المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 45 - بتاريخ: 14 - 05 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٤٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 45

- بتاريخ: 14 - 05 - 1934

ص: -1

‌قطع العقدة أسهل من حلها

كان الموروث غفر الله له مهلوس العصب، أرعن اليد، ألكن اللسان، أخرق السياسة، فابتلاه الله بالحرب حتى قَلَّ، وبالدَّين حتى ذلَّ، وبالرشوة حتى فشل. ثم عصفت به ريح المنون فحطمت جذعه وأذرت هشيمه، وتبدد في مهب العوادي تراثه المشتهى، واستقرت على أعناق أبنائه وأوليائه أثقاله وأغلاله وديونه.

فإما الترك الخلَّص البواسل فبتروا من خلفهم ذلك الذيل الطويل، ثم انطلقوا خفافا إلى المجد وراء كمال، وأما العرب الأقحاح الميامين فأقلوا من فوقهم ذلك الحمل الثقيل، ثم مضوا سراعاً إلى الملك وراء فيصل، وأما نحن - وقرابتنا إلى المرحوم وما ترك قرابة كلالة - فقد نالنا من عهوده الجزية، ومن قيوده الامتيازات، ورأينا في نصوص القوانين ما يثبت القلوب المنخوبة على الحق، وفي سوابق الدول ما يشجع النفوس الهيوبة على الاقدام، وفي سوانح الفرص ما يذكَّر الرقاب المغلولة بالعتق، ولكن الشعب الذي قسا عليه القدر فمحا من ذهنه الفروق بيَن التواضع والضعة، وبين الوداعة والذل، وبين المجاملة والملق، وبين الكرامة والتساهل، وبين الضيافة والاحتلال، لا يستطيع أن يفهم من القانون إلانص الواجب، ولا من (السابقة) إلامعنى الجرأة، ولا من الفرصة إلاخلاف الحزم.

حررت الأمم رقاب العبيد، واحترام السادة إرادة الخدم، ومنحت الدول طعام الشعوب كرامة الوطن، وبرئ الأسود والأبيض من معرة التفريق ووصمة التميز، اللهم إلانحن في مصر، وإلا الزنوج في أمريكا!

وما الفرق بالله بين الزنجي والمصري إذا كان كلاهما قد حرم الأخاء في المجتمع، والمساواة في القانون، والحرية في الموطن؟ وهل الامتيازات إلاحكم قائم بانحطاطنا عن الأمم التي ميزناها في الجنسية والعقلية والمدنية والتربية؟ فالأوربي إذا اعتقد انك دونه في القدر والحق والخلق فتمزَّى عليك وانتفي منك، كان واضح العذر ما دمت تعترف بهذا النظام الذي يجعل قضاءه أعلى من قضائك، ولغته أفضل من لغتك، وشأنه ارفع من شأنك.

أنه يعرف أن لك على الأقل أن تلغي المحاكم المختلطة من ذات نفسك، فلا ترى بعدها من يظلم قضائك على منصة العدل، ويحتقر لغتك تحت راية الدولة، ويهين رجالك في دست الحكومة، ولكنه يراك تهمل حقك حتى يموت، وتغفل واجبك حتى يفوث، وتنفق من كرامتك على المجاملة واللطف حتى تنفذ، فجعل نزولك عن مقامه تقليداً لا ينهض في

ص: 1

وجهه أدب، وعرفا لا يقوم بسبيله قانون.

إن الامتيازات الأجنبية شر ما مُنيت به هذه الأمة من علل الفساد وأسباب الوهن. فان وجودها يوهم الأوربي انه فاضل بالحق، ويشعر المصري انه مفضول بالطبيعة، فيمعن هذا في هضم نفسه وبذل مقادته، بمقدار ما يمعن ذلك في تصعير خذه وتجاوز حده، ويجري الأمر بين الرجلين مجرى الطبع والعادة، فلا يندم الأول على إساءة، ولا يألم الثاني من غضاضة!

وما تجره على الأمة هذه الآفة من قتل الرجولة في النفوس، وكسر النخوة في الرءوس، لا يدفعه إلهاب العواطف بعظمة الآباء وحماسة الشعراء وطموح المدرسة، فما ظنك إذا خلا التاريخ من روح الوطنية، والشعر من أدب القومية، والمدرسة من رفع الخلق

أن اخبث الأدواء ما خامر الجسم فسلبه القدرة على الفكر فيه بَلْهَ الخلاص منه.

ولقد جنت الامتيازات على أخلاقنا جناية العبودية على أخلاق العبيد! فنحن نجبن أمام الإهانة، ونكذب أمام الخوف، ونخنع أمام القوة، ويقعد بنا اتهام الكفاية عن المنافسة، حتى خلت ميادين العمل للأجانب فتحكموا تحكم الأرباب، وتصرفوا تصرف السادة، وعاشوا بالشر على خير هذا البلد، وأنضجوا شِواءهم في حريق أهله!

كل أولئك ونحن نضرع للسفيه أن يحلم، وللخصم أن يحكم، وللقوي أن يستكين، ثم نحاول أن نتحاكم إلى المعاهدات، ونتفاهم بالمفاوضات، كأنما انقلبت حملة الغرب على الشرق دعوة إلى سبيل المدنية وتقدم الإنسانية على هَدْى السلام والعدل!

كلا يا سادة! إن علاج المسموم بالعزائم مزاح مع الداء لا تؤمن عاقبته، وان قتل الحية أهون من ترويضها، وان قطع العقدة أسهل من حلها، وان المتنبي ما كان يجهل الناس حين قال:

إنما أنفس الأننَيْس سباع

يتفارسْنَ جهرة واغتيالا

من أطاق التماس شيء غلابا

واقتسارا لم يلتمسه سؤالا

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌الخيال الطارق

للدكتور طه حسين

أقبل صاحبي وجه النهار مرتاعاً حائل اللون، شاحب الوجه، حائر الطرف، طائر اللب، كأنما ألم به طائف من الجن فروعه ترويعاً، وأخرجه عن ذلك الطور الهادئ الرزين الذي كنت اعرفه منه إذا لقيته فتحدثت إليه، واستمعت لأحاديثه المطمئنة العذبة الخصبة.

أقبل مرتاعاً لا يكاد يبين إذا تحدث أو هم بالحديث، بل لا يكاد يستقر في مجلس، بل لا يكاد يمسك جسمه من رعدة كانت تلم به من حين إلى حين فتهزه هزاً عنيفاً، وتذكر بقول ذلك الشاعر القديم

وإني لتعروني لذكراك هزة

كما انتفض العصفور بلله القطر

وأشهد لقد أنفقت كثيراً من الجهد، واصطنعت فنوناً من الحيلة، لأرده إلى ما الفت فيه من دعة وأمن وهدوء، ولقد افتقدت في تلك الساعة بعض هؤلاء الشيوخ الذين يتلون العزائم والرقي، بعد أن أخفقت أو كدت اخفق فيما كنت أحاول من رده إلى الوقار والصواب. ولكن ظفرت آخر الأمر بما كنت أحاول، واستطعت أن أتحدث إلى صاحبي، وأن اسأله عن مصدر هذا الاضطراب العنيف الذي أصابه وما عرفته عرضة لاضطراب يصيب العقل أو يصيب الجسم. قال وهو ذاهل أو كالذاهل: إثم هذا على أبي العلاء أيها الصديق، فلولا إنني نظرت في كتاب من كتبه آخر الليل، لأذود به هذا الأرق الذي ألح عليَّ إلحاحاً لما أصابني ما ترى، بل لما أصابني ما لم تر من تلك الأهوال التي ألمت بي، واصطلحت عليَّ حتى نفرتني من داري وأزعجتني عن أهلي، ودفعتني إليك في هذه الساعة التي لم أتعود أن أسعى فيها إليك. وثق باني قد خرجت من داري معتزماً ألا أعود إليها، وقد أمرت أهلي أن يلتمسوا لنا داراً أخرى، وأزمعت الرحلة عن القاهرة أياماً، حتى إذا تم لهم ما أريد من التحول عن هذه الدار الموبوءة، عدت إليهم في دارنا الجديدة، لعلي أن أجد فيها ما أنا في حاجة إليه من الدعة وراحة البال. قلت ما أراك إلامريضاً تحمل مرضك على أبي العلاء وتكلفه من ذلك ما لم يقترف، وتكلف أهلك من آثار هذا المرض شططا. ومع أني لم أعرف بعد هذه الأهوال التي ألمت بك فأزعجتك عن دارك ودفعتك إلى ما تحاول من فراق القاهرة. فلست أرى بأساً بهذا الرحيل فقد طال مقامك في مدينتنا، وقد احتملت من الجهد

ص: 3

والعناء في عملك ما يضني الأصحاء والأقوياء، فكيف برجل عليل ضئيل مثلك، فارحل مصاحباً ولكن حدثني عما ألم بك من الهول؟ قال مصدره رسالة الغفران يا سيدي، فليت أبا العلاء لم يكتب رسالة الغفران، قلت لا تقل هذا ولا تكن أثراً، فان لغيرك في رسالة الغفران لذة ومتاعاً، وإذا كانت قد سلطت عليك الهول الذي لم أعرفه بعد، فإنها قد أتاحت لقوم آخرين في الشرق والغرب من الشهرة وبعد الصوت ما لم يسلط عليهم هولا من الأهوال، ولم يغربهم خطباً من الخطوب. ولكن هات حديثك. قال: ما أشك في أن أبا العلاء كان مجنوناً حين كتب هذه الرسالة. قلت رب جنون خير من العقل، ولكن هات حديثك. قال: أتذكر هذا السخف الذي أغرق فيه إغراقاً حين ذكر هذين البيتين القديمين من شعر النمر بن تولب:

ألم بصحبتي وهم هجوع

خيال طارق من أم حصن

لها ما تشتهي عسلا مصفى

إذا شاءت وحواري بسمن

قلت هذا من خير ما في الرسالة، وأي بأس عليه من أن يفترض أن الشاعر قد وضع مكان حصن في البيت الأول اسماً آخر كجزء أو حفص أو عمرو، ثم يلائم بين هذا الاسم وبين القافية في البيت الثاني، فهذا نوع من العبث المباح الذي لا يسوء أحداً، وهو مع ذلك يدرب الذاكرة ويظهر شيئاً من المقدرة اللغوية التي يحرص العلماء والأدباء على إظهارها. قال أنت الذي يزعم أن هذا العبث لا يسوء أحداً، وما رأيك في أنه قد ساءني وجشمني ما رأيت وما لم تر من الأهوال والخطوب. فقد أراد سوء الحظ أن أنظر في هذا الكتاب، وأن أقف عند هذا العبث، فأفكر في هذه الخيالات التي كانت تطرق المحبين والشعراء منهم بنوع خاص، والتي كانت إذا تطرق المحبين والشعراء منهم بنوع خاص، والتي كانت إذا طرقت هؤلاء الشعراء أنطقتهم بما تعرف وما لا تعرف من رائع الشعر وبارع الكلام. وأغرقت في هذا التفكير وجعلت استعين بالذاكرة على استحضار شيء من الشعر القديم الذي قاله الشعراء في الخيال الطارق والطيف الملم. ثم جعلت اسخر من أبي العلاء ومن جفاء طبعه وخشونة مزاجه، وجعلت ارثي لأم حصن هذه التي عبث الشاعر بها هذا العبث فلم يترك اسمها حيث وضعه النمر بن تولب، وإنما حذفه واخذ يضع مكانه أسماء أخرى بعدد حروف المعجم، ولو أنه كان رقيق القلب دقيق الحس ممتاز الشعور رفيقاً بالغانيات

ص: 4

لما أزعج أم حصن عن مكانها، ولما أقلقها عن موضعها، ولكنه رجل غليظ لا علم له بالحب، ولا حظ له من الرقة، ولا معرفة له بحسن معاشرة النساء.

وإني لفي ذلك وإذا أنا أحس كأن الأرض تدور تحت قدمي، وكأن كل شيء يضطرب من حولي، ولا أكاد التفت إلى ذلك وأفكر فيه حتى يهدأ من حولي كل شيء، وإذا شخص جميل قد قام مني غير بعيد، وهو ينظر إليَّ نظرة عطف، وعلى وجهه غشاء من كآبة حلوة، وعلى ثغره ابتسامة كأنها ابتسامة الرضى، ولكني لا أعرف شيئاً أصدق منها تصويرا للحزن والأسى، وتمثيلا للوعة والحسرة، ولست أدري كيف لم يرعني مقام هذا الشخص الجميل، فلم أظهر فزعاً ولا اضطراباً، وإنما أنست إليه وحققت النظر فيه فتبينت فتاة غضة الشباب رائعة الجمال، لولا أن شبابها يوشك أن يكون وهماً، ولولا أن جمالها يوشك أن يكون خيالا، تبينت شخصاً حياً متحركاً نضيراً، ولكنه على ذلك لا يخلو من شيء يشبه الموت، ومن شيء يشبه السكون، ومن شيء يشبه الذبول. وهو على هذا كله يذكرني بشخص كنت آلفه ويألفني، وكنت أكبره ويكبرني، وقد فقدته منذ حين، فجزعت عليه جزعاً شديداً، وكثيراً ما سألت نفسي أتراها قد ذكرتني قبل أن تلج باب الموت.

وإني لأنظر إلى هذا الشخص الماثل، وان هذه الخواطر لتمر أمام نفسي وادعة كأنها السحاب الرقيق، وإذا أنا اسمع صوتاً رقيقاً خافتاً حلوا يسعى إليَّ سعياً خفياً من ناحية هذا الشخص الماثل غير بعيد. وإذا هذا الصوت يحمل إليَّ تحية عذبة هي التي كنت اسمعها من صديقتي حين كنت ألقاها وجه النهار، وما اكثر ما كنت ألقاها وجه النهار. اصبح بخير يا سيدي. فأجيب اصبحي بخير يا سيدتي. انك تعرفني أو تكاد تعرفني، انك تذكرني وتسال نفسك الآن كما كنت تسألها من قبل، إذ ذكرتك حين فارقت الحياة وودعت الاحياء، نعم يا سيدي قد ذكرتك وألححت في ذكرك، وكلفت من يقرأ تحيتي عليك، ولولا الحياء لكلفت من يدعوك لزيارتي قبل أن أموت ولكن لم افعل، ولم يعرض علي ذلك أحد من الذين كانوا يحيطون بسرير الموت، على أني لست آسفة فأني لم اخسر شيئاً، لأني لم أفارق أحدا ممن كنت احب لقاءهم في تلك الحياة، إنما أنا أراهم وأسعى بينهم وأتحدث إلى نفوسهم وأسمع منها، وكل ما فقدته إنما هي هذه الأصوات التي كنت اسمعها، وهذه الأيدي التي كنت أصافحها. وثق بأنها لا تعدل شيئاً حين أقيسها إلى ما اسمع الآن من أحاديث

ص: 5

الضمائر ونجوى النفوس. وما كنت لأتراءى لك الآن لولا انك أغرقت في ذكر الخيال واستحضار الخيالات. ولست اخفي عليك أني كنت أريد حين تراءيت لك أن أداعبك بعض الشيء، فلا تظن أن الدعابة مقصورة على الاحياء، فقد يأخذ الموتى من الدعابة بنصيب أيضاً. كنت أريد أن أتراءى لك على أني أم حصن صاحبة النمر بن تولب، وان اشكر لك عطفك عليَّ ورفقك بي ولومك لأبي العلاء. ولكني لم استطع أن أخدعك لأني لم أتعود خداعك أثناء الحياة. ثم لأني إنما أقبلت إلى هذا المكان لألقى في روعك رسالة كنت أريد أن تبلغها عني، وكنت أريد أن القيها إليك كما تلقى الرسائل إلى الناس في الأحلام، ولكني رأيتك يقظان تنظر في هذا الكتاب فانتظرت لعل النوم أن يسعى اليك، ثم رأيتك تذكر الخيال وتستحضر الاطياف فتراءيت لك، وهل انا الأخيال أو طيف؟ لا تطل النظر إليَّ ولا تقل شيئاً فان نظر الاحياء يؤذيني، وان اصوات الاحياء تثقل عليَّ، ولكن اسمع مني ولتتحدث نفسك إليّ إذا لم يكن لك يد من حديث، واني لأعلم انك تريد أن تسألني كيف اتحدث اليك بصوت يشبه صوت الاحياء، واشفق مع ذلك من سماع صوتك فانا لا اتحدث اليك بصوت يستطيع غيرك أن يسمعه، إنما انت الذي يمنح هذا الصوت قوته وتشخصيه، ولو أن في هذه الغرفة قوماً غيرك لما رأوا من شخصي ما ترى، ولما سمعوا من صوتي ما تسمع، ولكن اصغ اليّ فاني أحس مقدم النهار، واني أكره هذا الضوء الذي يغمر الكون حين تشرق الشمس، والذي كنت أحبه أشد الحب اثناء الحياة، والذي لم احزن على شيء حزني على فراقه قبل أن أموت، والذي لم أتسل عن شيء كما تسليت عنه الآن.

أصغ إليّ فان أريد أن ألقي إليك رسالتي، وان أنصرف عنك قبل أن يهجم ضوء النهار فيبدد ظلمة الليل، وإني لحريصة على أن ألقاك، فان كان لقائي يرضيك الآن كما كان يرضيك من قبل، فأنتهز فرصة كهذه الفرصة، في ساعة كهذه الساعة، وانظر في هذا الكتاب وأطل التفكير فيه، فقد أستجيب لدعائك حينئذ. ثم سكت هذا الصوت قليلاً، وإنما قتلني معه الحب أيضاً، فقد تذكر أن زوجي فارقني قبل أن أموت بأشهر، لأن مرضي المتصل قد ثقل عليه، وقد تذكر اني كنت أظهر تجلداً وعزاء، وقد تعلم أني كنت اخفي في ذلك غير ما اضمر، وانك كنت تشفق علي مما كنت أخفيه. وكنت تود لو استطعت ان تسليني عن بعض ما اجد، فاعلم الآن اني حين ثقلت على العلة، وتورمت اطرافي، ورأى

ص: 6

الطبيب ان ينزع ذلك الخاتم الذي كان آخر ما بقي لي من زوجي، لم اشك في انه سينزع معه الحياة من هذا الجسم المريض، ولم اكره ذلك، وأي بأس من مفارقة العلة واليأس. فأبلغ زوجي إني فارقت الحياة وانا أحبه، وان مقامي في هذه الارض بعد الموت لن يطول، وأنه خليق ان يعلم اني أراه وارافقه، وأنه خليق أن يرعى ذلك وان يذكرني في شيء من الخير والرفق والوفاء، حتى إذا آن لهذا الخيال ان يصعد في طبقات الجو وان يمضي إلى ذلك العالم الذي تعيش فيه خيالات الموتى، وان تنقطع الصلة بينه وبيني من الاسباب. قالت ذلك ثم نظرت اليّ نظرة قوية حادة، لم استطع ان أثبت لها، وإنما أطرقت برأسي إلى الارض خائفاً وجلا. ثم رفعت رأسي بعد ذلك ونظرت فلم أر شيئاً، وتسمعت فلم ينتبه إلى صوت وانما هي رسالة الغفران مبسوطة أمامي أرى فيها عبث ابي العلاء حول شعر النمر بن تولب. هنالك أخذني هلع ما أعرف اين احسست مثله من قبل، وملكني روع كاد يدفعني إلى الصياح لولا بقية من عقل، وفضل من حياء، ففارقت غرفتي وهبطت إلى الحديقة أهيم فيها انتظر مطلع النهار، حتى إذا ارتفعت الشمس قيلاً أوصيت أهلي بما أوصيت واسرعت اليك. أترى بعد ذلك ان سخف أبي العلاء لم يسؤ أحداً؟ قال ذلك ثم أخذته رعدة غريبة اشفقت أن ترده إلى مثل ما كان عليه من الوجل والاضطراب، فما زلت به حتى رددت إليه الامن والهدوء. وقلت مداعباً: ويحك! ألم تقرآ كتاب أناطول فرانس ذلك الذي سماه جريمة سلسفتر بونار؟ إن فيه قصة ان لم تكن تشبه قصتك هذهمن كل وجه، فانها قريبة منها إلى حد ما، وما أرى إلا انك قد ذكرت صاحبتك هذه في ضوء النهار أو في ظلمة الليل، حتى إذا أخذت تنظر في كتابك اخذك هذا النوم الخفيف الذي تتراءى فيه الأشباح والخيالات. قال مغضباً: اقسم لك ما كنت نائماً ولا قريباً من النائم، وإنما كنت يقظان أشد ما يكون الناس يقظة وانتباهاً، ولكن ما نفع الحديث معك في هذا وأنت لا تؤمن بعالم الخيال. قلت: فاني أشفق عليك من ايمانك هذا فقد تسطيع أن تتحول عن دارك، وان تفارق القاهرة، وأن تنزل من الارض أي منزل شئت، فسيتراءى لك هذا الخيال كلما خطر له أن يتحدث اليك، أو أن يحملك رسالة إلى الاحياء. وماذا تريد الآن أن تصنع برسالته هذه؟ أتحملها إلى من أنت مكلف أن تحملها إليه أم تكتمها؟ فان تكن الاولى فماذا تصنع إن لقيك باللوم لانك تعرض لما لا ينبغي لك أن تدخل فيه، وان تكن الثانية

ص: 7

فماذا تصنع إن ألم بك الخيال وسألك عن تبيلغ الرسالة وتأدية الأمانة والوفاء بالعهد؟ هنالك نهض صاحبي مغاضباً وهو يقول: ما أشد بغضي للذين يمزحون في غير أوقات المزاح. ثم انصرف عني وانا شدي الاشفاق عليه وعلى كثير من امثاله الذين تطرقهم هذه الخيالات فتملأ قلوببعضهم أمناً ورضى، وتملأ قلوب بعضهم الآخر خوفاً وروعاً.

طه حسين

ص: 8

‌سبيل الخلاص من الامتيازات الأجنبية

للدكتور عبد الرزاق احمد السنهوري

الأستاذ بكلية الحقوق

- 1 -

قد لا يكون هذا الموضوع الذي أعالجه وثيق الاتصال بالموضوعات الأدبية والعلمية التي اعتاد كتاب الرسالة أن يطالعوا بها قراءها. ولكني مع ذلك لا أتردد في أن أرسل بمقالي هذا إلى الرسالة. فان مسألة الامتيازات الأجنبية أصبحت في هذه الأيام من أكبر المسائل خطراً وأشدها تعقداً. والرسالة تتسع جوانبها لكل مسالة تشغل الرأي العام.

وما بي أن أعالج الامتيازات الأجنبية من نواحيها المألوفة: الامتيازات جائرة، لا يتفق أصلها التاريخي مع حقيقتها الواقعة، لا يصح أن تستسيغها أمة لها حظ من الكرامة، لا يجوز التواني عن المطالبة بإلغائها، بل هي قد سقطت بتغير الظروف طبقاً لمبادئ القانون الدولي المعروفة. كل هذا أصبح معروفاً مستقراً في الأذهان. وإنما يعنيني أن أتلمس سبيلا عملياً إلى التخلص من هذه الامتيازات.

