المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 447 - بتاريخ: 26 - 01 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٤٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 447

- بتاريخ: 26 - 01 - 1942

ص: -1

‌دعاء الكروان

للأستاذ عباس محمود العقاد

طائر الليل. طائر العزلة. طائر الصحراء. طائر الصيحة التي فيها من البشرى وفيها من التبريح وفيها من التسبيح.

تعني (الكروان)؟

نعم، إياه أعني، وهو صامت الآن!

صامت منذ أشهر لا تسمع له من وراء الأفق تلك الصيحة التي كأنها نصل من اللحن يشق ستراً من السكون، أو كأنها عقيقة من البرق تنفتح في سدفة من الظلام، أو كأنها نفثة من الجوي تندفع في هدأة من الصبر الطويل.

وكأنما سكون ليل الشتاء في هذه الآونة الموحشة إصغاءٌ مرهف وحنين مكتوم إلى ذلك الصوت المغيّب الذي سيطول غيابه. . . وسيعود!

سيعود، وسيدير لنا الربيع قالبه المحفوظ من الصرخات والألحان، وسنسمعها ولا نمل سماعها ما كتب لنا أن نسمعها. فهي محفوظات يضن بها الربيع ألا تتكرر، ونضن بها نحن ألا نتذكر، ونضن بها نحن - إن تذكرناها - ألا نعيش معها كما عشنا من قبل سنين وسنين، كل صيحة منوط بها نبأ قديم: نبأ قُل إنه عذب رحيم، وقل إنه موجع أليم. فما بين الرحمة والأم من حدود في هذه المحفوظات، وما لهذه الحدود إن طالت من مساك.

سنوات، يا لها من سنوات!

قل عشر، وقل إن شئت عشرين!. . . بل زدها إن شئت قليلاً، فما هي بأقل من بضع وعشرين

عمرُ أكبر (كروان) فانٍ

ولكنها أصغر من لمحة في عمر (الكروان) الخالد: الكروان الذي سمعه (آدم) أول الدنيا، والكروان الذي سيسمعه أبناء (آدم) آخر الزمان، والكروان الذي سمعته أنا والشعر أسود كجنح الليل الذي يصدح فيه، وسمعته والشعر يشتعل، وسأسمعه وكل مشتعل في هذه البنية رماد.

سمعته ولبيت كل دعوة من دعواته، وخرجت له في الليالي السود. . . لا بل في الليالي

ص: 1

البيض، إلى الصحراء. . . لا بل إلى الجنة، إلى الصباح. . . لا بل إلى الأبد الذي ليس له حدود.

وتبعته إلى أطراف الرمال، وهذا البيت الذي أسكنه وقد تغير خمسة من ملاكه وأنا الساكن الطارئ عليه لا أتغير - لم تكن من ورائه يوم سكنته غير مملكة واحدة هي مملكة (الكروان)، ولم يكن سامر يستمع فيه إلى غير صوت واحد هو صوت (الكروان).

نعم، هو صوت (الكروان). . .

وصوت (الكروان) هو جملة واحدة تنطوي في نغماتها كل كلمة من معناها، وما معناها؟ معنى الحياة. معنى الربيع. معنى الحياة والربيع ممزوجين بمثل ما امتزجا به في نفسي من طلاقة إن بلغت مبلغها فحركة الهواء عندها ركود، ومن وحشة إن بلغت مبلغها فظلمة الجحيم عندها ضياء.

وكم دعانا ذلك الصوت؟ وكم يدعونا في أوانه؟

وكم لبيناه؟ وكم نلبيه؟

وكم رصدت لنا الأفعى في طريقه؟ وكم ترصد لنا في تلك الطريق؟

وكم قتلتنا وكم قتلناها؟

وهو مع ذلك دعاء

وهو مع ذلك ملبَّي كأحسن ما يلبي الدعاء

لك الله يا صديقي طه من ملهم فيما اخترت لكتابك الشائق من اسم (الدعاء)

فما يسمع (الكروان) حق سماعه من لم يستمع إليه كأنه (دعاء) يتابع مطلوبه ويتعقبه ويفتش عنه ويأخذه آخر الأمر أخذه الهارب الذي يريد أن يهرب، ولا يريد

يريد أن يهرب في جنح الظلام حتى إذا انكشف مكانه وقف لا يريم ولا يريد شيئاً. . أو كأنه يريد الاستسلام ويأبى الهرب أشد الإباء.

وهكذا كانت فتاة روايتك الساحرة. هكذا كانت تهرب ولا تهرب، ويعود إليها الكروان وكأنها هي التي تعود إليه.

وإنها لتنسى، وإنها لتلهو، وإنها لتعرض عما كان وتقبل على ما هي فيه، وإنها لفي شأن جديد غير شأنها الأول البغيض، وإذا بالطالب الصياح مقبلاً إليها من بعيد: مقبلاً في عبث

ص: 2

ومثابرة وإلحاح، مقبلاً في دلال كأنه الشماتة، وفي شماتة كأنها الدلال، مقبلاً مقبلاً حتى ليقف على رأسها بل في أعماق رأسها، وحتى لتجمد له في مكانها كأنها الصم الذي لا حياة به، وفيها مع ذلك كل ما مضى لها من حياة.

إلى أين يا مسكينة؟

أنا (دعاء الكروان)!

نعم، ولا فرار من هذا (الدعاء)، لأن الذي يفر منه ينقلب إليه.

تقول رواية صديقنا طه في بعض صفحاتها: (. . . وهانحن أولاء ننزل مضطربات ونسعى متعثرات، وهذه أمنا تريد أن تسأل فيم إناخة الجملين، وفيم النزول في غير منزل، وهأنذا هذه أريد أن أقول شيئاً ولكني لا أكاد أدير لساني في فمي، ولا أكاد أستوعب ما كانت أمنا تقول. إنما هي صيحة منكرة مروعة تنبعث في الجو، وجسم ثقيل متهالك يسقط على الأرض، وإذا أختي قد صرعت، وإذا خالنا هو الذي صرعها لأنه أغمد خنجره في صدرها. ونحن عاكفتان على هذا الجسم الصريع يضطرب ويتخبط ويتفجر منه الدم في قوة كما يتفجر الماء من الينبوع. نحن عاكفتان في ذهول وغفلة وبله، لم نفهم شيئاً ولم نقدر شيئاً ولم ننتظر شيئاً، وإنما أخذنا على غرة أخذاً، واختطفت هنادي من بيننا اختطافاً. وجسمها يضطرب ويتخبط، ودمها يتفجر، ولسانها يضطرب ببعض الحديث في فمها ثم يهدأ الجسم المضطرب ويسكن اللسان المتحرك ويخفف تفجر الدم، ويمتلئ الجو حولنا بهذا السكون الأليم سكون الموت، ونحن فيما نحن فيه من ذهول وبله وخالنا قائم أمامنا كالشيطان إلا أنه قد أخذه الذهول كما أخذنا.

(وهذا نداؤك أيها الطائر العزيز يبلغني من بعيد، وهذا صوتك يدنو إلي قليلاً قليلاً، وهذا غناؤك ينتشر في الجو كأنه النور المشرق قد أظهر لنا ما كان يغمرنا من الهول دون أن نراه، وهاأنت ذا تبعث صيحاتك يتلو بعضها بعضاً كأنما هي سهام من نور قد تلاحقت مسرعة في هذه الظلمة فطردت من نفسي ذهولها وجلت عنها غفلتها وأيقظتها من هذا البله، وجلت لنا الجريمة منكرة بشعة، والمجرم آثماً بغيضاً، والضحية صريعة مضرجة بالدماء. . . إن صوتك لينبعث في الفضاء مستغيثاً وليس من يغيث، وإن صوتي لينبعث في الفضاء داعياً وليس من يجيب. . .)

ص: 3

وتجري الرواية في مجراها بين جوانح نفس واحدة هي أزحم بالأشباح والأصداء من كل فضاء: نفس الفتاة آمنة أخت الصريعة هنادي، وهي كلما أوغلت في باطنها حتى انقطع ما بينها وبين هذا الفضاء المحيط بنا لحق بها الدعاء وجذبها إلى حيث تستمع النداء. فتغرق آخر الأمر في صمت سعيد كما كانت تغرق في الصمت الشقي حيناً بعد حين:(ولكن صوتك أيها الطائر العزيز يبلغني فيتنزعني انتزاعاً من هذا الصمت العميق، فأثب وجلة مذعورة ويثب هو وجلاً مذعوراً، ثم لا نلبث أن يثوب إلينا الهدوء. فأما أنا فتنحدر على خدي دمعتان حارتان، وأما هو فيقول وقد اعتمد بيديه على المائدة: دعاء لكروان! أترينه كان يرجع صوته هذا الترجيع حين صرعت هنادي في ذلك الفضاء العريض)

وهكذا يستمع إليَّ الكروان من تعود أن يستمع إليه؛ سابح على حومة الليل يمد عرقي الظلام من صوته السريع بحبل خاطف يجذبهم إلى الفضاء، كلما انقطعوا عن الفضاء.

يجذبهم من عالم الذكرى إلى عالم الشهادة، ويجذبهم من عالم الخوف إلى عالم الطمأنينة، ويجذبهم من عالم الوحشة إلى عالم الإيناس، ثم يبدو له أن يجذبهم من الإيناس إلى الوحشة ومن الطمأنينة إلى الخوف ومن الشهادة إلى الذكرى، وينجذبون.

تسمعه السنةّ ومعك سامع، وسمعته السنة الدابرة وحدك، وقد تسمعه من قابلٍ وليست معك تانك الأذنان الأوليان، بل معك غيرهما أذنان أخريان! وربما سمعه معك من بينهم وبين السمع حجاب، وربما سمعه معك من أغفلوك وأغفلوه. ويأتي الدعاء فيدعونا ولعلنا نحن الذين دعونه، ولكنه يأتي متوقعاً وغير متوقع، ومحبوباً وغير محبوب، وقائماً على موعده كأنه مرتبط بنظام من أفلاك الليل الذي يحبه ويأوي إليه، ويتعلم على يدي أنواره وظلماته، ويعلِّم من يتعلمون.

يا (دعاء الكروان)!

موعدنا معك الفضاء الرحيب كلما أوغلت بنا الذكرى في أغوار ينقطع ما بينها وبين الفضاء الرحيب.

ومن دعائك أنك جذبتنا خمساً وعشرين سنة أو جذبت إلينا تلك السنين الخمس والعشرين، وإنك أوحيت إلى طه ما يوحي، فإذا به يفتح لنا فضاء الليل وما فيه من أصداء وأشباح، ويفتح لنا فضاء النفس الإنسانية وما فيها من أصداء وأشباح، وإذا به يلقي إلينا بعاصم في

ص: 4

الفضاءين من ذلك الحبل السريع الخاطف ففيه لياذ بالنجاة.

قال صديقنا الدكتور طه حسين وهو يهدي إلينا (دعاء الكروان): (أنت أقمت (للكروان) ديواناً فخماً في الشعر العربي الحديث، فهل تأذن في أن أتخذ له عشاً متواضعاً في النثر العربي الحديث، وأن أهدي إليك هذه القصة تحية خالصة من صديق مخلص).

وإني لأحسب وأنا أتقبل الهدية شاكراً أن (الكروان) سيأوي إلى العش الذي سماه صديقنا متواضعاً لأنه يرتضي العش وإن أغريناه بالدواوين. وحسبنا منه أنه يدعونا وندعوه، وأننا وإياه نلبي الدعاء.

عباس محمود العقاد

مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

ص: 5

‌الأجنحة المتكسرة

للدكتور زكي مبارك

تمهيد - النفسية السورية - أحزان سريانية - مهاجرون بلا أنصار - الجميل الغادر - الأمل الضائع - أسلوب جبران - مسألة فيها نظر - الثورة على رجال الدين - جريمة جبران - صدق جبران - الإهداء -

تمهيد

كنت أعفيت نفسي من إتمام هذه الدراسات النقدية بسبب ما توجب من الإرهاق، فليس من السهل أن يقرأ المرء كتاباً في كل أسبوع ثم يكتب عنه بحثاُ يرتضيه جمهور القراء، ولكن جماعة من طلبة السنة التوجيهية كتبوا يسألون عن المغازي المطلوبة في كتاب (الأجنحة المتكسرة) للمرحوم جبران خليل جبران، كما سأل فريق عن (وحي الأربعين) للأستاذ عباس العقاد، و (فيض الخاطر) للأستاذ أحمد أمين، فرأيت أن أغتنم ما بقي من الوقت الذي يسبق الامتحان الشفوي لأتتم هذه السلسلة من الدراسات، مع الاعتراف بأنها ليست إلا توجيهات سريعة يراد بها إرشاد القراء إلى طريق الاستقصاء.

وطلبة السنة التوجيهية يذكرون أن الامتحان التحريري سيُعقد في التاسع والعشرين من هذا الشهر، فليُقبلوا عليه بلا تهيب، وليكتبوا بحرية مصحوبة بالرزانة والعقل، وليطمئنوا إلى أن المصححين، قد يرضون منهم بالقليل إن رأوا فيه بوارق تشهد بأنهم على شيء من الفهم العلمي والذوق الأدبي، كتب الله لهم التوفيق!

النفسية السورية

حديث اليوم عن (الأجنحة المتكسرة) لجبران، وقد ضاق الوقت عن مراجعة ما كُتِب عن الأدب الحديث في الديار السورية واللبنانية، وكان من السهل أن أنتفع بكتاب الأستاذ ميخائيل نعيمة عن جبران، ولكني لم أجده في مكاتب القاهرة، ولا وجدت من الفراغ ما يسمح باستعارته من أحد الزملاء، فلم يبق إلا أن أقول في جبران وكتابه كلمةً وجيزة تقرّب مراميه إلى القراء بعض التقريب.

فما تلك الأجنحة المتكسرة؟

ص: 6

كان الرأي عندي أن المؤلف يرمز إلى الأجنحة الفلسطينية والسورية واللبنانية، فجبران في صفحات هذا الكتاب يعبر عن الأشجان الموروثة في تلك البلاد، ثم وجدت في كتابه فقرةً تشهد بذلك، فعرفت أن حكمي على اتجاهاته النفسية لم يكن ضرباً من التخمين.

أحزان سريانية

لكل أدب من الآداب القديمة خصائص، وخصيصة الأدب السرياني هي الإسراف في البكاء، فجبران الحزين هو البقية من روح السُّريان القدماء.

وعلة الحزن السرياني أو السوري لا تحتاج إلى توضيح، فأولئك أقوام كان تاريخهم كله عراكاً في عراك، ولم تكن بلادهم إلا محترّباً يتصاول فيه الفقر والغنى، والعبودية والحرية، والخوف والأمان، بغض النظر عن احتراب العواطف والشجون

وبكاء تلك البلاد لا يمثل العجز، وإنما يمثل العتب على القضاء وقد يرتاض على الصبر الجميل في بعض الأحيان.

