الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 450
- بتاريخ: 16 - 02 - 1942
ماضي الإسلام وحاضره
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
احتفلت مصر بأول السنة الهجرية، فجيَّ في الخواطر ذكر الهجرة النبوية؛ وتمثل للأذهان المثقفة ما سبقها وما وليها وتتابع بعدها من حوادث جِسام بنتائجها القريبة والبعيدة؛ واتجهت القلوب الشاعرة إلى ذلك الوطن الإسلامي المجيد الذي سطع منه نور الحقيقة الدينية فأضاء الآفاق.
وتلك ستون وثلاثمائة وألف سنة خلت بخيرها وشرها وتركت عبرها لمن يعتبر، فيرى أن الله أسعد المسلمين بدينه الكريم، وإنما هم أشقوا أنفسهم بميلهم عن صراطه المستقيم.
قام محمد بالرسالة والعرب على شفا حفرة من النار بما كان لهم من دين وثني في تأخر، وأخلاق في تدهور؛ فأنكروا عليه سعيه وائتمروا به، فهاجر إلى المدينة، ثم عاد إلى مكة المكرمة منصوراً بإذن الله؛ وأدخل الرسول في عقولهم الضالّة وأفئدتهم الشاردة عقيدة التوحيد الذي تجلّى في القرآن الشريف بمنتهى القوة وأروع الجلال، والذي هو جوهر الإسلام المتين على قواعده الخمس.
فاعتدلت أحوال العرب بقواعد الإسلام وعباداته وآدابه، وأصبح المؤمنون بفضل التوحيد أخوة في الدين، وجلَّ به شأن المسلمين. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خير المحسنين إلى الإنسانية بأمانته في إبلاغ الرسالة، وبعظمِه في سيرته الدينية والأخلاقية.
وما أجلَّ قوة الإسلام الذي انتشر سريعاً واستمكن في قارتين على حين كان القتلة يغتالون الخلفاء في أسوأ الحوادث! وأعظِم بها من قوة مدت سلطان الدولة الأموية من الشرق الأقصى إلى الغرب الأنأى في أقل من قرن إن هو إلا لحظة من الدهر! وأكرِم به من دين أزهرت بحسناته المدنية الإسلامية لعهد العباسيين!
فهذا هو الرسول يؤدي الرسالة، وهذا أبو بكر أقلّ عناية بوضع الخطط الحربية منه بالدعوة وجمع القرآن، وبتوطيد الوحدة الإسلامية، وتأسيس حكومة عربية؛ وهذا عمر لا يقلَّ عدلاً عن أبي بكر، وإن زاد ميلاً إلى الفتح وأشرف من الحجاز على جملة الأعمال الحربية؛ وقد كان بقوة يده وشدة شكيمته هو الرئيس الذي تحتاج إليه أمة حديثة التكوّن، يفتْها فيض مغانمها ويظل هو هادئ النفس الأبية، يضاعف بساطة عيشه، ويفخر بثوبه
المرقع، ولا ينال منه التعب، وليس له من الأغراض سوى أن يزيد الإسلام نصراً على نصر؛ وهؤلاء هم الصحابة والأنصار والأبرار، ثم الخلفاء العظماء والقواد الكبار: معاوية وعبد الملك والوليد وعمر وعبد الرحمن، وأبو جعفر المنصور والرشيد والمأمون، وأسامة، وأبو عبيدة، وأبن العاص، وخالد، وعقبة، وطارق، وأبن نصير، والحجاج.
رحم الله الجميع بما خدموا الإسلام في الفتح بالعقيدة والحسام والله (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذّكر إلا أولوا الألباب).
طغي الحكم المطلق لعهد المعتصم وبعده في جماعات إسلامية مختلفة دماؤها وذكرياتها القديمة؛ تقرأ في الكتاب المجيد: (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون)؛ وترى الموالي يبلغون أسمى المراتب، ويداخلها من روح الإسلام الآمر بالشورى والعدل ما يشبه شعور الديمقراطيات في أيامنا بلذة المساواة والحرية، فكان التناقض بين ذلك الطغيان وهذا الروح سبباً من أسباب قلقٍ سياسي واجتماعي مستمر في تلك الجماعات.
وجاء الانحطاط مع ضِعاف الخلفاء ذكاءً وعقلاً، فأصبحت الخلافات العباسية من عهد المعتصم متعثرة في غير الطريق الأقوم تزداد فيها القسوة ويقل التسامح، وتكثر الفتوق والمطامع والمطامح، ويتعدد الانقسام وتنفصل الولايات؛ ثم كثرت حركات الاستقلال في القرون التالية، وتضاعف عدد الأسر الحاكمة في كل صوب، فداول الله الأيام بين الدويلات حتى تضعضع الدهر بالشعوب الإسلامية، وأمست بلادها في النهاية أسواقاً للغاشمين ومستغلات ومسالك للغالبين، ومستعمرات تتبدَّل أسماء بأسماء، ولا تتغير المسميات (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)؛ (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم).
أما ذلك الطود الأشم، العزيز بالتوحيد، الثابت على قواعد الإسلام الخمس وحِكمه الخلقية وعلى السّنة المحمدية، فهو راسخ لم تذهب به زعازع القرون، ولن تذهب.
ولقد أثبت نجاح الدعوة نجاحاً متواصلاً أن الأخلاق الإسلامية لاءمت كل العصور، ودلَّ على أن الإسلام يوائم نور العقل الإنساني. وقد أيد مبشِّرون مسيحيون أن هذا الدين القويم ينتشر ويمد رواقه في الآفاق؛ وبديهي أن هذه الشهادة هي، بالنظر إلى علة انتشاره، إقرار
منهم بفضل الإسلام وسموّه من حيث هو دين، ومن حيث هو سبب للمدنية.
تلك الحقائق الواضحة ينكرها فريق من أصحاب المصالح الاستعمارية، الحريصين على نفوذهم أو سيطرتهم في البلاد الإسلامية؛ بل هو يزعم أن عالم الإسلام قوة من القصور الذاتي والقدرة على عدم المطاوعة تعارض بطبعها مدنية الغربيين؛ وإنه عالَم لا يقبل التغيير وعاجز بكيانه وأخلاقه عن التطور الصحيح النافع؛ فهو كتلة تظّل أبد الدهر غير قادرة على مساواة أمم غربية في الجَلَد والضمير، والصفات النفسية، برغم الظواهر وبعضِ التأويلات التي تخدع من لا خِبرة لهم برجال هذه الكتلة وشؤونها؛ ومواهبُ الشرق الفطرية مناحسُ، هي الخلو من المثل الأعلى ومن الفضائل القومية؛ وهي الجَوْر، والرغبة عن المشروعات التي يطول بتنفيذها الزمن؛ وهي البلادة في رخاوة وتثاقل، والجمود تتخلله أزَمات عنيفة قصيرة ليس فيها كبير طائل؛ فأحسن حال تحدث للبلاد الإسلامية هي أن تدخل، طوعاً أو كرهاً، في وصاية حكومات أجنبية تنيلها، بالتوجيه الحازم، خيرات النظام الذي تمنعها عوائقها أن تقيمه هي من تلقاء نفسها.
ألا إن الإسلام دين الفطرة واليُسْر، ولا تعقيد فيه. وأصله الاعتقاد بالله الأحد، وبالرسالة المحمدية. والقرآن هدى للمؤمنين لا عقبة في سبيل فلاحهم الاجتماعي والأخلاقي، والشرعي والفكري. وقد أصلح النبي على نوره شأنَ العرب وصَلُح به شأن أمم شتى. وكان تقييد العقول أبعَد الأشياء عن خاطر الرسول الذي أوحى إليه:(إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) و (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب).
وليس الإسلام بذلك النظام الجامد الذي لا يراه إلا أهل النظر السطحي أو أولو الأغراض. ولقد كانت المدنية الإسلامية، قبل قرون، أزهر مدنية في الدنيا، يوم كان شارلمان فارساً خشناً بالنسبة إلى هارون الرشيد؛ وكان العالم المسيحي، لأوائل عهد الإصلاح الديني في أوربا، على حال سادت فيها العقيدة على العقل، وعمّ الرضى الأعمى بالتعاليم وبالسلطة، والعداء لحرية الفكر والعلم، والارتيابُ بهما.
كلا، ليس الإسلام في شيء من المعارضة للعلم والمدنية؛ وقد قضى العالم الإسلامي عهداً مديداً في فتور وحياة متئدة، ولكنه آخذ في الخروج من حال تخلُّفه. فمن ذا الذي يستطيع أن يحكم بأنه لن ينطلق إلى طور جديد يعيش فيه عيشة مصححة بلا معين، محتفظاً
بمعيِّناته الأصلية؟؟
والحق أن للإسلام أثراً جليلاً في حياة الإنسان الدينية، ومكاناً فسيحاً في الدنيا. وله فيهما شأن عظيم سواء أكان من حيث هو دين أم من حيث هو عالَم يضم شعوباً على إيمان واحد، ومظهر أخوّتهم الدينية حجُّهم البيت في الوطن الأصلي الذي نشأ فيه دينهم: يدعوهم الإسلام فيخفّون إلى القبلةِ ويحتشدون فيها على رغم انقسامهم شيعاً ومذاهب، واختلاف نزعاتهم وتبعياتهم. فالإسلام قوة روحانية، وهو من ههنا قوة سياسية واجتماعية من الطراز الأول.
من أجل ذلك فشل طالبو محوه من الوجود ومحاربوه وجهاً لوجه؛ وأصبح في الغرب من يقول: (إن في العالم الإسلامي رجالاً لهم نزعة محمودة يعملون على التوفيق بينه وبين العالم الأوربي؛ وإن في الجانب الأوربي والمسيحي رجالاً أمثالهم يسعون سعيهم، ويدفع الجميعَ وجدانيّ واحد هو الشعور بواجب السعي في تحقيق هذا التوفيق الضروري. وإن هؤلاء الأفاضل - من الطرفين - هم وحدهم الأقدرون على تحقيق (الاتفاق) المنشود بين العالم الإسلامي والعالم الغربي المسيحي).
ويقول أيضاً إن كلمة (الاتفاق) - المطلقة المعنى الواسع العام - مستعملة عن عمد في هذا الكلام الذي لم يُرَد به سوى علاقات حسنة تسهّل الحياة فتروّج التجارة والصناعة، لأن الدين الإسلامي سلطان روحي هو من القوة وزَيْد الجدارة بالاحترام في مقام لا يمكن معه أن يُقصد هنا غير الاتفاق الودي. (ودَّتْ طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون).
وليس شك في أن العاقل يسره التفاهم بين الناس والتوفيق بين مصالحهم، وإيتاء صاحب الحق حقه لا وكس فيه ولا شطط. غير أن كلام الغربي - في هذا الصدد - يشفّ عن الحقيقة وإن ظهرت وراءه في خفاء. فعسى الساعون من رجال البلاد الإسلامية في تحقيق الاتفاق بين الطرفين أن يتبينوا هذه الحقيقة تفادياً من أن يشوب خيره شر لأوطانهم يُطيل أمْد بقائها تحت ألوان الحكم الأجنبي، وهو إسار وإن تموّهت أسماؤه الحسنى.
ذلك بعض ما يرى الناظر في ماضي الإسلام وحاضره، وما يجمعه تداعي المعاني في خاطره من حقائق عظيمة الشأن. وفي القرآن: (فذكِّر إن نفعت الذكرى، سيذكَّر من يخشى
ويتجنَّبها الأشقى).
فليت المسلمين يلتفتون إلى تلك الحقائق في فاتحة هذه السنة الهجرية المباركة، إذ يبدأ فيها الإصلاح الذي يتوخاه جماعة كبار العلماء، والعمل الجليل الذي عهدوا إلى لجنتهم في القيام به، والحمد لله! (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب).
محمد توحيد السلحدار
الهجرة والأخلاق
للأستاذ محمد يوسف موسى
الهجرة من الناحية التاريخية حادث من أبرز الحوادث في تاريخ الإسلام إذ كانت فاتحة مجده، ومقدمة علو كلمته على الشرك والمشركين. بها أعز الله الإسلام، وصار المسلمون بعد أن كانوا يستخفون من قلته، ويتسللون لواذاً للمدينة فارين بدينهم وأنفسهم، أقوياء بعد ضعف، فيهاجمون قريشاً ومن حالفها، وقد كانوا لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم عدوان المشركين وجبروتهم. لا جرم أن أفاض المؤرخون والكتاب في هذا الحادث؛ يصفونه، ويقصون ما كان من أمره في بدئه ونهايته.
لكن للهجرة نواحيها الأخرى التي لا تقل عن الناحية التاريخية خطراً، والتي يجب فيما أرى أن نتذكرها ففي هذا عظة وخير. من هذه النواحي الناحية التي تتصل بالأخلاق.