وإنه ليبدو لي ضرورياً أن تكون للحكومة المصرية خطة مرسومة للتخلص من الامتيازات الأجنبية. أما ترك الأمر للظروف فليس بمنتج شيئاً ولا يتفق مع ما لمسألة لا تقل في الأهمية عن مسألة الاحتلال الإنجليزي للبلاد. فالتخلص من الاحتلال مع بقاء الامتيازات لا يفيد كثيراً، إذ نبقى مقيدين في أهم مقدمات السيادة الداخلية للدولة: التشريع والقضاء والإدارة. فلا يصح إذن في مسألة لها هذه الأهمية أن نترك أنفسنا تسوقنا المصادفات وتسيطر علينا الحوادث. ولقد شاءت المصادفة أن يتنحى رئيس إحدى الدوائر في محكمة مصر المختلطة عن نظر أحد القضايا، فترتب على هذا التنجى هذه الأزمة الحالية التي لا نزال نخوض غمارها وإني لأخشى، ونحن نعتمد على المصادفات، أن ننصرف عن هذه المسألة الحيوية بمجرد انتهاء المناسبات التي دعت إلى الاشتغال بها. فكم سبق هذه الأزمة أزمات شغلت الرأي العام قليلاً أو كثيراً، ثم ما لبث أن انصرف عنها، ولم يعد يذكرها، حتى تقوده المصادفة المحضة للعودة إليها. ثم إني لأخشى أن تقتصر الحكومة المصرية في

ص: 9

معالجة هذه المسألة الخطيرة، على ناحية أو ناحيتين منها، مكتفية بما ساقته المصادفات أمامها من المشاكل، فتفاوض في رياسة الدوائر أو في مسألة اللغة العربية، أو في غير ذلك من المسائل التفصيليلة. وما هذه وغيرها ألا أعراض لمرض مستحكم، لا تجدي فيه معالجة الأعراض دون استئصال مواطن الداء. يجب أن يكون للحكومة المصرية خطة شاملة عامة لمعالجة مسألة الامتيازات في مجموعها. وهذا ما جعلني أدلي برأي في هذا الموضوع الخطير، وادعوا رجال القانون إلاالإدلاء بآرائهم، حتى تتمحص الآراء، فترتسم أمامنا الخطة العملية لتخليص البلاد من هذه النكبة.

لا يجوز أن ننسى أن مسألة الامتيازات لها جانب سياسي غير جانبها القانوني. وقد يكون هذا الجانب السياسي هو أشد الجانبين استعصاء على الحل. وكل محاولة ترمي إلى إيجاد حل عادل للمسألة، ولا تبدأ بمعالجتها من جانبها السياسي، مقضي عليها بالفشل. إنجلترا تزَّعم لنفسها حق حماية المصالح الأجنبية في مصر. وقد تقدمت بهذه الدعوى في مشروع ملنر، وفي تصريح 28 فبراير، وفي مشروع كيرزون، وفي كل المشروعات التي تلته. وقد كانت تفرع على هذه الدعوى دعوى أخرى لا تقل عنها انتقاصاً لسيادة البلاد: كانت تطلب أن تأخذ من مصر تفويضاً تتولى بمقتضاه مفاوضة الدول ذوات الامتيازات. ثم نزلت عن هذه الدعوى منذ المفاوضات التي دارت مع المرحوم ثروت باشا. ويظهر أنها أخذت تفكر أخيراً في الرجوع ثانية إلى هذه الدعوى.

فهناك أمران يجب الاحتراز منهما في أية محاولة نقدم عليها لحل مشكلة الامتيازات: (أولاً) ألا نعطي لإنجلترا سبيلا لمفاوضة الدول ذوات الامتيازات. فان المعاهدات التي تقوم عليها الامتيازات الأجنبية قد ورثنا بعضها عن تركيا وعقدنا البعض الآخر مع الدول. فقيام إنجلترا بالمفاوضة ليس معناه إلا تسليما منا بدعواها حماية المصالح الأجنبية. وإلا فان الوضع الطبيعي للمسألة يقتضي إلا يكون تعديل هذه المعاهدات أو إلغاؤها إلابمعاهدات تكون مصر طرفاً فيها. ولا يمنع هذا من تلمس معونة إنجلترا ووساطتها الودية في المفاوضات التي تقوم بها الحكومة المصرية مع الدول، والفرق كبير بين ان تبذل إنجلترا وساطتها لتأبيد جهودنا وبين ان تكون هي الطرف المفاوض. (ثانياً) أن تلقى بنا رغبتنا الملحة في التخلص من الامتيازات فيما هو أشد خطراً منها. فما دامت إنجلترا على دعواها

ص: 10

من حماية المصالح الأجنبية، فان أي حل توافق عليه يكون من شأنه تأييد هذه الدعوى وتدعيمها. فالواجب إذن أن ننظر في المسألة من أساسها، وأن نقدم معالجة دعوى إنجلترا في حماية المصالح الأجنبية على معالجة الامتيازات، ولا نحاول الثانية قبل أن ننتهي من الأولى. وإلا فان التسليم لإنجلترا بحماية الأجانب في مصر انتقاص خطير من سيادة البلاد، وفتح الباب لتدخل الإنجليز في شؤوننا الداخلية.

نرى مما تقدم أن المساعي التي تبذلها مصر في إلغاء الامتيازات الأجنبية يجب أن تكون مسبوقة بتفاهم تام مع إنجلترا، على أن تعديل هذه الامتيازات أو إلغاءها لا يكون إلا على أساس أن تسترد مصر حقوق سيادتها التي انتقصت منها هذه الامتيازات؛ لا أن تنتقل هذه الحقوق إلى إنجلترا. فإذا تم هذا التفاهم، سواء أكان ذلك في مفاوضات عامة شاملة لحل المسألة المصرية في مجموعها، أم في مفاوضات خاصة بهذه المسألة إذا لم يتهيأ السبيل لمفاوضات عامة. يمكن بعد ذلك تلمس السبيل العملي للوصول إلى إلغاء الامتيازات.

ونحن نقترح سبيلا عمليا يكون سيرنا فيه مقروناً بالحكمة، فلا نتخذ تدبيراً إلاإذا دعت إليه الضرورة. نحاول اولاً التفاهم مع الدول ذوات الامتيازات أنفسها على تعديل النظام الحالي للامتيازات، فقد أصبح هذا النظام يصطدم مع الكرامة والعدالة والمصلحة. فان لم تفلح عرضنا على إنجلترا أن تؤيدنا في إلغاء الامتيازات بإعلان يصدر من جانبنا، بشرط ألا تجعل من هذا التأييد وسيلة لتثبيت دعواها في حماية المصالح الأجنبية؛ فان لم نفلح أخذنا على أنفسنا مسئولية إلغاء المحاكم المختلطة وإلغاء الامتيازات معاً، أو الاقتصار على إلغاء النظام الأول دون الثاني. ونفترض في كل هذا أن الشعب المصري يؤيد الحكومة التي تتولى اتخاذ هذه التدابير، إذ لا يجوز لأية حكومة مصرية لا تحوز ثقة الشعب أن تقدم على إلغاء الامتيازات، فان الأقدام على هذا الأمر الخطير يقتضي أن يكون للحكومة سند من الشعب، والحكومة التي تفقد هذا السند ليس أمامها إلا أن ترتمي في أحضان إنجلترا، فتجر على البلاد نكبة أشد وبالا من نكبة الامتيازات.

وها نحن أولاء نفصل ما أجملناه، ونقسم السير في الطريق الذي نقترحه إلى خطوات:

الخطوة الأولى

تستصدر الحكومة المصرية مرسوماً بإلغاء المحاكم المختلطة طبقاً لقانون نمرة 28 سنة

ص: 11

1921، وتنشر هذا المرسوم في الجريدة الرسمية، حتى يكون الإلغاء نافذاً بعد سنة من نشره.

الخطوة الثانية

بعد نشر هذا المرسوم تدعو الحكومة المصرية الدول ذوات الامتيازات إلى الدخول معها في مفاوضات بشأن تنظيم الحالة التي ستجد عقب إلغاء المحاكم المختلطة

ونحن نشدد في استصدار المرسوم بإلغاء المحاكم المختلطة ونشره قبل الدخول في مفاوضات مع الدول، لأن هذا هو السبيل لإقناع هذه الدول بأن الحكومة المصرية ومن ورائها الأمة تؤيدها، قد عقدت العزم على السير في طريقها، ولو لم تؤد المفاوضات إلى اتفاق، وان مصير المحاكم المختلطة قد أصبح محتوماً، فلا مناص من إلغاء هذه المحاكم مهما كانت نتيجة المفاوضة. وفي هذا معنى خطير لا يفوت الدول، ولا يمكن إلاأن يكون مؤثراً في سير المفاوضات.

وتكون الدعوة إلى المفاوضة مصحوبة بمذكرة تبين فيها الحكومة المصرية الأسس التي تقترحها لإقامة النظام الجديد الذي يعقب إلغاء المحاكم المختلطة.

وفي رأينا أن تكون هذه الأسس مبنية على دعائم ثلاث: (أولاً) إيجاد محاكم جديدة تحل محل المحاكم المختلطة، ولكنها تختلف عنها اختلافاً كبيراً من حيث تقوية العنصر المصري فيها، فهي ستكون محاكم مصرية قانوناً وعملاً، (ثانياً) استرداد ما فقدته الدولة المصرية من حقوقها التي لا تأباها عليها نفس الامتيازات حسب وضعها الأصلي، كحقها في سن تشريعات عقارية ولوائح بوليس تسري على الأجانب دون موافقة الدول. واسترداد الحقوق التي أنكرتها عليها المحاكم المختلطة الحالية من طريق التوسع في تفسير اختصاصها توسعاً لا يسيغه المنطق القانوني الصحيح. ثم استرداد الحقوق التي أنكرتها المحاكم المختلطة، لا من طريق التوسع في التفسير، بل من طريق خرق التقاليد القضائية أو النصوص القانونية الصريحة. فان المحاكم المختلطة، وهي معقل الامتيازات الأجنبية في مصر قد عملت على تقوية الامتيازات من هذه الطرق المختلفة. توسعت في تفسير النصوص فحملتها مالا تحتمله، كما فعلت في نظرية الصالح المختلط وفي تفسير معنى الأجنبي. ثم خرقت التقاليد القضائية بإنكارها على القاضي المصري أن يتولى رياسة دائرة

ص: 12

هو أقدم أعضائها، دون أن يكون هناك في القانون ما يمنعه من ذلك. ولجأت أخيراً إلى إنكار النصوص الصريحة، كما فعلت عندما أنكرت على اللغة العربية أن تكون لغة رسمية تنطق بها الأحكام ويجري بها التقاضي.

(ثالثاً) توقيت النظام الجديد الذي يحل محل النظام القديم، حتى يتهيأ لمصر في الوقت المناسب أن تتخلص من هذا النظام الجديد أيضاً كما تخلصت من النظام الذي سبقه، ولا يكون في البلاد إلانظام واحد في التشريع والقضاء يسري على جميع سكان مصر.

وتطبيقاً لذلك نرى أن تدعو الحكومة المصرية الدول لعقد معاهدة يكون من حق الحكومة المصرية إنهاؤها بإعلان يصدر من جانبها بعد سنة من تاريخ نشر هذا الإعلان. وفي حالة إنهاء المعاهدة لا يعود النظام الحالي للمحاكم المختلطة بل يعتبر هذا النظام قد ألغي بصفة نهائية. وتتناول المعاهدة جوانب ثلاثة: التشريع والقضاء والإدارة.

1 -

التشريع

ينص في المعاهدة على أن التشريع المصري يكون نافذا على الاجانب، بما فيه التشريع المالي، إذا مضى ثلاثون يوماً من عرض هذا التشريع على الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة الجديدة (وسنبين تشكيلها فيما بعد) دون أن تقدم هذه الجمعية اعتراضاً على التشريع المذكور. ولا يجوز الاعتراض على أي تشريع مصري إلاإذا كان هذا التشريع يتضمن مبادئ تتنافى مع المبادئ العامة التي يقرها العالم المتمدين في التشريع تنافياً يخل بالعدالة. وتبين الجمعية العمومية المسائل التي لاحظت فيها هذا التنافي. فإذا اقتنعت الحكومة المصرية بوجهة نظر الجمعية العمومية لا يكون التشريع نافذاً على الأجانب ذوي الامتياز، وإن لم تقتنع كان لها أن ترفع الأمر إلى محكمة لاهاي. أما فيما يتعلق بالتشريع المالي فلا يجوز للجمعية العمومية أن تعترض على ضريبة تفرض إلاإذا أخلت بالمساواة فيما بين الأجانب، أو فيما بينهم وبين المصريين، عدا الضرائب الخاصة بالأجانب التي يكون لها نظير في البلاد المتمدينة. ولا يعتبر إخلالاً بالمساواة أن تفرض ضريبة على جميع السكان، حتى لو تبين أن عبء هذه الضريبة يقع على عاتق الأجانب أكثر مما يثقل كاهل المصريين، بسبب أنها تتناول أعمالا يغلب فيها العنصر الأجنبي كالشركات. وإذا اعترضت الجمعية العمومية على تشريع مالي لانه لا يحقق المساواة

ص: 13

المطلوبة، كان للحكومة المصرية أن ترفع الأمر إلى محكمة لاهاي. ويستثنى من الأحكام المتقدمة ما يأتي:

(1)

أي تشريع يعدل أو يلغي حكماً من أحكام هذه المعاهدة، فهذا لا يكون نافذاً على الأجانب ذوي الامتياز إلا بعد الاتفاق مع دولهم على ذلك

(2)

التشريع الخاص بعقار، بما فيه الضرائب العقارية، فهذا يكون نافذاً على الأجانب دون حاجة إلى عرضه على الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة

(3)

لوائح البوليس التي تفرض عقوبة لا تزيد عل عقوبة المخالفة، وهذه أيضاً تكون نافذة دون حاجة إلى عرضها على الجمعية العمومية. وغني عن البيان أن التشريعات التي تطبقها المحاكم المختلطة الحالية (كالتقنينات الستة المعروفة) تعتبر تشريعات نافذة دون حاجة إلى عرضها على الجمعية العمومية، إلاإذا رأت الحكومة المصرية تعديل هذه التشريعات (وستظهر ضرورة ذلك بنوع خاص في القانون الجنائي وقانون الإجراءات الجنائية وعند تنقيح القانون المدني)، ففي هذه الحالة تعرض التعديلات التي يراد إدخالها على الجمعية العمومية على النحو الذي بيناه فيما تقدم.

هذه هي المقترحات الخاصة بالتشريع، ونتولى الآن تبريرها. فهي قسمان: قسم أقرته إنجلترا في المقترحات التي عرضتها على مصر عند ما دارت المفاوضات المختلفة بين الدولتين. وقد ورد ذكر ذلك في المذكرة البريطانية المتعلقة بالامتيازات في المفاوضات التي دارت بين المستر هندرسون ومحمد محمود باشا إذ جاء فيها ما يأتي: (وسأكون مستعداً للاتفاق على أن تقوم الجمعية العمومية للمحاكم المختلطة في المستقبل بإبداء كل موافقة لازمة لتطبيق التشريع المصري، ومن ضمنه التشريع المالي، على الأجانب، إلافي حالة التشريع الخاص بتشكيل المحاكم المختلطة وتديد اختصاصاتها، فانه لا ينفذ إلا بموافقة الدول عليه. ويكون على الجمعية العمومية للمحاكم المختلطة أن تتثبت من أن التشريع المشار إليه لا يناقض المبادئ التي يجري العمل بموجبها عادة في التشريع الحديث الذي يسري على الأجانب. وأنه فيما يتعلق بوجه خاص بأي تشريع ذي صفة مالية لا يوجد تمييز غير عادل ضد الأجانب بما فيهم الشركات الأجنبية، (انظر الكتاب الأخضر الخاص بهذه المفاوضات ص10). ومن هذا يتبين أننا لم نأت بجديد إلافي شيء واحد. فالمذكرة

ص: 14

البريطانية تشترط موافقة الجمعية العمومية على كل تشريع مصري يراد سريانه على الاجانب، أما نحن فنكتفي بعدم اعتراض هذه الجمعية على التشريع المقدم إليها. والفرق ما بين الأمرين ظاهر، ففي الحالة الأولى يجب أن تكون هناك أغلبية توافق على التشريع حتى يسري على الاجانب، أما في الحالة الثانية فيجب أن تكون هناك أغلبية تعترض على التشريع حتى لا يسري على الأجانب، فإذا انقسمت الجمعية في أمر تشريع إلى فريقين متساويين في العدد، لم يسر التشريع على الأجانب في الحالة الأولى وسرى في الحالة الثانية. ولا يخفي ما لهذا الأمر من الأهمية إذا لوحظ أن نصف أعضاء الجمعية العمومية يجب أن يكون من المصريين كما سنبين ذلك فيما يلي. أما فيما يتعلق برفع الأمر إلى محكمة لاهاي، فهذا هو المبدأ الذي تقرر في المفاوضات التي دارت بين إنجلترا ومصر.

والقسم الثاني من هذه المقترحات جديد، وهو خاص بالتشريع العقاري وبلوائح البوليس. هذه تشريعات نريد ان نسترد فيها حقوق مصر الضائعة. فان للمشرع المصري حتى بمقتضى الامتيازات الأجنبية، الحق في أن يسن قوانين تسري على الأجانب، دون حاجة لموافقة الدول أو لموافقة الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة، إذا كانت هذه القوانين خاصة بالعقارات في مصر، سواء أكانت هذه القوانين مالية (أي تفرض ضريبة عقارية) أم غير مالية. وذلك أن الأجانب لم يسمح لهم قانوناً بتملك عقار في مصر إلاعلى أساس الفرمان العثماني الصادر في سنة 1867، وقد اشترط هذا الفرمان في تملك الأجنبي للعقار أن يخضع للقوانين واللوائح التي يخضع لها الرعايا العثمانيون، وأن يدفع جميع التكاليف والضرائب التي تجبى أو يمكن أن تجبى في المستقبل على العقارات في المدن أو في القرى، تحت أي شكل كانت، وبأي اسم سميت. فمن حق مصر أن تسترد هذا الحق الضائع، فإن اغتصابه منا خرق للامتيازات الأجنبية نفسها التي يحتج بها الأجانب علينا وكذلك الأمر في لوائح البوليس، فقد كان لمصر سن هذه اللوائح، وكانت تسري على الأجانب قبل وجود المحاكم المختلطة نفسها. وتأيد هذا الحق بنص المادة العاشرة من القانون المدني المختلط، وبنص المادتين 331 و 340 من القانون الجنائي المختلط

(تتمة البحث في العدد القادم)

عبد الرزاق السنهوري

ص: 15

‌مقياس الرقي

للأستاذ أحمد أمين

سألني أديب سوري، بمناسبة مقال كتبته عنوانه (المسلمون أمس واليوم)

بم نعد أمة أرقى من أمة، وما العوامل التي نحسبها ونقيس بها الرقي؟ وفي الأمة الواحدة - إذا سئلنا أكانت بالأمس خيراً منها اليوم، أم هي اليوم خيرٌ منها أمس. فأي النواحي نرعاها عند النظر؟

والحق أنها أسئلة في منتهى الصعوبة، يحار المجيب عنها أي العوامل يحسب وأيها يترك، وأيها لها قيمة كبيرة الأثر وأيها ضعيف الأثر؟

قد يجيب مجيب إجابة سهلة من طرف اللسان فيقول (مقياس الرقى في الأمم الأخلاق) فأرقى الأمم أحسنها خلقاً ولكن هذه الإجابة لا تقنع، فالأخلاق متغيرة، وكل عصر له أخلاق يتطلبها وواجبات ينشدها، وما علينا الآن من واجبات أضعاف ما كان على أجدادنا منها، أصبح واجباً علينا أن نعلم أولادنا في المدارس، وما كان ذلك واجباً من قبل إنما كان تبرعاً من الأب، وأصبح واجباً علينا ترقية الوطن من جهات متعددة وما كان ذلك واجباً من قبل، وان كان واجباً فواجب غامض ليس محدود المعنى ولا معين الاتجاه، وكان آباؤنا يعدون من أرقى الأخلاق في الأمة حجاب نسائها وبناء سور متين بين الرجل والمرآة، فأصبحنا نرى الواجب أن تتعلم المرآة كما يتعلم الرجل، ومن حقها أن تسمع المحاضرات مع الرجل، وأن تتمتع بالحياة البريئة كما يتمتع الرجل، فإذا قلنا مقياس الرقي الأخلاق كانت كلمة عامة تدل على كل شيء ولا تدل على شيء.

وقوم يقيسون الرقي بالدين، وهي كذلك كلمة عامة يختلف مداولها باختلاف أنظار الناس فيضيق عند بعض الناس حتى لا يسع إلا الصلاة والصوم والزكاة والحج، ويتسع عند بعض الناس حتى يشمل كل شيء.

وفي الحق أن هناك مناحي للحياة مختلفة متعددة يجب أن ينظر إليها كلها لتقويم الرقي - ففي كل أمة مجموعة من المرافق، يعد كل مرفق منها كالخلية في الجسم الحي: من حكومة وتعليم ولغة ودين وأسرة ونظام اقتصادي ونحو ذلك، كلها تتغير وكلها ترقى أو تنحط، وكلها في حركة مستمرة دائماً إما إلى الإمام وإما إلى الخلف. وكلها تتفاعل تفاعلاً قوياً،

ص: 17

يؤثر قويها في ضعيفها، وضعيفها في قويها - وهذا التغير الدائم في كل هذه المرافق هو مقياس الرقي والانحطاط، فان كان تغيراً إلى سمو فرقي، وان كان تغيراً إلى تدهور فانحطاط

وحسبان هذا ليس بالأمر اليسير، فقد تتدهور بعض المرافق لأسباب خاصة، وتسمو بعض المرافق لأسباب كذلك، ثم تتفاعل عوامل الضعف والقوة فينشأ من ذلك عملية حسابية من أصعب المسائل حلا. والمثل الأعلى للأمة أن يكون كل مرفق من مرافقها الاجتماعية يؤدي عمله خير اداء، ويتنقل في سمو أبداً، وأن يكون سيره ورقيه في حالة ملائمة ومناسبة لسائر المرافق الاجتماعية، لا يطفر عنها ولا يقعد بها - فالأمة التي تختار أحسن النظم في التربية والتعليم ولا تساعدها اللغة على المصطلحات الحديثة لا ترقى في التربية والتعليم حتى تحل مشكلتها اللغوية، والأمة التي تختار أحسن النظريات الفقهية وخير النظم القضائية، ثم لا يعينها على ذلك حالة الأسر الأخلاقية وحالة المعاملات بين الأفراد لا يمكن على ذلك حالة الأسر الأخلاقية وحالة المعاملات بين الأفراد لا يمكن أن ترقى بنظرياتها الفقهية من الناحية القضائية، والأمة التي تسن أرقى أنواع الإصلاحات الاجتماعية ثم لا تعينها الناحية الاقتصادية تصبح وإصلاحاتها تسر القارئ ولا تسر الناظر وهكذا.

وهناك دلائل قوية تدل الباحث على رقي الأمة وتدهورها وسيرها إلى الإمام أو إلى الخلف، إما بمقارنتها بغيرها من الأمم في نواحي معينة أو بمقارنتها بنفسها في عصرها الحاضر وعصرها السابق، والمقارنة الأولى تدلنا على الدرجة التي تقف عليها الأمة في سلم الرقي العام، والمقارنة الثانية تدلنا على اتجاه سيرها: إلى فوق أو إلى تحت

من أهم هذه الدلائل تعرّفُ موقف الامة ازاء ما يحيط بها من ظروف طبيعية واجتماعية: هل هذا الجيل أحسن استخداما لبيئته وما يحيط به؟ هل استطاع أسلافه؟ هل استخدم المنابع القديمة خيراً مما استخدمها آباؤه؟ هل كان في حله لما يعرف له من المشاكل الاجتماعية والطبيعية أكثر توفيقاً؟ لمّا عَرَضت هذه المصاعب أو أمثالها لنا ولآبائنا كيف حلوها وكيف حللناها، وما منهجهم في الحل وما منهجنا؟ ما مقدار تضامن الأفراد يومذاك في التغلب عليها، وما مقدار تضامننا اليوم؟ لكل أمة مقدار من الثروة. فهل زادت؟ وهل استطاعت اليوم أن تسعد بثروتها أكثر مما كانت تسعد بها من قبل؟ هل استخدمت العلم

ص: 18

أحسن مما أستخدمه آباؤها فقلت الوفيات وتحسنت صحتها، وجمل منظرها، ونظفت عيشتها، وأصبح نيل القوت أسهل وأيسر حتى تفرغ كثير من أبنائها وبناتها للعلم والفن والأدب؟ أظن إن هذه الأسئلة متى حددت بهذا الشكل لم تكن الإجابة عليها عسيرة، وبذلك نستعين على تعيين الاتجاه ومقدار الرقي إن كان.

