المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 449 - بتاريخ: 09 - 02 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٤٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 449

- بتاريخ: 09 - 02 - 1942

ص: -1

‌كيف عالج الإسلام الفقر

ألق عن عينيك هذا المنظار السحري الذي صنعه الأدب والفن؛ ثم أنظر إلى الحياة في شتى مظاهرها تجدها معركة هائلة على القوت لا تنقطع ولا تفتُر. وهذه المعركة التي لا ندرك لها طولاً في الدهر، ولا عرضاً في الكون، لا تنفك رحاها تلفظ على جنباتها قتلى وجرحى؛ وأولئك هم الذين خذلهم الضعف فماتوا شهداء، أو عاشوا فقراء. أما الموت فلا حيلة لأحد فيه؛ وأما الفقر فهو الداء العياء الذي خامر الإنسانية منذ طبعها الله على القدرة والعجز، وبرأها على الكمال والنقص. وهذا الداء كان وما زال موضوع الطب الاجتماعي يخفف بُرَحاءه بالمُرقد، ويكفكف غلواءه بالتمائم؛ ولكن دواءه الناجع ظل من وراء إمكانه حتى وصفه الله في دينه، وطبقه في شرعه، فانحسمت العدوى وانكشفت البلوى وبرئت العلة. فإذا رأيت في وطن الإسلام طرائد للفقر وفرائس للجوع فصدِّق الله وكذِّب نفسك. إن ما ترى لم يعد ذلك الوطن الذي أشرق بنور الله وتعطر بريح الجنة، إنما هو طلل ترَّحل عنه أهله، ومريض فرط فيه أساته، ومسلمون انطمست فيهم معاني القرآن فتعبدوا بألفاظه، وحاكمون أعضلت بهم أصول الحكم فاكتفوا بصوره. فلو كان للإسلام رأي في الحكومة وسلطان على الأمة لكان الوطن كله أسرة، والناس جميعهم إخوة، تجد فيهم الفقير ولا تجد المحروم، وترى بينهم الضعيف ولا ترى المظلوم؛ لأن شريعة الله جعلت بين الغني والفقير سبباً هو البر، وأنشأت بين القوي والضعيف نسباً هو الرحمة!

عالج الإسلام الفقر علاج من يعلم أنه أصل كل داء ومصدر كل شر. وقد أوشك هذا العلاج أن يكون بعد توحيد الله أرفع أركان الإسلام شأناً، وأكثر أوامره ذكراً، وأوفر مقاصده عناية. ولو رحت تستقصي ما نزل من الآيات وورد من الأحاديث في الصدقات والبر، لحسبت أن رسالة الإسلام لم يبعث بها الله محمداً آخر الدهر إلا لتنقذ الإنسانية من غوائل الفقر وجرائر الجوع. وحسبك أن تعلم أن آي الصيام في الكتاب أربع، وآي الحج بضع عشرة، وآي الصلاة لا تبلغ الثلاثين؛ أما آي الزكاة والصدقات فإنها تُربى على الخمسين.

كأنما أختار الله لكفاح الفقر أشح البلاد طبيعة وأشد الأمم فقراً ليصرعه في أمنع حصونه وأوسع ميادينه! فإن الفقر إذا أنهزم في قفار الحجاز كانت هزيمته في ريف مصر وسواد العراق أسرع وأسهل. ثم أختار الله رسوله فقيراً ليكون أظهر لقوته، كما أختاره أمِّياً ليكون أبلغ لحجته.

ص: 1

كانت جزيرة العرب إبَّان الدعوة العظمى مثلاً محزناً لما يجنيه الفقر على بني الإنسان من تَضْرية الغرائز، وتمزيق العلائق، ومعاناة الغزو، ومكابدة الحرمان، وقتل الأولاد، وفحش الربا، وأكل السُّحت، وتطفيف الكيل، وعنت الكبراء، وإثراء الأغنياء، وفقد الأمن، وانحطاط المرء إلى الدرك الأسفل من حياة البهيم. فلما أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق كان معجزته الكبرى هذا الكتاب المحكم الذي جعل هذه الأشلاء الدامية جسماً شديد الأسْر عارم القوة، ونسخ هذه النظم الفاسدة بدستور متين القواعد خالد الحكمة؛ ثم كانت بوادر الإصلاح الإلهي أن قلَّم أظفار الفقر، وأَسا كلوم الفقراء، وقطع جرائر البؤس، فألف بين القلوب، وآخى بين الناس، وساوى بين الأجناس، وعصم النفوس من القتل الحرام، وطهر الأموال من الربا الفاحش؛ ثم عالج الداء الأزلي نفسه بما لو أخذ به المصلحون لوقاهم شرور هذه الحرب التي أمضَّت حياة الناس، وكفاهم أخطاء هذه المذاهب التي قوضت بناء المجتمع: عالجه بالسفارة بين الغني والفقير على أساس الاعتراف بحق التملك، والاحتفاظ بحرية التصرف، فلا يدفعُ مالك عن ملكه، ولا يعارَض حر في إرادته، إنما جعل للفقير في مال الغني حقاً معلوماً لا يكمل دينه إلا بأدائه، ذلك الحق هو الركن الثالث من الأركان الخمسة التي بُني عليها الإسلام، فلا هو فرع ولا ناقلة ولا فضلة. وليست الزكاة بالقدر الذي يخفي أثره في حياة الفقير، فهي ربع العشر في المال، وما يُقَدر بنحو ذلك في غيره. فإذا جُبيت الزكاة بالأمانة على حسابها المقدَّر، ووُزعت بالعدالة على نظامها المفروض، شفت النفوس من الحقد، وأنقذت المجتمع من البؤس، فلا تجد سائلاً في شارع، ولا جائعاً في بيت، ولا جاهلاً في عمل.

ولم يقف الإسلام في علاج الفقر عند فرض الزكاة، وإنما شرع للبر في العبادات والمعاملات موارد لا يأسن لها مَعين ولا ينقطع عنها رافد:

يحنث الرجل في يمينه فيكفر بإطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.

ويقسم ألا يفعل شيئاً، ثم يرى أن فعله خير من تركه فيكفر بإطعام المساكين ثم يفعله.

ويظاهِر من زوجه ثم يبدو له أن يعود، فيطعم ستين مسكيناً أو يحرر رقبة.

ويرمي فيقتل نفساً من غير عمد، فيطعم أو يعتق فضلاً عن أداء الدية.

ص: 2

ويعجز عن صوم رمضان، لسَقَم أو هَرم، فيفطِر ويطعم كل يوم مسكيناً.

ويفطِر عامداً في رمضان من غير علة، فيطعم ستين فقيراً أو يفك رقبة.

ويخل الحاج بشرط من شروط الحج فيكفر عنه بِذَبحٍ يقدمه للمساكين.

ويتجرد عن المخيط فإذا لبس شيئاً منه لزمته الفدية.

ويُرزق الرجل غلاماً فيعُّق عنه بذبيحة يطعمها الفقراء يوم أسبوعه.

ويقبل عيد الصوم أو عيد الحج فيجب على الأغنياء أن يرفهوا عن الفقراء بزكاة الفطر أو بلحوم الأضاحي.

وينذر المسلم لله نذراً فيوجب الدين عليه أن يفي به براً بالفقراء وعوناً للمساكين.

ويعجز الرجل عن تكاليف العيش فيوجب الدين على من يرثه بعد موته أن ينفق عليه! فينفق الابن على الأب، والأب على الأبن، والأخ على الأخ، والزوج على الزوج، عملاً بالقاعدة الإسلامية الحكيمة:(الغُرم بالغُنم). ولقد رأى الفاروق عمر بن الخطاب يهودياً لا يقدر على شيء، فوقف به ثم قال له: ما أنصفناك أيها الذمي! أخذنا منك الجزية في قوتّك، فيجب أن لا نضيعك في ضعفك. ثم أجرى عليه من بيت المال ما يمسك نفسه.

وجاءت الشريعة بالوصية لمن حضره الموت: يوصى بثلث ماله لوجوه البر فضلاً عن الوصية للوالدين والأقربين.

ونوهت السُّنة بالصدقة الجارية، فكان بركة من بركات الرسول الكريم على المرضى والزَّمْنَي وذوي الخصاصة وأبناء السبيل وطلاب العلم وحجاج البيت، بما يوقف عليهم أولو الفضل والسعة من المستشفيات والملاجئ والخانات والزوايا والأربطة والمدارس والمساجد والمكاتب. وكفى شهيداً على أثر (الصدقة الجارية) في علاج الفقر وإشاعة البر، أن تحصى الأوقاف في الأقطار الإسلامية؛ ثم ننظر فيما حبست عليه من وسائل الإصلاح ووجوه الخير؛ ثم نحكم على ما قدمت لذوي الحاجات والعاهات من إحسان لا يغبُّ وإسعاف لا يغيب.

كل أولئك إلى ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله من الحث على الإنفاق في سبيل الله، والترغيب فيما عند الله من حسن المثوبة، بفنون من القول الرائع والتشبيه المحكم.

كذلك عالج الإسلام الفقر من طريق آخر غير طريق الزكاة والصدقات والكفارة: عالجه من

ص: 3

طريق الكسر من حِدة الشهوة، والكف من سَورة الطموح، والغضّ من إشراف الطمع؛ فرغَّب الغنى في الزهد، وأمر الواجد بالقناعة، ومدح الفقير بالتعفف.

ذلك ما عالج به الإسلام داء الفقر الذي أعيا الإنسانية منذ الدهر الأول. وهو على إحاطته وبساطته ونجوعه ينهض وحده دليلاً على أفَن الذين يقولون إن دستور القرآن لا يأتلف مع المدنية، وشريعة نابليون أصلح للناس من شريعة الله، ونظام مَرْكس أجدى على العالم من نظام محمد.

فلو أن كل مسلم أدى حق الله في ماله، ثم استفاد لأريحية طبعه وكرم نفسه، فأعطى من فضل، وواسى من كفاف، وآثر من قلة؛ ثم قيض الله لهذا كله من ولاة الأمر من يجمعه على أكمل حال، ويدبره على أفضل وجه، ويوزعه على أعدل قسمة، لكان ذلك عَسِيَّاً أن يُقر السلام في الأرض، ويُشيع الوئام في الناس، فتهدأ ضلوع الحاقد، وترقأ دموع البائس، ويسكن جوف الفقير، ويذهب خوف الغني، ويتذوق الناس في ظلال الرخاء، سعادة الأرض ونعيم السماء.

أحمد حسن الزيات

ص: 4

‌لا بد من دين الله لدنيا الناس

لإمام المسلمين الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي

عودة يوم الهجرة للنفوس المؤمنة، كعودة الربيع للجسوم الحية. فالربيع ينشر في الكون الحياة والجمال، فيتجدد البالي، وينتعش الذاوي، ويبتهج الكئيب؛ ويوم الهجرة ينشر في القلوب النور والجلال، فيقوى الخائر، ويهتدي الحائر، ويتذكر الغُفلان. وإذا كانت الحواس لا تنتفع بالربيع إذا لم تكن شاعرة، فإن النفوس كذلك لا تنتفع بمعنى الهجرة إذا لم تكن ذاكرة. والذكرى تنفع المؤمنين إذا اقتبسوا منها الهداية والتمسوا فيها العظة؛ أما إذا كان قصارى أمرنا في الاحتفال بحوادثنا الكبرى، وشخصياتنا العظمى، أن نكتب ونخطب فما أصبنا الغرض.

إن ذكرى الهجرة هي ذكرى وضع الأساس لهذا البناء الإسلامي الشامخ الذي أنبسط ظله على أكثر الأرض، وانتشر نوره في ظلام الوجود، وأوت الإنسانية منه إلى ركن شديد بالعلم، أمين بالعدل، منيف بالحضارة؛ فالمسلمون أحرياء أن يجعلوا احتفالهم بهذه الذكرى العظيمة تقديساً للدين الذي كانت في سبيله، وتمجيداً للمبدأ الذي قامت عليه، وتأييداً للشرع الذي تكشفت عنه. وتقديس الدين هو الانقياد له، وتمجيد المبدأ هو الإخلاص فيه، وتأييد الشرع هو العمل به. وما كان الناس في عهودهم الخالية بأحوج إلى هدى الله منهم في هذا العهد؛ فقد طغت فيه المادية على الشعوب حتى تعادت، وأفرطت القوة على الدول حتى تفانت، وغررت المذاهب الإلحادية بالإفهام السقيمة فلبّسوا على الناس الحق، وشبهوا على القادة الطريق، حتى زلزلت الأرض بمن عليها، وخشينا على صرح المدنية والفضيلة أن يَنقضْ.

ذلك إيذان من الله للناس بأنهم فسقوا عن أمره فجافتهم رحمته، وحادوا عن سبيله فحق عليهم عذابه. (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).

لا يكشف عنا ما غشينا من هذه الغمة العميمة إلا العمل بشريعة الإسلام والاحتفاظ بتقاليد الشرق الصالحة. والرجوع إلى شرع الله في أمور الدنيا من بدائه العقل وموجبات الفطرة؛ لأن الله جلت قدرته هو الذي خلق الناس ودحا الأرض، فهو أعلم بغرائز خلقه وأسرار كونه؛ وهو أعلم بما سينشأ عن تصادم الغرائز من نزاع، وما سيشتد على خيرات الأرض

ص: 5

من تنافس؛ وهو أعلم بما سينتجه تفاوت الناس في القدرة والحيلة من بغي الأقوياء على الضعفاء، وجور الأغنياء على الفقراء؛ فشرعه وهو الخبير البصير حقيق أن يكون حلاً حاسماً لمشكلات الحياة، وعلاجاً شافياً لأدواء المجتمع، ودستوراً جامعاً تنتظم عليه شؤون الأفراد وأحوال الأمم في كل أرض وفي كل عصر وفي كل جنس. أما تشريع الناس للناس فهو عرضة للنقص أو للخطأ من جهة الجهل أو من جهة الهوى أو من جهة التطبيق؛ وهو إن صلح لعصر لا يصلح لغيره، وإن أفاد في أمة لا يفيد في أخرى. فما بالنا ندَع حكم الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ثم نحكّم في أنفسنا وأموالنا وأحوالنا شرائع قد لا تتفق مع عقائدنا، ولا تأتلف مع عوائدنا، ولا تستطيع أن تحيط بما أحاط به الله من خفايا الصدور ومفاجآت الغيب؟!

لا يزكو بأهل القبلة أن يولوا وجوههم شطر المغرب يأخذون عنه من المذاهب والنظم والتقاليد ما أضَّل به أهله. إنما النور في الشرق مطلع الأديان، والهدى في شريعة الله مُنزل القرآن، والدليل في سنة الرسول صاحب الهجرة، والسبيل ما سلكه السلف الصالح فأوفى بهم على الغاية.

والرجاء في مولانا الفاروق أعز الله ملكه أن يبني إصلاح الأمة على قواعد الدين، وأن يُجري قضاء الحكومة على شريعة الله، فهو بما آتاه الله من العلم والحكمة والسلطان أحق بأن يبدأ للأمة الإسلامية هذا التاريخ الجديد.

أسأل الله ولي المؤمنين وأحكم الحاكمين أن يسدّد خطانا في الطريق المستقيم، وأن يكشف عنا وعن الناس هذا الكرب العظيم.

محمد مصطفى المراغي

ص: 6

‌الأوامر المختومة في المأثورات النبوية

للأستاذ محمود عباس العقاد

يكثر في الحروب الحديثة ذكر الأوامر المختومة التي تصدر إلى قوّاد السرايا والسفن ليفتحوها عند مدينة معلومة أو بعد مسيرة ساعات أو ف يعرض البحر على درجة معينة من درجات الطول والعرض، إلى أمثال ذلك من العلامات التي تعين بها الجهات.

ويتفق في أمثال هذه البعوث أن يكون القائد وحده مطلعاً على سر البعث أو موصياً به ورجاله جميعاً يجهلونه ولا يعرفون أهم خارجون في غزوة أو في استطلاع أو في مناورة إلى ما قبل الحركة المقصودة بساعات محدودات، وهنالك تصدر الأوامر التي لا بد من صدورها للتهيؤ والتنفيذ، ولا خوف من كشفها في تلك الساعة لصعوبة الاستعداد الذي يقابلها به العدو إذا انكشفت له قبل تنفيذها بفترة وجيزة، ولا سيما إذا كانت الحركة من حركات البحار.

هذه الأوامر المختومة ليست بحديثة.

وقد عرفت في المأثورات النبوية على أتم أصولها التي تلاحظ في أمثالها، ومن ذلك أنه عليه السلام بعث عبد الله بن جحش ومعه كتاب أمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، وفحواه أن (سر حتى تأتي بطن نخلة على أسم الله وبركاته، ولا تكرهن أحداً من أصحابك على المسير معك، وامض لأمر فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فترصد بها عبر قريش وتعلم لنا من أخبارهم).

وهذا نموذج من الأوامر المختومة جامع لكل ما يلاحظ فيها حديثاً وقديماً عند بداية الدعوات على التخصيص.

فأولها كتمان الخبر عمن يحيطون بالنبي عليه السلام؛ فلا يبعد أن يكون منهم من هو مدخول النية عينا عليه وعلى أصحابه من قبل قريش، ولا يبعد أن يكون منهم من يبوح بالخبر ولا يريد به السوء أو يدرك ما في البوح به من الخطر المحظور، ولا يبعد أن يكون منهم الضعفاء والمخالفون، والاستعانة على قضاء الحاجات بالكتمان سنة حكيمة من سنن النبي عليه السلام، وهي في حروب الدعوات على التخصيص أقمن بالاتباع.

ومما لوحظ في كتاب النبي لعبد الله بن جحش كتمان الخبر عن أصحابه ووصاته ألا يكره

ص: 7

أحداً منهم على السير معه بعد معرفته بوجهته. وهذا هو أهم الملاحظات في هذا المقام.

فقد يحارب الرجل وهو مكره مهدد بالموت الذي يتقيه إذ يفر من القتال، ولكنه لا يستطلع وهو مكره ثم يفيد استطلاعه من أرسلوه، بل لعله ينقلب إلى النقيض فيحرف الأخبار عمداً، أو يتلقاها على غير أكتراث، أو يطلع الأعداء على أسرار أصحابه وهم غافلون منه.

ولهذا تعاني الدول أكبر العناء في مراقبة الجواسيس بالجواسيس، وفي امتحان كل خبر بالمراجعة بعد المراجعة والمناقضة بعد المناقضة حتى تطمئن إلى صحته قبل الاعتماد عليه.

وفي الحرب الحاضرة تجربة جديدة لهذا النوع من المستطلعين أو الرواد المتقدمين.

فقد عرف أن هتلر يعتمد على أفراد من جنده يهبطون من الطيارات وراء الصفوف فيتسللون إلى مراكز المواصلات ويعيشون بين القرى المعزولة فيشيعون فيها الرعب والحيرة ويوهمون من يراهم أن الجيش المغير كله على مقربة منهم في جدوى لهم من الاستغاثة أو المقاومة، ويحمل معظم هؤلاء الرواد المتقدمين أجهزة للمخاطبة يستعينون بها على الاتصال برؤسائهم من بعيد.

قيل في الإعجاب بهذه الخطة الهتلرية كثير، وقيل في انتقادها والتنبيه إلى خطرها كثير.

فمن دواعي الإعجاب بها أنها أفادت في قطع المواصلات وإشاعة الذعر وتضليل المدافعين، وإنها شيء جديد في شكله وإن لم يكن جديداً في غايته ومرماه.

ومن أسباب انتقادها أن كل فائدة فيها تتوقف على العقيدة وحسن النية، فهي تستلزم أن يكون الرائد غيوراً على عمله متحمساً لإنجازه رقيباً على نفسه وهو بمعزل عن رقبائه، فليس أيسر له إذا هو أنفرد وأعوزته الرغبة في إنجاز عمله من أن يستأسر في أول مكان يصل إليه من بلاد الأعداء طلباً للسلامة ولا عقاب عليه ولا هو يتقي العقاب إلى نهاية القتال. ثم يتعلل بما شاء من المعاذير إن وجد بعد ذلك من يحاسبه ويعاقبه، وهيهات أن تستجمع الأدلة عليه في أمثال هذه الفوضى.

فالخطة الهتلرية فاشلة لا محالة إن لم ينفذها مريدون متعصبون غير مكرهين ولا متشككين فيما هو موكول إليهم، وهي لهذا أحرى أن تحسب من وحي الطريق وإلهام العقائد لا من

ص: 8

النظام الذي يدرب عليه كل جيش ويصلح لجميع الجنود. فلولا أن النازيين قضوا قبل الحرب الحاضرة زهاء عشر سنوات ينفخون في نفوس الناشئة جذوة البغضاء ويلهبونهم بحماسة العقيدة ويخلقون فيهم اللدد الذي يغني عن الرقابة ساعة التنفيذ لحبطت الخطة كل الحبوط وانقلبت على النازيين شر انقلاب.

وهاهنا تتجلى حكمة النبي عليه السلام في اشتراط الرغبة والطواعية واجتناب القسر والإكراه.

فهذه (أولاً) بعثة منفردة لا سبيل إلى الإكراه الفعال بين رجالها إذا أريد.

وهي (ثانية) بعثة استطلاع لا يغني فيها عمل الكاره المقسور، وألزم ما يلزم العامل فيها إيمانه وصدق نيته وحسن مودته لمن أرسلوه. فإن أعوزته هذه الصفة فقد أعوزه كل شيء.

أما غرض البعثة كلها وهو الاستطلاع فقد كان النبي عليه السلام عليماً بمزاياه معنياً به غاية العناية يحسب العدو المجهول كالعدو المستتر بأسوار الحصون في حمى من الجهل به قد يحول دون الاستعداد له بالعدة الضرورية ويحول من ثم دون الانتصار عليه.

وكان عليه السلام مثلاً بين قواد الجيوش الذين جعلوا عدة الاستطلاع مقدمة على عدة التعبئة، ومن هؤلاء نابليون الكبير.

قلنا في مقال كتبناه بالرسالة لمثل هذه المناسبة منذ سنتين: (لم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعني بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون، وكانت فراسة النبي في ذلك مضرب الأمثال، فلما رأى أصحابه يضربون العبدين المستقيين من ماء بدر لأنهما يذكران قريشاً ولا يذكران أبا سفيان علم بفطنته الصادقة أنهما يقولان الحق ولا يقصدان المراء، وسأل عن عدد القوم فلما لم يعرفا العدد سأل عن عدد الجزور التي ينحرونها كل يوم فعرف قوة الجيش بمعرفته مقدار الطعام الذي يحتاج إليه. وكان صلوات الله عليه أنه يعول في استطلاع أخبار كل مكان على أهله وأقرب الناس إلى العلم بفجاجة ودوربة، ويعقد ما يسمى اليوم مجلس الحرب قبل أن يبدأ القتال، فيسمح من كل فيما هو خبير به، ولا يأنف من الأخذ بنصيحة صغير أو كبير).

ونحن نكتب هذا المقال والحرب الروسية تذكرنا كيف أصيب نابليون في هذا الميدان حين أصيب في وسائل الاستطلاع، ثم تذكرنا كيف تكررت هذه الغلطة بعينها على نوع من

ص: 9

المشابهة بين غزوة نابليون روسيا أمس وغزوة هتلر لتلك البلاد اليوم

فمن أسباب هزيمة نابليون إهماله النصائح التي سمعها في مجلس الحرب من بعض الثقات قبل التوغل في الأرض الروسية.

ومن أسباب تلك الهزيمة أن الروس كانوا يتراجعون أمامه تحت جنح الظلام ويخلون المدن والطرقات حتى لا يرى فيها دياراً يسأله عن مكان الجيش المتراجع أو يلتقط من خلال أجوبته ما يعينه في الاستطلاع الذي كان كما أسلفنا شديد التعويل

أما هتلر فقد أتى من قبل هذين النقصين كما أتى من قبله من هو أعظم منه وأولى بالتحرز والأناة.

فقد أشتهر الآن أنه كان في مجلس الحرب على خلاف مع قواده الثقات الذين علموا من شأن الروس ما ليس له به علم

واشتهر الآن أنه أخطأ في استطلاعه أخبار القوم إذ خيل إليه أن الشعب الروسي يتحفز للثورة ويترقب الإغارة عليه لنصرة المغير كائناً من كان، ولو جاءت الغارة من عنصر معادٍ للعنصر السلافي وهو عنصر الجرمان.

ومحمد عليه السلام لم يتعلم ما تعلمه هتلر ونابليون، ولكنه لم يخطئ قط مثل هذا الخطأ في جميع غزواته وكشوفه. ولعلنا نفهم كلما درسنا زمانه الحافل بالعبر والأمثلة الباقية أن دراسته ضرب من دراسة العصر الحديث والقادة المحدثين.

عباس محمود العقاد

ص: 10

‌مع المفتي الأكبر

فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية، علم من أعلام الفقه الإسلامي في مصر والشرق، يمتاز بعلم واسع، ونظر صائب، وفكر ثاقب، وقد رأى فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر أن ينتفع التعليم العالي بمواهبه، فأسند إليه منصب (المراقب العام) على الكليات الأزهرية الثلاث، فأصبح له بهذا المنصب، وبشخصيته العلمية الجليلة، مشاركة في الإشراف العلمي على شئون التعليم، يرجى أن تحقق آمال الأستاذ الأكبر في الإصلاح.

وفضيلته - إلى جانب ذلك - عضو بارز من أعضاء (جماعة كبار العلماء) له فيها نشاط محمود، ورأي مشهود، ومقام كريم.

زرته في داره الحديثة الطراز التي بناها في ضاحية (كوبري القبة) فجاءت مثلاً رائعاً لعظمة البناء، وجمال التنسيق، ودليلاً حاضراً على ما يستطيعه (العالم الديني) من جمع بين تقوى الله، وأبهة الحياة.

تلقاني فضيلته مرحباً، وكنت منه على موعد، فلما أستقر بي المقام ذكرت له أن (الرسالة) تعتزم أن تصدر عددها الهجري الممتاز، ويسرها أن تسفر بينه وبين القراء الكرام في جميع أنحاء الشرق العربي بحديث يتصل بعمله في الإفتاء، والرقابة العامة، وجماعة كبار العلماء.

فأبدى استعداداً كريماً لإجابة هذه الرغبة، وأثنى على (الرسالة) ثناءً جميلاً، ذاكراً عنايتها الفائقة بشئون العلم والدين، ودعوتها القوية للثقافة الإسلامية، وقال: إنه يعلق على ذلك آمالاً عظيمة، فإن للرسالة في نفوس المسلمين وأهل العروبة جميعاً مقاماً عظيماً ومنزلة سامية.

فأجزلت لفضيلته الشكر على استعداده وحسن ثنائه، ثم دار الحديث بيني وبينه على هذا النحو:

1 -

في الإفتاء

قلت لفضيلته: إن منصب الإفتاء منصب جليل له بالفقه الإسلامي صلة عملية وثيقة، وقد رسم الفقهاء المتأخرون للمفتي رسوماً لا يجيزون له أن يتعداها، وألزموه أن يفتي بآراء

ص: 11

عينوها له، وكثيراً ما يذكرون الحكم ويتبعونه بقولهم:(وبه يفتى)، أو (وعليه العمل) ونحو ذلك؛ فهل تلتزمون فضيلتكم هذه الرسوم فيما تصدرون من فتوى، ولا تخرجون عن هذه الأقوال؟

فأجاب قائلاً: إن الفتاوى التي أصدرها على نوعين: نوع يتصل بالقضاء الشرعي والجهات الرسمية، وهذا أفتي فيه بما هو الراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة، لأن المستفتي يطلب ذلك في استفتائه، ولأن هذا هو المذهب الرسمي في مصر، ولو لم أتبع هذه الطريقة لاصطدم القضاء بالفتوى.

أما النوع الثاني فهو الفتاوى التي أصدرها في استفتاءات غير رسمية أو واردة من البلاد الأخرى، وأنا في هذه الفتاوى لا أتقيد برسم يرسم، ولا بقول من الأقوال في مذهب الحنفية، وإنما أختار القول الذي أرى دليله راجحاً وأبين سبب رجحانه عندي، وقد أذكر إلى جانبه الأقوال الأخرى إذا طلب المستفتي ذلك أو كان الأمر يستدعي ذكرها.

قلت له: أتلتزمون في ترجيحكم دائرة المذاهب الأربعة المعروفة؟

فقال: أنا لا أتقيد بالمذاهب الأربعة، ولكني لا أخرج فيما أفتي به عن مذاهب العلماء من السلف والخلف. والسبب في ذلك أن الفقه الإسلامي غني جداً بأقوال العلماء وآرائهم فلا تكاد تجد مسألة من المسائل إلا وقد تعددت آراء الفقهاء فيها بحيث لا تستطيع أن تجزم بأن رأياً تراه لم يقل به أحد العلماء من قبل، فليس على الناظر في هذه الثروة الطائلة إلا أن يختار أرجحها مصلحة، وأقواها دليلاً، وأشبهها بروح الشريعة، وهذا هو الذي أسير عليه.

سألت فضيلته: أكان من المفتين الذين سبقوا فضيلتكم في دار الإفتاء المصرية من جرى على هذه الطريقة التي تسيرون عليها؟

فقال: إن الفتاوى التي تحتفظ بها سجلات دار الإفتاء لا تدل على ذلك، وإن كانت تدل في كثير من الأحيان على فقه جيد، ونظر سليم.

قلت له: وفتاوى الأستاذ الإمام محمد عبده؟

فقال: إن الناحية التي تجلت فيها مواهب الأستاذ الإمام الشيخ (محمد عبده) كانت هي إدراكه الصحيح لمعاني القرآن الكريم، وفهمه الدقيق لأغراضه، وتذوقه لأسلوبه ومعجز بيانه، مع بصر عظيم بأحوال الناس، وعبر التاريخ، وأسرار تقدم الأمم والشعوب، وسنة

ص: 12

الله في جميع الكائنات؛ يؤازر ذلك قلب جريء، وجنان ثابت، وعقل متصرف. وكان رضي الله عنه يعتمد في فتاواه على إدراك روح الشريعة، وتبين أغراضها العامة، لا على مناقشة المذاهب، وترجيح أقوال الفقهاء؛ ولذلك تأتي فتاواه غالباً مختصرة، وقد تثير خلافاً بين أهل العلم. ومن أمثلة ذلك أنه أفتى فتواه المشهورة بجواز لبس (البرنيطة)، فقامت من أجلها ضجة هائلة بين العلماء وأهل الأزهر يومئذ، فلما أردت أن أفتي في هذا الموضوع انتفعت بموضع العبرة فيه، فأخرجت فتواي التي تجيز لبس (البرنيطة) إخراجاً فقهياً مؤيداً بأقوال العلماء، جارياً على طريقتهم في الاستدلال والترجيح، وبذلك لم يستطع أحد أن يشغب على هذه الفتوى أو يثير في شأنها جدالاً.

2 -

في الرقابة العامة

شكرت فضيلة المفتي الأكبر على هذه المعلومات القيمة، ثم توجهت إلى فضيلة المراقب العام أسأله عن آماله فيما يتصل بالتعليم الأزهري العالي، وعن أسلوبه في العمل على تحقيق هذه الآمال فأجاب قائلاً:

- إنني أرجو أن تخرج لنا الكليات الأزهرية في نواحيها المختلفة علماء يمتازون بميزتين:

إحداهما: القدرة على فهم مسائل العلوم فهماً صحيحاً واضحاً لا على استظهارها فحسب؛ وإن لدينا من آثار الأولين لثروة عظمى في سائر العلوم الدينية والعربية والكونية: في اللغة والنحو والصرف وعلوم التاريخ والمنطق والفلسفة وأصول الدين والأخلاق وغيرها. لدبنا كنوز مليئة بالخيرات تحتاج إلى من يفتح مغاليقها ويستفيد منها؛ والأزهري هو الذي يستطيع أن يفتح هذه المغاليق، ويثير دفائنها، وهو المطالب بأن يأخذها من مصادرها، ويستخرجها من منابتها في صبر ومثابرة وحسن إدراك.

والوسيلة إلى ذلك هي غرس المحبة للعلم في نفوس الطلاب والأساتذة فإن الذي يذوق لذة العلم لا يعدل بها لذة أخرى، ولا تصرفه عنها صعوبة من الصعاب، والشعور بلذة البحث أول إمارات النجاح.