ومن أشهر الأغاني السورية هذا الصوت:

ماشي الحالْ، وماشي الحالْ

وما في حالْ، وماشي الحالْ

خلّيها لله، يدبِّرْها الله

وهذه الأغنية هي الصرخة الباقية من بكاء السريان، وهو بكاء ممزوج بالصفح عن كيد الزمان، أو الرجاء في عدل القضاء.

مهاجرون بلا أنصار

والتاريخ يشهد أن الهجرة كانت من المذاهب السورية في كثير من العهود، وهو مع ذلك يشهد ان السوريين كانوا في الأغلب مهاجرين بلا أنصار، فقد بنى أجدادهم الفينيقيون مدينة (مرسيليا) قبل أكثر من خمسة وعشرين قرناً، ولم تحفظ لهم مرسيليا هذا الصنيع، فأحفاد أولئك البناءين لا يعيشون اليوم في مرسيليا إلا تراجمة أو حمّالين.

ثم هاجرَ السوريون المحدَثون إلى أمريكا، ولم يتركوا قالة من قالات الخير إلا أضافوها إلى الأمريكان، فهل تأمْركوا ونسوا وطن الآباء والأجداد؟

ص: 7

إن نُواحهم الموصول يشهد بأنهم في أمريكا غرباء!

فمن أراد أن يعرف سرّ الحزن في الأدب السرياني القديم، ومصدر اللوعة في الأدب السوري الحديث. فليذكر أن الاغتراب والاضطهاد هما الأصل في ذلك البكاء.

ومن أجل هذا كان السوريون أحرص الناس على تأييد فكرة العروبة لأنهم يرجون أن تكون وطناً فسيح الأرجاء يغنيهم عن الاتجاه إلى الغرب؛ ومن الغرب جاء الاغتراب!

ومن أجل هذا أيضاً كان السوري ينقل وطنه إلى كل أرض ليذكره في كل وقت، عساه يرجع إليه ولو بعد حين.

ومن أجل هذا وذاك كان السوري في أغلب أحواله من رجال الأعمال، ليرحم نفسه من اجترار الأشجان. والغنى في الغربة وطن، كما قال أسلافنا الحكماء.

الجميل الغادر

هو جبل لبنان، الجبل الذي يدعو أبناءه في كل لحظة إلى امتطاء غارب المحيط ليجدوا المجد أو القوت فيما وراء البحار. وكذلك يرحل اللبناني عن الجبل والدمع في عينيه ليواجه العالم بنفس منطوية على الإباء المكبوت أو الهوى الدفين

ولو جمع ما قال المهاجرون اللبنانيون في الشوق إلى ذلك الغادر الجميل لكان تحفة رائعة من صور الوجد والحنين

السوريون المغتربون لا ينسون وطنهم أبداً. وكيف ينسونه وهم مهاجرون بلا أنصار، ولا عزاء لهم غير تمثل ما في بلادهم من أزهار ورياحين؟

الأمل الضائع

كان السوريون واللبنانيون قد رفعوا علم العروبة في الأقطار الأمريكية فأتاحوا لنا القول بأنهم بعثوا (الأندلس) من جديد، وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد أنجبوا أدباء من أمثال نعيمة وجبران؟

ولكن الطبيعة تريد غير ما نريد

الطبيعة قضت بأن يكون لبني العمومة في الأمريكتين زوجات أمريكيات وأبناء مخضرمون يعجزون عن فهم لغة الآباء الأصلاء.

ص: 8

وهنا يظهر (عيب) اللغة العربية، فهي ليست لغة تفاهم بسيط ينتفع به الناس في أمور المعاش، وإنما هي لغة أدب وذوق، ولغات الآداب والأذواق لا تعيش بين الأبناء الدخلاء، وذلك هو السر في انحسار اللغة العربية عن بعض الأقطار الإسلامية، وهو أيضاً السر في أن اللغة التي يتكلمها أكثر من مائة مليون لا تنجب في كل عصر أكثر من مائة أديب.

كيف يعود الأدب العربي إلى الأمريكتين من جديد؟

أعتقد أننا خذلنا أولئك الإخوان، فلم نعاونهم على إعزاز العصبية العربية في البلاد الأمريكية ولم نقدم إليهم من المساعدات المالية مثل الذي نقدم إلى بعض الجمعيات العلمية في الممالك الأوربية.

هل سمعتم أن دار الكتب المصرية أو مكتبة الأزهر أو مكتبة الجامعة المصرية أو مكتبة الإسكندرية أو مكتبة وزارة المعارف قد اشتركت في المجلات التي تصدر باللغة العربية في المهاجر السورية كما تشترك في المؤلفات التي ينشرها المستشرقون؟

إلى أهل الغيرة على اللغة العربية نوجه هذا السؤال

أسلوب جبران

عرفنا السر في أحزن جبران، ولم يبق إلا أن ننظر في كتابه الحزين، فماذا نقول؟

نكتب أولاً كلمة عن أسلوب هذا الكاتب؛ ثم نمضي في عرض ما في كتابه من دقائق الأغراض

جبران أراد أن يكون أسلوبه زهرة لا شجرة، فأساء إلى نفسه من حيث لا يريد، وهل كان يتوهم أن النقد الأدبي سيعرف مقاتله بعد حين أو أحايين؟

أغلب الظن أن جبران كان يحب أن يعرف إخوانه في الشرق أن الحياة في أمريكا لم تنسه خصائص البلاغة العربية، وهي بلاغة ظلمها بعض أهليها فتوهموها فنوناً من الزخرف والبريق، وكذلك شاء جبران أن يكون في كل سطر من كتاباته تشبيهٌ طريف، أو لمحة فلسفية، أو رمز إلى غرض ملفوف يحار في تأويله القراء.

ولكن ما قصة الزهرة والشجرة؟

الزهرة غاية في أناقة التلوين، ولكل ورقة من أوراق الزهرة رونق أخاذ، مع أن أوراقها قد تعد بالعشرات؛ فهي سِحرٌ في سحر وفتونٌ في فتون.

ص: 9

ولا كذلك الشجرة، فهي أفنان مختلفات، وفيها ما يروق وما لا يروق، هي شجرة يعتدل فيها غصن وتعوجّ غصون، وتكون عشاً للبلبل كما تكون وكراً للثعبان.

الزهرة أجمل من الشجرة، ولكن الشجرة أقوى من الزهرة وأقدر على مقاومة العواصف والأعاصير، وكذلك يكون الفرق بين الأسلوب العارم والأسلوب الرقيق، كما يكون الفرق بين الطائر الجارح والطائر الغرِّيد.

ولو كان جبران حيّاً لأسمعته ما لا يحب، ولكنه اليوم في ضيافة التاريخ والتطاول عليه لا يليق.

والمهم هو تنبيه شبان اليوم إلى أن أسلوب جبران ليس أفضل الأساليب؛ فهو زهرة لا شجرة، ونحن نريد أن يكون الأسلوب من صور العنف والطغيان.

مسألة فيها نظر

جبران من أدباء العرب، ونقاد العرب قد فضحوا عمر بن أبي ربيعة حين رأوه يصور معشوقاته بصور المتهالكات على شبابه الجميل.

لا عيب في أن يقول الرجل إنه من هوى الملاح، ولكن ما لا يعاب قد يكون في بعض أحواله مما ينافي الذوق، فكيف استجاز جبران أن يجعل حبيبته صاحبة الخطوة الجريئة في التصريح بالحب، وصاحبة الفضل الأول في الإقدام على (التضحية) يوم اجتمعا لآخر مرة في المعبد الذي جمع بين صورة المسيح وصورة عشتروث؟

قد يجيب بأن جان جاك روسو قد استجاز مثل هذا الصنع ولكن غاب عنه أن روسو لم يقترف ذلك (التصريح) إلا وهو في عقل الأطفال.

جبران قال ما قال وهو في أمريكا (وأنا أزر الشرق) كما قال (ميسّيه) وهو يسخر من (هوجو) وقد يباح في تلك البلاد ما لا يباح!

الحق أن جبران أساء إلى الذوق العربي، وجنى على نفسه وعلى محبوبته جناية سيدخل بها الجحيم، ولن ألقاه هناك!

الثورة على رجال الدين

وغرة كتاب (الأجنحة المتكسرة) هي الصفحات الخاصة بالثورة على رجال الدين، وهي

ص: 10

ثورة يحسها المسيحيون لا المسلمون؛ ذلك بأن الإسلام لا يعترف بالكهنوت ولا يقيم له أي ميزان، فالصلاة على الميت تصح من أي مخلوق متسم بالإسلام، وعقد الزواج ويُكتفي فيه بالإيجاب والقبول، والمسلم الصادق هو الذي يتقدم إلى ربه بلا وسيط.

ولا كذلك المسيحية: فهي تعطى رجال الدين طوائف كثيرة من الحقوق، وتمنحهم حرية التصرف في مصاير (المؤمنين) وكان ذلك لأن المسيحية تفترض أن الراعي في جميع أحواله غاية في الرفق والحنان.

والظاهر أن جبران قد اكتوت يداه بنيران رجال الدين، فهو يرجع إلى تجريحهم من صفحة إلى صفحة بلا رحمة ولا إشفاق.

وقد بلغ غاية الشوط فصرح بأن من حق المرأة أن تهجر بيت الزوج لتلقي حبيبها حين تشاء، بدون معاناة لوخز الضمير، وحجته أن (العَقد) الذي يمضيه (الحب) أصدق من العقد الذي يمضيه (المطران)

فكيف وصل الكاتب إلى هذا الحكم الفظيع؟

إن الإسلام لا يعترف لرجال الدين بأي خصوصية دينية، ولا يبيحهم التحكم في مصاير المؤمنين، ومع هذا يخشى المسلم أن تنتاشه ألسنة رجال الدين، لأن صوتهم هو المسموع في تقرير الشك واليقين، فكيف يكون إخواننا المسيحيون؟

الجواب عند جبران، وهو قد صرح بأن رجال الدين لا يخضعون لغير الأهواء، وإن كان من الحق أن نقرر أن هذا التعميم لا يخلو من الإسراف، فعند المسيحية رجال لا يجوز عليهم حكم جبران. وهل يصدُق الكاتب الثائر في كل ما يقول؟

ومع هذا فقد صدق هذا الكاتب بعض الصدق، لأن رجل الدين في المسيحية يدخل جميع البيوت بدون استئذان - ولاسيما في الشرق - وله يد في تعريف بعض العائلات إلى بعض؛ وقد يكون صلة الوصل في التمهيد للزواج، فما حالُ الفتاة التي لا تطيع هواه في التزوج من فلان أو فلان إذا كان من أصحاب الأغراض؟!

كان جبران يقنعني بأنه يحارب شخصية حقيقية للمطران (بولس غالب)؛ فاتصلت بالأستاذ أنطوان الجميّل تليفونيّاً لأسأله عن تلك الشخصية فأجاب بأنها شخصية خيالية، وأقول بأنها شخصية حقيقية، وسنعرف أخبارها بعد حين، وإن سترتها المعاريض)

ص: 11

والمهم! هو أن يسجل النقد الأدبي أن كتاب (الأجنحة المتكسرة) ليس إلا ثورة على رجال الدين في لبنان، بغض النظر عما في تلك الثورة من صحة أو بطلان.

النقد الأدبي مؤرخ، وهو يسجل أعمال الناس، ومن الظلم أن يُسأل عن تلك الأعمال.

جريمة جبران

هي تأثره المكشوف بالأدب الأوربي في القرن التاسع عشر، وهو أدب جميل - ولكنه عليل - لأنه يجعل الحزن غاية الوجود.

ولكن الأدب الوجداني في القرن التاسع عشر غاية في الجمال لأنه غاية في الصدق، وهل ينسى الضمير الأدبي مآسي ميسّيه ولامرتين؟!

صدق جبران

ومع هذا فجبران صادق في بعض مناحيه الوجدانية، وهل يستطيع فتىً أن يبلغ العشرين في لبنان بلا آلام ولا آمال؟

وكيف يكون ذلك الفتى إذا طوّحت به المقادير إلى بلدٍ بعيد بعيد وهو موصول العهد بحبيب لا يرحمه التراب؟

الإهداء

أهدى جبران كتاب الأجنحة المتكسرة إلى: وقد سمت أنها إنسانة أمريكية كانت تنفق عليه لوجه الأدب الرفيع

فما السر في عطف تلك المرأة على جبران؟!

إن هذا الكاتب مغريً بوصف ما بين الإنسان والطبيعة من الصلات، وتلك حال لا يلتفت إليها الأدب الأمريكي كل الالتفات؛ فمن السهل أن نعلل إقبال تلك المرأة على جبران بأنها رأته (إنساناَ من الشرق) وكانت تعيش في بلاد تشغلها (السرعة) عن تعقب خطرات القلوب!

هو فتىً ضاقت عنه بلاده، مع أنها اتسعت لألوف الواغلين!

هو روح شرّده الشرق ليدرك سرائر الألم والحنين

هو فتىً يتحدث عن سلمى وليلى في بلاد لا تعرف غير مرجريت وسوزان

ص: 12

هو فتىً بأن المعبد الوثني صار كنيسة ثم تحوّل إلى مسجد، ومعنى ذلك أنه يرحب بانتقال الروح من حال إلى أحوال

أما بعد فهل قلت شيئاً عن جبران؟

الشواغل لا تسمح بأن أقول أكثر مما قلت، وجهد المقلّ غير قليل!

زكي مبارك

ص: 13

‌أوغسطين - الغزالي

أبو العلاء - دانته

للدكتور جواد علي

بالرغم من اختلاف عصري كل من المفكرين الكبيرين (أوريليوس أوغسطين) قديس المسيحية، و (الغزالي) حجة الإسلام وزين لدين؛ فإن بين الرجلين تشابهاً يكاد يكون عجيباً. تشابهاً في الحياة الخاصة، وتشابهاً في الحياة العامة وفي التفكير والإبداع، حتى في الشخصية تكاد تلامس روحاً واحدة في جسمين مختلفين. عاش أحدهما وهو القديس (أوغسطين) في شمالي أفريقية بين سنة 354 وسنة 430 الميلاديتين. وعاش الثاني في بلاد الشرق الأدنى بين سنة 1058 وسنة 1111 الميلاديتين أيضاً وبين الرجلين كما ترى عدة مئات من السنين.

انتقل (أوغسطين) من حياة الشك إلى حياة اليقين، وانتقل حجة الإسلام (الغوالي) من عالم الشك إلى عالم اليقين كذلك، وكان القديس (أوغسطين) في آخر حياته صوفياً ناسكاً، وكان (الغزالي) في رأس قائمة متصوفي المسلمين. وقد درس (أوغسطين) الفلسفة والمنطق وعلوم اليونان ومعارف عصره؛ ولكنه لم يجد في كل هذه الأمور لذة ولا سعادة، بل وجد لذته في القناعة والزهد والدين الحق، ووجد (الغزالي) نفس ذلك أيضاً.