كلما تذكرنا هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مثابة قومه إلى المدينة مستقر أنصاره، نتمثل المبدأ القويم واعتزاز صاحبه به، ومحافظته عليه، ولو وقف الموت في سبيله أو عرضت عليه الدنيا بأسرها، كما نتمثل التضحية في سبيل المبدأ بالمال والولد وسائر ما تحرص عليه فطرة الإنسان وطبيعته. لقد صدع الرسول الشجاع بما أمر به، فلقي قومه من ذلك عظيماً، ورأوا فيه تسفيهاً لأحلامهم، وسباً لآلهتهم، واستهانة بما كان أسلافهم عليه من عقائد موروثة ودين مقدس عزيز. هبت قريش تتلمس السبل للتخلص من هذا الذي أقض عليهم مضاجعهم، وكان لهم في هذا محاولات عدة، باءوا من جميعها بالفشل؛ ومنها ما عرضوه من أن يُملِّكوه عليهم، فيكون الملك المطاع، وهم الرعية الخاضعة. رفض الرسول إذاً كل ما تقدمت به قريش؛ إذ وجد في ذلك ما يحول دونه ودون ما أخذ نفسه به من الجهر بالدين حتى ينال النصر، وتكون كلمة الله هي العليا. وفي ذلك موضع الذكرى والعظة!
ورأت قريش مع هذا أن تعالج الأمر من ناحية أخرى بالقوة العارمة والعذاب الشديد للمستضعفين من المسلمين تريد فتنتهم وردهم للكفر وقد نجاهم الله منه. لكن هؤلاء قابلوا الفتنة بالصبر والتضحية قبل الهجرة وحين شرعوا فيها. كان أول من هاجر إلى المدينة - فيما يروى ابن إسحاق - أبو سلمة عبد الله. فلما أجمع الخروج فرقت قريش بينه وبين
زوجه وأبنه، فطاب عنهما نفساً وبقيا بمكة ولم يلحقا به إلا بعد سنة أو قريباً منها. وصهيب بن سنان يروي ابن هشام حديثه لما أزمع الهجرة فيقول: إنه لما أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك. والله لا يكون ذلك! فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ربح صهيب، ربح صهيب.
هكذا كان ثبات النبي وصحبه على المبدأ وتضحيتهم في سبيله بالنفس والنفيس وصبرهم على الأذى. أما نحن فإن الواحد منا يرى وجهاً من وجوه الإصلاح ويعتقد أن في الدعوة إليه ونشره وأخذ الناس به الخير كل الخير لأمته؛ ثم يعد العدة للتبشير به مؤكداً لنفسه ولمن يحيط به أنه جاد فيما يرى، صادق فيما يقول، قائم بالدعوة مهما لقي في سبيلها، باذل في ذلك من وقته وماله ونفسه. وما هو إلا أن يلتف فريق من الناس حوله وإلا أن يلوّح له بعض ذوي الجاه والسلطان بسيف المعز وذهبه حتى ينكشف ويتضاءل فيعود مَسخاً ليس له من الرجولة إلا الإسم؛ وليس له من ماضيه وما كان أعتزم وقدر وقرر إلا الذكريات التي تتراءى له صوراً وأشباحاً تألم لها نفسه إن كان لم يفقد ضميره بعد، أو لا يأبه لها ولا يباليها؛ بل ويسخر منها إن كان فقد مع رجولته الضمير الحر الحساس أيضاً!
هل نحن في حاجة لضرب الأمثال لهذا الداء الذي شرى فما أظن أن من السهل أن نطب له ونبرأ منه، أعني داء عدم الاعتداء بالمبدأ والتمسك به، مهما قامت العقبات وتعقدت الأمور ما دام في التمسك به خير وصلاح الأمة. المثل لهذا كثيرة؛ نجدها في الميدان السياسي، ونجدها في الميدان الاجتماعي، ونجدها في الميدان الاقتصادي؛ وأخيراً نجدها في الميدان الديني. لنلق نظرة على ما صدر من الصحف في هذه السنوات الأخيرة نجدها ملأا بالدعوات الحارة لمبادئ مختلفة رأى الدعاة إليها خيراً كثيراً في تحققها، وربما ألفت لجان لبعضها تفحصها وتشير إلى وسائل جعلها حقائق فعلية بدل أن تظل أماني تجيش بها الصدور وتلج بها الألسنة. ولكن ما هي إلا أيام أو شهور ونرى الدعاة قد استوعروا الطريق واستطالوا الشقة، أو رأوا فيما يدعون إليه ما ينفر رئيساً أو ذا جاه، في ترك ما حسبوه جرى منهم مجرى الدم من مبدأ أو فكرة ما يقربهم زلفى إلى هذا الرئيس أو ذي
الجاه؛ حينئذ ينقلب الواحد من هؤلاء على عقبيه، وينكر ماضيه ويترك مبدأه ويعيش متمتعاً بما نال من حظوة وكسب من صيت وشهرة باعتباره رجلاً من رجال الإصلاح!
إن كنت مبالغاً في هذا الذي أقول فلنتذكر أن لنا بالقاهرة وحدها عشرات من الجمعيات الدينية والاجتماعية ولكل منها مبادئ قامت بها فيما تزعم عليها. وأنه ما من واحدة من هذه الجمعيات أخلصت أو تخلص لمبادئها وجدت أو تجد في الدعوة إليها أو تحقيقها! هل ربت جماعات الكشافة التي تزخر بها المدارس تلميذاً واحداً على الصدق في القول والاستقلال في الرأي والاكتفاء بالنفس، ومعاونة الغير، ونحو هذا من مبادئ الكشف والكشافة؟ هل أفلحت جمعيات المسلمين في جعل فريق من الناس ولو من أعضاءها مسلمين حقاً يعرفون - ويعلمون بما يعرفون - أن الصدق في المعاملة من الدين، وأن اعتبار المؤمنين جميعاً اخوة أساس الدين، وأن كراهة الظلم والظالمين مما يحتمه الدين ويدعو إلى أن يظهر بطريقة عملية تردع هؤلاء الظالمين؟ هل أخذ أعضاء هذه الجمعيات الدينية - التي تدعو للحشمة والصون والعفاف، وتحارب فيما تزعم التبرج والخروج عن الدين - أهلهم وأولادهم جميعاً بحدود الدين وألزموهم سننه وشرائعه؟ معاذ الله أن يفعلوا هذا وأن يلتزموا المبادئ التي يدعو إليها وأن يكون لهم في ثبات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصادقين على المبدأ الحق عظة وذكرى!
إذا تركتا هذا النحو من القول، وانعطفنا ثانية لحادث الهجرة نجد فيه مجالاً لعظات أخر من الخير أن نشير إلى بعضها.
هاجر النبي وصاحبه الصديق إلى المدينة فماذا فعل؟ كان أول ما عمل أن آخى بين المهاجرين والأنصار ليكونوا يداً واحدة عل من عاداهم؛ وكان من هؤلاء الأنصار أن واسوا إخوانهم المهاجرين وشاطروهم ما يملكون، وآثروهم ولو كان بهم خصاصة، فكانوا بذلك مؤمنين حقاً؛ حسن إيمانهم، وخلصت قلوبهم، ورأوا من الكذب والزور أن يزعم الواحد منهم أنه أخ لمن يشركه في الدين ثم يستأثر بما أنعم الله عليه به، ويزوي عنه حقه فيه؛ ويحتجن دونه نصيبه منه
أما نحن فنلوك بألسنتنا أن المؤمن أخ المؤمن لا يظلمه ولا يسلمه؛ ونقرأ كثيراً قول الله تعالى: (إنما المؤمنون اخوة)؛ وقول الرسول الحكيم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما
يحب لنفسه). نعلم هذا كله لا نؤدي الزكاة، ولا نواسي المحتاج؛ ولا نرحم البائس الفقير؛ ونزعم مع ذلك أننا مؤمنون حقاً؛ وأننا بمنجاة من سخط الله وعذابه لأننا قائمون له بما يجب! ناسين أو متناسين ما رواه عبد الله بن عمر إذ يقول:(أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا؛ ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المثونة وجور السلطان عليهم؛ ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا؛ ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم؛ وما لم تحكم أئمتهم بما أنزل الله؛ ويتخيروا مما أنزل إليهم إلا جعل بأسهم بينهم)!
يميناً بالله أنني أرى أنا نستحق الآن أن يعمنا الله بعذاب من عنده، لولا ما فينا من شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع! لقد اجتمعت فينا هذه الخمس التي خافها الرسول على المؤمنين المهاجرين. فقد منعنا الزكاة والتمسنا لهذا الفتاوى الباطلة والتعلات الكاذبة! وظهرت الفاحشة فينا، بل جعلنا لها ولحمايتها اللوائح والقوانين! وفشا الغش والتدليس في المعاملة، وصار ذلك باباً من المهارة يطلب أن يحذقه التاجر والصانع ومن إليهما! واستعرنا ما تتحاكم إليه من قوانين من فرنسا وغير فرنسا نابذين كتاب الله وما جاء به من شرائع ظهرياً! وصار الغني لا يملك باساً في أن يسكن القصر ويملك الآلاف ويبيت يشكو البطنة والتخمة، وبجواره وحواليه المئات من إخوانه في الدين والوطن جياعاً معدمين! ومع هذا كله نزعم أننا بخير، وأن الدين لا يزال ثابت الدعائم مرعى السنن والآداب والأحكام!
بذلك الإهمال للدين، واطراح ما يأمر به الله من سنن وتشاريع، وبترك النصح للعامة والخاصة، صرنا في أمر مريج ولبس شديد، وصار المرام صعباً، والمطلب وعراً، والمسلك حزناً. ولو أننا اتعظنا بالحادثات وراعينا صالح الدين والوطن قبل كل شيء وائتمرنا بما يأمر به الله وانتهينا بنهيه، لسهل الأمر وسلس، وصار قريب التناول، سهل المقاد!
بقيت كلمة أخيرة تخطر بالبال كلما انتهى العام وبدأ آخر: هي أنه كما يقول حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي رضوان الله عليه: ترى التجار يحاسب الواحد منهم نفسه في شهر أو عام ليعرف كسبه من خسرانه؛ فإن كان الأول حمد الله واستزاده منه، وإن كان الآخر بحث الأسباب ليتلافاها فلا يقع فيها مرة أخرى؛ إذا كان هذا عادة التجار، مع أن الخسارة أو الكسب لن يكون إلا شيئاً من حطام هذه الدنيا، فكيف يليق بالعاقل ألا يحاسب نفسه كل ليلة ساعة يأوي لفراشه على ما عمل سحابة نهاره!
لست أطمع في الوفاء بما يطلب الغزالي من حساب المرء نفسه كل ليلة، وغاية الذي أرجو أن يكون الحساب آخر كل عام؛ حتى نستقبل العام الجديد بنفوس راضية تائبة عازمة على أن تكون فيه خيراً منها في العام الذي انتهى. هدانا الله إلى الصراط المستقيم؛ وجعلنا من الذين إن تقلد الواحد منهم عملاً سواه، وإن رأى ضالاً هداه، وإن آنس أوداً ثقفه. إنه المستعان
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين
الإسلام في أوله وحاضره
للأستاذ عبد العزيز محمد عيسى
أظهر ما توحي به الهجرة إلى النفس، ما كان عند الرسول صلى الله عليه وسلم وعند أصحابه الأخيار من قوة العزيمة ورسوخ الإيمان، قوة ورسوخاً تغلباً على جميع ما لاقوه من شدائد ومصاعب
فقد احتمل الرسول ألوان الكيد وصنوف المشقات من أعدائه بعزيمة لا تعرف الكلل ولا التواني ولا الخنوع. وتحمل المسلمون الأولون معه مثل ذلك بعزائم مقتبسة من عزيمته، حتى كان الواحد منهم يمشط بأمشاط الحديد فلا يصرفه ذاك عن قصده ولا يلويه عن عقيدته. تحملوا هذا الضيم وهم أباته في سبيل نشر الدعوة التي تفتحت لها قلوبهم فاعتنقوها وأخلصوا إليها. وما زالت المتاعب وضروب الإيذاء تغالب عزائمهم تبتغي وهنها والحد من نشاطها، حتى صرعتها هذه العزائم في جلد وصبر واستهزاء، فإذا دين الله ينتشر عزيزاً في بقاع المعمورة، وعلمه يرفرف على أمم وممالك لم تكن للعرب بها صلة قبل ذلك. ثم كانت تلك الفتوحات العظيمة أثراً من آثار رسوخ عقيدة الأولين وإيمانهم بفكرتهم وتفانيهم في الدفاع عنها والعمل على نفوذ سلطانها
إن الحوادث التاريخية منذ القديم إلى اليوم تدل دلالة واضحة أنه على قدر إيمان الدعاة والأتباع بفكرتهم ويقينهم بها يكون عملهم لرفعتها ونجاحهم في نشرها وتحقيق سيادتها. كذلك نشاهد أن الأمم الحديثة التي تؤمن بفكرة اقتصادية واجتماعية وتعتقدها وتفنى فيها تحاول جاهدة بسطها على الناس بالدعاية والإقناع تارة، وبالسيف والنار أخرى. وما التطاحن الحالي إلا مظهر من مظاهر ذلك
على هذا النحو كان المسلمون الأولون في إيمانهم بفكرتهم وعملهم لها. وليس من شك أن للإيمان بالفكرة والانسياب في كل ما ينهض بها وجعلها الشغل الشاغل لصاحبها أثراً جليلاً في قبول دعوتها وتوجه الناس إليها وتفكيرهم في أمرها
إن الشعوب الأجنبية تنظر إلى الإسلام في أشخاص أصحابه وأعمالهم وأوصافهم، وقديماً كانت الأفراد والشعوب تنظر إلى المبادئ والفكر في تصرفات أصحابها وأحوالهم. وما زلنا نحن نحكم على الأحزاب والجماعات هذا الحكم؛ لأن ذلك أول مظهر ينجلي فيه الإخلاص
للفكرة والاقتناع بها والإعلان عنها. ومن ثم كان من يحاول انتزاع صفات الإسلام والوقوف على مبادئه وغاياته من أعمال شيعته الأولين وتصرفات أحوالهم ومظاهر حياتهم بنتائج تصرفه إلى الاعتراف بصلاحه وتجعله دائم التفكير في الركون إليه.
