) بائع السجائر أول السابقين إلى محطة الزقازيق حين اقترب ميعاد قدوم القطار وكان يعد المحطة بحق سوقه النافقة، فيمضى على الإقريز في نشاط منقطع النظير يتصيد الزبائن بعينيه الصغيرتين الخبيرتين. ولعل (جحشة) لو سئل عن مهنته للعنها شر لعنة. لأنه كغالبية الناس برم بحياته، ساخط على حظه. ولعله لو ملك حرية الاختيار لآثر أن يكون سائق سيارة أحد الأعيان، فيرتدي لباس الأفندية، ويأكل من طعام ألبك، ويرافقه إلى الأماكن المختارة في الصيف والشتاء، مؤثراً من أعمال الكفاح في سبيل القوت ما هو أدنى إلى التسلية والملهاة. على أنه كانت له أسبابه الخاصة ودواعيه الخفية لإيثار هذا العمل وتمنيه من يوم أن رأى الغر - سائق أحد الأعيان - يتعرض للفتاة نبوية خادم المأمور في الطريق ويغازلها بجسارة وثقة، بل سمعه مرة يقول لها وهو يفرك يديه حبوراً:(سآتي قريباً ومعي الخاتم) ورأى الفتاة تبتسم في دلال وترفع طرف الملاءة عن رأسها كأنها تسويها، والحقيقة أنها أرادت أن تبدي عن شعرها الفاحم المدهون بالزيت. . . رأى ذلك فالتهب قلبه وأحس الغيرة تنهشه نهشاً موجعاً. وكان به من عينيها السوداوين أوجاع وأمراض. وكان يتبعها عن كثب ويقطع عليها السبيل في الذهاب والإياب، حتى إذا حلا بها في عطفة أعاد على أذنيها ما قاله لها الغر:(سآتي قريباً ومعي الخاتم)، ولكنها لوت عنه رأسها وقطبت جبينها وقالت له باحتقار:(هات لك قبقاب أحسن). فنظر إلى قدميه الغليظتين كأنهما بطنا بخفي جمل، وجلبابه القدر، وطاقيته المعفرة وقال:(هذا سبب شقائي وأفول نجمي). ونفس على (الغر) عمله وتمناه. . . على أن آماله لم تقطعه عن مهنته، فثابر على كده قانعاُ من آماله بالأحلام. وقصد في ذلك الأصيل إلى محطة الزقازيق يحمل صندوقه وينتظر القطار القادم.
ونظر إلى الأفق فرأى القطار قادماً من بعد كأنه سحابة دخان، وما زال يدنو ويقترب وتتميز أجزاءه ويتصاعد ضجيجه حتى وقف على أفريز المحطة. . . وهرع (جحشة) إلى العربات المتراصة، فرأى - لدهشته - على الأبواب حراساً مسلحين، ووجوهاً غريبة تطل
من النوافذ بأعين ذاهلة منكسرة. وتساءل الخلق: فقيل لهم بأن هؤلاء أسرى الإيطاليين الذين تساقطوا بين أيدي عدوهم بغير حساب. وإنهم يساقون الآن إلى المعتقلات.
فوقف (جحشة) متحيراً يقلب عينيه في الوجوه المغبرة؛ ثم أدركته الكآبة لأنه أيقن أن تلك الوجوه المغبرة؛ ثم أدركته الكآبة لأنه أيقن أن تلك الوجوه الشاحبة الغارقة في البؤس والفقر لن يكون في وسعها إشباع نهمها من سجائره. . . ووجدهم يلتهمون صندوقه بشراهة وجوع فألقى عليهم نظرة سخط واحتقار وهمّ أن يوليهم ظهره ويعود من حيث أتى. ولكنه سمع صوتاً يصيح به العربية بلهجة إفرنجية قائلاً (سجائر) فحدجه بنظرة دهشة وريبة ثم فرك سبابته بإبهامه: أي تقود. ففهم الجندي وأومأ له برأسه فاقترب محاذراً ووقف على بعد لا تبلغه يد الجندي. فخلع الجندي جاكتته بهدوء وقال له وهو يلوح بها: (هذه نقودي) فتعجب جحشة وتفرس في الجاكتة الرمادية ذات الأزرار الصفراء بين الدهشة والطمع. ووجب قلبه، ولكنه لم يكن ساذجاً أو مغفلاً، فأخفى ما قام بنفسه أن يقع فريسة جشع الإيطالي، وأبرز في هدوء ظاهري علبة سجائر، ومد يده ليأخذ الجاكتة. فقطب الجندي جبينه وصاح به (علبة واحدة بجاكتة؟. . . هات عشرا) فذعر جحشة وتراجع إلى الوراء، وقد غاض طعمه، وأوشك أن يأخذ في غير السبيل. فصاح به الجندي (أعطني عدداً مناسباً. . . تسعاُ. . . أو ثمانيا) فهز الشاب رأسه بعناد. فقال الجندي:(إذاً سبعا. . .) ولكنه هز رأسه