لم ينحصر وجه التشابه في طراز معيشة كل من الرجلين العظيمين ولا في أسلوب الدراسة واختيار الدروس فقط، بل ظهر ذلك حتى في طريقة إبراز المعلومات من عالم الفكر إلى عالم الوجود. ألّف (أوغسطين) كتاباً مهماً سمَّاه (مملكة الله) ذاع خبره في جميع العالم المسيحي، وألفّ كتباً آخر سمّاه (العقائد) وألّف (الغزالي) عدة كتب في مواضيع تكاد تكون نفس المواضيع التي عالجها القديس (أوغسطين)، ومن جملة كتبه كتاب (المنقذ من الضلال)؛ وبكاد يكون هذا الكتاب نفس كتاب (العقائد) لأوغسطين في مضمونه واصطلاحاته وأغراضه التي من أجلها وضع هذا الكتاب.

وقد انتبه إلى هذا التشابه المستشرق فريك الذي قارن بين الكتابين وإذا بينهما تشابه عظيم في الترتيب والأسلوب والفصول والأدلة، بل حتى في بعض العبارات يكاد يكون عجيباً. وقد بحث هذا المستشرق عن نقاط الاختلاف الكائنة بين الكتابين أيضاً واحداً اتفقا في كل

ص: 14

شيء عدا الزمن والديانة. وقد دل المستشرق بصورة خاصة على ناحية التصوف والزهد في حياة كل من الرجلين، وهي الناحية الحساسة التي أثرت على مزاج كل منهما، ومزاج كل من أوغسطين والغزالي واحد.

وهذا التشابه غريب في بابه حقاً إذ لم يكن الغزالي يعرف اللاتينية حتى نقول إنه اطلع على مؤلفات أوغسطين، ولم يرد في الرواية أيضاً أن أحداً من علماء المسلمين أو المترجمين كان قد ترجم كتاباً من كتب هذا القديس إلى العربية حتى نقول إن الغزالي اطلع على كتب القديس واقتبس منها. لم يقل بذلك أحد حتى المستشرقون إلى هذا اليوم.

يحدثنا البيهقي في كتابه تاريخ حكماء الإسلام أن الغزالي كان كثيراً ما يورد كلام العالم الإسكندري الشهير يحيى النحوي

لاسيما في كتابه تهافت الفلاسفة حيث يقول البيهقي: (وأكثر ما أورده الإمام حجة الإسلام رحمه الله في تهافت الفلاسفة تقرير كلام يحيى النحوي) ويذكر الشهير زوري في كتابه (نزهة الأرواح) أن الغزالي أخذ اأورده في التهافت من كتب يحيى النحوي وقد اشتهر يحيى النحوي هذا بردّه على الفيلسوف برقلس (410 - 485م) رئيس المدرسة الأفلاطونية الحديثة في أثينا وصاحب كتاب (مبادئ تعاليم اللاهوت)، وكتاب شرح محاورات أفلاطون في إبطال نظرية قدم العالم.

وهل يستطيع القارئ استنتاج شيء عن هذه الرواية؟ والظاهر منها أن الغزالي كان قد اطلع على كتب الفيلسوف يحيى النحوي وكتب هذا الأفلاطوني المتفلسف كما يقول ابن القفطي كثيرة.

تعالج مواضيع فلسفية متنوعة وتعالج مواضيع تخص الكنيسة والعقيدة وهو أحد رجالها فهل توصل الغزالي إلى آراء أوغسطين عرضاً بواسطة كتب يحيى النحوي؟ ولكن هل كانت آراء يحيى أو يوحنا النحوي هذا مستمدة من منبع آخر هو أوغسطين بالنقل دراية أو رواية أو بتشابه الفكرة وتوافق العقيدة فانتقلت هذه عرضاً أو دارية إلى الإمام الغزالي بالنقل أو بطريقة الاطلاع؟ لا أدري. وعلى كل فهنالك مشاكل علمية كثيرة لا يمكن للمؤرخ أن يجيب عنها أجوبة قاطعة أبداً.

وخلاصة ما يمكن قوله هو أن الحجتين تشابهاً عظيماً جداً يكاد يكون محيراً؛ وأن هذا

ص: 15

التشابه هو الذي جعل لكتب الغزالي رواجاً عظيماً بين فلاسفة أوربا المدرسيين المسيحيين وشهرة كبيرة أثرت على آراء بعض علماء اللاتين مثل توماس الأكويني وباسكال بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حتى يمكن أن نقول إنه كان حجة لدى المسيحيين كما كان حجة لدى المسلمين.

أدرك علماء من المسلمين هذا التشابه بين آراء الغزالي وبين آراء يحيى النحوي فقالوا بأن الغزالي كان يقرر ما كان يحيى قد سبقه به. وأدرك بعض المستشرقين ما بين كتاب (المنقذ من الضلال) وما بين كتاب أوغسطين (العقائد) من الاتصال فقالوا قولاً ل يجزموا أنفسهم بما قالوه جزماً. وأدرك المستشرقون أيضاً ما بين (الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي دانته الشهير (1266 - 1321م) وما بين بعض القصص الإسلامية من الاتصال مثل قصة الإسراء. وقالوا إن دخول هذه العناصر إلى الكوميديا الدينية كان إما عن طريق مباشر وإنا عن طريق الأساطير الأوربية التي سبق عهدها عهد الكوميديا الإلهية. وتظهر هذه الروح الإسلامية في كثير من مواضع الكوميديا. وقد أيد بحث بعض المستشرقين أمثال سنوك هور كرونيه وإيتالو بيتزي هذا الرأي. وقد كتب العالم الشهير عن هذا الموضوع كتاباً خاصاً حلل فيه الكوميدية تحليلاً دقيقاً مظهراً أثر القصة العربية فيه.

وقال آخرون إن هذا التشابه أمر واقعي؛ ولكنه لا يعود إلى مصدر عربي أصلاً بل يعود سببه إلى التقارب الكائن فيما بين العقليتين الرومانية والعربية. بينما يرى إسن أن لرسالة الغفران للشاعر المتشائم أبي العلاء المعري، وهو شاعر فيلسوف يوافق تفكيره التفكير الغربي أثر لا ينكر على كوميدية دانته هذه. وهذا رأي ذهب إله مستشرقون آخرون وقد تعودنا سماعه، ولكنه يحتاج إلى بحث علمي دقيق لنرى وجه التشابه، وسبب هذا التقارب في الأفكار.

وعلى كل فهنا مثالان نسوقهما للقارئ من أمثلة كثيرة، ليرى إلى أي مدى يصل التشابه الفكري بين الناس أحياناً وهو موضوع مهم أكثر ما يسقط فيه المستشرقون. يحتاج إلى درس عميق ومقارنة بين العقليات البشرية، وخصوصاً فيما يطلق عليه (الأفكار البشرية العامة) وهي الأفكار التي تخطر على بال كل أحد وتمر على فكر كل إنسان.

جواد علي

ص: 16

‌الأحلام

للعالم النفساني سيجموند فرويد

ملخص محاضرة ألقاها قيبل وفاته

للدكتور محمد حسني ولاية

ينقسم الحلم إلى شقين: الحلم الظاهر والحلم الكامن. ويحتوي الأول على نسيج الحلم نفسه، ويتضمن الثاني ما يختفي وراء الحلم الظاهر من الأفكار والصور المستقرة في العقل الباطن (اللاوعي). وللاهتداء إلى الشطر الكامن علنا أن نطلب إلى الحالم استبعاد انتباهه من الحلم الظاهر والاهتمام بعناصره كل على حدة والإدلاء بالحوادث التي عرضت له في اليوم السابق للحلم والتي تمت إلى هذه العناصر بصلة. وعلى هذا الأساس تسهل معرفة الأفكار المرتبطة بحوادث الحلم لما تنطوي عليه من ذكريات من اليوم السابق للحلم علاوة على ذكريات مستمدة من الماضي البعيد والقريب.

يبذل الحلم مقاومة تتفاوت قوتها لإخفاء بعض نواحي الحلم ويتمخض هذا عن اضطراب الحلم وفقده بعض همزات الوصل. وليس الحلم الظاهر أو بعبارة أخرى الحلم المحسوس إلا وليد طاقة فكرية ترمي إلى التعبير عن نفسها، ولكنها اصطدمت بمقاومة؛ وهذا يؤدي إلى أن هذه الطاقة قد تعبر عن مضمونها، ولكن قد تقوى المقاومة على منع هذا التعبير أو أن تستبدل اتجاه الطاقة باتجاه آخر لا يدل على كنهها، وفي أكثر الأحيان ينتج من الصراع بين هاتين القوتين (الطاقة والمقاومة) مظهر منسجم بحيث تستطيع القوى الدفينة أن تقول كل ما تريد أن تقوله، ولكن ليس على المنوال الذي تتوخاه ويتمخض هذا عن تشويه تعبيرها بحيث يصبح غير مفهوم. وتسمى القوة المقاومة (الرقيب الحلمي) وما هي إلا القوة الكابتة المستقرة بين الوعي واللاوعي.

إن المنبه غير الواعي هو خالق الحلم الحقيقي لأنه مصدر الطاقة العقلية اللازمة لتكوين الحلم، وهو كأي منبه غريزي يسعى إلى الوسيلة التي تشبع نهمه وتظهر قوته. والواقع أن كل حلم يعبر عن إشباع رغبة غريزية على نمط هلوسي وهمي، لأن التفريج عن نفسه عن طريق الحركة غير ممكن بسبب النوم وعليه أن يرجع القهقرى ليتدفق في مجرى آخر

ص: 18

هو مجرى الإدراك الحاسي ويعبر عن نفسه بطريقة هلوسية. وعلى هذا تتحول أفكار الحلم الكامنة إلي صور حاسية ومناظر مرئية، وتتزيا الأفكار والصور بزي يبدو لنا جديداً عجيباً. ولما كان الجهاز اللفظي عاجزاً عن العمل في حالة النوم فهو لا يستطيع التعبير عن الارتباطات الفكرية الدقيقة ويتخلف عن هذا مواد فكرية خامة لا تماسك بين بعض أجزائها والبعض الآخر فهي تشبه تعبير الشخصي البدائي. وقصارى القول أن هذا المنبه الفكري المكبوت يتراجع إلى طرق قديمة في الجهاز العقلي بتأثير الرقيب االحلمي، ويعبر عن نفسه على نمط الإنسان الفطري بالرموز التي أصبحت غريبة على الوعي ولكنها كامنة في العقل الباطن. على أن التغييرات التي تطرأ على العناصر التي تحتوي عليها الأفكار الحلمية على جانب عظيم من الأهمية فإن هذه الأفكار تتكثف بحيث تتكون منها وحدات جديدة كما سنرى فيما يلي.

عندما تترجم الأفكار إلى صور تعبر هذه الصور عن أفكار كثفت واعتصرت وقد يمثل بسبب هذا التكثيف عنصر واحد في الحلم المحسوس عدة عناصر من الأفكار الحلمية، ولكن على النقيض من هذا قد يمثل عنصر واحد من الأفكار الحلمية عدة صور مرئية في الحلم.

وهناك ظاهرة هامة أخرى، هي ظاهرة الإزاحة أو النقل وتنطوي على نقل أهمية فكرة إلى أخرى، وتعد هذه الإزاحة في الوعي كخطأ في التفكير، أو كوسيلة للمزاح. إن الأفكار الفردية التي تكون عناصر الأفكار الحلمية ليست كلها ذات أهمية متساوية، لأن كلا منها مزود بطاقة عاطفية أو انفعالية تتفاوت في قوتها. وتنفصل في الحلم هذه الطاقات العاطفية عن الأفكار، وحينئذ تتحول إلى طريق آخر أو تعدل أو تختفي من الحلم كلية أو تبقى كما هي. وقد تعود الأفكار التي سبق أن حرمت من طاقتها الانفعالية إلى حلم في شكل صور حلمية حساسة، وبذلك تتعلق الأهمية بعناصر لم تكن ذات أهمية، وعلى هذا نرى أن الصور المرئية البارزة في الحلم التي تعتبر أهم عناصره، ليست في حقيقة الأمر أهم عناصر الأفكار الحليمة، كما أن العناصر التي تبدو قليلة الأهمية في الحلم قد تكون في الواقع أهم عناصره، ولكن قلت أهميتها في الحلم بسبب حرمانها من الطاقة الانفعالية أو العاطفية. وهذا هو السبب في أن الحلم يبدو غريباً غير مفهوم. من هذا يتضح أن الإزاحة

ص: 19

تؤدي إلى تشويه الحلم تحت تأثير الرقيب الحلمي.

بعد هذه العمليات تصبح الأفكار الحلمية جاهزة، ولكنها قد تتأثر بعملية أخرى غير ملموسة الأثر في كل الأحلام وتسمى عملية الإعداد الثانوي التي تؤثر على الحلم عندما يصل إلى الوعي الذي يحاول أن يوجد همزات الوصل، ويملأ الفراغ بين بعض عناصر الحلم والبعض الآخر، فيبدو الحلم متماسكاً مصقولاً.

وحين ينعدم الإعداد الثانوي تبدو الأحلام على فطرتها لا تماسك بين بعض أجزائها والبعض الآخر. وقد يعمل الوعي على إعداد شطر من الحلم ويترك الشطر الآخر دون صقل ولا تهذيب.

يحتوي الحلم على رموز قد يصعب تفسيرها، وتستعصي معرفة مصدرها.

يرمز المعطف عندما تحلم به امرأة إلى الرجل، ويرجع منشأ هذا الرمز إلى طقوس البدو أثناء الاحتفال بالزواج في العهد القديم فقد كان يلبس البدوي عروسه عباءة وهو يقول (لا تدعي رجلاً آخر يسترك سواي)

وقد ذكر إبراهام أن العنكبوت يرمز إلى الأم القُبُلية لأنها تنهي طفلها عن العبث بقبلة فهو يخشاها ويمثل الخوف من العنكبوت الخوف من حب المحارم وكذا الخوف من رؤية أعضاء الأنوثة.

وقد فسر فرنزي رمز الجسر بكونه يمثل في الأصل عضو الذكورة الذي يصل الوالدين أحدهما بالآخر أثناء العملية الجنسية. على أنه يمثل أيضاً معاني أخرى ناشئة من عضو الذكورة نفسه لأنه المسئول عما يحدث بعد من ولادة الطفل بعد أن يتدفق السائل القرني، ومن هذا يتضح أن الجسر قد يمثل عملية الولادة في حد ذاتها.