الميزة الثانية التي يجب أن يمتاز بها العالم هي القدرة على التصرف فيما يعلم، لإفادة الناس به، وتطبيقه عملياً في جميع شئون الحياة.

والوسيلة إلى ذلك فيما أرى هي تشجيع الكفايات العلمية الممتازة، وبث روح العمل

ص: 13

والإنتاج في محيط أهل العلم.

فإذا أخرجت الكليات هذا العالم الذي يمتاز بهاتين الميزتين أمكننا أن نرى رجالاً يدرسون قواعد البلاغة ومسائل الأدب ويكونون بلغاء وكتاباً وأدباء، وأن نرى رجالاً يدرسون أصول الفقه ويكونون فقهاء ومرجحين. وأن نرى علماء يستطيعون أن يدافعوا عن الإسلام، ويردوا هجمات أعدائه بأسلوب العصر وهكذا. . .

3 -

في جماعة كبار العلماء

قلت لفضيلته: لقد أطلع قراء الرسالة على تقرير اللجنة التي ألفتها جماعة كبار العلماء برياسة فضيلتكم للنظر في المقترحات التي رفعها إليها بعض أعضائها. فما الذي ترونه شخصياً في المقترحات، ومتى يتم إعداد الوسائل للأخذ في تنفيذها؟

فأجاب فضيلته:

لقد سررت بهذه المقترحات العظيمة منذ أول لحظة، وأعلنت رأيي هذا في جلسة الجماعة الموقرة التي عرضت فيها هذه المقترحات وقلت: إن جماعة كبار العلماء منذ تكوينها مطالبة بهذه الأعمال كلها، فإذا كانت قد تأخرت في الماضي عن القيام بهذا الواجب فلا ينبغي لها أن تتأخر بعد الآن، ولا سيما في عصر حضرة صاحب الجلالة الملك الصالح الغيور على دينه: فاروق الأول أعزه الله، وبأشراف الرجل العالم المصلح المؤمن بفكرته: فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي.

وهذه المقترحات لا يتردد أحد في إدراك ما لها من فائدة جزيلة، ولا في وجوبها على جماعة كبار العلماء، فتلك طوائف الأمة تتشاجر وتتشاحن باسم الدين في كثير من الأشياء: أسنة هي أم بدعة؟ أمن الدين أم ليست من الدين؟ وهذه كتب التفسير والحديث ينظر فيها من يستطيع تمييز الغث والسمين ومن لا يستطيع، وهذه شئون المعاملات التي جدت وتجد للناس، وهم محتاجون إلى معرفة حكم الشريعة فيها بطريقة تقضي على النزاع، وتقطع أسباب الجدل والخصومة، وقد اتجهت أفكار المفكرين وآراء المصلحين إلى هذه الشريعة يلتمسون أن تكون نظام حياتهم، وأساس مدنيتهم، فلا بد لنا إذن من العمل، ولا بد لنا من تلبية نداء الأمة، وإعداد أنفسنا لهذه المهمة السامية.

أنا لا أزعم هذا العمل هين أو يسير، بل أعتقد أننا سنحمل منه عبئاً ثقيلاً، ونضطلع بمهمة

ص: 14

شاقة، ولكنني مع ذلك أعتقد أن تضافر القوى، وتعاون الجهود، والإخلاص لله، وابتغاء وجهه الكريم، كل ذلك كفيل بتسهيل الصعاب. لذلك كله أيدت اللجنة هذه المقترحات، وأشارت بإنشاء مكتب علمي للجماعة تمهيداً للأخذ بتنفيذها، ورفعت رأيها في ذلك إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر رئيس الجماعة، وإني ألمس من فضيلته عناية واهتماماً بهذه المقترحات، وأعتقد أنها أصابت هدفه الاسمي في الإصلاح الديني والاجتماعي الذي يبتغيه جاهداً للأمة الإسلامية الكريمة، وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه خير الدين والوطن.

وهنا انتهى حديث فضيلة المفتي الأكبر، واستأذنته في نشره فأذن، ثم انصرفت شاكراً.

م. . .

ص: 15

‌الهجرة وشخصيات الرسول

للأستاذ محمود شلتوت

كان للوحي قبل الهجرة اتجاه، وكان له بعد الهجرة اتجاه آخر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يساير الوحي في هذين الاتجاهين، ويحتفظ بما يؤدي إلى الغاية منهما.

كان الوحي يدور أولاً حول تحديد الدعوة، وبيان الغرض منها، ولفت الأنظار إلى أدلتها، وذكر ما ينفع فيها من قصص الأولين وعبر الماضين، وتسلية الرسول وغرس عوامل القوة الروحية في نفسه، وتعويده عدم الاكتراث بما يجابه به من الإيذاء والتكذيب والاضطهاد. وقد أتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الناحية في تفكيره وأعماله وأقواله وسائر تصرفاته، يبلغ الدعوة، ويعالج الصبر على الإيذاء في سبيلها، ويحاول جمع القلوب حولها، ويرسم للناس دائرتها، ويركز أصولها في النفوس، ويعمل على إيجاد بيئة إسلامية صالحة لما يرد عليها فيما بعد من مبادئ التشريع.

فلما تمت الهجرة دخلت الدعوة في عهد جديد تكونت به للمسلمين وحدة اقتضت معاملات ونظماً اجتماعية تمتاز بها عن سائر الجماعات.

ومنذ ذلك الحين أتجه الوحي إلى جهة أخرى تسير مع مقتضيات الحالة الجديدة وتلبي مطالب هذه الأمة الناشئة، واتجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاتجاه نفسه فأضيف بذلك إلى وظيفته في التبليغ وظائف أخرى، فكان إماماً للمسلمين يسوسهم ويرعى دولتهم وينظم شئونهم؛ وكان مفتياً يجيبهم عما يسألون، ويعلمهم ما يجهلون؛ وكان قاضياً يفصل في خصوماتهم، ويقضي بينهم، معتمداً على ما يظهر به الحق من البينات والأدلة.

وقد صدرت عنه صلى الله عليه وسلم في جو هذه الحياة الجديدة أقوال وأفعال وتصرفات مختلفة عني بها المسلمون عناية فائقة هي مضرب الأمثال في عناية الأمم بتاريخ عظمائها وتتبع آثارهم، دونوها وشرحوها وضبطوا ألفاظها وألفوا المعاجم في شرح غريبها، واهتموا بتفهم أسرارها، وتبين أغراضها حتى كان من آثار ذلك أن نشأت علوم خاصة تعرف (بعلوم السنة) من رواية ودراية وتجريح وتعديل وناسخ ومنسوخ وغير ذلك.

يهم الناظر في التشريع الإسلامي أن يعرف: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يروى عنه من هذه الأقوال وتلك الأفعال والتصرفات مُصدراً عن الوحي، ناطقاً بلسانه، أو

ص: 16

كان له إلى جانب الوحي فيها تفكير ونظر واجتهاد؟ ذلك ما نريد معالجته في هذا البحث.

يرى بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله فقط. تنحصر مهمته في تبليغ الوحي وما يتصل به من بيان على الوجه الذي ضمنه الله بقوله (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه).

ويرون أن صفة الرسالة فيه غلبت على صفة البشرية، وأنه عليه الصلاة والسلام تمحض في استعداده لحمل الرسالة وتبليغ الأمانة، معتمدين في ذلك على ما فهموا من قوله تعالى:(إن هو إلا وحي يوحى) بعد قوله: (وما ينطق عن الهوى).

رأوا هذا ورتبوا عليه أن كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم شريعة من الله رب العالمين، لها صفة الدوام والبقاء إلى يوم الدين، والناس مخاطبون بها في كل زمان ومكان، لا يجوز لهم أن يحيدوا عنها قيد شعرة، ومن حاد عنها أو سوغ لنفسه أن يتصرف فيها، فذلك خارج على شريعة الله، مخالف عن أمر الله، غير جدير بأن يكون من المؤمنين.

يقولون ذلك ويتشددون فيه، ولا يفرقون بين أقواله وأفعاله وأحكامه وأقضيته وسائر تصرفاته في العبادات والمدنيات والجنائيات والطب والسياسة والحروب والعادات والزي واللباس وآداب الطعام والشراب والجلوس والسير في الطريق وما يكون من الأحوال الشخصية والمسائل الجنسية وغير ذلك، فكل هذا وحي من الله، بعضه ظاهر وببعضه باطن، وكله شرع محكم، ودين متبع لا يجوز الخروج عليه، ولا التصرف فيه.

وقد تجد قوماً منهم يستثنون من ذلك بعض الأشياء التي لا تتصل بالنواحي التشريعية كرأيه صلى الله عليه وسلم في تأبير النحل، أو في اختيار مكان ينزلون فيه للحرب أو نحو ذلك، ولكنهم حين يتحدثون عن هذا الاستثناء يحتاطون في الأمر تمام الاحتياط، فيضيقون دائرته ولا يتوسعون فيه.

لقد جاءت الشريعة الإسلامية (بالاجتهاد)، وأمر الله عباده أولي الأبصار بأن يعتبروا، وينظروا، ويتدبروا كتابه الكريم، وقد كان الاجتهاد سنة الأنبياء والمرسلين من قبل، والقرآن يحدثنا بذلك عنهم كما في شأن يحيى إذ أتاه الله الحكم صبياً، وكما في قصة داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم. وقد ذكر الله جملة من أنبيائه ورسله، وأثبت لهم جميعاً هذا المعنى بقوله:(أولئك الذين أتيناهم الكتاب والحكم والنبوة)؛

ص: 17

ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في الآيات نفسها: (أولئك الذين الله فبهداهم أقتده).

فالنبي إذن مأمور بالسير على سنة الأنبياء والمرسلين من قبله، مأمور بأن يقتدي بهديهم، وهذا أمر تقضي به طبيعة الأشياء، لأنه لا يعقل أن يرسل الله رسولاً في وقت نبغت فيه الإنسانية، واشتد ساعد الفكر البشري، ثم يحرمه النظر والتفكير الذي أباحه لإخوانه الأنبياء في طفولة الدهر وشباب الزمان، وأباحه أيضاً لمتبعيه الذين يدعوهم إلى دينه ويأمرهم بالعمل بشريعته.

كيف يسوغ لأحد أن يقول بحرمان النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد، وهو مرتبة علمية من أسمى مراتب الفطنة البشرية والبصيرة الإنسانية؟ أيمنحها الله لذوي العقول وأرباب البصائر ثم يحرمها على الإنسان الكامل؟

كأني بهؤلاء يرون رسالة الرسول أمراً يتعارض مع بشريته. ولقد كان صلى الله عليه وسلم مع رسالته وقبل رسالته بشراً اكتملت فيه جميع معاني البشرية الفاضل. ولم يشأ الله أن يرسله حتى بلغ أربعين عاماً لتنضج بشريته وتكمل رجولته، فلا تطغى عليها الرسالة ولا تسلبها خصائصها. وقد عنى القرآن الكريم بأن يؤكد هذا المعنى في كثير من آياته:(سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً). (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى ألي). ومن زعم أن رسالة النبي قد غلبت على بشريته وقضت على لوازمها السامية فقد تلاقي في رأيه من قريب أو من بعيد بالذين يقولون (أبعث الله بشراً رسولاً)

إن النبي صلى الله عليه وسلم بشر وفي أسمى مراتب البشرية، وقد اكتسب في ذلك شخصية الفقيه المجتهد كما منح شخصية الرسول المبلغ عن الله. وهو (أول الفقهاء) كما أنه (خاتم الأنبياء). فلننظر إذن فيما ورد عنه صلى الله عليه وسلم على هذا الأساس الذي يجمع بين الرسول والفقيه

اقتضت حكمة الله أن يسوس عباده، ويحقق مصالحهم بنوعين من التشريع: نوع يتولاه بنفسه وينص فيه على ما يريد ويرسل به الوحي إلى نبيه. ونوع آخر (يسكت عنه) فلا ينص عليه غير نسيان ولا إهمال، ولكنه (رحمة بعباده) يكله إلى أصحاب الرأي والنظر لاختلاف المصلحة فيه باختلاف الظروف والأحوال. وقد قام (محمد النبي) بحق رسالته فبلغ النوع الأول كما أمره بتبليغه. وقام (محمد الفقيه الأول) بحق بشريته: رسم طريق

ص: 18

الاجتهاد، وعنى بالتطبيق العملي عليها، وبأن يعبدها لمن يجيء بعده من الخلفاء والقضاة والأئمة: اجتهد وقاس وحكم، وأفتى بالحاجة وتقدير المصلحة، وساس الأمة بما أراده الله كما هو الشأن في المجتهدين والحكام

1 -

اجتهد في الحروب وفي الأمور الدنيوية

2 -

واجتهد في الأحكام الشرعية، فأفتى المرأة التي سألته عن حجها لأبيها بقوله:(أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يقبل منك)؟ وأفتى السائل عن قبلة الصائم بقوله: (أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك)؟ وأفتى السائل عمن لامس امرأته أيكتب له أجر وهو يقضي شهوته؟ فقال له: (أرأيت لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟)

3 -

ونزل على اجتهاد غيره فاستثنى (الأذخر) في تحريم شجر مكة حين استثناه العباس. ودعا للمقصرين كما دعا للمحلقين، وأذن في غسل القدور التي طبخت فيها لحوم الحمر الأهلية بعد أن أمر بكسرها، ونزل المنزل الذي أشار عليه أصحابه بأن ينزل فيه

4 -

وكان يجتهد ثم ينزل الوحي باجتهاده، وقد يسكت عنه فلا يعرض له بتصويب ولا تخطئة: عاتبه الله على الإذن للمنافقين، وعلى أخذ الفداء من أسرى بدر، وعلى إعراضه عن الأعمى، فكان ذلك إيذاناً من الله في اجتهاده، ورجع هو عن اجتهاده باجتهاد بمجرد النظر والتجربة فقال (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر ذلك أولادهم شيئاً وقال:(لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى)

5 -

وكان يحكم في الحوادث الجزئية التي ترفع إليه، ويعتمد في حكمه على البيانات وحجج الخصوم ويقول:(لعل أحدكم ألحن بحجته فإنما أنا بشر)

6 -

وكان يكل الجهاد إلى أمرائه وقضاته دون أن يقيدهم بالرجوع إليه

7 -

وكان يسارع أحياناً إلى الجواب عما يسأل عنه من غير أن يتربص لوحي، وأحياناً ينتظر أمر الله ويقول لم ينزل علي فيه شيء كما في حادثة المرأة التي جادلته في زوجها، وكما في حادثة الرجل الذي قذف زوجته، فقد نزل القرآن بتشريع كفارة الظهار وشهادات اللعان

ص: 19

ولعل الأمر فيما ينزل فيه الوحي وفيما لا ينزل، وفيما يجتهد فيه الرسول وفيما لا يجتهد راجع إلى الفصل بين الشئون التي تتعلق بأساس الدعوة، أو بالجانب الخلقي، أو بالعبادة، وبين ما تختلف فيه المصلحة باختلاف الظروف والأزمنة، والأشخاص، وقد حدد الفقهاء المجتهدون بذلك مواضع الاجتهاد ومواضع النص

نستطيع بعد هذا أن نستخلص للنبي صلى الله عليه وسلم شخصيات متعددة: شخصية الرسول، وشخصية الإمام العام، وشخصية المفتي، وشخصية القاضي

فهو بشخصية الرسول مبلغ عن الله لا يخرج فيما أوحى إليه عن حدود ما أمر به أو نهى عنه، والمسلمون مكلفون به كما تلقوه عنه في عمومه أو في خصوصه، وفي دوامه أو توقيته؛ وهذا يغلب فيما هو من العقائد وأصول الأخلاق والعبادات، ولا يعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقيهاً، وإنما هو أعلى شأناً وأجل مكانة من الفقيه

وهو بشخصية الإمام الأعظم رئيس المسلمين، وزعيم قوميتهم يعمل على تركيز أمته، وطبعها بطابع تتميز به عن سائر الأمم، ويلحق بذلك كل ما ورد عنه مما يتعلق باللباس والأزياء والتشبه بقوم ومخالفة اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، وما إلى ذلك مما لا يمس ناحية العقيدة، ولا يعقل فيه معنى التعبد؛ وإنما هو في الشئون الاجتماعية البحتة التي تعرفها الأمم في كل العصور والأجيال، وينزع إليها الزعماء والقادة في القديم والحديث، والأمر فيها راجع إلى ما تراه الأمم، وتقدر فيه قوميتها ومصلحتها وسيادتها

وهو بشخصية المفتي إما مجيب بلسان الوحي فليس له اجتهاد في ذلك إلا في تطبيق النص على جزئيات الحوادث، وإما فقيه يجتهد ويقدر ويلاحظ أحوال السائلين فيجيبهم بما يراه كما يفعل سائر المجتهدين وبالطرق التي يألفها الناس في استنباط المجهولات، وقد علم له من هذا النوع كثير

وهو بشخصية القاضي حكم بين المتخاصمين يسمع دعاواهم، ويتعرف الحق بما يسمع من شهادة الشهود وما يرى من وجوه التثبت، ويقدر ظروف القضية وأحوال المتقاضين كما يفعل سائر القضاة، وأحكامه في هذه الدائرة لا عموم لها في الأشخاص ولا في الأحوال كما يقول علماء الأصول، فليس لها صفة التشريع العام

هذه شخصيات أربع صارت إليه صلى الله عليه وسلم أثراً من آثار تلك الهجرة الميمونة.

ص: 20

وإننا لنلمح هذه الشخصيات في جميع ما اثر عنه ودون في الكتب، ومنه ما تظهر الشخصية التي صدر عنها دون أن يخالف فيه أحد، ومنه ما تخفي شخصيته خفاء تتفاوت الأنظار فيه، وتختلف الآراء في تقديره

ولو أننا تتبعنا المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطيناه نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات ولم نخلط بعضها ببعض، ورتبنا على كل منها آثاره، وأعطيناه حقه، لسهل على المسلمين أن يتفاهموا فيما شجر بينهم من خلاف، ولتصافح المتخالفون، ولما رمي أحد سواه بالكفر أو الزندقة، ولعلم الجميع ما هو شرع دائم لا سبيل لمخالفته أو الخروج عنه، وما هو تشريع خاص، أو مؤقت لهم أن يتصرفوا فيه بما تقضي به المصلحة، وبما توحي فيه الظروف والأحوال

لو فعلنا ذلك لما أبقينا على أسباب هذا الخلاف والتناكر بين أفراد الأمة وطوائفها، ولرجعنا إلى كلمة سواء في العبادات والمعاملات والآداب والنظم الاجتماعية وسائر شئون الحياة، ولانتفع الناس بشرع الله ودينه. ولكنا كما يريدنا الله (خير أمة أخرجت للناس). وفقنا الله جميعاً إلى الرشاد وبصرنا بالحق والصواب

محمود شلتوت

وكيل كلية الشريعة

وعضو هيئة كبار العلماء

ص: 21

‌ساعة في ظلال الجنة

للأستاذ عبد الله عفيفي بك

الطريق من جدة إلى مكة غاص مزدحم، يتدفق بالركب العظيم والركب أروع ركب وأحفله، وأشده إثارة للقلب والعاطفة والخاطر والخيال. فيه الركبان من كل لون، وفيه المشاة من كل قبيل.

وفيه العابدون السائحون الذين صدروا عن أهلهم وأوطانهم منذ بضع سنين مشاة يستبقون إلى الله في بيته الكريم. وفي هؤلاء من ساروا يحملون أثقالهم وأحمالهم والشيوخ المستضعفين الذين لا يطيقون المشي من الرجال والنساء، وفيهم الوالدات يحملن أطفالهن وراء ظهورهن ويرفعن فوق رءوسهن أزواد الركب الكبير. وقد انتشر هذا الخلق الحاشد على الوادي الممدود بين الجبال المتناوحة في قوة وعزيمة وفي صمت وجلال. بينما الشمس تؤذن بالثواء، والليل من ورائها ينشر رواقه على الصحراء الإلهية الآخذة بمجامع القلوب

(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، أن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) هذا هو النشيد السماوي الذي كان ينبعث من أعماق القلوب فتخشع له السموات والأرض والجبال، وتتحطم في جنباته كل نفس عاتية وكل قلب حديد

وسارت السيارة بي وبرفاقي متئدة متمهلة في جلال هذا الحشد العالمي الذي تغيب في جلجلته ضجة الجيش القاهر، وتخفت لعظمته قعقعة السلاح العتيد

جاوزنا الركب العظيم وأنا في غاشية وجدانية ملكت علي الطريق. أبعد ساعة أو بعض ساعة أكون في البيت الحرام، وحول الكعبة التي تشخص إليها وجوه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأقف بين مقام إبراهيم وحجر إسماعيل؟

وأخيراً انتهى الوادي، وانفرجت الجبال، وتراءت لنا عن بعد أنوار مكة

الله أكبر! لبيك اللهم لبيك! سبحانك يا من سبحت له السموات والأرض وما فيهن! تعاليت يا رب الأرباب! أهذه النسمات كان يشمها رسول الله. وهذه الأرض كانت تطؤها قدماه!

وسارت السيارة في أحياء مكة حتى انتهت إلى ما بين عتيقين في أقصى الطريق فوقفت، وقال السائق هذا هو البيت الحرام! نزلت وأنا ثابت، لا أستطيع الحركة، وأبصرت فإذا

ص: 22

الكعبة تلوح عن بعد، والمؤمنون يطوفون من حولها، فأحسست بأن هذا المشهد من مشاهد السماء. . .!

دخلت البيت وكأنني روح من الأرواح تجرد عن هذه الدنيا وألقى وراء ظهره أحمالها وآمالها وآلامها وصار لا يشعر إلا أنه في ظلال الجنة

أنا الآن ذاهل اللب، مخطوف القلب، منهل العينين، أهتف بالتلبية، وأنشج بالبكاء وعلى الكعبة جلال من جلال الله، وجمال من جمال الفردوس، وروح من أرواح العرش، لا يراه الراءون إلا خفوا هياماً به، وحنيناً إليه. وأقسم لقد طفت في الكعبة طواف القدوم وقبلت الحجر الأسود، ووردت ماء زمزم، وشربت منها عللاً بعد نهل، وأنا لا أدري إلا أنني في جلوة سماوية، أو حلم بديع.

خرجت وقد تعلق قلبي بالكعبة، فلا أطيق الصبر عنها، وعدت إليها في السحر، وسمعت أذان الفجر، وأقيمت الصلاة.

فوقف الناس صفوفاً حول الكعبة، واستمعوا القرآن الكريم من إمام عذب الصوت، جميل الترتيل؛ وما أسماه موقفاً، وما أطيبها متعة، وما أخلدها لحظات!

وابتسم النهار ونحن جلوس بجانب المقام، وللكعبة بهاء أكثر إشراقاً من بهاء النهار.

هي قوة روحية من قوى الله، تلك التي يفيضها رب البيت على الوافدين إلى البيت.

آمنت بأن هذا البناء المشرف العظيم هو الذي بث روح الإيمان ونور اليقين في نفوس المؤمنين، حتى شقوا الطريق بهذا الدين إلى أرجاء العالمين.

وتمثلت في هذا الموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طريق هجرته إلى المدينة، وقد وقف على ظهر ناقته واستشرف لعله يرى معالم مكة، ثم ناجاها بقوله الكريم:(إني لأعلم أنك أحب البلاد إلي، وأنك أحب أرض الله إلى الله، ولولا أن المشركين أخرجوني منك ما خرجت).

هكذا أقمت في مكة وفي منى وعرفات والمشعر الحرام ثمانية أيام، وعدت إلى الكعبة وأنا أشم منها روح الجنة، وأرى فيها بهاء السماء.

اللهم أعدني إلى مكة، فإني أجد الشوق شديداً، وما زال العهد غير بعيد

عبد الله عفيفي

ص: 23

‌رسول الله في عرفات

للدكتور عبد الوهاب عزام

أما اليوم فتاسع ذي الحجة، وأما السنة فالعاشرة من الهجرة، والحجيج يسيرون من منى إلى عرفات، فما بال الناس لا يسيرون على السنن المألوف، ولا يفعلون ما كانوا يفعلون؟ ما بالهم لا تفرقهم العصبيات، ينحازون إلى الرايات؟ ما بال القبائل لا تلبي لآلهتها ولا تهيب بأصنامها؟ عجباً، لا تذكر الآلهة حتى اللات والعزى ومناة، ولا تسمى الأوثان حتى ود وهبل؟

كلا، كلا، قد تتابع القوم في سمت وخشوع، فأين الجلبة والضوضاء، والتفاخر بالآباء؟ وإن قريشاً تتجاوز المزدلفة مع الناس إلى عرفات؛ فكيف سوت نفسها بالقبائل، ورضيت أن تسير إلى هذا المنازل؟ لست أرى ما غير قريشاً من غيرهم، ولا الحمس ممن عداهم، وأين النسأة من كنانة؟ لا ترى لهم شارة ولا موكباً ولا تبصر منهم أحداً. ماذا دها العرب فغير سننهم؟ بل من ذا الذي جاءهم فجمع شملهم ووحد كلمتهم وأخلص لله دعوتهم؟ إن هذا لشيء عجاب. كنا قبل سنتين نسمع الضجيج والضوضاء، والتصدية والمكاء، ونرى كل قبيلة تنحاز إلى علمها وتنادي ربها، فمن مشيد بالأوثان، ومن مناد: لبيك رب همدان؟ فاستمع اليوم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك!

قد تغيرت الدعوة واختلف الشعار، وتبدلت السيما والسيرة، ما عهدنا هذا من قبل!

والشيطان ذليل حسير قد أوى إلى صخرة على جنب الطريق يرقب الوفود المتآخية بل الأخوة المجتمعة، يرمي الجموع بعينه خزيان، ويعض بنانه حيران، يقول: (ويلي من محمد! لقد أخرب بيوتي من هذه الأوثان، ومحا البغضاء والشنآن. لقد ذهب النزاع والخصام، وأفلت من يدي الزمام. ويلي من محمد! ألم يكن بالأمس يغشى هذه المجامع وحيداً، ويرتد عنها مخذولاً؟ ألم يكن يعرض نفسه على القبائل لتجيره فيلفي الغلظة والجفاء، والهزء والسخرية؟ ويلي من محمد! لست آسى على الحجاز وحده ولا على جزيرة العرب فحسب، إني لأوجس خيفة أن يجاوز هذا التوحيد الجامع، وهذه الأخوة الموحدة، حدود الجزيرة، فتدمر منازلي من معابد الوثنية، وقصور الجبارين، وتمتد إلى كل بقعة تزلزلها الفرقة، ويسيطر عليها الظلم، ويشيع فيها الفساد، وتتغلغل فيها الفواحش ما

ص: 25

ظهر منها وما بطن، ويرفع فيها لواء الباطل فوق كل لواء. ويلي! لقد جاهدت محمداً في داري ثلاثاً وعشرين سنة واستنصرت شياطين الإنس والجن، وحشدت جنود الباطل وخيل إلي مراراً أني أشرفت على الظفر في هذه الجموع التي تسير وراء محمد وتدعو بدعوة محمد ومن أنه يوم له ما بعده)

يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف من الحجاج إلى عرفة وهذه قبة ضربت له في نمرة فينزل بها

زالت الشمس فأمر رسول الله بناقته القصواء فرحلت فركب حتى أتى بطن الوادي وادي عرنة فوقف واجتمع الناس وأصاخوا للخطبة التي لم يخطب الرسول مثلها في مثل هذا الجمع الحاشد، والوصية العظمى التي يوصي بها الرسول أمته في حجة الوداع، والبلاغ الأكبر يوم الحج الأكبر يؤذن للناس بكمال الدين وتمام النعمة، وتمكن الإسلام ووقف ربيعة بن أمية ابن خلف على مقربة من الرسول يبلغ الحجيج بصوته الجهير مقال رسول الله

ألهم الرسول أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأن الدين قد كمل ونعمة الله قد تمت، فقال:(أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الوقف أبداً.)

وعلم رسول الله أن التوحيد الذي جاء به الإسلام كفيل بتوحيد الله على مر الدهور، وأن الكتاب الذي بلغه ضمين ألا تعبد الأوثان من بعد، وأن العقول التي حررها تستنكف أن ترتكس في أباطيل الجاهلية. فليس يخشى على أمته الشرك ولكن يخشى أن يستجيبوا للشيطان فيما عدا التوحيد في أمور يحسبونها هينة وعظيمة الأثر في نظام الجماعة وأخلاقها، حرية أن توهي القوة، وتفرق الكلمة، وتعطل العقيدة الصالحة. وذلكم كل كلمة تؤدي إلى فرقة، وكل فعلة من الظلم والعدوان أو الرذيلة والمنكر. عرف هذا خاتم النبيين فقال:(إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم).

ثم وكد الرسول ما بلغه وعلمه ثلاثاً وعشرين سنة من حرمة الدماء والأموال والأعراض. وكد ما أبطل به الحروب المتمادية، والغزوات المستمرة، والتارات المستعرة، وما هدم به جاهلية العرب هدماً، وردها شرعاً من السلام والوئام، وسلطان القانون العام، فقال: (أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وحرمة شهركم

ص: 26

هذا. . . وإن كل دم في الجاهلية موضوع، وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب؛ فهو أول من أبدأ به من دماء الجاهلية.

ثم عمد الرسول الذي علم البر بالفقير وجعل له حقاً في مال الغني، وعطف القلوب بعضها على بعض وأشعرها البر والمواساة، وعمد إلى هذا الإثم الآثم، والجرم المنكر، الذي تتبرأ منه الأخلاق والمروءة، هذه الشرعة الدنيئة التي تحكم الغني في رقبة الفقير بدراهم معدودات، وتتغلغل في الأخلاق والأموال تغلغل السوس، فأعاد ما وكده الكتاب والسنة من إبطال الربا، وأعلن أنه سواء منه ما تقدم وما تأخر قد محقه الله ومحق أثاره فقال:(وإن كل ربا موضوع، ولكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنه لا ربا؛ وأن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله)

ولم ينس النساء وقد أنقذهن من الوأد وأشركهن في الإرث وجعل (لهن مثل الذي عليهن بالمعروف)

وشرع لهن الشريعة الكافلة سعادتهن وسعادة الأمة. لم ينس النساء في هذا الموقف العظيم الذي يوصي فيه بأصول شريعته قال: أما بعد أيها الناس فإن لكم على نسائكم حقاً ولهن عليكم حقاً. . . واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله. . . فاعقلوا

أيها الناس: (ليت النساء أخذن الحقوق وأدين الواجبات. ليت ثم ليت)

ثم وكد نبي التوحيد والأخوة ما بني عليه شرعه من التراحم والتآخي والمساواة والمواساة، وأن الناس سواسية كأسنان المشط سواء فيهم الأسود والأبيض، كلهم لآدم وكلهم عباد الله وكلهم اخوة في الله. قال الرسول الأكرم:(اعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي فإني قد بلغت وتركت ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنة نبيه. . . أيها الناس: اسمعوا قولي فإني قد بلغت، واعقلوا تعلمُنّ أن كل مسلم أخو المسلم، وأن المسلمين إخوة؛ فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه من طيب نفس، فلا تظلموا أنفسكم. اللهم هل بلغت؟)

قال الحاضرون: نعم. قال الرسول اللهم اشهد.

ذلكم ما أوصى به الرسول يوم الحج الأكبر في حجة وداعه، وتلكم حقوق الإنسان دوت بها أرجاء العالم قبل ألف وثلاثمائة وخمسين سنة. . . تلكم وصايا الرسول لأمته تدوي بها

ص: 27

الأجيال، وتسمعها الآذان، فأين منها الأعمال (إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين)

عبد الوهاب عزام

ص: 28

‌شروط الاجتهاد في الفقه الإسلامي

للأستاذ محمد محمد المدني

كان الفقهاء الأولون من المسلمين مثلاً عليا في النشاط العلمي، والتفكير العقلي، والجرأة على الدراسة والشجاعة في مواجهة الحقائق. درسوا كتاب الله وسنة رسوله، وفهموا مقاصد الشريعة، وأدركوا أسرارها، وعرفوا أحوال عصرهم، وعادات قومهم، واجتهدوا ما وسعهم الاجتهاد، ولم يقصروا في ناحية من نواحي النظر، حتى ملئوا طباق الأرض علماً، ووسعوا دائرة الفقه، وجعلوا من مباحثه صوراً تمثل حياة الناس في عصورهم تمام التمثيل، ونشروا علمه الخفاق على دور الحكم والولاية والقضاء، ومراكز الإدارة والسياسة ودوائر الأموال والأعمال!