ومن ناحية أخرى، ربما عد من أكبر دلائل الرقي في الأمة (تذليل العقبات أمام الكفايات) فخير الأمم من أفسحت السبيل أمام أفرادها ليرقوا كما يشاءون حسب استعدادهم وجدهم، في التعلم، في الوظائف، في النواحي السياسية والاجتماعية - وقد قطعت الأمم المتمدنة في ذلك خطوات واسعة، فأزالت احتكار الأرستقراطية للمناصب العليا، وسهلت وسائل التعلم لمن شاء، واعتمدت في تقدير الأشخاص على مزاياهم لا على بيتهم - إلى درجة كبيرة - وحاربت (المحسوبية) والنزعات الأرستقراطية، وقضت على النظام الإقطاعي الذي يميز بين الطبقات، ويضع حداً فاصلاً بينها لا يمكن كل فرد بذكائه ومواهبه أن يصل إلى ما يستطيع من رقي - وإن كانوا هم أنفسهم يصرحون بأنهم لم يبلغوا الغاية في ذلك، وأن أمامهم عقبات شاقة ومسافات طويلة يجب أن يقطعوها حتى يسهل على كل فرد تحقيق غايته وبلوغ شأوه

وربما كان كذلك من أهم دلائل الرقي النظر إلى ثروة الأمة ومقدار ما يصرف منها على (الصالح العام) من مدارس ومصانع ومساجد ومتنزهات وحدائق وماء وإنارة ونحو ذلك ولست أعني النظر إلى كمية ما يصرف فحسب، ولكن أعني أيضاً كيفية الصرف، وهل أنفق هذا القدر في أحسن السبل وهل هناك وجه آخر خير منه؟. كذلك لست أعني ما ينفق في ذلك من ميزانية الحكومة فقط، ولكن اعني أيضاً مقدار شعور الأفراد في هذا الباب ومقدار ما يتبرعون به من أموالهم لهذا الصالح العام، فليست ثروة الأمة مقصورة على ميزانية الحكومة ولكنها تشمل ثروة الأفراد (وفي أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم) فالأمة التي لا يشعر أغنياؤها بواجب في أموالهم لفقرائها، أو يشعرون شعوراً ضعيفاً لا يقوى على استخراج المال من جيوبهم، أمة منحطة إذا قيست بغيرها من الأمم التي كثرت فيها المدارس والأندية والمستشفيات والجمعيات الخيرية من مال أغنيائها

ومما يتصل بهذا الأمر، النظر في ميزانية الأُسَر في الأمة وكيف تنفق، فأمة خير من أمة

ص: 19

إذا عرفت أسرها كيف توازن بين دخلها وخرجها، وكيف تفرق بين الضروري والكمالي وما ليس بضروري ولا كمالي، ولم تسمح لنفسها أن تصرف في الكمالي حتى تستوفي الضروري، ولا في غير الضروري والكمالي - حتى تستوفي الكمالي، فذلك - من غير شك - يجعل الأسر أسعد حالاً، وأهدأ بالا، وأكثر استعداداً للرقي، وهل الأمة إلامجموعة من الأسر؟ وهل رقي الأمة إلاحاصل جمع رقي الاسر، وكما أن أسرة قد تكون أسعد من أسرة مع إن دخلها أقل وثروتها أضعف، ولكن عقلها أكبر، وتصريفها لمالها أدق، فكذلك الأمم ليس خيرها أغناها، ولكن خيرها من عرفت كيف تستخدم مالها وأحاطت ما تملك بوسائل اجتماعية، وكمية كبيرة من الإصلاح تجعل مالها يتضاعف في القيمة وإن لم يتضاعف في العدد - فكم من الأمم لها ثروة كبيرة طبيعية ولكن لم تعرف كيف تستخدمها ولا جزءاً منها، ولو حلت محلها أمة أخرى لصيرت صحراءهابستاناً وجبالها جناناً، ولجعلت ترابها ذهباً وأرضها عجباً.

ومن أجل هذا لم يخطئ كثيراً من حصر مقياس رقي الأمة في مقدار تغلبها على طبيعة بلادها وتعديل نفسها حسب ما يحيط بها - لأنها لا تصل إلى ذلك إلا بمقدار كبير من العلوم الطبيعية يمكنها من الانتفاع بأرضها وجوها وبقدر وافر من العلوم الاقتصادية يبين لها كيف تستغل منابعها، وبقدر وافر من العلوم الاقتصادية يبين لها كيف تستغل منابعها، وبمقدار صالح من النظم السياسية والاجتماعية والأخلاقية يهيئ للأفراد سبل الانتفاع بما حولهم ويعدهم خيراً عداد للنظر في مصالحهم.

فليتساءل الشرقي في ضوء هذا: أين هو في نفسه، وأين هو في أمته، وأين أمته في العالم؟

أحمد أمين

ص: 20

‌الحرب في بلاد العرب

تطور الحوادث في الجزيرة وصداه في الأفق الدولي

للأستاذ محمد عبد الله عنان

أسفرت المعارك التي نشبت في الأسبوعين الأخيرين في هضاب عسير وتهامة بين القوات السعودية والقوات اليمانية عن نتائج خطيرة حاسمة فيما يظهر؛ فقد استطاعت القوات السعودية أن تتوغل في نجران وفي عسير بسرعة مدهشة، وأن تستولي على منطقة واسعة في شمال اليمن تشمل عسيراً ونجران وجميع الجهات والمواقع التي كانت موضع النزاع بين البلدين، وأن تتقدم بعد ذلك في أراضي اليمن ذاتها بحذاء البحر الأحمر حتى ثغر الحديدة، وهو أهم الثغور اليمانية، وأن تستولي عليه بعد أن فرت منه قوات الإمام التي كان يقودها ولده وولى عهده سيف الإسلام. وقد كنا نؤمل حين كتبنا مقالنا الأول عن هذه الحرب التي تضطرم بها الجزيرة العربية، أن يكون لصوت العالم العربي والإسلامي أثره في تدارك هذا الخلاف الخطر، وفي وقف المعارك قبل استفحالها. وقد رفع العالم الإسلامي صوته قوياً بمناشدة الزعيمين أن يتذرعا بالروية والحسنى في حسم النزاع القائم بينهما، وسافر إلى مكة وفد عربي إسلامي يمثل عدة من الأمم العربية لتحقيق هذا المسعى. ولكن الظاهر أن سير الحوادث لم يفسح مجالاً للتفاهم الحسن بين الملكين؛ وقد كان جلالة ابن السعود يشترط لوقف القتال شروطاً يراها لازمة لسلامة حدوده وسلام مملكته، وهي جلاء القوات اليمانية عن نجران ومواقعها الجبلية، وإطلاق الرهائن، وتسليم الأدارسة؛ ولكن سيادة الإمام يحيى لبث حيناً يتردد بين القبول والاعتراض؛ وحدث في تلك الفترة أيضاً أن تقدمت القوات اليمانية في نجران وعسير واحتلت مواقع جديدة؛ وأيقن ابنالسعود بعد طول المكاتبة والمفاوضة أن الإمام لا يريد اتفاقاً ولا يسلم بشيء من مطالبه. ويبدو من مراجعة الكتاب الرسمي الأخضر الذي أذاعته الحكومة السعودية عن سير المفاوضات والمكاتبات بين الملكين أن ابن السعود تذرع بكثير من الروية والأناة في محاولة إقناع الإمام باحترام المعاهدات المعقودة والحالة الواقعة. وتدل وثائق الكتاب الأخضر أيضاً على أن عوامل التحريض كانت تعمل عملها في عسير ونجران لدفع قبائلهما إلى الثورة على عمال الحكومة السعودية وأصدقائها. إزاء هذه العوامل والظروف لم ير ابن السعود بداً من

ص: 21

الالتجاء إلى القوة المادية؛ فزحفت القوات السعودية في نجران وتهامة صوب الجنوب، واستولت على جميع مواقعها وانتهت كما تقدم بالاستيلاء على ثغر الحديدة، وانهارت في الحال كل التدابير التي اتخذها الإمام للحرب والدفاع، وأضحت اليمن تحت رحمة القوات السعودية التي تطوقها من الشمال والغرب.

وتطور الحرب بين ابن السعود والإمام على هذا النحو يثير احتمالات ومسائل في منتهى الخطورة، وساء في داخل الجزيرة العربية أو خارجها، ولا سيما إذا استمرت القوات السعودية في زحفها على اليمن وانتهت بالاستيلاء عليها. ذلك أن ابن السعود الذي يسيطر على قلب الجزيرة العربية من الأحساء وعمان شرقاً إلى ساحل البحر الأحمر غرباً، ومن بادية العراق وشرق الأردن شمالاً حتى الربع الخالي جنوباً، يغدو باستيلائه على اليمن سيد الجزيرة المطلق، والمسيطر على الساحل الشرقي للبحر الأحمر كله من العقبة حتى مضيق باب المندب. وقيام إمبراطورية عربية قوية على هذا النحو تشمل نجداً والحجاز واليمن مما يثير اهتمام السياسة البريطانية ومخاوفها. وقد كان تقدم المملكة السعودية في الأعوام الأخيرة موضع اهتمامها دائماً. ذلك أن المملكة السعودية تجاور مناطق النفوذ البريطاني والأملاك البريطانية في جميع أنحاء الجزيرة العربية؛ فهي تجاور عمان والكويت من الشرق، والعراق وفلسطين وشرق الأردن من الشمال، وإذا تم ضم اليمن إليها، فإنها تجاور عدن وحضرموت من الجنوب. وعلائق ابن السعود مع بريطانيا العظمى ودية حسنة. وقد نظمت منذ سنة 1922 بمعاهدة المحمرة ثم ببروتوكول العقير. بل إن علائق الصداقة بين ابن السعود وبريطانيا ترجع إلى ما قبل عشرين عاماً، أعني إلى ما قبيل الحرب الكبرى. وكان ابن السعود يومئذ اميراً محلياً، فرأى في اتصاله بالسياسة البريطانية وسيلة لتحقيق مشروعاته؛ وحالف بريطانيا العظمى على الترك، ولزم الحياد أثناء الحرب وفاء بعهده لها. وافتتح في ذلك الحين منطقة شمر في شمال نجد وانتزعها من يد خصمه ومنافسه ابن الرشيد، وبدأت إمارة نجد تتخذ مكانها وأهميتها في شئون الجزيرة العربية. وفي سنة 1924 غزا ابن السعود الحجاز واستولى عليها من يد الحسين بن علي ملكها يومئذ، وامتدت حدود نجد حتى ساحل البحر الاحمر، وقامت من ذلك الحين مملكة نجد والحجاز القوية، واعترفت بقيامها الدول وفي مقدمتها بريطانيا العظمى. وكانت السياسة البريطانية

ص: 22

خلال هذه المراحل كلها ترى في ابن السعود صديقاً لها؛ ولم يشب هذه العلائق الودية شيء من الكدر إلا في سنة 1928 إذ أغارت بعض القبائل النجدية على حدود العراق، ونشب الخلاف بين الفريقين على مسألة مخافر الحدود؛ ثم سوى الخلاف وعاد التفاهم بين الفريقين.

ولكن المملكة السعودية قد غدت في الجزيرة العربية قوة يخشى بأسها، وهي تدلل اليوم على قوتها مرة أخرى بذلك الغزو السريع لنجران وتهامة، ثم شمال اليمن واستيلائها على ثغور جديدة على البحر الأحمر، وقد لا تقف القوات السعودية في زحفها حتى يتم استيلاؤها على بلاد اليمن كلها، وتغدو اليمن كالحجاز ولاية جديدة في المملكة السعودية الكبرى: واجتماع الأمم العربية داخل الجزيرة تحت هذا اللواء القوي يثير روحاً جديداً في القضية العربية ويقوي فكرة الجامعة العربية، ويحيي الآمال في تحقيقها. والسياسة البريطانية لا تنظر إلى هذه التطورات بعين الارتياح لأنها تزيد في متاعبها حيثما تبسط سلطانها على أطراف الجزيرة العربية، والسياسة الفرنسية التي تسهر على مصاير سوريا تخشى أن يثير هذا الروح المعنوي الجديد في الوطنية السورية قوة جديدة، ويزيد في متاعبها في سوريا. هذا ومن جهة أخرى فإن السياسة الإيطالية ترقب تطور الحوادث في اليمن بمنتهى الاهتمام والجزع أيضاً. وللسياسة الإيطالية في اليمن مركز خاص، ولإيطاليا في اليمن مطامع لا تخفي. وقد نظمت العلائق من سنة 1928 بين الإمام يحيى وإيطاليا وعقدت بينهما معاهدة تجارية اقتصادية، وأخذت إيطاليا من ذلك الحين تعمل بكل الوسائل على تقوية نفوذها في اليمن؛ والسياسة الإيطالية لم تكن بعيدة عن موقف الإمام في الحوادث الأخيرة ولم تكن بعيدة عن شد أزره بالمال والرجال والذخائر في الحرب التي ستنشب بينه وبين ابن السعود. ثم يجب ألا ننسى أن مستعمرة إريترية الإيطالية في اليمن، ويجعل ساحل المستعمرة الإيطالية عرضة لأخطار جديدة، ويضع حدا للتوسع الإيطالي في تلك المنطقة.

والسياسة البريطانية تقف اليوم موقف التريث والانتظار؛ ولكن في اجتماع السفير الإنكليزي في جده بابن السعود، حسبما نقلت ألينا الأنباء الأخيرة، ومحادثته إياه في الاحتمالات التي نشأت عن انتصار الجيوش السعودية، وعما إذا كانت تنوي التقدم بعد في

ص: 23

قلب اليمن - في ذلك ما ينم عن اهتمام السياسة البريطانية بتطور الحوداث على هذا النحو؛ وربما عن قلقها أيضاً. ذلك لأن اليمن تجاور منطقة عدن البريطانية وتشرف عليها من الشمال والغرب؛ ولعدن أهمية حربية خاصة فهي مفتاح باب البحر الأحمر من الجنوب، ومفترق الطريق الإمبراطوري البحري إلى الهند والشرق الأقصى؛ فوقوع اليمن في يد زعيم قوي كابن السعود قد يهدد مركز بريطانيا في عدن، أو في بعض ولاياتها المحمية المجاورة لليمن، وهي التي كانت منذ بعيد موضع خلاف بين الإمام والإنكليز، ثم سوى منذ أشهر بمعاهدة الصداقة البريطانية اليمنية. ومسألة المواصلات الإمبراطورية من أدق مهام السياسة البريطانية.

بيد أنه إذا كانت السياسة البريطانية تقف موقف الانتظار والتحوطإزاء تطور الحوادث في الجزيرة العربية. فليس هنالك على ما نعتقد، ما يدعوها للتدخل المباشر في سر هذه الحوادث. فعلائق ابن السعود وبريطانيا مازالت حسنةٌ. والإنكليز يثقون بابن السعود وصراحته وعهوده التي برهن في فرص عديدة أنه يحترمها ويعمل على تنفيذها، ولا نعتقد أن ابن السعود يفكر في الوقت الحاضر على الأقل في الإقدام على مناوأة سياسة بريطانيا أو مصالحها في أية منطقة من المناطق التي تسيطر عليها في أطراف الجزيرة، لأن ابن السعود يحرص دائماً على صداقة بريطانيا. وربما كان الإنكليز يؤثرون دخول اليمن في طاعة ابن السعود، ويؤثرون سياسته القائمة على الحزم والصراحة وحسن التقدير، على سياسة رجل كالإمام يلقون من صلابته وتردده وعدم اعتباره بالحقائق الواقعة كثيراً من المتاعب في عدن وولاياتها المشمولة بالحماية البريطانية. هذا إلى أن ابن السعود قد صرح على لسان ممثله في لندن أن يحترم الحقوق القائمة والمعاهدات المعقودة ويبذل وسعه لحماية أرواح الأجانب ومصالحهم في البلاد التي تفتحها جيوشه، ولا ريب أنه في حالة استيلائه على اليمن سيحترم نصوص المعاهدة اليمنية البريطانية الأخيرة، وسيحترم الحالة القائمة في ولايات عدن المحمية؛ ومن جهة أخرى فانه لن يفوت الإنكليز أن ينتهزوا فرصة انشغال الإمام بغزو أراضيه فيعملوا علىتوسيع احتلاهم لتلك الولايات بما يطابق خططهم التي لبث الإمام طويلا يقف في سبيلها.

ليس هنالك إذا ما يخشى وقوعه من جانب السياسة البريطانية للتأثير في مجرى الحوادث

ص: 24

الحاضرة في جزيرة العرب. وهذا ما تؤيده التصريحات الرسمية التي أدلى بها السير جون سيمون وزير الخارجية البريطانية في مجلس العموم في شأن حوادث الجزيرة العربية، فهو يؤكد فيها أن بريطانيا العظمى ستقف إزاء هذه الحوادث موقف الحياد الدقيق وأن اجتماع السفير البريطاني بابن السعود لم يكن يقصد به إلا التأكد من حماية المصالح البريطانية والرعايا البريطانيين في الجهات التي تفتتحها القوات السعودية. وهذا ما تؤيده أيضاً الصحف الإنكليزية وأقوال الكتاب السياسيين وتنويههم بحزم ابن السعود ومقدرته وصداقته لبريطانيا العظمى

أما السياسة الإيطالية فهي على العكس تخشى تطورات الحوادث الحاضرة وترى فيها خطراً على مشاريعها ومصالحها حسبما بينا. وقد كان الأمام صديق السياسة الإيطالية، وكانت إيطاليا تتمتع في اليمن بمركز خاص تعلق عليه أهمية كبيرة لتنفيذ مشاريعها في بلاد العرب، فسقوط اليمن في يد ابن السعود يقضي على هذه الآمال والمشاريع، وقد أرسلت إيطاليا كما أرسلت إنكلترا بعض بوارجها إلى مياة اليمن لحماية مصالحها. ولكن هل تذهب إيطاليا إلى أبعد من ذلك فتحاول التدخل المباشر في سير الحوادث في اليمن؟ من المعروف أن إيطاليا كانت تمد الإمام بالأسلحة والذخائر والضباط الفنيين، ولكن استيلاء القوات السعودية على الحديدة وساحل اليمن كله تقريباً يقفل هذا الباب في وجه إيطاليا ويقطع هذا العون عن الإمام. ولسنا نعتقد إن إيطاليا تستطيع الإقدام على مثل هذه المغامرة في الظرف الحاضر، فتحاول الدفاع عن اليمن والاشتباك مع القوات السعودية الغازية في حرب لا تؤمن عواقبها، أولاً لأن بريطانيا العظمى لا تستطيع السكوت على مثل هذا التدخل ولا بد أن تقاومه بكل قواها، وليس من اليسير أن تقدم إيطاليا على تحدي بريطانيا العظمى في مثل هذه الظروف التي يفيض فيها الأفق الدولي بالمشاكل الخطيرة، وثانياً لأن إيطاليا تعلم من تجاربها القاسية في طرابلس، إن الأعمال الحربية في الصحاري والهضاب ليست يسيرة على الجنود الأوربية، وقد كانت هضاب اليمن مدى أجيال حصوناً مغلقة في وجه الجيوش العثمانية المدربة على ارتياد الهضاب الوعرة، ومن المرجح أن تلقى الجيوش السعودية ذاتها، وهي جيوش الصحراء، صعاباً كبيرة قبل ان تستطيع الوصول إلى صنعاء والاستيلاء على اليمن. وإذاً فكل ما يمكن للسياسة الإيطالية أن تقوم

ص: 25

به الوقت الحاضر، هو أن تحاول المضي في خطتها من معاونة الإمام بالاسلحة والذخائر والأموال

على أنه يبقى بعد ذلك كله أن نتساءل عما إذا كان ابن السعود يعتزم حقاً أن يستولي على صنعاء وان يتم غزو اليمن. إن الجيوش السعودية تقف الآن عند الحديدةمن جهة البحر، وتطوق شمال اليمن، وليس في الأنباء الأخيرة ما يدل على إنها ستتابع زحفها في الحال، بل يرجح أن تنتظر حيناً حتى تتم اهباتها وتقوى مؤخرتها وقد يرى ابن السعود في تلك الأثناء ما يقنعه بالوقوف عند هذا الحد من الظفر وإرغام الإمام على قبول شروطه ومطالبه؛ وقد ينزل عند صوت العالم العربي والإسلامي فيقبل وقف الحرب والاتفاق مع الإمام، إذا رأى انه يستطيع بذلك اجتناء جميع الثمرات التي يخوله الظفر اجتناءها.

وسنرى في الأسابيع المقبلة ما تسفر عنه هذه التطورات الخطيرة في مصاير الجزيرة العربية.

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 26

‌مختار.

.!

للدكتور سامي كمال

كان بالأمس مارداً، فثوى اليوم راقداً. . . كان فلم يكن ولن يكون، بعد أن أضاء على الإنسانية جميعها بذلك النور الفني الخالد.

لقد وصل ماضينا بحاضرنا وبمستقبلنا أيضاً، فكان الحلقة المتينة، وملأ ذلك الفراغ الهائل المظلم القاتم الذي نام أثناءه أبو الهول ونام المصريون بجواره، إلى أن عادت إليهم الروح وثارت ثورتهم فهبط عليهم من السماء، وكان قائداً لخيال ذلك الشعب، وحقق أمله في النبوغ. وأنهض أبا الهول بعد طول رقاده بجانب الفراعين الذين حققوا لربوضه الهدوء والنوم. رمزوا به لقوة باسهم وشدة بطشهم، ولم يحتاجوا بعد إليه وقد خضع الكل لسلطانهم فنام وملأ جفونه نوماً، إلى أن شعر القوم باحتياجهم إليه فأنهضه مختار وجعله ينظر محدقاً عازماً شاعراً ما سوف يطلب منه اليوم وغداً.

إن من لم يسمع لفظ فرعون من فيك يا مختار لم يفقه من هو فرعون. . هو لفظ كنت تسوقه من شعورك العميق ينبئ بالقوة وبالجبروت

ومن لم يسمع منك لفظ الثورة التي قامت بهذا البلد الذي شعرت انك من ترابه أو من التراب الذهب لهؤلاء الفراعين. . . من لم يسمعك تحدث عن الثروة بلفظها الذي كنت تنطق به فيصير تمثالاً من صنع بصيرتك وحسك وقلبك الكبير. . . ان من لم يسمعك لم يضطرب قلبه من هولها.

لم أرك يا مختار إلا وتلك الروح مخيمة عليك وظلت غذاءك. . . وأنت يا مصر، يا من تقفين بجانب القوة الناهضة، أنت الروح وأبو الهول الجسد، علام تنظرين؟ إلى الشمس أم إلى أبنائك؟ إلى سلام أم إلى حرب؟

تخيلك على ضفاف السين وقبله ينبض بحبك - تتمثل أجمل امرأة أمام عينيه فلا يرى غيرك، يطير بخياله إليك لأنك الغاية. عاش ينشد حبك طول طريقه. هذا نقابك تحاولين فيه بيسراك حجب بعض الضوء، لتحققي النظر وتتعرفي أسرار ما سيأتي لك به القدر. .

هذه الحركة المصرية الصميمة أنشودة ستصدح مع الزمان. . .

تراك جميع المصريات فيتعرفنك ويعجبن ويفخرن، لأنك ترفعين الرأس إلى السماء،

ص: 27

وتسفرين عن وجه لا يدل على غير القوة واطمئنان الوصول إلى الغاية التي تتطلبين إلى أبنائك، وعودك القوي هو هو، صلب حار في اللب. . . أفنا أم كبرا أم مثالا يحتذى؟ أم هو تراث من فخر مضى؟. . .

كل من رآك يعرف أن قلبك قد من الثورة، وأن عينيك انفتحتا لهذا النور الذي كنت تتوقين إليه

هذه روحك يا مختار نقرأها وسنقرأ كل يوم فيها جديدا، وبعد آلاف السنين سيقرءون فيها جديدا. . . ويطلب المصريون لك الرحمة حينما لا يذكر من أحياء اليوم إلا القليل.