كما فعل في الأولى، وتظاهر بأنه يعتزم المسير فقنع الجندي بست ثم هبط إلى خمس. فلوح جحشة بيده متظاهراُ باليأس، وتراجع إلى المقعد وجلس، فصاح به الجند المجنون:(تعال. . . رضيت بأربع. . .) فلم يلق إليه بالاً؛ وليدله على عدم اكتراثه أشعل سيجارة ومضى يدخن في تلذذ وهدوء. فثارت ثائرة الجندي وأهاجه الغضب، وبدا وكان ليس له غاية في الوجود سوى الاستيلاء على سجائر، فهبط بطلبه إلى ثلاث ثم إلى اثنتين. ولبث جحشة جالساً يغالب اضطرام عواطفه وأوجاع طعمه ولما نزل الجندي إلى اثنتين أبدى حركة بغير حركة إرادة رآها الجندي. فقال له وهو يمد بالجاكتة:(هات) فلم ير بداً من النهوض ودنا من القطار حتى أخذ الجاكتة، وأعطى الجندي العلبتين. وتفرس الجاكتة بعين جذلة راضية، وقد لاحت على شفتيه ابتسامة ظفر. ووضع الصندوق على المقعد وارتدى الجاكتة، وزرها. فبدت فضفاضة ولكنه لم يعن بذلك وتاه عجباً وسروراً واسترد
صندوقه. وأخذ يقطع الإفريز فخوراً طروباً. وارتسمت لعينيه صورة نبوية في ملاءتها اللف فقال متمتماً: لو تراني الآن! نعم لن تتجافاني بعد اليوم ولن تلوي وجهها عن احتقاراً. ولن بجد الغر ما يفخر به علي. ولكنه ذكر أن الغر يرتدي بذلة كاملة لا جاكتة مفردة فكيف السبيل إلى البنطلون. وفكر ملياً. وألقى على رؤوس الأسرى المطلة من نوافذ القطار نظرة ذات معنى. ولعب الطمع بقلبه من جديد فاضطربت نفسه بعد أن أوشكت أن تستقر. ودلف إلي القطار ونادى بجرأة: (سجائر. سجائر. العلبة بمنطلون لمن ليس معه نقود. العلبة بمنطلون) وأعاد نداءه مثنى وثلاثاً، وخشي أن يغيب عن الإفهام مقصده فمضى يومئ إلى الجاكتة التي يرتديها ويلوح بعلبة سجائر. ولكنه إيمائه الأثر المرجو فلم يتردد جندي أن يهم بخلع جاكتته ولكنه سارع نحوه وأومأ إليه أن يتمهل، ثم أشار إلى بنطلونه يعني أن ذلك بغيته؛ وهز الجندي منكبيه باستهانة وخلع البنطلون وتم التبادل. وقبضت يد جحشة على البنطلون بقوة يكاد أن يطير من الفرح، وتقهقهر إلى مكانه الأول وأخذ يرتدي البنطلون وانتهى في اقل من دقيقة فصار جندياً إيطالياً كاملاً. . . ترى هل ينقصه شيء؟. . . المؤسف حقاً أن هؤلاء الأسرى لا يغطون رؤوسهم بالطرابيش. . . ولكنهم يضعون أقدامهم في أحذية. . . ولا غنى عن حذاء ليتساوى بالغر الذي يكرب حياته. وحمل صندوقه وهرع إلى القطار وهو يصرخ (سجائر. . . العلبة بحذاء. . . العلبة بحذاء). واستعان على التفاهم بالإشارة كما فعل في المرة الأولى. ولكنه قبل أن يظفر بزبون جديد آذنت صفارة القطار بالمسير. فتمخضت عن موجة نشاط شملت الحراس جميعاً. وكانت سحائب الظلام تغشى جوانب المحطة، وطائر الليل يحلق في الفضاء، فتوقف جحشة وفي نفسه لوعة، وفي عينيه نظرة الليل يحلق في الفضاء، فتوقف حجشة وفي نفسه لوعة، وفي عينيه نظرة حسرة وغيط. ولما أخذ القطار يتحرك لمحه حارس في عربة أمامية فبدا على وجهه الغضب وصاح به الإنجليزية ثم بالإيطالية (اصعد بسرعة. اصعد أيها الأسير) فلم يفهم جحشة ما يقول وأراد أن ينفس عن صدره فجعل يقلده في حركاته مستهزئاً به مطمئناً إلى بعهد عن متناول يده. فصاح به الحارس مرة أخرى والقطار يبتعد رويداً رويداً (إصعد، إني أحذرك، اصعد) فزمّ جحشة شفتيه احتقاراً وولاه ظهره وهم بالمسير؛ فكور الحارس قبضة يسره مهدداً وصوب بندقيته نحو الشاب الغافل. . . وأطلق النار. ودوي
عزيف الرصاصة يصم الآذان وأعقبها صرخة ألم وفزع. وتصلب جسم جحشة في مكانه فسقط الصندوق من يده، وتناثرت علب السجائر والكبريت. ثم انقلب على وجهه جثة هامدة.