ثم دار الزمان دورته، وجاءت من بعد ذلك عهود ركدت فيها ريح الفقه، وغلقت أبواب الاجتهاد، وأصبح الفقهاء رواة لمن كانوا قبلهم يرددون أقوالهم، ويشرحون عباراتهم، ويدرسون ألفاظهم، ويتعصبون لمذاهبهم، وابتعدوا بالفقه عن الحياة الواقعية، واحتفظوا منه بصور أثرية تتحدث عن عصور منقرضة وتصف أحوالاً مندثرة؛ وكان من آثار ذلك نفور أهل الحكم والسلطان منه لشعورهم بأنه على صورته التي صار إليها لا يلبي حاجات الأمم، ولا يصلح عيوبها، ولا يحل مشاكلها. وكان من آثار ذلك أيضاً أن انقطعت الصلة بين أهله وبين المجتمع، إذ أصبحوا غرباء عنه، يعيشون في واد غير واديه، ويدرسون أحوالاً غير أحواله. ثم كان من آثار ذلك أن دخلت التشريعات الأجنبية على بلاد المسلمين؛ فأصبحت دستور الحكم، وأساس الإدارة، وقانون القضاء، وعماد النظام في كل ناحية من نواحي الأعمال!

هكذا كان الفقه وهكذا صار!

كثيراً ما أسأل نفسي: هل كان الفقهاء الأولون طرازاً غير طراز سائر الناس؟ هل منحهم الله ما لم يمنحه أحداً من بعدهم، فآتاهم من العقل ما لم يؤت العقلاء، رزقهم من صحة الفهم وقوة الإدراك ما لا ينبغي لأحد بعدهم من ذوي الفهم والإدراك؟ هل فتحت كنوز العلم والمعرفة والنظر عنصراً من الزمان ثم غلقت أبوابها وأحكم رتاجها فلن تفتح بعد ذلك لأحد من العالمين؟

ص: 29

إني أحب هؤلاء الفقهاء وأجلهم ولكنني مع ذلك لا أستطيع أن أجيب عن هذه الأسئلة (بنعم) لأن فضل الله أوسع من أن يقصر على زمان دون زمان، أو يختص بقوم دون آخرين

لا أستطيع أن أجيب (بنعم) لأن كتاب الله خالد، والخطاب به عام لجميع الناس سواء منهم المتقدمون والمتأخرون: كلهم مطالبون بأن يتدبروه ويعقلوا هدايته، ويدركوا أسراره، ويلقنوا منه حجة الله على عباده، وينتفعوا به في دينهم ودنياهم. ولو جاز أن تقف العقول البشرية عن متابعة هداية الله، وعن تدبر كلمات الله، لما قامت حجة الله على المتأخرين من الناس كما قامت على المتقدمين منهم، ولما كان هنالك فائدة علمية في أن يضمن الله الحفظ والخلود لكتابه الكريم!

إذن فما بالنا قد حرمنا أنفسنا هذا المتاع العقلي، وهذه اللذة الفكرية فلم ننظر نظروا، ولم نجتهد كما اجتهدوا؟ بل لماذا رضينا أن نكون صدى لهم في كل شيء حتى لنستشيرهم ولا نستشير عقولنا في أحوال شهدناها وغابوا عنها، ورأيناها رأى العين وتوهموها؟!

(شروط الاجتهاد) هي التي قضت علينا بذلك! نعم شروط الاجتهاد التي تصورها أهل العلم من المتأخرين شيئاً هائلاً رهيباً، وأسرفوا في تقييد أنفسهم وتقييد الناس بها، وأقاموا منها حجاباً بين العقول وما أوسع الله لها من مدى في التأمل والتفكير!

أبى المتأخرون إلا أن يجعلوا للاجتهاد شروطاً، ثم زعموا للناس أن هذه الشروط صعبة لا يستطيعها أحد، كثيرة متشعبة لا تكاد تجتمع لأحد، فأغلقوا باب الاجتهاد، وأوجبوا على الناس أن يقلدوا، ثم لم يكتفوا بذلك حتى أوجبوا عليهم تقليد فقهاء معينين، يتعصبون لهم، ويزعمون أنهم أولى بالاتباع من غيرهم، ولكن أقوالهم اضطربت في ذلك اضطراباً يثير الظنون، ويغري بالتهم: فقالت طائفة منهم: لا يجوز لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر. وقالت طائفة أخرى: لا اختيار بعد الأوزاعي وسفيان. وقال قوم: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي. وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة. ولما اشتهرت المذاهب الأربعة المعروفة وكان لها أتباع ومتعصبون يخشى بعضهم كيد بعض، اصطلحوا فيما بينهم على أنه لا يجوز تقليد أحد سوى هؤلاء الأئمة، فجعلوا لحكمهم أثراً رجعياً ينسحب على جميع الفقهاء الذين اجتهدوا، فلم يعد لأحد أن يأخذ بقول الليث أو

ص: 30

سفيان أو غيرهما من أصحاب المذاهب التي لم ترزق من الجد وحسن الطالع ما رزقته هذه المذاهب المعروفة، فانقرضت ولم يبق لها أنصار يدافعون عنها، ويدعون إليها

فعلوا ذلك كله، وألقوه في روع العامة كأنه عقيدة من العقائد، وشغبوا به على أصحاب العقول الراجحة، والأفكار الحرة، وأعلنوا عليهم حرباً طاحنة، جيوشها العامة والدهماء، وأسلحتها التفكير والرمي بالزندقة والخروج على إجماع الأمة، والطعن في الأئمة الذين ارتضاهم المسلمون. . . الخ، ثم عكفوا على كتب بخصوصها لا يعرفون غيرها، ولا يعتمدون على سواها، ولا يتلقون شريعة إلا منها، ذلك بأنها ألفت على هذه الشريطة في عصور التأخر الفقهي، وزعموا أن الدنيا خلت ممن يستطيع أن يخرج على هذه الكتب، أو يتكلم في العلم دون أن يعتمد عليها، بل حرموا على الناس أن ينظروا في كتاب الله أو في سنة رسوله نظر العلماء المستنبطين، وأوجبوا على العالم ألا يقضي ولا يفتي بشيء منهما حتى يعرضه على ما تنقله هذه الكتب من أقوال مذاهبهم، فإن وافقها جاز الحكم به، وإلا وجب رده وعدم قبوله!

تلك آثار بعيدة المدى، لا يزال الفقه الإسلامي يعانيها ويحمل أصرها وأغلالها، ويتعثر في أشواكها وعقابها، وهو الفقه الذي ورثناه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه من بعده، وعن الأئمة المهتدين، قوياً لا يعرف الضعف، ناشطاً لا يعرف الجمود، واسعاً لا يضيق صدراً بالنوازل والأحداث!

شروط؟ ومتى كان للاجتهاد شروط؟ هل ذكرت في كتاب الله أو في سنة رسوله؟ هل كان الصحابة الذين اجتهدوا واختلفوا وتعددت آراؤهم يعرفونها؟ وهل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهاهم عن الاجتهاد أو يشترط له شروطاً خاصة؟

لقد كان الصحابة رضي الله عنهم مع تفاوتهم علماً وفهماً وإدراكاً لأسرار التشريع يجتهدون ويختلفون فيما بينهم؛ وربما انفرد الواحد منهم بالرأي لا يراه غيره، ولقد وجد من بعدهم عشرات بل مئات من المجتهدين، وكانت لهم حرية فكرية واسعة المدى، فأين في هذا كله خبر تلك الشروط وأين حسها؟ وهل زعم أحد أنهم أعدوا أنفسهم أولاً لنيل شروط معينة، وأشهدوا الناس على أنهم حصلوها ثم أخذوا بعد ذلك ينظرون؟ كلا فليس الاجتهاد منصباً تمنحه الأمة وتمنعه، إنما هو مرتبة علمية يشعر بها العالم من نفسه، وليس كل أحد يدعي

ص: 31

ذلك ولم نسمع أن أحداً من أهل العلم قد التمسه أو أقدم عليه دون أن تكون له أداته الطبيعية؛ وليس الناس ملزمين برأي من الآراء كأنه فريضة محكمة، وإنما هو العلم أساسه الحجة والبرهان. ولو اتفق الناس على أن رجلاً منهم صار من أهل الاجتهاد لما أعفاه ذلك من تمحيص العقول لآرائه، والتثبت من حجته. ولو أنكر الناس على رجل منهم هذه المنزلة لما أعفاهم ذلك من الخضوع لرأيه حين تكون الحجة إلى جانبه

فليس الأمر إذن أمر شروط تشترط، وإنما هو العلم يجب أن تسمع كلمته من أي فم كان، وأن تفهم وتقبل إذا كانت حقاً، وأن ترفض وترد إذا كانت باطلاً، والحق أحق أنت يتبع!

ولكن، لندع هذا كله جانباً، ولننظر في نفس الشروط كما يصورها الذين خوفوا الناس بها، وحجروا على العقول من أجلها!

تصفح ما شئت من كتب الأصول التي وضعها المتأخرون، واقرأ ما شئت من هذه الشروط، تجده يبدو لك أول الأمر عسيراً لا يستطاع تحقيقه؛ فإذا راجعت فيه الشروح والحواشي والتقريرات، وجدت الأمر على خلاف ما بدا لك، ووجدته شرطاً هيناً سهل الحصول

قالوا: أول شروط الاجتهاد أن يكون المرء عالماً بكتاب الله وسنة رسوله؛ ثم جعلوا يضخمون هذا الشرط، فحكوا لنا خلاف العلماء فينا يجب علمه من السنة؛ فقالوا: ألفان، وقالوا: عشرة آلاف؛ حتى زعم بعضهم أنه سأل أحمد ابن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي؟ يكفيه مائة ألف؟ قال: لا؛ قال: ثلاثمائة ألف؟ قال: لا؛ قال: أربعمائة ألف؟ قال: لا؛ قال: أيكفيه خمسمائة ألف؟ قال: أرجو!

لا تخف - أيها القارئ - ولا تستصعب الأمر، فأن شارح التحرير يقول:(أن ذلك محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا)؛ وإن الغزالي يقول: (لا يشترط معرفة جميع ما في الكتاب، بل ما تتعلق به الأحكام. . . ولا يشترط حفظها عن ظهر قلبه، بل يكون عالماً بمواضعها بحيث يطلب منها الآية المحتاج إليها في وقت الحاجة، ولا يلزم حفظ السنة عن ظهر قلبه، بل يكون عنده اصل محقق لجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام. ويكفيه أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة).

فانظر كيف بدأ هذا الشرط عسيراً هائلاً، ثم عاد خفيفاً هيناً!

ص: 32

وقالوا: لا بد أن يكون قادراً على التمييز بين الصحاح والحسان والضعاف من الأحاديث، بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد هذه الأوصاف؛

والشوكاني يعلق على هذا الشرط فيقول: (وليس من شرط ذلك أن يكون حافظاً لحال الرجل عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال)؛ وكذلك يقول صاحب مسلم الثبوت: (مع العلم بحال الرواة، ولو بالنقل عن أئمة الشأن).

وقالوا لابد أن يكون عالماً بمسائل الإجماع، وبالناسخ والمنسوخ. ويقيد الشوكاني هذا الشرط بقوله:(إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي)

ويقول الغزالي (وليس معنى ذلك أنه يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف بل في كل مسألة يفتي فيها فينبغي أن يعلم أن فتواه ليس مخالفاً للإجماع. إما بأن يعلم أنه موافق مذهباً من مذاهب العلماء أيهم كان، أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض)

أما الناسخ والمنسوخ فهذه كتب التفسير والحديث تعد بالمئات وقد تكفلت بيان مواضع النسخ بياناً شافياً. على أن جهابذة العلماء لا يرون القول بنسخ شيء من الكتاب الكريم

شرطوا بعد ذلك أن يكون المرء عالماً بلسان العرب وعلم أصول الفقه، ثم قالوا إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته وخاصة ومجازه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه الخ

الأمر في ذلك يسير وإن بدا متعسراً. فعندنا من العلماء من يعرف لسان العرب كما يعرفه العرب أنفسهم، زمن فاق الأولين بصراً بعلم أصول الفقه وقدرة على التصرف فيه، وبين أيدينا جميع مؤلفات العلماء في ذلك وفي قدرتنا أن نستخرج منها ما نريد، وقد قربوها كما يقول الشوكاني أحسن تقريب!

هذه هي شروط الاجتهاد كما يراها المتأخرون، وهي شروط في المجتهد المطلق الذي ينظر ويستدل ويسستنبط في جميع أبواب الفقه، فأما الذي ينظر في باب دون باب، أو في مسألة دون مسألة، فالأمر فيه أيسر، وقد أجازوا له ذلك دون أن يشترطوا فيه إلا (أن يكون على

ص: 33

بصيرة فيما يفتي)

فأي شيء في هذه الشروط يصعب تحقيقه؟ وكيف يقال ذلك في عصر العلم والمراجع والمكتبات والفهارس والمذياع وجمعيات؛ المراسلات والمؤتمرات العلمية والصحف والمجلات والدراسات المنظمة، وهو لم يقل في عصور كانت العلوم فيها ناشئة، وكان العلماء فيها يرحلون للحديث الواحد من بلاد إلى بلاد!

أما بعد فقد أتى على الناس حين من الدهر كان التدين فيه هو طابع الحياة، وكانت مظاهر الورع والتقوى والصلاح تستطيع أن تغطي القصور والضعف وقلة الإنتاج

أما اليوم فإننا في زمان هجمت علينا فيه الثقافات من كل جانب، وأصبح الناس بحاجة إلى التوسع في العلوم، وتلبية مطالب الحياة؛ وأصبح النضج الفكري عنوان التقدم ووسيلة الاحترام

فإذا التمس العلماء أن يعيشوا في العصر الحديث بما كانوا يعيشون به في العصر الحديث بما كانوا يعيشون به في العصر القديم فقد التمسوا المحال

(القاهرة)

محمد محمد المدني

المدرس في كلية الشريعة

ص: 34

‌حلم ليلة الهجرة

للأستاذ علي محمود طه

يا شرقُ، مِلءُ خاطرِي سحرٌ وملءُ ناظري

أوَحْيُ ليلكَ القديمِ أم رُؤَى الزواهر؟

يا شرقُ، أيُّ ليلةٍ رائعةِ الدياجر

نجومها خلفَ الغمامِ أعينُ المقادر

ترنو على جوانبِ السماءِ للمهاجر

تَمُدُّ من شعاعها مِثْلَ جَناح طائر

رُعْيا المحبِّ للحبيب حُفَّ بالمخاطر

تقول ههنا السُّرَى ومن هنا فحاذر

يا شرقُ، أيُّ ليلةٍ بَعَثْتَها من غابر

حقيقة تلوح لي أم ذاك حُلُم شاعرِ؟

أرى على صحيفةِ الزمان حدَّ باتر

تكمنُ في فِرِنْدِةِ جريمةٌ لغادر

ومن بريقهِ تُطلُّ أَلْفُ عينِ فاجر

مُلَقىً وراء صخرةٍ كانت ملاذَ عابر

أوَى إليها مُفْرداً غير أخٍ مناصر

والبادياتُ حوله رَوْعٌ وهمسُ حائر

كأنما أنسامهنَّ تمتماتُ ساحر

هو انتقالةُ الحياة، وثبةُ الأداهر

شدا الرعاةُ باسمه في الأعصرِ الغوابر

وأودعوه فَرْحَة جوانَح السرائر

وأبدعَتْهُ نَغَماً صوادحُ المزاهر

زفَّوا به إلى الحياة أجمل البشائر

لحنٌ وفيه قسوةُ العواصفِ الثوائر

ص: 35

وفيه ثورةٌ عَلى العقائد الدوائر

يقتحمُ الذُّرَى المنيعة اقتحامَ ساخر

يهزأُ بالجيوش في ألوية القياصر

يهدمُ كل فاسدٍ، يهزمُ كل جائر

ومن عجيبِ أمره يبني بناءَ قادر!

يا شرقُ، سحرُك القديمُ مالِكٌ مشاعري

هذي الطوالعُ الحسانُ في الحُلَي النواضر

المطلقاتُ بالنشيد أرخمَ الحناجر

كأَنهنَّ جَوْقَةُ الهواتفِ الطوائر

حيَّين مَوْلِدَ الربيع والسَّنَى المباكر

عرائسُ الخيالِ، هُنَّ، أو بناتُ خاطري

ينترن من أكفهنَّ أجمل الأزاهر

على طريقِ مُلْهَمٍ مُخَلَّدِ المآثر

يا شرقُ، أيُّ روعةٍ جَلَوْتَها لناظري

حقيقةٌ تلوحُ لي أم ذاك حُلْمُ شاعر

علي محمود طه

ص: 36

‌عدو إبليس

للأستاذ توفيق الحكيم

(عزرائيل ينصرف عن دار النبي بعد وفاته فيرى إبليس مقبلاً

فرحاً مبتهجاً. . .)

إبليس - هل قبضت روحه؟

عزرائيل - وما شأنك وهذا، أخزاك الله؟

إبليس - نعم، نعم، لقد مات. أليس هذا صوت ابنته فاطمة تبكي وتصيح:(أبتاه، أبتاه. أجاب رباً دعاه! جنة الفردوس مأواه! يا أبتاه إلى جبريل ننعاه!)

عزرائيل - وما يعنيك من هذا الأمر؟

إبليس - أو ليس هذا أيضاً صوت عائشة في بكاء وشهيق:

(واحر قلباه! وا مصيبتاه! الآن قد انقطع عنا خبر الزمان!)

عزرائيل - أغرب عن هذا المكان!

إبليس - ثم هاهو ذا صوت نسائه كلهن يبكين:

(واثكلاه! واثكلاه!)

عزرائيل - أغرب عن هذا المكان!

إبليس - ما أجمل هذا النهار. . . إن نفسي لتكاد تنفجر شعراً وغناء. إصغ إلى هذه الأغنية:

ذهب عدوي إلى الفناء

اليوم عيدي فإلى الغناء

عزرائيل - صه! قبحك الله وقبح صوتك!

إبليس - صوتي منذ اليوم يستطيع أن ينطلق حراً في أرجاء الأرض. صوتي منذ الآن يستطيع أن ينفذ إلى تلك القلوب التي كانت تميل عني لتلقى خبر السماء. لقد عاد إلي ملك الأرض من جديد. . . وا فرحتاه! وا فرحتاه!

عزرائيل - خسأت! أن نور السماء قد نفذ إلى قلوب الناس فهيهات بعد اليوم أن يصغوا

ص: 37

إلى صوتك!

إبليس - إنك لا تعرف الناس مثلما أعرفهم. إني أعرف كيف أمر بأناملي مراً رقيقاً على أوتار قلوبهم، فيذهلون، وأغني بصوتي هذا غناء شجياً فيطربون. . . إنك لا تعرف ما هي الأغاني التي أغنيها لهم. أني أغنيهم أغاني الأرض لا أغاني السماء! إن السماء تنير قلوبهم حقيقة. . . ولكن لأجل قريب. لا تنس أنهم خلقوا من طين الأرض. لاشيء يهز كيانهم غير أغاني الأرض!

عزرائيل - إنهم من الأرض ولكن أعينهم تتطلع إلى السماء

إبليس - نعم، عندما يشير لهم إليها النبي بإصبعه، فإذا ولى. . . عادت رؤوسهم تنخفض نحو الأرض. إنهم كالسنبلة التي لا يرفعها غير الإصبع، فإذا تركت سقطت

عزرائيل (كالمخاطب لنفسه) - عجباً! ولماذا إذن رضي الله أن يقبض نبيه؟! إن لله حكمة، أجل، أجل. أنسيت أيها الخاسر أن النبي إنما يأتي للتبليغ ويمضي. إنه جاء بالدين. إنه يذهب ولكن الدين باق. الدين هو الإصبع الدائمة التي لا تنفك تقيم المعوج. لا تفرح إذن كثيراً بموت النبي. ما مات غير الجسد الزائل. أما المبادئ والتعاليم فهي قائمة في وجه ريحك العاتية دائماً. . . أما الرسول في الحقيقة غير الرسالة. . . والرسالة لا تموت

إبليس - نعم، نعم.

عزرائيل - ما بالك وجمت! إن على وجهك الآن لغبرة تزيده قبحاً على قبحه. . .

إبليس - الرسالة والدين والتعاليم. . . هذا صحيح. . . ولكن. . . تلك الأشياء لم تخفني قط. . . فقد استطعت فيما مضى أن أنزع عنها بعض قوتها. . . إن المسيح قد بشر بالمثل الأعلى وفتح قلوب الناس لنور السماء. وذهب وقد ترك في الأرض قديسين وخلفاء ساروا على سنته في نبذ متع الأرض والانقطاع مترهبين في الصوامع والبيع والصحاري ورؤوس الجبال يتأملون وجه الله وحده، ناسين أو متناسين هذه الأرض التي من عناصرها صنعت أجسامهم. . . هنا تراءيت لهم ولمن تبعهم في صور مختلفة تذكرهم بما نسوه وتناسوه، وخاطبت أجسامهم بالمنطق الذي تفهمه، وحدثت عناصر تركيبهم باللغة التي تعرفها. . . فإذا أكثر الناس يصغون ألي في أمور حياتهم ومعاشهم ولا يذكرون التعاليم والمبادئ السماوية إلا يوم يجدون في أوقاتهم فراغاً للتفكير في السماء. إني ذكي. إني لم

ص: 38

أرد قط في حربي ضد المسيح أن اقتلع المسيحية من النفوس، ولكني أظهرت في لباقة ما فيها من علو شاهق لا يستطيع المخلوقون من تراب وطين أن يبلغوه ما داموا آدميين. . . فليصغوا إذن إلى أغاني الجسد وأناشيد التراب والطين. . . وليطلب العلو من كان عنده فضل من فراغ ينفقه بعيداً عن الأرض والحياة. . . وبهذا أصبحت المسيحية الحق اليوم ترفاً روحياً لا يقتنيه غير خاصة الخاصة، أولئك الذين لك أستطع أن أخاطب فيهم منطق الأجساد والعناصر. . .

عزرائيل - لقد أدرك الله غرضك الأثيم فأرسل محمداً بدين لا ينكر منطق الأجساد والعناصر. . . دين لا يعرف الرهبنة ولا إنكار قوانين الأرض. . . دين لا يكره أن يصغي أتباعه إلى أغاني السماء والأرض معاً. . . وأن يفكروا في الآخرة والدنيا معاً. . . ما وسائل حربك ضد محمد والإسلام؟

إبليس - حقاً. . . تلك هي المشكلة! لهذا كان النبي ألد عدواً لي!

عزرائيل - إنه خاتم الأنبياء لأنه ضيق عليك الخناق، وسد كل ثغرة يمكن أن تنفذ منها سمومك. . . فماذا أنت صانع؟. . .

إبليس - دعني أفكر. . .

عزرائيل - فكر طول الأبد. . . فلن تظفر. . .

إبليس - بل لقد فكرت وظفرت. . . الأمر بسيط: يجب علي أن اطمس خصائص هذا الدين. . . إني خبرت الناس لطول لصوقي بهم وعشرتي لهم. . . أن الناس يميلون دائماً إلى التشبه والتشبيه. . . هذه القرود الناطقة. . . يصعب عليها التمييز والتفريق والنظر في فلسفة الأشياء. . . غداً عندما يوارى محمد في التراب. . . ويصبح ذكراً وطيفاً كموسى والمسيح، بل ربما قبل أن يواروه في الحفرة. . . أنظر. . . أليس هذا عمر بن الخطاب أحد خلفائه؟ أصغ إليه. . .

عزرائيل - إياك أن توسوس له بشيء.

إبليس - أصغ إليه. . .

(عمر بن الخطاب يقوم في الناس صائحاً)

عمر - لا أسمعن أحداً يقول: إن محمداً قد مات؛ ولكنه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى،

ص: 39

فلبث عن قومه أربعين ليلة. والله إني لأرجو أن تقطع أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات!

عزرائيل - عجباً! ما هذا الذي يقول؟!

إبليس - أرأيت؟ قد شبهوه بموسى ولما يهيلوا عليه التراب!

عزرائيل - كذبت! إنما هي وسوسة منك!

إبليس - صه! انظر! هذا أيضاً رجل من بين الناس يريد أن يقول شيئاً. . .

(ينهض أحد الناس صائحاً)

أحد الناس - أن رسول الله قد رفع كما رفع عيسى، وليرجعن!

عزرائيل - رباه ماذا أسمع!

إبليس - أرأيت؟ إنهم قد شبهوه كذلك بعيسى ولما يدرجوه في الأثواب!

عزرائيل - لست أصدق ما أرى وما أسمع

إبليس - لقد قلت لك إني أعرف منك بالبشر

عزرائيل - اللهم نورك! كيف خفي على هؤلاء أن دينهم لم يكن تكريراً لما سبقه من أديان!. . . اللهم إنك منزه عن اللغو والتكرار!

إبليس - ما أبهج هذا النهار؟ ألا تطربك أغنيتي:

ذهب عدوي إلى الفناء

اليوم عيدي فإلى الغناء

عزرائيل - آه، لو استطعت أن أبطش بك. . .

إبليس - اقبض روحي إن قدرت. . .

عزرائيل - ليس لك روح يقبض

إبليس - بل لي روح لا تستطيع قبضه يداك الصغيرتان!

عزرائيل - يداي حقاً لا تستطيعان؛ ولكن يد رضيع تستطيع. . . إن روحك ليزهق في اليوم ألوف المرات. . . إن روحك لينطفئ في قلب كل مؤمن ومؤمنة ومحسن ومحسنة وخيّر وخيّرة. . . إن روحك مارد من دخان يستطيع طفل بكلمة طيبة أن يحبسه في قمقم من نحاس!

ص: 40

إبليس - ولكني لا أموت ولا أذهب إلى الفناء. . . لأني سلطان الأرض وروح الأرض. . . ولن أترك الأرض ما بقيت دودة تسعى في الأرض!

عزرائيل - ابق ما شئت في الأرض، ولكنك لن تقوى على دحر أعدائك. . .

إبليس - عجباً لك! أو لم تر كيف أني في لحظة استطعت أن أغير معنى الدين الذي قضى محمد حياته كلها في تجليته وإظهاره وتوضيحه. . .؟ ألم يذكر محمد قومه في كل وقت أنه بشر يوحى إليه. . . وأنه يحيا ويموت كبقية الناس. . . وأن دينه هو دين الحياة. . . الذي يحل للناس كل وسائل العيش الصالح على هذه الأرض. . . وما دام دينه دين الحياة والفطرة والمنطق البشري. . . فلا ينبغي أن يؤلهه الناس كما ألهو المسيح، ولا أن ينكروا إمكان موته كما فعلوا مع المسيح. . . أليس هذا معنى دينه؟

فكيف إذن بدل الناس الآن المعنى وانقلبوا يسيرون نحو فكرة التأليه؟. . .

عزرائيل - إنهم لن يغيروا شيئاً. . . ولئن وقع في نفسك شيء من كلام عمر بن الخطاب، فهو لا ريب قد قال خوفاً من الردة!

إبليس - ولماذا يخشى ارتداد الناس عن الدين بموت محمد. . . إنهم إذن كانوا يعبدون محمداً!

عزرائيل - اللهم ألقي نورك في صدور الناس!

إبليس - هيهات! إن ما تسميه (وسوستي) قد استقر الساعة في صدور الناس. . .

عزرائيل - خسأت أيها الخاسر. . . أنظر. . . أنظر. . .

إبليس - ماذا؟ من هذا؟

عزرائيل - هذا أبو بكر يقوم في الناس. . . أصغ إليه. . .

(أبو بكر ينهض في الناس صائحاً)

أبو بكر - أيها الناس. . . أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات. . . ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت!

عزرائيل - وا فرحتاه. . . أسمعت؟

إبليس -؟؟؟

عزرائيل - أنظر أيضاً. . . أنظر. . . هذا العباس يريد أن يقول شيئاً. . .

ص: 41

(العباس يقوم في الناس صائحاً)

العباس - أيها الناس. . . والله الذي لا إله إلا هو، لقد ذاق رسول الله الموت، وإنه ليأسن كما يأسن البشر. . . فادفنوا صاحبكم. . . إنه ما مات حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً. . . أحل الحلال وحرم الحرام. . . ونكح وطلق وحارب وسالم. . . وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال بأنصب ولا أدأب من رسول الله فيكم. . .!

(عزرائيل يلتفت إلى إبليس صائحاً صيحة الانتصار)

عزرائيل - ماذا تقول الآن في هذا؟ أغرب الآن عن هذا المكان. . . لقد طهر معنى الإسلام، وتألق روح هذا الدين. . .!

توفيق الحكيم

ص: 42

‌موقف العلم من الأديان اليوم وحماية المسلمين من

‌ضلالات المادية

للأستاذ محمد فريد وجدي

لقي رجال العلم الكوني من رجال الأديان - منذ ألفي سنة إلى القرن السابع عشر - ما يلقاه الخصوم من الخصوم، وبدل أن تتلطف حدة هذه الخصومة من ناحية المتغلبين - وهم حفظة الأديان - استحالت إلى وحشية جامحة؛ فكانوا إذا آنسوا من رجل نظراً فيما يتعلق بالوجود وقواه العاملة فيه - أو فيما يتعلق بعلل الظواهر الطبيعية - ألقوه حياً في النار، أو رموا به من حالق إلى مكان سحيق

فلما دالت للعلم الدولة بعد أدوار شتى من التطورات العقلية والاجتماعية في القرن السابع عشر، جعل حماته أكبر من همهم ليس الانتقام من رجال الدين فحسب، ولكن من الدين نفسه أيضاً، حتى لا تبق له دعوة في الأرض ينخدع بها بعض السذج فيجد بعض ذوي المطامع من يستغلونهم لسد نهمهم من المال والسلطان

اشتد العلم في إسقاط الدين، فوضع كثير من رجاله مؤلفات للتعديل على سذاجة عقائده الأساسية، وبينوا للناس أصولها من أوهام الجماعات الأولية وتداعي مبانيه حيال اليقينيات العلمية.