ثم هادئاً فقد أديت الرسالة

فن مختار وروحه

أوجد مختار فناً خاصاً وطبعه بطابع تكاد تتعرفه عندما تلقى بنظرك إلى آية قطعة من قطعه البديعة التي خلفها، ولتدرك ذلك الطابع تماماً تصور ذلك الفنان القوي، وقد نشأ في قرية مصرية، أفعم قلبه بحب الفلاحين، وملأ عينيه من تلك التماثيل المصرية القديمة، ثم من ذلك الفن المصري في جميع صوره، وقد امتاز بالبساطة وجمال التنسيق وعدم الاكتراث بما يقع تحت الحس تماماً، غير ناظر إلا إلى الموضوع المطلوب تصويره فينتظم التصوير في أسلوب واحد، كان الجمال فيه لتلك الخطوط والمسطحات المنتظمة

أخذ الغربيون بذلك الفن عندما قاموا بتمثيل رموزهم العسكرية بعد الحرب العظمى، فلا ترى إلا مستويات لا تستوقف النظر، إنما يحرض التمثال فكرك لتبحث فيه عن معنى ينبئ به

تلك كانت آية الفن عند قدماء المصريين، فلما انتقل منهم إلى اليونان فالرومان فالغرب أخيراً، عمدوا إلى تصوير الجمال كما يجب أن يكون في الواقع لا في الخيال، فجمال المرأة أو الرجل صار تمثيلا لبعض النساء أو الرجال فعلا

وعندما انتهت الحرب العظمى لم يرد الفنانون في جميع العالم أن يتقيدوا بما كان نظاماً وأسلوباً للفن فيما قبل الحرب، وأخذوا يبحثون عن فن عصري لم يستقر إلى اليوم نظامه، فانك ترى لهم في كل يوم اتجاهاً وميلا.

أثناء تجاربهم هذه تطاير بعض الشرر الفني من مقبرة توت عنخ آمون، فدققوا النظر من

ص: 28

جديد في ذلك الفن المصري القديم ونحوا نحوه، وصاروا لا يقفون في التمثيل على ما يرون بعيونهم، إنما عمدوا إلى الرمز في النحت والتصوير لترسل مخيلتك في البحث عما يرمزون فلا يقف نظرك على تفاصيل الجسم أو الرداء بل يلجئك الفنان إلى البحث عما يريد من معنى، وليس من السهل الوصول إلى ما يريد والوقوف عليه. ويمتاز الفنان الماهر بأن يقدم لك ما تقرأ فيه كل يوم جديداً. ألم يحدثنا الصديق الدكتور طه حسين بأن هذا ما نحا نحوه بعض شعراء الفرنسيين؟ عاش مختار في هذا الجو وأدرك سر الأقدمين المصريين، فعمد بالمعاول إلى رسم الطريق للمجددين؛ وبعث من جديد فناً كان يشعر أنه يفيض من حبه لمصر، فغنى على قيثارته (القاهرية) و (الفلاحة) و (بنت الشلال).

أنظر إلى تلك القاهرية تختال في ردائها تجدها الملاك الطاهر في حلم النائم لا تفتر تنظر إليها، ولا يرتد نظرك عنها، ثم تعاودك طيفاً تحار في فهم روحها ولا تجسر أن تبادرها بالسؤال.

أما بائعة الجبن فإنك تراها في صور الأقدمين، لكنها لا تحمل شيئاً بل ترمز إلى الروح، وهي رافعة ذراعيها على هذا النمط. فقدها مختار من قطع بائعات الجبن جميعاً، فيه رقيقة حقاً لكنه أعطاها الصلابة البرنزية وتركها للخلود. . .

رأى مختار مثالاً لشيخ البلد في دار الآثار المصرية، فكان جديراً بأن يصنع مثالاً لامرأته، أنظر إليها تجد جمالاً ووقارا يجلبان الاحترام وقوة معنوية تسحر اللب. . . .

وبنت الشلال هي تخليد بديع مليء بروح ذلك العنصر من سكان الشلال، اهتدى إليها مختار عند وادي الجرانيت فأنطقها تترنم بنشيد النيل والصحراء والشمس المحرقة والحياة الحزينة. . . .

وتلك المرأة في القيلولة تجد في دار الآثار شبيها لها امرأة كانت تخبز، غلب عليها النعاس أمام الفرن فنامت. هي صورة لبعث القديم وإحياء الجديد من الفن

عاش مختار سنين في باريس، وما كان يأمل في الحياة بقدر ما كان يأمل أن يكون له بيت في قرية مصرية بين تلك المصريات ويعبر عنهن بالملكات اللاتي أحب حركاتهن وسكناتهن، يحملن الماء وغير الماء، يأكل مما يحلو لهن أكله، مرتدياً ذلك السروال الواسع الأكمام

ص: 29

وما كان يلذ له التمتع بأي شيء وحيدا، فان دعاه داع إلى الغداء مثلا اشترط لذلك دعوة إخوانه جميعاً وان لم يعرفهم جميعهم الداعي

لقد كان يحب أن يعيش بين القلوب لا بين الأجساد. ما عاش مختار لنفسه، بل عاش للفن - أن كان ما نراه اليوم بمصر من مجهود فني، هو في الحقيقة أثر من آثاره - فقد كان المحرك لإرسال البعثات الفنية، وفي فتح مدرسة الفنون الجميلة، وفي إقامة المعارض والإشادة بذكر الفنانين، كان يحلم بإيجاد إدارة للفنون تحت رياسة وكيل ثان للمعارف على نسق النظام المتبع في فرنسا.

وبالاختصار كان مختار روح الفن في مصر نفثه في جميع المصريين حتى نطقوا باسمه جميعاً، وصارت (نهضة مصر) عنواناً لكل صاحب مهنة وفن في القاهرة، وفي جميع القرى المصرية، فكفاه تمجيداً تمجيده ليوم من أيام مصر.

سامي كمال

ص: 30

‌السفسطائيون

للأستاذ زكي نجيب محمود

. . . . إذن فقد كانت آسيا الصغرى مهداً تقلب فيه الوليد الجديد وظل حيناً يتعثر، حتى استقام بعد لأي على قدمين لم ترسخا إلا في عسر شديد، فقد حدثتك في فصل سابق أن العقل الناشئ لم يكد يستيقن من وجوده، حتى أرسل البصر يستطلع أصل الوجود، وجاهد ما استطاع لكي يصل في تعليله إلى مبدأ معقول، فالتمسه في الماء والهواء، ولكنه أفلس، ثم عدل عن مادة الكون إلى جوهره ومعناهن فأفلس كذلك، وهكذا لبث اليافع في عثاره، يستقيم ليكبو، ويكبو ليستقيم، حتى كانت غارة الفرس الداهمة، التي اجتاحت المستعمرة اليونانية في آسيا الصغرى، ففزع الفلاسفة رعباً، هاموا في فجاج الأرض فرادى يحملون قبس الفكر، حتى انتهى طرف منهم إلى بلاد اليونان. . .

أنظر! فهذي بلاد اليونان قد صاغها الله يدا مبسوطة، كأنما تريد أن تلقف بأصابعها الناتئة في مياه البحر حضارة القدماء من الجنوب والشرق، بسطت كفها فتناولت من مصر مدنية كانت حينئذ قد بلغت شأوا بعيداً، واستعارت من بابل وأشور وآسيا الصغرى شذرات منثورة من العلم والمعرفة. . وقد أراد الله لتلك البلاد اليونانية أن تكون وعرة المسالك ملتوية الأديم، تنهض على صدرها الحزون وترتفع الجبال، فانحصرت بين شعابها طائفة من الأودية، كانت في عزلتها كالأوكار، نشأت في أكنافها مدن متفرقة، ليس إلى اتصالها سبيل هين ميسور، فسلكت كل واحدة منها طريقاً بعينها في الدين والثقافة ونظام الحكم. ولبثت تلك المدائن متنافرة متناكرة، لا تلتقي في وحدة قومية، اللهم إلا إذا أغار عليها مغير يطمع منها في غزو وسلطان. وذلك ما حدث عندما جاءت من الشرق جيوش الفرس يقودها عظيمهم دارا، عندئذ انعقدت الخناصر على التحالف بين اثنتين من تلك المدن اليونانية، كانتا أشدها بأساً، وأوفرها قوة وأبلغها رقياً وتقدماً، تحالفنا على ان تعد إحداهما الجيش، والأخرى تهيئ الأسطول، ومن ذا تظن أن ينهض بتهيئة أسطول ضخم قوي غير الأثينيين، الذين لهم من موقعهم صلة وثيقة بالملاحة وركوب الموج، وأما الأخرى - إسبرطة - التي عرف رجالها بالبأس والقوة، فقد جهزت جيش الدفاع.

وقعت الحرب وانتصر اليونان، فعاد الأثينيون بأسطولهم وقد اتخذوه بعدئذ إدارة للتجارة،

ص: 31

ظلت تجوب جواريه المنشآت في جوف البحر الأبيض، تحمل منها واليها التجارة من كل صوب، وما هي إلا أن تزخر أثينا بتك التجارة الصادرة الواردة، ويعلو ذكرها في الأسواق، وتصبح مركزاً تلتقي عنده الأقوام والأجناس، لكل قوم دينه، ولك جنس ثقافته. وإذا بهذه الألوان المختلفة يضطرب بعضها في بعض، ويخالط بعضها بعضا، فتمتزج الثقافات جميعاً والديانات جميعاً في صعيد واحد، ويكون لذلك كله نتيجة محتمة، هي المقارنة والتحليل، وبالتالي نشأة الفكر الصحيح. وهذا بديهي معقول، فالمذاهب المتضاربة ينسخ بعضها بعضاً، وتدنو بالناس إلى الارتياب والشك فيها جميعاً.

وإذن فقد كانت أثينا، عندما طوح القدر بذلك القبس الخافت من آسيا الصغرى بيئة صالحة وتربة خصبة، يستطيع أن يستقر في أرضها ذلك الشعار الضئيل، حتى إذا ما امتد به الزمان قليلا، سطع لامعا وهاجا في عهد الأساطين الثلاث: سقراط وأفلاطون وأرسطو

حمل انكسجوراس إلى أثينا تلك البذرة الأولى للتفكير الفلسفي وقد كانت وليدة الأفكار السابقة التي نشأت في آسيا الصغرى وجنوب إيطاليا. فلعلك تذكر أني وقفت بك في تتبع السلسلة الفكرية عند المذهب الذري، الذي رد الكون إلى ذرات دقيقة تجتمع وتأتلف فتكون هذا الشيء أو ذاك، ولكنك تستطيع أن تسأل أشياع ذلك المذهب، ما الذي يبرر عقلا أن تجتمع طائفة معينة من الذرات في صورة ما دون صورة أخرى؟ خذ الإنسان مثلا، فهو عندهم مجموعة ذرية لا أكثر ولا أقل، فهل تظن أن من اليسير على عقل منطقي أن يقنع بان تلك الذرات الجامدة تأتلف بطريق المصادفة العمياء، فتنتج ملايين الأفراد على غرار واحد وفي هذه الدقة من التنسيق؟! كلا! يستحيل ألا يكون وراء هذه الذرات المادية عقل مدبر حكيم، يملك تصرفها فيجمع بينها ثم يفرق جمعها تبعاً لما يقتضيه قصد معين وهدف منشود. . . في الكون إذن عنصران متميزان: مادة ترى بالبصر وتحس بالأيدي، وعقل خفي يكمن وراء أستار المادة، يسلك بها ما شاء من سبل، وهو حكيم رشيد، يعرف أين يسير بمادته في سبيل سواء. . هذا ما حمله انكسجوراس إلى أثينا، فبدأت الفلسفة إذن طوراً جديداً. . . لم يعد العقل يلتمس أصل الكون وعلته في ماء ولا هواء، ولم يعد يلتمسه في قاعدة رياضية، أو في ذرات تفترق وتلتقي على غير هدى، بل جاوز العقل في جولته حدود الطبيعة المحسة، وضرب فيما وراءهن وإذن فما أجدرنا أن نضع انكسجوراس في

ص: 32

مرتبة من تاريخ الفلسفة عالية رفيعة إذا كنا نفرق بين مراتب رجالها. فهو بين الفلاسفة أول من رأى في الكون رأيا ناضجا، يصرد عن رشد ووعي، بالقياس إلى أسلافه الذين لم تزد أقوالهم على سذاجة الطفولة الحالمة

ترى من هذا كله أن العقل قد لبث طويلا يبحث في حقيقة الكون فانتهى إلى نتائج متنافرة متباعدة، وتشعبت عليه السبل وكثرت الحلول، فكان طبعياً ان يقف منها جميعاً موقف الشك والريبة فكلها حق ان شئت. وكلها باطل ان شئت. ولنترك الكون وما يحوي لا نطرقه بالبحث الآن، وليكن موضوع بحثنا منذ اليوم هو الانسان، فهو سيد الأشياء، وهو وحده الفيصل الحكم إزاء هذه المذاهب الفكرية، يعتنق منها ما يشاء؛ ويطرح ما يشاء في زوايا الإهمال. وليس لأحد سلطان على أحد في ان يوحي إليه بفكرة أو رأي، فما تراه أنت حقاً فهو حق، وما تراه أنت باطلا فهو باطل. . ما تلمح فيه النفع لشخصك فهو الفضيلة العليا وكل ما يناقض هواك فهو رذيلة وشر، لا تأبه بتقاليد، ولا تصدق الناس فيما يذهبون إليه من خير وشر، فأنت دولة وأنت مالكها، لك أن تحكم فيها بما تشاء وتهوى. . . انظر! هذان رجلان يشخصان ببصريهما إلى الشمس تنحدر إلى خدرها ساعة الغروب فخلعت على الأفق غلالة حمراء، فيفتن جمالها واحداً منهما حتى ليكاد يطفر راقصاً مفتوناً بما يرى. وأما الآخر فينظر إليها شزرا واستخفافاً، بل انه ليسخر من صاحبه، فليس ثمة في الشمس جمال ولا شيء يشبه الجمال!! فمن ذا يستطيع أن يقنع أحد هذين بخطأ رأيه أو بصوابه؟ ولم لا يكون كلاهما على حق؟ وإذا كانت الأهواء والميول والمشاعر متضاربة متناقضة، لا تجتمع في نزعة واحدة، ولا يمكن أن تدور رحاها حول قطب واحد، أفلا يكون شططا منك واعتسافاً أن تقسر تلك المجموعة المتنافرة على أن تلتقي كلها عند حقيقة واحدة؟! ومن ترى يكون حقيقاً بمنصب الحكم بيني وبينك فيما نحن فيه مختلفان؟ كلا! ليس ثمت حقيقة واحدة، بل الحقائق في الدنيا بقدر ما يضطرب فيها من أفراد البشر، فليذهب كل فرد مذهبه في الكون وفي ظواهر الكون، ولا يخشين بأساً من نقد أو تجريح لما يذهب اليه، فهو لا يقل حقاً وصواباً فيما يرى عن أي رجل آخر، بالغاً ما بلغ من العبقرية والنبوغ. . . تلك هي العقيدة التي حملتها طائفة من الناس في أرض اليونان، وأخذت تجوب بها الأنحاء والأرجاء، تذيعها في الناس في ذلاقة وطلاقة وحسن بيان، حتى

ص: 33

اجتمع حولهم طوائف الشباب جميعاً، يتلقون عليهم ذلك الشك، ويتعلمون عنهم درائق التشكيك وأساليب المحاورة والمداورة في الخطابة والحوار لقاء أجر يعظم ويضؤل تبعاُ لما يتلقى الشباب من عدد الدروس. . . وإنما أعني بتك الطائفة جماعة السفسطائيين، ولم يكن ذلك الاسم عندئذ يحمل ما يحمله اليوم من تحقير، بل هم جماعة أحبوا الحكمة كما يحبها كل فيلسوف، لولا هذه الزلة التي سقطوا فيها فأسقطت من قدرهم، وهي تقويم الحكمة بالأجر

وأبرز أولئك السفسطائيين رجال ثلاثة: بروتاغوراس وجورجيادس وهبياس، ولقد أنكر ثانيهما وجود الأشياء جميعاً وحتى لو فرضنا جدلاً أن ثمة في الكون أشياء لها حقائق ثابتة، فلا يمكن أن نوقن بأن الصورة الذهنية التي نعرفها لتلك الأشياء مطابقة لها تماماً، فمن الجائز، بل من المرجح، بل من المؤكد أن حقيقة هذا القلم الذي بيدي تخالف في وجوه كثيرة صورته الذهنية التي أحملها له. . . وهب أنك تستطيع أن تصل إلى معرفة مطابقة للواقع فانه يستحيل عليك أن تنقل هذه المعرفة للآخرين، لأنك مضطر إلى التعبير عنها في كلمات، ولا أحسب في الدنيا أحدا يشك في أن اللفظ شيء والمعرفة نفسها شيء آخر وإذن فمهما قلبت الأمر على وجوهه فلن تصل إلا إلى نتيجة واحدة، وهي أنه لا يمكن أن يكون في الوجود حقيقة موضوعية مجردة يجمع عليها، بل الحقائق ذاتية تختلف باختلاف الأشخاص، وإذن فمن العبث أن يستمع فرد إلى رأي فرد آخر، ولا يجوز لك أن تصغي لغير ما تراه وتشعر به، ولا تختار من كل ذلك إلا ما تصيب عنده نفعاً

أجمع السفسطائيون على ذلك، ولكنهم ذهبوا في السياسة مذهبين: ففريق يدعو إلى العودة إلى أحضان الطبيعة واستيحائها فيما يجب أن يرسم للجماعة من نظام وقانون - كما فعل روسو فيما بعد - ولما كانت الطبيعة عندهم تسوى بين الأفراد، لا ترفع أحدا ولا تخفض أحداً، إذن فسحقاً لهذه المدنية التي تجعل من الناس طبقات بعضها فوق بعض، فذلك نظام مفتعل دخيل على طبيعة الإنسان جدير بنا ان ننبذه في جرأة حازمة، ولا ينبغي لنا أن نأبه لهذا القانون الذي تواضعت عليه الجماعة، لأنه من وضع القوى، فرضه على الضعيف فرضاً لا يبرره حق ولا تجيزه عدالة، إنما القانون العادل هو الذي ينزل الأفراد منزلة سواء، ومعنى ذلك أن تكون الديمقراطية مثلا أعلى للحكم.

ص: 34

وأما الفريق الآخر، فقد دعا إلى النقيض - كما فعل نيتشه فيما بعد - الست ترى من الناس فيلسوفاً عبقرياً بجانب الغبي الأبله، أليس منهم الضعيف الخائر إلى جانب القوي ذي العود الصلب؟ إذن لم تسو الطبيعة بين الأفراد، كلا ولا الأخلاق ابتكرها القوي إنما هي على النقيض من ذلك، خدعة أوحى بها الضعيف ليحد من قوة القوي وسلطانه. . ولا يتردد هذا الفريق في الدعوة إلى الأرستقراطية في الحكم، وهذا الهجوم العنيف على الديمقراطية وحكمها يصور لنا نهوض جماعة من الأغنياء الأذكياء، أرادوا أن يغتصبوا من الشعب النفوذ والسلطان، بحجة إفلاسه في إدارة البلاد

فأنت تستطيع أن تسخر من مذهب السفسطائيين، ومن حقك أن تهمله اهمالا وان تنبذه نبذ النواة، لانه خطر على الاجتماع، خطر على الأخلاق، خطر على العقائد، خطر على كل نواحي الحياة الإنسانية، لأن قوام هذا اليقين والإيمان في مجموعة من الحقائق التي تفرض على الناس فرضا، سواء صادفت هوى من نفوسهم أم لم تصادف، أما أن يكون الأفراد أحراراً في اختيار الفضائل التي تتفق وأهواءهم فانحلال وفوضى، يقوضان أركان المجتمع في يوم وليلة.

تستطيع أن تقول هذا فيما ذهب إليه السفسطائيون، ولكنك لن تستطيع ان تنكر عليهم أنهم كانوا مرآة مجلوة انعكست عليها صورة الحياة في عصرهم، فقد تعددت العقائد الدينية فشك الناس في صحة الأديان، وقد تعددت الآراء الفلسفية فشك الناس في ثبوت المعرفة. وقد برهنت الديمقراطية في أثينا على أنها عاجزة بعض العجز عن تصريف شئون الدولة فتزعزع الإيمان في أسلوب الحكم

شك في الدين، وشك في المعرفة، وشك في نظام الحكومة، لا يمكن أن يلد إلا طائفة كهؤلاء السفسطائيين، ينكرون الحقائق جملة، ولا يؤمنون إلا بالمنفعة الشخصية والحقيقة الذاتية.

ولكن أراد ربك ألا يطول الأمد لهذا الانحلال الفكري، فسلط عليه ذهناً عاتياً جباراً، ما زال به نقدا وإصلاحاً، حتى أمحى وخلص من شره الانسان، ومن يكون هذا غير سقراط!؟

زكي نجيب محمود

ص: 35

‌4 - بين المعري ودانتي في رسالة الغفران

‌والكوميدية المقدسة

بقلم محمود احمد النشوى

الجحيم في الروايتين

إذا تحدث الأدباء فيما بينهم عن جحيم دانتي. فإنما يريدون تلك الكوميدية التي لم تقصر نفسها على الجحيم تذكر طبقاته وحراسه ومعذبيه، بل ضمت جوانحها ثلاث نواح: الجحيم ' المطهر أو الأعراف والفردوس ودانتي في كل ذلك يبلغ نهاية الإجادة. بيد أنه في وصف الجحيم كان اكثر إسهاباً وأشد قوة، فطعى اسم الجحيم على الرواية كلها واستأثر بالاسم وحده بين كثير من المتأدبين.

ولكن المعري لم يعن بجهنم كما عنى بالفردوس. ولم يسهب في وصفها كما أسهب في وصف الجنة. ولعله ما كان يريد أن يعرض للجحيم لولا رغبته أن يتم لابن القارح نعيمه. وأن يعظم شكره. فقد قال المعري بعد أن استكمل لابن القارح كل لذائذه في فراديس الجنان: ويبدو له أن يطلع على أهل النار فينظر إلى ما هم فيه ليعظم شكره على النعم بدليل قوله تعالى (قال قائل منهم إنى كان لي قرين. يقول ائنك لمن المصدقين. أئذا متنا وكنا تراباً وعظاما أئنا لمدينون. قال هل أنتم مطلعون. فاطلع فرآه في سواء الجحيم. قال تالله إن كدت لتردين. ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين) فيركب ابن القارح بعض دواب الجنة، ويسير بها صوب الجحيم معرجاً في طريقه على (جنة العفاريت) يلتمس من أشعار أهلها متحدثا (مع الخيثعور أحد بني الشيصبان، ومع أبي هدرش) مارا على الحطيئة عند شجرة قميئة، وليس عليه نور سكان أهل الجنة فيسائله عن سبب دخوله الجنة فيقول له الحطيئة: بالصدق في قولي:

أبت شفتاي اليوم إلاتلكما

بهجر فما أدري لمن أنا قائله

أرى لي وجها شوه الله خلقه

فقبح من وجه وقب حامله

ثم يغذ في سيره حتى يشرف على جهنم فيرى امرأة تطلع على من فيها. فيقول لها من أنت؟. فتقول: أنا الخنساء السليمة. أحببت أن انظر إلى صخر. فاطلعت فرأيته كالجبل

ص: 36

الشامخ. والنار تضطرم في رأسه، فقال لي: صح زعمك في، يعني قولي:

وإن صخراً لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

ثم يتركها متغلغلا في طبقات الجحيم.

طبقات الجحيم في الروايتين

لم يعن المعري بتقسيم الجحيم إلى طبقات، لكل طبقة من العصاة والمذنبين جزء مقسوم. ولم يسهب في وصف أهوالها وآلامها إسهاب دانتي. بل كان همه لقاء الشعراء وحوارهم فيما نسب إليهم من شعر. وفي تصحيح الرواية، وبيان الوجوه النحوية واللغوية والصرفية. فلم تكد تقع عينه على امرئ القيس حتى يسائله عن إعراب (يوم) وعن تخفيف الياء من (سي) وتشديدها في قوله

ألا رب يوم لك منهن صالح

ولا سيما يوم بدارة جلجل

ثم يقول: ليت شعري ما فعل عمرو بن كلثوم؟ فيقال ها هو ذا من تحتك ان شئت أن تحاوره فحاوره في (سخينا) من قوله. .