(للبحث صلة)

دكتور محمد حسني ولاية

طبيب بصحة بلدية الإسكندرية

ص: 20

‌نساؤنا في الحج

للسيدة وداد سكاكيني

هنالك على السفوح المقدسة من عرفات ومنى، حيث يتناوح الأخشبان بهامتيهما العاريتين وفي عدوة المسعى بين الصفا والمروة تتهادى نساء في الحجيج، متلفعات بالأبرار البيض، مؤتزرات بأنقى الجلابيب، يبتهلن إلى الله بوجوه مشرقةٍ بالرضا، وقلوب فياضة باليقين، جياشة بالحنين، إلى بيته الحرام؛ وكما يزم الرجل رحاله، ويلملم أحماله، ويطوي البيد أو يمخر البحار، ليصل إلى ديار بني هاشم وعبد شمس، بإيمان لا يزعزعه زمان، وآمال ترثها الأجيال من الأجيال؛ هكذا تسارع نساؤنا في مواكب الرجال، إلى دارة الوحي وكعبة الدين، لا يصدهن عن الحج حرب ولا بعد، ولا يعوقهن غد غامض مجهول، أو ولد حبيب، فإذا بلغن مكة المكرمة، وباشرن فريضة الحج، بدأن من الشعائر بالإحرام، فلبسن كالرجال إزاراً ورداء جديدين ناصعين بالبياض، ثم والْينَ التلبية، رافعات بها الأكف، مبدئات ومعيدات: الله أكبر، الله أكبر! لبيك اللهم لبيك. . . فيتردد هذا الهتاف، ويضيع في زمام الحجيج كلما علون شرفاُ ونجادا، أو هبطن سفحاً ووهادا، فمن حول البيت العتيق كم طوفت مسلمات مستلمات الحجر الأسود، ميامنات فيه أشواطاً سبعة مباركة! ولكم ثمة وفين بالنذور، وتشبثن بالأستار الشريفة، داعيات إلى الله بالرحمة والغفران، وسلامة الإياب إلى الأوطان. . .

كانت زبيدة بنت المنصور زوج الخليفة العباسي هرون الرشيد تتوق للحج كلما حج الرشيد الذي كان من دأبه أن يغزو عاماً ويحج عاماً، فلما قتل ابنها الأمين، واستولى المأمون على الخلافة، جاءت زبيدة الثكلى حاجة محتسبة عند بيت الله مصابها في ابنها، فأكبت على المبرات، وأجرت عيناً حتى اليوم باسمها، يجد عندها الحجيج سكناً للهاثهم، وريّاً لظمائهم. . . ومن يدري، فلعل السيدة زبيدة - يرحمها الله - كانت إذا وقفت عند أستار الكعبة تمزج الرحمات بالدمعات، وتنشد قول الحسن بن هانئ في ابنها الأمين:

طوى الموت ما بيني وبين محمد

وليس لما تطوى النية ناشر

لئن عمرت دور بمن لا أحبه

فقد عمرت فيمن أحب المقابر

وكنت عليه أحذر الموت وحده

فلم يبق لي شيء عليه أحاذر

ص: 21

ثم تنثني إلى الصدقات، فتأمر بإمداد المعوزين والمساكين: فتكسوا العريان، وتطعم الجائع، وتعطى الفقير. . . ومن الغريب ألا يسلم عصر من عصور الأدب نم مزاحمة الشعراء للنساء، ولو كن في مناسك الحج ومحاريب العبادة والزهادة:(ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟). . . هكذا كانوا يرتقبون أسباب الدعاب، ويتلمسون مراتع الفتون، فيجيبون داعي القلب، كما يجيبون داعي الرب. على أن أشهر وأكثر من تصدي للنساء بالغزل والثناء هو عمر بن أبى ربيعة، فقد اتخذ من أيام الحج موسماً للهوة ومجانته، وكثيراً ما وقف عند الحطيم هائم النفس يترقب وينشد:

أيها الرائح المجد ابتكارا

قد قضى من تهامة الأوطارا

من يكن قلبه صحيحاً سليماً

ففؤادي بالخيف أمسى معارا

ليت ذا الدهر كان حتما علينا

كل يومين حجة واعتمارا

وقد بلغ من عبثه وغزله أن نفرت كل حصان رزان من الحج، وأبى أحرار الرجال على نسائهم تأدية هذه الفريضة كلما جاء هذا الشاعر المخزومي إلى تلك المناسك المباركة.

كان عمر يقتحم العقبات ولا يحجم عن تعقب الحسان وتتبع الغواني في مغاني الطائف أو بين مسارب العقيق وواديه البهيج مهما لقي من تهديد الخفاء والمتزمتين ومن وعيد أصحاب الغيرة على الحرمات، ولكم هجر مكة أناس فراراً من هذا الشاعر الغزل، وخشية تشبيبه بكرائمهم وتنويهه بأسمائهن وكشفه عن معالم الجمال فيهن. أما موكب النبيلات من شريفات الحجاز أو العراق والشام في مواسم الحج فكانت حافلة بالهوادج والرواحل مثقلة بالمتاع والزينة.

روي أن عائشة بنت طلحة ذات مرة ومعها ستون بغلاً عليها الرحائل والقباب فعرض لها عروة بن الزبير قائلاً:

عائش يا ذات البغال الستين

أكل عام هكذا تحجين

فأرسلت إليه: نعم يا عُرَيَّة! فتقدم إن شئت. فكف عنها وندم على فضوله

ولم تكن كل النساء في عصر عمر سواء في التنكر للشعراء والتحرج من غزلهم ولهوهم، فالجميلة منهن كانت تتمنى أن يسير في ذكرها الشعر، ولاسيما في شعر عمر بما يزيدها تيهاً بحسنها ويغرى بها الخطاب. وكان الشاعر العرجي يتصدى في موسم الحج لمن

ص: 22

عناهن بقوله:

من اللاء لم يحججن يبغين حسبة

ولكن ليقتلن البريء المغفلا

ولكثير عزة وجيل بثينة والأحوص أشعار في بعض الحاجات المترفات ممن رضين بالأماديح وعدن تياهات بلقيا الشعراء مباهيات بغزلهم ونسيبهم، حتى أن النواسي على مجونه لحق بجنان جارية الثقفي إلى طريق الحج فقال:

حججت وقلت قد حجت جنان

فيجمعني وإياها المسير

وفي الواقع أن نساءنا في الحج كن في القديم يؤدين هذه الفريضة بشوق وحماسة ودافع ديني صميم؛ وهنالك كن يشهدن في ذك الموسم العظيم مباهج الإسلام وعزة الدين وفضل المساواة وكانت الحاجة تعود إلى بلادها سعيدة جد سعيدة، مزهوة بما نالت من شرف الخطوة بالأرض المطهرة التي فيها أول بين وضع للناس والتي ضمت قبر الرسول عليه السلام وصحبه الأكرمين وأطلعت آفاقها المنورة كواكب رجال تسلموا مفاتح الدنيا وملكوت زمامها.

أما نساء اليوم من أنداد مترفات الأس وفضلياتهن فقلما يدور الحج في خواطرهن وهن مستطيعات إليه سبيلاً، إذ أن تيار الحضارة قد جرفهن بريحه العاتية نحو الغرب فسجن في بلاده، وزرن عواصمه الكبرى للمعرفة والسلوى وكان إليها حجهن المبرور.

فيا مهبط الوحي ويا موطن النبوة والهجرة، إليك تهفو روحي هفهافة كالأجنحة، خالصة صافية كماء النبع، متوجهة للذي فطر السموات متوسلة إليه أن أراني يوماً طوافة في البيت الحرام حوامة على ذلك الصعيد الطهور الذي درجت في حماه خديجة الكبرى وفاطمة الزهراء وعائشة أم المؤمنين وأسماء بنت أبي بكر وسكينة بيت الحسين وغيرهن من القانتات الطاهرات.

ويا حجيج هذا العام من مترامي بقاع الإسلام، يا من طويتم المراحل في غمرة هذه الحرب الضروس إلى بيت الله ومثوى الرسول سلوا ربكم أن يرفع غضبه عن بني الإنسان ويحقن الدماء التي يسفكها الجبابرة والطغاة ليقيموا على جماجم الأبرياء مجداً لجشعهم صبيغاً بالنجيع.

(دمشق)

ص: 23

وداد سكاكيني

ص: 24

‌رأي في تنقيح الأحاديث

للأستاذ محمود أبو رية

استبشرنا خيراً حينما أهاب بالعلماء الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت ليدعوهم إلى العناية بكتابهم فيعملوا على تخليص تفسيره مما شابه من الإسرائيليات التي شوهت جماله وأذهبت نوره، وقلنا لعل هذا العمل الطيب يكون مقدمة لأن يجعل شيوخ الأزهر هذا الكتاب الكريم إمامهم في أخذ العقائد والعبادات والأحكام منه ويسيروا بنوره في هذه الحياة حتى يكونوا هداة بحق، ومن ثم يتبين لأهل الأرض جميعاً أن هذا الدين خير الأديان وأنه صالح لكل زمان ومكان. ومنذ أيام كنت أتحدث مع الأستاذ الكبير صاحب الرسالة في هذا الأمر الذي دعا إليه الأستاذ شلتوت وكان مما قلته له، أن تخليص تفسير القرآن من الإسرائيليات يجب أن يسبقه أو يكون معه تطهير الأحاديث التي هي (السنن القولية) مما أنبث فيها من الموضوعات، إذ ما أصيب الإسلام بشيء أشد وأنكى مما أصيب به في ناحية هذه الأحاديث الموضوعة. وما كانت الإسرائيليات التي تدسست إلى التفسير إلا جزءا منها؛ ذلك بأن أعداء الإسلام وأصحاب الأهواء لما رأوا أنه لا يمكنهم أن يضربوا المسلمين من قبل كتابهم لأنه جاءهم من طريق التواتر، ونسخة منتشرة بين أرجاء الأرض، وكثير من المسلمين يحفظونه عن ظهور قلوبهم فلا يستطيعون بذلك أن يزيدوا فيه حرفاً أو يبدلوا منه كلمة، عمدوا إلى الحدث عن الرسول صلوات الله عليه فلعبت فيه أيديهم ونالوا به مآربهم، وغر المسلمين الأولين أن أولئك الذين يبطنون الكفر والحقد يرتدون لباس الإسلام ويعملون بأحكامه، فقبلوا منهم ما روَوا وصدقوهم فيما حدثوا. وناهيك بما فعل كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما. ولقد كان للمسلمين مما وضعه أولئك الأعداء في الأحاديث مشكلات كثيرة في الدين والحس والعلم لم نخلص منها حتى اليوم. فإذا أردنا الإصلاح حقاً كان علينا أن نبدأ بالحديث فننخل كتبه ولا نُبِقي فيها غير الصحيح مما يخالف متواتر النقل وصريح العقل وما أثبته العلم وما شهد به الحسن؛ وإننا إن نفعل ذلك لا نكون قد خرجنا عن قواعد رجال الحديث أنفسهم فقد قالوا: إن من جملة دلائل الوضع أن يكون مخالفاً للعقل بحيث لا يقبل التأويل، ويلتحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة أو يكون منافياً لدلالة الكتاب القطعية أو السنة المتواثرة أو الإجماع القطعي.

ص: 25

وقالوا: ليس كل ما صح سنده يكون متنه صحيحاً، ولا كل ما لم يصح سنده يكون متنه غير صحيح.

وكذلك قالوا: (ولا يلزم في إجماع الأمة على العمل بما فيهما (البخاري ومسلم) إجماعهم على أنه مقطوع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومتى تم لنا ذلك واستقام كان تخليص التفسير في الإسرائيليات وغيرها سهلاً يسيراً؛ أما إذا وقف بنا الأمر عند تفسير كتاب الله تعالى، وتركنا كتب السنة تحمل ما تحمل، فإن عملنا يكون ناقصاً، ويظل المسلمون على ما هم فيه من الاختلاف بين الفرق والتعصب بين المذاهب، ذلك بأن الأحاديث - كما لا يخفي - هي مرجع كل الطوائف ومأخذ كل المذاهب.

هذا ما حدثت به الأستاذ الزيات، فكان من جوابه أن جماعة كبار العلماء قد تداركت هذا الأمر، وإنك ستجد ما قرروه في العدد القادم من (الرسالة). ولما طلع علينا هذا العدد 446 وقرأت فيه قرار الجماعة، عجبت من أنهم لم يلتفتوا إلى أمر السنة إلا لرغبة أتتهم من غيرهم، كان هذا الأمر العظيم ليس له خطر عندهم. على أني رأيت أن أعلق بكلمة صغيرة على قرار الجماعة في أمر السنة ووضع كتاب فيها، وأرجو أن تنال هذه الكلمة منهم الرضا والقبول.

تقول الجماعة: إنها ستضع مؤلفاً يجمع الأحاديث التي (تصلح للاحتجاج والتي لا تصلح من بيان درجاتها)، وكلمة (تصلح للاحتجاج) مطلقة المعنى، فكما تصلح الحجة القوية للاحتجاج، فإن الحجة الضعيفة تصلح كذلك!

فإذا أخذنا بهذه لقاعدة، ظل باب الضعيف مفتوحاً للاحتجاج به، ورجعنا إلى قول بعض الأئمة، في أن الضعيف يقوي بتعدد طرقه، وكأننا لم نضع شيئاً. ونحن بما نرجو في تنخل السنة، إنما نريد إخراج كل ضعيف مهما تعددت طرقه، لأن الضعيف ضعيف ولو تعددت أسانيده، وإذا كانوا قد قالوا في الصحيح: إنه يعطى الظن فتُرى ماذا يعطى الضعيف؟!

على أن هذا الإطلاق يجعل المسلم في حيرة من أمره، إذ لا يعرف ما هي الأحاديث التي يحتج بها في أصول الدين، ولا ما هي التي يحتج بها في فروعه. فالواجب أن يكون وضع كتاب السنة على غير هذه الطريقة. وإني أعرف هنا طريقة في تنقيح كتب الأحاديث، وهي لإمام السنة في هذا العصر المرحوم السيد محمد رشيد رضا، وقد كان هو يريد أن

ص: 26

يعمل بها، ولكن المنيَّة حالت بينه وبين ما كان يريد.

ذك أني كنت حدثته قبل موته بنحو عامين في أن يخدم السنة بتنقيح كتبها؛ فكان جوابه لي رحمه الله أنه لم يأسف على شيء فاته في الحياة أسفه لعدم قيامه بهذا الواجب، وتمنى لو أطال الله عمره لينهض به. وبعد شهور كتبت إليه أذكره بهذا العمل وأسأله عن الطريقة التي تنفع في هذا التنقيح إذا تهيأت أسبابه. فكتب إليّ رضي الله عنه جواباً كأنه كان يخاطب به كل من يريد أن يعالج هذا العمل، وإننا ننقلها إليهم ونرجو أن ينتفعوا بها في عملهم، قال:

(. . . إن على المسلين أن ينقحوا كتب السنة ويبينوا للناس صفوة السنة التي بين بها الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله وأمر أصحابه بتبليغها للناس، ففعل خلفاؤه وسائر علمائهم ذلك وقاموا به خير قيام على حين لم يكن معهم كتاب مخطوط غير كتاب الله، ويبينوا لهم ما هو قطعي الدلالة والرواية لا عذر لأحد في جهله ولا في تركه، وما هو موكول إلى اجتهاد الأفراد، وما هو خاص باجتهاد الأئمة (الخلفاء والأمراء والقضاة). الخ)

هذه هي الطريقة الحكيمة التي أرشد إليها هذا الإمام الكبير وهي جديرة بأن تنال مكاناً محترماً بين جماعة كبار العلماء، فإن لم يأخذوا بها فلا أقل من أن يسترشدوا بما جاء فيها.