نجيب محفوظ
الكتب
نظرة جديدة
في (أرواح شاردة)
بمناسبة طبعته الثانية
للأديب حسين محمود البشبيشي
ما ظنك بالروح الشاعر إذا تفتَّح ليستوعب أسرار الوجود، وتغلغل يتأمل ألوان الجمال؟ وما ظنك بالفكر القادر إذا عقد النية على كشف منبهم الأمور، والبحث وراء بوارق المعرفة والنور؟ وما ظنك بالفن الساحر إذا تشوّف إلى الشوارد الفنية الباسمة، وتتطلع إلى مباهج الحياة الفاتنة.
. . . ذلك فيض من (أرواح شاردة)!!
وقع الكتاب في يدي صدفة، فتناولته بلهفة. . . لست أدري أكان مصدرها تجاوب الروح بيني وبين أرواحه الشاردة، أم الرغبة في الإطلاع على لون من الأدب جديد الطابع فريد المنزع.
لست أدري كل هذا؛ ولكن الذي أعلمه هو أني حسن الظن - عن حق - بصاحبه الشاعر، قوي الإيمان بروحه الساحر وشفافية وجدانه، وتألق لفظه، وعذوبة جرسه التي يخيل إلى المرء أنه ينسجها من قلبه نسجاً، أو يسكبها من روحه سكباً
. . . وقرأت الكتاب فوجدتُ روح الفنان غالبةً على روح الشاعر، وروح الشاعر طاغية على روح الكاتب. فهو في كثير من الأحايين يعرض لدراسة شاعرٍ في استقراء الكاتب المحقق؛ ثم هو بعد ذلك يحاول أن يدفع عن الشعراء كل تهمة جائرة مجرّداً لذلك قلمه ساكباً فيه عصارة قلبه. . . ونظرة واحدة إلى دفاعه عن شارل بودلير تريك صدق ما أقول فقد جاء في مقام تعليل انغماسه في الشهوة العارمة، وتلويثه للجمال الأرضي (لقد كان بودلير فناناً صادقاً طموحاً محباً للجمال وعلى العكس مما يرى الكثيرون فإنه باندفاعه المحزن في تلويث الجمال الأرضي، وردّه كل أنثى امرأة عاهرة، قد أفشى عاطفته المكرسة لعبادة الجمال المطلق). . . وهذا كلام بعثه قلبٌ شاعر يدفع عن قلبٍ شاعر!
ووجدت روحَ المؤلف حائرة بين مباهج الشعر، ومفاتن النثر، ولكن ميله الشعري جعله يعرض لدراسة الشعراء أكثر من دراسة الكتاب.
أفلم يعرض لنا بول فيرلين ويسايره أصدق مسايرة، ويتابعه متابعة الشاعر يقدر عظمة الشاعر؟
أو لم يقدم لنا بودلير في فتنة شعره، ويقظة وجدانه، وتوهج شهواته؟ ثم أكثر من ذلك إن روح الشعر في نفس صاحبنا غلبت عليه فجعلته يترجم قبره شلي، وعودة الملاح لجون ما سفيلد، وأغنية القطيع، وبيت الراعي، ثم يشرق علينا بنفحة شعرية هي قصيدته في باريس.
لو أستطيع أن أقول إنه حتى فيما كتب عن ذكرياته في آخر الكتاب كان شاعراً في كثير من الأحايين.
وليس بغريب أن يختار هؤلاء الشعراء موضوعاً لبحثه، فبين نظرتهم الفنية النفسية إلى الحياة بين نظرة صلات ووشائج يدركها الناقد الفطن!