سنعشعة كأن الحص فيها

إذا ما الماء خالطها سخينا

أمن السخاء. أم من الماء السخين؟. إلى كثير من حوار وجدل، ذلك سبيله، سنفرده بالحديث حين الكلام عن الحوار في الروايتين.

ولقد بذل دانتي مجهودا عظيما في تقسيم جهنم، فقسمها إلى تسع طبقات اختص كل طبقة منها بطائفة من المعذبين، ووصف ما هم فيه من عذاب وآلام وصفا مؤثراً بليغا. ففي الطبقة الأولى رأى الملائكة الذين لم يطيعوا الله ولم يطيعوا الله ولم يطيعوا ابليس حينما تمرد على ربه. انتظارا للنتيجة حتى يتبعوا الغالب في زعمهم؛ ثم رأى خلقاً كثيرا عريت أجسامهم، وانتابتها أفواج من الذباب والزنابير تدمى جلودهم، وتنهل من دمائهم.

وفي الطبقة الثانية رأى المحبين الذين أسرفوا فالقوا أنفسهم في حمأة الخطيئة. ومن بينهم باولو وعشيقته فرنشسكا التي قصصت خبرها في العدد الماضي.

وفي الطبقة الثالثة رأى البخلاء والمسرفين يلعن بعضهم بعضا. ويقول الأولون للآخرين: لماذا أسرفتم؟ فيقول الآخرون: للأولين لماذا قترتم؟. ولن يغنى تخاصم أهل النار عنهم من العذاب من شيء.

ص: 37

وفي الطبقة الخامسة يرى الحمقى الذين كان يستفزهم الغضب وهم يضرب بعضهم بعضا. ثم يرى المتكبرين والمتغطرسين في بركة سوداء مترعة بالأوحال والأقذار، وهم يتقلبون فيها خاشعين. ينظرون من الذل من طرف خفي.

فأما الطبقة السادسة فهي مقابر متراصة. تزخر بالأنين وباللهب، وأعدت لمن أنكروا الله ووجوده.

وفي الطبقة السابعة نظر نهرا من دم يغلي يغوص فيه السفاكون، وقاطعوا الطريق.

وفي الطبقة الثامنة رأى رجال الدين المتجرين به. والذين كانوا يدّعون أنهم خلفاء المسيح الذي أحب الفقر وآثره على الغنى. بيناهم يتساقطون على الحطام تساقط الذباب على العسل، والكلاب على الجيف. ورأى المنجمين والمخادعين والمرائين. وهم يلبسون أثواباً باطنها رصاص يشوي الوجوه، وظاهرها ذهب لامع براق جزاء وفاقا على ريائهم. ودهانهم.

أما الطبقة التاسعة فهي زمهرير تجمد ماؤه، وضم في أحشائه إبليس، (ويهوذا الأسخريوطي) الذي نم على مكان السيد المسيح فدل اليهود عليه. ثم الذين خانوا أوطانهم مسهباً في وصف هؤلاء الخائنين. مفتنا في ذكره ما أعد لهم من جحيم ذي غصة، ومن عذاب أليم.

حراس الجحيم

تحدث المعري عن حراس الجحيم في قلة وفي دعابة. ثم ذكر شيئاً قليلاً من أعمالهم ووظائفهم، على حين أن دنتي ذكر لكل طبقة من طبقات جهنم حارساً أو جملة احراس، وأسهب في وصف أعمالهم وما يصبونه فوق رؤوس المعذبين من ويلات وآلام. وما أوجز المعري فيما أحدثك عنه إلا لأن المعري رجل دعابة وظرف، يريد أن يجتذ القارئ نحوه. وان يعلمه كثيراً من قواعد اللغة ومفرداتها دون أن يحس جفاف تلك الأبحاث كما عهدناه يحاول ذلك في (رسالة الملائكة)

وما أسهب دانتي إلا لأنه رجل موتور ممن شردوه ونفوه فهو يريد أن يرى واتريه يصب من فوق رؤوسهم الحميم. ثم هوغرس (الكنيسة) يهوى أن ينفر الناس عن الخطيئة ما استطاع لذلك سبيلا. فالمعري يقص علينا عمل الزبانية بما حدثنا به عن بشار بن برد. وقد

ص: 38

أعطاه الله عينين بعد الكمه لينظر ما نزل به من النكال. ولكن بشارا يأبى إلا أن يغمضهما حتى تتوارى عنه الوان العذاب، فتفتحها الزبانية بكلاليب من نار. . . كما حدثنا عن الزبانية مرة أخرى إذ يغضب ابليس من حوار بين الأخطل وبين ابن القارح فيصيح فيهم قائلا: ما رأيت أعجز منكم إخوان مالك! فيقولون: كيف زعمت ذلك يا أبا مرة؟ فيقول؛ ألا تسمعون هذا المتكلم فيما لا يعنيه؟ فقد شغلكم وشغل غيركم عما هم فيه، فلو ان فيكم صاحب نحيزة قوية لوثب وثبة حتى يلحق به إلى سقر. فيقولون: لم تضع شيئاً يا أبا زوبعة ليس لنا على أهل الجنة سبيل. فيشمت ابن القارح في إبليس: فيقول إبليس عليه اللعنة: ألم تنهوا عن الشمات يا بني آدم؟ ولكنكم بحمد الله ما زجرتم عن شيء إلا وركبتموه. .

وكم كان المعري طريفاً حقاً إذ يحدثنا عن نداء ابن القارح لمهلهل أخي كليب حينما يقف في جنبات السعير وينادي: اين عدي ابن ربيعة؟ فتجيبه الخزنة قائلين: زد في البيان: فيقول: الذي يستشهد النحويون بقوله

ضربت صدرها إليّ وقالت

يا عديا لقد وقتك الأواقى

فيقول له خزنتها. انك لتعرف صاحبك بأمر لا معرفة عندنا به. ما النحويون؟ وما الاستشهاد؟ وما هذا الهذيان؟ نحن خزنة النار. فبين غرضك تجب اليه، فيقول: أريد المعروف بمهلهل التغلبي أخي كليل بن وائل الذي كان يضرب به المثل: فيقولون له: ها هو ذا يسمع حوارك فقل ما تشاء:

ذلك جل ما ذكره المعري عن حراس جهنم لم يسهب فيه ولم يطل

فأما دانتي وإسهابه ووصفه الغريب لكل شيطان من شياطين السعير فموعدنا بالحديث عنه العدد القادم.

يتبع

محمود احمد النشوى

ص: 39

‌في القاهرة.

. .

للآنسة فلك طرزى

- 1 -

مصر. .! أي شفاه تلفظ هذه الكلمة ولا تجري عليها ابتسامة وسرور؟. . أي نفس لا تغتبط لرؤية هذه الدرة الثمينة، ولا تنعم بجوها المعتدل ونسيمها العليل؟. . .

أي قلب لا تسحره هذه النسمات يرسلها الربيع في أنحائها فتنتعش الأزهار والرياحين، وتكتسي الأشجار حلتها السندسية البديعة، يداعبها النسيم فترقص اغصانها، وينبعث من حفيفها هذا الأريج العطري، وذلك العبير الذكي، فيشيع في جو القاهرة روح الحياة، ويسري في عروقها دم الشباب ونشاطه وأي إنسان لم تملك عليه القاهرة حسه بسحرها، وتفتنه بطيب هوائها وعذوبة نيلها، وأي قلب لم تستلبه هذه الغادة الحسناء بفتنتها عند إشراق شمسها في الصباح الضاحي الجميل، وعند غروبها غارقة في لجة من دماء الشفق، تقتتل في حمأتها الملائكة والشياطين.

مصر التي حملتني إليها أجنحة الخيال قبل ان تقلني عربة القطار، مصر التي سحرتني الأحاديث عنها قبل أن تأنس العين بمرآها

أجل! رأيتها! وتمتعت بها اياماً، وقضيت فيها اسبوعاً، وتحققت لي برؤياها أمنية من أحب الأماني التي خفق بها قلبي.

مصر العظيمة الجبارة، مصر الساحرة الفاتنة، تبتسم لي وأنا أطل عليها من نافذة القطار بعين الشغف والوله، هي تبتسم بأنوارها الساطعة، وتضحك بإشراقها المهيب في الصحراء القاحلة، وطلعتها الفتية الجميلة بين باسقات النخيل، والسهول المترامية الاطراف، يسقيها النيل الهادئ الوديع رحيقاً سائغاً شهيا، فترتشف منه حياة قوية فياضة، ويتضاعف من مائه نموها وازدهارها

أي عين لا تطيل النظر في ذلك النهر العظيم تستطلعه أنباء الماضي الحافل، وما تحمله هذه الأنباء من الذكريات المفرحة المؤلمة، وما تخفيه موجاته الهادئة من عبارات التقديس والتبجيل وهو يسير رويدا، حاملا أثقالا مرهقة من الأسرار الغامضة؟

هو يسير كما كان منذ آلاف السنين لا تعوق مجراه تقلبات الأجيال ولا نزعات النفوس.

ص: 40

لكنه الآن ينظر بعينيه الحزينتين المغرورقتين بالدموع إلى الانقلاب العظيم الذي وقع لبنيه، ويشعر بهذا الألم القتال يحز في قلوبهم ويدمي أفئدتهم.

لقد شاهد النيل العظيم مجد مصر القديم وأبهة الفراعنة، والآن يشاهد ذل بنيه وخضوعهم، يشاهد زمام أمورهم بين أيدي العدو، ويرى مفتاح ملكها الخالد في قبضته، بعد أن كانت تتقلب موجاته في مدارج العز، وتصطفق بين معالم الفرح والرخاء والأبهة التي أحرزها بنوه الأولون. أما الآن فهو يتقلب متهدماً بين الأسى والألم، كالشيخ ثكل أبناءه الواحد إثر الآخر، فهو صامت خاشع، يميد من ألم الحزن على ما أصابه الدهر في بنيه،. . يكتم لواعجه في غوره العميق، ويخفي دموعه الغزيرة بين طيات المياه فتزيدها اندفاعاً وانحداراً، فتبكي مصر نيلها الجبار، ويبكي النيل وطنه العزيز، وتئن مصر في موسيقى موجه الخافت، وتتوسل إلى الله أن يرفع عنها نير العبودية في أناشيده الناطقة الصامتة. .!

أي مصر!. . لقد طبعت في نفسي صورتك الخالدة، ونقش اسمك المقدس على صفحة قلبي بحروف بارزة لا تنال منها الأيام. أي مصر الحبيبة! أي مصر: يا درة الشرق الغالية، ومعبودة الجميع، لقد ملكتني وجعلت من نفسي أسيرة الأبد لحبك وهواك. .!

دمشق

فلك طرزى

ص: 41

‌6 - بديع الزمان الهمذاني

للدكتور عبد الوهاب عزام

ويلحق بالديوان شعره في الرسائل والمقامات وذلك في معظمه قطع قصيرة جيدة

ثم شعر البديع عامة سهل جيد المعاني منقح الألفاظ يتجلى فيه تهذيب الكتاب، إذا إستثنينا الشعر المرتجل وشعر الألغاز ونحوه مما لا يقام له في الأدب وزن، ولكنه لا يبلغ الدرجة العليا إلا قليلا.

وبديع الزمان عند نفسه وعند الناس كاتب يقول الشعر، ولكنه يرى أن البليغ من أجاد الصناعتين: يقول في المقامة الجاحظية: (أن الجاحظ في أحد شقي البلاغة يقطف. وفي الآخر يقف. والبليغ من لم يقصر نظمه عن نثره، ولم يذر كلامه بشعره، فهل تروون للجاحظ شعراً رائعاً؟

نثر الهمذاني

في القرن الرابع الهجري بلغت الكتابة العربية درجة من الصناعة والتأنق لم تخل بسلامتها ولم تذهب بمعانيها. تولاها كتاب قادرون صرفوها في أغراض شتى، واختاروا من الألفاظ والأساليب الجميل المحلى، دون إغرب ولا اخلال بالمعاني. وتناولت الكتابة كثيراً من فنون الشعر، كالمدح والهجاء والغزل والوصف: إلى ما كان لها قبلا من الموضوعات، فاتسع المجال لذوي الفكر الثاقب والقلب الشعار، لم يقيدهم في النثر ما قيد الشعراء من الأوزان والقوافي والاصطلاحات. وكان كثير من الكتاب يلتزم السجع، ومنهم من يكتفي بالازدواج، وقليل منهم يرسل الكلام إرسالا. وفي هذا العصر نبغ أئمة الكتابة كابن العميد والصاحب والصابي والمهلبي وقابوس، والخوارزمي، وبديع الزمان. ولم يكن بديع الزمان كمعظم هؤلاء وزيرا أو ذا منصب، فلم تستغرق كتابته أمور الدولة وكثرت في رسائله الموضوعات الخاصة والعامة. واستبانت نواح من عصره في السياسة والأخلاق، والآداب وغيرها

وله في الكتاب أصحاب المناصب رسالة إلى أبي نصر المرزبان يقول فيها: كنت أطال الله بقاء سيدي ومولاي في قديم الزمان اتمنى للكتاب الخير، وأسأل الله أن يدر عليهم إخلاف الرزق، ويمد لهم أكناف العيش، ويوطئهم أعراف لمجد، ويؤتيهم أصناف الفضل، ويركبهم

ص: 42

أكتاف العز، وقصاراى أن أرغب إلى الله تعالى في ألا ينيلهم فوق الكفاية، ولا يمد لهم في حبل الرعاية، فشد ما يطغون للنعمة ينالونها، والدرجة يعلونها، وسرع ما ينظرون من عال، بما ينظمون من حال، ويجمعون من مال، وتنسيهم أيام اللدونة، أوقات الخشونة، وأزمان العذوبة، ساعات الصعوبة، وللكتاب مزية في هذا الباب، فبيناهم في العطلة إخوان، كما انتظم السمط، وفي العزلة أعوان، كما انفرج المشط، حتى لحظهم الجد لحظة حمقاء بمنشور عمالة، أو صك جعالة، فيعود عامر ودهم خرابا، وينقلب شراب عهدهم سرابا، فما علت أمورهم، حتى اسبلت ستورهم، ولا غلت قدورهم، إلا خلت بدورهم الخ

ويجمع نثر بديع الزمان الرسائل والمقامات:

1 -

الرسائل

لبديع الزمان ثلاث وثلاثون ومائتا رسالة تناول فيها أغراضاً كثيرة.

والرجل دراك حساس، إذا سلط فكره إلى موضوع أضاءت له جوانبه كلها، ثم وضحت أمامه طرائق البيان، فهو مبين عن كل معنى بطرق مختلفة من التصوير والتمثيل، يسايره القاري فيها. وهو معجب متعجب. انظر قوله في بعض السلاطين: (قد علم الشيخ أن ذلك السلطان سماء إذا تغيم لم يرج صحوه، وبحر إذا تغير لم يشرب صفوه، وملك إذا سخط لم ينتظر عفوه، فليس بين رضاه والسخط عرجة، كما ليس بين عضبه والسيف فرجة، وليس بين من وراء سخطه مجاز، كما ليس بين الحياة والموت معه حجاز، فهو سيد يغضبه الجرم الخفي، ولا يرضيه العذر الجلي، وتكفيه الجناية وهي إرجاف، ثم لا تشفيه العقوبة وهي إجحاف، حتى إنه ليرى الذنب وهو أضيق من ظل الرمح، ويعمى عن العذر وهو أبين من عمود الصبح، وهو ذو اذنين يسمع بهذه القول وهو بهتان، ويحجب بهذا العذر وهو برهان، وذو يدين يبسط إحداهما إلى السفك والسفح، ويقبض الأخرى عن العفو والصفح، وذو عينين يفتح إحداهما إلى الجرم، ويغمض الأخرى عن الحلم، فمزجه بين القد والقطع، وجده بين السيف والنطع، ومراده بين الظهور والكمون، وأمره بين الكاف والنون، ثم لا يعرف من العقاب، غير ضرب الرقاب، ولا يهتدي من التأنيب، إلا لإزالة النعم، ولا يعلم من التأديب، غير إراقة الدم، ولا يحتمل الهنة على حجم الذرة، ودقة الشعرة، ولا يحلم عن الهفوة، كوزن الهبوة، ولا يغضي عن السقطة، كجرم النقطة، ثم أن

ص: 43

النعم بين لفظه وقلمه، والأرض تحت يده وقدمه، لا يلقاه الولي إلا بفمه، ولا العدو إلا بدمه، والأرواح بين حبسه وإطلاقه، كما الأجسام بين حله ووثاقه، ونظرت فإذا أنا بين جودين: إما أن أجود بباسي، وإما أجود برأسي، وبين ركوبين: إما المفازة، وإما الجنازة، وبين طريقين: إما الغربة، وإما التربة، وبين فراقين: إما أن أفارق أرضي، أو أفارق عرضي، وبين راحلتين: إما ظهور الجمال، أو أعناق الرجال، فاخترت السماح بالوطن، على السماح بالبدن، وأنشدت؛

إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا

فلا رأي للمضطر إلا ركوبها

ويقول في رسالة كتبها إلى القاضي أبى القاسم يذم أحد القضاة (فولي المظالم وهو لا يعلم أسرارها، وحمل الأمانة وهو لا يعرف مقدارها، والأمانة عند الفاسق، خفيفة المحمل على العاتق، تشفق منها الجبال، وتحملها الجهال، وقعد مقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين كتاب الله يتلى، وحديث رسوله يروى، وبين البينة والدعوى، فقبحه الله من حاكم لا شاهد أعدل عنده من السلة والجام، يدلى بهما إلى الحكام، ولا مزكي أصدق لديه من الصفر، ترقص على الظفر، ولا وثيقة احب إليه من غمزات الخصوم، على الكيس المختوم، ولا وكيل أوقع بوفاقه من خبيثة الذيل، وحمال الليل، ولا كفيل أعز عليه من المنديل والطبق، في وقتي الغسق والفلق، ولا حكومة ابغض إليه من حكومة المجلس، ولا خصومة أوحش لديه من خصومة المفلس، ثم الويل للفقير إذا ظلم، فما يغنيه موقف الحكم، إلا بالقتل من الظلم، ولا يجيره مجلس القضاء، إلا بالنار من الرمضاء، وأقسم لو أن اليتيم وقع في أنياب الأسود، بل الحيات السود، لكانت سلامته منهما أحسن من سلامته إذا وقع بين غيابات هذا القاضي وأقاربه، وما ظن القاضي بقوم يحملون الأمانة على متونهن ويأكلون النار في بطونهم، حتى تغلظ قصراتهم من مال اليتامى، وتسمن أكفالهم من مال الايامى، وما ظنك بدار عمارتها خراب الدور، وعطلة القدور، وخلاء البيوت، من الكسوة والقوت، وما قولك في رجل يعادي الله في الفلس، ويبيع الدين بالثمن البخس، وفي حاكم يبرز في ظاهر أهل السمت، وباطن أصحاب السبت، فعله الظلم البحت، وأكله الحرام السحت، وما رأيك في سوس لا يقع إلا في صوف الأيتام، وجراد لا يسقط إلا على الزرع الحرام، ولص لا ينقب إلا خزانة الاوقاف، وكردي لا يغير إلا على الضعاف، وذئب لا يفترس عباد الله لا بين

ص: 44

الركوع والسجود، ومحارب لا ينهبت مال الله إلا بين العهود والشهود؟ وما زلت ابغض حال القضاة طبعاً وجبلة، حتى أبغضتهم ديناً وملة)

وكتب في كتاب لم يعجبه إنشاؤه وخطه: (الكتاب وصل، حجم هائل، ليس وراءه طائل، وخط مجنون، لا يدري ألف فيه من نون، وسطور، فيها شطور، دبيب السرطان، على الحيطان، ولفظ أخلاط، لا يدركه استنباط، ولا يفسره بقراط، هذيان المحموم، وهوس الملوم، وسوداء المهموم، وقرأت شطر كتاب لم أدر والله عماذا يعبر، عن أمور سقيمة، أو عن أحوال مستقيمة، لا جرم أني ظننت خيره، ولم أبعد غيره، وجوزت السلامة، ولم آمن ضدها، وذهبت مع الظن الجميل اتفاقاً، ثم ردعت القهقري إشفاقاً، فسألت الله لك المزيد إن كان سلامة والسلام)

وكتب إلى أحد أصدقائه يطلب بقرة:

(وقد احتيج في الدار إلى بقرة يحلب درها، فلتكن صغوفا تجمع بين قعبين في حلبه، كما تنظم بين دلوين في شربه، وليملأ العين وصفها، كما يملأ اليد خلفها، وليزن مشيها سعة الذرع، كما يزين درها سعة الضرع، ولتكن عوان السن، بين البكر والمسن، ولتكن طرح الفحل، رموح الرحل، وليصف لونها صفاء لبنها، وليكن ثمنها كفاء سمنها، ولتكن رخصة اللحم، جمة الشحم، كثيرة الطعم، سريعة الهضم، صافية كالجون، فاقعة اللون، واسعة البطن، وطية الظهر، ممتلئة الصهوة، فسيحة اللهوة، لا تضيق بطنها عن العلف، فيؤديها إلى التلف، ترد الهول ولا تخافه، وتشرب الرنق ولا تعافه، واجهد أن تكون كبيرة الخلق، لتكون في العين أهيب، ضيقة الحلق، ليكون صوتها في الأذن أطيب، وإحذر أن تكون نطوحا أو سلوحا، وإياك أن تبعثها ملوحا أو رشوحا، ولتكن مطاوعة عند الحلب لا تمنع نفسها، ولا تكثر لحسها، وداهية في الرعي، لأقرب سعى، حمقاء على الحوض كالنعجة، لا تأمن من البعجة، ألوفة للراعي الذي يرعاها، مجيبة لصوته إذا دعاها، مهتدية إلى المنزل بغير هاد، ذاهبة إلى المرعى بغير قياد، ولا أظنك تجدها اللهم إلا أن يمسخ القاضي بقرة، وهو على رأي التناسخ جائز، فاجهد جهدك، وأبذل ما عندك).

وهو أكتب ما يكون حين يعظ أو يهجو أو يسخر. وللفكاهة في بيانه مجال واسع به يقول في رسالة شفاعة: (مثلي أيد الله القاضي مثل رجل من أصحاب الجراب والمحراب، تقدم

ص: 45

إلى القصاب، يسأله فلذة كبد، فسد باليسرى فاه، وأوجع بالأخرى قفاه. فلما رجع إلى مسكنه كتب إليه توقيعا، يطلب حملا رضيعا، كذلك أنا وردت فلا إكرام بإلمام، ولا صلة بسلام، ولا تعهد بغلام، فلما وجدته لا يبالي، بسبالي، كاتبته اشفع لسواي، وهو موصل رقعتي هذه، وله خصم بينهما قصة لا أسأله في البين، إلا إصلاح الجانبين، والسلام)

وله من رسالة إلى فقيه نيسابور في رجل اغتاب البديع، فرد عليه الفقيه:(فان كان لا بد من انتقام واستيفاء، فأعيذك بالله ان تجهل أن آذان الأنذال، في القذال، وهي آذان لا تسمع إلا من ألسنة النعال الأدم، أو ترجمة أكف الخدم، وعلامة فهمها جحوظ العينين، وخدر اليدين. فان تاب، وإلا كررت هذا العتاب).

وله إلى قيس بن زهير: (أعوز الصوف فبعثت إليك بفرو فطفقت تلوم، وظلت تقعد في العتاب وتقوم، واراني ما بعدت في القياس، ولا خرجت عن متعارف الناس، فالصوف نفس الفرو، إلا أنه نسيج، والصوف نفس الفرو إلا انه حيج، فكل فرو صوف، وليس كل صوف فروا، فان أنصفت وجدت الفرو فطرة، والصوف بدعة، وإن نظرت رأيت الفرو صوفا وزيادة، فكان نعمى وسعادة، والفرو وبر في الشتاء ونطع في الصيف، فان قرسك البرد فالبسه وأنت قيس، وان غشيك المطر فاقلبه وأنت تيس).

وبديع الزمان ليس متكلفا في بيانه، لا يحس القارئ جهد في اختيار الألفاظ أو سياق الأساليب، ولكنه يلتزم السجع في معظم كتابته سنة كتاب عصره.