هذا ما رأينا أن نعلق به على قرار جماعة كبار العلماء، ونرجو لكي يخرج هذا العمل الجليل كاملاً أن تولاه أخصّاء من كبار المحدثين الفقهاء، أمثال المحدث الفقيه الشيخ أحمد شاكر.

وإن أمل المسلمين جميعاً لكبير في أن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر سيمد جماعة كبار العلماء بروح منه حتى تنهض بقوة لأداء ما قررته من تفسير كتاب الله تفسيراً صحيحاً وتنقيح سنة الرسول صلوات الله عليه؛ لأن هذا العمل ولا ريب هو أجل عمل تقوم به هذه الجماعة في هذا العصر لتنفع المسلمين بين مشارق الأرض ومغاربها في دينهم ودنياهم.

(المنصورة)

محمود أبو ريه

ص: 27

‌الصليب

للشاعر لامرتين

بقلم الأستاذ محمد أنور ولاية

(ماتت ألفير في 18 ديسمبر 1817 وهي جوليا في قصته رفائيل بعد أن عانت آلاماً مبرحة وقد حمل أحد أصدقاء لامرتين إليه من التي كان يحبها الصليب الذي كانت ممسكة به ساعة النزع. فنظم هذه الأبيات بعد مضي عام. ولكنها لم تنشر إلا في عام 1823 في مؤلفه (التأملات الثانية)، وربما أدخل عليها المشاعر في تلك المدة بعض التعديل كعادته)

أنتَ الذي التقطتك من فوق فمها وهي تكابد غصص الموت، في ساعة الوداع وهي تلفظ النفس الأخير

إنك رمز قدسي لصورة الإله، ومنحة من يدها وهي نفارق الحياة

كم دمعة ذرفتُها تحت قدميك اللتين أعبدهما،

ومنذ الساعة المقدسة قد تسلمتك يداي المرتعشتان

وأنت ما تزال دافئاً من نفسها الأخير، المنبعث من أحشاء هذه الشهيدة.

كانت المشاعل المقدسة ترسل شعلة أخيرة،

وكان القس يتمتم بأغاني الموت العذبة، الشبيهة بتلك الأغاني ذوات الأنين المؤثر التي ترددها المرأة للطفل المسترسل في النوم.

لقد انطبع على جبينها أثر ذلك الأمل، المنطوي على الورع والتقوى.

وعلى أسايرها التي بدت في جمال رائع،

طبع الألم الهارب بهاءه والموت جلاله.

وهذه الريح التي كانت تداعب جدائل شعرها،

كانت تكشف لي عن محياها آناً وتحجبه آناً،

كما تموج ظلال شجر السرو السوداء على قبر ناصع البياض.

كانت إحدى ذراعيها متدلية من فراش الموت،

والأخرى منثنية على قلبها بتراخ كأنها ما زالت تبحث عن صورة المنقذ لتضمها إلى فمها.

فتحت فاها لتعانقه ثانية،

ص: 28

ولكن روحها ولت الأدبار وهي تطبع عليه هذه القبلة الإلهية كالعطر الرقيق المنبعث من البخور الذي تلتهمه النيران قبل أن يتأجج.

والآن هدأ كل شيء على فمها.

وأخلد النفَس إلى السكون في أحشائها الهامدة.

وعلى عينها اللتين خبا بريقهما أسبلت جفنيها حتى أضحتا مغمضتين نصف إغماض.

تملكني فزع لا أعرف كنهه حين كنت ماثلاً أمامها،

وكنت لا أجسر على الاقتراب من هذا التراث المعبود

كنت لا أجسر. . .! ولكن أنصت الكاهن إلى سكوني وأمسك بيديه المثلجتين الصليب وصاح بي:

(هو ذا التذكار. هو ذا الرجاء. خذه يا بني. . .!)

نعم ستبقى لي أيها الإرث المحزن.

منذ ذلك اليوم بدّلَت الشجرة التي زرعتُها على قبرك وريقاتها سبع مرات ولكنك لم تهجرني.

كنت قائماً إلى جانب هذا القلب وا أسفاه حيث كل شيء سائر إلى الزوال.

فحنيتها من النسيان على مر الزمن.

وطبعت عيناي وهما تذرفان القطرة تلو القطرة أثرهما على العاج الذي لان.

يا من باحت إليه الروح المدبرة بسرها الأخير

تعال. وتربع على قلبي وتكلم أيضاً وبثني حديثها لك عندما أصبح صوتها الضعيف لا يصل إلا إلى مسامعك.

وفي هذه الساعة المريبة حيث النفس خاشعة، وهي تتوارى تحت النقاب الذي يبدو كثيفاً لأعيننا، خارج نطاق حواسنا المثلجة، تنكمش رويداً رويداً غير منصتة إلى الوداع الخير.

وبينما هي على نهاية الحياة في انتظار الموت كالثمرة التي تنفصل من الفرع لثقلها

ترتعش روحنا المعلقة عند كل زفرة على ظلام القبر

وحين تكف أغاني وتنهدات النشيد المضطرب عن إيقاظ عقلنا النائم

إذ بك ملتصق على الشفاه في ساعة النزع كآخر صديق

ص: 29

إنك تعرفين كيف تموتين، وأن دموعك الإلهية التي ذرفتها في تلك الليلة المخيفة، حيث كنت تصلين عبثاً، قد روت شجرة الزيتون المقدسة من المساء إلى الفجر.

وعندما ألقت عيناك نظرة على الصليب لتسبر غور هذا سر العظيم

رأيت أمك تجهش بالبكاء والطبيعة تلبس الحداد

لقد فارقتِ أصدقاءك على الأرض كما هجرت جسدك في القبر

سأبحث عن الموضع الذي زفر عليه فمها منك وداعها الأخير وهي تسلم الروح

لعل نفسها تُقبل لهداية نفسي الهائمة في حب إله واحد

ألا من حبيب يلبس الحداد يلتقط الإرث المقدس من فوق فمي وأنا على فراش الموت وقد اعتراني الاكتئاب والهدوء معاً كملاك مولّه الفؤاد.

فيسدد خطواته ويأتنس به في ساعته الأخيرة

فتنتقل تلك الوديعة المقدسة المنطوية على الحب والأمل من المرتحل إلى المقيم؛

وهكذا دواليك

إلى أن يأتي يوم تخترق فيه الأموات القبة المظلمة

يناديك صوت من السماء سبع مرات

فيوقظ هؤلاء الذين ينامون في ظل الصليب الأبدي

(الإسكندرية)

محمد أنور ولاية

ص: 30

‌23 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل السادس - عاداتهم

كثيراً ما يحدث أن يرد الرجل امرأته بعد طلاق ثالث (بشرط أن ترضى هي نفسها باستئناف المعاشرة وألا يوجد شهود بوقوع الطلاق) دون أن يخضع للقانون الثقيل السابق ذكره. وجرت العادة أيضاً أن يستخدم الرجل في مثل هذه الظروف آخرَ يتزوج المطلقة بشرط أن يطلقها في اليوم التالي لزواجهما فيعقد عليها الزوج الأول من جديد وإن خالف ذلك روح الشريعة مخالفة صريحة. ولكن قد تمسك الزوجة عن القبول، إلا إذا كانت قاصرة فيزوجها أبوها أو الوصي عليها من يشاء. ويُختار عادة للقيام بهذا العمل رجل فقير قبيح الشكل أعمى غالباً، يطلق عليه لقب (مستحل) - بكسر الحاء أو فتحها - أو (مُحلِل). وكثيراً ما يعجب المستحل بجمال المرأة التي يتزوجها بالشروط السابقة، أو بثروتها فيرفض أن يتركها، ولا يستطيع القانون أن يجبره على تطليقها إلا إذا ظلم. وطبيعي أنه يحرص على عدم الجور في معاملتها، ولكن الرجل يستطيع أن يستخدم (المستحل) دون تعرض لهذا الخطر. فقد جرت العادة أن يستخدم أثرياء الترك وبعض المصريين عبداً أسود من عبيدهم ليقوم بهذا العمل. وقد يُشتري العبد أحياناً لهذا الغرض، أو يطلب من النخاس أن يقدم العبد على سبيل العارية. وأحسن العبيد أقبحهم شكلاً، ويختار الترك على العموم عبداً غير بالغ، إذ يسمح لهم مذهبهم بذلك. وعندما تستكمل المرأة عدتها يقدم لها مطلقها العبد، بعد أن يحصل على رضاها بذلك من قبل، ويسألها الموافقة على الزواج به، فتوافق أمام لشاهدين، ويقدم لها المهر لتكمل شرعية الزواج، وبذلك يصبح العبد زوجها الشرعي. وبعد العقد فوراً، أو في الصباح التالي يقدم الزوج الأول إلى مطلقته هذا العبد ملكاً لها، فتنحل عقدة الزواج بقبولها إياه، إذ أن الشرع لا يبيح للمرأة أن تتزوج من عبدها إلا إذا أعتقته. وتستطيع الزوجة عندما يفسخ زواجها بقبولها العبد أن ترده إلى زوجها

ص: 31

ثانية، ولكن يندر أن يسمح للمستحل بالقباء في المنزل. وبعد ذلك تستطيع الزوجة - عندما تنتهي عدتها - إن تعود إلى زوجها بعد أن فارقته مدة العدتين وذلك ما يقرب من نصف سن أو يزيد.

ومن الميسور أن نتصور ما تنتجه سهولة الطلاق من ضرر ينال الجنسين معاً. وفي مصر رجال يتزوجون في عشر سنين عشرين امرأة أو ثلاثين أو أكثر من ذلك. وفيها كذلك نساء لم تتقدم بهن السن يتزوجن عشرة رجال أو اكثر على التوالي. وقد أُخبرت أن هناك رجالاً تعودوا الزواج كل شهر تقريباً بامرأة جديدة. ولا يصعب ذلك على الرجل ولو لم يملك إلا القليل، إذ يستطيع أن يختار من بين نساء الطبقات السفلى أرملة شابة أو مطلقة ترضى أن تصبح زوجة له بمهر يقرب من عشرة شلنات، ولا يلتزم عندما يطلقها بأكثر من ضعف هذا المبلغ أثناء عدتها. ولكن يجب القول بأن المصريين على العموم يعتبرون مثل هذه التصرفات فاضحة، وقلما توافق عائلات الطبقات العليا والوسطى أن يزوجن بناتهن من رجل مزواج.

ويقل تعدد الزوجات في الطبقات العليا والوسطى عنه في الطبقات السفلى. وتعدد الزوجات مفسد لأخلاق الزوج وزوجاته، ولا يبرره غير تقليله ارتكاب الفاحشة، ويستطيع الفقير أن ينعم بزوجين أو أكثر، وتستطيع كل منهن أن تقوم بضروريات معيشتها تقريباً بأي صنعة أو عمل. إلا أن أغلب رجال الطبقات العليا والوسطى منصرفون عن ذلك لما يحدثه تعدد الزوجات من نفقات وتعب. وقد يضطر الرجل الذي يحب زوجته العقيم إلى الزواج بأخرى أحياناً لتكون له ذرية، وقد يتزوج بثالثة أو رابعة للسبب نفسه. بيْد أن السبب البيّن والمألوف لتعدد الزوجات هو عدم استقرار الشهوة؛ ولكن قلّ من يرضي هواه بالأسلوب السالف. وأعتقد أن ليس هناك أكثر من رجل واحد بين كل عشرين رجلاُ ينعم بزوجتين.

وتتمتع زوجة الرجل الأولى بالمكان الأول بين زوجاته الأخريات وتسمى (الست الكبيرة). ومن هنا كان كثيراً ما يحدث عندما يرغب الرجل في الزواج أن يشترط أهل الفتاة المخطوبة أو الفتاة نفسها أن يطلق الزوجة الأولى أولاً. وطبيعي أن المرأة لا تستحسن زواج الرجل بأكثر من واحدة. ويُعد الرجل الثري أو المتوسط الحال حتى الفقير لكل من زوجاته مسكناً منفصلاً. وتستطيع الزوجة أن تجبر زوجها على أن يخصص لها (مسكناً

ص: 32

شرعياً) منفصلاً أو شقة (بها غرفة واحدة للنوم وللجلوس ومطبخ ودورة مياه) منفصلة عن غرف المنزل الأخرى. وتسمى كل من الزوجتين أو الزوجات (ضُرَّة) وكثيراً ما يتحدث الناس عن مشاجرات الضرائر. ويستنتج طبعاً أن الصداقة لا تحصل دائماً بين امرأتين يقتسمان حب رجل واحد وحدبه. وكذلك الحال على العموم بين الزوجة والسرّية اللتين تعيشان في منزل واحد وفي أحوال متشابهة. ويحدث أحياناً إذا عقمت السيدة وحملت من دونها، زوجة كانت أو سرية، أن تصبح الأخيرة مفضلة لدى الرجل، (وتصغر في عينها) سيدة المنزل كما صغرت امرأة إبراهيم في عيني هاجر للسبب نفسه ولذلك كان كثيراً ما تفقد الزوجة الأولى مكانتها وامتيازاتها. وتصبح الأخرى سيدة المنزل يعاملها منافساتها والحريم جميعه والزائرات، لخطوتها عند الزوج، بنفس الاحترام الظاهر الذي كانت تتمتع به الزوجة الأولى. ولكن قد تستعمل الكأس المسمومة أحياناً للتخلص منها. وكثيراً ما يكون تفضيل الزوجة الثانية سبباً في تقييد الزوجة الأولى في المحكمة (ناشرة) بناء على طلب الزوج أو طلب الزوجة الأولى نفسها. ومع ذلك كان كثيراً ما يرى زوجات يخضعن إلى أزواجهن الخضوع المثالي الصادق في مثل هذه الأحوال، ويعاملن الزوجة المفضلة بود وطيبة. لبعض الزوجات جوار يشترين خاصة أو تقدم لهن قبل الزواج. وأولئك الجواري لا يصبحن سريات للزوج إلا بإذن تسمح به السيدة أحياناً (كما كان حال هاجر جارية سارة) ولكن ذلك نادر جداً. وكثيراً لا تسمح أيضاً الزوجة لجارتها أن تسفر في حضرة زوجها. وقد يتسرى الزوج بالجارية دون إذن سيدتها؛ وقد تحمل منه فيصبح الطفل عبداً إلا إذا بيعت الأم أو أهديت إلى الأب قبل ولادة الطفل.