ولا يسعنا إلا أن نقول إنه في اختياره لقصائد القبرة وعودة الملاح، وبيت الراعي، كان منسجماً مع اتجاهات نفسه وأحاسيسه، ولكني أعتقد أن شعوره نحو هذه القصائد يختلف قوة وضعفاً؛ وتبعاً لذلك تتفاوت القصائد.
ولا يسعني إلا أن أرفع القبرة إلى مستوى قدرة شاعرنا نفسه التي لمسناها حية متألقة بسامة في (الجندول)، وفي قصيدته الخالدة (موت شاعر)، ولعل هذه القصيدة الأخيرة كانت أول عهدي بالملاح التائه، ثم قصيدته في ميلاد الشاعر التي نشرتها مجلة أبولو عقب وفاة شوقي.
ونعود فنذكر رنة مطلعها، وحسن اختيار بحرها، وعذوبة قافيتها وشاعرنا يجيد الاستهلال. أنظر إلى روعة المطلع:
يا أيها الروح يهفو حوله الفرح
…
تحية أيُّهذا الصادح المرحُ!
عن أمة الطير هذا اللحن ما سمعتْ
…
بمثله الأرض، لا روض ولا صّدّحُ
أنت الذي من سماء الروح منهُله
…
خمرٌ إلهية لم تحوها قدحُ
يفيض قلبك ألحاناً يسلسلها
…
فن طليق من الوجدان منسرح
ولكن أطربني، وهاج خواطري، وحلق بي في جو من الخيال الباسم الوضيء قدرته على صوغ هذه المعاني السامية إذ يقول:
إنا نفكر في ماضٍ بلا أثرٍ
…
ومُقبلٍ من حياة كلها غيب!
ومستحيل نُرّجي برقً ديمته
…
وكل ما نرتجيه نه مختلب
وكم لنا ضحكاتُ غير صادقة
…
ما لم يشب صفوها التبريح والوصب
وإن أشهى الأغاني في مسامعنا
…
ما سال وهو حزين اللحن مكتئب!
وهنا وقفة يجب أن يقفها الثائرون على النغم الحزين في أغانينا؛ فهذا شلي الشاعر العالمي ينطق بلسان الفلسفة التي لا وطن لها. إن الحن الحزين هو أشهى ما تسع الإنسانية الحساسة الشفافة التي ترقب الزهر الوليد بنفس العين التي تودع الزهر الذابل أما قصيدة عودة الملاح فلعله ترجمها بدافع تجانس الميول، وتقارب الأحاسيس؛ فقد كان شاعرنا ملاحاً تائهاً! فهو كما يظهر يحب البحر، أو في طبيعته الزخارة بالوجدانات شيء من طبيعة البحر؛ وإلا فلم ترجم عودة الملاح؟ الجواب ينطق به مطلعها:
يا فرحتي للبحر أرجعُ ثانياً
…
متفرِّداً بعبائه وسمائه
أقصى منايَ سفينة ممشوقة
…
وبزوغ نجم أهتدي بضيائه
بعد أن بينت الدوافع إلى ترجمته لهؤلاء الشعراء ولتك القصائد أدع الكاتب نفسه يعبر عن سبب ترجمته لقصيدة (بيت الراعي) فيقول: (لأنها ذات موضوع طريف حافل، يتكلم فيه الشاعر بدقة ورقة وصراحة وعظمة عن القلب والروح والجسد وشقاء النفس الشاعرة بهذا العالم الجارح ومدنيته الجافية القاسية)
وهذا يصدق قولي في أن الشاعر اختار ما جانس أحاسيسه ولابس وجدانه.
ونتكلم عن ذكريات مرت بقلبه، وعطرت بأريجها ألفاف روحه، وتغلغلت في أحاسيسه، فخَّلدها. . .!
وإنك لتلمح في ليلته الأولى وحشة الغريب ولهفة المشتاق؛ وترى في ميدان إسدرا سحر الألحان وروح الفنان، وتحس في يوم فرساي نشوة الطرب وروعة الجمال، وتنسم من فتاة برن عبير الروح وعبق القلب. . . ثم ترى في قصيدة باريس دمعة الفنان وثورة الوجدان!
تلك هي ذكريات صاحب الجندول التي خضع فيها - كما سأبين - الروح الشاعرية،
والنزعة الشرقية، والثقافة الأوربية، ثم في كثير من الأحايين لطريقة أستاذنا الزيات فكيف كان ذلك؟!