وقد عاب الجاحظ في المقامة الجاحظية بقلة الصنعة في كلامه بعد أن عابه بأنه لا يحسن الشعر قال: (فهل ترون للجاحظ شعرا رائعا؟ قلنا لا. قال: فهلموا إلى كلامه فهو بعيد الإشارات، قليل الاستعارات، قري العبارات. منقاد العريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله، فهل سمعتم له لفظة مصنوعة، أو كلمة غير مسموعة؟)

ب - المقامات

يقول الهمذاني في رسالة يعيب فيها شعر الخوارزمي: (وما كنت لأكشف تلك الأسرار، وأهتك تلك الأستار، وأظهر منه العار والعوار، لولا ما بلغنا عنه من اعتراض علينا فيما أملينا، وتجهيز قدح علينا فيما روينا، من مقامات الإسكندري من قوله إنا لا نحسن سواها، وإنا نقف عند منتهاها، ولو أنصف هذا الفاضل لراض طبعه على خمس مقامات، أو عشر

ص: 46

مفتريات، ثم عرضها على الأسماع والضمائر، وأهداها إلى الأبصار والبصائر، فإن كانت تقبلها ولا تزجها، أو تأخذها ولا تمجها، كان يعترض علينا بالقدح، وعلى إملائنا بالجرح، أو يقصر سعيه، ويتداركه وهنه فيعلم أن من أملى من مقامات الكدية أربعمائة مقامة لا مناسبة بين المقامتين، لا لفظا ولا معنى، وهو لا يقدر منها على عشر حقيق بكشف عيوبه والسلام)

ومثل ذلك في رسالة إلى أبي المظفر بن أبي الحسن البغوي ويقول الثعالبي (فوافاها (يعني نيسابور) في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة ونشر بها بزه، وأظهر طرزه، وأملى أربعمائة مقامه نحلها أبا الفتح الإسكندري في الكدية وغيرها)

وكذلك يقول الحصري في زهر الآداب أنها أربعمائة مقامة. والذي بأيدينا من هذه المقامات اثنتان وخمسون. فهل ضاعت المقامات إلا هذا المقدار؟ ارجح أنه أملى في الكدية أربعين وحرفت الكلمة إلى اربعمائة، وتتتابع عليها النساخ. وذلك أنه يبعد أن يضيع هذا العدد من المقامات على كلف الناس بها، ولأنه في رواية الحصر عارض بالمقامات الأحاديث الأربعين لابن دريد. ثم هو يقول إنه أملى هذه المقامات في الكدية. ونحن إذا عددنا المقامات التي فيها كدية صريحة وجدناها خمسا وثلاثين. وجائز أن يكون البديع قد اعتبر خمسا أخرى من مقامات الكدية، فان صح هذا فقد أملى أربعين في نيسابور. ثم أملى الأخريات بعد كالمقامات الست التي فيها مدح خلف بن احمد.

يتبع

عبد الوهاب عزام

ص: 47

‌من طرائف الشعر

الأوبة

للأستاذ خليل هنداوي

فرجِّى الخير وانتظري إيابي

إذا ما القارظ العنزى آبا!

- شاعر عربي -

لا ترتقبي إيابه أيتها الحسناء!

فقد انتزعته من ذراعيك عرائس البحر

أغوته بفتنتها وأغرته بروعتها.

لله ما أقسى هذه العرائس الزرق العيون!

- خرافة الأقدمين -

لا تنتظري إيابه أيتها الحسناء

فقد سلبته من ذراعيك عرائس الصحراء

فتنته ببسمتها، وأغوته برقتها.

لله ما أقسى هذه العرائس الشقر الشعور!

- الناظم -

لا تَسُحي الدموعَ حزنا عليه

فشهيد الصحراء سوف يعود

إنما مثلنا تود غذاءً

تشتهي القوتَ وهو عنها بعيدُ

مرَّ والشمس للغروب تَهادى

وتمشَّى في جوفها كخيال

أفق اسعُ تلوح عليه

صور العابرين مِثلَ الظلال!

أيها الواصلُ الثرى في فلاة

يملأ الصمت جَّوها والسكون

لا تسر في الفلاة سيراً وئيداً

تتيقظ عليك منها العيون

لا تسطر على الرمال رسوماً

لا تعكر فيها صفاء الليالي

صفحاتُ الصحراءِ - لو رحتَ تدري

صفحاتٌ مقرونةٌ بالجلال

ص: 48

ها هنا ليس للحياة مقام

ها هنا ليس للحياة ربوع

كل شيء مستسلمٌ لفناء

فتأمل كيف الحياة تجوع؟

حيثما سرت لا ترى من صديق

مؤنسٍ، غير ظلِّك المشؤوم

لمَ ترتابُ في الرسوم وهذا

كله وطء رسمِكَ المرقوم

لا خريف الصحراء - إن جاء يوماً

بخريف، ولا الربيعُ ربيعُ

قد تساوت فيها الفصول، وجاعت

فتأمل كيف الربيَعُ يجوع

سكنتْ في تلولها غانياتٌ

باسماتُ الثغور، شُقْر الشعور

نشرها عَّبق الجواَء عبيراً

فتروَّحْ في الجو نشر العبير

وكأن الواحات فيها حسان

يترقبن أوبة الأحباب

كلما أقعدَ المسافرَ يأس

لوحت غادة له بالشراب

لا تروَّعن يا حسان الصحارى

انه ضارب لكن لقاء

ذرنه يبتغي الطريق قليلا

أين يرجو في داركن اهتداء

كم شباب في القفر قد عصرته

وأناس طوتهمُ الصحراءُ

رأت الأرضُ والسماءُ ولكن

ما استجابت أرض لهمُ أو سماءُ

انها مثل غادة سعرتها

شهوات الأرواح والأبدان

لا تحاول من الوصال فراراً

هي مشتاقة إلى إنسان. . .

ان أحبتك يا مسافر فانزل

في حماها واهَجعْ وخلَّ الإيابا

انها تعصر الضجيعَ ولا تزْ

دادُ بعد الوصال إلا التهابا

نام لا يرتجى إليك إياباً

وغفا، لا يعي من الإعياء

أنبئيها يا ريح إن فتاها

عشقتهُ عرائس الصحراء

لا تسحي الدموع حزناً عليه

فشهيد الصحراء سوف يعود

أنها مثلنا تود غذاء

تشتهي القوت وهو عنها بعيد

دير الزور

خليل الهنداوي

ص: 49

على مذهب ابن أبي ربيعة

ص: 50

‌ما هو الكون؟!

خلق الله للجمال قلوباً

اجتباها من صفوة الشعراءِ

سكبَ النور في قلوبهم السو

دِ فعادت تموج بالأضواء

واستحالت مرائيا يعكس الكو

ن عليها ما عنده من مَراء

واقفاً ناظراً محيّاه فيها

في غرورٍ كوقفة الحسناء!

ما هو الكون غير ذاك الضعيف ال

حَوْل يسطو به على الأقوياء؟

ما هو الكون غير ذاك الذي يش

فى به الداء، وهو عين الداء؟

غير ذاك الذي عليه تَلاقى

ضربات السرَّاء والضرَّاء

غير ذاك الذي به تعثر الدُّن

يا على مرطها من الخيلاء

غير ذاك الذي به الحب والبغ

ضاء بين الأحباب والأعداء

غير ذاك الذي امتحن اللُّ

هـ قلوب العصاة والأتقياء

غير ذاك الذي يلوذ به النس

ل ويُغرَى الآباء بالأبناء

غير ذاك الذي يصير به الكو

ن نعيما على بساط اللقاء

وهو ذاك الذي يصير به الكو

ن جحيما إذا طواه التنائي

غير ذاك الذي تجمَّع فيه

ما وعى حسنه من الأسماء

غير ذلك الذي إليه ومنه

كل ما في الوجود من أشياء

ما هو الكون غير فتنة حوا

ء وما في حواء من إغراء؟

ليت شعري أكان للكون معنى

لو أتى آدم بلا حواء؟!

يا نهوداً كأنهن حِقاقٌ

من بقايا صناعة القدماء!

تعبت جاذبية الأرض فيها!

وأنيطت بها نجوم السماء!

وحلال العيون ليس بأشهى

من حرام النّهود تحت الكساء

وهما خير ما تكشف عنه ال

حسنُ من فتنة ومن إغواء

غير أن العيون أمضى قِسيَّا

في شغاف القلوب والأحشاء

غير أن العيون أذكى حريقا

في الشراسيف والصدور الدواء

غير أن العيون أعصف بالقلب

وأهدى في مظلم الأهواء

غير أن العيون ألعب بالسّح

ر وأقوى في البعث والإيحاء

ص: 51

غير أن النهود أبهج في العين

وأندى على القلوب الظِّماء!

مُتعة الطَّرف ما يُمثِله النه

د من الهمس أو من الإيماء!

رافع الرأس دأبه يتحدّى السِّم

ثر في عزَّة وفي كبرياء!

شيمة الحر لا يطيق احتمال الضِّي

م من ظالم من الرؤساء

يكرع الطرفُ جُهده منه في ما

ء شهى لكن بلا إرواء

سرق الروض من نَدَاه فأخفى

بعض تفَّاحة من استحياء

هو سر الأسرار يستره الكو

ن ويبديه في تقى وحياء!

حُلُم في عيون من أسعد الل

هُ ونار في أنفس الأشقياء!

في فم العاشق المدلَّه شهد

حضرمي، أو بابليُّ طِلاء

وحياة تمصها شفة الطف

ل غذاء يفوق كل غذاء

نَغَم كلّه وسحر وشِعر

ومزيج من الندى والضياء!

عظمت دولة الجمال وعزَّت

وتعالى ما فيه من أسماء

بعض أسمائه يضيع به الده

ر فَناءً وماله من فناء

نفذت من أعماقه حكمة البا

ري وضاعت وساوس الحكماء!

والسعيد السعيد من شمٌ منه

أرجا من حديقة غناء

والسعيد السعيد من شهد الل

هـ على لوح نوره الوضاء

رب غاوٍ يلومني في نشيدي

وهو لا ينتهي عن الفحشاء

خاشع الطرف مطرق الرأس يمشي

بين خلين سمعةٍ ورياء

يظهر الفكر وهو في السر يغشى

ما تندَّى له جبين الحياء

وأنا الطاهر السراويل والبُرْ

د نقيُّ القميص عف الرداء

ليس مني الفسوق، تأباه في جس

مي دماء الجدود والآباء!

ينهل الحسن من غرامي ولكن

هو صديان يلتظى من إبائي!

كل حبيّ طهْرٌ وقدْس وتسبي

ح لرّبي وصيِغةٌ من دعاء

أنا عبد الجمال حرَّرْتُ في مع

بده مهجتي بلا استثناء

مهرقا في محرابه ذوب قلبي

ما تراه مضرجاً بدمائي؟!

ص: 52

أعبد الله فيه: اقرأ فيه

آية الاقتدار والإنشاء

إن يكن في الحدود جسمي فروحي

تتهادى في العالم اللانهائي!

نزيل القاهرة

علي احمد باكثير

ص: 53

‌بين شاعر ومصور

مشروع زواج

بقلم محمد روحي فيصل

جلس الصديقان يتسامران بعد العشاء، وقد انبسطت أعضاؤهما فوق الأرائك الناعمة الوثيرة، يرسلانها على هواهما، ثم يعبثان بما ينشأ عن دخان التبغ في الفضاء من منعرجات وأشكال. . .

وتلك ساعة حلوة عذبة، تنشرح لها الصدور، وتشرق فيها الوجوه، وتنطلق فيها الألسن بالكلام، وتجيش فيها القلوب بنوازي الحياة وشتى العواطف والأهواء، وكلها تنزع إلى الظهور والإفصاح، وتطلب السفور والإعلان من غير التواء ولا تحجب. وكان ضوء المصباح نحيلا شاحباً، يضطرب كالمحتضر على جدران الغرفة الرحبة، ثم لا يكاد يبين ما يزينها: من طنافس مزركشة وأسلحة مفضضة. إنما يبرز إلى النصف بين الظلال الفاحمة رسم امرأة فتية قد اتخذت وضعاً مائلا نحو الأمام كأنما هي تتسمع صاغية، وضاحة المحيا، صبوحة الوجه في عينين زاهيتين، وفم مطبق مرهوب تطفو عليه ابتسامة حيرى ذات معان!! وكان الكرسي الصغير والنعال الدقيق المبعثرة ههنا وههنا توحي للخاطر بوجود طفل وليد في الدار، ومن الغرفة المجاورة كانت تنبعث الحين بعد الحين أنغام شجية، وموسيقى متسقة منسجمة، إذ تهدهد الأم الرؤوم فتاها كي ينام. فيمتلئ الجو بالنشيد روعة وجمالاً، ويشيع فيه عبير اللذة والهناء، فيصيح الشاعر مهتاجاً:(لك الحق يا أخي أن تتزوج وأن تنعم بالزواج، فليست سبل السعادة كثيرة متشعبة. إنها هنا على مقربة منا. . . بربك التمس لي فتاة أتزوجها!)

المصور - أنا ألتمس لك فتاة؟! تالله لن أخوض غمار ذلك أبداً

الشاعر - ولماذا؟

المصور - تسألني لماذا؟ فاعلم أن أصحاب الفن ما ينبغي أن يتزوجوا، وما ينبغي أن يكون لهم في الحياة شركاء

الشاعر - يا للعجب! تقول ذلك ولا تخشى أن يغور نور المصباح وتنقض على رأسك الجدران. إن حياتك الزوجية نصب مائل للسعادة المنشودة والنعيم المقيم! ومثلك فيما تزعم

ص: 54

كمثل أولئك الأغنياء المترفين يكنزون المال ويضاعفون الثروة من آلام الآخرين وشقاء العاملين، ويستطيعون نار الشتاء حين يذكرون البؤساء الذين لا مأوى لهم ولا نار عندهم!!

المصور - قل ما تشاء، شبهني بما تهوى، فلن أكون لك إلا الصديق الوفي النصوح الذي يرى الخطر فلا يقف مكتوف اليدين متبلد الحس، جامد الشعور

الشاعر - أراك تسرف في كره الزواج إسرافاً كبيراً مع أني استروح أريج السعادة هنا كما أتنفس الهواء الطلق في الحقول!

المصور - نعم إني سعيد كما تقول، أحب زوجتي حباً جما وأرى فيها وفي ولدي كل جمال الوجود والحياة. لقد كان زواجي مرفأ هانئاً آمنا تحفه المياه الوادعة، أقلني وما زال يقلني إلى ما أصبو إليه من مواطن الراحة والسلام. وإنتاجي أحصب وسما، ولعل خير رسومي قد أبدعتها في عهد الزواج. . .

الشاعر - وما بالك تنأى بي إذن عن عالم السعادة؟

المصور - ها. . . إن السعادة التي أنعم في أحضانها إنما هي أعجوبة من أعاجيب القدر، لا يسمح بها الزمان، ولا تجود بها الطبيعة على الناس جميعا. وأنا كلما أدركت ماهية الزواج فرحت لهذا الحظ الضاحك الذي حباني به الإله الكريم. فحالي تشبه حال من فطن للهوة السحيقة المخيفة بعد أن اجتازها فأعجب بشجاعته ومضاء همته، وشكر الله على سلامته!

الشاعر - وما هي مساوئ الزواج يا أخي؟

المصور - أولى المساوئ وأعظمها أن الأسرة تستهلك المواهب وتميت الإبداع، وهذا أمر له وجاهته بلا ريب في حياة الفن الجميل. يكون الزواج استجابة طبيعية للغريزة الكامنة الحمراء، وقد يعلى شأن بعض الرجال ويوسع إطار خبرتهم، ويدنيهم من الأرض والمدنية، ثم لقد يكون ضرورة من ضرورات المهنة والمعاش. أما الفنانون من شعراء ومصورين ونحاتين وموسيقيين لا يمتزجون بالناس ولا يدخلون المجتمع، وإنما يعيشون على حافة الحياة يرقبونها عن كثب ويتأملون خطوطها وألوانها ثم يسجلون مشاهداتهم ويبدعون آثارهم. فالمتزوجون فيهم على هذا ينبغي أن يكونوا قلائل نادرين هذا (ديلا كروا) العظيم الذي تعجب به وتهيم برسومه قضى عمره الطويل أعزب يدب وحيداً بين جدران بيته. لقد

ص: 55

خطرت البارحة على (شانروازى) ومتعت النفس بحديقتها النضرة المتزهرة. إنه ظل عشرين عاماً يغدو بها وبروح لا مؤنس له غير هديل الحمام وتغريد العنادل. ترى ما قيمة إنتاجه لو كان أباً يهتم للكسب والأولاد، يربيهم ويعني بتعليمهم، وقد يمرضون فيسهر على مداواتهم ولا ينام؟!

الشاعر - ذكرت لي ديلا كروا مثلا، فهلا ذكرت فكتور هوجو. . . أتعتقد أن شؤون الأسرة قتلت ملكاته وأخذت عليه سبيل الإنتاج الأدبي الخالد؟

المصور - أنا لا أرى ذلك ابداً، ولكن الفنانين المتزوجين ليسوا كلهم عباقرة تهضم الفن والعائلة قواهم النفسية. . .

الشاعر - ما عجبت لشيء عجبي لحكاية متزوج سعيد لا يحب لغيره إلا العزوبة والوحدة!

المصور - إن الحكم الذي أضعه بين يديك ليس مصدره حياتي الخاصة! إنما كونته عندي تلك الشرور القائمة في كثير من الأسر التي عرفتها واتصلت بها. والباعث على الشرور التباين العقلي والنفسي بين الفنان وزوجه. أتذكر ذلك النحات الماهر الذي ترك الأهل والوطن وهاجر إلى حيث لا يدري مصيره أحد من الخلق؟ لقد كان يعبد مهنته ويفنى فيها وقته وحواسه، ولكن زوجه الذكية الحسناء كانت تريده على أن يحيط حسنها بهالة من الثروة والجاه، فطفق النحات يكد ويعمل طوال عشر سنين، وربما تدفع به وبنفسها في بعض الأماسي إلى الأبهاء الرفيعة الأرستقراطية تدخلهن واحدة بعد أخرى وتذيع فيهن مالها وبهاءها، ولقد تقطع عليه عمله في النهار لتزور ويزور صويحباتها، ثم يرتادان معاً أماكن اللهو ومجالس الأنس. ستقول إنه يستطيع لو شاء ألا يحقق مناها، ولكن الزواج في طبيعته يضطرنا إلى أن نؤثر جانب الرفق واللين على جانب الشدة والعنف. لا أنكر أن هواء البيت إنما نتنفسه على الرغم منا، ولو لم يكن فيه ذرة من القوة والمثل الأعلى لثقل علينا ضغطه وكثافته. إن الفنان ليودع في آثاره كل ما يملك من جهد وفكر، ويجرد لهذا الغرض العزم والإرادة، ولكنه يقف من توافه الحياة موقف العاجز الضعيف، يلين لزوجته حتى المهانة، ويخنس لسلطانها حتى العبودية، تأمره فيمضي في صمت وتقول فيفعل في هدوء. على انه قد يثور إذا اطرد الاستبداد واشتدت العبودية، فهذه العصائب المانعة للنور ان هي عاقته عن الإنتاج الفني لا يلبث ان يطرحها في نفور كما فعل المثال المهاجر، وقد

ص: 56

حزنت الزوجة لهذه الهجرة الفجائية فتساءلت (أأكون أنا الجانية عليه؟ هل من إساءة وخزته بها؟) بلى! إنها لم تعمد إلى الإساءة عمداً، وإنما جرت مع طبيعتها الطائشة الغريرة دون ان تفقه زوجها الحساس. فليس يكتفي ان تكون المرأة ذكية حصيفة لتصلح شريكة الفنان في الحياة، بل ينبغي لها في النزعات نكران الذات والتضحية بالنفس، وهذا ما لا تجده عند امرأة جاهلة بهرتها لذاذات الدنيا وغشيتها الأنانية!! إنما يرغب النساء أن يكن رشيقات ساحرات، وأن يتزوجن وجيه القوم كي يظهرن إلى جنبه متأبطات ذراعه. فأما الفنان الصناع فلا يجد متسعاً من الوقت حتى يتبرج مختالا كما يتبرجن مختالات فخورات، أرأيت كيف تشقى الاسر وينتابها الألم؟ أعرفت كيف يسقط الزوج ضحية الجلاد الأعظم. . . وبالأمس زرت (دار حنتى) الموسيقار وكان يسمر مع خواته الكثير، فطلبوا إليه فيما طلبوا أن يعزف على البيان، فقام يرجع لحنا سائغا طرب له الحاضرون وصفقوا أيما تصفيق، ولكن زوجته ما لبثت أن شرعت تتحدث في خفوت، فما زال صوتها يعلو حتى ملأ الغرفة وشغل الناس، فقطع الموسيقار لحنه ثم التفت إلي وهمس في أذني (هكذا تصنع معي على الدوام. إنها لا تطرب للموسيقى.!)

الشاعر - سهوت عن أمر جليل. إن الزواج خطرة هي لحظات الخور والملال، يتشاءم فيها الفنان ويشك في نفسه وفي قيمة فنه، فالمتزوج إنما يرى بقربه قلباً حبيباً يبثه أشجانه وشكوكه. والطفل؟ هذه الابتسامة البريئة التي تتألق على وجه الغض، أليست تعزى الشيخ وتجدد شبابه، ولك ما يخسره الفنانون يربحه أبناؤهم من بعدهم. فهذه الشعرات البيضاء التي تتساقط في المشيب يرونها تنبت سوداء متجعدة على رأس مستدير بديع

المصور - وكيف يستطيع الشيخ الواهن إطعام الطفل الصغير؟

الشاعر -. . . . وعلى كل حال فالفنان إنما خلقه الله للزواج قبل أن يخلقه للفن، فإذا لم يتزوج كان في الدنيا كالمسافر الجواب قد أتعبه التشرد فسكن إلى غرفة من غرف الفندق كتبت عليها هذه العبارة المبتذلة (للإيجار ليلة أو شهر)

المصور - ولكن هذا المسافر المتنقل لن يتذوق طعوم اللذات.

الشاعر - كفى! لقد اعترفت بأن في الدنيا لذات. . .

وبدا للمصور فنهض من مكانه إلى درج رسومه يلتمس منه كتابا مخطوطاً بالياً ثم عاد

ص: 57

وقال (أما المناقشة على هذا النحو فلن تفيد أبداً. لقد بسطت لك رأيي ولكنك تأبى إلا الزواج، فهذا كتاب خطته يد متزوج سعيد لابس أسر الفنانين ودرس ما يكابدون من أسقام، ثم صور ذلك تصويراً طريفاً دقيقاً، ولم يطبعه بعد، فاقرأه بإمعان فهو رادك بلا ريب إلى جادة الصواب. . .)

عن (أزواج الفنانين) بتصرف

محمد روحي فيصل

في الأدب الفرنسي

ص: 58

-‌

‌ الدوق دي لاروشفوكو

للدكتور حسن صادق

أطاع الملكة مكرها، ثم عاد إلى (فرتي) ينتظر تغير الحال ليحقق آماله الكثيرة. ومات ريشليو في عام 1642، فتحفز لاروشفوكو للمطالبة بثمن عطفه على الملكة ومساعدته إياها. وزعم أنه كان يكره هذا الوزير الذي كسر شوكة النبلاء، فانه أنصفه في مذكراته فقال:(فجعت الدولة في هذا السياسي الكبير. كان عظيماً في مقاصده، ماهراً في إنفاذ خططه، وقد ضمن بأعماله المجيدة الخلود لذكره)

هذا الشاب الخيالي الذي عرف ريشليو كيف يكبح جماحه دون أن يقسو عليه، أصبح أيام الوصاية على العرش يسعى وراء مصلحته الذاتية ليس غير.