أما اليوم فمن يحاول انتزاع هذه الصفات والمبادئ من مظاهر أحوال معتنقيه في كافة الشعوب التي تتغنى بأن دينها الإسلام، فإنه يظفر بما لا يجعله شديد الرغبة في هذا الدين ولا كثير التفكير فيه؛ لأن مسلمي اليوم - لا فرق بين جمهورهم وسادتهم - في ضعف واستكانة وذلة؛ وتحلل من جميع الصفات التي ساد بها السابقون وعليها ارتقت دولتهم وعظم سلطانهم.
وهذه المظاهر لا تدل على ضعف في المبادئ ذاتها. لأن هذه المبادئ هي التي نهضت بالسابقين نهضة ما يزال التاريخ يزهي بها؛ وإنما تدل على ضعف في إيمان أصحابها اليوم. ونقص في إخلاصهم للفكرة وانصرافهم إليها. وإن تعجب فعجب أنهم ما يزالون يسمون أنفسهم مسلمين.
ليت شعري متى كان الإسلام كلاماً ودعاوى، ومتى نهضت المبادئ مع تحلل أصحابها عنها وتركها وراءهم ظهرياً! إن الذي يتوهم أن المبادئ تعلو مع خذلان أصحابها لها، وتنتصر مع انصرافهم عنها، وتنهض وهم يعوقون حركتها؛ إن الذي يتوهم ذلك يجري وراء شيء أبعد من الخيال. والرأي عندي لهذا أن الخلاف بين الكلاميين في التفرقة بين الإيمان والإسلام يرجع إلى أمر جدلي أكثر مما يرجع إلى الحقيقة
هناك فرق بين الإيمان بالفكرة والتسليم بها. الإيمان بالفكرة يستلزم التفاني في خدمتها والنهوض بها. ويتبعه جهاد عنيف شاق وعمل دائب متصل لأجل سيادتها وذيوعها وبسط سلطانها؛ ولأن هذه الرغبة تحدو المؤمن بفكرته يحاول جهده أن يقف عند تعاليمها وتأثر خطاها ويترسم حدودها، ويبتعد عن كل مظهر يخالقها أو تلمح فيها مدافعتها. أما التسليم بالفكرة فيكتفي صاحبه باستحسانها وعدم معارضتها دون أن يتبع ذلك عملاً حاسماً في سبيل نصرتها ورفعة شأنها؛ وسواء لديه بعد ذلك أنهضت الفكرة أم ماتت؛ لأنه لم يؤمن بها ولم يخلص إليها ولم يأبه لرواجها
وإذا أردنا استخلاص شيء من ذلك خلص لنا أن المسلمين اليوم ضعاف الإيمان؛ لأن
مظاهر قوة الإيمان غير متحققة فيما بينهم ولا جلية في أعمالهم وأوصافهم؛ وكل ما يبدو من تصرفاتهم عنوان هذا الضعف ودليله
لهذا كله نراهم محتاجين إلى قيادة وتوجيه حتى يتزايد عندهم الإيمان ويتولد الشعور بقوته وكماله فينصرفوا كما انصرف السابقون يثبتون دعائمه ويبسطون سلطانه
وموقف القيادة والتوجيه لذلك يتطلب من صاحبه أن يكون مثلاً أعلى فيما يدعو إليه؛ مؤمناً بفكرته، مخلصاً لها، حريصاً على نجاحها؛ لا يبدو عليه في قول ولا عمل ما يشعر بعدوله عنها أو ضعف يقينه فيها. فإذا وجد ذلك القائد اقبل الناس عليه واستجابوا دعوته
إن مصر فيما يرى الناس زعيمة الشرق الإسلامي، فمن حقها إذن أن تكون القائد الموجه له في ذلك. فهل تستطيع أن تعمل بحرارة وإخلاص لفكرة سيادة الإسلام وسيطرته؟ وهل تستطيع النهوض بهذا العبء الشاق وتقوى على تكاليفه وتبعاته؟
إنها لتستطيع ذلك وتقدر عليه عن طريق الأزهر ورجاله، أزهر الشباب المملوء توثباً وأملاً وقوة، (أزهر القرن الرابع عشر - كما يسميه الأستاذ الزيات - الذي يضع لثقافة الشعب أساساً من الدين، ويقيم عليه من القواعد والنظم والأوضاع ما يقره العقل ويتقبله العصر وتقتضيه الحاجة)؛ الأزهر الذي يتفانى في سبيل ذلك ويكافح وينافح ويلجئ بسلطانه الروحي رجال الحكم وذوي الرياسات على تنفيذ ما رسم والإيمان بما آمن، لا يعرف من أجل هذه الغاية النبيلة هوادة ولا انتظاراً ولا مجاملة؛ الأزهر المخلص الذي يراه الشعب كذلك فيكون حليفه وناصره، ينقاد لأمره ويعمل برأيه ويسير بخطواته؛ الأزهر الذي يقتفى بحق اثر صاحب الهجرة، فيؤمن إيمانه، ويكافح كفاحه، ويثق في الله ونصره وثوقه، ويعتمد عليه اعتماده
يقول الأستاذ الأكبر: (كانت الهجرة حداً فاصلاً بين الذلة والعزة وبين الضعف والقوة)؛ فهل يعيد التاريخ نفسه فتكون ذكرى الهجرة اليوم حداً فاصلاً بين ذلة الحاضر وعزة المستقبل، وبين ضعف اليوم وقوة الغد؟ وهل تكون رمزاً لانتصار حق الدين على باطل المدنية الكاذبة الخداعة، فينخلع المسلمون عامة مما هم فيه من مجائبة لنظم الإسلام وتعاليمه وإرشاداته، ويعودوا إلى الحنيفية البيضاء يترسمون خططها ويتبعون هداها وينزلون على أحكامها؟
وهل يقف الأزهر من المسلمين اليوم موقف القائد الجريء الواثق من النصر، المؤمن بمبدئه الراسخ العقيدة فيه؟ وهل تتجه نظمه ودراساته إلى ما يخلق في نفوس أبنائه الإيمان بالفكرة والعمل على إنجاحها وسيادتها؟ وهل يتفانى أهله في سبيل سيطرتها ونصرتها وتغلغلها في صدور الناس فلا يرى من أحوالهم وتصرفاتهم إلا ما ينميها ويحسن الإعلان عنها ويفسح الطريق أمامها؟
ذلك أمل عسى أن يتحقق قريباً
ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز
عبد العزيز محمد عيسى
مدرس بمعهد القاهرة
كيف استفتى العلم
في أول وحي إسلامي؟
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
جاء الإسلام وقد آن للبشرية أن تدخل في عصر يجمع بين الدين والعلم، ليتضافرا على هناءتها، ويكفلا لها السعادة في دنياها وآخرتها. فكان لها من الإسلام الدين الذي يحقق لها هذا الغرض، ويمد يده إلى العلم من أول يوم يولد فيه، ليعلم الناس من أول الأمر أنه دين يؤاخي العلم، ويقدر فضل رجاله ويرجع إليهم فيما يفيد الرجوع فيه، ولا ينأى بجانبه عنهم كما نأت الأديان الأخرى، فذمت الحكمة والحكماء، وقالت في بعض رسائلها المقدسة: الرب يعلم أفكار الحكماء أنها باطلة. كما قالت في نص آخر: لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله
فلم يغض الإسلام من الحكمة كما غضت منها هذه الأديان، بل مدحها في إطراء، ورفع من شأنها، وعدها أكبر نعمة من الله على بني الإنسان:(يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب)
وقد فتح الإسلام بذلك عصراً جديداً في تاريخ الإنسانية، وانتقل بها من دور الطفولة الذي لم تكن تؤمن فيه بالعلم والنظر، بل كانت تؤخذ إلى الإيمان بوساطة المعجزات، وخوارق العادات لقصور عقلها، وعجزها عن فهم الإيمان إلا بهذه الوسيلة التي تؤخذ فيها بالدهشة، ولا تحتاج إلا إلى قليل من إعمال الفكر والنظر
فانتقل الإسلام من ذلك إلى معجزة تنظر إلى من قصد بها كإنسان كامل، له عقل يفكر به، ويمكن أخذه بطريق النظر إلى الإيمان، ليؤمن عن عقل وتدبر، ولا تنفرد بإيمانه المعجزة وحدها، وليقوم إيمانه على أساس العقل، ويتضافر في تشييد بنائه الوحي والعلم
والآن فلنبين كيف استفتى العلم في أول وحي إسلامي:
نشأ النبي صلى الله عليه وسلم بين قومه في مكة، فرعى الغنم صغيراً، ثم اشتغل بالتجارة بعد رعي الغنم، ثم تزوج خديجة رضي الله عنها، ووجد من وقته فسحة بعد تزوجها، فكان يقصد إلى غار حراء يتعبد فيه الفينة بعد الفينة، فيقضي فيه الليالي ذات العدد، ثم يعود إلى زوجه فيمكث معها أياماً، إلى أن يقصد الغار مرة أخرى؛ ولم يكن هو الذي يفعل ذلك
وحده، بل كان يشاركه فيه كثير من متنسكة قريش
وقضى في ذلك أربعين عاماً لا يفكر في غيره، ولا تحدثه نفسه بما صار إليه حاله بعدها، بل كان راضياً بحالة فيها كل الرضا، إذ كان يجد من زوجه شريكة بارة صالحة، ومن نفسه طهارة واستقامة وقناعة، ومن قومه ثقة وتقديراً وإكباراً، حتى كانوا يلقبونه الأمين تشريفاً له وتعظيماً، وليس بعد هذه الأمور من سعادة للنفس الراضية، كنفس محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك العهد فلما جاءه الوحي لأول مرة في غار حراء صادف نفساً لم تكن تنتظره، وكانت مفاجأة أثرت فيها أكبر تأثير؛ فبينما هو قائم في بعض الأيام على الجبل، إذ ظهر له شخص غريب لم يشاهد مثله في حياته، فقال له: أبشر يا محمد، أنا جبريل، وأنت رسول الله إلى هذه الأمة. ثم قال له: أقرأ. فقال: ما أنا بقارئ؛ لأنه كان أمياً لم يتعلم القراءة؛ فأخذه جبريل فغطه بالنمط الذي كان ينام عليه، حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ؛ فأخذه فغطه ثانية ثم قال: أقرأ. فقال: ما أنا بقارئ. فأخذه فغطه ثالثة ثم قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم
ثم اختفى جبريل بعد هذا الوحي الأول، ورجع محمد صلى الله عليه وسلم وقد بلغ ذلك من نفسه مبلغه، لأنه فوجئ به مفاجأة ولم يكن يعرف من هو جبريل، لأن ذلك لم يكن معروفاً بين قومه. وهو اسم غريب لا يمت إلى العربية بصلة، فسار إلى خديجة يرجف فؤاده مما ألم به من الفزع، فدخل عليها فقال: زملوني زملوني. فزملوه حتى زالت عنه هذه القشعريرة، وذهب عنه الفزع، ثم أخبر خديجة بأمره من أوله إلى آخره، وخشي على نفسه أن يكون أصابها شيء؛ وألا يكون هذا الشخص ملكاً من ملائكة الله تعالى. فطمأنته خديجة رضي الله عنها، وقالت له: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فلا يسلط الله عليك الشياطين أو الأوهام، ولا مراء أن الله اختارك لهداية قومك.