وأكثروا من الحط من كرامة الدين في كل فرصة سنحت لهم حتى لا تكاد تقرأ كتاباً علمياً لا تصادف فيه شيئاً من هذا التصدي. فأفضت هذه الحال إلى نفور مستعصٍ من الأديان في نفوس الطبقات التي تتلقى نصيباً من الثقافة المدرسية

ولكن لما كان من أخص صفات العلم التطور فقد اقتضت به الحوادث منذ تسعين سنة إلى البحث الجدي في عالم ما فوق الطبيعة، ولكن لا كما يفعله الفلاسفة باستخدام قوى العقل في التحسس منه، ولكن على أسلوب العلم نفسه من المشاهدة والتجربة

عقدة النزاع الأساسية بين الدين والعلم

هذه العقدة بين الدين والعلم أن الأول يقول بوجود عالم فوق الطبيعة يتنزل من جميع ما في الكون من كائنات مادية، وقوى عالمية، وهو الأصل الأصيل في وجود وقيام العالم

ص: 43

المحسوس، ويبتني على هذا الأصل القول بوجود الخالق المدبر، والروح الإنسانية، والإلهامات الحيوانية، والإبداعات التكوينية، والوحي وخلود الإنسان في عالم الأرواح لمجردة، الخ الخ. والعلم ينكر كل ذلك، وبعده من الخيالات التصورية، ويقرر أن المادة قديمة، وإن كل ما صدر في عالمها حتي القوى العقلية، والروح الإنسانية، إنما صدر بواسطة النواميس الطبيعية، الملازمة للذرة المادية على سبيل التدريج والتطورات المتعاقبة

تورط العلم أخيراً في بحثه الجديد عن عالم ما فوق الطبيعة على أسلوبه المعروف من التجربة والتمحيص وبدا لألوف مؤلفة من رجاله بصيص من نوره فأثبتوا نتائج تجاربهم وحداناً وجماعات في مؤلفات ومحاضر، قال عنها فيلسوف أمريكا الكبير (وليم جيمس) أستاذ جامعة (هارفارد) بالولايات المتحدة في كتابه (إرادة بصفحة 313 من ترجمته الفرنسية

(إذا صدقنا الجرائد وأوهام الصالونات خيل لنا أن الضعف العقلي وسرعة التصديق هما الرباط المعنوي الجامع بين أعضاء هذه الجمعية (يريد جمعية المباحث النفسية الإنجليزية)، وأن حب العجائب هو العامل المحرك لها، ومع هذا فيكفي أن تلقي نظرة واحدة على أعضائها لدحض هذه التهمة؛ فإن رئيس هذه الجمعية هو الأستاذ (سدجوك) المعروف بأنه أشد الناس شكيمة في النقد، وأعصاهم قياداً في الشك في جميع البلاد الإنجليزية، ووكيلاها المستر أرثر بلفور (أحد رؤساء الوزارات الإنجليزية وعالم مشهور)، والأستاذ ج ب لنجلي. ويمكن التنويه من أعضائها العاملين بالأستاذ ريشية الفيزيولوجي المشهور، وتشمل قائمة أعضائها رجالاً كثيرين آخرين كفاءتهم العلمية أشهر من أن تذكر. فإذا طلب إلى أن أعين جريدة علمية تكون مصادر أغلاطها ممحصة بأدق الأساليب، فإني أنوه بمحاضر جمعية المباحث النفسية، فإن الفصول الفيزيولوجية التي تنشرها الجرائد الخاصة بهذا العلم، لا تبلغ في دقة النقد هذه المحاضر المذكورة) اهـ

لما حدث هذا التطور العلمي الخطير، مال رجال من كبار العلماء إلى النظر في النتائج التي تؤيد الدين منها، وما زالت عقدة النزاع بين العلم والدين هي وجود أو عدم وجود العالم الروحاني، فإن هذه العقدة تحل إذا ثبت صحة وجود هذا العالم بدليل محسوس. قال العلامة (هـ. و. بيرس) المدرس بجامعة كمبردج في كتابه (الشخصية الإنسانية) في

ص: 44

صفحة 11 منه من ترجمته الفرنسية:

(حوالي سنة 1873 حيث كان المذهب المادي بالغاً أوج سطوته على العقول، اجتمع ثلة من الأصحاب في كمبردج وأجمعوا على أن هذه المسألة المتنازع فيها (يريد مسألة عالم ما فوق الطبيعة) تستحق التفاتاً وجهداً جدياً أكثر مما عولجت بهما إلى ذلك الحين. . . وكنت مقتنعاً بأنه لو أمكنت معرفة شيء من ذلك العالم على أسلوب يمكن أن يقبله العلم ويحفظه، فلا يكون ذلك بالتنقيب في الأساطير القديمة، ولا بوسيلة التأمل فيما فوق الطبيعة، ولكن بواسطة التجربة والمشاهدة، وبتطبيقنا على الظواهر التي تحدث بيننا وحولنا أساليب المباحث المضبوطة المنزهة عن الأغراض، التي نحن مدينون لها بمعارفنا عن العالم المرئي المحسوس. ومباحثنا في هذا السبيل يجب أن تكون مؤسسة على هذه القضية وهي:(إذا كان يوجد عالم روحاني، وكان قابلاً لأن يدل على وجوده في أي معهد كان، فيجب أن يكون كذلك في أيامنا هذه)

(فمن هذه الناحية، وبالأحرى على هذه الاعتبارات واجهت الجمعية التي أنا عضو منها هذه المسألة) اهـ

وقد مضت بعد هذا القول عشرات السنين وحدثت فيها بحوث عملية دونت في مئات من الكتب والرسائل، تبين منها أن العلم حيال حقيقة ثابتة مؤيدة بالدليل المحسوس الذي لا يمكن التماري فيه حتى قال العلامة الفلكي الكبير (كاميل فلاريون) في كتابه القوي (الطبيعة المجهولة).

(إني كلما أفكر في هذا الأمر أدهش من أن دهماء الناس لا يزالون يجهلون هذه المسائل كل الجهل، على حين أنه قد عرفها ودرسها وقدرها حق تقديرها وسجلها منذ سنين، جميع الذين تتبعوا حركتها بكل نزاهة في مدى هذا العهد الأخير

وقال: (إن المشاهدات الحسية تثبت وجود عالم روحاني محقق كتحقق العالم المادي المدرك بحواسنا الخمس)

نقول وقد قررت جامعات أمريكية دراسة هذا البحث، وجعلت له أخيراً جامعتا كمبردج وأكسفورد مقعدين رسميين له

كيف تحمي المسلمين من ضلالات المذهب المادي؟

ص: 45

اتصل المسلمون بالعالم العلمي منذ أكثر من قرن، وظل رجال الدين وطلابه في عزلة عنه فلم يصبهم من ظلمات النظريات المادية شيء، ولكن حركة التطور العامة دفعت بهم إلى الاتصال به من سائر طبقات الشعب، تقريباً للثقافات الدينية من الثقافات العامة تفادياً من حدوث تناف بينهما، فتصبح الأمة فريقين متنافرين

والإسلام متين يقوم وجوده وتقوم دعوته على العلم: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟)

وقد صافى الإسلام من وجوده العلم، وسمح لأهله أن يندفعوا في تياره، وأن يستفيدوا منه ويشيدوا مجتمعهم عليه، فكان أنبل مجتمع ظهر على سطح الأرض، وكانت له دولة لا تغرب عن أقطارها الشمس، فأقال عثرات الإنسانية، وداوى كلومها، وكشف ظلماتها؛ ولم تعرف في تاريخ الإنسانية أمة قامت بالدين معتمدة على العلم غير الأمة الإسلامية

ولكن العلم الذي كان يدرس في مدارس المسلمين اليوم، قائم على الأصول المادية البحتة للقرن التاسع عشر، ولممثليها من أهل القرن العشرين؛ فتجد كتبها التي بين يدي الطلبة لا تزال تردد لهم النظريات الرثة العتيقة التي تخيلها ديموكريت اليوناني منذ أكثر من ألفين وثلاثمائة سنة وهي:(أن المادة لا تفنى ولا تتجدد)، على حين أن علم القرن العشرين قد توصل إلى إفناء المادة وإحالتها إلى قوة، بذلك المادة لم تكن ثم كانت

هذه المعرفة لها قيمة عظيمة في الدراسات الدينية، لأن القول بعدم تجدد المادة وفنائها يؤدي إلى القول بقدم العالم المادي، وهو أساس المذهب المادي وحصنه الحصين

وفي هذه المدارس الدينية تدرس الفلسفة ويقرر للطلاب فيها أن الرأي المادي هو الذي ساد جميع الآراء، وأن السلطان انتهى إليه، وهو آخر طور من أطوار التفكير البشري، وما هو في الواقع إلا مرمى المادية قبل التطور العلمي الأخير

وتدرس البسيكولوجيا (علم النفس)، وكتبها المدرسية موضوعة على أسلوب الفلسفة المادية، فيضطر طلبة الذين أن يقرءوا فيها: أن ليس للإنسان روح مستقلة عن الجسمان، وليس له ضمير فطري يرجع إلى عالم علوي، وأن كل ما فيه من شعور بالحسن والقبح، وبالفضيلة والرذيلة، وبالخير والشر، أمور اعتبارية لا أصل لها في وجود أرفع من هذا الوجود؛ وأن الغرائز الأدبية ليست متنزلة من روح علوية، ولكنها عادات أوجدتها مصلحة

ص: 46

الاجتماع، فرسخت في الشخصية الإنسانية واعتبرت من الخصائص الروحية، وليست من الروح المزعومة في شيء

ويدرس لهم تاريخ الأديان ولحمته وسداه: أن الدين على ما هو عليه في هذه العصور المتأخرة التهذب، صادر من الدين الأولي الساذج الذي تخيله أهل القرون الأولى، وليس هو بوحي، لأن الوحي لا وجود له

ثم يقرءون فيها: أن الباعث الصحيح عليه أهواء النفوس، وجهالتها بالعلل الطبيعية، وهلعها من الجوانح الكونية، فتألبت كل هذه العوامل على إحلال الدين في سويداوات القلوب بواسطة الوراثات الطويلة المدى، حتى أصبح هو والحياة عند الفرد والجماعة في مستوى واحد

فما ترجى أن تكون هذه المجموعة من الدروس، غير دعايات للإلحاد في حرم الدين، لم يظفر بمثلها المذهب المادي في أية بيئة من بيئات العالم، وفي العهد الذي أثبت فيه العلم، جرياً على أسلوبه كما قدمنا، وجود العالم الروحاني وقام فيه أقطابه بنقد كل ما أورده المذهب المادي من الشبهات عليه، سعياً منهم لتوحيد غاية الدين المطلق وغاية العلم على حال من الوفاق كانت أمنية دعاة المدنية الفاضلة

الوسيلة المثلى لدرء هذا الخطر أن تخضع هذه الدروس في المدارس الإسلامية الدينية لمراقبة دقيقة، وأن تلقي مواردها متبوعة بالنقد الذي وجه ضدها من علماء القرن العشرين، والتعديل الذي أدخل عليها بواسطتهم؛ مع مراعاة أن يكون النقد ماحقاً لشبهاتها بأدلة ساطعة لا بكلمات جوفاء تزيدها تسلطاً على العقول

هذا خير ما أهديه لقراء (الرسالة) في مفتتح السنة الجديدة، ولهم مني معها أطيب تحية.

محمد فريد وجدي

ص: 47

‌تأملات

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

ضلت الإنسانية عن ربها وعبدت المال والقوة، ودانت لهما بالطلب والحرص والإكبار؛ وفي سبيل المال والقوة نُسى كل شيء: من دين أو فضيلة أو مبدأ، وفعل كل شيء من:

ظلم وقطيعة وكث. يخدع كلُّ كلا في السلم كما يتخادع أهل الحرب، كأن أيام الناس في هذه المدينة حرب كلها ولكن بسلاح مختلف. فلحرب السلم سلاحها وفنونها وخططها، كما لحرب الدبابة والغواصة والطيارة. ففي السلم يتحارب الناس وتتحارب الأمم بالتجارة وحواجزها الجمركية، وبالصناعة وموادها الخام، ثم بالدعاية والسياسة؛ وفي سبيل ذلك يسخر الأدب بفنونه والعلم بفروعه، تتنافس في ذلك الأمم، وتتنافس في ذلك الطوائف والأفراد داخل كل أمة؛ حتى الفضائل جعلت سلاحاً وسبيلاً إلى الغلب. فالتاجر إن صدق لا لأن الكذب يزري، أو لأنه منهي عنه في الدين، ولكن لأن الصدق يجزئ ويربح، ولو وجد في الكذب ربحاً لكذب. والأمم تتعاهد، فإن وجدت في الوفاء ربحاً وفت، وإن وجدت الربح في النكث نكث. فالمال هو البغية، والقوة هي الغاية، والشهوة هي السائق، والهوى هو الغالب، كأن قد غلب على هذه المدينة في معاملاتها روح الإحراج وقانون الأدغال؛ وما يقول (دروين) إنه كان غالباً على أنواع الحيوان في أحقاب النشوء

ويل للإنسان من نفسه ومن أخيه الإنسان حين يضل كلُّ عن ربه. فلو لم يكن للدين ضرورة، لجعله حال الناس اليوم ضرورة؛ ولو لم يقم على وجوب التدين برهان، لكان ما آل إليه أمر الناس بعد ترك التدين هو البرهان. إلا أن الإنسان يذكر وينسى، ويؤمن ويكفر، ويطبع ويعصي، حسب الظروف في الشدة يلجأ إلى الله، وفي البلاء يكثر من الدعاء، ويستغفر ربه وينيب: يفعل ذلك الأفراد، ويفعل ذلك الأمم، حتى إذا استجاب الله وفرج الكرب وكشف البلاء، نسى الإنسان ونسيت الأمم ما كانوا يدعون الله من أجله، وجعلوا الله أنداداً، وانقلبوا له أضداداً، وعادوا إلى آلهتهم من الشهوة والقوة والمال، كأن لم يكن بلاء وكربة، كأن لم يكن دعاء وتوبة؛ وجعلوا يضحكون من خوفهم الذي كان، وجزموا بأن أسبابه لن تعود!

لقد كانت الحرب الماضية، وجاءت الناس بكرب لم يروا مثله من قبل، فجأر الناس إلى الله

ص: 48

وجأرت الأمم، وجعلت تنذر النذر، وتبذر الوعود والعهود، وتقيم الصلوات العامة، تأمر بها الحكومات، ويركع فيها الحكام والملوك. ثم جاء النصر وجاء السلم، فذهبت النذور هباء، ولم تلق الوعد ولا العهود وفاء؛ وكل ما كان هنالك أن جيء بأسماء جديدة أطلقت على مسميات قديمة، فذهب الاستعمار وجاء الانتداب، وذهبت المحالفات وجاءت عصبة الأمم، وعاد الناس وعادت الأمم تبتغي الكسب وتبتغي المال والقوة، حتى كان من الأمم المنتجة من كانت تحرق ما زاد من غلات أرضها لتبيع الباقي من الأمم الأخرى بثمن أعلى، وانحدر المال إلى خزائن بعض الأمم، كما ينحدر الماء إلى مهابطه من الأرض، فجفت بقاع منه وغرقت بقاع، وجاعت أمم وتخمت أمم، وانقلبت الأوضاع واشتد النزاع، وخسرت الإنسانية السلم، فخسرت بذلك الحرب قبله، إذ قامت هذه الحرب

قامت هذه الحرب ماذا كان؟ كان الذي يعرف كل إنسان أنه كان في الحرب الماضية: فالنذور تنذر، والوعود تبذر والصلوات العامة تقام؛ وأصبحت الأمم المتمدينة لا ترى أهنأ من الأمن، واعتزمت في مستقبلها أن تتناصف في قسمة المواد الخام لتعيش إلى الأبد في سلام!

إنها مدينة مجنونة هذه التي تنسى الله وتعصاه في الرخاء بعد أن كشف عنها البلاء، حتى إذا أخذها بنكثها وإثمها جأرت إليه تسأله النجاة ولم يكن لديها ما تتعهد به للناس أو تنذره لله إلا أن تتعايش في سلام، وتتناصف في المواد الخام.

لقد أفلست المدينة الغربية وحق عليها ما حق على المدنيات الخاطبة قبلها. وهاهي تنتسف بقوتها الكامنة التي من الله بها عليها فلم تطعه فيها. هاهي حين فسقت عن أمر الله تنفجر بما اختزنت من علم ومال حولتهما فيما حولت قنابل وطرابيد تلقي من الجو وتنشر في البر والبحر على المحارب وغير المحارب على السواء (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد) إنها مدينة كتلك القرية ضربها الله مثلاً في القرآن: (كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها لباس الجوع والخوف)

إنها مدينة مسيحية اسما لكنها لم تقم قواعدها على نصرانية ولا إسلام. فنصرانية عيسى صلوات الله عليه ليس فيها حرب ولا سلاح ولا استعمار. والحرب في الإسلام لا تكون في

ص: 49

سبيل الفرد ولا في سبيل الأمة ولا في سبيل الجنس، ولكن في سبيل الله ليكون الحكم في الأرض لله.

إن الاستعمار الذي ابتدعته مدينة الغرب ليس من الإسلام في شيء، ولا من حكم الله في شيء. فاستغلال القوي الضعيف فرداً كان أو أمة ينكره الإسلام كل الإنكار. وتحكم أمة في أمة بالهوى لا يعرفه الإسلام ولم يشرعه الله. وعلو أمة على أمة وشعب على شعب أو جنس على جنس حرمه اله الذي سوى بين الناس وساوى بين الأجناس ولم يجعل على أحد فضلاً إلا بالتقوى: تقوى الله الذي خلق الأحمر والأصفر والأبيض والأسود. ففيم استعلاء فريق على فريق؟ وفيم تحكم لون في لون أو شعب في شعوب؟ (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير).

لقد عرف الله الإنسانية أيما إعزاز حين جعلها خاضعة له وحده سبحانه في الحكم، ليس لأحد سبيل إلا بحق الله طبْق دين الله الذي بينه الناس واضح المعالم ظاهر الحدود في كتابه الكريم الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً في حياته الكريمة التي مثلت حياة الأمم وحياة الأفراد كيف ينبغي أن تكون.

لقد علم الله سبحانه أن هذه المدينة المعقدة ستكون، وأن الإنسانية ستقلب في أطوارها التي تقلبت فيها، وأنها ستفتح لها أبواب العلم، وأن هذا العلم سيَفتح لها فنوناً من القوة، وأن هذه القوة ستسلمها إلى صفوف من المشكلات لا تحل حلا حلاً مرضياً موفقاً إلا طبق ما سن الله للفطرة من سنن، وللنفس البشرية من قوانين، عرفت الإنسانية بعضها، وجهلت منها أكثر مما عرفت. فلو أن الإنسانية وكلت إلى نفسها وعلمها وجهدها وحدة ما خرجت، وما أمكنها أن تخرج من ورطاتها التي هي لا بد واقعة فيها بتعمقها في العلم الطبيعي الذي يفتح لها كنوز الأرض من غير أن يريها طريق العدل في استعمالها. فأراد الله سبحانه أن يتم نعمته على الإنسان بأن يجمع له بين القوة وبين الهدى في استعمال القوة، فآتاه العلم، وقبل أن يؤتيه العلم أنزل عليه الكتاب والحكمة ليريه كيف يتقي شر العلم ونتقي خبره بالوقوف في استعماله عند الحدود التي حدها الله فاطر الإنسان وفاطر القوى التي سخرها بالعلم للإنسان.

ص: 50

فإذا كان من عجيب صنع الله للإنسان أن وهبه العقل الذي استفتح به كنوز العلم، فإن أعجب منذ لك أن تفضل سبحانه فأنزل له الدين ليقيه مالا يمكن العقل ولا العلم أن يكفوه إياه من الشرور والأخطار

أقسم أن نعمة الله على الناس في الدين أعجب وأكبر من نعمته عليهم بالشمس أو بالقمر أو بما خلق في الأرض من كائنات ينعم بها الإنسان أو لا ينعم، شكوراً أو غير شكور. إن هذه الكائنات خلق من خلق الله، والإنسان واحد منها يقوي أمام بعض ويضعف إزاء بعض، ينتفع بها أحياناً ويتضرر بها أحياناً، لكن الدين خير كله ونفع كله وسعادة صرفة لمن يتقبله مؤمناً، ويعمل به مسلماً. وأقسم لو سخرت العلوم هذه الكائنات كلها للإنسان وكان الإنسان بتسخيرها يتمتع في هذه الحياة المتعة كلها من غير تعب ولا ملل ولا هَمٍ ولا حزن ولا ضعف ولا مرض حتى إذا مات كان الحساب وكان العقاب إذن لكانت نعمة الله على الإنسان بالدين الذي يقيه عذاب الآخرة ويؤتيه نعيمها أكبر من نعمته عليه بالعلم بقدر ما بين الآخرة وبين الدنيا من فرق وفضل في المدة وطولها، أي بقدر ما بين الباقي وبين الفاني أو بين غير المتناهي والمتناهي من فرق وفضل. فكيف وهذه العلوم لا تسخر للإنسان إلا جزءاً مما حوله، وقد يشقى بما يسخر له منها وقد يسعد؛ وهو في أحزانه وهمومه، ومحاربه ومكارهه، وأمراضه ومصائبه، لا يجد سلوى ولا مخرجاً ولا عزاء إلا بالدين، وبطاعة الله في الدين. وكيف وهو لن يلقي النعيم الصرف الذي لا يخالطه عذاب، والسعادة المحضة التي لا يشوبها شقاء، إلا بعد هذه الحياة في حياة أخرى لانهاية لها ولا أجل إذا كان قد أطاع الله وعمل في دنياه بالدين

على أن هناك معنى في الدين الإسلامي أكرم الله به للإنسان كرامة لا يقوم بها شكر ولا ينقضي منه عجب المتفكر، ألا وهو تفضل الله جل جلاله بمخاطبة الإنسان من كتاب من عنده سبحانه على لسان رسول من البشر تقوم الأدلة القاطعة على صدقه. إن مجرد مخاطبة الخالق كرامة دونها كل كرامة يكبرها ويجلها الإنسان في الدنيا، فكيف والخطاب في كتاب عظيم كريم مبين. الحق سبحانه هو المتكلم فيه، فليس لبشر فيه جملة أو كلمة أو حرف! كتاب من عند فاطر وصفه فيه جل وعلا بصفة الفطرة بقوله:(وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)

ص: 51

أليس من أكبر الكرامة أن يذكر الله الإنسان ولا ينساه، وأنه يوجه ليه الخطاب في كتاب يهديه به سبحانه سبل السلام وسبل الهدى والنور؟ أليس من أكبر النعمة حين علم الخالق سبحانه ضعف الإنسان وجهلاه وما يتهدده من جرائمها من أخطار أن ينزل عليه نظاماً لحياته هو وفق الفطرة التي لم يكن الإنسان ليحيط بها ولا بسنن الله فيها؟

إن العلم شيء وتطبيقه من غير خطأ أو خلل شيء آخر. فلو أن الإنسان أحاط بالقوة علمه لما استطاع أن يطبقها على حياته محكماً لا خلل ولا عوج فيه. بل أن صعوبة التطبيق وإصابة الحكمة فيه لتزداد بازدياد ما يراد تطبيقه وتفرعه. فالإنسانية بقواها العقلية المحدودة أعجز من أن تحيط بالفطرة علماً، ولو علمت لكانت أعجز من أن تطبق علم الفطرة وتنتزع منه نظاماً عملياً لحياة الإنسان في عصر واحد بله جميع العصور

فإن الخالق البارئ الحكيم قد جمع للإنسانية بين علم الفطرة وبين إحكام تطبيقه على الحياة حين أكرمها بالإسلام دين الإنسانية الكامل الشامل الذي أنزله على محمد نبي الهجرة صلوات الله عليه. فاعجب إذن للإنسانية كيف تتخبط وبين يديها الهدى، وكي تشقى وفي متناولها السعادة، وكيف تموت وعلى مقربة منها الحياة؟!

ثم اعجب عجباً بعد عجب من قوم يزعمون من بين الإنسانية أنهم مسلمون إلى الله مؤمنون بالكتاب الذي أنزل والرسول الذي أرسل، ثم هم يعطلونه ولا يقيمونه، ويضعونه ولا يحفظونه، بل هم يلتمسون الهدى في غيره، ويتطلبون الحياة ممن ضل عن روحه ونوره، يولون قلوبهم ووجوههم لا شطر المدينة الإسلامية التي أقامها الرسول بتطبيق كتاب الله فكانت مثلاً عملياً أعلى للإنسانية كلها، ولكن شطر المدين الغربية التي ضلت عن ربها وعبدت المال والقوة والجاه فأداها ذلك إلى التهلكة التي ترى والتي تحاول التخلص منها فلا تستطيع

فريق من الإنسانية بيدهم النور فلا يستنيرون به! وفريق في الظلمات يظنون أنفسهم في نور! أيهما يا ترى أظلم؟ ولأيهما يا ترى تكون النجاة؟

محمد أحمد الغمراوي

ص: 52

‌الشجاعة وأثرها في الإسلام

للأستاذ محمد عرفه

لو قيل لي أي الأخلاق الفاضلة كان له الفضل في ظهور الإسلام وانتشاره لما ترددت في أن أقول الشجاعة. فالشجاعة الأدبية والشجاعة الجسدية هما الدعامتان اللتان قام عليها الإسلام، وبفصلهما انبثق نوره في سائر الأرجاء؛ أو قل إن الشجاعة الأدبية والشجاعة الجسدية نوع واحد مرجعه إلى جرأة القلب، والاعتماد على النفس، وعدم الخوف من أحد؛ فإذا وجد صاحبها حقاً مهيضاً نصره، وإذا وجد باطلاً عرماً خذله بحد اللسان أو بشبا السنان

ولقد كان صاحب الدعوة الإسلامية أشجع الناس في قول الحق والجهر بما يعتقد، وبحسبك أن قومه كانوا يقدسون الأصنام ويرونها الحق الذي لا ريب فيه، والصدق الذي لا تحوم حوله شبهة؛ وكان يعلم أنهم يتعرضون لشبا السيوف وملاقاة الحتوف محاماة عن أصنامهم وذباً عنهم، فلم يمنعه ذلك من أن يجهر بالحق ويعيب آلهتهم، ويسفه أحلامهم، ويصبح في وجوههم:(إن الذين تدعون من دون اله لن يختلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب).

(ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها؟). رباه الله على الشجاعة الأدبية والجهر بما يعتقد فقال له: (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر). وقال: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين أنا كفيناك المستهزئين). وقال: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس). وأبان له أن كتمان الحق موجب للعنة الله والناس (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)؛ فعلم أن في العالم حقاً وباطلاً وخيراً وشراً، وأنه يجب على الأنبياء والمصلحين أن يكونوا نصراء الحق والخير وأعداء الباطل والشر، وأن عليه أن يزكى هذه العداوة ويؤجج نارها حتى يديل الله الحق والخير من الباطل والشر. وكما كان صاحب الدعوة صلوات الله عليه المثل الأعلى في الشجاعة الأدبية، فقد كان كذلك في شجاعته الحربية أعظم مثل وأروعه، يدل على ذلك قول علي: (إنا كنا إذا حمى البأس وأحمرت

ص: 53

الحق أتقينا برسول الله (ص) فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً)؛ ووقفته الخالدة يوم أحد ويوم حنين فر الشجاع وارتعد الصنديد أكبر مثل وأعظم برهان

ولقد ربي الإسلام المسلمين على الشجاعة وحبها إليهم وزينها في قلوبهم (أن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنهم بنيان مرصوص) حتى جعل الجنة تحت ظلال السيوف، وما زال يربيهم على الشجاعة والقوة والمنعة إلى أن صاروا فيها مُثلاً عُلْيا وأمثالاً مرددة؛ ففرض الله عليهم أن يثبت الواحد لعشرة ولا يفر منهم، ثم خفف عنهم وأوجب أن يثبت الواحد لاثنين ولا يفر الجيش من ضعفه (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون، الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلوا ألفين بإذن الله)

وكان من أثر الشجاعة في النبي وأصحابه أن عز الإسلام والمسلمون وصاروا أمنع من عقاب الجو وجبهة الأسد، لا تلين قنانهم ولا يسلمون لمن أرادهم، فلم يضعفهم قلتهم وكثرة أعدائهم وكان للإسلام العزة وللمسلمين التمكين في الأرض.

وكان أولوا الأمر من المسلمين الأولين يحافظون على قوة نفوس المسلمين كمنبع لعز الدولة الإسلامية، ويعلمون أنهم إذا عاملوا الرعية بالقهر ذلوا لهم لغيرهم ولم يكن فيهم غناء، فبالغوا في المحافظة على روح المسلم أن تذل وكرامته أن تمتهن، بل جاوز ذلك غير المسلمين ممن تظلهم الدولة الإسلامية برعايتها. ضرب ولد لعمرو بن العاص قبطياً فبلغ ذلك الخليفة عمر بن الخطاب فأرسل إلى عمرو وابنه وقال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ لا. بل لقد كانوا يفرحون إذا وجدوا في الأمة ما ينبئ عن قوة نفس وشجاعة قلب وجرأة على قول الحق. خطب عمر بن الخطاب في خلافته فقال: (أيها المسلمون إذا وجدتهم فيَّ اعوجاجاً فقوموني. فقام رجل من المسلمين وقال: والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فقال عمر: الحمد الله الذي جعل في هذه الأمة من إذا وجد فيَّ اعوجاجاً قومني بسيفه. وذلكم مدى عناية الإسلام بالشجاعة ومدى ما كان لها من اثر في ظهوره وانتشاره

ص: 54

بل أن الحضارة لم تتقدم وإن المدينة لم تنهض وإن العلوم والمعارف لم تعلُ إلا بفضل الشجاعة

يرى المصلح نظاماً فاسداً في المجتمع أو رأياً في السياسة فيشن عليه حرباً شعواء، يظهر عيوبه ومساوئه غير مبال بسخط الساخطين وغضب الناقمين، ويستمر في حربه وجهاده حتى تصبح آماله في الإصلاح حقائق واقعة، فينقذ الأمة من شر وبيل. ويرى العالم جهلاً قد جعل علماً وعلماً قد جعل جهلاً فيجهر بما يعتقد. يحارب الجهل ويشايع العلم، فإن لم يكتب له الظفر في حياته كان لفكرته النصر في مستقبل الأجيال.

وبهذا تقدمت العلوم، ونهضت الأم، وارتقت البشرية، وذهبت أوضاع اجتماعية كانت داء وبيلاً، وحل محلها نظم هي خير وأبقى

فإذا رأيتم أمماً ترزح تحت أنظمة فاسدة وعادات بالية فاعلموا أنها لم تعط الشجاعة الأدبية لنقد الفاسد من أنظمتها والباطل من تقاليدها فتختلف حين جد الراكب وسارت القافلة.

على أن قوة نفوس الشعب وغلبه الشجاعة على أبناء الأمة أمر لا يأتي عفواً، إنما هو نتيجة علم وافر وسياسة عادلة ونظام دقيق وإصلاح عام يتمشى في جميع مرافقها؛ وأول شيء في سبيل ذلك أن يعلم أن النفس الإنسانية إذا استبدلها وأسيء الاحتكام فيها ذلت وضعفت وذهبت منها معاني الرجولة من النشاط والقوة والحزم والعزم والاستقلال الذاتي؛ وإذا رفق بها وعوملت باللين وأحسنت رعايتها عزت وعظمت وكان لها من القوة والعزة والشمم القدر الذي تصلح به وتقدر على إصلاح من معها؛ فإذا علمت الأمة ذلك وراعته وكانت سياستها في الحكم والاجتماع والتربية سياسة رفق ولين في غير ضعف ولا خور اطرد تقدمها ورقيها.

أيها المسلمون:

إذا رأيتم أنفسكم متخلفين عن ركب المدينة فاعلموا أن ذلك منكم وما كان يقدر أن يفعل ذلك بكم أحد سواكم. ملك بعضكم بعضاً ملكة قهر وغلب، واستبد بعضكم ببعض فأفسدتم نفوسكم وجردتموها من معاني العزة والقوة مقومات الحياة الذاتية المثابرة، فضعفت الشجاعة فيكم وضاعت من بين جوانحكم، وإذا فقدت الشجاعة فقد فُقد كل شيء؛ ولو كشف لكم عن حقائق الأمور لرأيتم كل واحد منكم قد أخذ معوله بيده وأخذ يهدم جاهداً في نفوس الآخرين،

ص: 55

فالأب يقتل نفوس أبنائه، والزوج نفس زوجه، والمعلم نفوس المتعلمين، والرئيس نفوس المرؤوسين، وهكذا اصبح كل من له رعاية يستبد فيها بالآخرين ويسيء حكمهم ويقتل فيهم روح القوة والرجولة

أيها المسلمون:

إذا أردتم أن تساهموا في بناء المدينة الحاضرة فإني أوصيكم بواحدة: أن تبقوا على رجولتكم وشجاعتكم وذلك بأن تعدلوا في سياستكم وتحسنوا في رعايتكم، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع على أولاده، والرئيس راع على مرءوسيه، والحاكم على محكوميه، والمعلم على تلامذته. عليكم بالرفق في معاملتكم، والإحسان في سياسة من تلون أمورهم، والمحافظة على كرامتهم كما تحافظون على كرامة أنفسكم. ولتكن آثر الحكومات لديكم أرفقها بكم، وآثر الرؤساء عندكم أعدلهم فيكم، وأحبَّ الناس إليكم من يحافظ على كرامتكم ومن يعمل على أن تكون نفوسكم قوية وأخلاقكم فتية. وليكن أبغض الناس لديكم من يعمل على أن تكون نفوسكم مهينة وأخلاقهم خائرة ضعيفة، واجعلوا صديقكم من الكتاب من ينصحكم ويسمو بكم إلى آفاق الفضيلة والكمال، واجعلوا عدوكم منهم من يغشكم ويستغل غرائزكم الحيوانية، ومن يقول لكم ويقول ثم لا تأخذون مما يقول روحاً سامية، ولا تستفيدون منه سمواً خلقياً

ويومئذ تجرءون على كلمة الحق فتنقدون الأنظمة الفاسدة، والتقاليد البالية والأوضاع الضارة. ويومئذ تنتقلون من فساد إلى صلاح، ومن ضعف إلى قوة، في جميع شؤونكم وفي جميع مرافق الحياة فيكم

ويومئذ تيسرون مع ركب الإنسانية للعمل لخير الإنسانية، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله

محمد عرفه

عضو جماعة كبار العلماء

ص: 56

‌متى النور يا ظلمات

للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف

أطبق الظلام على جميع آفاق الأرض. . . واختفى النور الصناعي الذي كانت الإنسانية تتسلق عليه إلى سُبُحات الجمال الموقوت والفن الفاني والطمأنينة الكاذبة. . . وارتدت الأحلام السعيدة إلى واقع الشجن والألم والانتكاس، فعانقت أشباح الكهوف والمغارات. . . وصارت قلوب بني آدم أوكاراً لمخلوقات شنيعة شوهاء هن بنات الظلام والغدر والخيانة والجريمة والخديعة. . .