والجواري البيض غالباً في حوزة الأتراك الأثرياء، أما سراري المصريين في الطبقتين العليا والوسطى فهن من الحبشيات. ويبدو أولئك الحبشيات من سيماهن ولون وجههن من جنس وسط بين الزنوج والبيض وإن كان الفرق بينهن وبين الجنسين كبيراً. ولكن الحبشيات يعتقدن أن ما بينهن وبين الجنس الأبيض من تفاوت قليل فلا يمكن حملهن على القيام بخدمة زوجات سادتهن مع الخضوع الواجب. وتشعر الجارية السوداء نحو الحبشية الشعور نفسه، ولكنها تخدم البيض بكل ارتياح. وأذكر هنا أن الجواري اللاتي يسمين حبشيات لسن، ما عدا القليل منهن، من بلاد الحبشة، ولكنهن من أقاليم الجلا المجاورة.

ص: 33

وأغلب الحبشيات جميلات. وتقدر الحبشية المتوسطة الجمال من عشرة جنيهات إسترليني إلى خمسة عشر، ولكن هذا نصف ما كان يدفع عادة ثمناً للواحدة من سنوات قليلة خلت. ويقدر أصحاب الشهوة في مصر الحبشيات كثيراً. ولكنهن رقيقات التكوين فيغني أغلبهن رويداً في هذا البلد. ويقدر ثمن الجارية البيضاء عادة من ثلاثة أضعاف إلى عشرة أضعاف الحبشية، وثمن السوداء حوالي النصف أو الثلثين أو ما يزيد بكثير إذا كانت تجيد الطهي. وتقوم الجواري السود بالخدمة.

ويدخل جميع الجواري تقريباً في دين الإسلام. ولكنهن على العموم لا يعرفن من دينهن الجديد إلا قليلاً. وأغلب الجواري البيض اللائى كن بمصر أثناء زيارتي الأولى يونانيات. وقد أسرت الجيوش التركية المصرية تحت قيادة إبراهيم باشا كثيرين من أبناء هذا الشعب البائس، وأرسل كثيرون منهم ذكوراً وإناثاً وأطفالاً ليباعوا في مصر. وقد قل طلب الجواري البيض فيما بعد لشيوع الفقر بالطبقات العليا في مصر. ويجلب من الجركس والكرج عدد قليل قد تلقى بعضهن نوعاً من الثقافة الأولية إذ يتعلمن الموسيقى وبعض الفنون الأخرى. وقد شغلت الجواري البيض مكانة أعلى من مكانة الحرائر في مصر عند الرأي العام. فكثيرات منهن كن رفيقات لعظماء الأتراك أو زوجاتهم. وكان الأتراك يفضلوهن على الأخريات. ويلبس أولئك الجواري أفخر الملابس، ويتقلدن الحلي النفيسة، وينعمن تقريباً بكل مستطاع، ويعتبرن في بعض الأحوال إذا لم يستعملن للخدمة سعيدات. وقد أثبت ذلك أخيراً - منذ انتهاء الحرب في اليونان - أن جواري كثيرات بقين أسيرات في الحريم، ولم يرغبن في الحرية. ولا يمكن افتراض عملهن نتيجة جهل بحالة أسرهن وأقاربهن، أو خوف التعرض للفقر. وإن كان يحتمل وإن كان يحتمل أن بعضهن حمل على البقاء تحت تأثير الظروف الدينية والأخلاقية التي أخضعن إليها قسراً، ولأنهن دخلن في سلطان سادتهن أطفالاً. ولكن إذا كان بعضهن سعيدات وقتاً ما على الأقل فهن قليلات نسبياً. وقد قدَّر لأغلبهن أن يخدمن زميلاتهن الحظيات أو السيدات التركيات، أو أن يتقبلن كرهاً ملاطفات عجوز غني، أو رجل أنهك الإفراط جسده وعقله، ثم يُعرضن للبيع إذا لم يكن لهن أطفال عندما يسأمهن سادتهن أو سيداتهن، أو عندما يموتون، أو يحررون ويزوجن من بعض الوضعاء الذين لا يستطيعون أن يمنحوهن إلا القليل مما تعودنه من

ص: 34

الرفاهية. وتعتبر جواري الطبقات الوسطى أحسن حالاً من جواري الأغنياء؛ فلا يعكر صفوهن في أغلب الأحوال منافسة عندما يستخدمن للتسري، ولا يتعبن أو يشتد عليهن عندما يخضعن للخدمة. وكثيراً ما تكون حالة السرية أسعد من حالة الزوجة إذا دامت المحبة المتبادلة بينها وبين سيدها. إذ أن الزوجة قد تطرد في وقت غضب الزوج، فيوقع عليها طلاقاً لا رجعة فيه فتمسي في حالة فقر. بينما يندر أن يطرد رجل جاريته دون أن يدبر لها الأمر. فإن لم تكن تعودت الترف لا تتألم كثيراً أو إطلاقاً من هذا التبدل. فيعتقها السيد ويمنحها مهراً ويزوجها رجلاً طيب السمعة أو يقدمها إلى صديق.

وسبق أن ذكرت أن السيد لا يمكنه التصرف في جارية حملت منه وأعترف بولدها. وكثيراً ما يحدث أن تعتق هذه الجارية بعد الحمل فوراً وتصبح زوجة. فلا تستطيع الجارية عندما تعتق أن تقوم طويلاً مقام الزوجة شرعاً إلا إذا تزوج بها السيد. ويرى بعض الناس أن من العار بيع الجارية التي بقيت طويلاً في خدمتهم. ويفسد (الجلاّب) أو تاجر الرقيق - في الصعيد والنوبة - الجواري الحبشيات والسود أقبح فساد. ويندر أن ينجو من في سن الثامنة أو التاسعة من شدة عنف النخاسين. وكثيراً ما يلقى هؤلاء الأطفال والأحباش منهم خاصة، أنفسهم في النيل أثناء السفر، هرباً من قسوة (الجلاب). وتعتبر الجواري من أي طبقة أغلى ثمناً من الذكور في السن نفسه. ويعطى المشتري ثلاثة أيام تظل الجارية أثناءها في حريمه أو في حريم صديق له ليقدم النساء له تقريراً عنها. ومن أسباب إعادة الجارية إلى التاجر أن تغط في نومها أو تصر بأسنانها أو تتكلم أثناء النوم. وتشبه ملابس الجواري ملابس المصريات.

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 35

‌إلى تاج (الفاروق)

(تحية لذكرى مهرجان الشرق في يوم الزفاف الملكي السعيد)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

لَمْ تَكُنْ نَارُكَ بَرْداً أو سَلَامَا

فَعَلَامَ الشَّدْوُ يَا طَيْرُ عَلَامَا؟!

بَيْنَ جَنْبَيْكَ حَنِينٌ أَوشَكَتْ

رِيحُهُ الْهَوْجَاءُ تَذْرُوكَ حُطَاما

وَعَلَى عُشِّكَ لَيْلٌ جَاثِمٌ

كُلَّمَا رَاوَدَهُ الْفَجْرُ تَعَامَى!

سَكْتَةُ الدَّوْحِ، وَآهَاتُ الرُّبَى

لَمْ تَفِضْ كَالأْمْسِ عِطْراً أو بُغَامَا

وَالْهَوَى لَمْ تَغْدُ في مِحْرَابِهِ

صَلوَاتُ الشَّوْقِ يَسْحَرْنَ الظَّلاما

كُلُّ شَيْءِ هَاجَ حَتَّى حَرَّمَتْ

ضَجَّةُ الدُّنْيَا عَلَى الصَّمْتِ المَنَاما

كَيْفَ وَادِيكَ وَهَل طْاَفَتْ بِهِ

نَشْوَةُ الْوَحْيِ فَأَرْعَشْتَ الْغَرَاما

وَتَنَقَّلْتَ بِعِيدَانِ الضُّحى

عَازفاً يَسْتَنْطقُ النُّورَ كَلَاما!

وَنَسَخْتَ الظِّلَّ لْحَناً وَالثّرَى

أُذُناً، وَالنَّبْعَ قَلْباً مُسْتَهَامَا!

كَيْفَ وَادِيكَ وَهَلْ حَالُ الْهَوَى

مِثْلَمَا كَانَ بِهَ عُرْساً مَقَاما؟

وَنَدَامَاكَ وَقَلْبِي بَيْنَهُمْ

رَقَّ حَتَّى لَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَدَامَى!

جَدْوَلٌ غَافٍ، وَصُبْحٌ ثَمِلٌ

وَنَسيِمٌ مَرَّ مِسْكِيناً مُضَاما

وَصَدَى صَنْجٍ بِكَفَّيْكَ لَهُ

في فِجَاجِ الرُّوحِ وَجْدٌ يترَامَى

وَشُعَاعٌ، وَنَدىً خُيِّلْتُهُ

مِنْ بَقَايَا حَانَةِ الْفَجْرِ مُدَاما

كُلُّ هذَا كَانَ حُلْماً هَارِباً

لَيْتَهُ طَنَّبَ في قَلبِي الْخِيَاما!

فَأَعِدْهُ مَعْبَداً مُصْطَخِباً

وَتَرَنَّمْ وَامْلأَِ الدُّنْيَا ابْتِسَاما

وَاسْكُبِ الأَنْغَامَ لَا تَنْشُدْ لهَا

أَيْنمَا تَهْزِجْ عَلَى الأَرْضِ مُقَاما

وَتَأَلَّقْ بِأغَانِيكَ عَلى

زَمَنٍ عَجَّ لَهِيباً وَقَتَاما

أخضر الشَّطَّيْنِ نَادَاكَ فَطِرْ

في رَوَابِيِه غِنَاءً أو حَماما

مَنْ يَكُنْ لِلْحَرْبِ غَنَّي هَوْلَها

قُمْ فَرَتِّلْ في مَغَانِيِه السَّلَاما

وَأشْدُ لِلتَّاجِ الّذِي في ظِلِّهِ

تَخْشَعُ الأْفْلَاكُ قُدْساً وَاحْتِشاما

صَرَعَ الدَّهْرَ صَبِيّاً، وَتتسَآى

دَارَةَ الشَّمْسِ وَلَمْ يَعْدُ الْفِطَاما

ص: 36

أَعْجَزَتْ مِصْرُ بهِ سِحْرَ النُّهَى

يَوْمَ كانَ النَّاسُ في الأَرْض سَواما

لَمْ يزل في النيل من آياته

هزجٌ أشجْىَ بهِ الْمَوْجُ الغَماما

رُدَّ يا (فَاروقُ) مِنْ أمْجَاِده

قَبساً يُوقِظُ في الشَّط النَياما.

وَأعِدهُ للْبَرَايا كَوْكباً

طَار لِلنَّجْم ليَاذاً وَاعْتِصَاما

وَانْشُر الحبّ على أَقْوامهِ

مَنْ سِوَى نُورِك يَحَتْاجُ الخْصاما؟

كَمْ على طَفْيِكَ أغْفَى جَاِئعٌ

كان لَوْلَاك سَيَقْتاتُ الرَّغاما

كُلَّ يَوْم لكَ نُعْمَي أهْلَكَتْ

آهَة الشَّاكي وَتَنْهيد الْيَتَامَى

أقْبَلتْ تَنْسَخُ أْرَهَام النَّدىَ

كُلَّ صُبْحٍ لْلمُقلينَ طَعاما

سَابَقَتْ نُوركَ في رَأْدِ الضُّحَى

وَمَشتْ زَاداً إليْهم وَسلامَا. . .

كَبر الشَّرْقَ! فَقَالوا: مَنْ بدَا؟

قُلْتُ مَنْ غَنىَّ بهِ الشَّرقُ هُيَاما

مَنْ رَعَى الإسلامَ حَتَّى خِلْتُهُ

(عُمَرِي) الدين رَأْياً وَحُساما

في سبِيلِ اللهِ رَكْبُ سَائرٌ

لبُيُوتِ اللهِ. . . كَمْ رَاعَ الأنَاما!

كَمْ جَثت للهِ منهُ هَالةٌ

في سنَاها يُطْرقُ الدَّهْرُ احْتِرما!

يا مُقِيلَ الدين مِنْ عَثْرتهِ

أنْتَ أعْلَيْتَ لِرُكْنَيْه الدعاما

وَتَهادَيْتَ فسَارتْ أُمَمٌ

جَعلَتْ مِنْ نُوركَ الضَّافي إِماما

كلَّ يومٍ لكَ عِيدُ مُشْرِقٌ

يتَراَءى في فم الوادِي ابتساما

طارَ تَغْريِدي على آفَاقِهِ

نَعْمَةً لِلْعَرْش عَزَّتْ أنْ تُسَامَى

سُقْتُها مَشْبُوبةً مِنْ كَبدٍ

أوشَكتْ تَسْكُبُ نَجْواهَا ضِراما

لَمْ يَزَلْ مِنْها (بِعَبْديِنَ) صَدى

ظَلَّ في أَسْوَارِها يُشْجِى الَحْماما

محمود حسن إسماعيل

ص: 37

‌أمنية.

. .

للأستاذ عبد اللطيف النشار

يُنَبتُ قطناً زارعو مصر كلهم

بِهِمْ ما بِهِمْ، هلاَّ وكَرْماً وتفاحا؟

يقول أناس أدركوا ما عنيته

لك الويل ماذا تبتغي؟ قلت أرواحا

ووالله لولا زهره ورحيقه

لما غرَّد الغِريد يوماً ولا ناحا

أتلك حياة نصفها بتَّ نائماً

ونصفاً تُرَى فيه على الرزق كدَّحا

ألا ليتني إلاَّ أكن ذا إمارة

يُطاع على عِلاته كنت فلاحا

أغذى بأشجاري أنابيب معلمي

وأسقي مواشيِّ السلافة وارحا

كأن بياض القطن أرؤس نسوة

عجائز يملأن المحافل أتراحا

إذا لم يكن إلا مسرَّة ساعة

يجدد فيها صاحب الهم أفراحا

فلا أخصبت أرض تضن بنصفها

على حانة نشْوَى ولا رحبت ساحا

عبد الطيف النشار

ص: 38

‌البريد الأدبي

الأزهر والمراجع الأجنبية

يدرس الطلاب في كلية أصول الدين طائفة من العلوم التي يحتاج الطالب فيها إلى مراجع أجنبية، ومنها علوم التاريخ والأخلاق والفلسفة وعلم النفس وتاريخ التوحيد. ولما كانت معرفة هؤلاء الطلاب للغات الأجنبية محدودة فقد رؤى أن تترجم لهم بعض المراجع الشهيرة في هذه العلوم. وعهدت مشيخة الأزهر اختيار هذه المراجع وترجمتها إلى لجنة من أساتذة الكلية مؤلفة من بعض العلماء الأزهريين الذين تخرجوا في الجامعات الأوربية وبعض الأساتذة الذين يدرسون هذه المواد.