فاطمأن محمد بهذا الكلام الطيب من تلك الزوج البارة؛ واطمأنت خديجة على زوجها بعد أن زال عنه ما ألم به من الفزع؛ ولكنهما أرادا أن يزيدا اطمئناناً بعلم العلماء من قومهما، وأن يستفتيا منهم من له علم بحال الرسل ممن اطلعوا على كتب الأقدمين. وهنا يمد
الإسلام يده إلى العلم من أول يوم يولد فيه، وتظهر فضيلته في مؤاخاة العلم والاعتراف بالحاجة إليه في هذه الدنيا. فلا يكون هناك عداء بين العلم والدين. ولا يقف أحدهما حجر عثرة في سبيل الآخر. وهذا هو الذي حصل في تاريخ الإسلام إذ كان يفهم فهماً صحيحاً، ولا يتسلط فيه متنطعون يعادون العلم باسم الدين، والدين براء مما يصنعون
وكان لخديجة ابن عم من علماء قريش يقال له ورقة بن نوفل، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب. وكان شيخاً كبيراً قد عمى وانقطع للعلم، وأخلص له نفسه فصفت به وطابت، حتى أورثها تواضعاً وإذعاناً للحق، وبعداً عن المراء والتمادي في الباطل، وكراهة للتعصب الممقوت، وبغضاً للجمود على القديم، ومعاداة الإصلاح والمصلحين
فأخذت خديجة زوجها إليه، وقالت له: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك
فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟
فأخبره عليه السلام خبر ما رأى
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى؛ لأنه يعرف أن رسول الله إلى أنبيائه هو جبريل
ثم قال: يا ليتني فيها جذع، إذ يخرجك قومك من بلادك التي نشأت بها، لمعاداتهم إياك، وكراهيتهم لك حينما تطالبهم بتغيير اعتقادات وجدوا عليها آباءهم
فاستغرب عليه السلام ما نسبه ورقة إلى قومه من معاداته، مع ما يعلمه من حبهم له، لاتصافه بمكارم الأخلاق وصدق القول حتى إنه لم يلق منهم أذى في هذا العمر الطويل الذي قضاه معهم، فقال لورقة: أو مخرجي هم؟
فقال له ورقة: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً
وهكذا مد العلم يده إلى الدين حين مد الدين يده إلى العلم، فآمن به حين مد يده إليه، وزاد في يقينه حين طلب منه أن يزيد فيه، وبذل له المعونة التي يريدها، وتطوع لنصره إذا صادف من أعدائه إنكاراً، وأثبت بذلك أن العلم الصحيح لا يعادي الدين، كما أن الدين الصحيح لا يعادي العلم، لأن الغاية منهما واحدة في هذه الحياة، وهي الوصول إلى هناءتها
وسعادتها، ولا يمكن أن يكون هناك عداء بين شيئين تتحد غايتهما، ويرمي أحدهما إلى الغرض الذي يرمي إليه الآخر، واختلاف الوسائل في ذلك الأمر لا يؤثر شيئاً، لأن اتحاد الغرض هو الذي يجمع بين الأشياء، ولا تهم الوسيلة إليه بعد ذلك في شيء
فإذا وجدنا أهل العلم يعادون الدين في يوم من الأيام، فإن هذا يكون ناشئاً عن جهلهم بالدين؛ وإذا وجدنا أهل الدين يعادون العلم في يوم من الأيام، فإن هذا يكون ناشئاً عن جهلهم بالعلم ولهذا كان لزاماً على أهل العلم أن يعنوا بدرس الدين، وكان لزاماً على أهل الدين أن يعنوا بدرس العلم، لتهنأ الإنسانية بالوفاق بين الاثنين، وتفوز منهما بسعادة الدارين
عبد المتعال الصعيدي
بهرام جور
في التصوير الإسلامي
للدكتور محمد مصطفى
أمين مساعد دار الآثار العربية
هو بهرام الخامس بن يزدجرد المسالم أحد ملوك الدولة الساسانية المعروف (ببهرام جور) حكم إيران سنتي 420 و438 ميلادية. وقد استطاع بعدله وسخائه وفروسيته وشجاعته أن يصير محبباً إلى رعيته بعد أن كرهوا أباه (يزدجرد) الذي اضطهد المجوس في سبيل تمكين المسيحيين من العبادة جهاراً في بلاده. وقد هاجمه خاقان التركستان الصينية بجيش قوامه 125. 000 رجل، فاستطاع (بهرام جور) أن يصده بجيش من 10. 000 رجل من خيرة محاربيه وأن يقتله بيده. وكان (بهرام) موفقاً في سياسته، فقد صالح الروم على شروط عادلة بعد أن هزموا جيشه، وحث الناس على الزراعة وأعانهم عليها، وكان يشجع العلماء والأدباء والفنانين والموسيقيين ويدعوهم إلى بلاطه من البلاد الأخرى، حتى أنه استحضر ذات مرة من الهند ألفي موسيقي من الذكور والإناث وفرقهم في بلاده ليطربوا فقراء المزارعين دون أجر، فتوالدوا فيما بينهم وصار منهم القوم المعروفون (بالغجر) وانتشروا من (إيران) إلى البلاد الأخرى. وقد كان (بهرام جور) فوق ذلك أديباً شاعراً، تعلم الشعر في صباه بين العرب في الحيرة، وقد بقيت هذه الذكرى في الأدب الفارسي والعربي على السواء، فالفرس يقولون إنه أول من قال الشعر وأنه أخذه عن العرب، ويروون له أبياتاً فارسية، والعرب يروون من شعره العربي والفارسي
وبقيت (لبهرام جور) ذكرى حسنة بين رعيته فاخترعوا له قصصاً تعبر عن مكانته في نفوسهم وتبين عن فروسيته وبطولته ومقدرته في القنص والصيد. وصاروا يتناقلون هذه القصص جيلاً عن جيل حتى نظمها (الفردوسي) في (الشاهنامه) حوالي سنة 400 هجرية. ثم اتخذها الشاعر نظامي الكنجوي موضوعاً لإحدى منظوماته الخمس، فنظمها مرة أخرى حوالي سنة 596هـ بعد أن البسها ثوباً جديداً من خياله وشاعريته
واستلهم الفنانون وقائع (بهرام جور) في الصيد ومهارته في الرمي بالنشاب في رسم
صورهم التفسيرية في مخطوطات كتابي: (الشاهنامه) و (خمسة نظامي)؛ كما صوروها على الخزف والقاشاني وحفروها على الأواني المعدنية ونسجوها في الأقمشة، وصارت هذه الوقائع موضوعات محببة إلى الفنانين في جميع فروع الفن، متنقلين بها من الفن الساساني إلى الفن الإسلامي، حتى وصلوا بها إلى العصر التركي
ونرى في شكل (1) صينية من الفضة المذهبة عليها صورة (بهرام جور) يشج بسيفه رأس أسد ويمسك بيده اليسرى شبلاً صغيراً، بينما هجمت عليه لبوة تريد تمزيق رأس جواده. وهذه الصينية محفوظة في متحف الأرميتاج بالروسيا. وهي من القرن 5 - 7 ميلادي، مما يدل على قدم هذا الموضوع الزخرفي في (إيران) قبل انتقاله إلى الفن الإسلامي
يقول الشاعر نظامي الكنجوي في منظومته (هفت بيكر)؛ أي الصور السبع: إن الملك الساساني يزدجرد الأول، عند ولادة ابنه بهرام، عهد به إلى النعمان ابن المنذر ملك الحيرة ليقوم على تربيته، وذلك عملاً بمشورة مستشاريه من المجوس، رغبة منه في إبعاده عنه، كي لا يتخلق الصبي بأخلاق أبيه البغيض لهم. فسلمه النعمان إلى أربعة نسوة اختارهن له فأرضعنه ولم يفطمنه حتى بلغ الرابعة من عمره. وبنى النعمان قصر (الخورنق) لسكنى بهرام، بناه له معمار من بلاد الروم اسمه (سمنار) استدعاه إليه لشهرته في بناء القصور، فجاء قصراً منيفاً من أجمل الأبنية. فأهلك النعمان سمنار كي لا يعود لبناء مثله ويبقى القصر فريداً - وضرب العرب المثل بجزاء (سمنار)
وتعلم بهرام الكتابة والقراءة، والتاريخ والعلوم، والرماية والصول والجول، والصيد والطرد، فأتقنها جميعاً. واشتهر ببراعته في صيد نوع من الغزلان كبير الحجم، يعيش في تلك الجهات، ويسمى بالفارسية (كور) فعرف ببهرام كور، وعربته العرب فقالوا بهرام جور.
وذات يوم بعد ما بلغ بهرام جور أشده وصار شاباً يافعاً قوياً وشاباً فتياً، ركب وخرج للصيد، وكان في معيته النعمان وابنه المنذر، وإذا به يرى فجأة سحابة من التراب ترتفع من الأرض، فاقترب منها، ولما تبينها رأى في وسطها أسداً قد هجم على غزال، وامتطاه وراح يعمل أنيابه في عنقه ليفترسه. فأخرج بهرام جور من جعبته سهماً مدبباً، وضعه في وتر قوسه، وجذبه بشدة، ثم أطلقه، فانطلق السهم في عنف وقوة وأصاب كلا الحيوانين
تحت الكتف الأيسر، واخترق قلبيهما وجسديهما، ثم غار في الأرض من تحتهما وإلى جانبه سقط الحيوانان كل منهما جثة هامدة. فلما رأى العرب ذلك أعجبوا ببهرام جور أيما إعجاب، وأمر النعمان المصورين أن يصوروا هذه الواقعة على حائط إحدى قاعات قصر الخورنق.
وفي شكل (2) نرى بهرام جور في وسط الصورة على جواد وأمامه الأسد والغزال وقد أصابهما بسهم واحد، ويلاحظ ما أسبغه الفنان على هذه الصورة من جمال الحركة وروح الحياة، وهي من تصوير الفنان الإيراني سلطان محمد، من مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي محفوظ في المتحف البريطاني، كتب للشاه طهماسب بين سنتي 946 - 950 هجرية في تبريز، واشترك في تصوير الصور التفسيرية التي به خمسة من كبار مصوري ذلك العصر هم: سلطان محمد، ومظفر علي، واقأميرك، وميرزا علي، ومير سيد علي. وقد كان سلطان محمد من أساتذة الشاه طهماسب في التصوير، ويقال إنه خلف المصور بهزاد، عميد فناني إيران، في إدارة (الورشة) الملكية في لفنون الكتاب
أتقن بهرام جور الصيد والطرد، واعتاد أن يخرج إلى الأحراج المجاورة لصيد الوحوش والغزلان، وكان أن شرب يوماً مقداراً من الشراب، وخرج للصيد فقابل قطيعاً كبيراً من الغزلان، وأصاب منها الكثير، إلى أن رأى ظبياً جميلاً، رشيق الحركات أراد أن يقتنصه، فأطلق الظبي ساقيه الرشيقتين الطويلتين للريح يسابقها، وأعمل بهرام جور مهمازيه في جانبي الجواد فانطلق يجري، يطلب الظبي، واستمر على ذلك مسافة طويلة إلى أن وصل الظبي إلى فوهة كهف ربض أمامها تنين هائل، بشع الخلقة ذو رأسين عظيمين مد أحدهما إلى الظبي فابتلعه، وكان التنين جائعاً وما كان الظبي إلا ليثير شهيته لافتراس الفارس القادم عليه بجواده، فأخذ بهرام جور سهماً عريضاً من جعبته، وأطلقه على التنين
فأعماه، ثم استل سيفه الكبير وضرب به التنين بين رأسيه فشطره إلى بطنه، حيث وجد الظبي قابعاً، وما كاد هذا يرى الحرية أمامه حتى قفز من بطن التنين وجرى إلى أن دخل الكهف، وتبعه بهرام جور فوجد في الكهف كنزاً عظيماً من قدور ملأا بالذهب والأحجار الكريمة، مما استدعى نقله إلى قصر الخورنق مائة جمل، أرسل عشرة منها إلى أبيه يزدجرد، ووهب النعمان عشرة أخرى، واستمتع هو بالباقي على أن ينفق منها بغير رقيب
وفي شكل (3) نرى بهرام جور على جواد في وسط الصورة يرمي التنين بالنشاب، وهذه الصورة من مخطوط لنظامي محفوظ في المتحف البريطاني ومؤرخ سنة 900 هجرية، وهي من تصوير الفنان الإيراني قاسم علي، أحد تلاميذ بهزاد في هرات، وكان قاسم علي ينقل في صوره الكثير من موضوعات أستاذه، فمثلاً هذه الصورة منقولة عن صورة مماثلة لها صورها بهزاد في مخطوط آخر لنظامي محفوظ بالمتحف البريطاني
وبقى بهرام جور في الحيرة إلى أن مات يزدجرد، وأزمع أعيان الفرس ألا يولوا من أولاده أحداً لما نالهم من ظلمه وجوره، وأجلسوا على العرش رجلاً من بينهم يدعى خسرو؛ فأيد النعمان وابنه المذر بهرام جور وأمداه بالجند، حتى أرغم الكارهين على تمليكه. واتفق معهم على أن يضعوا التاج بين أسدين جائعين؛ فإذا انتشله من بينهما كان له ملك إيران، وقد كان ذلك وقتل بهرام جور الأسدين ولبس التاج؛ فكان خسرو أول من هنأه بالعرش