ولم يَعُدْ للإنسانية غير ينابيع نور الطبيعة تستصبح به. . . لم يَعدْ لعيونها غير الشمس والقمر والنجوم. . . ولم يعد لقلوبها غير نور قبل الأزمنة والدهور. . . ولم يعد لأفكارها غير مبادئ الحق الواقع في الطبيعة.

أما الفلسفات والآراء والنظريات البراقة التي رددتها منابر المعاهد والمجامع ومجالس الترف العقلي، فقد اختفت مع اختفاء الأنوار الصناعية التي أوقدتها الأيدي المظلمة النجسة التي لم تتطهر بنور الله، وقد طارت بكتبها وسجلاتها قذائف الحديد والنار. . .

ترى: هل تكون أمواج هذا الظلام طوفاناً يغسل الأرض من ذلك النور الصناعي المدبس المدخول الذي لم يجر من منابع الحب ويد الله، وإنما من يد الشيطان الذي طمس وجه الحياة وجعلها في نظر الأحياء ليست أكثر من اقتناء الفحم الأسود و (الفحم الأبيض) والذهب الأصفر و (الذهب الأسود)؛ ثم أغراهم بذلك وجعلهم وراءه يتراكضون تراكض الذئاب بالأظفار والأنياب في عصر العجز والقصور، وبالفياصل والمناصل في بدء عصر التغلب والقدرة، ثم بالطائرات والغائصات والبارجات والجرارات في عصر بلوغ الأشد واكتمال السلطان!؟

أم أن القلب البشري لا يزال ولن يزال يعبد الظلام ويفئ إليه ويأنس بسكانه، ويرى في عالمه عبقريات يجب الرجوع إليها على فترات من الزمان؟ ولن تزال وثنيات وثنيات الجنس وخيلاء القومية وعبادة البطش وشهوات الاقتناء عقائد مقدسة يُفَلْسَفُ لها وتصطنع في حبها ترانيم وأناشيد وتقدم لمذابحها قرابين من اللحوم البشرية، ولمجامرها بخور وعطور من الأموال والمقتنيات حتى يرث الله الأرض وما عليها؟

ص: 57

أما أنا فقلبي تغمره موجة من التفاؤل الأكيد حول مستقبل سعيد قريب للإنسان، وظني أن هذه الظلمات تتمخض عن فجر أبلج وضاح يغمر آفاق الأرض غمراً طويلاً كما غمرتها هذه الظلمات طويلاً. . . لأن قواد المعسكرين الهائلين المتحاربين لا ينفكون يرددون على أسماع الأمم التي في أيديهم أزمتها ومقاليدها؛ أنهم يحاربون في سبيل خلق عالم إنساني عادل سعيد هانئ بعد الحرب؛ فإذا حدثت القواد نفوسهم أن يخيسوا بعهودهم وينقضوها، فإن المجهودين المنهوكين من جنود الحرب وعمالها ومنكوبيها سوف ينكلون تنكيلاً، سواء أكانوا منصورين أم مخذولين، لأن الجرائم التي ارتكبت في هذه الحرب لا تغتفرها الشعوب إلا إذا رأيت أنها أسلمت الناس إلى عالم أسعد وأكمل من العالم الحالي، ولأن الحياة الاجتماعية لا تحتمل حرباً كهذه الحرب التي تدمر الإنسان مع أقامه من المدن والأعمال ومخلفات التاريخ ومقدسات العقائد والوصايا الخلقية بالأطفال والعجزة والشيوخ والنساء. . . ولأن حرباً بعد هذه الحرب لا بد أن تكون أدهى منها وأمر، بحيث تسحق براعم الحياة المدنية وأصولها لا يبقى ولا يذر، بما وصل إليه هذا الإنسان العجيب وما سيصل إليه في فترة السلم التي تعقب هذه الحرب. . .

ويخطئ من يظن هذه الحرب صورة من ذلك العراك التقليدي بين بني البشر، وأنها ثورة غرائز وحب غلبة بين مجموعة ومجموعة من أمم تحب الحرب للحرب، وتمجدها لا لشيء إلا اندفاعاً وراء تلك الغرائز والحركات التاريخية الموروثة. . . إن من يظن ذلك ذو نظرة متخلفة، لا تزال تعيش في حدود النظرات الأولى للإنسان. . .

إن هذه الملحمة الكبرى تحول عميق أصيل عظيم في توجيه الحياة. . . الخاصة للأمة الواحدة، والحياة العامة للأمم جميعاً. . . فلنتيقظ لهذا، ولنؤمن به، ولنعمل له. . .

وإن القدر يؤذن بميلاد حياة جديدة، وابتداء دورة زمنية بعقل الإنسان وقلبه وجسمه بعد هذه الحرب الحُطَمة الضَّروس التي تهدم مثل العالم القديم الضيقة بمثلها وأفكارها الحرة، كما تهدم مبانيه ومخالفاته بالديناميت. . .

وهاهي ذي مواكبها ومراكبها وجراراتها العنيفة وزواحفها وطائراتها القاذفة والمنقضة والمترنحة والشراعية والهابطة، وصواريخها وأبواقها وأنفاسها في الأثير، وعيونها الكشافة، وحشود جيوشها الآخذة من شمال الأرض وجنوبها وشرقها وغربها في قاراتها

ص: 58

الخمس وبحارها السبعة ومن وراء كل أولئك عقول جبابرتها وأساطين علمائها، ومعاملها الساهرة ومناجمها الحافرة، ومحادثاتها السرية والجهرية ومؤامراتها والدماء والأرواح المبذولة فيها من الجيوش البيضاء والسوداء والصفراء والحمراء، والعروش المقوضة والصوالج والمقاليد المحطمة، والحديث عنها بكل لسان وبين كل قبيل من المتحضرين والهمج. . .

ألا إن الحياة تنقل أقدامها بهذه الحرب إلى المجاهل حينما رأت أن كثيراً من بينها لم ينهضوا بعد من مراقدهم في الكهوف والغابات لمشاهد مواكبها الحديثة التي دقت نواقيسها في الآفاق ولم يشتركوا في حمل قوائم عروشها العظيم الذي من لم يره ويدرك أسراره لا يمكن أن يقال عنه إنه ابن زمانه وإنه حقق الغاية المنشودة من إخراجه للحياة في زمن بعينه. . .

ولما رأت أن نورها في دور السلام والاستقرار استأثر به جماعة من الأوصياء الأنانيين، وتركوا غيرهم من القاصرين يخوضون في الظلام والجهل، حولت ذلك النور إلى شعل ذات لهب وحريق يأكل هذه الصدور الأثرة الأنانية التي ما عرفت قصد الحياة من وضع مصابيح النور في أيديها وخانت أمانات الاستخلاف

فمن الذي لا يستيقظ وينبه بد كل هذه الضجة النكراء ويسرع إلى موكب الحياة العظيم بالجسم الخفيف القوي الصحيح والفكر اللطيف اللماح العام، والقلب المؤمن العارف الحامل لأمانات الحياة؟!

وإذا أعرضت الإنسانية ونسيت آلامها الحاضرة وبؤسها وشقاءها بهذه الحرب وتركت الأنظمة الجائرة الغاشمة تتحكم فيها فويل لها ثم ويل لها! وويل للذين يقودونها! وتعساً للمكتوين بنار الحرب من العمال والصناع والجنود إن لم يقفوا في وجه اللاعبين بالشعوب!

ما اجمل إخاء العالم الإنساني! وما أقربه في القلوب البريئة أكثر الناس! لولا الذين يؤرثون في صدورهم نار الحرب والحقد ببعض الأناشيد وإثارة الذكريات الجاهلية والخيلاء العسكرية والألوان الدموية المهيجة!

إن الثيران تظل هادئة مستأنسة حتى يثيرها مثير باللون الأحمر فيحولها إلى وحوش فاتكة. . .

ص: 59

وكذلك قطعان ابن آدم تريد الهدوء والاستئناس حتى يثيرها مثير بالكلمات الحمراء والحماس الكاذب وحب الشهرة عن طريق الحرب والتخريب حين لا يوجد مجال لبعض الرجال للشهرة عن طريق السلم والعمران وإضافة شيء إلى بناء الحياة

وما أعظم خسارة الإنسانية في أنباء السلم الذين ذهبوا في ضحايا هذه الحرب؟

إنهم إنسانية عالمة عاملة مدربة ماهرة قد نجت من عوامل الموت والجهل والجفوة في تربيتها ثقافات السلام التي استحدثت بعد الحرب العظمى الماضية

إنهم ثمار كبيرة في جمال وصحة ولكنهم الآن يموتون في جفاف الصحاري وزمهرير الثلوج، وعلى أذرع الموج الفاغر والهواء المخلل وتحت أثقال الحديد وبين صعق القذائف! وهكذا يذهبون طعمة لوحوش الفلوات وأسماك البحار وتتساقط أعضاؤهم بين ركام الثلوج كأنهم عصف مأكول أو هباء منثور

فما أعظم خسارة السلم فيهم بعد انتهاء الحرب حين تفتقد العناصر العالمة العاملة الفتية فلا يوجد إلا بعد حين!

ولكنهم قربان لا بد من تقديمه في سبيل مطلب عظيم!

وقد مات الميت فليحي الحي!

وما أعظم ما تحتمل أعصاب البشر! إنهم برهنوا على أن أرواحهم أقوى من الفولاذ والديناميت؛ إذ رضوا أن يغدوا ويروحوا على مواقع هذا الموت الفظيع والعذاب الوجيع، وهم مع ذلك يطيعون وينشدون. . . وإذا رضوا أن تهدم ديارهم وأموالهم وتنسف أطفالهم وحبيباتهم. . .

ذلك تحرر وانطلاق في سبيل العزة وصيانة العقائد

أين صور الأهوال ووقعها في القديم؟ من كان يضن أن يعيش فترة ينتظر فيها نزول الصواعق والنواسف كل لحظة من السماء وهو مع ذلك يأكل ويباعل ويرقص ويغني ويقتني الأموال وينشد الرفاء والأطفال؟

من كان يظن أن يفعل الناس هذا وهم في ساحات هذه القيامة؟! ما أوثق ما ربط الله الإنسان بالأرض!

هذه النفس البشرية أقوى وأبقى من هذه الأهوال لأنها هي التي صنعتها ولذلك لا تخشاها.

ص: 60

ألا يجوز أن يكون هذا الاحتمال الصابر الذي بدا من النفوس البشرية تحت آلام النار والحديد تدريباً لها من الأقدار العليا وإعداداً لمستقبل مجهول ستحتمل فيه آلام اختراق الحجب الكثيفة التي تحول بينها وبين علم الكثير من غيب السموات والأرض؟!

ألا يجوز أن يكون هذا التسابق العنيف بين الدول المتحاربة في اختزال البعاد والمسافات واقتحام العقبات إنما هو حَبْوٌ على عتبات باب من الانطلاق والتحرير؟

ألا إنها الطبيعة الجامدة الميتة تلبس هذه الأجساد الحية الثائرة المترعة بالحياة المتجددة، الآخذة من موارد علم الله وقوته وقدرته!

ألا إنها القوى التي طال سجنها وكمونها في صدر الأرض، وجدت سبيلها إلى الانطلاق والظهور على يد الابن البكر للأرضّ

ألا إنها جنٌّ خفية تركب مراكبها وتتدافع منطلقة من سجونها في التراب. . .

أطلقها يد الإنسان الذي لا يزال ذاهلاً عما يصنع ذهول النحل عما تمزج، أو دودة القز عما تنسج!

هذه الحرب عملية هدم ما على الأرض وما في نفس الإنسان ليحدث الله بعد ذلك أموراً. . . ولن تنتهي إلا بعد أن تشمل موجتها كل البقاع. . . استيقظ على قوارعها سكان خط الاستواء في مجاهل القارة السوداء، وسكان الأراضي البيضاء وما بينها وسكان الجزر النائية المنثورة في المحيطات وامتزجت منهم جميعاً جيوش في جميع البقاع تقتل في سبيل غاية واحدة. . .

وأن الأقدار تحررهم من التاريخ السيئ و (تصفي) ميراث الشراهة والحقد

فهذه آثار لندن العزيزة على أهلها تهدم. . . هدمها الإنجليز لا الألمان! لأنهم لم يسلموها لهم كما سلم الفرنسيون باريس. . . بل تحرروا من حبها وقدموها دون حرية نفوسهم وعقائدهم في الحياة. . . ولا بد أنهم قد علموا بعد أن خوت مدينتهم على عروشها أن النفس هي الباقية أو هي الجديرة بحرص المرء على بقائها سالمة كريمة وما عداها ففداء لها. وتلك حقيقة من حقائق الإيمان كان الإنجليز قد فقدوها حينما تدفقت عليهم سيول الأموال من بقاع الإمبراطورية قروناً طويلة

ص: 61

ولا بد أنهم تذكروا كذلك أن حرية كل شعب محكوم لهم يجب أن تكون أعز عليه من كل شيء، بعد أن هددت حريتهم من عدو غاشم جبار فعرفوا ذلك وكانوا قد نسوه أيضاً في تلك الفترة الطويلة التي حكموا أمماً ولم تحكمهم أمة. . . وبالطبع سيكون لعلمهم وتذكرهم هاتين الحقيقتين من حقائق الإيمان أكبر الأثر في عملهم على إقامة عالم سعيد على أنقاض القديم. وإذا نسى الإنجليز أو تناسوا تلك الحقائق بعد هذه الحرب فسوف لا ينسى الأمريكان الذين كانوا بنجوة من الحروب الحديثة وويلاتها بعد أن تحرروا من وثنيات الأجناس والدماء المختلفة ونعرات القوميات المفرقة وُعَار الاحتكار والاستعمار. . .

أجل إن الأقدار ذات الحفاوة بالإنسان ما كانت لتترك هذه المجموعة الكبرى من الأمم التي تتكلم الإنجليزية ومن يرتبط بها في أكثر بقاع العالم دون أن توحدهم وحدة تامة بأية وسيلة لتتخذ منهم خميرة لوحدة أو شبه وحدة بين بني البشر. وقد خابت مساعي توحيدهم عن طريق السلم، إذ عز على الإنجليز المحافظين أن ينزلوا عن كثير من تقاليد إمبراطوريتهم العظيمة، وعن حقوق الغلبة والفتح فيها، وكانوا أولي الناس باتباع ذلك بعد أن خرجوا من الحرب الماضية منصورين. وإذ عز كذلك على الأمريكان الأحرار أن يسيروا مع الإنجليز في نظرياتهم المحافظة فيرتدوا عن مبادئ عالمهم الجديد وثوراتهم العظيمة التي قضوا بها على خمائر الأحقاد ومواريث التاريخ السيئ في القارات القديمة، فعاشوا حياة جديدة في أرض جديدة. . .

فكانت هذه الحروب الحالية رداً سريعاً من الأقدار وعقاباً للأمم الناطقة بالإنجليزية لأنها أهملت وتوانت في السعي المشترك المسلح لإقامة عالم أسعد وأعدل، وكانت وحدها - ولا تزال - هي التي تستطيع أن تنهض بأعباء ذلك العالم المنشود

ولم أكد أفرغ من كتابه هذا المعنى حتى ساقت لي الأقدار

دليلاً يؤيده من أقوال أحد أساطين الأمريكيين وهو المستر

(وندل ويلكي) منافس (روزفلت) في الانتخابات السابقة. . .

قال كما ورد في (أهرام) 1411942: (إننا جميعاً نلوم هتلر

وحده، بيد أن هذه الفكرة السطحية ليست صحيحة. فاللوم لا

ص: 62

يقع على هتلر وحده بل ينصب علينا إلى حد ما. فلقد سمحنا

في الماضي لإنتاجنا الصناعي العظيم أن يتحكم فينا وأن

يتغلب على مثلنا العليا. . .)

أجل، هذا هو موضع الداء، وضع (ويلكي) إصبعه عليه. . فإن أمريكا كان يجب أن يكون موقفها بعد الحرب الماضية موقف (بوليس) العالم بعد أن كان انضمامها للحلفاء في تلك الحرب أعظم مرجع لكفتهم، وبعد أن تلقى المعسكران المتحاربان مبادئ الرئيس (ويلسن) الأربعة عشر باللهفة والقبول والاستبشار. وكان فيها المثل الأعلى المنشود، وكان شرف أمريكا يقضي عليها أن تقوم على تنفيذ تلك المبادئ التي قدمها رئيسها باسمها، وأن تعلن حرباً على من يخالفها حتى يفئ إلى أمرها

ولكن ما شغل به العالم بعد الحرب من التهافت على المتاع المادي للتعويض عما أصابه من آلامها، وما رأته أمريكا من عودة ذوي النزعات المحافظة إلى أساليبهم القديمة في مزالة السياسة الدولية، وما قضت به مساعي الرأسماليين والاستعمار الأنانيين من بقاء العالم في أدوائه القديمة. . كل هذا ثبط من عزيمة أمريكا وجعلها تترك العالم القديم في شقائه وتقنع هي بعزلتها السعيدة

ولكن هاهي ذي يد الأقدار تمتد لتنتزعها من هناء عزلتها وتحشرها مع بني عمومتها وتدفعها في معهم في هذه الحرب الزبون برجالها وأموالها وقضها وقضيضها. . . وما أظنها ستنسى واجبها مرة ثانية حين يعود السلام. ومن هنا ينبعث نور الأمل، لأن أمريكا عمل عظيم في طريق أمل أعظم!

وبعد، فإن ذكرى هجرة الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تبعث في قلوب المسلمين روح الاستعداد لانتقال عظيم يجب أن يقدموا عليه بعد هذه الحرب للوقوف في صفوفهم الأمم التي ستشترك في إقامة الحياة العادلة السعيدة التي تخدم أهداف الإنسانية جميعاً. وإنهم لجديرون أن يقدموا للعالم أعظم المبادئ التي تقوم عليها السلامة الاجتماعية والمساواة الفردية والدولية التي تنشدها الأمم وتنادي في كفاحها

فليهاجروا إلى حياة الحق والعدالة التي في دينهم بأرواحهم وأفكارهم حتى يكونوا نماذج

ص: 63

مجسمة لما سيقدمونه العالم بعد الحرب من مبادئ وحلول للعقد والمشكلات

وليعلموا أن هذا هو أوان التبشير والدعوة إلى مبادئ دينهم العالمي الذي قام على أصول أديان الحق التي ارتضتها البشرية في المشرق والمغرب. . .

(ولقد كَتبنا في الزَّبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عباديَ الصالحون)

عبد المنعم محمد خلاف

ص: 64

‌من وحي النبي

معجزة العنكبوت

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

(مشهد غنائي تنبع موسيقاه من الغار الذي أوى إليه النبي

العربي الخالد مع صفيه (الصديق) في جبل (ثور) خوفاً من

أذى المشركين الذين اقتفوا أثر (المصطفى) في طريقه إلى

المدينة يوم الهجرة).

(أبطال المشهد: العنكبوت، الحمامتان، الثعبان)

العنكبوت يغني (وهو ينسج خيوطه بعد أن دخل النبي وصديقه الغار):

في سَبِيل اللهِ دَورِي

يَا خُيُوطِي فيِ الأَثِيرِ

أَناَ نَسَّاجُ الُحْصُونِ الشُّ

مَّ مِنْ أَوْهَى السُتُورِ

وَقَفَ الدَّهْرُ عَلَى باَ

بِيَ مَذْعُورَ الضَّمِيرِ

وَحِجَابُ الشَّمسِ لَا قاَ

نِي بِأَجْفاَنِ الضَّريرِ

وَالضَّحى حَرَّ كَلَيْلٍ

فَوْقَ أَعْتَابِي أَسِيرِ

أَناَ شَكٌّ جَاَء يَحْميِ

كُلَّ إيمَانِ الدُّهُورِ

أرْسَلَتْنِي قُدْرَةُ الل

هِ أَمَانَ الْمُستْجَيِرِ!

قَدْ وَهَي بَيْتِي. . . وَلكِنْ

صَارَ مِحْرَابَ الْعُصُورِ

بِالّذِي أَخْفَي مِن الأَنْ

وَارَ في وَجْهِ الْبَشِيِر. . .

فَرْفَعِي ياَ حِكْمَتِي سَدَّاً

عَلَي بَطْشِ الْمِغيرِ

وَتَغَنَّىْ ياَ خُيُوطِي

ثُمَّ دُوريِ! تُمَّ دُورِى!

الحمامة لأختها (وقد وجدنا نفسها فجأة على باب الغار يقفان يفقسان ويسمعان نشيد العنكبوت):

أَخْتَاهُ! مَاذَا دَهَاناَ

فَلَمْ نَعُدْ فِي حِملَاناَ؟!

ص: 65

مَاذَا؟! رِمَالٌ، وَنُورٌ

وَعَنْكبَوُتٌ شَجَاعاَ. . .

وَالْبِيدُ قَلْبٌ تَرَامَي

عَلَي الثّرَى حَيْرَاناَ

وَسَامِعٌ، وَمُنَادٍ

وَأَعْيُنٌ لَا تَرَاناَ

وَضَجَّةٌ فِي الْفَيَاَفِي

حَسِبْتُهاَ بُرْكاَناَ

لَعَلَّ رِيحاً عَتِياَّ

عَلَى الَّخُورِ رَمَاناَ

فَضَلَّلَتَنْناَ خُطاناَ

وَأَوْحَشَتْنا رُباَناَ

أُخْتَاهُ! مَاذَا؟. . .

الحمامة الثانية:

. . . . . . رُوَيداً

فَقَدْ ضلَلْتِ الْبَياناَ

فَمَا تَرَكْناَ رُباَناَ

لَكِنْ هَجَرْناَ الزَّمَاناَ

لِذلِكَ الْغَارِ جِئْناَ

نُلْقِي عَلَيْهِ الأَمَاناَ

فَفِيهِ هَاَلةُ نُورٍ

تُفجَّرُ اْلإيَماناَ

طاَفَتْ بِمَكَّةَ حِيناً

فّدَكَّتِ الطُّغْياناَ

وَلَاحَ مِنْهاَ شُعَاعٌ

يُكَبْكِبُ الأّوْثاناَ

فَالْمشرِكُونَ لَدَيْهاَ

مُسَهُمونَ حَزَانَى

خَرُّوا سُجُوداً، وَأَرْخَوْا

لِصَفْحَتَيْهاَ الْعِنَاناَ!

إلاّ بَقاَياَ ضَلَالِ

تُسَاوِرُ الْعُمْياناَ

سَاقَتْ إلى النُّورِ جَيْشاً

مُفَزَّعاً، غَضْبِاناَ

فهَاَجَرَ النُّورُ حَتَّى

أَلْقَى الْعَصَا فِي حِمَاناَ

ضَيْفٌ! وَكُلُّ الْبَرَاياَ

فِي حُبَّهِ تَتَفاَنى. . .

فالْعَنْكَبُوتُ يُغَنَّي

وَيَنْسِجُ النَّسْيَاناَ

وَنَحنُ نُلْقِي نَشِيداً

نُشْجِي بِهِ الأَكْوَاناَ

وَنَسْحَرُ الَجْيشَ حَتَّى

يَفِررَّ حِينَ يَرَاناَ

هَيَّا نُغَنَّي. . .

الحمامة الأولى:

ص: 66

وَهَيَّا

نُرَقَّصُ الْعيِدَاناَ. . .

تغنيان معاً:

نَحْنُ بأرْضِ الْعَرَبِ

حَارِسَتَانِ لِلنَّبيِ

مِنْ وَحْيِهِ، وَطُهْرِهِ

وَنُورِهِ الْمُحَجَّبِ

نُذيِعُ لِلدُّنْياَ صَدىً

بِمِثْلِهِ لَمْ تَطْرَبِ. . .

نَحْنُ لِمَبْعُوثِ السَّماَ

أَقْدَسُ طَيْرٍ رَنَّمَا

غَريِبَتَانِ حَلَّتَا

أَطْهَرَ وَادٍ فِي الْحِمى

فَغَنَّتَا لِدِيِنهِ

لحْنَاً يُذِيبُ الصَّنَماَ. . .

الثعبان: (خاشعاً مطرقاً بين يدي المصطفى بعد أن لدغ الصديق):

نبِيَّ اللهِ. . . ياَ هَادِي

وَياَ تَرْنِيمَةَ الَحْادِي

وَياَ تَسْبِيحَهَ الْكُثْبا

نِ، وَالرُّكْبَانِ فِي الْوادِي

وَياَ تَوْبَةَ آثَامِ اللَّ

يَاليِ. . . تاَبِ إِنْشَادِي

وَجِئْتُكَ خَاشِعاً. . . مَاتَتْ

نَوَافِثُ سُمَّىَ الْعادِي

وَصَاحَ بِقَلْبِيَ الْغُفْرَا

ن صَيْحَةَ مُغْرَقٍ صَادِ

أَغِثْ لَهَفِي! وَطَهَّرْ ناَ

رَ تَسْبِيحِي وَأَوْرَادِي

لَدَغْتُ صَفِيَّكَ (الصَّدَّ

يقَ) حِينْ هَفاَ لإبعاَدِي

وَخِفْتُ أَذُوق حِرْمَانَ السَّ

ناَ مِنْ طَيْفِكَ الَهادِي

((سراقة) يمر على الغار ممتطياً جواده متقصياً أثر النبي. . . فضلله بيت العنكبوت وطمأنينة الحمام. . . فأعرض عن باب الغار وعاد خائباً. . .!)

(لها بقية)

محمود حسن إسماعيل

ص: 67

‌العام الهجري

عبرة العبر

للأستاذ عبد العزيز البشري

هذه الشمس تطالع العالَم بجفنيها من جانب الأفق. وما تلبث أن تتسلَل منه رويداً رويداً، حتى يَستوي لإطارُها على متنه. وما تزال في خلال ذلك تضاعف ما ترسل على وجه الأرض من خيوطها العسجدية. وكذلك ما تزال تمطُلِ فيها وتبسُطها من الشرق إلى الغرب. وهكذا تظَلَّ تحبو في مَدرَجها إلى قبةَ الفَلَك. وكلما خطت بالزمن خطوة، رأيتها وتترعرع، ويسطع ضوؤها، ويحمَي وهجها إلى أن تبلغ الندوة، وتستوي على أعلى الأَوج.

وأنت خبيرُ بأنه ليس بعدَ الصعود إلاّ الهبوط، فهذه سنة الله تعالى في كونه؛ وكذلك تجري سنَتُه على هذا الكائن العظيم؛ فليس بعجيب أن يَدعو الفلكيون هذه اللحظة، أعنى لحظة استواء الشمس في أعلى الأوج بالزوال، إذ كان بدء الزوال، هو غاية الكمال!

وهذه الشمس تمشي إلى الغروب في منحدرها كذلك رويداً رويداً، كما تتداخلها الشيخوخة فالهرم رويداً رويداً؛ حتى إذا أصفر لونها، وبردت السنُّ من جرمها، جعلت تَتدلى في قبرها من مغرب الأفق مستمهلةً مستأنية؛ وهكذا تغيب في أحدها، غير تاركة من التَّراثِ إلاّ صُبابةً من الذهب المذاب، سرعان ما تتبخّر في حلك الظلام. وقد تترك تراثها الفضيّ على صفحة القمر، يرفد العالمَ به بعض ليالي الشهر.

تلك سيرة الشمس كلَّ يوم: ميلادٌ فترعرع ففتوّة، فشبابٌ وفراهة وقوة، وكهولة فشيخوخة فهرم، فتدسٍ في النهاية تحت الرجَمَ. وسبحان الحيّ الذي لا يموت!

على أنها في جميع مراحل حياتها عاملةٌ جادة جاهدة، لا تني عن السعي لحظة واحدة. فها هي ذهِ تَستنبت الأرض، وتزُكي الزرع، وتبسَّق الشجر، وتنضج الثمر، وتفتَّح من أكمامه الزهر. ثم هاهي تي، في عنفوانها، ما تفتأ تجتذب البخار، عذباً سائغاً من أجاج البحار؛ حتى إذا انعقد سحاياً، سَحّ فأخَضل قفراً وأعشب يباباً. وهذه الأنهار الجارية سمُوتُها في أقطار الأرض، تبعث أسباب لكل متهيئ للحياة. وكذلك لا ننس أنها تبرح تعمل عاَّمة النهار، في تطهير الأرض مماَ يَعلق بجسدها من الأخباث والأوضار.

فأي عنصر، لعمري، من حياة هذا العالم يمكن أن يغني عن الشمس؟ ألا أنها لمصدر الحياة

ص: 68

جميعاً؛ فحق للعالم أن يقول: إنما الحياة الشمس، وإنما الشمسُ الحياة!

أيتها الشمس! ما أحسنك وأجملك، وما أطيبك وأكرمك!

تعملين لأول الدهر إلى غاية الدهر، في غير ونيً ولا سأم، ولا ضجر ولا بَرَمَ، ولا صلف ولا استعلاء، ولا زهو ولا كبرياء. . ولو شاء الله لأهلك بحرك بعض الأقوام، ولو قد شاء لأهلك بطول حجبك جميع الأنام!

وبعد، فما أخلق الذين يمسهم حظ من المجد في هذه الدنيا، والذين يمسون صدراً من السلطان فيها أن يبتغوا لسيرهم من سيرة هذه الشمس أعلى المثل. فيعلموا كل في محيطه للنفع العام في جد وداب، مؤمنين كل الإيمان أن الموهبة والسلطان إنما ينبغي أن يكونا ملكاً خالصاً للمجموع لا لأحد من الناس ولا لشيء من الأشياء.

على أن مما يفجع حقاً أن كثرة من هؤلاء الذين ينالون مجداً ويولون سلطاناً سواء أكان أقام من ثم لهم هذا في جماعة أم في شعب أم في شعوب - سرعان ما ينسون كل شيء لأن الأثر قد ملكت من نفوسهم كل شيء. فنفوسهم هي المبدأ، ونفوسهم هي الغاية. حتى إذا أجالوا الفكر في منافع الجماعات، فلا لأنهم يؤثرون لهذه الجماعات نفعاً أو يبتغون لها خيراً، بل لأنهم إنما يطلبون من هذا السعي مراماً لأنفسهم لا لشيء آخر، قد يكون هذا المرام، في أعف الصور هو إحراز المجد. أما ما يقع من خير المجموع، أو ما يحتمل أن يقع، فليس أكثر من طريق! وكيفما كان الأمر، فإنه ما يكاد أحد هؤلاء يحس مجده ويستشعر سلطانه، حتى يَوْرم أنفه، ويتداخله من الصلف والمخيلة ما يملوه اعتقاداً بأن الرأي في الأمر ليس إلا ما يرى هو، وأن ما سواه لا صلاح له ولا خير فيه، بل لقد يكون كله شراً وفساداً.