وقد عقدت هذه اللجنة اجتماعها الأول بعد مقابلة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي حيث استمع أعضاؤها إلى إرشاداته وتوجيهاته.

والمعروف أن هذه اللجنة ستنتهي من مهمتها التي وكلت إليها في يوم قريب.

في ديوان البحتري

البحتري شاعر مغبون لم يحظ شعره بما يستأهله من عناية، ولم يطبع ديوانه - على ما يبدو - أكثر من مرتين؛ إحداهما بمصر والأخرى ببيروت. والثانية أدق من الأولى ضبطاً وتمتاز عليها بالشكل الكامل، وبتعليقات وحواش قصيرة تفيد المبتدئين.

على أن هذه الطبعة لم تخل من أغلاط بينة أساء الشارح فيها التقدير. وأغلبها يرجع إلى آفة (التصحيف) التي جنتْ على الكثير من مخطوطاتنا القيمة وكنوزنا الأدبية النفيسة.

على أن الشارح نفسه قد توهم - في أكثر من موضع - أخطاء وادعى تصحيحها، وتصحيفات تكلف ردها إلى أصولها! فجاء الديوان مليئاً بعشرات الأغلاط الفاضحة الواضحة. وأنا مثبتٌ هنا منها خمساً - على سبيل التمثيل لا التعديد - لأنبه القارئ إلى وجوب التحرز في قراءة هذا الديوان، وعدم الاعتماد على شكله أو شرحه اعتماداً قد يجر إلى الغفلة ويشغل عن تعريف الصواب:

1 -

في قصيدة (قالت الشيبُ بدا قلت أجلْ). قال البحتري:

أصِلُ النزْر إلى النزر وقد

يبلغ الحبلُ إذا الحبل وُصِلْ

من لَفَا هذا إلى محسوس ذا

ومن الذوْد إلى الذود إِبل

ص: 39

وقد ضبط الشارح اللفظ الأخير هكذا (أَبِلّ) ثم قال: أبل: أذهب في الأرض. وهذا وهم، إذ الشطر كله مقتبس من المثل العربي القديم:(الذود إلى الذود إِبل) وهو يضرب في الشيء القليل يجتمع إلى مثله فيصير كثيراً.

2 -

جاء في قصيدة: (حلفتُ لها بالله يوم التفرقِ) قوله:

أُعِينَ بنو العباس منه بصارم

جُرازٍ وعزمٍ كالشهاب المحرِّقِ

وقد صُفحت كلمة (جراز) في الأصل إلى (جران) فنقلها الشارح بوضعها ثم قال: الجران (كذا في الأصل) لعله يريد به الليّن من جرن الدرع لانَ. والوهم في النقل وفي الشرح ظاهر؛ إذ الكلمة: (جراز) بمعنى السيف القاطع.

3 -

يقول البحتري من قصيدته (يا يوم عرّجْ بل وراءَك يا غدْ):

أشكو إليك أناملاً ما تنطوي

يبساً وأخلاقاً تقصّفها اليدُ

قال في الشرح: أخلاقاً محرفة عن (أخلافا) جمع خلف، أي ضرع. . . أما (أخلاق) بالقاف فلا معنى لها هنا

قلت: الصواب (أخلاقاً) كما جاء في الأصل؛ والمعنى أن أخلاق الناس أصبحت من الجفاء والغلطة واليبوسة بحيث تتقصف في اليد تقصف العود الجاف، وفي البيت استعارة تبعية (في الفعل)

4 -

جاء في قصيدة (رغم الغرابُ منِّيئ الأنباء):

ما للجزيرة والشام تبدّلا

بعد ابن يوسف طلمةً بضياء؟

أوردها الشارح (بيضاء) - مؤنث أبيض - ثم قال معلقاً: كان القياس أن يقول (بيضاءَ) بالنصب على أنها نعت لظلمة ولكنه جرها إتباعاً لحركة القافية أو لسبب آخر لم أعلمه (كذا!)

قلت: وجه الكلام أن (بضياء) جار ومجرور متعلقان بالفعل (تبدلا) في الشطر الأول

5 -

يقول البحتري في مطلع إحدى قصائده:

هوْيناكَ من لومٍ على حبِّ تكْتُما

وقصركَ نستخبر ربوعاً وأرسما

وقد أعمل الشارح ذهنه في البيت، ثم انتهى إلى قلبه بهذا الوضع (هويناك من لوم بحبِّ تكَتّما) وقال في هامشه: كان أصل الشطر الأول: هويناك من لوم على حب تكتما، وهو

ص: 40

غير مستقيم الوزن كما ترى! وكذلك أبدلنا من (على)(باء) فقلنا (بحب) وكثيراً ما وقع لنا مثل هذا الخلل في هذا الديوان وهو خطأ طبعي (!!!)

قلت: الصواب أن (تكتم) - على وزن الفعل - علم على امرأة، وقد ذكره البحتري في شعره أكثر من مرة كقوله من قصيدة أخرى:

لعمري لقد تامتْ فؤادّك تكتُم

وردّت لك العرفانَ وهو توُّهم

فالبيت في وضعه الأول صحيح وزناً ومعنى، وما التصحيف إلا ما جناه الشارح على البيت وهو يدعى تصحيحه من خطأ موهوم.

. . . هدانا الله جميعاً إلى الصواب؛ وعصمنا من الخطأ وسوء الغفلة بمنّه

(جرجا)

محمود عزت عرفة

بين صبري وابن دريد أيضاً

تفضلت الشاعرة الفاضلة فدوى بنظرة ناقدة بصيرة على كلمتنا (بين صبري وابن دريد)، وقالت: إن الحكم بالسرقة على صبري شهادة جائرة. ولقد بدهنا لأول نظرة في الديوان ما رأته الناقدة الفاضلة، ولكنا رمينا إلى هدف مقصود، هو بيان غفلة محققي الديوان عن أمر البيتين سواء أكان فيهما سرقة أم لم يكن. ولقد نصصنا على تلك الغفلة في أية صورة كانت في كلمتنا السابقة؛ ولا علينا إذا حكمنا بالسرقة على صبري، وأمامنا ديوانه ينطق بها في مواضع كثيرة يحضرني منها:

(فالماءُ في مُقلٍ والنار في مهجٍ)

قد حار بينهما أمر المحبينا

مأخوذ من قول الشريف الرضي:

(الماء في ناظري والنار في كبدي) =إن شئت فاغترفي أو شئت فاقتبسي

وقوله:

وتزيدُ في فمها اللآلئ قيمةً

حتى يسودَ كبيرهنَّ الأصغرُ

وليد قول الشاعر:

وما كنت أدري قبل لؤلؤ ثغرها

بأن نفيسات اللآلئ صغارها

ص: 41

وقوله:

(قد صغت التبر له شركاً)

وقضيت الليل أُنضِّدُهُ

ينظر إلى قول الشاعر:

إن رمت صيدي في الهوى

(فانصب شراكاً من ذهب)

أما شاعرية صبري وشخصيته فلنا رأي فيها قد نعود إليه.

حسين محمود البشبيشي

مجلة الأنصار

استقبلت زميلتنا (الأنصار) عامها الهجري الثاني في غرة محرم سنة 1361، وقد صدر العدد الأول من هذه السنة الجديدة في حجم أكبر، ومادة أوفر، وأبحاث جديدة، وموضوعات شيقة. وقد نهجت الزميلة بهذا العدد نهجها المحمود في التطور، وعبرت عن اتجاهها الصادق في خدمة الفكرة العربية، ونشر الثقافة الإسلامية. فنرجو لها بهذه المناسبة السارة دوام التوفيق.

هذا وقد أعلنت (الأنصار) أن اشتراكها السنوي في عامها الجديد هو 20 قرشاً في مصر والسودان والأقطار العربية و15 قرشاً للمعلم الإلزامي والطالب. والمكاتبات بعنوان: الأنصار شارع البستان رقم 24 القاهرة

ص: 42

‌الكتب

المؤلفات العربية القديمة

وما نشر منها في سنة 1940

للأستاذ كوركيس عواد

خطر لي قبل عامين، أن أجمع في (مقالات سنوية)، أسماء ما يتاح لي الوقوف عليه من مؤلفات العرب الأقدمين، وذلك مما تنشره المطابع في بحر سنة كاملة، وأن أواصل هذا العمل، سنة بعد أخرى ليتكوّن من مجموع تلك المقالات كشفٌ واسع يفيد مُحِبي الكتب ومُرّاجعيها، ويِقفُهم على ما يُنشرُ منها بين الحين والحين.

وكان بدءُ العمل في السنة الماضية، فنشرت في هذه المجلة فصلاً جمعت ما تيسر لي الوقوف عليه حينذاك من مطبوعات سنة 1939. وهأنذا أورد في المقال الحالي ما أمكنني الإطلاع عليه من المصنفات القديمة التي شاءت يد الدهر أن تبقي عليها وتصونها من الضياع!

وقد أَبنتُ في مقال العام الماضي صعوبة الوقوف على كل ما ينشر من تراث الأقدمين وحصره حصراً تاماً! فبعض المطابع في إيران والهند والمغرب وأغلب الأقطار الأوربية لا يمكن الاتصال بها إلا بمشقة وجهد كبيرين. ولقد ازداد الأمر وعورة عن قبل بما ولدته هذه الحرب الجائحة من مشاكل ومعضلات، أدت فيما أدت إلى ركود في حركة النشر، وفتور في سير المواصلات. ومن ثمَّة كان استقصاء جميع ما تنشره المطابع من هذه الكتب أمراً صعباً إن لم نقل متعذراً في بعض الأحوال!

ومع ذلك كله، فقد وقفت على جملة حسنة من تلك المؤلفات ناهزت الأربعين أذكرها فيما يلي بحسب تسلسل عنواناتها، مع الإشارة إلى سنيّ وفيات مؤلفيها، ومحل طبعها، وعدد صحائفها ما أمكن. وأحياناً أُضيف إلى ذلك إشاراتٍ وتوضيحات قد أراها ضرورية في مثل ذلك المقام.

يلاحظ القارئ أنني ذكرت بين هذه المطبوعات ما هو بالحقيقة لمؤلفين معاصرين، وإنما آثرت ذلك، لأن هذه المصنفات طبعت بعد وفيات أصحابها، فاعتبرتها مؤلفات قديمة.

ص: 43

وقد يلاحظ أيضاً، أن بعض ما نُسب من المطبوعات إلى سنة 1940، يُرَى على غلافه أنه طبع سنة 1939، في حين أن طبعه لم يتم، في الواقع، إلا في سنة 1940.

ولي أن أشير في هذا الصدد إلى أن جانباً من هذه الكتب ما يكون نشره قد جرى وفقاً للأساليب العلمية الحديثة، وذلك من وجهة التحقيق والشرح والفهرسة إلى غير ذلك، وبعضها ما كان يُرمى من نشره إلى غرض تجاري صرف يؤذي الكتاب والقارئ معاً إيذاء شديداً، ويفيد التاجر الذي يقوم بطبعه. واختار البعض الآخر طريقاً وسطاً بين هذا وذاك.

على أنه لم يكن من شأني في هذا الموقف التعرض لقيمة الكتاب الحقيقية، أو لنوع الجهد والعناية المبذولين في سبيل إخراجه؛ فللقراء أن يحكموا على كل ذلك حين وقوفهم على الكتب ذاتها. وإنني لو فعلت ذلك - وهذا أمرٌ من الصعوبة بمكان - لضاق بي المجال ولخرجتُ على ما اختططتُهُ لنفسي في هذا الكشف.

إن بعض التصانيف المذكورة أدناه، ما هو مطبوعٌ الآن للمرة الأولى؛ وبعضه ما كان قد طُبع سابقاً مرةً أو غير مرةٍ؛ وإنما أُعيد نشرهُ لأسباب، منها أن تكون نسخ تلك الطبعة قد ندرت أو نفذت، ومنها أن تكون تلك الطبعة قليلة الحظ من العناية والضبط والتحقيق، وقد يكون لذلك أسباب ومآرب أخرى يدركها أرباب النشر!

ومن الخير لي أن أُصرح، بأنني لم أُوَفَّق للإطلاع على كل هذه الكتب اطلاعاً مباشراً، بل إن قسماً منها لم أقف عليه مع الأسف! وإنما استقيتُ المعلومات المدونة عنه من هنا وهناك.

وفي آخر هذا الكشف تكملةٌ، يجد القارئ فيها ما فاتني ذكرهُ من مطبوعات سنة 1939، وقد ذكرتها هُهنا لتكون تتمة أو مستدركاً على المقال المنشور في العام الفائت.

1 -

أبو العلاء المعري: نسبه وأخباره، شعره، معتقده

للمغفور له أحمد باشا تيمور (1348هـ). نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر. (القاهرة، د + 160 صفحة)

2 -

الاستيعاب في أسماء الأصحاب

لابن عبد البرّ النمري القرطبي (463هـ). طبع مع كتاب (الإصابة في تمييز الصحابة) الآتي ذكره.

ص: 44

3 -

الإصابة في تمييز الصحابة

لابن حجر العسقلاني (852هـ). نشرته مطبعة مصطفى محمد، القاهرة (4 مجلدات، صحائفها 571، 536، 644، 483). في أعلى الصفحات طُبع كتاب الإصابة هذا، وفي أسفلها كتاب (الاستيعاب) المذكور في الرقم 2 من هذا الكشف.

4 -

أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام

تأليف الأستاذ عمر رضا كحاله. هذا الكتاب وإن كان مؤلفه من المحدثين، فإن مادته قد جمعت من مؤلفات الأقدمين (ما بين مخطوطة ومطبوعة) التي يشير إليها المؤلف في آخر كل ترجمة من التراجم التي رتبها على الطريقة الهجائية (المطبعة الهاشمية دمشق 3 مجلدات، مجموع صحائفها 1668)

5 -

إغاثة الأمة بكشف الغمة

لتقيِّ الدين المقريزي (845هـ). نشره الدكتور محمد مصطفى زيادة والأستاذ جمال الدين محمد الشيال بتعليقات وفهارس (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة. ك + 92ص). الكتاب في تاريخ مصر الاقتصادي الاجتماعي في العصور الوسطى حتى سنة 808هـ. وهي السنة التي ألِّف فيها. عالج المقريزي فيه حوادث المجاعات والطواعين بمصر وتقصى أسبابها.

6 -

أنساب الأشراف

للبلاذري (279هـ). القسم الثاني من المجلد الرابع، يحوي فهرس أعلام الرجال والمواقع والأمم وضعها المستشرق شلوسنكر (مطبعة الجامعة العبرية، القدس، 36ص). المجلد الخامس ومتن النصف الثاني من المجلد الرابع، صدرا سنة 1936 - 1938، والعمل في إصدار سائر أقسام الكتاب لا يزال جارياً.