ولما كان بهرام جور في الحيرة تجول ذات مرة في أنحاء قصر الخورنق، ووجد قاعة مغلقة لم يدخلها من قبل، فطلب مفتاح بابها ودخلها فإذا به يرى سبع صور، لسبع أميرات، هن بنات ملوك الأقاليم السبعة، وكن آيات من آيات الجمال، فسار يلتفت للواحدة بعد الأخرى ويبتسم لها، وفي غرور الرجل القوي المعتد بنفسه، يظن أن ابتسامته حازت قبولاً لديها، وأنها تومئ إليه إشارة إلى ذلك، وما جاء إلى الأخيرة حتى افتتن بهن جميعاً وتملك قلبه حبهن؛ فأغلق الباب وأخذ المفتاح معه، وصار يخرج للصيد ثم يعود فيدخل هذه القاعة ليناجي حبيباته السبع، وقد هام بهن هياماً شديداً
وفي (شكل 4) ترى بهرام جور في الركن الأيسر إلى الأمام ينظر إلى الصور السبع في قاعة بقصر الخورنق. وهذه الصورة في مخطوط لنظامي كتب في شيراز ومؤرخ سنة 813 هجرية ومحفوظ في مجموعة جلبنكيان
ولما تولى ملك إيران، واستتبت له الحال، أرسل الرسل إلى الملوك السبعة يطلب من كل منهم يد ابنته، وكان أن تم له ذلك فجئن إليه مع الكثير من الهدايا والتحف وتزوجهن جميعاً، فأتاه معمار يسمى (شيدا) وعرض عليه أن يبني له قصراً ذا سبع قباب، ويفرش كل قبة بلون خاص بها، ويرصعها بأحجار كريمة من لونها، فقبل ذلك وبنى شيدا القصر، وصار بهرام جور يقضي كل يوم من أيام الأسبوع في قبة مع إحدى الأميرات؛ فيوم
السبت في القبة السوداء مع الأميرة الهندية، ويوم الأحد في القبة الصفراء مع الأميرة المغربية، ويوم الاثنين في القبة الفضية مع الأميرة التترية، ويوم الثلاثاء في القبة الحمراء مع الأميرة الصقلبية، ويوم الأربعاء في القبة الزرقاء مع الأميرة الخوارزمية، ويوم الخميس في القبة ذات لون الخشب الصندل مع الأميرة الصينية، ويوم الجمعة في القبة البيضاء مع الأميرة الرومية. وكان إذا ذهب إلى إحداهن لبس ثوباً من لون القبة إكراماً لها
وفي شكل (5) يجلس بهرام جور في القبة الصفراء مع الأميرة المغربية. وهذه الصورة في مخطوط لنظامي محفوظ في متحف المتروبوليتان بنيويورك، كتب في هرات ومؤرخ سنة 931 هجرية وهي من تصوير محمود مذهب أحد الفنانين الذين انتقلوا من هرات بعد أن هاجمها الأتابك في سنة 942 هجرية وهاجر إلى بخارى عاصمة الأسرة الشيبانية في ذلك الوقت
يقول الشاعر نظامي الكنجوي إنه كان لبهرام جور جارية من التركستان الصينية، جميلة كالبدر، اسمها (فتنة) بها ألف نوع من المغريات، لها وجه صبوح كالربيع المبكر في جنات عدن. أو هي - على حد قول الشاعر نظامي - قطعة من حلوى العسل مدهونة بالزيت، أو صحن من الفالوذج، أو كليهما معاً، فهي سمينة وحلوة. ولم تكن جميلة فقط، بل كانت تجيد الغناء والعزف على الجنك والرقص. وقد اعتاد بهرام جور أن يصطحب جاريته فتنة كلما خرج للصيد. وفي ذات يوم خرجا معاً فقابلا قطيعاً من الغزلان، فأصاب منها عدداً كبيراً. كل ذلك والجارية تحتال بكل ما أوتيت من أنواع الإغراء والدلال أن تكبح نفسها من أن تعطيه ما يستحق من الإطراء والمديح. صبر الملك برهة إلى أن مر غزال عن بعد، فالتفت إليها وقال لها ألا أيتها التترية ذات العينين الضيقتين، لم لا تفتحين عينيك لتري ما أصيد؛ هاهو ذا غزال آت فأخبريني أي جزء من جسمه أصيب؟ فالتفتت إليه الجارية بشفتيها الجميلتين في حركة طبيعية - وقد كانت امرأة بكل معاني الكلمة - وقالت: اعمل عملاً يشرفك: سمّر حافر هذا الغزال في أذنه بسهم واحد وقد فعل بهرام جور ذلك، فأخذ حصاة وأطلقها على أذن الغزال فرفع المسكين حافره ليحك أذنه، وفي ذات اللحظة أطلق الملك سهماً سمر به الحافر والأذن إلى رأس الغزال، فسقط هذا على الأرض. والتفت الملك إلى الفتاة التترية وقال: لقد نجحت فماذا ترين في ذلك؟ فقالت: لقد اعتاد الملك عمل
ذلك فأجاده، وأصبح عمله لا يتطلب منه أية قوة خارقة. فاغتاظ الملك لهذه الإجابة، وأمر ضابطاً أن يقتل الفتاة، فأخذها الضابط إلى منزله لينفذ فيها أمره. ولكن الفتاة نظرت إليه بعينين دامعتين متوسلة وأفلحت في أن تقنعه بأن يبقي على حياتها، واتفقا على أن تعمل في منزله كخادمة حتى لا تثير الشبهات. وكان في أعلى المنزل منظرة عالية تصعد إليها ستون درجة، وقد اعتادت الفتاة كل يوم أن تحمل عجلة صغيرة ولدت حديثاً وتصعد بها الستين درجة إلى المنظرة، فكانت قوتها تنمو تدريجياً بما يتناسب مع نمو العجل، إلى أن صارت بعد ست سنوات بقرة كاملة النمو دون أن تجد مشقة في حملها. وذات مساء أعطت الفتاة الضابط بعض لآلئها، وطلبت منه أن يهيئ بثمنها مأدبة فاخرة ينتهز فرصة مرور الملك للصيد ويدعوه إليها. فعمل الضابط ذلك، وجاء الملك إلى المأدبة وجلس في المنظرة، فصعدت الفتاة تحمل البقرة على كتفها لتحلب لهم من لبنها أثناء الطعام، فنظر إليه الملك وقال: لقد تعودت حملها، فأنت الآن لا تحتاجين إلى قوة خارقة لعمل ذلك. فقالت له الفتاة: وهل كان الغزال يحتاج إلى قوة خارقة؟ فعرفها الملك وقام إليها فرفع نقابها واحتضنها، ولم يفصلهما بعد ذلك سوى الموت
وفي شكل (6) بهرام جور على جواد في الوسط وقد أطلق سهماً أصاب غزالاً أمامه فسمر حافره بأذنه. وإلى يسار بهرام جور نرى (فتنة) على جواد وفي يدها الجنك. وهذه الصورة من مخطوط نظامي للشاه طهماسب السالف الذكر، صورها مظفر على أحد تلاميذ بهزاد
وفي شكل (7) صينية من الفضة المذهبة عليها رسم بهرام جور يصطاد الغزال وهو جالس على هجين يرتدف جاريته المغنية وهذه الصينية من عصر الانتقال من الفن الساساني إلى الإسلامي. وهي محفوظة في متحف الإرميتاج بالروسيا
وفي شكل (8) صحن من الخزف من صناعة قاشان في القرن السادس الهجري (12 الميلادي) مرسوم بالألوان فوق الدهان، به صورة بهرام جور وقد أصاب الغزال فسمر حافره بأذنه بسهم واحد، وهو راكب على هجين ويرتدف جاريته المغنية ممسكة بالجنك، وقد تتبع الفنان في رسمه قصة بهرام جور والجارية كما نظمها الفردوسي في الشاهنامة وهي تنتهي بأن يغتاظ بهرام جور من إجابتها فيلقيها على الأرض ويطأها بالهجين إلى أن تموت ونرى في هذه الصورة أن الفنان لم ينس تصوير الجارية وهي على الأرض
والهجين يطأ صدرها، وقد كان لبهرام جور - كما وصفه الفردوسي - (هجين مسرج بسرج مغطى بالديباج له أربعة ركب: ركابان من الذهب وركابان من الفضة، فيركبه ويرتدف الجارية وفي حجرها الجنك). أما في قصة الشاعر نظامي فيركب كل منهما جواداً كما رأينا ذلك في الصور السابقة
وفي شكل (9) تربيعة من القاشاني عليها رسم بهرام جور على العجين يرتدف فتاته المغنية وهي من القرن السابع الهجري (13 الميلادي) ومحفوظة بدار الآثار العربية برقم 11590
قال الشاعر نظامي الكنجوي إن الملك بهرام جور ذات يوم للصيد، فشاء حظه العاثر - وهو ذلك الفارس البارع والصياد الماهر - أن يسقط في بئر صادفته في طريقه فيغرق فيها، ولم يعد إلى حبيبته، لا ولا إلى زوجاته السبع، في القصر ذي السبع قباب. (وكذا كانت الأيام وكذا تكون، فلا يكن منك إليها سكون ولا ركون)
(حلوان)
محمد مصطفى
سيدي رسول الله
الأستاذ شكري فيصل
يا سيدي الرسول:
أتراني أملك منك النجوى، وأستطيع إليك البث، وابلغ من ذلك السبيل، وأنا غائب في فيض من روعتك، ذاهل في فضاء من جلالك، فإن فيّ دنيا من قدسيتك. . . أذكر دعوتك الكريمة. . . فأنساق في جمالها المشرق. . . منذ بدأتها فتى تأنف نفسه الجهل، وتعاف بصيرته التقليد، ويحس في قراءته همسات من النور، وقبسات من الحق. . . حتى أختارك الله داعياً لا يهاب، ورسولاً لا يجبن، وقائداً لا يضعف. . . واتسقُ في ذلك التاريخ. . . يغمرني ألقه الندي، وتتولاني بهجته الطروب؛ وتطالعني فيه العزمات التي لم يفل منها عدد، ولم تقو عليها عدد، ولم يبلغ إليها هدوء أو خور. . .
إن المشاعر لتختلط عليَّ. . . وإنَّ الروعة لتملأ مني كل ثنايا النفس. . . وإني لأحس الرعدة التي تكاد تصرفني عن الحديث، وتقعد بي عنه، وتغمرني بالنشوة الحالمة، فأصفو معها وأرق. . . وأخف معها وأدق. . . وأمتزج بها امتزاج الفناء. . . حتى لا أعي مكاني من الدنيا، ولا موضعي من الغرفة، ولا جواري من الناس.
يا لجلال دعوتك، يا سيدي الرسول. . . إني لأحاول أن أحدق في مشاهدها، وأجول في ثناياها، وأقف عند تفاصيلها، فإذا هذا الجلال المهيب يحول بيني وبين أن أكون من هذه المعجزة القدسية، كما نكون من أحداث التاريخ، ووقائع الأيام، نقبل عليها بالدرس، ونمضي بها في التحليل، ونفصل منها الأجزاء، ونركب عليها النتائج، ونخرج بعد وقد أدركنا منها كل ما خالطها من مؤثرات، ومازجها من عوامل، وما انكشفت عنه من اثر. . . وإذا هذا الكمال الرهيب يطغى على كياني كله، ليسكب عليه ألواناً من الروعة: أخاذة ساحرة. . . تهتز معها المشاعر اهتزازة الانفعال اللذيذ العميق. . .
هاهنا في دعوتك. . . يا سيدي الرسول. . . عالم متسق من الحق البين، والهدى الواضح، ومن السنن القويم والخلق الكريم، ومن العزمات الأبية والرجولة القوية، ومن الخير المتدفق والفضل العميم. . . ومن الجمال الذي ينساب في ذلك كله، فيفيض عليه الرداء، ويشيع فيه البهاء، ويجعل منه الحادث الفذ
أين تقف عيناي من دعوتك الكريمة يا سيدي رسول الله. . . إنهما لتتقلبان في مدى واسع الفضاء، فسيح الأرجاء، بعيد الأطراف. . . وإنهما لتزوغان وتضلان. . . وإن إحداهما لتظلم الأخرى حين تحاول أن تقف بها عند حادث من الحادثات التي يملوها ذكرك الرطب، أو في مرحلة من المراحل التي يغشاها خيالك الندى. . . وإني لأحاول أن استقر في هذه المشاهد التي تتنازعني. . . فما أسرع ما تنتابني السنون. . . وتنثال من أمامي صور كلها كريم. . . عزيز. . . نادر. . . وتنبعث في ذهني لوحات كلها قوى. . . أبي. . . جريء. . . فأحار أين أبدؤ منها، وأين أنتهي فيها، وكيف أستقر عند واحد منها. . . وأتيه بينها. . . كما يتيه الإنسان في النغم الخالد: لا يستطيع أن يفصل أجزاءه، أو يمايز بين مقاطعة، أو يدري سرَّ الخلود فيه. . . لأن الخلود قائم في كل نغماته، منساب في كل ضرباته. . .
فاغفر لي يا سيدي رسول الله. . هذه الجرأة: أن أرتفع ببصري الكليل لأدرك البصيرة المتقدة. . . أن أفتح عينيَّ الضعيفتين لأصوّبهما إلى الشمس. . . فلن أملك بعد إلا أن أغمضهما على الإكبار الذي يخالط الشغاف، والإجلال الذي يستقر في الحنايا. . . والحب الذي يطأطِي مني ما لم يطأطأ لإنسان. . .
وسأظل أسير في ركابك يا سيدي الرسول. . . خافض الرأس. . . لأن مهابتك أجل من أن تمتد إليها عيون أو ترتفع إليها نواظر. . . وسأعيش في ظلالك الرحيبة تملؤني فكرتك، وتبهرني دعوتك، ويمضي بي هديك. . . وسأهيم في هذا الهدى، وسأنطلق في أرجاء هذه الدعوة. . . نفساً سئمت كل ما يحيط بها من عوائق، وما يحدها من علائق، وما يربطها من قيود. . . وروحاً مستها أنوارك فألهبتها، وصهرتها، ونقّت جوهرها. . . فعاشت بعد أملاً واسعاً، ورجاءً عريضاً، وشوقاً محرقاً. . .