ولقد يشتدّ طغيان هذه الَخلَّة على المرء، فيرى أن الناس لا ينبغي أن ينظروا إلا بعينه، ولا يسمعوا إلا بأذنه، بل إنه ليرى أن من العبث الضار أن يجري فكرهم بغير ما يجري به فكره، وأن تنتهي آراؤهم على غير ما ينتهي إليه رأيه. فإذا خالفه امرؤ إلى غير هذا، كان بين اثنين: إما ملتاث ممخرق، وإما معاند مكابر يجب أن يعجل له سوء العذاب!

وفي الحق أن اكثر من يغمرهم هذا الطغيان، إنما يرون ما يرون ويفعلون ما يفعلون، عن ثبات إيمان ورسوخ اعتقاد!

ص: 69

وما ظنك بمن تطبعهم شدة الأثرة على الإيمان بأنهم مبعثون من لدن رب السموات لإصلاح ما فسد في رقعه من الأرض أو في رقاع الأرض جميعاً؟ فإليهم وحدهم عهد الله بالاضطلاع بهذا المهم. وعليهم وحدهم تقع تبعة التقصير في علاجه، والراضي في إمضائه وإكماله!

وهؤلاء لا يطلبون الأعوان والأنصار ليعاونوهم بصادق الرأي وصالح المشورة؛ ولكن ليعاونوهم بقوة المظهر وإمضاء ما قضي به الوحي الذي لا يخطئ أبداً!

فإذا تعاطفت ما يختلف على هذه الأرض من عصور العتوّ والطغيان: تخرب العامر، وتدمّر القائم، وتُقفر الآهل، وتراق فيها الدماء بغير حساب، وتزهق النفوس لغير سبب من الأسباب: إذا تعاظمك هذا في عصور الدهر المتتابعة، فاعلم أن علته تلك الخلَّة الفاجرة في الإنسان!

وأمس، لقد أتمتْ دورةُ الشمس حولاً سلكته في عقد التاريخ أيضاً، وآذنت العالم بفجر حولٍ جديد

وإن ذاك العام المدبر، وهذا العام المقبل، لهما - كما تعلم - من أعوام الهجرة، هجرة محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه من مكة إلى المدينة، وقد ساد بها الإسلام، فسعد بسلطانه الأنام

وبعد، فلست بحاجة إلى أن أحدثك عما كان قد غشى الأرض جميعاً من ظلم وفساد، وتصدع في النفوس وتضعضع في الأخلاق، حتى كاد يُقضي على الأمم بعدم الصلاحية للبقاء. إلى أن بُعث محمد من عند الله حقاً، فبلّغ رسالته إلى الناس، كما أوحى إليه بها ربه حقاً، فكان ما شهد التاريخُ من ذلك الفتح والإصلاح والإسعاد

ولا أحب أن أُطيل في وصف ذلك الإصلاح والإسعاد، فبحسبهما أن تنزَّل بآياتهما وحيٌ كريم، من عند الله العليّ العظيم

وإنما أقف وقفةً قصيرةً عند سيرة من خلفوا محمداً صلى الله عليه وسلم، ولم يؤيد أحدٌ منهم بوحي سماوي، ولا حبي بالعصمة التي حُبي بها الأنبياء، إنما هم أناِس مثل سائر الناس.

وإذا كان خلفاء الرسول قد ارتفعوا على سائر الناس، فبأنهم إنما ساروا سيرة هذه الشمس التي تطالعهم كلَّ صباح وتغرب عنهم كلُّ مساء. على أنها هي إنما تعمل لعالم الأجساد

ص: 70

والأجرام، أما هم فيعملون لعالم النفوس والأرواح.

يعملون جادّين جاهدين، لا يبتغون من سعيهم نفعاً، ولا يُريغون من ورائه فخراً ولا ذكراً، لأنهم أشد أمانة من أن يقتطعوا لأنفسهم أو لذويهم شيئاً مما ينبغي أن يجرد كله للنفع العام.

يعملون لا مستبديّن بالرأي ولا مستأثرين؛ بل مشاورين مصغين مسرعين، حتى إذا اتسق لهم الرأي الذي يرون فيه منفعة المجموع، أسرعوا إلى إمضائه ولو جاء من أصغر الجميع.

أما رأى الجماعة، فشرعٌ عندهم مشروع، وقضاءُ مبرمٌ محتوم.

يعملون صادقين مخلصين لله وللنفع العام. لا كبر ولا مخيلة ولا استئثار بمنفعة من المنصب والجاه، بل ليس عندهم إلا الإيثار والتواضع، والرقة للضعفاء. وهيهات أن يؤثروا أحداً على أحد إلا بطاعة الله وما قدم من الخير للمجموع. ولعمري، لتلك أعلى صور الديمقراطية التي يحلم بها أجلّ الفلاسفة من قديم الزمان

وإذا كان هؤلاء الخلفاء قد انعقد لهم أعظم المجد، المجد الخالد على الدهر، فلأنهم لم يريغوه ولم يسعوا له، ولم يشغل هو جزءاً من نفوسهم جليلاً ولا دقيقاً

وبعد، فلا شك أن مما أصفاهم لطلب النفع العام، وتجافى بهم عن الاستئثار حتى بالنفع الخاص، هو طول الذكر للموت. وكيف لهم بنسيانه، وهذه الشمس العظيمة، باعثة الحياة والحركة في العالم تموت كل يوم، بمرأى منهم، بعد أقوى الحياة، ولكل شيء نهاية، ولكل سائلةٍ قرار!

وإذا كانت الشمس تعود كل يوم فتُوالى سعيها في النفع والتجديد والإحياء، فإن زعيماً لن يعود بعد موته، ولو لإصلاح ما عسى أن يكون قد أفسد وتعمير ما عسى أن يكون قد خرّب. فما له، بعد الموت بالأمر يدان!

هذا بعض ما يلهمه حديث الهجرة، وإن فيه لعبرة.

عبد العزيز البشري

ص: 71

‌بطولة محمد

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

لا أعرف - ولا أحسب أن غيري يعرف ما يشبه - أو يقارب - بطولة محمد صلى الله عليه وسلم. ولست أنسى أني مسلم ولكني مسلم بالعقل قبل أن أكون مسلماً بالوراثة والنشأة. ولست أخشى أن أتهم بالتعصب لصاحب هذا الدين. على أني لا أعني بالبطولة الشجاعة في الحرب، والجرأة في الكر والفر، والإقدام على مقارعة أحلاس القتال ومنازلة الأعداء في حومات الوغى، فما كان صلى الله عليه وسلم يعني بالاشتراك في القتال بسيف أو رمح؛ وكان يشهد المعارك ويصحب رجاله ولكنه لا ينزل إلى الحومة بنفسه ولا يخوض المعمعة مع أنصاره وإن كان يوجههم. وما كانت مزيته أنه أطعن الناس برمح، أو أسدهم ساعداً، وإنما كان نبياً وصاحب دعوة، ورسولاً بدين، ومعلماً ومرشداً وهادياً، وحسب من شاء أن يقدر بطولة محمد أن يتأمل حياته وسيرته لا في مكة وحدها بل بعد الهجرة منها إلى المدينة أيضاً وإلى آخر حياته، فقد جاء بدين ينقض كل ما قامت عليه حياة العرب في زمانه من عقائد وتقاليد وعادات وآراء؛ ولا يرضى حتى أهله، لأنه يحرمهم مزاياهم وما كانوا ينعمون به من عزة في الجاهلية؛ ولم يجد من يؤمن به وبرسالته إلا قلة لا غناء لها، ولقي من الضيم والعذاب والأذى والمطاردة والاضطهاد، ما لم نعهد في البشر إطاقته والصبر عليه؛ وحوصر في الشعب ثلاث سنين بلا أمل أو نصير؛ وقاسي من المحن أقسى ما يخطر على البال؛ ومع ذلك لم يلن ولم يضعف، ولم يكد يخرج من هذا الشَّعب حتى مضى وحده وبمفرده إلى الطائف يدعو إلى ترك الأوثان وإلى عبادة الواحد الأحد، فلم يقابل بغير الإهانة والزراية من الكبراء، والرمي بالحجارة من الصبية والجهال، حتى سال منه الدم فعاد إلى مكة لا يأساً بل مواصلاً بث دعوته وتبليغ رسالته، وظل صابراً مواظباً محتملاً ما يلقي في سبيل الله من الأذى البليغ والعنت الشديد ثلاثة عشر عاماً من يوم تلقي الوحي. ولما اعتزم الهجرة بعد أن مهد لها لم يخرج إلا بعد أن رحل عن مكة معظم أنصاره وأمن واطمأن عليهم، ووثق بنجاتهم وسلامتهم، وهذا ثبات كان خليقاً وحده أن يقنع الذين كتبوا عنه من الأجانب بأنه لا يمكن ولا يعقل أن يكون من (دجال) كما وصفه بعضهم

ص: 72

وقد كتب (واشنطون إيرفنج) عن بواعث محمد يقول:

(أكانت الثروة؟ لقد أفاد زواجه من خديجة الغنى، فظل سنوات قبل الوحي لا يبدي رغبة في زيادة ثروته. أم كان يطلب المنازل الملحوظة؟ لقد كانت منزلته عالية في قومه، وكان معروفاً بينهم بالفضل والأمانة، وكان من قريش ومن أكرم فرع فيها، وكانت سدانة الكعبة وما تفيده من العز والسلطان في أسرته منذ أجيال، وكان من حقه أن يتطلع إليها، فلما قام يحاول أن يهدم الدين الذي نشأ عليه قومه اقتلع جذور هذه المزايا جميعاً، فقد كانت ثروة أهله ومنزلتهم قائمتين على هذا الدين فهاجمه وجر على نفسه عداوة أهله وغضب مواطنيه وسخطهم جميعاً

ويمضي إيرفنج في تقصيه فيسأل: هل كان هناك في بداية سيرته النبوية ما يبعث الأمل أو يعوض هذه التضحيات؟ ويرد على ذلك فيقول: إن الأمر كان على النقيض، فقد بدأ محاذراً متوخياً الكتمان وظل سنوات غير موفق؛ وعلى قدر توسعه في بث دعوته، وإذاعة رسالته، كان يشتد ويعظم ما يلقي من العنت والسخرية والأذى والاضطهاد، واضطر بعض أهله وأنصاره أن يفروا إلى بلاد أخرى، واحتاج هو نفسه آخر الأمر أن يهاجر إلى بلد غير مكة، فلماذا كان يصر كل هذه السنوات الطويلات على (دجْل) يسلبه كل متاع الدنيا في سن لا تسمح بأن يبدأ المرء حياته مرة أخرى؟ فما قام بالدعوة إلا بعد الأربعين وقضى في مكة ثلاثة عشر عاماً، وكان تاجراً حسن الحال فهاجر منها فقيراً معدماً، لا يعرف ما كتب الله له في غيبه من النصر، ولا يبغي أكثر من أن يبني مسجداً يعبد فيه ربه، ولا يرجو إلا أن يعبد الله في سلام. ولما جاءه النصر لم يتكبر، ولم يتجبر، ولم يغتر، كما يفعل الذين ينشدون المآرب الشخصية والغايات الخاصة، فحافظ، وهو يف أوج قوته، على بساطته أيام ضعفه

وقد جاءه نصر الله بعد الهجرة، ولكن الأيام لم تجر كلها بالسعود في المدينة؛ وإذا كان قد انتصر كثيراً فقد انهزم أحياناً، فلا النصر أبطره، ولا الهزيمة أضعفت روحه أو فتت في عضده. ولعل القدرة على احتمال النصر أدل على العظمة من القدرة على احتمال الخيبة؛ ولكنه لم يكن من الهين على من احتمل مثله ثلاثة عشر عاماً من المتاعب أن يصبر على هزيمة جديدة. . . وكان عليه أن يضع للجماعة الإسلامية في المدينة النواميس والنظم في

ص: 73

السلم والحرب. وهو فيما أعلم الوحيد الذي بلّغَ الرسالة كلها، وأتم عمله أجمعه في حياته، فأكمل الدين، وأسس الدولة، ووضع القواعد كلها، ووجه الأمة الجديدة الوجهة التي فيها الخير والصلاح والعز. وليس لهذا مثيل في التاريخ - قديمة وحديثه -. وهنا ينبغي أن نذكر أن مسافة الزمن التي تم فيها كل هذا كانت قصيرة جداً، وأن دينه كان جديداً، يخالف كل ما وجد عليه العرب. وفي هذه المدة الوجيزة لم يغير للعرب عباداتهم وحدها، بل غير نفوسهم أيضاً. ولاشك أن صرف امرئ عن عبادة حجر أو نحوه أهون جداً من صب النفس في قالب جديد. وقد خلق من هؤلاء العرب المتنافرين المتعادين المتهالكين رجالاً يعدون في طليعة أبطال العالم. وماذا كان هؤلاء جميعاً خليقين أن يكونوا لولا محمد؟ ونعني بهم أبطال التاريخ الإسلامي من مثل الخلفاء والولاة والقواد والفقهاء. . . أكان أحد يمكن أن يسمع بهم؟؟ لا أظن! ولا شك أنهم كانوا خلقاء أن يكونوا شيئاً مذكوراً بين قومهم، ولكن قومهم أجمعين لم يكونوا شيئاً. وما قيمة قوم انقسموا قبائل متعادية لا أثر لها في الحياة، ولا يعبأ بها حتى من يجاورها من الأمم؟ ومن هذه العناصر خلق محمد أمة عظيمة فتحت الدنيا، ونشرت الدين، وأهدت إلى العالم حضارة كبيرة غيرت مجرى التاريخ الإنساني كله

ولا يتسع المقام للإفاضة في هذه المعاني، ومن أجل هذا أكتفي بأن أقول إن محمداً أعظم عظيم خلقه الله. وأزبد على هذا أني كنت في صدر حياتي أستهين قول من يقول إن العرب خير الأمم وأفضلها، وأرى ذلك من الغرور، ولكني الآن صرت أعذر من يقول هذا. ولست مغري بالمفاضلة بين الأمم ولا أنا أرى داعياً لهذا، فإن كل أمة تؤدي في الحياة رسالتها على قدر طاقتها ولكن أمة تنجب محمداً، هل يلام من يقول إنها أعظم الأمم؟

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 74

‌في الطريق إلى قرطبة

للأستاذ محمود تيمور

(عندما استتب الأمر لأبي العباس السفاح أول الخلفاء

العباسيين هرب الأمير عبد الرحمن الأموي من العراق

ووجهته الأندلس ليتسم عرش الأمارة فيها بمعاونة أنصاره

الأمويين. فبينما كان في شمال أفريقيا وقعت له هذه الحادثة

التي نرويها)

كان القمر ينشر نوره الفضي على قرية (مغيلة) في مراكش، فتبدو الدور على ضوئه الهادئ كأنها تتمطى مبتسمة رافعة هاماتها إلى السماء تنفض عنها فتور النوم. في تلك الساعة التي بدأت فيها القرية تتنفس كان يسير في طريق من طرقاتها المهجورة رجل طويل القامة نحيف الجسم ملتف بعباءة دكناء ووجهه ملثم. كان يسير سيراً حثيثاً في مشيه حذرة، متجنباً الأماكن التي انجلت عنها غبشة الليل، تدل مظاهره التي يجتهد في إخفائها على الأمارة والجاه. ولما دنا من دار (وانسوس) رئيس أقوى قبائل البربر في تلك الجهة توقف عن المسير والتفت حوله ثم دفع الباب في سكون ودخل، ثم أحكم إغلاقه خلفه، وما إن خطا بضع خطوات، حتى تقدم إليه (وانسوس) في خضوع وقال في صوت خافت:

- مولاي الأمير

- كدت أضل الطريق

وبدأ الزائر يرفع لثامه ويحل عباءته، فظهر عارضاه الخفيفان وبانت ضفيرتاه على ظهره، وسار بخطوات رزينة وخلفه (وانسوس)؛ وقال:

- هل أحضر (بدر) الجواهر؟

- أحضرها يا مولاي وهي وديعة عندي لا تستطيع أن تمتد إليها يد إنسان

- وماذا قال لك؟

- إن أختك (أم الإصبع) تقرئك السلام وتقول لك إنها سترسل لك غيرها

ص: 75

- بورك فيها. . . وماذا بعد ذلك يا (وانسوس)؟

- وإن وهب بن الأصفر وشاكرين أبي الأسمط يستحثانك على السفر، إن المراكب معد وهم في انتظارك

وكانا قد تلغا بهواً تتوسطه نافورة وقد نثرت بجوار حيطانه وسائد عريضة؛ فوقف الأمير أمام النافورة يتأمل المياه ويداه مثنيتان على صدره وقال:

- وأهل الأندلس؟

- يرحبون بمقدمك لتنقذهم من أميرها يوسف بن عبد الرحمن الفهري. هناك أبناء عمومتك يا مولاي ومعهم أنصارهم الأقوياء ثم لا تنس القبائل اليمنية

- هذه حطمتها قوات الفهري

- بل ما زالت محتفظة برجالها الأقوياء

- إن الحروب الأهلية يا (وانسوس) قد نهكت الأندلس، وعمها القحط وجلا كثير من أهلها عنها، فإذا أردنا أن نستعجل النصر فلنعتمد على الذهب نكسب به الأنصار

ودخلتْ في تلك اللحظة (تكفات) زوجة (وانسوس) وكانت امرأة بدينة تلبس إزاراً واسعاً، دخلت في عجلة واضطراب وهي مكفهرة الوجه وقالت:

- بينما كنت على السطح في مكاني المخصص للمراقبة أبصرت رهطاً من الرجال مقبلين في سرعة وتلصص نحو الدار، فما شككت أنهم من رجال ابن حبيب

فتغضن وجه الأمير وقال بصوت أجش:

- لقد وشي بي الواشون

وهرع وانسوس إلى البرج ليستعلم الخبر ثم عاد مضطرباً وهو يقول:

- عجل يا مولاي بالهرب

وجرى الاثنان نحو البرج، ولكن ما كادا يطلان منه حتى عادا أدراجهما والأمير يتمم:

- لقد أحاطوا بالدار

وسمعت في هذه اللحظة جلبه عالية في الخارج فيها وعيد وتهديد وطرح الأمير عبد الرحمن عباءته واستل سيفه ووقف وقفة الجبار ناظراً إلى باب البهو وقد انطبع على محياه المهيب عزم رهيب وقال:

ص: 76

- إني لأشعر بأرواح بني أمية كلها قد تقمصت جسدي فيأت ابن حبيب وجيشه يجرب حظه معي

واشتدت الجلبة وسمع قرع قوي على الباب وأصوات تقول:

- افتحوا. . .

وقال الأمير لوانسوس:

- اذهب وافتح الباب

ووقف وانسوس متردداً

وتكرر القرع بحماس شديد. وسمع الباب يهتز ويتفلق والأصوات تتعالى في سخط مرددة:

افتحوا. افتحوا. . .

فقال الأمير وهو ينظر إلى وانسوس نظراً حاداً:

- لقد أمرتك أن تفتح الباب

فقال وانسوس في ذلة ويأس:

- الأمر لك يا مولاي

وذهب قاصداً الباب. وما كاد يخرج حتى أشرق وجه تكفات بغتة ولمعت عيناها. وتقدمت في جرأة غريبة نحو الأمير وقالت:

- إنها لحظة من لحظات الدهر الخالدة. فإما إلى العرش وإما إلى القبر. . . تعال

وفتح وانسوس الباب فتدفق الرجال في صحن الدار وضجتهم تسبقهم، ووقف زعيمهم مكشراً أمام وانسوس وقال:

اقبضوا على هذا الخائن. . .

وفي لحظة كان وانسوس مقيداً وملقى بجوار الحائط؛ وأتم الزعيم أمره قائلاً:

- دونكم الدار فلا تتركوا مخبأ إلا دخلتموه، أو ركناً إلا فتشتموه، وإياكم ألا تعثروا عليه

فانتشر الرجال في الدار يفتشون، وسار الزعيم في رهط من أنصاره قاصداً إلى بهو النافورة واختفى الجميع فيه

ومضى الوقت ووانسوس ملقي بجوار الحائط يصغي بأذن مرهفة إلى ضجيج الرجال في داخل داره وعيناه الحائرتان لا تفارقان باب البهو

ص: 77

وأخيراً فتح الباب وخرج منه الزعيم وخلفه رجاله. ولما دنا من وانسوس ألقى عليه نظرة احتقار ثم التفت إلى جماعة بالقرب منه وقال:

- حلوا وثاق هذا الرجل

ثم سار في عجلة نحو الباب وهو يدمدم بكلمات غير مفهومة وخرج والجميع في أثره. وقام وانسوس وهو يفرك عينيه دهشا، وبعد أن أحكم قفل الباب سار مهرولاً إلى بهو النافورة فوجد زوجته (تكفات) جالسة على إحدى الوسائد متكئة بظهرها على الحائط؛ فما شك وانسوس أن قواها خارت من الخوف. فأقبل عليها وسألها قائلاً:

- أين الأمير؟

وفي لحظة كشفت إزارها الواسع فخرج من بينه الأمير وما إن توسط البهو حتى قال:

- تالله إن عرش الأندلس لمدين (لتكفات) بهذه الحيلة لن أنسى لك هذا الجميل يا (تكفات)

فانحنت المرأة أمامه في خضوع

ووقف الأمير عبد الرحمن أمام النافورة ويداه مثنيتان إلى صدره، وقال وقد سطع على وجهه العزم واليقين في صوت ممتلئ قوي:

لقد بت أعتقد أن العناية تساعدني. فهناك على شاطئ الفرات حيث كانت فرسان أبي العباس تلاحقني أنا وأخي نجوت بأعجوبة لم أكن أحلم بها في حين أن أخي قد عاكسه القدر فقبض عليه وقتل على مرأى مني. وهنا تمر بي رجال أبي حبيب وأنا على بعد خطوات منهم فلا يخامرهم شك في أني غير موجود

وأرسلت عيناه وميضاً عجيباً، والتفت حوله وهو رافع الرأس كأسد منتصر على فريسته وقال:

- إيه أيها القدر! تعصمني والعباسيون يتهالكون على الفتك بي، يطاردوني في كل شبر من الأرض. . . إني لأرى الأندلس تدنو مني كما يدنو مقبض هذا السيف من يميني

محمود تيمور

ص: 78

‌الإسلام دين لا دولة

للدكتور زكي مبارك

أعترف بأني مقبل على متاعب في تحرير هذا البحث، لأني أكره أن يكون ضرباً من الحديث المعاد، وما تريد (الرسالة) في مثل هذا العدد أن تعيد كلاماً فرغ منه الناس منذ أجيال

وأعترف أيضاً بأني لا أجهل الفرق بين حياة الباحثين لهذا العهد وحياة من سبقهم في سالف العهود، فالمسلمون فيما سلف كانوا يقسمون الجمهور إلى قسمين: قسم العوام وقسم الخواص؛ ولم يكن العاميّ هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، كما نقول اليوم، وإنما كان العاميّ هو الذي لا يترك من مرامي القرآن والحديث ما يستطيع به تعقب أقوال الباحثين بالتعديل والتجريح، ولهذا كان يتفق أن يسير في العصر الواحد آراء تختلف وتقتتل بدون أن يشعر أصحابها بأنهم مهدّدون بسوء القالة بين الناس، إلا أن يكون في آرائهم ما يؤدي الخلفاء أو الملوك أو الوزراء، وهؤلاء أيضاً كان لجبروتهم حدود، لأنهم كانوا في الأغلب من أكابر الرجال، وعلى علم بالزائف والصحيح من الآراء.

أما اليوم، فمن حق من يقرأ ويكتب أن يعد نفسه من الخواص، وأن يتعقب الباحثين في الشئون الدينية كيف شاء، ولو لم يتفق له الاطلاع على كتابٍ واحد من كتب الفقه والحديث

وأقول بعد هذا التمهيد: إني سأفترض قلمي باحثاً يقف من الإسلام موقف الحياد؛ فقد مضى الزمن الذي كان يقال فيه: (اللهم إيماناً كإيمان العجائز)؛ فذلك الإيمان لا ينفع في هذا الجيل ولم يبق له مكان. وأنا أعتقد أن الرجل الذي يكفر بعد اجتهاد الأقوياء، أقرب إلى الله من الرجل الذي يؤمن بعد استسلام الضعفاء. وهل تهون العقول على واهب العقول؟

وإنما يقف قلمي من الإسلام موقف الحياد، لأني أريد أن يقوم هذا البحث على قواعد علمية لا خطابية، فهو موجه إلى قراء اللغة العربية، وفيهم ألوف من غير المسلمين، ومراعاتهم واجبٌ مفروض، ومن الحتم أن يخاطبوا بالعقل قبل الوجدان.

يضاف إلى هذا أن الإسلام كان في جميع أطواره ثورة عقلية، فمن أراد من أبنائه أن يجرده من تلك المزية، فهو عدوٌ يلبس ثوب الصديق.

ثم أوجه الموضوع فأقول:

ص: 79

لكل دين من الأديان خصوصيات وعموميات: فالخصوصيات هي اللطائف التي يتعارف عليها أبناء الدين الواحد بعضهم مع بعض، ولا يرضيهم أن تداع لضعفها عن مقاومة النقد العنيف؛ أما العموميات، فهي الأصول التي يجوز نشرها بين جميع الناس، لقدرتها على مواجهة التحامل بشجاعة وكبرياء.

والظاهر أن (الخصوصيات) هي الطور الأول من أطوار التدين، فقد كان التدين في نشأته لوناً من الانحسار عن المجتمع، وهو يوجب الانفراد والانزواء، ومن هنا كانت كلمة (الدين) مرادفة لكلمة (السرّ) عند الأقدمين. ومن هنا أيضاً كانت (العزلة) من ضروب التعبد، لأنها من فنون الاستخفاء. . . ألم تسمعوا أن الصوم عن الكلام كان من العبادات في كثيرٍ من الديانات، مع أن الكلام هو أساس التفاهم بين المتعاملين من الأحياء؟

والنفرة من الزواج عند قدماء المتدينين لها صلة وثيقة بهذا الغرض، وقد أصابت الفطرة الشعبية فيلا مصر حين سمت الزواج (دخول الدنيا)، وإنما كان ذلك لأن الزواج في العرف القديم لم يكن يأتلف مع التأهب للفناء في الدين

ومن هذه النقطة يتشعب حديث اليوم

فالنبي محمد قد اقترن بتسع نساء، قيلت في تعليل هذه الظاهرة أقوال، وأصح تلك الأقوال أنه أراد توكيد الصلات بينه وبين بعض القبائل والشعوب

ولكن يظهر أن من الممكن أن نلتمس تعليلاً غير ذلك التعليل، كأن نفترض أنه أراد أن يقضي قضاء مبرماً على الوهم الذي يقول بأن التدين لا يأتلف مع الزواج، وما كان ذلك (وهماً) من الأوهام، وإنما كان (حقيقةً) من الحقائق في صدور الأحبار والرهبان، وإليهم كان الأمر في مصاير الناس من جهة الدين والأخلاق

ولكن محمداً كان يؤمن بأن من واجبه أن ينقل المفهومية الدينية مع وضع إلى وضع، ولا يتم ذلك بغير ثورة على الترهب، ثورة ماحقة ساحقة تضيف الرهبان إلى طوائف الخصيان، وتصدهم عن الاستهزاء بالمؤمنين المتزوجين، فكان له ما أراد

ومحمد بشهادة خصومه كان من نماذج الفتوة العربية، والفتى العربي يرى الرجال قوامين على النساء، وإذاً، يجب أن يتصل بالدنيا اتصال معاش، ليكون رب البيت بحق وصدق، ولتخضع له نساؤه خضوع العبد الطائع للسيد المطاع، والرزق يذلّ أعناق الرجال، فكيف

ص: 80

بقلوب النساء؟!

وماذا كانت صناعة محمد قبل أن يكون نبياً؟

كان تاجراً، والتجارة هي المختبرَ الصادق لأخلاق الرجال، وقد جاز الاختبار بنجاحٍ مرموق.

وماذا كانت صناعة محمد بعد أن صار نبياً؟

أظنه قال: (جُعِل رزقي تحت ظل رمحي)

ومعنى هذا أنه صار فارساً يعيش مما تغلّ الرماح والسيوف، وذلك أكرم أنواع العيش، وما يليق بنبي أن يكون عالة على الأتباع، ولو كانوا من شرفاء الأغنياء.

وإقبال محمد على الزواج صار نبياً مدنياً، وصار مسئولاً عن الاتصال بالمجتمع صلة معاشية، بعد أن اتصل به صلة روحية. ومن المؤكد أن صنيعه هذا قوبل في عصره باندهاش، واستغراب، لأنه كان (بدعة) في عوف رجال الدين، ولأنه كان اعترافاً صريحاً بان (الدنيا) مطلبٌ لا يعيب من يتجه إليه من الأنبياء

والذي يراجع الأصول الأولى من الدين الإسلامي - وهي الأصول التي سبقت التفريع والتشقيق - يروعه أن يرى الإسلام يقتصد في شرح معاملة الإنسان مع الله، ويهوله أن يراه بطنب في شرح المعاملات مع الناس.

فما معنى ذلك؟

معناه أن الإسلام يمزج بين هذين المطلبين، ومعناه أن حسن المعاملة مع الناس هو المظهر الصادق للخوف من الآثام والشبهات، وبدون الصدق في هذه المعاملة لا ينتفع المؤمن بصلاة ولا صيام، والله يتسامح في حقوقه ولكنه لا يتسامح في حقوق الناس.

ومن أعجب العجب أن نرى القرآن ينطق السابقين من الأنبياء بأقوال ينكرها بعض أتباع الأنبياء.

فما تأويل هذا المنطق؟

التأويل سهل، فالقرآن ينزه جميع الأنبياء عن أوهام الأتباع والأشياع، وما تحدث القرآن عن نبيّ إلا عرفنا أن الدعوات الصوادق لا تسلم من التصحيف والتحريف.

وبقليل من التأمل ندرك أن ذلك ليس من الغرائب، فوضوح النصوص الدولية لهذا العهد

ص: 81

في المخابرات والمعاهدات لا يمنع من أن تصير من الألغاز عند اشتجار الأغراض، فما ظنكم بنصوص دينية جرت في الأصل مجرى التلميح تجنباً للعدوان والاضطهاد؟

والمقام لا يتسع لغير فرضين اثنين: فرض يجيزه الجدل وهو الظن أن القرآن وحيٌ من عند الله، وفرض يجيزه الجدل وهو الضن بأن القرآن من صنع محمد، وللفرض الثاني فرعٌ سنشير إليه بعد لمحات.

فعلى الفرض الأول يكون القرآن هو الفَيْصَل في تقرير مذاهب الأنبياء، وعلى الفرض الثاني يكون محمدٌ أخضع الأنبياء في أقوالهم وأفعالهم لمذاهبه الذاتية في الوصل بين الدين والمدنية.

وأنا في حيرة بين هذين الفرضين، ولو كنت من خصوم الإسلام لاخترت الفرض الأول واسترحت، فليس من الكثير أن يضاف محمد إلى الأنبياء، ولكن الكثير حقاً أن يصل رجلٌ غير ملهَم إلى الوصل بين العلم والمدنية، وهون غرض كان يجب أن يتنبه إليه كبار الأنبياء. و (البلية) كل البلية أن الناس عجزوا عن تخيل نظام يكون أفضل من نظام الإسلام، وهو النظام الذي يوجب أن يوزع المرء قواه بين ثمرات الأرض وأنوار السماء.

الإنسانية أجمع تحتقر الرجل المنزوي في الكهوف، والإنسانية أجمع تبغض الرجل الذي لا يعرف غير اقتناص الأموال، والإنسانية أجمع قد اتفقت على أن الإنسانية الكامل هو الرجل الذي يأخذ نصيبه من الدنيا مع الاحتفاظ بنصيب في الدين

ومحمد هو صاحب هذا الرأي، وبه (أدعّى) على زعم أصحاب هذا الفرض أنه خاتم الأنبياء. ومن هذا الملحَظ ندرك كيف صار خاتم الأنبياء، فمن العسير أن نتصور نظاماً أفضل من النظام الذي شرعه محمد عن طريق الوحي أو طريق الاجتهاد.

هنالك فرضُ ثالث، وهو أن تكون الضمائر الإنسانية تجمّعت وابتدعت هذه الشخصية المحمدية، لتكوين الرمز الذي يصور مثلها الأعلى في الوجود.