الرجل الطموح

لما مات لويس الثالث عشر وأقيمت زوجه آن دوتريش وصية على ابنها لويس الرابع عشر، فرح الملتفون حولها وتطلعت نفوسهم إلى تحقيق مطامعهم على يديها. ورأت هي منهم ذلك فجادت عليهم بالوعود وتركتهم في آمالهم ينعمون، ثم وضعت أزمة الدولة في يد الكاردنيال مازاران صنيعة ريشليو عدو النبلاء والعظاميين ولم تأبه لرغبات لاروشفوكو الذي أظهر الوفاء لها في ظروف كثيرة، وهو يقول في مذكراته عن ذلك:(قضيت عشرة أعوام في خدمتها، وخاطرت بثروتي وحريتي في سبيل راحتها وحريتها حتى قيل عني إني شهيدها. وكثيراً ما قالت لي إنها لا تجد في البلاد ما تكافئني به على ما قدمت من معروف). ولكنها لما ملكت زمام الحكم نسيت قولها تمام النسيان

ولما يئس النبلاء من وعودها، كونوا فيما بينهم جمعية سرية ترمي إلى القضاء على سلطان الوزير مازاران واختاروا الدوق دي بو فور رئيساً لهم. وانضم إليهم لاروشفوكو اسماً دون أن يوافق على سلوكهم وخطتهم، وأصبح البلاط حزبين: حزب الوزير وحزب الدوق دي بوفور. ولأجل اكتساب عضد الملكة الوصية على العرش، تقدمت الجمعية إلى لاروشفوكو أن يرجو من الملكة إصدار العفو عن صديقتها الدوقة دي شفريز حتى تعود إلى البلاد، فاطاع لاروشفوكو ومازال بالملكة حتى أجابت سؤله وأمرته بالذهبا إليها حاملاً

ص: 59

هذا الخبر السار، ففرح وقال في نفسه (أجابت هنا الطلب، وستجيب دون شك مطالبي الأخرى)

أسرع إلى مقر الدوقة وأدلى إليها بما حدث في البلاط أثناء غيبتها، ورجا منها أن تصبر على مازاران، فان أرضى رغباتهما وحقق آمالهما تركته وشأنه، وان أبى عليهما ما يطلبان شاكسته

ولكنها لم تكد تطأ أرض باريس حتى نسيت قول لاروشفوكو وحاولت عزل الوزير وإحلال أحد رجالها المسمى شاتونيف محله، وجهرت برغبتها في رد القوة إلى الأسر العظيمة التي تحبذ آراءها وترضى عن خططها. وقبل أن تقدم على عمل جدي، افتضح أمر الجمعية وألقى القبض على رئيسها في 2 سبتمبر عام 1643 وحبس في فنسين، وأمرت الدوقة بالإقامة في تور. أما لاروشفوكو فلم يمس بسوء، وكل ما أصابه في هذه الحادثة أن الملكة أمرت بأن يعرض عن الدوقة ويخلص للوزير. ولكنه لم يذعن لأمرها ولم يجن من وراء ذلك نفعا

واستمر في البلاط إلى عام 1646 كئيب النفس وسط مسرات البطانة ومرحها، وسعى سعي المجد إلى الحصول على إحدى الرتب العسكرية التي رفض قبولها من ريشليو، ولكن سعيه لم يصب غير الفشل. فدفعه اليأس من بلوغ مقاصده إلى الاتصال بالدوقة دي لونجفيل التي تضمر العداوة للملكة. وهذه الدوقة كانت شديدة الكبرياء مولعة بالمجون والاستهتار، وقيل إنها أحبت أخاها الدوق رانجان حباً فيه إثم كبير، وإنها كانت ترى في هذا الحب البغيض طريقة تميزها من (القطيع الإنساني). ولم يحبها لاروشفوكو، بل تصل بها وأظهر كلفه بها ليستخدمها في سبيل اغراضه. وهو لم يعرف الهوى المحرق كما تقول مدام دي سفنييه وقد سمعه سجريه يقول:(لم أعثر بالحب إلافي القصص الخيالية)

وفي أغسطس عام 1648، قامت ثورة في باريس تعرف في تاريخ فرنسا باسم (ومعناها لغة: النبلة التي يستعملها الصغار عندنا في صيد العصفور، وكانت شائعة في فرنسا وقت قيام هذه الثورة فسميت باسم هذه اللعبة)، ثم امتد الاضطراب إلى الريف، وأشعل الفلاحون في (براتو) نار الشغب. وكان لاروشفوكو قد حصل على حكمها بفضل مكانة أبيه، فقمع هذا الشغب قبل أن يستفحل، ونال بعمله هذا إعجاب الوزير مازاران. ولكنه كان يسعى

ص: 60

إلى شيء آخر غير الإعجاب بعمله، كان يرغب في الحصول على لقب دوقة لزوجه وعلى الأذن له بدخول فناء قصر اللوفر في عربة كآل روهان (وهم من سلالة ملوك بريتانيا) فلما خيب الوزير أمله، انضم في الحال إلى الثائرين على الرغم من رأي والده وأسرته، وأسرع إلى باريس لمقابلة الدوقة دي لونجفيل التي أعدت خطة لأضرام نار حرب أهلية. وقد حاولت أن تضم إليها أخاها الدوق رانجان الذي أصبح أمير كونديه بعد موت أبيه في عام 1646، ولكنها أخفقت لأن الملكة غمرته بالنعم الجزيلة ثمناً لمساعدته إياها

أخذ كونديه بعضد الملكة وأنقذ البلاط من الثائرين وأصبح صاحب الكلمة النافذة فيه، فألحف في طلب المال لنفسه والمزايا لأصدقائه ومن بينهم لاروشفوكو ، وأجابه مازاران إلى ما طلب ولكن النبلاء تقدموا إلى الملكة أن تلغى هذه المزايا فألغتها في 10 اكتوبر عام 1649. وفي ذلك اليوم كتب لاروشفوكو في كراسة يذم الوزير ويسخط عليه لأنه (قاوم طموحه مقاومة عنيفة). وجملته الأخيرة تدل على روح النبلاء في ذلك العصر، وبقيت هذه الكراسة مجهولة من الناس حتى عثر بها فكتور كوزان في أوراق كونررا ونشرها

ولما ضاق الوزير ذرعا بكونديه استعمل الخديعة حتى ألقى عليه القبض هو والدوق دي لونجفيل وقد حريتهما في الهافر، وخافت الدوقة دي لونجفيل أن تصير إلى ما صار إليه زوجها فهربت إلى هولانده بمساعدة لاروشفوكو

وفي 5 فبراير 1650 مات والد لاروشفوكو، فاتخذ من إقامة المأتم ذريعة إلى جمع كثير من النبلاء والفلاحين والجياد (700 نبيل، 800 فلاح، 2000 جواد خطبهم واستوقد حماستهم لمحاربة جنود الملك. ولكن هؤلاء قهروا رجاله وأهلكوا زرعه ودمروا قصره في (فرتى). ويقول أحد أصدقائه أن لاروشفوكو لما بلغه خبر الدمار الذي أصاب القصر الناطق بعظمة أجداده، اعتقد أن الدوقة دي لونجفيل ستقدر له هذه التضحية في سبيلها حق قدرها، وبعث هذا الاعتقاد في نفسه سروراً كبيرا. وقبل انقضاء شهر فبراير هدأت الحال وأطلق سراح كونديه ومن معه، وغادر مازاران البلاد حتى تسكن العاصفة

استرد كونديه حريته ولكنه أضمر الشر للوزير والملكة. ولما بلغ لويس الرابع عشر رشده في 6 سبتمبر عام 1651، وأقيمت لهذه المناسبة حفلة فخمة: في قصر اللوفر لم يحضرها كونديه وأعوانه خشية أن تنال الملكة منهم منالا. وعرفت أخته الدوقة دي لونجفيل ميله

ص: 61

إلى إشعال نار الحرب الأهلية مرة ثانية، فشجعته حتى سل سيفه في وجه الملك

يتبع

حسن صادق

ص: 62

‌العُلوم

4 -

يسألونك عن الأهلة

للدكتور احمد زكي

(تتمة)

سطح القمر

ثم جاءت الفوتوغرافيا فمكنت الإنسان في ساعة قصيرة مما كان يتطلب منه أياما طويلة، وقدّرته بمجهود فني مركز قليل، على ما لم يكن يقدر عليه إلا بمجرد قاس منهك كبير، وكانت الفوتوغرافيا في منتصف القرن الفائت في أول نشأتها، فكانت الخدمات الأولى التي أدّتها إلى علماء الأفلاك منقوصة مقصورة. ولكن ما لبثت أن تقدمت هذه بتقدم تلك، ورقب بحاث السماء بحاث التصوير فاستفادوا من كل جديد، وغيروا وحوّروا من الطرق المستحدثة حتى تتفق مع حوائجهم، وزادت تلك الحوائج وتضخمت حتى انفردت بمبحث خاص أسموه الفوتوغرافية السماوية هي اليوم من أهم الوسائل وأقرب الوسائط في دراسة كل ما يحدث في العوالم الدوّارة والشهب السيارة، وللتصوير الشمسي في دراسة النجوم والأقمار ميزات غير الميزة الظاهرة ترجع إلى طبيعة العدسات وإحساس الأفلام. فعين الإنسان مثلا إذا حدّقت في شيء مباشرة أو بواسطة منظار فهي لا ترى من هذا الشيء إلا بعضاً صغيراً من كل كبير، لذلك كان الرسامون القدماء يرسمون القمر بأقلامهم من خلال المنظار قطعة قطعة، وخريطة خريطة، ثم يصلون بين هذه الخرائط لتتم الوحدة، وذلك لأن عيونهم لا تستطيع أن تُبَوئر من المنظور إلا منطقة قليلة، أما عين الكمرة فأوسع من عين الآدميّ واشمل، فنظرة واحدة منها تعدل نظرات المئات من الناس. وعين الكمرة يتراكم فيها أثر المنظور بتطاول الزمن، وليس هذا لعين الإنسان، فأنت تنظر الشيء القليل الضياء فلا تراه أبداً أو تراه مبهما، ولا تفيدك إطالة النظر إليه إلا تعب العين فزيادة الإبهام، أما الأثر في الكمرة فكيميائي فللزمن عامل فيه، فكلما زاد التعريض زاد الأثر فبان الخفي واتضح المبهم. وقد رأت الكمرة وترى في السماء أجراما عميت عنها النواظر. وعين الكرة تحس أضواءً من أنواع لا تراها العين، فالعين لا ترى إلا المرئيّ

ص: 63

من الطيف، أما فوق البنفسجي وما دون الأحمر فلا ترى منهما شيئاً، وهي أضواء في دراسة السماء لها خطر كبير تضطلع به الكمرة بكفاية محمودة

والقمر أول أجسام السماء التي اتجه إليها البحاث في التصوير الفوتوغرافي، اقترح ذلك أراجوا عام 1840 ولكن انفذه الدكتور درابر في نفس العام، وكانت طريقة التصوير المعروفة عندئذ هي طريقة داجير يستخدمون فيها لوحاً من نحاس مُفضَّض يحسّسونه ببخار اليود والبروم، ونجح بها تصوير القمر لأول مرة نجاحاً خطيراً، ولم يكن خطره في حسن الصورة الناتجة وشدة وضوحها وكثرة تفصيلها، فهي لم يكن لها ذلك، وإنما كان خطره في ان القمر أمكن تصويره من ضوئه، فقد كان الناس في شك من احتواء هذا الضوء على أشعة الشمس التي تؤثر في أملاح الفضة

وجاءت طريقة التصوير بالكلّوديون وهو النتروسليولوز مذابا في كحول وأثير، يضاف إليه يودور الصديوم أو البوتاسيوم مع قليل من البرومور، ثم يُفرش على ألواح من زجاج تغمس في الظلام في حمام من أزوتات الفضة فيتكون عليها بذلك يودور الفضة وبروموره وهما الملحان الحسّاسان.، وكان لا بد من تجهيز اللوح قبيل التصوير مباشرة. استخدم هذه الطريقة كروكس وديلارو فجاؤا بصور أقصر زمنا وأوضح تفصيلا. ثم خطت الفوتوغرافيا خطوتها الثالثة في التقدم فصنعت الألواح من الجيلاتين بدل الكلوديون فخرجت إلى الأسواق ألواح جافة. ثم حلت الأفلام محل الزجاج. ولا دراك الفرق بين طرق التصوير الثلاث الفائتة نذكر أن متوسط المدة اللازمة لتعريض اللوح في طريقة داجير هي نصف ساعة، وفي طريقة الكلوّديون عشر ثوان إلى خمس عشرة ثانية، وفي طريقة الجلاتين ثانية إلى جزء من مائتين من الثانية. والزمن له قيمته في تصوير المتحركات ومنها الأجرام السماوية

وتتخلص نتيجة الفحص البصري والفوتوغرافي في تمييز أشياء ثلاثة على سطح القمر هي أظهر ما فيه

اما الشيء الأول فسلاسل من الجبال متباينة الأشكال، بعضها بالغ العلو طويل السلسلة، وبعضها مفرطح متصل يكون نجادا واسعة، وبعضها متقارب الجبال متجمعها، وبعضها كبير الميل عميق السفح رفيع القمة. وقد توجد في الوديان تلال كالاهرام منثورة مبعثرة،

ص: 64

وقد تعلو وتميل بغتة حتى لتشبه أكثر مناطق الأرض وعورة، ومن أغرب ما في تلك السلاسل جسور قليلة العلو إلا أنها مسرفة في الطول تمتد بين الجبال فتربط الكبير والصغير والمجموع بالمنثور.

أما الشيء الثاني فجبال ذات فوهات كالبراكين هي في الواقع أخص مظاهر السطح، وهي فوهات أوسع كثيراً من فوهات البراكين الأرضية، فجبل كوبرنكس يبلغ قطر فوهته فوق الخمسين ميلا، وتختلف تلك الجبال الفوهية في مظهرها، فبعضها فوهته كالحائط المستدير، وبعضها تكسرت فوهته فظهر ما بقي منها كالجبال تجمعت في استدارة حول حفرة الفوهة، وبعضها عمقت حفرته أو ضحلت أو تقورت أو تقعرت، وبعضها انخفض قاع حفرته عن مستوى الأرض بظاهر الجبل، وبعضها قاربه أو علا عنه كأنه فنجان امتلأ، وتعزى أصول هذه الجبال الفوهية القمرية إلى مثل أصول البراكين الأرضية، ومنها ما يركب بعضه بعضا كما تعلو الحلقة الحلقة ولا تطابقها، فيقال إن الأوطأ كانت بسبب انفعال باطني أقدم

ويميز الإنسان على سطح القمر عدا ما فات أخاديد مستقيمة تستطيل في الوديان في اتجاه واحد فإذا انحرفت عنه فعلت ذلك بغتة وسارت في استقامة جديدة، فاذا اعترضها جبل فوهيّ قطعتهن فهي أجدُّ منه ولادة، وإذا اعترضها جبل عصى فقطع اطرادها ظهرت وراءه دون أن يختلف مسارها. أما طول الأخدود الواحد فقد يبلغ المائة ميل، وأما عرضه فقد يزيد على الميلين، وتعزى هذا الأخاديد فيما تعزى إلى انشقاقات حصلت في السطح وهو يبرد وينكمش

وتتميز على سطح القمر أيضاً شعاعات تخرج من فوهات الجبال فتمتد مئات من الأميال لم يهتد الفلكيون بعدُ كل الاهتداء إلى تفسيرها

وكلما تقدم البحث في القمر وزادت معرفة الإنسان بأحواله خاب الرجاء القديم في العثور على أثر من آثار أناسيّ مثلنا تسكن القمر. بالطبع لم يكن مرجواً أن نرى شخص إنسان على القمر لقصور أجهزتنا الضوئية عن إدراك ذلك، ولكن تلك الأجهزة تتبين على سطح القمر أشياء تقل أطوالها عن نصف ميل، وإذن فلو كان على القمر ناس يسكنونه وفاتتنا رؤيتهم فلا أقل من أن نرى آثارهم، فالمدن لابد أن تكبر عن نصف ميل، وهي لا شك

ص: 65

تتغير خططها فتضيق وتتسع على الزمن، وتمتد إن شرقاً وإن غربا وإن شمالا وإن جنوبا وقد تطول وقد تستعرض، وقد فاتنا إدراك شيء من ذلك بأقوى المنظارات. هذا على افتراض أن الإنسان الذي يسكن القمر مخلوق على مثال إنسان الأرض في حجمه وجرمه، وهو افتراض لا تعززه طبائع الأمور. فانا نعرف إن الجاذبية على سطح القمر أقل منها على سطح الأرض، فهي تبلغ نحو الثمن، فالرجل منا إذا نط على سطح القمر ارتفع إلى نحو ثمانية أمثال ارتفاعه على سطح الأرض فمن اجل اتزانه يرجح أن يكون جرمه ثمانية أمثال جرمه على الأرض. وحكم مساكن الإنسان على القمر كحكمه، فهي إن كانت فلا بد أن تكون كبيرة ضخمة لتتوافق مع ساكن ضخم كبير ولتثقل فتتزن على سطح القمر فلا تندك من اهتزاز قليل. والمنازل الواسعة تؤلف لا شك مدناً كبيرة مديدة أكبر من مدن الأرض وهذا يسهل علينا مرآها، ولكننا لم نر شيئا. على أن كل الأدلة تقضي بخلو القمر من الماء ومن الهواء، وكلاهما لازم للحياة علت أو سفلت. والحياة كما نعرفها لا تكون إلا في درجات من الحرارة محدودة، فهي لا تزيد كثيراً على الخمسين، ولا تنزل كثيراً عن الصفر، والمعروف عن القمر أن نهاره بخمسة عشر يوماً من أيامنا، يظل فيه في مواجهة الشمس يأخذ من حرارتها فتعدو درجته المائة، يتلوه ليل بخمسة عشر يوماً من أيامنا يبرد فيه برودة دون ما تحتمله الحياة بكثير. فالحياة - كما نعرفها - لم يثبت وجودها على القمر، لا عياناً ولا استنتاجاً، بل ثبت النقيض.

احمد زكي

ص: 66

‌القصص

البلبل والزهرة

لأسكار ويلد

ترجمة الأستاذ محمود الخفيف

صاح الطالب الشاب قائلا (وعدت أنها سوف تراقصني إن أنا أحضرت لها ورداً أحمر، ولكن ليس في حديقتي كلها وردة حمراء).

فسمعه البلبل وهو في عشه على شجرة السنديان وتطلع إليه في دهشة من خلال الأوراق وأردف الفتى قائلاً وقد اغرورقت بالدمع عيناه الجميلتان (لن توجد وردة حمراء في حديقتي كلها! آه. كم تكون السعادة رهينة بأتفه الأمور! لقد قرأت كل ما كتبه العقلاء ووقفت على أسرار الفلسفة ومع ذلك أرى حياتي يكتنفها الشقاء من أجل وردة حمراء)!

وعندئذ قال البلبل (ها قد لقينا في النهاية محبا صادقا. لقد طالما تغنيت بذكره الليلة تلو الليلة ولو لم أكن أعرفه. ولقد طالما تحدثت عنه إلى النجوم. وهأنذا أراه الآن! إن شعره فاحم كزهرة الخزامى، وان شفتيه لتمثلان في حمرتها الوردة التي يطلب، ولكن تواجده قد أحال لون وجهه إلى لون العاج المصفار، كما أن الأسى قد ترك طابعه فوق جبينه).

وتمتم الطالب قائلا (سوف يقيم الأمير حفلا مساء غد وستكون عشيقتي هناك، فان أنا أحضرت لها وردة حمراء فإنها ستراقصني حتى مطلع الفجر، وسوف تسند رأسها إلى كتفي، وتضع يدها في قبضة يدي. ولكن ليس في حديقتي وردة حمراء، وإذا فسوف أنزوي وحيدا، وستمر بي عشيقتي فلا تأبه لي، وإذ ذاك يتحطم قلبي!) وعاد البلبل إلى حديثه قائلا (ها هو ذا محب وفي حقا! انه يشقى بما أترنم أنا به، وان هذا الذي بعد مبعث الجذل عندي أراه عنده مبعث الهم والألم. حقا ان الحب لشيء عجيب! أانه أغلى ثمناً من الزمرد، وأندر من تلك الجواهر المعروفة بعين الهر، ولا يمكن أن يقوم باللآلئ، كما انه لن يعرض في الاسواق، ولن يوجد عند تاجر أو يوزن في ميزان الذهب)

وقال الفتى (سوف تجلس جوقة الموسيقى في البهو، وسوف يعزف أفرادها على آلاتهم، وعندئذ سوف ترقص عشيقتي على نغمات العود والقيثار، وسترقص في خفة حتى لن

ص: 67

تمس قدماها الأرض، وسيجتمع حولها رجال الحاشية في ثيابهم الزاهية. أما أنا فإنها لن تراقصني، فليس لدي وردة حمراء أقدمها إليها)، وعندئذ ألقى الفتى بنفسه على العشب وغطى وجهه براحتيه واستسلم للبكاء فتساءلت حرباء خضراء، كانت تجري إلى جواره رافعة ذيلها في الهواء (ما الذي يبكي هذا الشاب)؟ وشاركها في تساؤلها فراش كان يرف في شعاع الشمس. حقا ماذا يبكيه؟ (وأعقبتهما أقحوانة، فهمست إلى جارتها في صوت خافت ناعم قائلة (فيم هذا البكاء)؟

وأجاب البلبل قائلا (انه يبكي من أجل وردة حمراء)

فصاح الجميع في دهشة (من أجل وردة حمراء؟!. يا له من أمر مضحك، وصاحت الحرباء الصغيرة ضاحكة منه وفي عينيها معاني التهكم.

ولكن البلبل كان يفهم سر هذا الحزن فجلس صامتاً على شجرة السنديان مفكرا في الحب وما يكتنفه من أسرار.

وبينما كان غارقا في تفكيره، إذ بدا له فنشر أجنحته ذات اللون البني، وارتفع في الهواء، وعبر الحديقة كما يعبر الطيف حتى وقع بصره على شجرة ورد جميلة، فحط على غصن من غصونها، وصاح بها قائلا

(أعطني وردة حمراء فأغنيك أحسن أغاني)

ولكن الشجرة هزت رأسها قائلة (إن وردي كله أبيض، كزبد الموج في بياضه أو هو أشد بياضاً من الثلج الذي يكلل فتن الجبال. اذهب إلى أختي هنالك حول المزولة وستعطيك ما تطلب)

وطار البلبل حتى أتى تلك الشجرة فصاح بها

(أعطني وردة حمراء فأغنيك أحسن أغاني)

ولكن الشجرة هزت رأسها قائلة (إن ورودي كلها صفراء، تحكي في صفرتها شعر الجنية التي تجلس على عرشها الكهرماني، أو هي اشد صفرة من زهرة النرجس التي يسطع لونها في المرعى قبل أن يأخذها المنجل. ولكن اذهب إلى أختي هنالك تحت نافذة الطالب، وربما منحتك طلبتك، فانطلق البلبل إلى تلك الشجرة فخاطبها بقوله:

أعطني وردة حمراء فأغنيك أحسن أغاني.

ص: 68

فهزت الشجرة رأسها قائلة (إن ورودي حمراء، كقدم الحمامة في حمرتها، أو هي أشد حمرة من مراوح المرجان الهائلة التي تتماوج في جوف الخضم، ولكن الشتاء جمد عروقي، والصقيع نثر براعمي، والعاصفة قصفت غصوني، ولذلك فسوف لا ألد وردة هذا العام)

فقال البلبل (ان كان ما أطلبه وردة حمراء واحدة، وردة واحدة فقط. أو ليس من سبيل إلى تلك الوردة)؟

وأجابته الشجرة قائلة (هناك وسيلة إلى مبتغاك، ولكنها جد مخيفة حتى أنني لا أقوى على ذكرها).