(يتبع)

كوركيس عواد

ص: 45

‌القصص

العقاقير المخدرة

عن الإنكليزية

بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار

نهضت (رودا فارمنجتون) عن المعقد الذي كانت جالسة عليه بقرب النافذة وأطلت فرأت العربة المقبلة هي عربة أبيها الدكتور فارمنجتون فتنهدت وقالت: إن مجيئه يمنع الشك وإن المعرفة بأمر مهما يكن نوعه أفضل من فترة الشك. وقد كانت منذ الظهيرة جالسة هذه الجلسة تترقب عودته لتتعرف الخبر، وهي بين حين وحين تطل من النافذة؛ وهاهي الساعة الآن قد تجاوزت الرابعة وسئمت الفتاة الانتظار. وفتحت الباب ودخل الدكتور فقالت بلهجة فيها رنة العتاب:(ماذا!)

وإنما كان عتابها لأن أباها أمرها بالبقاء هنا. وقد كانت واجبات الصداقة تقضي عليها بأن تذهب إلى المريضة (جيسي شاننج)

وفرك الطبيب كفيه الباردتين وقاد ابنته إلى الغرفة وهو يقول: (تعالي يا رودا فإن الجو بارد في هذه الردهة). فتبعته وهي تقول: (هل حالة المريضة أسوأ)

قال الطبيب: (نعم أسوأ جداً)

فقالت: (هل تعني أنها. . .)

قال الطبيب مقاطعاً: (إن جيسي قد ماتت)

ثم نزع الطبيب معطفه بصورة إليه وعلقه على المشجب واتجه إلى الموقد فأدفأ كفيه. وكان الطبيب قليل الكلام وظن أن حديثه مع ابنته قد انتهى بسؤالها وجوابه. ولكن الفتاة ظلت واقفة واجمة كأنها تنتظر المزيد. وبينما هي كذلك إذ دخلت نانسي خادمة المنزل وهي امرأة في منتصف العمر، وأوقدت المصباح ونظرت إلى الدكتور ثم إلى ابنته وقالت:(أرجو أن تكون صحة جيسي ساننج قد تحسنت)

فقال الطبيب: (كلا ولكنها ماتت)

وجمت الخادمة أيضاً وكأنها لم تصدق أذنيها ثم أشارت بيديها إشارة تدل على اليأس

ص: 46

وقالت: (مسكين جوردون. . . إن هذا الخبر سيقتله لأنه لا يستطيع أن يعيش بدونها.

فبدت على وجه رودا ابتسامة هزيلة عند خروج الخادمة من الغرفة، ثم ارتمت على المعقد الذي كانت جالسة عليه قرب النافذة وأسندت رأسها إلى ذراعها وقالت بصوت خافت ولهجة بطيئة:(وددت لو أنني كنت مثل نانسي فأستطيع أن أصيح مظهرة العطف نحو جوردون. . . كم كان بودي أن أثير ضجة لأظهر أحزاني).

فقلب الدكتور قطعة من الورق كانت أمامه على المنضدة وقال: (ولماذا تودين ذلك؟).

فقال: (لأنني مثلك لا أستطيع أن أظهر عواطفي)

بدت الرقة على عيني الدكتور، وإن كان صوته لا يزال دالاً على الخشونة، وقال بلهجة حاسمة: (يجب ألا يكون تأثرك كثيراً بسبب موت جيسي، وإنني لهذا السبب منعتك عن الذهاب إليها، وإنني أعرف مبلغ إعزازك إياها كصديقة ولكنك لم تفهميها فإن هناك أشياء لا يفهمها كل إنسان.

فقالت: (إن جوردون يفهمها)

فقال الدكتور: (نعم إن جوردون يفهم، ولكنني أكرر أن موت جيسي يجب ألا يؤثر في حياتك).

فقالت رودا: (إنك تستطيع أن تدرك يا أبي أن هذا القول لا يؤدي إلى نتجية، فإنني في الواقع لا أحزن على الميتة فقد استراحت، بل على الحي، فتصور مقدار انزعاجه).

قال الدكتور بلهجة استغراب: (نعم إن انزعاجه شديد بلا شك ولكن. . .). ثم اشتغل بتقليب الأوراق التي على المنضدة كأنه بذلك يريد الانتهاء من هذا الموضوع.

وبعد فترة قليلة عادت رودا إلى الكلام بلهجة عتاب فقالت: في بعض الأحيان يا أبي أتصور أنك قاس. ولعل ذلك لأنك رأيت كثيراً من مظاهر البؤس حتى ألفتها.

فتهجم وجه الأب أمام هذا الاتهام وقال: أنت مخطئة يا رودا فإن رؤية البؤس لا تجعل القلب قاسياً ولكنها لا تزيد من حزنه، قالت رودا: إذن فلا بد أن تكون حزيناً على جوردون فتصور كيف كان حبهما. لقد كان كاملاً فوق مجال النقد. إنه لم يتركها ولم يكن أحد أوفى لزوجته منه.

فقال الدكتور: نعم لقد كان معها دائماً، ولكن عهد تمريضه لها قد انتهى بعد استمرار سبعة

ص: 47

أعوام.

قال رودا: عهد تمريضه! إنها في الواقع لم تكن مريضة لولا النوبات الخفيفة التي جعلته بساطتُها يمرضها بنفسه بدل أن يستحضر لها ممرضة

وقد كانت رودا تقول ذلك وهي تتذكر أن جيسي كانت تتغدى معها منذ يومين فقط. وكانت صحتها إذ ذاك أحسن من صحة رودا نفسها، وكان لون خديها وردياً، وكانت تضحك وتمزج كأحسن ما يكون والإنسان في حالة الطرب. والآن وقد ماتت جيسي فإن رودا تعود بالذكرى إلى يوم منذ سبعة أعوام كانت فيه هي واسطة التعارف بين جيسي وبين جوردون في نفسي هذا المنزل.

بعد أن تخرجت جيسي من المدرسة جاءت لتزور صديقتها رودا. وكانت رودا هي أجمل الفتاتين ولكنها غير متعلمة على النقيض من جيسي، وذلك استولت الأخيرة على قلب جوردون الذي كان إلى هذا العهد من المعجبين بها والذي يمتاز عن سائر هؤلاء المعجبين بأنه يجمع بين الذكاء وبين المهارة والجمال والغنى.

وقد نزلت رودا عن حبيبها إلى صديقتها وكانت سخية في ذلك، ولكنها لم تخل من الألم ولم تستطع كف الدموع ولم تستطع منع الغيرة. وهي مع ذلك ظلت تكتم الأمر عن الجميع فلم يفطن إلى حقيقته أحد حتى ولا جيسي ولا جوردون.

وفي الآونة الحاضرة استعادت رودا في ذاكرتها كل حوادث الأعوام السبعة الماضية حتى التافه منها. وكان أخص هذه الذكريات وأهمها ذكرى مرض جيسي ذلك المرض الذي أظهر تفاني جوردون في حبها إلى الحد الذي صار فيه كل الزوجات في المدينة يعيرن أزواجهن لأنهم لا يحتذون هذا المثل العالي من الإخلاص.

ومضت سبعة أعوام وماتت جيسي وانتهى كل شيء، وبعد العشاء لبست رودا ثيابها ومشت وهي ترتعش في برد الليل إلى بيت شاننج، وكان الليل مظلماً فرأت في الطريق شبحاً وعرفته ولكنه لم يعرفها فنادته: جوردون إلى أين تذهب؟ فمد يده إليها وارتعش جسمها عندما لمست يده فصافحها مصافحة ود، وأخذت تبحث في ذهنها عن كلمة تعزيه بها فلم يسعفها الخاطر وأخيراً قالت: إلى أين تذهب يا جوردون؟

وقد أربكها أنه لا يسير في اتجاه المنزل وأنه يمشي بخطى سريعة إلى النهر وقد بدت على

ص: 48

وجهه علائم عزم خطير، وقال: إلى أين أذهب؟ بالطبع يا رودا إلى. . . ثم تابع السير ولكن إلى المنزل.

وبعد جنازة جيسي سافر جوردون ولكن إلى الخارج، وظل متنقلاً من بلد إلى بلد، ولكنه في أشهر الصيف يعود إلى المدينة التي دفنت فيها زوجته.

وكان يرجع (عليَّ غير انتظار من رودا لذلك الرجوع) لأنها كانت تعد دخوله إليَّ منزل زوجته بعد دفنها يشابه شق القبر على ميت، وذلك لما ينطوي عليه المنزل من الذكريات.

وكانت رودا تقدر تمام التقدير حالة جوردون وأنه لم ينس قط زوجته ولم يرد أن ينساها، وإنما هو يعالج نفسه كي يستطع الحياة بالسفر ليرى مناظر جديدة ووجوهاً جديدة، ولما تقابل معها لأول مرة بعد عودته قال: لقد بدت عليك علائم الكبرياء يا رودا ولكنك لم تزيدي إلا جمالاً وقد كنت ولا تزالين أجمل من رأيت.

وقد أدهشت رودا هذه الصراحة في مخاطبتها فترجعت كما يتراجع من ينتظر أن تصيبه صفعة، ونقصت منزلة جوردون عندها في هذه الليلة لأول مرة منذ عرفته. وفي تلك الليلة طلب إليها جوردون في وسط جمع من الأصدقاء أن تتزوج منه وقال: لقد كنت علي الدوام أحبك وحدك وإن لم أتبين ذلك في بعض العهود، وكان طبيعياً أن يكون حبنا كذلك. وكان هذا الاعتراف مخجلاً في نظر رودا فتلقته في ألم صامت ولم تجد من الألفاظ ما يعبر عن شعورها، وكان خجلها لأنها هي نفسها كانت تريد الزواج منه، وأدركت أنها غير وفية لصديقتها وأن جوردون غير وفي لزوجته وأن المسكينة الجديرة منها بالوفاء هي المضطجعة في القبر والمنسية من الجميع.

ولما فرغ جوردون من تصريحه قامت رودا على الفور ودخلت مكتب أبيها ولكنها لم تجده فيه. وكان أبوها يحب جوردون يحترمه. وكانت رودا تعتقد أن حبه واحترامه لجوردون سيزولان إذا أخبرته بما سمعته منه في هذه الليلة من الإنكار لحبه السالف لزوجته.

وترددت رودا في كيفية رفضها لما طلبه جوردون. فهل تخبره بأنها ترفض لمجرد كونها لا تحبه؟ إنها إن فعلت ذلك فلا تكون إلا كاذبة، فإنها كانت لا تقف في حبها إياه عند حد.

ورأت رودا أنها إن تغلبت على الجانب النبيل من عواطفها جانب الوفاء، فإن معيشتها مع جوردون ستكون منغصة بسبب غيرتها من زوجته الأولى، لأنه لن يستطيع أن يواجه إليها

ص: 49

من العطف ما كان يوجهه إلى جيسي. وانقضت تلك الليلة ولم تخبر رودا أباها بشيء. وفي اليوم التالي أجابت جورودون على طلبه بقولها: (. . . ولكن لم يمض على موت جيسي عام واحد، ولها السبب كان من المستحيل أن أتزوج منك)؛ وكانت هذه أول مرة سمع فيها جوردون اسم زوجته المتوفاة؛ واستمرت رودا تقول: (إن ذكراها ستقف على الدوام حائلاً بيني وبينك؛ وإني لأعجب منك كيف نسيتها بهذه السرعة، حتى تريد الآن إحلال أخرى محلها؟ وهمَّ جوردون بأن يتكلم، ولكنها أشارت إليه بالصمت وهي تقول: كلا لن أتزوج منك. فإن هذا مزعج جداً. لقد كنت أحبك إلى حد العبادة يا جوردون، وإنما كان سبب هذا الحب شدة إخلاصك لجيسي؛ ولكنك لم تدم على الوفاء، فأثبت لي أن حبك لم يكن مثلاُ عالياً. قال جوردون: ولكن هل من الممكن يا رودا؟ إن المثل الأعلى في الحب وهم لا يصدقه إلا المجانين والأطفال. إنني آسف لعدم قبولك الزواج مني، وقد كنت أحسب التفاهم بيننا أحسن مما أراه؛ ولقد كنت مخطئاً، وسأعود في الصباح ولن أراك. . . وداعاً!. . . وذهب جوردون وظلت رودا في مكانها تبكي.

ولما رفعت يديها عن عينيها وجدت أباها جالساً بجانبها في حديقة منزل جوردون. ومن الغريب أن الدكتور الذي امتنع خمساً وعشرين سنة عن الزواج حزناً على زوجته، لا يريد أن يفهم رأي ابنته في الزواج. ويقف في صف جوردون ضدها وسألها: لماذا رفضته؟ فدهشت رودا من سؤاله إياها هذا السؤال الذي يدل على علمه بما كتمته عنه فقال: لقد سمعته وهو يطلب يدك. لم تشأ رودا أن تطيل مناقشته فقالت: هل نسيت جيسي يا أبي؟

فضرب الطبيب الأرض بقدمه وقال: يكفي أن يعيش الإنسان في الجحيم سبعة أعوام. ولك أن تنتظري بقية العام إن كنت تريدين المحافظة على مدة الحداد. فقالت رودا: يظهر أن لديك سراً تكتمه عني، فماذا تعنيه بقولك إنه عاش في الجحيم سبعة أعوام؟ إنك تعلم أن الحب كان متبادلاً بينهما. قال الدكتور: إنني أعلم ذلك جيداً ولكن الذي سأخبرك به سيزعجك فاستعدي له. إن جيسي كانت تكتم سرها كل الكتمان، وكذلك كان يفعل جوردون. وقد كان جوردون يظن أنك تعرفين السر مني. ولكني لم أخبرك به. فقالت رودا وقد نفد صبرها: ولكن ما هو هذا السر؟ قال: (إن سر حب جوردون لزوجته ذلك الحب الذي يصلح أن يكون مثلاُ أعلى كما تقولين، إنه في الواقع لم يكن حباً، ولكنه شفقة مع الكراهية.

ص: 50

وقد بقي الأمر مكتوماً طول السنوات السبع، وكان يكتم سرها عن الناس بملازمته إياها)

- أي سر هذا؟

- إنها كانت معتادة تعاطي العقاقير المخدرة ولا تستطيع تركها فسكتت رودا وكانت لحظة شديدة شعرت فيها بالذل لضلالها عن حقيقة هذه الظروف طوال السنوات السبع الماضية. . . وعاد الدكتور إلى الكلام فقال: وإن وفاء جوردون

- وأنت تتهمينه بعدم الوفاء - هو الذي جعله يكتم هذا السر حتى في اللحظة التي لو أفشاه فيها لنال سعادته التي يرجوها.

وعاد الصمت مرة أخرى. وكان القمح يسبح في سماء صافية الأديم وجو من الأجواء التي تستثير صبوة العشاق. فقالت رودا بعد قليل لأبيها: (يا أبي اذهب واطلب إلى جوردون أن يعود)

عبد اللطيف النشار

ص: 51