ويمنع من هذا الفرض مانعان حصينان، أحدهما تاريخيّ وثانيهما فلسفيّ.

فمحمد حديث العهد في التواريخ النبوية، ولم يمض من الزمن ما يسمح بجعله شخصية معنوية، كالذي قيل في بعض الأنبياء، أو بعض الحكماء. ألم يشُك قوم في وجود المسيح وسقراط؟

ص: 82

أما الجانب الفلسفي فهو يضايق خصوم الإسلام، لأنه يجعله سريرة وجودية، وعندئذ يكون من الحتم أن يكون أعظم دين عرفه الوجود.

للباحث المنصف أن يدير هذا البحث كيف يشاء، فلن ينتهي إلا إلى ما انتهينا إليه، وهو القول بأن شريعة محمد خير شريعة عرفها المجتمع الإنساني، فهي إذا منحة ربانية تستوجب الحمد والثناء. وهل يصدر مثل هذا الفيض إلا عن صاحب العزة والجبروت، وهو الذي منح (إنسان العين) على صغره قوة تخترق أجواز السماء، بغض النظر عن فضله العظيم في إضاءة العقول والقلوب؟

ثم ماذا؟

نترك إلى الباحثين المنصفين درس هذه المعضلة بنور المنطق والعقل والعدل، وننتقل إلى شرح الاصطلاح المعروف بالتطبيق، فكيف كان الإسلام بعد موت الرسول؟

شرَّق الإسلام وغرَّب، وجرتْ بين أهله أحداثٌ وخطوب، حتى جاز القول بأن فريقاً من المسلمين أخطئوا فهم الغرض من الدين الحنيف

وفي حومة ذلك الخطأ نشهد ظاهرتين بارزتين بعنف وطغيان:

الظاهرة الأولى هي الاهتمام باللغة العربية اهتماماً يتمثل في المؤلفات التي تُعدّ بالألوف، ويتمثل في قول بعض الفقهاء بأن الصلاة بغير اللغة العربية عملٌ مردود

أما الظاهرة الثانية فهي الإقبال المنقطع النظير على درس الجوانب المدنية من التشريع الإسلامي، ويمكن بسهولة أن نقول إن (القانون المدني) لم يشهد في جميع أدوار التاريخ شرّاحاً أعمق من الشراح المسلمين، جزاهم الله خير الجزاء، فهم الحجة الباقية على أصالة العبقرية المدنية في الأمم الإسلامية

وارجع إلى الظاهرة الأولى بشيء من التوضيح فأقول:

كان المسلمون يرون أن لا سلامة للعالم إلا بوجود (لغة دولية) يتفاهم بها أهل المشرق وأهل المغرب، وهل قام في الدنيا نزاع إلا بسبب انعدام التفاهم بين الناس؟

ومازال المسلمون يساومون هذا الغرض حتى تحول إلى عقيدة دينية، فصح عندهم أن (اللغة العربية أحسن اللغات)، وأن الصلاة بغيرها لا تجوز، وأنها ستكون لغة أهل الفردوس. والمسلمون يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن رحمة الله مقصورة عليهم، وأن طمع

ص: 83

سواهم في الجنة لا يزيد عن طمع إبليس، وتلك غاية الغايات في الإيمان بأن (الدين عند الله الإسلام)

ذلك التصور اليوم قد يعدّ من ضروب الخيال، ولكنه كان حقيقة عند المسلمين الأولين، وبفضل تلك الحقيقة وصلوا إلى ما وصلوا إليه من التفوق الملحوظ على أكثر الممالك والشعوب.

والغريب في هذه القضية أن المسلمين الذين آثروا لغتهم بذلك التقديس قد تحرروا في فهم أغراضها تحريراً لا يعرفه أبناء اليوم، فقد كانوا يستبيحون إنشاد أشعار المجون في المساجد وفي أعقاب الصلوات، وكانوا يرون خصومهم في هذه الحرية الأدبية قد (تنسكوا تنسكاً أعجمياً)، ولذلك شواهد يضيق عنها هذا المجال

قد تقول: وما الموجب لهذا التناقض الغريب؟

وأجيب بأنهم أرادوا أن يجعلوا اللغة العربية لغة مدنية لا لغة دينية، واللغات المدنية تتحدث عن جميع الشؤون، ولا تسكت عن شرح العواطف والأحاسيس والأوهام والأضاليل. ألم تروا كيف اتسعت مساجد المسلمين لشرح أشعار النصاري واليهود والصابئين؟

ويتفرع عن هذا ما جاء في التواريخ الإسلامية من أعمال الرجال، فالإسلام كُتلةٌ واحدة، فكما تقول في جِد عمر بن الخطاب: حدثنا فلان عن فلان، تقول في هزل عمر بن أبي ربيعة: حدثنا فلان عن فلان. وهل ثبت في أي ملة أن رجال الدين تحرروا من تقاليد فقالوا في الجمال الذي يطوف بالأماكن المقدسة معشار ما قال الشريف الرضي في قصائده الحجازيات، وكان أمير الحج بتفويض من خليفة المسلمين؟

يجب الاعتراف بأن الإسلام أعطى أبناءه حريات لم تعرفها سائر الديانات، لأنه لم يكن ديناً فحسب، وإنما كان ديناً ومدنية

ويجب الاعتراف بأن التطاول على هذا الدين لا يقع إلا من الأوشاب والمأجورين، فما كان إلا نعمة نورانية جاد بها الله على هذا الوجود

وماذا أقول في شرح الظاهرة الثانية، وهي الاهتمام بما في التشريع الإسلامي من الجوانب المدنية؟

تنقسم كتب الفقه إلى قسمين: قسم العبادات وقسم المعاملات ويلاحظ من يقرأ كتب الفقه أن

ص: 84

المؤلفين يترفقون في شرح القسم الأول، ثم ينطلقون كالسهام عند شرح القسم الثاني، وتظهر براعتهم في تشريح دقائق المعاملات

وهنا نكتة تستحق التسجيل. فرجل الدين في الفرنسية يوصف بأنه ومعنى هذا الوصف أنه لا يصلح لفهم أمور المعاش انقطاعه عن صحبة الناس

فكيف أمكن لرجال الدين من المسلمين أن يكونوا أئمة في شرح القوانين المدنية؟

يرجع ذلك إلى روح الدين الإسلامي، وهو دين يدعو جميع أبنائه إلى الاندماج في المجتمع، ويقهرهم قهراً على الأخذ من منافع الدنيا بنصيب، ليعرفوا الدقائق من شؤون الناس وهم قضاة الناس. وهل يصلح القاضي للفصل في نزاع لا يحس له شبيهاً في حياته المعاشية؟

كان يقال إن أحق الناس بالإمامة في الصلاة وفي القضاء هو المتزوج، ويرجح زوج المرأة الجميلة، لأنه أقرب إلى التعفف، بفضل ما يملك من الجمال الحلال

وأقول إنما قدَّم زوج المرأة الجميلة لأنه يعاني من المتاعب أضعاف ما يعاني سواه. فهو أعرف بشؤون المجتمع، وأقدر على فهم شؤون المعاش

وأقول أيضاً إن تنقل الفقيه منم أرض إلى أرض كان يزيد في قيمة التشريعية. فالشافعي له مذهب جديد ومذهب قديم بسبب تنقله بين مصر والعراق.

وأقول كذلك إن الرحلة كانت شرطاً في التفوق العلمي عند الأسلاف لفضلها الظاهر في الاطلاع على دقائق العادات والتقاليد

والقول الفصل أن رجل الدين عند المسلمين لم يكن من رجال القوانين المدنية إلا لأنه كان يساير المجتمع ويراوحه ويغاديه بلا انحسار ولا انقباض

وهل أستطيع القول بأن في الدين الإسلامي أقطاباً كانوا من كبار الأغنياء، ومن المتصرفين في المتجرات والمزروعات؟

إن الصوفية أنفسهم وهم الغاية في الزهد لم يملكوا الفرار من المجتمع؛ فقد كانوا مسئولين أدبياً عن تدبير المعاش للمريدين أليس من العجب أن نقرر أن أصدق ما كتب في آداب التجارة والزراعة والصناعة هو ما صدر عن أقلام الصوفية؟

ثم ماذا؟ ثم ماذا؟

ص: 85

ثم أمضي إلى آخر الشوط فأقول:

أحب المسلمون دنياهم فأقبلوا عليها بنهم وشراهة، فماذا جنوا من ذلك الحب؟

كان امتحاناً قاسياً عنيفاً إلى أبعد حدود القسوة والعنف. فقد عرفوا به أن لا بقاء للحياة بدون أخلاق، فكيف كان نصيبهم من شرح دقائق الأخلاق.

لا أزعم أني قرأت جميع ما كتب عن الأخلاق في جميع الديانات، وإنما أقرر أني اطلعت على مجلدات كثيرة في الأخلاق المنسوبة إلى رجال الدين من غير المسلمين، فما وجدت لها حرارة تشبه النار الموقدة في الكتب الإسلامية، فما سبب ذلك؟

المصلح المسلم تكتوي يده بنار المجتمع في كل يوم، فهو يسكب دم قلبه على القرطاس، وهو يتحدث عن واقع لا عن خيال، فهو يقول رأيت وغيره يقول سمعت، أما أبعد الفرق بين الرؤية والسماع!

الأخلاق في الكتب الإسلامية منقولة عن تجارب شخصية لا روايات خيالية، وما خط مسلم حرفاً في الأخلاق إلا وهو يتمثل مشاهد حية من بغي الناس بعضهم على بعض بلا رحمة ولا إشفاق

معاملة المسلم مع الله تنحصر في هذه الكلمة الوجيزة

(أّعبدِ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)

أما معاملة المسلم مع الناس فلها ألوف وألوف من الدقائق والتفاصيل.

فهل كان ذلك إلا لأن الإسلام أول دين عُنِيَ عنايةً صريحة بالشؤون المدنية؟

قد يقال: وكيف جاز أن يسف المسلمون بعد التحليق؟

وأجيب بأن المسلمين لم يسفّوا إلا بعد أن فُتنوا وزُلزلوا وتوهموا أن المدينة ليست من شؤون الدين

أليس مما يعيب الرجل المسلم في هذا العصر أن تكون له مطامح سياسية واقتصادية؟

اخلعوا النير عن أعناقكم يا مسلمي هذا الزمان، ويا عرب الزمان؟

لقد فَضَحنا (أشراف) مصر حين طالبوا بحقهم في التحرير من الجندية

وفَضَحنا (عربان) مصر حين طالبوا بامتيازهم في التخلص من الجندية

فماذا يريد أولئك وهؤلاء؟

ص: 86

محمد هو أول نبي وآخر نبي حمل السيف

ومحمد هو أول نبي وآخر نبي عرف قيمة الإرادة الذاتية فقضي بأن واجب المرء أن يخاطب ربه بلا وسيط

ومحمد أول نبي وآخر نبي كَرِه لأتباعه القرار والاطمئنان (البحر وراءكم، والعدو أمامكم) فأيان تذهبون؟

غيّروا ما بأنفسكم، يا مسلمي هذا الجيل، ويا عرب هذا الجيل

واحترسوا ثم احترسوا من أن يكون لمخلوق فوقكم سلطان

أنت الأعلون، وإن كنتم مضطهدين، ولن تمر أعوام قبل أن تأخذوا مكانكم فوق هامة الوجود الصحيح

ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين

زكي مبارك

ص: 87

‌حاجة المدنية إلى دين

للدكتور محمد البهي

للجماعة الإنسانية مهمة، ولها هدف أخير: مهمتها تنظيم رغبات الأفراد، والعمل على تطبيق دائرة التصادم - إن لم يكن منعه - بين هذه الرغبات، بعضها ضد بعض؛ وغايتها من وراء ذلك حياة الوئام والوفاق، أو حياة (السلام) أو سيادة (الخير) على نوازع الشر

هذا هو الشأن في كل جماعة إنسانية، حتى في الفطرية منها. فزعيم الجماعة البُدائية يدعي - حتى في اللحظة التي تغالب أنانيته على تصرفاته - أنه يعمل للخير والسلام، وأنه يسعى للتوفيق بين أفراد رعيته في رغباتهم ومآربهم

وقانون الجماعة المهذبة يضع - ما أمكن - نصب عينيه (صالح) الجماعة أو (العدالة) أو (المساواة)، ويحاول أن يبرز هذا الهدف في كل ناحية من نواحيه محافظة على السلام وحباً في خير الجماعة

ولا تتميز الجماعة الفطرية عن الجماعة المهذبة إلا بأن البواعث (الشخصية) أو الأنانية هي التي تتحكم غالباً في تحديد الخير والسلام، وفي توجيه الأفراد نحو الخير والسلام؛ بينما يحتكم قانون الجماعة المهذبة إلى عوامل مجردة - بقدر الإمكان - عن المعاني الشخصية في نظرته إلى (الصالح العام) أو (المساواة) وهذا بعينه هو الفرق بين الطفل والرشيد في الإنسان

وخير الجماعة الإنسانية في الواقع هو في الحيولة دون قيام النزاع والخصومة بين أفرادها بسبب اختلافهم رغباتهم. إذ من شأن اختلاف الرغبات حدوث التصادم بينها عند محاولة تلبيتها

وهذه الحيلولة تتم سواء أكانت بالدعوة إلى كبت الرغبات، وإلى الإقناع بالتنازل عنها أو عن كثير منها بدعوى أن ليست لها قيمة ذاتية كما تصوره لنا دعوة (الزهد) في متع هذه الحياة، أم كانت بتوزيع نفس هذه المتع - بناء عن اعتبارها وتقديرها - بين أفراد الجماعة لكل منها نصيب حسب كفايته التي تختلف حسب اختلاف مقاييسها عند الجماعات المتعددة، كما تنصح بذلك (النظرات) الجديدة في الحياة

والوسيلة الأولى وهي دعوة الزهد، أو دعوة القصد في متع هذه الحياة كانت طريق العقائد

ص: 88

الأولى الشرقية، والمدارس الفلسفية القديمة، وطريق الديانات السماوية كذلك. فكلها وضع (الخير) غاية للفرد وللجماعة، وكلها تقريباً نصح ونادى بالزهد كعامل رئيس من عوامل الوصول إلى هذه الغاية. والفرق بينها أن العقائد الأولى كعقائد قدماء المصريين والهنود والفرس تنسج (الخير) كغاية للإنسان في قصة شعرية أو في حكاية فرضية

وهي بينها تختلف في مقدار هذا الفرض وقيمته، وفي ذلك العنصر الشعري ومقداره - بينما الفلسفات القديمة أو الديانات السماوية، وأن سلكت طريق الإقناع تميل إلى تحكم المنطق والالتجاء إلى العقل في الدعوة إلى (الخير) والتقرب من مثاله، أو التقرب من الله الذي هو عنوان الخير المطلق. والفرق بينهما كذلك في قيمة النظر إلى الزهد كوسيلة إلى تلك الغاية، فبعض العقائد الشعبية الأولى كبعض المدارس الفلسفية القديمة وبعض الديانات السماوية يبالغ في تقدير الزهد وفي صلته بسيادة الخير في الجماعة؛ ولذا يتشدد في طلبه من الفرد ويوصي به إلى درجة (الحرمان) أو (الإفناء). والبعض الآخر من هذه الاتجاهات الثلاثة يعترف بالزهد كوسيلة للوصول إلى الخير - يقره كذلك - ولكنه لا يطلب أن يكون موقف الإنسان من هذه الحياة سلبياً فقط، بل بجانب نصيحته له (بالقصد) في متعها بوجه نشاطه وحيويته إلى عمل إيجابي للغاية نفسها، وهي غاية الخير

أما الوسيلة الثانية وهي محاولة تنظيم متع هذه الحياة بين أفراد الجماعة الإنسانية تجنباً للتصادم بين رغبات الأفراد المختلفة فهي طريق الأخلاق كعلم استقل عن التأثر بالميتافيزيقيا وطريق القانون. وبعبارة أخرى هي طريق الإنسان الحديث الذي رغب في الاستقلال بنفسه عن الدين وعن الفلسفة الأولى عند تحديده للحياة وتحديد مهمته فيها

فالبحث في تحديد (السعادة) أو (الواجب) مهمة علم الأخلاق؛ واعتبار (سعادة) الجماعة أو اعتبار عمل (الواجب لذات الواجب) هو هدف التشريع الحديث والقانون الوضعي، وهو كذلك أيضاً أساسهما. فالقانون في مواده المختلفة المتعلقة بنواحي الحياة للفرد والجماعة يحاول أن يشعر الفرد ويفهمه أيضاً أنه إذا لم تقتضي له رغبة بأن هذه الرغبة لم تضع عليه في الواقع، إذ (سعادة) الجماعة أو (الواجب)، أو ما صاغه القانون ذاته من (الصالح العام) طلب إحلال أمر آخر محل هذه الرغبة الفردية الخاصة إلى حين؛ وذلك نظير تمتعه - أي الفرد - بالصالح العالم في فرص أخرى وهي كثيرة

ص: 89

فالقانون إذا لا يرغَّب عن هذه الحياة، ولا يقلَّل من قيمتها، وقلما يعترف بنهايتها أو بتحولها إلى حياة أخرى ثانية. ولهذا رأي مهمته في تنظيم رغبات الأفراد، وفي التسوية في تلبيتها لهم بقدر ما يمكن، دون أن يراها مثلاً في إقناعهم بالعدول عنها إلى متع أخرى ألذ وأشهى وأدوم كذلك في حياة أخرى

والقانون والأخلاق كعلم من أخص مظاهر المدنية الحديثة. وهذا معناه أن المدنية الحديثة تتميز بالميل إلى الاستقلال وبمحاولة هذا الاستقلال، أيضاً، عن الدين وعن العقيدة وعن الفلسفة الميتافيزيقية في فهم (غاية) الإنسان وفي تعيين الطريق لتحقيق هذه الغاية

وكما كان عنوان الدين، أو من لوازم الدين والعقيدة، الدعوة إلى (الخير)، وكما كان من وسائله إلى تحقيق ذلك النصح بالزهد في هذه الحياة، كان عنوان المدينة الحديثة تحديد (الصالح العام) وتقريره ثم محاولة تحقيقه بتنظيم انتفاع الأفراد بهذه الحياة

نظرتان مختلفتان في الحياة، وتوجيهان للإنسان فيها مختلفان كذلك

وربما يبدو أن تنظيم الانتفاع بهذه الحياة بين أفراد الجماعة الإنسانية، وهو محاولة القانون، ليس أشق على طبيعة الإنسان كطلب الزهد منها الذي هو نصيحة الدين؛ والعلاقة الصحيحة بين تنظيم الانتفاع وبين الزهد ليست اليسر من جهة ولا العُسر من جهة ثانية، بل هي تحكم إرادة الإنسان في طرف وإغفالها في طرف آخر. إذ طلب الزهد معناه اعتبار إرادة الإنسان وتحكيمها، بينما تنظم الانتفاع معناه الركون إلى سلطان القانون وتحكمه وحده. فالزهد وإن بدا أنه مظهر سلبي هو عمل إيجابي إذ هو مظهر الإدارة للفرد

وحقاً إذا كانت غاية القانون أو غاية المدينة هي غاية الدين والعقيدة، لأن مآل رعاية الصالح العام، أو رعاية سعادة المجموع، أو تقرير عمل الواجب لذات الواجب هو مآل عمل الخير؛ وحقاً إذا كان في محاولة تنظيم الانتفاع بهذه الحياة بين أفراد الجماعة تحقيق لنتائج الزهد، إذ أن في الرغبة عن متع الحياة أو عن كثير منها تضييق لدائرة النزاع بين الأفراد وهو غاية التنظيم، إلا أن في الدين والعقيدة معنى آخر ليس في القانون وليس في علم الأخلاق، هذا المعنى الآخر هو أن موحي الدين له نهاية الحكمة وكمال المعرفة في نفس الإنسان المتدين أو المعتقد طبقاً لمبدأ التأليه؛ وهذه صفة للمعبود تدع في نفس الإنسان المتدين عدم المناقشة فيما أوحى به الدين كما تدع فيها أيضاً الرضا بما جاء به الدين.

ص: 90

فطاعته للدين إذا طاعة نفسية، ومحاولة الشذوذ عن أوامر ونواهيه أمر غير قريب إلى نفسه. ولكن واضع القانون، في نظر الخاضع له، إنسان غير معصوم، وبالأخص غير منزه عن التأثر بالعوامل الشخصية في تقنية لأنه من نوعه الإنساني وليس من جنس آخر أسمي منه. فالقانون له احترام من نفس الفرد الخاضع له وما دام لم يتعارض مع رغباته الخاصة. فإذا تعارض قل الأكثرات به في نفسه لأن الانحراف - هكذا ينظر الفرد - عن الصواب قد يكون في القانون نفسه دون أن يكون في رغبات الفرد. فموقف الفرد إذا من القانون موقف الناقد؛ وأساس النقد عنده رغباته الخاصة في الأغلب؛ وطاعته للقانون في كثير من الأحايين ليست لذات القانون بل للخشية من منفذه والقائم بأمره. وإذا قل عنصر الرضا النفسي في الطاعة كانت محاولة المخالفة للقانون موجودة في النفس وقوعها مرهون فحسب بضعف الرقابة أو بزوالها

فمحاولة المدينة بقانونها وبأخلاقها الاستغناء عن الدين وعن العقيدة محاولة قاصرة، نجاحها لا يتعدى نطاقاً ضيقاً وهو نطاق الخاصة، وهي في حاجة في الواقع إلى الدين وإلى أن يسود المتدين جماعتها. ومهما استعانت بالعلم الذي هو مظهر آخر من مظاهرها، فليس في العالم وحده ما تحتاجه من العون؛ إذ الإنسان كما هو مودع في فطرته الميل إلى العلم وإلى الكشف، مودع في فطرته كذلك الاطمئنان والركون إلى (السر الخفي)، وتأليهه أو تعظيمه للغير ظاهرة من ظواهر هذا الاطمئنان والركون. والله في نظر الإنسان رمز كل سر وكل خفاء، فلا يدرك كنهه ولا يوقف على حقيقته. ولهذا كان له أرفع درجة من تعظيمه واحترامه. وما ينسب إليه عظيم ومحترم كذلك؛ فقوله قل أن يخالف، ووصيته ندر ألا تنفذ، لأن المخالفة وعدم التنفيذ معناه الشك في هذا التعظيم الذي صار الآن أمراً مقرراً

وإذا كنا ندعو المدينة بوجه عام إلى دين وإلى تدين فلسنا متحيزين إذا دعونا إلى الإسلام بوجه خاص؛ لأن الإسلام في تقرير الزهد كوسيلة للوصول إلى الخير لم يبالغ في طلبه ولم يعتمد عليه وحده، بل جعل بجانبه تنظيم الانتفاع بهذه الحياة - بعد أن أباح التمتع بها - وعمل على تنظيم علائق الأفراد في دائرة هذا التمتع

وليس القانون، وليس علم الأخلاق؛ وبعبارة أخرى ليست المدينة هي التي كشفت عن (رعاية الصالح العام)، بل من قبلُ وضعها الإسلام في تنظيمه (للمعاملات)

ص: 91

ففي الغاية جمع الإسلام كدين وكتشريع بين (الخير) وبين (رعاية الصالح العام)، وفي الوسائل نصح بالزهد إلى حد ما وعمل على تنظيم الانتفاع بهذه الحياة بعد أن أجاز الانتفاع بها وهو بهذا يعتبر إرادة الإنسان كما لا يهمل رقابة القانون

محمد البهي

ص: 92

‌على ذكرى الهجرة

القوة والدين

للأستاذ راشد رستم

إن الهجرة التي قام بها نبي الإسلام محمد بن عبد الله عليه السلام حادث تاريخي، ليس له من صبغة الدين إلا أنه من أيام رسول الله.

غير أن أثرها في الإسلام عظيم

لما أراد المسلمون الأولون أن يؤرخوا لدينهم لم يجعلوا ذلك يوم ولادة الرسول، ولا يوم نبوته - بل يوم هجرته

وقد كان هذا هو رأي رجل الإسلام القوي عمر بن الخطاب - تذكرة للمسلمين بالاضطهاد الذي لاقاه رسولهم - وتنبيهاً إلى الثبات على المبدأ، وتنبيهاً لضرورة الجهاد في سبيل الدعوات

ذلك هو فضل يوم الهجرة: فضل تاريخي، فضل اجتماعي فضل للحياة الآملة المجاهدة. هذه الحياة التي لا تقيم للحق وزناً إلا بالجهاد في سبيله، والتي لا تعرف للحق وجوداً إلا إذا قام له صاحب

وصاحب حق الإسلام هو عظيم المجاهدين له عليه السلام، إذ لم يظهر حقه وقد كان خافياً إلا بعد أن جاهد له، وقد اعترف به الزمان وظل به معترفاً

ولكن كان إذا ونِي أنصار الحق عنه قليلاً وني الزمان عنه قبلهم، وإن شدُّوا له وتجمعوا عاد الزمان فأقامه لهم على هام الدول والأيام واضحاً ثابتاً

ذلك منطق الزمان. هو لا يعرف غير الغالب، والغالب أن يكون الغالبُ صاحبَ حق

ولكن الغالب كذلك ألا يكون الحق غالباً إلا بالقوة، فإن كانت غلبة الحق لا شك فيها، فإنه وهو غالب يكون كذلك هو القوي. . .

وقد يكون الباطل غالباً. ولكنه هو غالب، يكون كذلك هو القوي.

غير أن دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة

لذل لما كان كفار العرب، وهم مع باطلهم أظهر على الرسول وهو مع حقه، كانوا كذلك لأن القوة كانت لا تزال معهم؛ حتى إذا ثبت محمد بحقه في الميدان واستمر مجاهداً فاز

ص: 93

بالقوة يدعهم بها حقه ويديمه

ومن مزايا الحق أن الاعتقاد بيقينه يجعل من الضعف قوة، كما يزيد القوة قوى

ومن ذلك كان نصر الحق بالثبات عليه والجهاد له

ورسول الإسلام لم يكن ينقصه الحق ولا مزاياه؛ وإنما هي القوة. . . لذلك كان يعمل لها بعد أن تأكد من يقين حقه، وكذلك كان من معه

وهكذا كان ثبات النبي مضرباً للأمثال

فكمُ هدد، وأوذي، ورغَّب؛ فلم يجبن ولم يرجع عن جهاده. بل كان يثور للحق ويثير في نفوس أنصاره الروح النقية القوية، والعقيدة الصحيحة بأن القوة أولى بها أن تكون للحق، وأن الحق لا بد له من القوة ما دام الباطل يستعين بها فلما فاز الرسول بالقوة، ظهر على أعدائه حقه

وهكذا كان حال السابقين من أهل الدعوات، فما تمكن دين المسيح عليه السلام إلا بعد أن دان له الإمبراطور قسطنطين العظيم، فدعمته قوة السلطان

وما كان زاهيا زاهراً دين موسى عليه السلام إلا لما كان السلطان لبني إسرائيل؛ فلما شالت نعامتهم ذهبت ريحهم

على أننا لا نقصد بالقول أن نحط نمن قيمة الحق، وأن نرفع من القوة، ولكننا نقرر مركز كل منهما من الآخر، ذلك المركز الذي توجبه جِبِلَّة البشر وطبيعة الإنسان، تلك الطبيعة التي فطر عليها من أن يَملَّ المعنويات ويعظمَ المحسوس

إن هذه الجبلة الآدمية هي التي تدفع بالحق يسعى وراء استخلاص القوة لنفسه، وإنه لعمل محمود

ليس في السعي وراء القوة عيب، إذ القوة أظهر مظاهر المحسوس، وهي لسان الإنسان الفصيح وبيانه المفهوم، وهي الواسطة القوية لنشر الفضيلة المطوية، كما أنها ترفع الباطل إن ظفر بها مختلساً

وسلامٌ على الحق إذا لم تؤيده القوة

وسلاٌم على القوة إذا لم تؤيد الحق

ليس في استعانة الق بالقوة تقليل من قوته أو حط من قدره. فالقوة وسيلة الطبيعة للبقاء،

ص: 94

والإنسان حيوان قبل أن يكون عقلاً. .

لذلك يسبق في عمله إدراك القوة قبل أن يدرك ما هو حق وما هو باطل

فإذا هو أدرك لأحدهما معناه، عمل لبقاء ما اختار منهما لنفسه والبقاء في هذه الحياة هو للأقوى

فيا أيها الصالحون، اعملوا على أن تكونوا الأقوياء. . .

وانظروا في ذلك وأنتم في مرحلة لكم جديدة. . .

راشد رستم

ص: 95

‌من مذكرات عمر بن أبي ربيعه

أيام حزينة

للأستاذ محمود محمد شاكر

(قال عمر بن أبي ربيعة. . .):

وجاء ابن أبي عَتيقٍ (هو عبد الله ابن محمد أبي عتيق ابن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق)، فوالله لأن كنتُ بين ضِرْسين من الجبل يدوران عليَّ دَوَرانَ الرَّحَى، أهونُ عليَّ من أن أكون لقيتُ هذا الرجلَ الحبيبَ!

كانَ رجُلاً ضربْاً خفيفَ اللَّحم أحمر طِاهِرَ الدَّم كأنّ إهابه شُعْلةً تشبُّ وتتلهَّب، أفرعَ فينَانَ الشَّعر، مخروطَ الوجه، أزهر مُشرقاً كأنّ بين عينيه نجماً يتألق، يُقْبل عليك حُرُّ وجْهه بعينين نَجْلاوين قد ظَمِئ جفْناهما حتى رقَّا، يرسلُ إليك طرَفةُ فترى الضحك في عينيه خِلقَةً لا تكلّفاً. ما احسبني رأيته مضرةَّ إلا خلْتُه دعابةً قال لها الله: كوني! فكانتهُ. وكأني به قد دَخل على أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق وهي تَكيِد بنفسها - في مرضها الذي ماتت فيه - يقول: كيف أصبحت يا أمّاهُ؟ جعلني الله فِداكَ! فتقول عائشة: أجَدُني ذاهبةً يا بُني! فيقول: فلا إذنْ يا أم المؤمنين!! فتتبسم عائشة وتقول: حتى على الموت يا ابن أبي عتيق!! فيقول: أرضاكِ الله يا أماَّه! لو جَاءني الموتُ كأكرهِ ما يأتي على حيِ، ما تركتُ له دعابتي حتى يستضحك، فيرحل بي عن الدُّنيا بوجهْ غير الذي جاء به!

فلو أنّ أمراً من عرضْ الناس لا أعرفه، جاءني فزعم أن نجماً في السماء بكى، وأن القَمرَ مدّ إليه مثلَ اليَد فكفكف من عَبَراته، لكان أقرب إلي منْ يأتي آت يقول هذا ابنُ عتيق في الناس بعينين ضارعتين خاشعتين ذاهلتين يعرفُ فيهما البُكاء!