أما خضوعه للشاعرية فأمر محتوم، وما كان له أن يتخلص من قيودها الحبيبة الباسمة، بل أنها لتظهر في كثير من اللفتات الرائعة في ألفاف ذكرياته. فهو مقيد بروح الشعر وخاصة عند الحديث عن الجمال والفن بل وكل ما يتصل بالجمال والفن؛ فإن خياله ليصف الحسناء فيقول في معنى شعري ساحر: كأنها طفلة إلهية هبطت لأول مرة عالم الأرض؛ ويطيب لروحه الشاعر أن يتبعها بسجع حلو رقيق فاتن. . . ولعل شاعرنا قد تأثر قليلاً بطريقة أستاذنا الزيات في الصناعة القوية العذبة.
وهو شاعر تنساب حياته انسياب خاطرة الدافق، وتجري جريان خياله المتألق في سهولة ووضاءة وسلام، ولكن الأقدار تأبى (إلا أن تضع في طريقه حادثاً غريباً وشاغلاً عجيباً)، وفي حديثه عن فتيات باريس (وفي عيونهن من أسرار الليل الذاهب ألق، وفي شعورهن من خمر المساء الغابر عبق)، وهو يحلو له أن يعبر عن حيرة وجدانه بسجعة رنانة تحمل من الشاعرية روح الحيوية، وتحمل من الفن حلاوة الجرس، فيخيل له أنه مطارد (يلاحقه خوف أو يتأثره حتف)
وحين يقول: (وبدأت إنشادها بصوت يتماوج مرحاً، ويتفجر شباباً، ويترسل صفاء وعذوبة وسحراً، وانفعلت هي بغنائها، فاستحالت طيفاً راقصاً نابضاً باهتزازات هذه الأنعام المنطلقة في سكون الليل تودع السلام والحب والرحمة في قلب العالم!)
تلك هي ناحية الشاعرية في نثر الكاتب جلّينا عنها في إيجاز؛ أما ناحية تأثره بالأدب الغربي فظاهرة في كثير من اللفتات، فهو يجمل للضوء أنابيب زئبقية! وللأضواء العاكسة دهاليز من أشعة الشمس تمرق من خلال الغمام الأبيض، بل أنه ليغرق في الروح الغربية، حين يجعل الهواء يرفع معطف فتاته الحريري الأبيض الهفاف إلى ما فوق ذراعيها، فكأنها ملك السحاب يضرب بجناحيه الناصعين في الزرقة الصافية متقدماً رعيلاً من الغمام الأبيض!
بقيت ناحية حبه للشرق والوطن، فهو يهتاج عندما يرى جثة الرسول مرقص فيقف خطيباً في صحبه ويقول:(هذا الرسول الذي ضن البنادقة على مصر بجثته) ثم هو لا يسأم من
ذكر مصر ولو عارض فتاة القلب وقطع عليها حديثها عندما قالت: وهناك بلاد غير بعيدة عن روما وأثينا. . . وعنها أخذ العالم أرفع الفنون. . . فيهتف: بل لا يزال يأخذ عنها!
وكم هزني منه هذه اللفتة الحية النابضة بالوطنية عندما قرن الصحراء والبحيرات الأفريقية والنيل المقدس ببحيرات سويسرا وإيطاليا ومساقط الماء في جبال إنسبرول. . .
ثم هو يهتاج لرؤيته الشباب الأوربي يتألق قوة وهو يسعى للقتال، وقد وقفت الفتيات ينثرن الابتسامات على جباه الشباب البسل. فيتمنى لو يقدر الله له أن يرى مثل هذا المنظر في مصر وطنه الحبيب.
ولعل أطرف ما قابلني من غيرته الوطنية دفاعه العجيب الفلسفي عن الفن المصري وخلوه من الفن العاري!! فيقول معللاً ذلك بأن الحياة في مصر سهلة، والسماء صافية، وكل شيء يفصح في غير إبهام. . . وأن هذا الصفاء والإفصاح بعثت في النفس الرغبة في التستر. . . وهكذا يخلق شاعرنا من موضع النقص في فننا موضعاً للتأمل الفلسفي. . . فتأمل!
أما قصيدة باريس الراقصة المعاني الرنانة الجرس. فحسب مطلعها روعة
سألوني عن بياني وقصيدي
…
أسفا باريس قد مات نشيدي!
ولكن كيف يموت النشيد الذي يقول:
صرع النور به وانحسرت
…
جبهة الشمس عن النور الشهيد
بل كيف يموت النشيد الذي يقول:
وابعثيها ثورة أخرى فما
…
يعرف الأحرار معنى للجمود
وبعد هذا هو الروح الشاعر والفكر القادر والفن الباهر ففيض من أرواح شاردة.
حسين محمود البشبيشي