وستستغفر يا سيدي الرسول. . . لي. . . ولهؤلاء الذين ضلوا من قبل، وسيضلون من بعد. . . هؤلاء الذين فتنتهم المادة، واستهواهم العقل، وزاغت بهم المناهج في بيداء قاحلة مجدبة. . . فعرضوا الذهب على النار كما يعرضون عليها الحديد والتراب. . . فاستبان لهم الهدى، وأنكشف لهم الحق، وظهرت لهم السبيل النيرة فدخلوا جنتك الممرعة. . .
. . . إنها يا سيدي رسول الله إغفاءة الروح التي استيقظت معها المادة، وصدأ النفس الذي
فاقت عليه الغريزة، وخبو الإشراق الذي سعى في ظلمته العقل، وكبر الحدس الذي نشط في خموده الذهن. . . وضلال الأهواء العاتية الذي فترت معه الأحاسيس. . فإذا رؤى الجمال، ومعاني الحق، ومثل الخير لا تنبجس في النفوس إشراقاً، ولا تنبعث في العقول إلهاباً، ولا تلقي في الروع إلقاء. . . وإنما هي في حاجة إلى المقدمات والحجج، وفي ضرورة إلى البيان والشرح!!
لشد ما أبغض أن ألقي جمال الزهرة في تشريح أجزائها ومعرفة أعضائها وتمزيق أوراقها وبتر سوقها، والهبوط بها من عرشها الزاهي. . .! إني لأفضل أن أترك هذا الأسلوب لطائفة غيري من الناس واسأل لهم منه العافية. . . فما يجب لنا أن ننشد جمال الزهرة في غير عرشها الزاهي، وتوردها الملهم، وساقها القائمة، وانحناءتها الحييَّة، وتفتحها بيد الله. . . لا بيد الإنسان!
فلْتعش سيرتك يا سيدي يا رسول الله. . . انفعالاً حلواً، وعاطفة لذيذة. . . وهيجاناً يذكر بآيات الله، ويقرب إليه، ويدنى منه. . . ولتبق هذه السيرة الكريمة فكرة ومثلاً. . . فكرة سامية نبيلة، ومثلاً عالياً كريماً. . . ولتخفق نفوسنا من حول هذه الفكرة، ولتحوم في ثنايا هذا المثل كما يحوم الحجيج حول البيت المقدس. . . في خشوع الإيمان القوي، وروعة الجلال المهيب، وإطراقة المستغرق الذاهل. . . ولتنطلق. . . وقد انعتقنا من هذه القيود، وبرئينا من هذه الأغلال، وتجردنا عن أوضار المادة وآثام العقل. . لنغتسل في أضوائك الطهور ونتمسح بهديك الرشيد، ونستقي أمواهك الألقة. . . ولنغب في دنياك البريئة عبرْ الفضاء البعيد البعيد. . . أرواحاً صافية صفاء النسيم، نقية نقاء السماء، خالصة خلوص الشعاع. . . لنلتقي في ظلال الروح الأعلى. . .
سأعب من كوثرك الخالد - يا سيدي يا رسول الله - فأنا ظمآن حرَّان. . . وسأقطف من جناتك المترعة، فأنا نهم شره، ولقد طال بي الظمأ، واشتد عليَ الجوع، وضل بي الركب في قافلة تظن الهداية وهي حيرى، وتدعي الهناءة وهي شقية، وتحسب الراحة وهي في عذاب غليظ، وتمضي على الشوك وينفر من جراحها الدم، فلا تدرك لذع الشوك وألم الدم. . . لأنها فقدت في الحياة النفسية أحفل عناصرها بالإحساس واشدها أثراً في التفكير وأقربها خطى من الخير. . . ولا تزال تزعم أنها في سند من جفاف العقل، وفي كفالة من
صلابة المادة!
فاستغفر لي يا سيدي الرسول، إني إنسان لا يرى بعينيه ولكنه يحس ببصيرته. . . ولا ينطوي في عقله، ولكنه ينطوي معه في حدسه، ولا يتحجر مع المادة ولكنه يبلّها بعصارة من قلبه: يبعث فيها جانب الحياة، ويثير منها معنى الوجود، كما يبل الطبيب وجه المريض يدفع عنه غفلته، ويصرف عنه إغماءته. .
أدع لي. . . واستغفر لي. . . فما أحوجني يا سيدي يا رسول الله إلى الدعاء والاستغفار. . .!
(القاهرة)
شكري فيصل
صورة من عنت الجاهلية
فرعون قريش
للأستاذ كامل محمود حبيب
(أرأيت الذي ينهي عبداً إذا صلى، أرأيت إن كان على الهدى
أو أمر بالتقوى، أرأيت إن كذب وتولى، ألم يعلم بأن الله يرى،
كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة، فليدع
ناديه، سندع الزبانية، كلا لا تطعه وأسجد واقترب)
(قرآن كريم)
يا عجبا! إن الإنسان ليخلو إلى نفسه أحياناً - فينتضي ما يرائي به الناس، ويبدو عارياً عن كل شيء إلا ما اقترف من إثم أو ما اكتسب من خطيئة؛ فيحاسبها وتعاتبه، ويلومها وتؤنبه، ثم يخرج من هذا العراك النفساني وقد فاء وأناب. . . أما الفاجر الفظ فلا يرتدع ولا يتصونَّ، لأن الشر يتدفق في عروقه فيسيطر عليه فيسوَّل له أشياء ليست هي من الإنسانية ولا من الضمير ولا من العقل، ولأن الشيطان أتخذه ولياً فأضله عن سواء السبيل
الليل ساج ساكن والقمر يخفق في السماء يشع نوراً جميلاً يجذب القلب، والقوم منبثون في أرجاء المكان بالعدوة القصوى ليلة سبع عشرة من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة؛ وهم في حركة صامتة يتهيئون لأمر ذي بال قد شغلهم عن كل ما حولهم، لا تسمع إلا صليل الحديد وحنين الإبل، وإلا صهيل الخيل ونباح الكلاب، وإلا همسات فئة يتشاورون في أمر قد أهمهم. . . هذا وفرعون قريش أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة جالس وحده في ناحية وبين يديه درع له قد نثلها من جرابها فهو يَهْنئها. وعملت في نفسه الخلوة حين أخذ الناس يتسللون إلى مضاجعهم، فراحت خواطره تسبح بين ثنايا عمره الغابر. وأطرق فرعون قريش طويلاً فإذا آثامه وأوزاره منشورة أمام عينيه تسخر منه وتهزأ به، وإذا غده الأسود يرنو إليه عابساً مكفهراً وهو لا يدري ما وراء. إنه سيغدو على حرب حطبها رجال من قومه وعشيرته، هم أترابه ورفقاء صباه، وهم علية قومه وساداتهم.
وتمثلت له أفكاره أشباحاً تضطرب في الفضاء اللانهائي تحجب عنه نور القمر البهيج، فانطوى يحدث نفسه حديث فلسفته الجديدة، فلسفة الشك والحيرة، قال:
(رُب يوم قضيت في أمن ودعة، ناعم البال مطمئن الخاطر؛ فما لهذا القمر يبدو كاسفاً حزيناً، وما لهذه الجبال تتراءى معفرة غبراء، ومالي أحس كأن أنفاس الليل الهادئة تهب قاسية لتصدع صدري في غير رحمة ولا شفقة! إن قلبي لتهده الوحشة وأنا بين أهلي. أفيكون هذا لأنني سأغدو على حرب قوم هم مني وأنا منهم؟ لقد صبئوا واعتدوا فحق عليهم عقاب
(يا ويلي! أفحقاً ما جاء به محمد؟
(تاالله إنه لأمر عظيم. لقد عرضنا عليه المال حتى يكون أكثرنا مالاً، والشرف والملك حتى يكون سيدنا ومليكنا، فأبى وتعفف وقال: ما بي ما تقولون. . . فماذا بقي من عَرضَ الدنيا يبتغيه ذو حاجة!
(وتسللت - مرة ومرة - في خفية وحذر أتسمع ما يقول وأرى رأيي فيه - وعندي أنه كان بيننا غلاماً حدثاً غير متهم في قول أو فعل، فغير جدير به أن يتقول علينا بعض الأقاويل بعد إذ بدأ الشيب في صدغيه - فألقيت كلاماً حلواً عذباً ليس بينه وبين قلب اللبيب من حجاب، فصبوت إليه وهفوت نحوه؛ غير أن عنتاً أصابني فقلت للأخنس بن شريق حين سألني رأيي: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا؛ حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه
(هذا هذا، يا قلبي!
(وتأججت نار الحسد والبغضاء في قلبي، فاندفعت أريد أن أقتله أو يقتله عصبة منا فما استطاع واحد أن يخلص إليه. يا لقلبي، كيف حيل بيني وبينه؟ لا ريب فهو قد سحرني أو أن خادماً من الجن أزعجني عنه
(كلا، كلا؛ فو الله ما هو بساحر!
(آه؛ لطالما سكنت إلى نفسي فما ودت إثماً قد قارفه، غير أن له رأياً هو جعلني أحمل له ضغناً، فانطلقت أشتط في السخرية منه، أسفه من حمله، وأضع من شرفه، وأعذب
صحابته، وأفتنهم في دينهم، لا أرعوي ولا أستقر؛ ومضت الأيام وأنا احتدم احتداماً لا تهدأ لي ثورة ولا ينطفئ غل
(ماذا عساه يبتغي؟ لعمري إن أمر هذا الرجل لعجيب
(الله! نعم، الله!)
وصمت الرجل برهة من زمان يتأمل. . . ثم ثاب إلى نفسه يحدثها مرة أخرى:
(ثم. . . ثم ما اللات والعزى، وما مناة الثالثة الأخرى؟ أفليست بعض هذه الصخور المنثورة حوالي عاثت بها يد إنسان فصورتها آلهة تعبد؟ أفحقاً أن الله يسكنها فيدبر الأمر من ورائها على حين هي ذرات في هذا العالم اللانهائي لا حول لها ولا طول؟ يا لشد جهلي! أاسجد وأقوم واعبد وأقدم القرابين لمثل هذه الصخرة الواهية؟ وما إساف ونائلة؟ أفكانا غير رجل وامرأة أحدثا في الكعبة فمسخهما الله فاتخذناهما إلهين؟
(ليت شعري أين العقل والحكمة؟
(ليتني أستطيع أن أنزل عن كبريائي فأرجع بهذا الناس، فمالي بقتله من أرب، وأذر الرجل يناجي ربه ويعبده ويتهجد له ما شاء، وينشر دينه أنى شاء وكيف شاء! ليته يعبد آلهتنا فنعبد إلهه، ونرجع سيرتنا الأولى قبل أن تستيطر عليه هذه الأخيلة. . . ليتني وليته. . . ولكن؟
(ولكن أفننتظم تحت رايته وما هو بشيء؟ فو الله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه فيكون له الشرف والملك علينا، ونكون نحن في دولته كبعض أراذلنا
(آه لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم!)
وراح الرجل في ضمير الليل يحدث عقله حديث الفيلسوف قد ضربه الشك فلا يستطيع أن يرى الضلالة التي تردى فيها. وخشي الشيطان غب الأمر فصاح من أقصى الأفق صيحة صكت مسمعي الرجل فانتزعته من خواطره، ودوى صوت الشيطان يبدد أخيلته ويطم على ضميره ويناديه بأن ستكون لكم الغلبة فأفق من غرات الشك والتخاذل. غداً تهدأ الثائرة، وينطوي تاريخ هذا الرجل، وتكون أنت. . . أنت يا أبا الحكم السيد المطاع
وهب الرجل من مكانه يجر درعه، في هدأة الليل، صوب مضجعه وقد سكنت كل نأمة. . . ذهب إلى مضجعه لينام فألفى الشيطان هناك ينتظره ليحدثه حديث الكفر والفسوق حتى
مطلع الشمس
وفي الصباح دفعه الشيطان إلى الحومة ليلقى - أول ما يلقى - معاذ بن عمرو بن الجموح فضربه ضربة أطنَّتْ قدمه بنصف ساقه فسقط رأس الكفر يتضرج في دمه، ونظر فإذا الأرض من حوله خلاء إلا من الشيطان يعبث به ويسخر من آلهته، ويقول له: إني بريء منك ومما تعبد من دون الله. وتدفقت الحسرات في قلب الفاسق تأكله فما أنقذه منها إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاحتز رأسه وحملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو فرعون قريش أبو جهل - لعنه الله - إلى مثوى الكافرين. هوى إلى غضب الله يوم بدر. . . يوم النصر. . . يوم سطع أول شعاع أخاذ من نور النبوة على جزيرة العرب
(المحلة الكبرى الثانوية)
كامل محمود حبيب
القائد الشاب.
. .
للأستاذ أحمد فتحي مرسي
(لقد بلغني أن قوماً يقولون في إمارة (أسامة) ولعمري لئن
قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله، وإن كان أبوه
لخليقاً بالأمارة وإنه لخليق لها.)