رجل صالح تقي خفيف الروح نشوان القلب، قد انحدر من جده (عبد الرحمن بن أبي بكر الشاعر)، حنين الشاعر حين يرى الدنيا كالغانية المنعّمة تتصبيّ له وتتقتَّل، فيحن إليها بصبَوات الشباب المتوهج. . . وآب إليه من جده (أبي بكر الصديق) حنان التقي وهو يرى الدنيا كالناشئة الغريرة لا تزال تنشُدُ تحت جناحه دِفء الأبوّةِ فتأوي إليه وتتضوّرُ، فهو يخفض لها من رحمة الوالد المتحنن. . . فابن أبي عتيق من هذين الأبوين كالربيع: جمال وشباب، ورقة وحنان، وفرح لا ينتهي

ص: 96

وكنتُ أجدهُ فيما يتوقَّدُ علىَّ من الكُربِ كالغمامة الغادية: ظِلٌّ ورِيٌّ، ثم لا يزال بي حتى أَنام إلى دعَابته، فإذا آلاميٍ تطوف بي من بعيدٍ كأنها أَحلام، بعد أن كانت في دمي جمرة تتلذّع. ولقد أكون مما أستعصي عليه بأحزاني، فأريدُ أذهب عنه نافراً أبتغي أن أعكُفَ على آلامي كما يعكُفُ العابد على بُدّه، فما هو إلا أن يأخذَ ينشد:

مَتى ترَعْينيْ مالكٍ وجِرَانه

وجنبَيْه، تعْلَم أنه غيرُ ثائِر

حِضَجْرٌ، كأمَّ التَّوْأمَينِ توكَلتْ

على مَرْفقَيْها مسْتهِلَّةَ عاِشر

فينشد أغرب إنشادٍ وأعجبه، ولا يزال يجرك ويشير ويمثَّل، فوالله ما من ساعة أنشدنيها هذين البيتين، وأقبل عليَّ يريني ما يأتي به، إلا نبع الضحك من قبلي دفعة حتى ما أتماسك معه

فكيف به اليوم وقد سكن كأنه دمعة خافتة تئنُّ تحت الزفراتِ، يمشي إلى كأن أيامه تطوفُ به ثاكلاتٍ نائحات، يغض طرفه كأنما يمسك عبرة همَّتْ من هاربة من الأسر، يطأطأ هامته كأنما يقول للزمن: تخطَّ، فلم يبق بيني وبينك عَملٌ أيها الجبَّار، يستكين حتى لأخاله يجمعُ أطراف نفسه لا يزاحمُ أفراح الناس بما يريد أن يتنفَّسَ من أحزانِه

لك الله يا ابن أبي عتيق! لقد كانتْ لك كالجدول النَّامي

النمير: هو سرٌّ الأرض، وسرُّ العود، وسرُّ الزُّهر، وسرُّ العطر؛ فلما جَفَتْ عنك همدت أرضك، وظمئ عودك، وصوَّحَ زَهرك، وتهارب عطرُك. . . زوجةٌ كانت تستودع روحك مع كل شارق، ما تتملَّى به أفراحِك ولهوك ودُعابتك، فتخرج إلى أحبابك لتحمل عنهم همومهم فتغرقها في ذلك البحر الخِضَمَّ من الفرح والابتسام والرضى!

ودخل ابن أبي عتيق فسلَّم سلام الذاهل المتوَله، ثم جلس كأنما هو يلقي عبئاً ثقيلاً كان يمشي به، ثم نَظر في عينيَّ بعينين ندَّيتين ترى في غورْهما ذلك التنُّور المتضرمَّ يتقاذف شُعَلَه في ثنايا النفس وفي مسارب العاطفة. وأدام النَّظر لا يرفعه عني كأنما يقول: انظرْ واعرفْ ولكن لا تتكلَّم! فأشهد أني افتقدتُ ما أقول أعزَّيه به أو أرفه عنه، بل كأنما أفرغ بعينيه في عينيَّ من أحزانه، حتى أراني أجد مسَّ النار في صدري وهي تستعر ولكني خفتُ على صاحبي ورفيقي إن أنا سكتُّ له، أن أكون قد خلَّيت بينه وبين همه، وإن أحدنا لو قَعَد يمارسُ أحزانه يوماً بعد يوم لصرعتْه. أجل وإن الحزن ليهجُم على النفس كالَسُبع

ص: 97

الضاري، حتى إذا عَبرَ إليها وقف يستأنس متلفَّتاً يريد ما يختلج أو يتحرَّك، فما هو إلا أن يُهويِ إليه فيبطش به، أو ينشب فيه براثنه ينفضه ثم يقضقضُه حتى يهمد. وإذا خُلَّى السبع لا يُذَاد يُطْرد بقي يتأبَّد ويستوحش. ولا يزال على عادته يستمرئ كل ساعة فريسته يغمس في دمها أو يَلغ، ثم لا يطفُّ حتى تكفُّ الحياة عما ينبض أو يتنفس.

وأخذتْ أزورَّ له الأحاديث في نفسي. فلما هممت بها لم أقل إلا ما يقول الناس: عزاءك يا أبا محمد! فوالله كأنما بها الطير الجثوم، وظل وجه ابن أبي عتيق يروح الدم فيه ويغدو، وجعلت عيناه ترسلان على نظراتهما الدمعَ الذي لا يسفح، والعَتْب الذي لا يتكلم، وظلّ صامتاً، وراحت نفسي تنخزل عما أقدمت عليه، ولكنه لم يلبث أن زَفر إليَّ زفرةً خلت في نفثاتها شرراً يتطاير. ثم قعد يتململ حتى قال:

إن أيامي - يا أبا الخطاب - قد استحالت تيهاً أمشي فيه على مثل هذه الجَمَرات، ولقد كنتما عَهِدتُني، والأيام من حولي عُرْسٌ لا أعدم فيها ما أطربُ له. كَنت إذا ما حزن بعض أيامي، أجد من أفراح الماضي ما أهرب إليه بالذكرى، وأتوهَّم من نشوة الآتي ما أترامي إليه بالأمل، فكنت أعيش بفرحةٍ أحضرُها أو تحضرني لا أخاف ولا أجزع ولا أتوهم في الحياة إلا الخير. فأنا وقد أبت بغتات القدر إلا أن تنتزع منِ كفَّيَّ ما كنت أضنَّ عليه، فهيهات لها بعد اليوم أن تطيق انتزاعه من فكري. آه. . . آه يا عمر! كانت ملئ عيني وروحي وقلبي. كنت أعيش تحت نسيمها كالنشوان ذاهلاً عن الألم مهما أمضَّ، مستصغراً للكبير وإن فَدحَ، راضياً باسماً متحفَّفاً. . . إذ كانت هي هي الأماني تتجدَّدْ مع أيامي علىّ علىَّ وتتبلّج مع كل فجر في قلبي، ما كنت جزوعاً ولقد جزعت! كيف قلت: عزاءً يا أبا محمد! ها الله يا أبن أبي ربيعه

كيف صبري عن بعض نفسي! وهل يصبِرَ عن بعض نفسه الإنسان؟

كانت بيني وبين الدنيا، وكانت آية الرفق والفرح، فكنت أرى الدنيا بعينها مشرقةً من تحت غياهب الأحداث، فالآن إذ نامت عني، كيف أرى إلا قِطعاً من الليل تغتالني من كل وجه، أو أشلاءً من الدياجي تجثم لي بكل سبيل؟

ثم رأيت في عينيه المَلل وهو يطوي على نظراته ما نشرتْهُ الحياة من همه النفس؛ وتخيلته - حتى كدت أتبينه - شبحاً ينساب في ظُلمة الليل فرداً قد انخلع من الحياة وأسبابها، فهو

ص: 98

يضرب في حشا الظلماء بسآمةٍ لا تهتدي ولا تريد أن تهتدي، وقد كدت مما شجيتُ له أن أدع إليه الحديث حتى يَستِتمَّه، ولكني أعرف في قلبه الرَّقةَ، فخشيتُ أن يمضي به الحزن على غَلْوائه، فقلت له:

مَهْ مَهْ يا أبا محمد، والله ما أنكرتك منذ عرفتك، ولكني اليوم منكر لك أو كالمنكر. أليس لك في إيمانك وإيمان آبائك معتصم أيها الشيخ؟ ما إسلامك النفس للجزع وما غلوُّك فيه؟ إن امرأً يؤمن بالله واليوم الآخر لخليق أن يستكين إلى قضاء الله استكانة الوليد إلى أمه. وإن أمراً يختاره الله لامرئ هو أهدى سبيليه لا ريب، شَقِي بذلك أم سَعِد، وما يمسك النفس على أحزانها للأمر من قدر الله إلا الشيطان. خبرنَّي يا أبا محمد! هل ابتُلِىَ الناس فيما ابتلُوا به بما هو أفضع من فجيعتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كلا! فقد حزن الناس حتى أخذتهم آخذة، وحتى أنكر أحلمهم حلمه، وحتى إن بعضهم ليوسوس، فقام إليهم جدَّك الصديق فرد الناس إلى أحلامهم، وهو أشدهم حزناً على صاحبه ورفيقه؛ فعلم الناس أن الحزن للقلب وحده، وأن العقل والجوارح إنما هي للعمل، وأن هذا هو طريق الإيمان بالله وبقضائه: خيره وشره، أفأنت من يجوز عن سنة الله وسنة المهتدين من آبائه يا أبا محمد؟ كنتَ المرءَ الصالح الذي يرى الدنيا بعينيْ زائل، فما بالك اليوم تراها بِعَيْني متشبث قد أنشب فيها أمثال البراثن من عقله وفكره، فهو يتأَّبى أن يدور في وهمه أنه مفارقها؟

قال ابن أبي عتيق:

حنانيك يا عمر! فوالله ما تعلمين يا ابن أبي ربيعه إلا ما علمت. لقد عَجمت مني الحوادث صخرة مُلمْلمة لا تضرع. كم سحرْت من الدنيا وأحداثها، فجعلت أطويها في دعابتي طيَّ المُلاءة! كنت أتخففُ منها بنشوة أحْدثها في قلبي، فلو كان عليه مثل الجبل من الهمَّ لطار فيها كما تطير خافية من جناح. ولكني اليوم. . آه! لقلَّ ما جرَّبتَ يا عمر! أسلمت لله مُقَبِل أمري ومُدْبرَه يصرَّفه شاء. ولكني أجدُ هذا القلب المعُني لا يزال يخفق بالذكرى؛ أفأنت منكرٌ علىّ يا عمر أن أذكرها نسيماً رَفرفَ بين الجوانح والقلب؟ أني لي أن ألوِيَ النفس عن آثارها، وما أكاد أرى شيئاً إلا خلته يحدثني حديث الثاكِل: أنينٌ وحنين؟ فأين المهرب؟ دع عنك يا أبا الخطاب! أأراك تَلْحاني على اَلَجزَع، وما على ظهرُها أشقى ممنُ يصبح ليفتقد في نهاره حُلماً ضَلَّ عنه مع الفجر؟ كم خلوت إلى هذه النفس ألومها كالذي تلوم؟ وكم

ص: 99

وقفت على هذا القلب أذكره ما يذكرُ الناس مني، فإذا الذي كان بالأمس قد اصبح وكأنه أديم مرقوم قد تفَرَّى عاثَ البلى فمحاه. أريد، ويا لضلَّتي فما أريد! أنا كالساري في لجَّة الليل يلطم في سوادها، قد أضاع لؤلؤة يبحثُ عنها بين الحصى والرمال!. . . لن أعودَ إلى الناس حتى أجد لؤلؤتي يا أبا الخطاب. . . لن أعود

ورأيت الرجل ينتفض انتفاضة المحموم من هول ما يجد، فرَحَمْته، ولكني آثرت أن أدور على بُنَيَّاته، عسى أن يأوى لهن فيؤوب إلى كبعض ما كان، قلت:

ظلمت نفسكَ يا أبن أخي فظلمت من لا يلوذ إلا بظلك. صغيراتٌ ضعيفات ضائعات: فمن لهن بعدك؟ لو كنتَ وشأنك لها الأمر، ولكنك استُحْفظتَ من لا يحفظه بعد الله إلا رحمتك، ومن لا يغذوه بعد الطعام إلا حديثك، ومن لا يضئ له وجه الدنيا بعد النهار إلا ابتسامك، ومن إذا أهمل ضاع عليك ضيعة الأبد. إنهن بناتك منها وبناتُها منك، فوالله ما تذكرها ذكراً في شيء هو أكرم واحب وأرضى عندها منهن. أجمل يا أبا محمد، أجمل! فرفع إليَّ رأسه ونظر، ربا صدره بالزفرات وهو يقول:

لقد كنت أخشى لو تمليتِ خشيتي!

عليك الليالي كرَّها وانفتالها

فأما وقد أصبحت في قبضةِ الرَّدَى

فشأن المنايا، فلتُصِب من بَدَالها

. . . لولا علمتَ يا عمر! كيف - بربك - كنتَ تراني أحبوهنَّ من قلبي خفقات لامعات باسمات؟ كنتُ لو أطقتُ أن أجعل قلبي بينهن لهواً يتلَعَّبْنَ به لفعلت! فانظر إليك ماذا ترى؟ ما شيء أجتلب به على قلبي ألماً كنوافذ الإبر إلا رؤية هؤلاء الصغيرات الضعيفات الضائعات؛ وإن إحداهن لتعدوا إلي تستأوى فأحملها؛ فكأن قد والله حملت بها صخرة مسرفة يعي حملها، لولا بقية من رحمةٍ - يا عمر - عنهن نفرةً واحد لا أراهن ولا يرينني

أفزعني والله الرجل، ولكني فهمت عنه ما يأتي به. إنه لا يزال يراها بعينيه تحول بينه وبين صغاره. إنه يريدها ويريدهن جملة واحدة، فإذ ذهبت هي، فكأنما ذهب منهن الذي كان يراه فيهن. يرحمك الله يا أبن أبي عتيق! فأما إذ بلغ به حبها هذا المبلغ من اليأس، فلا والله ما ينجيه إلا أن يحتال، فقلت له:

أأراك أنسيت ذكر ربك يا أبا محمد! أتُرانا نعيش في هذه الأرض إلا بما نرجوه عند الله في غيب الله؟ فلولا ما نمثله في أنفسنا من الرجاء، ما نبض لامرئ عرقٌ مما يأخذه من

ص: 100

السَّأم. وأنت، أفيغبى على امرئ في مثل عقلك أن يجعل من مفقودٍ يحبه رجاءً يستمسك به؟ أنظرها يا ابن أبي عتيق بين عينيك، ولا تدع البدن الراحل يغلبُك على ما يحركُ من روحها. إنك بعينها ما عشت، فلا تحسبنَّ أحزانك التي تبتغي أن تنسلّب بها في حياتك، تجعلها تنظر إليك راضية مطمئنة

لا تشكّنَّ يا أبن أخي، فوالله إن الجسد ليذهب إلى البلى، وإن الرُّوح ليخلد، فما ترضى من يحبُّك بأمثل من أن تكون في غيْبهِ ما كنت في محضَره:(إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول ما يغضب ربنا) وصدق رسول الله. وما ذلك إلا أن نقصر الحزن، وأن نجعل أقوالنا وأفعالنا مرضاة لمن نحب وطاعة. ولا تستطيلنَّ ما بين الحي والميت؛ فإنما هي ساعات قلت وإن أطلت لها. يا أبا محمد أرض ربك وأرض صاحبتك، واجهد أن تكون كما أحبت لك، فإنك عن قليل تلقاها، فلا يلقها منك إلا ما تعرفه دون ما تنكره. . .

محمود محمد شاكر

ص: 101

‌هجرة في سبيل الله

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

هَجَرْتَ بِطاَحَ مَكَّهَ وَالشَّعَاباَ

وَوَدَّعْتَ الْمَنَازلَ وَالرَّحَاباَ

تَخِذْتَ مِنَ الُّدجى ياَ بْدرُ سِتْراً

وَمِنْ مَرْهُوبِ حُلْكَتِهَ ثِياَبا

فكَيْفَ تَركْتَ خَلْفَكَ كُلَّ شأَنٍ

وَخَلَّيْتَ الْقَرَابةَ وَالصَّحَابا؟

وَشَرُّ مَوَاطِنِ الإنسان دَارٌ

يَرَىْ مِنْ أَهْلِهِ فيِهاَ عَذَاباً

يُناَدِيْهمْ فَلَا يَلْقيَ سَمِيْعاً

وَيَدْعُوهُمْ فَلَا يَجِدُ الَجْوَابا

صَبَرتَ وَكُلُّ دَاعِيَةٍ يُلَاقِي

مِنَ الأَهوَال ماَ يُوْهِي الصَّلَابا

تَمرُّ بِكَ الَحْوَادِثُ وَهْيَ كَلْمى

كَأنَّ مِزَاجَهَا الصَّخْريَّ ذَابا

فَمَا أَلقَيْتَ مِنْ رَهَبٍ سِلَاحاً

وَلَا خَلَّيْتَ مِنْ نَصَبٍ حِرَابا

تَزيدُك كُلُّ حَادِثةٍ ثَباَتاً

وَصَبراً فيِ الْمَوَاقِفِ وَانْكِبَابا

أتَعْرِفُ دَعْوَةً للهِ قَامَتْ

وَكاَنَ قِوَامُهاَ شَهْداً مُذاباَ؟

سَبِيلُ اَلحْقَّ حُفَّتْ بِشَوْكٍ

وَلمْ تُمْلأَ عَلَى دَعَةٍ رُضَاباَ

وَمَا غَلَبَ اللَّيَاِليِ مِثْلُ قَلْبٍ

تَجَرَّعَ كَأْسَهاَ عَسَلاً وَصَابا

نَبَتْ بك أرض مَكَّةَ وَهْيَ أَوْفَي

وَأرْحَبُ فيِ سَبِيلِ الشَّركِ باَباَ

وَضَاَقَتْ بالَحْنِيْفَةِ فيِ إلَاهٍ

وَمَا ضَاقَتْ بآلهِةٍ جَنَابا

أَمَا عُبِدَتْ بِهاَ الْعُزَّى قَديماً

أمَا شَبَّ الضَّلَالُ بِهاَ وَشَابا؟

لَقَدْ وَسَعَتْ الأَدْياَنِ بُطْلاً

وَلمْ تَسَعِ الَحْقِيقَةَ والصَّوَابا

وَمِنْ عَجَبٍ تُسِيءُ إِليْكَ أَرضٌ

شَبَبْتَ فمَا أَسَأْتَ بِهاَ الشَّبَابا

مَنَازلُ كُنْتَ تَنْزِلهُاَ طَهُوراً

وَتَلْقَى الْوَحْيِ فِيهاَ وَالْكِتَابا

فَمَا عَرَفوا عَلَيْكَ بِهِنَّ نَقْصاً

وَلَا أَخَذُوا عَلَيْكَ بِهنَّ عَابا

تَقُومُ الَّليْلَ فيِ جَنَبَاتِ غَارٍ

وَتَقْطَعُهُ زَكَاَةً وَاحْتِسَابا

وَتَدْعُو وَالْمَضَاجِعُ غَارقَاتٌ

بأَهْلِيهاَ وَتَنَتْظُرِ الثَّوَابا

تُزَلْزِلُ بالدُّعَاءِ ذُرَا (حِرَاءٍ)

فَلَوْلَا الله يُمْسِكُهُ لَذَابا

لَقَدْ آذَاكَ أَهْلُكَ فيِ حِمَاهُمْ

فَكَانَ أَذَاهُمُ الْعَجَبَ الْعُجَابا

ص: 102

رَمَوْا وَاللهُ جَارُكَ مِنْ أَذَاهُم

فَأَخْطَأَ سهمُ رَمِيهمْ وَخَابا

فَلَا تَرْجُ السَّلامَةَ مِنْ قَريبٍ

ولَا تَأْمَنْ مِنَ الأهْلِ انْقِلَابا

فَرُبَّ أَباَعِدٍ كاَنوُا رَجَاءً

وَرُبَّ أَقَارِبٍ كاَنوُا مُصَابا

أَمِينَ اللهِ أَهْلُكَ قَدْ أَسَاءُوا

وَلَجَّ لِساَنُهُمْ إِثْماً وَعَابا

وَقًاَلُوا السَّاحرُ الْكَذَّابُ حَاشَى

لِرَبَّكَ لَمْ تَقُلْ يَومْاً كِذَابا

وَكَانُوا مِنْ صِفَاتِكَ فيِ يَقينٍ

فكَيْفَ يَرَوْنَ دعْوتَكَ ارْتيِاَبا

وَلكِنْ دَوْلَةُ الأَغْراضِ تُعمْيِ

وَتلُقْيِ فَوْقَ أَعْيُنِهاَ حِجَابا

لَقَدْ جَحَدُاوَ ضيائَكَ هْو سَارٍ

يَشُقُّ الْبيِدَ أو يَطْوِي الْهِضَابا

كَأَنَّ مِنَ الْهُدَى فيهِ سِرَاجاً

وَمِنْ وَضَحِ الْيَقِينِ بِهِ شِهاَبا

وَمَنْ تَكُنِ الْمآرِبُ ضَلَّلَتْهُ

يَرَى فيِ الَحْقَّ زيغاً وَاضْطِرَابا

يِعَيبُ ذوي الْمَبَاَدِئ وَهْوَاهْلٌ

لأِنْ يُرْمَي وَأجْدَرُ أن يُعاَبا

أَمِيْنَ اللهِ قَوْمْكُ قَدْ أَسَاءُوا

وَطاَرَ صَوَابُهُم وَمَضَى وَغَابا

لَقَدْ عَادَوْكَ مَوْجِدَةً وَكبرًا

وَربَّ مُكاَبِرٍ فَقَدَ الصَّوَابا

مَضَوا يَسْتَكْثِرون عَلَيْكَ فَضَلاً

مِنَ اللهِ الذِي يُعْطِي الرَّغابا

هُوَ الْحَسدَ الّذِي أَكَلَ الْبَرَاياَ

وَصَيَّرَهُمْ عَلَى أَنَسٍ ذِئاَبا

يَكَادُ الِحْقدُ يَمْسَخُهُمْ قُرُوداً

وَيَخْلُقُ فِيهِمُو ظُفْراً وَناَبا

وَلَمَّا أَنْ قَدَرْتَ عَفَوْتَ عَنْهُمْ

وَلَمْ تَفَرْضْ عَلَى اَلْجانِي عِقاَبا

دَعَوْتَ لَهُمْ بِمَغْفِرَةٍ وَصَفْحٍ

فَكَانَ دُعَاؤُكَ الْعَاليِ مُجاَبا

مَلكْتَ رِقَابَهُمْ عَفْواً فَلَانُوا

وَلمْ أَرَ مِثْلَهُ مَلَكَ الرَّقَابا

خَرَجْتَ إلى الْمَديِنَة وَهْيَ دَاَرٌ

شَهِدتَ بِهاَ عَلَى الْكُفْرِ اْنقِلابا

لَقَدْ آوَاكَ أَهْلُوهاَ وَقاَمُوا

لِيُنْسوكَ الرَّحِيلَ وَالاْغتِرَابا

وََجَدْتَ بَهاَ مِنَ الأَنْصَارِ أَهْلاً

وَزِدْتَ بِهِمْ عَلىَ الْبُعدِ اقِترَابا

وَرُبَّ أَباعِدٍ لَكَ قَدْ أَجَابوا

وَمَا سَمعَ الْقَرِيبُ وَلَا أَجَابا

رَجَوتَ بِهِمْ لِدِينَ اللهِ نَصْراً

وَلمْ أَر رَاجِياً فِي اللهِ خَابا

محمد عبد الغني حسن

ص: 103

‌روح الهجرة

للأستاذ محمود البشبيشي

الليل ينشر على الكون وحشة ورهبة، والظلم يغمر النَّفوس رعدة ورهبة، ولكن الحقيقة المؤمنة تتطلق عزمه ورغبة. تنظر إلى أحابيل الشيطان نظرة القدرة القادرة، وتتأمل أباطيل الباطل بثقة الحكمة النافذة، وليكن ما يكون!

في بطون الوهاد وأعالي الجبال عيون تترصد، وفي خفايا المنافذ وحفايا البطاح أرصاد تترقب، وفي جوار كل جدار ووراء كل باب آذان تتسمّع، ولكن الحقيقة المؤمنة في قلب الرسول تتوثب عزمه، وتتوهج قوة. وليكن ما يكون!

الشيطان قد فعل فعله في النفوس الضالة، والأحقاد قد بلغت الغاية في القلوب الغُلْف، ولم تبق بارقة تسطع من خلال رؤى الآمال!

كل شيء في الجزيرة يحس أن شيئاً سيحدث، وأنه سيكون حدثاً عظيماً. . . كل شيء في الجزيرة يدرك أو يكاد أن أمراً ستتفتح عنه مغاليق الغيب، وأنه سيكون أمراً خطيراً. ولكن ما من شيء كان يعلم أن ظنون الكفار المتبلدة بسواد النيات ستنهار كخيال الوهم. ولكن ما من شيء كان يعلم أن أماني الرسول الكريم ستتوج بالنصر كحقيقة الواقع. . . ولقد كان ما كان

وانطلقت الحقيقة المؤمنة من قيود الباطلٍ، وانبثق النور السماوي من خلال سحب الضلال. إن محمداً قد هاجرا، وكتب للرمال أن تقبل الخطا المباركة، وللغار أن يتيه على أعظم القصور عزة وفخامة. إن محمداً قد لاذ به من كيد المشركين

أجل لقد كان ما كان. بل ما كان يجب أن يكون فأتلق في جبين الزمان نور جديد. فكان يوم الهجرة المباركة. وكان للإسلام عيداً، وأنه لعيد مجيد. فلئن اعتزَّت الأمم بأعيادها المختلفة، وخلَّدتها بأيام من عمر الزمن محدودة، والتفتت إليها من حين إلى حين تعيد إلى ذكرياتها القوة، وتجد ما تقادم من حيويتها، وتبعث فيها الروح بالاحتفال بها. . . أجل لئن اعتزت الأمم بأعيادها وحرصت كل الحرص على أن تعيد إليها القوة بالاحتفال. إن الإسلام ليحتفل بعيد الهجرة. . . لا ليعيد للهجرة حيوية ضعفت، ولا ليجدد للهجرة ذكريات تقادمت، ولا ليبعث في الهجرة روحاً خمدت، بل ليستمد القوة من عزمة الرسول صاحبها، ويقيس من

ص: 105

أنوار أقباس الحيوية السماوية القادرة. وإن أعياد الأمم مهما اختلفت أغراضاً، وتفاوتت مقاصيدَ، لا تزيد على أن تكون رمزاً لناحية واحدة مجيدة اجتماعية أو غير اجتماعية، فردية أو غير فردية، على حين تجتمع في عيد الهجرة أعياد وأعياد

في عيد الهجرة أعياد. ومن أعياده الرائعة المتألقة الوضيئة عيد الوفاء في أروع مظاهره، والفداء في أبهى صوره، والصبر في أكمل معانيه، والجهاد في أعظم غاياته، والإيثار في أنبل مواضعه، وحب الوطن في أقوى حالاته، والثبات على المبدأ في أثبت دعائه

لنا في الهجرة مثال للوفاء يحتذي، وإنه لمثال يتألق حقاً في رفيق الرسول أبي بكر الصديق؛ فقد كانت براثن الخطر تترقب، ومخالب الشيطان تتوثب، وكل شيء في شعاب الطريق ومسالكه يستر خطراً يكاد يهجم، فالأحقاد تلهب الصدور، والصدور تضطرب بنزوة الدم وثورة الضغينة

أجل كان كل هذا ولكن الصديق كان وفياً. ولكن الصديق كان ثبتاً؛ ولكن الصديق كان قد انتضى للأمر عزائمه وتغلغلت في روحه روح الوفاء فأبي أن يكون هيابة نكساً. ووجد الوفاء في قلبه أرضاً طيبة فأينع وأثمر، فذلل له كل مستصعب. فكان خير مثال لمصابرة المكاره، ومعالجة البأساء. تحمل في سبيل الوفاء وعثاء الطريق ولم يضطرب قلبه لمخاوف الرحيل في هذا الجو الملبد بالأخطار. فياله من رجل ترك الأهل والمال والولد ورافق الرسول الكريم لغاية لا يعلمها إلا الله. مثل هذا الوفاء جدير بأن نقيم له الأعياد لنستمد منه أروع المعاني، ونهرع إليه كلما دهمتنا الأحداث ولاحت لنا الخطوب

للهجرة أعياد، ومن أعيادها عيد الفداء

وإن لنا من على كرم الله وجهه لمثلاً للفداء حياً

وما ظنك بالرجل الذي يعلم علم اليقين أن الموت يلمع في أسنة السيوف بباب مرقده، والهلاك يترصد في كل زاوية من دارٍ هو فيها سجين أو شبه سجين؟ ما ظنك برجل يحس بالخطر يتوثب ويترقب، وهو في موقف يؤرق العين ويعذب القلب؟ فالكفار بالباب قد أعلنوا حرباً مصرحة مستعلنة، والكائدون قد نصبوا الحبائل ومدوا الشباك يترقبون الرسول الكريم. . . وهيهات، فإن عليًّا هنالك، وإنه لنائم مكانه

أيها الفداء العجيب في شخص علىّ، إنك لخير مثال تتطلع إليه القلوب في مثل أيامنا

ص: 106

العجاف

للهجرة أعياد، ومن أعيادها عيد الصبر

ومن ذا الذي صَبر صبر الرسول على المكاره، وتحمل من لأعداء والأهل مالا تتحمله النفوس البشرية؟. . . في ظلال الإرهاب سار وبليْل الأخطار أدلج؛ رأى الموت فلم يفزع، وكيف تفزع النفس المؤمنة، ومن فيضها اقتبس الإسلام قوة جهاده، واستمدت العروبة عزمتها القادرة وقوتها القاهرة؟ من ذا الذي سواه يستطيع أن يخلع علي مكاره الأيام من روحه المؤمنة روحاً تسهَّل كل صعب وتنال من كل مستحيل. . .؟

يا عجباً! لقد استطاعت القوة المؤمنة أن تفك الحبالة وتسلك إلى النفوس في جوٍ كانت تسير فيه قاله السوء كومض البروق، في جو اجتمع فيه الأشرار على باطل وتفرقوا عن كل حق. . . ومن صبر الرسول الكريم وصبر أصحابه الأبرار ما نزال نستمد العون كلما طرقنا من الحوادث أمر طروق

للهجرة أعياد، ومن أعيادها عيد الجهاد

وجهاد المؤمنين لا ينقصه الدليل ليصدق، ولا يتطرق إليه الشك فينقص؛ فلقد كانت الحقيقة المؤمنة في نفوسهم قوة، وفي قلوبهم حيوية، وفي سيوفهم قدراً عاصفاً، وفي عيونهم أملاً يعلم أنه محقق!

جاهدوا وثابروا فنالوا ما أرادوا، وبعون الله كشفوا عن القلوب غطاء الجهالة؛ فتناثرت أباطيل الظلال أمام يقينهم، وانطمست شمس الضلالة الزائفة أمام إشعاع إيمانهم، وسقطت آمال المنافقين أمام إعصار الحق، كما تتساقط أوراق الدوحة الهزيلة عندما تطيح بها العاصفة

فإلى جهاد المؤمنين في فجر الإسلام توجهوا أيها المسلمون في أقطار الأرض، واستلهموا من معانيه الحيوية معاني العزة القومية، والقوة والإباء، والصبر والجلاد

تلك بعض أعياد الهجرة، ومن أعيادها عيد الإيثار وحب الوطن والثبات على المبدأ

أما الإيثار، فينطق به الأنصار عندما نسوا الأثرة واستقبلوا المهاجرين بكرم اليد وكرم والقلب، وقاسموهم الخير والأرض، وعطفوا عليهم عطف العالم بما لا قوا، المقدر لما تحملوا، المعجب بما أظهروا

ص: 107

وأما حب الوطن والحنين إليه، فيتألق فيما كان يضطرب بين أضلاع الرسول الكريم وهو في الغربة يناضل ويناوص ويستعد ويستجم ليرجع إلى الوطن الذي ترعرع فيه، إلى الوطن الذي غدر به وحجب القلوب عنه، فهو يحن إلى الحج، فيفاوض المشركين رحمة بالأهل، وحرصاً على الدم من أن يهدر. . . وإنه لدم غال عزيز. أفليس هو دم الأعمام وأبناء الأعمام؟

وأما الثبات على المبدأ، فيظهر ناصعاً في كل مراحل الجهاد، في صبر الرسول على الكيد، وتحمل المهاجرين لألم فراق الأهل والمال والولد

وبعد، فقد قهرت القوة المؤمنة القوة الضالة، وقهرت حقيقة الحق رياء الباطل، وارتدت السهام إلى نحور الكائدين، وانطلق النور السماوي من روح الرسول، فبدد سحب المنافقين، وطوى ظلال الشيطان

ولئن استمدت أعياد الأمم القوة بالاحتفال، إن عيد الهجرة ليجدد حيوية الأمم المسلمة. . . ولئن كانت الأعياد وليدة تاريخ الأمم، إن تاريخ الأمم الإسلامية وليد عيد الهجرة

أيها العيد، في ظلالك أعياد، وإنها لأعياد تعتز بها العروبة والإسلام. جمعت الوفاء والفداء، والصبر والجهاد والإيثار وحب الوطن، والثبات على المبدأ والعقيدة.

إن كنت في لغة الحياة وركبها

يوماً فكن يا ابن الخلود عهودا

(المنصورة)

محمود البشبيشي

ص: 108