ولكن البلبل رد بقوله (هات ما عندك فلن أخاف شيئا)

وحينئذ قالت الشجرة (إذا كنت تريد وردة حمراء فعليك أن تبغيها بألحانك في ضوء القمر ثم تفرغ عليها دم قلبك. عليك أن تغنيني، وصدرك مسند إلى شوكة من أشواكي، وعليك أن تقطع الليل كله صادحاً على أن تدع الشوكة تنفذ إلى قلبك حتى يتدفق دم حياتك في عروقي ويصبح لي)

وصاح البلبل قائلا (كثير أن أقدم حياتي ثمناً لوردة حمراء، وحياة كل مخلوق غالية عنده. لشد ما يبهجني أن أجلس في الغابة الخضراء وأرقب الشمس تجري في مركبها الذهبي، والقمر في مخدعه اللؤلؤي. ما أجمل منظر الزهور في عدوتي الوادي وعلى سفوح التلال، وما ألذ النسيم ينشر في الجو عطره الفياح. على أن الحب أحسن من الحياة، وما قيمة قلب طائر اذا قورن بقلب رجل)؟

ونشر البلبل أجنحته البنية وارتفع في الجو وعبر الحديقة كما يعبر الطيف، حتى أتى الطالب فوجده حيث تركه لما يزل مستلقيا على العشب، ولم تجف الدموع في عينيه الجميلتين، فوجه إليه الخطاب قائلا:(أبشر أيها الفتى ولا تحزن فسآتيك بالوردة الحمراء. سوف أبغيها بأغاني ضوء القمر، وسوف أصبغها بدماء قلبي، وكل ما أطلبه منك في نظير ذلك أن تظل وفياً في حبك، فان الحب أكبر عقلاً من (الفلسفة) وان اشتهر بالحكمة، وأشد سلطانا من القوة وإن اشتهرت باليأس. ان أجنحته حمراء كاللهب، وان جسده مشبع الصبغة من ذلك اللون المتوهج، أما شفتاه فحلوتان كالشهد، وأما أنفاسه فعطرات كالعنبر المتضوع.

ص: 69

ورفع الطالب رأسه مصغياً ولكنه لم يفهم ما قاله البلبل لأنه لا يفهم إلا ما يقرأ على صفحات الكتب.

ولكن شجرة السنديان فهمت ما أعيا الطالب فهمه، فاشتد حزنها لأنها كانت تحب هذا البلبل الصغير الذي بنى عشه في أحضانها، ثم توسلت إليه أن يغنيها أغنيته الأخيرة قائلة إنها سوف تعاني آلام الوحشة والعزلة لفقده.

فغناها البلبل أشجى ألحانه، وكان صوته العذب كصوت الماء ينصب من إبريق فضي، ولما فرغ من غنائه نهض الطالب وقد أخرج من جيبه ورقاً وقلما وحدث نفسه وهو يسير في ممرات الحديقة قائلا

(أما ان لهذا البلبل طريقة في لحنه فهذا ما لا سبيل إلى إنكاره، ولكن ليت شعري هل يصحب هذا اللحن شعور؟ أخشى أن يكون هذا الشعور معدوماً، وإذا رجعت إلى الحقيقة فهو كمعظم الفنانين. إن له أسلوباً ولكنه ينقصه الإخلاص لفنه. وانه لن يضحي بنفسه من أجل الغير. ولن يفرك إلا في الموسيقى، وكل إنسان يعلم أن الفن والأنانية صنوان، وعلى أي حال فلن أستطيع أن أنكر عليه ألحاناً جميلة في صوته، ولكنها مع الأسف لا روح فيها وليس ثمة أية فائدة من ورائها).

ودخل الفتى حجرته واضطجع على سريره مفكراً في حبه وبعد هنيهة ظلله الكرى بجناحيه.

ولما أضاء البدر في السماء طار البلبل إلى شجرة الورد، وأسند صدره إلى الشوكة وجعل يغني طول ليلة والشوكة تنفذ في صدره رويداً رويداً، حتى تدفق الدم من عروقه والبدر ينصت إليه في هدوء.

غنى البلبل أولا عن الحب وكيف يولد في قلب كل صبي وصبية، وعند ذلك أسفرت وردة بديعة في أعلى أغصان الشجرة، وكانت تزداد ورقة في إثر ورقة كما كان يرسل البلبل ألحانه لحنا في اثر لحن. وكان لونها أول الأمر شاحبا كلون الضباب الذي يطفو على صفحة النهر، أو كقدم الصبح إذا تقدم يسعى، أو كجناحي الفجر عند طلوعه، كان كلامه حيال الزهرة في مرآة فضية، أو في صفحة بركة ساكنة. ولكن الشجرة أهابت بالبلبل أن يضغط بصدره على رأس الشوكة قائلة: (أقبل بصدرك على الشوكة أكثر مما تفعل أيها

ص: 70

البلبل الصغير وإلا أسفر الصبح ولما تتم الوردة.

وأطاع البلبل فاشتد ضغطه على الشوكة، وكانت ألحانه تعلو شيئاً فشيئاً إذ أخذ يغني عن العاطفة، وكيف تنشأ في نفوس الفتيان والأوانس. وهنا تمشت حمرة خفيفة في الوردة، حمرة أشبه بتلك التي تصبغ وجنة العروس عندما يطبع أول قبلة على شفتي عروسه! ولكن الشوكة لم تكن حينذاك قد وصلت إلى قلبه، فبقي قلب الوردة أبيض، فلن يصبغه بالحمرة إلا الدم المنبعث من صميم قلب البلبل ولذلك صاحت الشجرة بالبلبل قائلة: أقبل بصدرك على الشوكة أيها البلبل الصغير وإلا طلع النهار ولما تتم وردتك).

وزاد البلبل الشوكة ضغطا حتى مست قلبه فاشتد ألمه، وكان غناؤه يزداد ارتفاعا كلما اشتدت حدة الألم، كانت ألحانه تتجه اتجاها غير متزن، إذ كان حينذاك يغني عن الحب كيف يصل به الموت إلى الكمال وكيف يضمه القبر، فلا سبيل إلى تغيره في هذا المثوى الأخير.

وهكذا اكتست الوردة لونا قرمزيا، سرى في جميع أجزائها، وكان صوت البلبل المسكين يتضاءل، وكانت أجنحته ترف وقد مرت غشاوة أمام بصره حتى وصل لحنه إلى صوت خافت وأحس بحشرجة في حنجرته.

وأطلق البلبل آخر نغماته فسمعها القمر الوضئ، فنسى مطلع الفجر وتلكأ في صفحة السماء، وسمعته الوردة الحمراء فاهتزت اهتزاز الغبطة، وفتحت أوراقها لنسيم الصباح، وحمل الصدى هذا اللحن إلى الكهف القائم على سفح التل فبدد أحلام الرعاة وأيقظهم من سباتهم، ثم سبح هذا اللحن خلال اليراع المتمايل على ضفة النهر ومن ثم اتخذ سبيله إلى البحر.

وخاطبت الشجرة البلبل قائلة، ها هي ذي الزهرة قد تمت، انظر بعينك إليها ما أجملها، ولكن البلبل لم يجب فقد لفظ أنفاسه وسقط جثة هامدة بين الحشائش، والزهرة مغموسة في صدره. وعند الظهيرة فتح الطالب نافذته وألقى ببصره إلى الحديقة فصاح قائلا (ياله من حظ سعيد ها هي ذي وردة حمراء. لعمري ما رأيت وردة كهذه في حياتي. إن جمالها ليميل بي إلى الاعتقاد بأنه لابد أن يكون لتلك الوردة اسم لاتيني طويل) ثم ذهب إليها فقطفها.

ص: 71

ولبس الفتى قبعته، وجرى إلى بيت الأستاذ والوردة في يده وكانت ابنة الأستاذ جالسة لدى الباب تلف خيوطا من الحرير الأزرق وكلبها الصغير نائم عند قدميها فخاطبها الفتى قائلا:

(لقد وعدت أنك سوف تراقصيني إذا أحضرت لك وردة حمراء، انظري إلى هذه الوردة إنها أشد الورود في العالم حمرة سوف تضمينها هذه الليلة على صدرك في موضع قلبك، وعندما ندور معاً في رقصتنا ستحدثك هذه الوردة عن مبلغ حبي لك)

ولكن الفتاة عبست قليلا ثم قالت

(أخشى ألا يلائم لونها لون ملابسي، وزيادة على ذلك فقد أرسل إلى ابن أخي رئيس الحجاب بعض الحلي الثمينة وأظنك تعرف أن الحلي أغلى من الزهور).

وصاح الفتى مغضباً:

(لعمري انك ناكرة للجميل، ثم رمى بالزهرة في الشارع فمرت فوقها عجلة فتلاشت وأجابت الفتاة

(ناكرة للجميل)؟ يا لك من فظ! ولكن قبل كل شيء خبرني من أنت؟ إن أنت إلا طالب فحسب، وما أظنك قد اتخذت يوما رباط حذائك من فضة كما فعل ابن اخي رئيس الحجاب، ثم نهضت واقفة ودخلت المنزل.

وقال الطالب وهو يبتعد عن دارها، ما أسخف الحب، أين هو من المنطق وفوائده؟ إنه لن يحقق شيئاً ما، ولن يحدثنا إلا عما لا يمكن حدوثه، وزيادة على ذلك فهو يجعل المرء يعتقد في أشياء لا ظل لها من الحقيقة، إنه في الواقع أمر غير عملي، وما دامت النزعة العملية هي كل شيء في هذا العصر، فإني سوف اتجه ثانية إلى الفلسفة وأدرس العلوم العقلية.

وعلى ذلك اتجه إلى حجرته وتناول كتاباً كبيرا قد علاه التراب، ففتحه وانكب عليه قارئا.

محمود الخفيف

ص: 72

‌النقد

حول الينبوع أيضاً

إلى الدكتور احمد زكي أبى شادي

أما أنا، فأني أرى اللجاجة ليست تفيد، وما كان مثلي يبغي النغرض، وما كان مثلي يهوى التسرع، وإنما صح ما توقعت ووقعت الواقعة، وإذا أنا أعود فأردد مرة أخرى، ما عرفت الدكتور وإضرابه من إخواننا المصريين، إلا أباة على النقد، يثيرون من أجله المعارك، ويتسارعون بسببه إلى الخصام والنزاع،

فأنا أغتفر للشاعر حدته في الرد، لأن الشاعر أناني بطبعه يأبى أن يسخف له الناس أثره، ويكره من يبخس شيئا من قدره، وأشكر له حسن ظنه بي، ولا أبغي تسجيل هذه الكلمة عليه، ثم أضرب صفحا عن الماضي بأجمعه، وأعيد النظر في ينبوعه من جديد، وأؤكد له أنني قرأته مرة ثانية، وأؤكد له إنني حاولت أن أفهم، وأعوذ باله أن أزعم ان نفسه قد حلت في جسمي، فلست أعتقد بالحلول. ولا أزعم أن عواطفي قد اصطبغت بلون عواطفه فهذا أمر يعرف استحالته من الوجهة (البسيكولوجية) وأسأله العفو والمغفرة إن كفرت بقوله

كن أنت نفسي واقترن بعواطفي

تجد المعيب لدي غير معيب

أأفرط في أنانية الشاعر، إذ كيف يعقل أن يتشابه الناس تماماً والمادة وفي الروح. وما تشابهوا، لكن الشيء الممكن الذي أستطيع القيام به، هو أنني حاولت أن أوجد التجاوب الروحي بين نفسه وبين نفسي، مع أني لم أحاول أن أخلق مثل هذا التجاوب من قبل، فابن الرومي مثلا، لا يوجد أقل تجاوب روحي بين نفسه وبين نفسي، ولكنني معجب به لا لأنه يضرب على الوتر الحساس من قلبي، ولا لأنه يهيج دفين آلامي وأشجاني، بل لأني أجد في شعره فنا رائعا لا أستطيع إنكاره وبخسه. ولأضرب للدكتور مثلا آخر هو فيكتور هوجو فأنا أرى في شعره رأيا يخالف رأيي في ابن الرومي وربما كانت نفسه أقرب إلى نفسي من نفس بودلير الذي أعجب به إعجاباً شديدا.

فليس من الحتم على قارئ الشعر ألا يستسيغ إلا الشعر الذي تشابهت فيه نفسه مع نفس الشاعر، فقد يحب وقد يكره، ولكن هناك الفن الشعري، وهو الجامعة التي تؤلف بين القلوب، وتوحد بين الأفئدة، وما أظن في الناس إلا الحمقى يهزون أكتافهم إذا قرئ لهم

ص: 73

شيء من الشعر الخالد الذي يتسم بصفات الفن الرائع، ولو كان يخالف نظرتهم وفطرتهم:

إن من عادتي يا سيدي الدكتور أن أعمد إلا الأفكار التي تكون طراز تفكيري، والمبادئ التي أستند إليها في تقديري، فأتناولها بين آونة وأخرى بالبحث والمراقبة والتشريح أبتر ضعيفها، وأنعش هزيلها. وأنشط قويها. قلت. . . ربما كان رأيي في شعر أبي شادي من القبيل الضعيف. فلأعد النظر وأؤكد للدكتور أنني كنت قاسياً على نفسي حتى يرضى.

فاللهم جنبني الشبهات، وسدد سبيلي، وحبب إليَّ الحق لأتبعه، ووجه روحي إلى النور لأدرك كنه صفحات الحياة التي تلوح لعيني كروح في ثوب صفيق من المادة. فإذا أبصرت بها واستهوتني اندفعت بكل ما في نفسي من جموح، لادرك سر تلك الروح.

الشعر مادة وروح، وشعر أبي شادي كذلك. فما هي المادة التي تتمثل في شعره؟ لا شك أنها اللغة، واللغة كما أعلم وتعلم هي الأداة المادية التي تشرح دخيلة الروح. ومع أن الدكتور قد جزم بأني لست ممن يصلحون لنقد لغة شعره وقد استحسنها من قبل أسياد كمصطفى جواد وغيره.!! فأنا أسير من حيث بدأت، فليست القضية قضية نحو وصرف وبيان وبديع، بل قضية ذوق شعري ولغة شعرية. وإذا شئت فقل قضية فنية بحتة، ويحسن بأولئك المدرسيين أن يتركوا الساحة قليلا، ويريحوا الناس من الإعراب والبناء التقدير، فهذا أمر تافه يدركه صبية المدارس، وقد أفنى الأقدمون فيه كثيرا من الوقت والجهد، وقد جاء هؤلاء في آخر القافلة

أقع بنظري على قصيدته التي أراد أني يفحمني بها، والتي أراد أن يبهر بها الناس فاقرأ:

نرى في البر الوان التناجي

وفي البحر المشارف والعميق

أو قوله:

كأن الحسن ذاب بكل لون

نراه وفي المياه وفي الطريق

اللهم أين كافر بالشعر إن كان هذا من الشعر، وكافر بأقوال مطران إن كان قد استحسن هذا القول مطران، وكافر بالأدب إن كان في رجال الأدب من يستسيغ هذا ويعجب به

أؤكد للدكتور أني غير موفق في انتقاء ما ينتقد. لكنني استعرض هذا وأمثاله. وقد يرى فيه مصطفى جواد أو غير مصطفى جواد منتهى الإجادة والبلاغة: أما أنا، أنا الشاك الذي بم يتكامل التجاوب الروحي بين نفسه وبين نفس أبي شادي، أنا الذي أسجل خطرات تشمئز

ص: 74

منها نفس أبي شادي، ما أزال أرى يا للأسف في هذا الشعر وأضرابه ضعفاً شديداً. أرى فيه لغة صحفية ليست لغة فن ولا شعر، أرى الاعياه الذي ما بعده إعياء في التصوير والتعبير! وتبدو لعيني فكرتي التي بسطتها عن لغة الشرع التي أقول فيها. أنا افهم إن الشعر هو التعبير الراقي عن احساسات النفس، (وما كل إحساس يصلح أن يكون شعراً بل الإحسان العلوي أقصد).

وعلى هذا الشكل فهم العرب الشعر. فقالوا عن القرآن إذ سمعوه انه شعر.

ان في اللغة الشعرية سحراً وروعة وفنوناً وموسيقى ونغمات صوتية تراها في شعر امرئ القيس كقوله:

مكر مفر مدبر معاً

كجلمود صخر حطه السيل من عل

واراها في شعر عنترة، أو عمرو بن كلثوم، وفي الشعر الغربي ما أكثرها في شعر (ادكار بو أو في شعر (بودلير أو في شعر (فاليري وما كل كلام مفهوم بشعر، ولا يكفي الشاعر أن يميز بين المنصوب والمرفوع، وليس يكفي أن يعرف الشاعر البحر البسيط أو الطويل أو الرجز، كل هذه قشور لابد منها ولا أهمية كبرى لها لبساطتها، إنما بيت القصيد في تلك الروعة وذلك السحر، او في توقيع الموسيقى، وفي تلاؤم تلك النغمات الصوتية، وما في شعر أبي شادي شي من هذا.

. . . لغة الجرائد يا دكتور تعبر عن كثير من الآراء الصائبة والأخيلة الرائعة، ولكنها تفعل فعلها في وقتها ثم تنطوي تحت ذيل الزمن وتموت، وما كان للشعر أن يكون مثلها، إنك لا تستطيع أن ترى في لغة الصحف روعة وسحرا إلا نادرا أو إنك لا تزعم أن فيها فناً أخاذا. أما شعرك يا دكتور فهو شعر عربي كلماته صحفي في فنه وتعبيره، كأني بك تذكر حكاية ذلك الأعرابي الذي دخل إحدى الحواضر فسمع أهلها يتكلمون فما فهم شيئا. انهم يقولون كلاما عربيا ما في ذلك شك. لكن أسلوب التعبير غير عربي، وكلامك يا دكتور في شعرك لا يصطدم مع الفاعل ونائبه والصفة والتشبيه لا نادراً، وجل من لا يسهو، عربي في ألفاظه مفهوم في عسر أو في يسر، لكن أين الفن الراقي في التعبير في مثل قولك؟

هذه الدنيا لأحلام الأديب

هذه غايات آمال الأريب؟

ص: 75

أظن أن صاحب الملل والنحل لو امتد به الأجل ما قال قولته المشهورة (هذا شيء لا يعجز عنه إنسان) إلا في شعر يشابه شعرك. لا عجب يا صاحبي هذا شان البحر، فالبحر لا يقذف بالدر دائما، ولكنه يقذف بالزبد في كل حركة، والإنتاج الفني الذي هو التعبير الراقي عن احساسات النفس لا يأتي عفو الخاطر، فإذا تحدثت إلى سيدي الشاعر عن اللغة أفلا يجدر بي أن أحدثه عن روح الشعر وعن المناسبة الشعرية. وعن الظروف التي تستدعي قرض الشعر.

لا أكتمك يا دكتور أني ممن يلقون بنفسهم بينكم معشر الشعراء، في المتن أو في الهامش، لا أدري، لكني من جماعتكم على كل حال شئتم أو أبيتم، وما أكثر أمثالي بين الشعراء، يكاد أحدهم يبعد عن محراق الفلك الشعري زهاء مائة كيلومتر، ويزعم بعد ذلك أنه من كبار الشعراء. أعذرني فأنا أناني مثلك، وأنا عندما أحدثك عن أنانيتي يجدر بي أن أشرح لك شيئاً من ذات نفسي كشاعر لا كنا قد. . . الموضوعات التي تستدعيني إلى النظم كثيرة يا دكتور، ونفسي دائمة الاضطراب والجموح. دائمة الحركة والثورة، هي متمردة متقلبة، ترى في كل ساعة موضوعات للكتابة، لكنني أكبح جماحها. أحول هذا الشعور الحاد إلى اللاشعوري ليتم نضجه، فإذا فرغت منه انصرفت إلى غيره، ففعلت به ما فعلت بالأول، وأنا بين هذا وذاك أمزج بين الشعور الهادئ المتزن وبين الشعور الحاد الجامح ثم اكتب. وبعد أن أنهي عملي ادفعه واهمله، واشعر ان عبئا قد أزيح عن كاهلي، أقبره لانه لم ينضج، تمر عليه أيام كثيرة أتناوله فيها بالتبديل والتغيير والمسخ، او بالتهذيب والترتيب والتنسيق، ولعلي ما أتممت شيئاً حتى الآن، فترضى عنه نفسي، وكيف أشرح نفسي للناس، وهم اجهل من ان يفهموها على وجهها، وكيف أبرز للناس وما أنا ممن يستطيعون التعبير عن مصائبهم وآلامهم وثورتهم، حسبي أنني لم أعرض شعوري فكيف اعبر عن مشاعر الناس، انهم يطلبون رعداً وبرقاً، وهم على حق فيما يطلبون، فهناك وطن يقتسم، وهناك بلاد يحتلها العدو والغريب، وهناك شرف صار إلى الرغام، وهناك مجد قد أفل، وهناك مجد الأمس وبؤس اليوم، وتاج الاجداد، وقبر الاحفاد، وحق للشاعر أن يرعد ويبرق، وأن يدفع الغمام الساجي المدلهم ليمطر، أما أنا فأني سائر في طريقي، وأرجوا أن أصل إلى ما اصبوا إليه، سأرعد وسأبرق، وسأنفخ في الرمم وسأصيح بالموتى ولكن. . .

ص: 76

ليس الآن، عندما تهدأ نفسي من جنون الشباب، عندما يأخذ قلبي في النظر العام الشامل، ففي ذلك الوقت استطيع أن ارضي نفسي وأرضي غيري، أما الآن فلا. وإن الجمهور ليطلب إلى الشاعر بكاء ونواحا، ويحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه ما اكثر شعراء البكاء في بلادنا، أما أنا فلم يبق في عيني دمع انضح به شهوات الناس. أني غدوت كشبح متحرك يراه الناس فيحسبون فيه القوة والجبروت، وأبصره أنا على وجه لا يرونه به. ماذا تبقى يا صاحبي، أنني أرى الناس، بل كثيرة الشعراء في واد، وأنا في واد، إنهم يتكلمون عن السماء وأنا اكلم عن الارض، أنهم يتكلمون على العالم باسره، وانا لا أتتكلم إلا عن (حديقتي). فإذا شعرت بهذا انصرفت إلى ألغازي التي حبرتها، وأوهامي التي نسجتها وصبغتها بألوان الجمال والقوة والحكمة، فتعينني في بلواي، بل كيف اقذف بها إلى الناس. وهيهات أن تلذ الناس، ما أنا طامح في رضاهم، ولا أنا خائف من شرهم، خير لي أن أعيش في حديقتي، أبذر وأقبر وأنتج واقتل، حتى لا تستطيع اليد قتلا، وحتى الضعف اليد عن حفر القبور.

أرأيت يا دكتور كيف أبعد عن الغرض الذي أسعى إليه، بل أرأيت كيف أسرف في الشطط. فقد أرهقتك وأرهقت القراء بهذر من القول لا طائل تحته، وإنما هي أقوال تلوح لذهني فاعلق بها على الرؤى التي تلوح لعيني، ما كان أجدرني يا دكتور إلا اكتب ولا أثير حفيضتك وإلا اضطر نفسي إلى الجواب، ربما كنت بعيداً كل البعد عن مذهبي في الشعر، فأنت تنحو في شعرك ناحية تسميها إنسانية عالمية، وأنا أرى أن الحياة قبل التفلسف، وعلينا أن نعمل للسير قبل الكمال، وأن نعمل للحياة قبل الجمال، وأن نعمل للحركة قبل الفن - إن صح أن هناك فناً - وأن على الشعراء واجباً نحو وطنهم وأمتهم، بل إن عليهم واجباً نحو أنفسهم، ماذا تستطيع النفس المقيدة الملجمة أن تنتج، ربما فهمت قولي يا دكتور وأولته على أني معك على مذهبك. كلا: فأنا لا أرى الشعر كتاريخ لنفس الإنسان: إنني أرى إن الشعر لا يرسم إلا الخطوط الأساسية من نفس الإنسانية جمعاء، وبقية الفنون والعلوم تلبس هذه الخطوط أثواباً فضفاضة من المادة والروح.

إنني استغفر الله يا دكتور، فما أردت سوءاً، وما كنت مغرضاً ولا ناقماً، لكنني من خدام الحقيقة. أريد أن اقبس من نورها ولو نالني من الناس ما اكره، أنا لا أريد أن أبني لنفسي

ص: 77

ذكراً على أشلاء الناس، ولكني أبحث عن ضالتي المنشودة

على إنني شاكر لك أن أتحت لي الانطلاق من جمود مميت، ومن حيرة قتالة كنت أعيش في ظلا مهما.

أنني أتسلى لا اكثر ولا اقل، إنني أثير الغبار وسنرى وما ينجلي تحت الغبار.

حلب

(المرتيني)

ص: 78