(حديث شريف)
جرى على شفاه القوم في المدينة في ضحوة ذلك اليوم من ربيع السنة الحادية عشرة للهجرة أن محمداً صلى الله عليه وسلم أمر بالعدة لغزو الروم وأَمرَّ على الجيش (أسامة بن زيد بن حارثة)
ووقع هذا الخبر من الناس موقعين: وقع من نفس قوم موقع العجب والدهشة، ووقع من نفس أقوام موقع التجِلَّةِ والطاعة. وكان الناس في المدينة بين هؤلاء وأولئك. . . فأما الأولون فقد عجبوا كيف يؤمَّر على جيش يضم صفوة المهاجرين والأنصار شاب حدَثٌ كأسامة لم يَعْدُ العشرين ربيعاً بعد، وكيف ينفرون للغزو وهم لم يعودوا من حجة البلاغ أو الوداع إلا من زمن قريب، ولم يستقر بهم المقام بعدُ في المدينة، حتى وقع في روع بعضهم أنهم سيحيون حياة دَعَة وهدوء، بعد أن نصر الله دينهم، ودخل الناس فيه أفواجاً، ودانت شبه الجزيرة جميعها لدعوة الرسول الجديد. فما بهم حاجة لغزو آخر بعد هذا الجهاد الواصب الطويل، وبعد أن أكمل الله لهم دينهم، وأتمَّ عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام ديناً
ثم إن الروم عدو لا يهون أمره، ولا تلين قناته، فقد قهر الفرس ولم يستطع العرب أن يقهروه، وهو حامي المسيحية، وإن به لشوقاً للقاء هؤلاء القوم الذين أجلو المسيحية عن أوكارها من شبه الجزيرة. . . وهم مازالوا يذكرون غزوة (مؤتة) وكيف خرج لهم الروم من مائة ألف، وكيف ذهبت هذه الغزوة بثلاثة من صفوة قواد المسلمين؛ ولولا مهارة رابعهم خالد بن الوليد في الانسحاب للحق بهم ولفتك الروم بالجيش، وإنهم ليذكرون أيضاً كيف تقاس الناس بعد خبر (مؤتة) عن لقاء الروم في تبوك، حتى قال بعض ضعاف النفوس للناس: لا تنفروا في الحر إلى تلك الأصقاع. فنزل قوله تعالى (وقالوا لا تَنْفِروا في
الحرَّ قُلْ نارُ جَهَنمَ أَشَدَّ حَراَّ لَو كانوا يَفْقَهُون). . . وحتى ذهب البعض الآخر يتلمس الحجج الواهية ليأذن له النبي في البقاء كما فعل الجدُّ بن قيس حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟) فقال: (يا رسول الله أو تأذنْ لي ولا تَفتِنيَّ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من أحد أشدُّ عجباً بالنساء مني. وإنيَّ لأخشى إن رأيت بني الأصفر ألا اصبر) فأعرض عنه الرسول ونزلت فيه الآية (ومنهمْ منْ يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)
فعدوَّ تلك حاله وحال المسلمين معه، كيف يكون على رأس جيشه غلام حدث كاسامة، وكيف يعقد له اللواء في جيش يضم صفوة الأنصار، وشيوخ المهاجرين الأولين كابي بكر وعمر؟
تلك قصة القوم من ضعاف الإيمان فما خبر المؤمنين؟
لقد قال المؤمنون إن هذا أمر الرسول فعليهم طاعته. ألم يقل الله تعالى: (ومن يُطع الرسول فقد أطاع الله). ألم يقل عز وجل: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوَلَّهِ ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيراً). ثم إن الغزو جهاد في سبيل الله، وإن المرء لفائز فيه بأحد الحسنيين: الاستشهاد أو الظهور، وما أحدهما إلا خير عند الله من الآخر. . . صحيح إن أسامة شاب لم يعدُ العشرين ربيعاً، ولكن أليس الشباب أنفذ عزماً، وأنهض همه، وأبعث للحمية في النفوس؟. . . ألم يحن الوقت بعد ليحمل الشباب لواء هذا الدين الجديد، وينهض بأمره، ويشترك في تحمل تبعاته الجسام؟ ثم أليس أسامة من خيرة شباب الإسلام: أليس أبوه زيد بن حارثة مولى رسول الله صاحب ثقته، وثاني من آمن به من الرجال بعد علي بن أبي طالب، وأول من استشهد في غزو الروم في مؤتة وبين يديه لواء الإسلام؟ أليس أسامة من استشاره النبي في حديث الإفك عن عائشة وهو صبي صغير؟ إن المسلمين ما زالوا يذكرون يوم دعاه النبي ودعا معه علي بن أبي طالب إلى منزل أبي بكر ليستشيرهما في أمر عائشة وصفوان، وقد استفاض حديث الناس وكثر القول. فأما أسامة فقد قضى أن حديث إفك وبهتان عظيم. وأما عليّ فقد قضى قائلاً: إن النساء لكثير غيرها. وأما الوحي فقد قضى بما قضى به أسامة: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم)
أليس أسامة بعد هذا كله حقيقاً بهذه الثقة الغالية؟ إذن فليمض على بركة الله، ولينتقم لأبيه الشهيد، وليضرب للشباب مثلاً يخلد على الدهر
ودعا النبي أسامة فعقد له اللواء وأوصاه أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم في أرض فلسطين على مقربة من (مُؤتْة) حيث قتل أبوه، وأن ينزل على أعداء الله وأعدائه في عَمَايَة الصبح، وأن يمعن فيهم قتلاً، وأن يحرقهم بالنار، وأن يتم ذلك دَراكاً حتى لا تسبق إلى أعدائه أنباؤه، واستوصاه بالنساء والأطفال خيراً، وأمر بأن يخرج إلى الجرف - على مقربة من المدينة - حتى يتم جهاز الجيش. . . وخرج أسامة فضرب لواءه بالجرف، وأقام في انتظار أمر الله وأمر الرسول
وإن أسامة لفي ارتقاب أمر المسير، وإن الجيش لفي جهازه وعدته، وإن الناس لفي حديثهم عن إمرة أسامة على شيوخ الإسلام، إذ مرض الرسول عليه الصلاة والسلام مرضه الأخير بعد جهادين طويلين في سبيل الله: جهاد الروح في الرسالة، وجهاد الجسم في الغزوات والحروب. واشتد به المرض حتى لم يقو على مجالسة أصحابه. . . ولكن يشاء الله أن تبلغ همسات الناس في أسامة آذان ذلك الراقد على فراش مرضه، الذي برحت به الحمى حتى عاد يشعر كأن به منها لهباً، يشاء الله أن يبلغ أذنيه أن الناس يقولون إنه أمَّرَ على جُلَّة المهاجرين والأنصار غلاماً حدثاً. فيعز عليه ذلك ويخشى أن تقع الفتنة في الناس، فيطلب إلى أهل بيته أن يُرِيقوا عليه سبع قرب من آبار شتى حتى يذهب الماء ببعض حرارة الحمة. ثم يعصب رأسه ويتحامل على نفسه ويتساند حتى يبلغ المسجد، فيجلس على المنبر فيحمد الله ويصلي على أصحاب أحد ثم يقول:
(لقد بلغني أن قوماً في إمارة أسامة، ولعمري لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله - وإن كان أبوه لخليق بالإمارة - وإنه لخليق لها فأنفذوا بعث أسامة) ثم يقول: (أن عبداً من عباده خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله). . . ويدرك أبو بكر والناس ما بهذه العبارة من إيماء فيتأثر الناس ويبكي أبو بكر. . .
ويثقل المرض على المريض بعد ذلك الماء الذي صُبَّ عليه وهو في لهب الحمى، وبعد ذلك الجهد الذي بذله في خطاب الناس فيأمر آبا بكر أن يصلي بالناس، ولا يلبث أياماً حتى يسلم أنفاسه الطاهرة في حجر عائشة وهو يقول هامساً:(بل الرفيق الأعلى من الجنة)
ويبلغ نعي رسول الله أسامة بالجرف، فيهبط وجيشه إلى المدينة ويركز لواءه بباب عائشة. . . ثم تتعاقب الأحداث، ويلي أبو بكر الخلافة، ويعود الناس إلى حديثهم عن إمرة أسامة. . . لقد مات الرسول فما ضرهم لو عاودوا الأمر على أبي بكر لعله يلين حيث صَلُبَ النبيَّ، ويولي أمرهم رجلاً أقدم سناً
ويجتمع الأنصار ويحملون رسالتهم عمر بن الخطاب ويقولون له: (أطلب إلى خليفة المسلمين أن يولّيَ أمرنا رجلاً اقدم سناً من أسامة). ولعل عمر كان يجاريهم هذا الرأي. لعله كان يشق عليه وهو الذي قدمه أبو بكر للخلافة بعد رسول الله في اجتماع السقيفة أن يتأمَّر عليه شاب حدث لم يكن له مثل جهاده في الدين. لعل ذلك جال في ذهن عمر لأنه سارع يحمل الرسالة إلى أبي بكر
ويصل عمر بالرسالة ويبلغها أبا بكر فيغضب أبو بكر ويقول: - (ثكلتك أمك يا أبن الخطاب. . . استأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمر أن أنزعه. . .) ثم يقوم الخليفة الشيخ ويأمر بإنفاذ الجيش، ويخرج يستنهض الناس، حتى إذا تم جهاز الجيش سار يشيعه وهو ماش وأسامة راكب. فيعز على أسامة أن يسير خليفة المسلمين - وهو إذ ذاك شيخ في الستين - وهو راكب إلى جواره فيقول له:(يا خليفة رسول الله والله لتركبن أو لأنزلن). فيرد أبو بكر: (والله لا تنزل ووالله لا اركب، وما عليَّ إلا أن أغبرَّ قدميَّ في سبيل الله ساعة فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له وسبعمائة معصية ترفع عنه)
ويخرج الجيش إلى الصحراء، وهنالك يدعو له أبو بكر ويطلب إلى إسامة أن يأذن لعمر في البقاء ليشير عليه فيأذن أسامة ويسير الجيش على بركة الله ورعايته
تُرى هل يحقق أسامة ثقة النبي به؟ ترى هل يفلح حيث أخفق أبوه وثلاثة من خيرة قواد المسلمين؟ ترى هل يقهر عدواً لم يقهره أحد من أهل زمانه؟ ترى هل يقطع ألسنة المجادلين المكابرين القليلي الثقة به وبالشباب؟ ترى هل يرفع رأس شباب الإسلام، ويمهد له الاضطلاع بما يثقل من الأعباء؟
تعاقبت شهور وأيام. . .
فمن ذلك العائد إلى المدينة يتخطَّر على ظهر جواده؟ ولمن هذا الجيش المقبل وقد عقد من
خلفه النقع وأثار رمال الصحراء؟ ولمن هذه الوجه المتهللة المزْهُوَّة بالنصر؟
إنه لأسامة، وإنه لجيشه. . .
لقد فاز وسلم وغنم. . .
رحمك الله يا أسامة، وطيب ثراك، وخلّد ذكراك، فقد حققت ثقة النبي في وقت ضعفت فيه الثقة بك، وقهرت عدواً للإسلام عزَّ على غيرك قهره، وضربت لشباب اليوم مثلاً من شباب الأمس
أحمد فتحي مرسي
المحامي
عزاء من الله.
. .
للأديب لبيب السعيد
علم رسول الله بالنّازلة الجليلة، فغشيه من الحزن ما لم يستطع ردّه، وشاع في نفسه الهمّ الشديد حتى ليبدو للعيان في صفحة وجهه الوضاء.
إن بينه وبين فقيد اليوم قربة الروح والدين فوق قرابة الدم. . . فالفقيد هو جعفر بن أبي طالب أحد (الرّفقاء النجباء) الذين يعتز بهم ويشيد بفضلهم؛ وفي سبيل دعوته الناشئة آثر الاغتراب في البلد النازح على الإذعان لأعداء الدعوة في أرض الوطن، فتحمل بزوجه إلى الحبشة، حيث جعل الله على يديه إسلام عاهلها ومن تبعه. والفقيد من أبرّ الناس بالمسلمين، و (أبو المساكين) كما هو يكنيه؛ وهو أحرص الناس على الأخذ بأخلاقه حتى ليبدو أشبه الناس به خُلُقاً إلى كونة أشبههم به خَلْقاً.
وهو بعدُ ابن عمّه. . .
لقد كانت أوبةُ جعفر من مُهَاجره قريبة العهد، فما انقضى عليها غير عام وأربعة أشهر. ولقد آب يوم فتح الله على رسوله والمؤمنين حصون (خيبر) بعد عراك وجهد، فكان الرّسول صلى الله عليه وسلم في غمرة الأفراح يقبّله بين عينيه، ويلتزمه، ويقول:(ما أدري أيّهما أنا اسّر؟ بفتح خيبر أنم بقدوم جعفر؟) ويقول له كذلك: (أشبهتني خُلُقاً وخَلْقاً) فكانت نشوة الفرح والاعتزاز بهذه العواطف وهذه التشريف تأخذ جعفراً حتى ليرقص من فرط الطرّب والسّعادة.
فوا أسفا! أأقبل حعفر ليدبر؟ أتحقّقت لقلب الرسول رجيّته ليثكلها بعد حين قليل؟ يا رحمتاه لهذا القلب!!
ولقد كان جعفر أمس القريب حين خرج مع السّريّة يكلم رسول الله في ألا يقدَّم عليه زيد بن حارثة، لا إيثاراً لنفسه على زيد، ولكن رجاوة السّبق إلى لقاء المكاره في سبيل دينه. . . واستصغاراً للنّصيب الذي فرض له من أعباء الجهاد؛ ورغبة حارة في أحسن بلاء يتاح لمسلم.
فأين أمس، حين النبيّ يجيبه:(أمض، فأنك لا تدري أي ذلك خير)، وحين النبي في توديعه هو والجيش، وحين المسلمون ينظرون إليه وإلى الغُزاة نظرة الأمل، ويدعون لهم أطيب
الدعاء؟
أين أمس؟. . . لقد كان آخر العهد وفرقة الدهر!!
وجعفر تخطّفه الموت وهو يطاحن مع ثلاثة آلاف من إخوانه المسلمين مأتي ألف جمّعها (هرقل) وزودها بما استطاع من عدّة. . .
ولم يلق جعفر حتفه كما يتَّفق، بل لقيه على نحو سيظل في القرون والأجيال آية مثالية باهرةً، وذكرى مروَّيةً لن تبيد. . .
كان زيد بن حارثة يقاتل براية رسول الله عليه الصلوات (حتى شاط في رماح القوم) فتلقف جعفر الراية، وانطلق يقاتل بها قتال المتشوق لإحدى الحسنيَيْن، حتى إذا ما ألجمه القتال اقتحم عن فرسه، فعقرها، كيلا ينتفع بها العدو، وما برح يقاتل - كما أوصى الرسول يوم هيأهم للخروج - (باسم الله في سبيل الله من كفر بالله)، ولواء النبي الأبيض في يمينه تباهي به ويباهي بها. . . حتى جاءته ضربة أطاحت بهذه اليمين. . .
وكان طَبَيعياً لمن فقد يمينه أن يسُلَّم الراية لغيره - إن قدر على حفظها - ويتخلف بعض الوقت لينظر أمره. . . ولكن جعفراً الذي أعار الله حياته، والذي لا يعرف شيئاً يمنعه عن المضيء في شرف الجهاد، والذي لا يمكن أن يذل في قراع النوائب خذ اللواء الكريم بشماله، وما أنفك يصاول العدو أروع الصيَّال مرتجزاً:
يا حبذا الجنة واقترابها
…
طيّبة وباردٌ شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
…
كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إذ لاقيتها ضِرابها
حتى جاءته ضربة أخرى أطاحت بيساره. . .
أخمدَت لجعفر الصيَّب المنقطع ذراعاه همة؟ أو فُلَّت له عزمة؟ كلا! فهو لم يدع اللواء العزيز المزهوّ يسقط أو يخزى وإنما احتضنه بعضديه، منشوراً لاُ يطوى، كريماً لا يهون، والطعان تتري على جعفر فلا يولّيها دبره، وإنما يتلقاها في استعذاب حتى لتبلغ جراحه بضعة وسبعين كلها فيما أقبل من بدنه. ولا يزال جعفر في المعمعة يهدر بنشيده القوى:(يا حبذا الجنة واقترابها) حتى تتحقق له الشهادة، إذ يجيئه رومي فيضربه ضربة تقطعه نصفين. . .
وهنالك فقط يدع الراية لمسلم ثالث؟
هذا هو الفقيد. . .
وأتى الرسول صلوات الله عليه إلى بيت جعفر يتفقد يتامى تركهم من خلفه خُضراً كأفراخ القطا، ويعزي عن المصاب فيه شريكته المرزّأة: أسماء بنت عميس؛ وإنه ليطلب إليها أن تأتيه ببنيها، وهو يحبس عنها النبأ الفاجع، ويأخذ أطفالها فيشمهم، وينظر إليهم نظرة الأسى المرير. . . فيتمثل - إذ يراهم - وجه أبيهم الذي لقي حتفه في غرب شبابه، ويتمثل حلاوة أخلاقه وأن كان يداً قوية للمسلمين على عدوهم، وقلباً انطوت على حب الله ورسوله والإسلام لفائفه، وأترعت بالإيمان والإخلاص والعزم جوانبه، فتفيض عيناه الشريفتان رحمة وحناناً. . .
وأسماء تستوضحه: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله. . .! ما يبكيك؟)
وتصيح من هول ما تسمع. . . ويجتمع إليها النساء، فيعزيها الرسول في حنوٍ وعطف وينهاها:(يا أسماء! لا تقولي: هجرا، ولا تضربي خداً). . . ويتوجه إلى الله ضارعاً: (اللهم قدّمه إلى أحسن الثواب، وأخلفه في ذريته بأحسن ما خلقتَ أحداً من عبادك في ذريته!
كان خطب البيت النبوي في جعفر خطباً أحسوا له جميعاً لوعة متسعرة؛ وانظر كيف تدخل فاطمة على أبيها رسول الله وهي تبكي وتقول: (وأعمَّاه!). . . فيقول والأشجان ملء فؤاده: (على مثل جعفر فلتبك البواكي!!)
ويشاء الله برحمته أن يمسح بيده الآسية على قلب نبيه وآله، وأن يعزَّيهم عن فجيعتهم الحمراء عزاءً فذاًّ كمصابهم الفذ، فهذا الروحٍ الأمين ينزل على الرسول المحزون، فيبلغه أن الله قد عوض جعفراً عن ذراعيه بجناحين مضرجين بالدماء، يطير بهما مع الملائكة في الجنة. . .
يا بشرى!! وهل يبغي حبيب لحبيبه شيئاً وراء ذلك؟
ثم هذا النبي عليه الصلاة السلام يرفع مرة رأسه إلى السماء فيقول: (. . . وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته!) فيقول الناس: (يا رسول الله! ما كنت تصنع هذا) فيجيبهم: (مرَّ بي جعفر بن أبي طالب في ملأ من الملائكة فسلم عليَّ. . .)
ندى هذا العزاء الإلهي الأكباد القريحة وصرف عنها الجزع ونِعم الأسى آسٍ من روح الله، ونعم العزاء عزاء بقدر البلاء!
(المنصورة)
لبيب السعدي
العذاب!
للدكتور إبراهيم ناجي
أَلَمي مَحَا ذّنْبي إليك وَكَفَّرَا
…
هَبْنِي أَسَأْتُ أَلَمْ يَحُنْ أَنْ تْغَفْرِاَ؟
رُوِحي مُمَزَّقَةٌ وَأَنْتَ تَرَكْتَها
…
لِمخاَلِبِ الدُّنْيا وَأَنْيَابِ الوَرَى
رُوِحي مُمَزَّقةٌ وَلوْ أَدْرَكْتَها
…
جَمَّعْتَ مِنْ أَشْلَائها مَا بُعْثِرا
أَوَ لَيْسَ لَيِ في ظِلَّ عَطْفِكَ مَوْضعٌ
…
أَحْبُو إليه وَأَرْتمي مُسْتَنصِرا
مَا كُنْتُ أَصْبِرُ عَنْ لِقاَئِكَ ساعةً
…
كَيْفَ السَّبِيلُ إلى اصْطِبَاري أَشْهُرا؟
مَنْ بَدَّلَ الثَّغْرَ الَجْيِلَ عُبُوسةً؟
…
وَمضَى إلى وَجْهِ السَّمَاءِ فَغَيَّرا؟
يَا هَاتِهِ الأَقْدَارُ! يا كَفاً جَرَتْ
…
عَسْرَاَء تمْنَعُ أُفْقَها أَنْ يُمْطِرَا
يَا هَاتِهِ الأقْدَارُ! عَينُكِ لَا تَرَى
…
خَلْفَ الدُّجَى سَأْمَانَ مُمْتَنِعَ الْكَرَى
ظَمْآنَ لَوْ باَعَ الأَحِبَّةَ قَطْرَةً
…
بِالْعُمْرِ والدَّنْيا جَمِيعاً لَاشْتَرى
أَخْفَى جِرَاحَكِ وَاسْتَعَزَّ بِفَتْكِها
…
غِرَّيدُكِ الشَّادِي الْمُحَلَّقُ في الذَّرَى
يَرْنَوُ إليك عَلَى البعَادِ فَيَعْتَليِ
…
وَيَجُرهُ اُلْجْرحُ الْممِضُّ إلى الثَّرى
قَدْ عَاشَ وَهْوَ مُعذَّبٌ بإبَائهِ
…
وَلَقدْ يُلَاقيِ حَتْفَهُ مٌسْتَكْبرا
حَتَّامَ كِتْماني وَطُولُ تَجَلّدِي
…
يَا أَيُّها الَجْاني عَلَيّ وَمَا دَرَى
وَمَتَى الْمَآبُ إلى رِحابِكَ سَاَعةً
…
لأرِيكَ جُرْحي وَالدَّماء وَالخِنجَرا
جنتي.
. .
للآنسة الفاضلة دنانير
يا جَنَّةًَ لُذْتُ بأَفْياَئهاَ
…
في غَفْوةٍ مِنْ غَفَواتِ الزَّمانْ
لماَّ تَطَوَّفْتُ بأَرْجَائها
…
ألْتَمسُ الصَّفْوَ وَأَبغي الأَمَانْ
رَفَّتْ عَلَى قَلْبِي بأضْوَائها
…
وَظَلَّلَتْهُ بالرضَى وَالَحْنَانْ
يَا قَلْبُ إِنْ تَكْفُرْ بآلَائها
…
فليسَ مَن حَقَّكَ سُكْنَى الجنانْ
آوِى إليها من جحيمِ العذابْ
…
ضحى فتلقاني بوجهٍ طليقْ
وتُطفئُ النارَ بِبرد الشراب
…
من سَلْسَلٍ عذبٍ شهيِّ الرحيق
كأْسِيَ من أوراقِ وَردٍ رطاب
…
مكلَّلاتٍ بمذابِ العقيق
كم أنتشي بالنَّفَحات العِذاب
…
منها فما أدري متى أستفيق
قلبي في ظِلَّكِ يا جنتي
…
قد مَسَّهُ نورُ الهوى فاشتَعلْ
وكنتُ من قبلِكِ في وحشتي
…
لا فَرَحٌ يُؤْنِسني أو جَذَل
أهيمُ لا أبصُر في حَيْرتي
…
إلا ظلامَ اليأسِ يَغْشَى الأمل
حتى تجلّيْتِ على ظلمتي
…
بالنورِ يُوحي بفنونِ الغزل
يا شِقْوَةَ النَّفس إذا ما انقضى
…
عهدٌ ملئ بالهوى والفتُونْ
وباتَ عيشي فيكِ حلُماً مضى
…
تَهيجُ لي ذِكْراهُ شَجْوَ الحنين
عيشٌ غضيرٌ، حافلٌ بالرَّضى
…
يا حسْرة القلبِ له إذ يَبين
يا قلبُ من يمْحُو سطورَ القَضا
…
ويَضْمَنُ المقدورَ ألاّ يكون
هيهاتَ هيهاتَ فلا بدَّ لي
…
من ساعةٍ تصدعُ ما بيننا
خيالُها المفزعُ ما يأْتلي
…
يُساوِرُ القلبَ هُنا أو هُنا
غداً، وَياَ وَيْلِي لما يَنجلي
…
عنه غدٌ من مُوجِعاتِ الضَّنى
كيفِ نَجائي في غَدي المقبلِ
…
من كأْسِ بيْنٍ قدْ أُعِدَّتْ لنا
أهواك أهواك وهذا دَمي
…
أَوْغَلَ فيه حبُّكِ القاهرُ
كمذا تُراعُ النفس يا ملُهمي
…
مما يُسِرُّ القدرُ الساَّخرُ
سأنْثَني عنك وقلبي ظمي
…
يُلْهبِه حِرْمَانه السَّاعرُ
واْسمك في الخاطرِ أو في الفَمِ
…
بهِ يلَذُّ الفمُ والخاطرُ
يا ليتَ شعري ما حياةُ القلوبْ
…
إن لَمْ يُطَهَّرْهَا جحيمُ الهوى
فَتَمَّحِي آثامُها والذُّنوب
…
في لَهَبِ الوجدِ وحرَّ الجوى
ولم تَسِمْها من هَواها نُدُوب
…
تَظَلُّ إنْ فَاتَ الصَّبَى وَانْطَوَى
تَنْكَأُ فيها ذكرياتٌ تَؤَوب
…
من غابرٍ ماتَ وَمَاضٍ ثوَى
أخشَى وما أخشَى سوى عَوْدتي
…
لوحشَتي في عزُلْتي النائيَةْ
فلا أرَى بعدك في وحدتي
…
سوى صبابتي وآلاميَهْ
وأنت في شُغْلٍ وفي غَفْلَةِ
…
عن ذمَّتي الحافظِةِ الوافية
من لي بكأس الموت يا فتنتي
…
فهي شفائي يومِ تَنْسَانيَهْ
(فلسطين)
دنانير
البريد الأدبي
قلوب تتناجى وأفكار تتلاقى
حفل عدد (الرسالة) الهجري الممتاز بخير ما تجود به أقلام الكتاب، وانفس ما تتمخض عنه قرائح المفكرين، فلاطتْ أحاديثه بكل قلب، وتغلغلت في كل ضمير؛ وأثارت في النفوس المؤمنة شعوراً قوياً من اليقين والأمل والثقة بمستقبل الإسلام وما ينتظره من خير على أيدي رجاله العاملين.
ونحن خليقون أن ننتفع من هذا الشعور، لا أن نكتفيَ بإدراكه وتسجيله؛ فهو الحافز الأقوى إلى التقدم، والسبب الأوثق إلى بلوغ الغاية، وهو أيضاً البشير الأصدق بأننا نسير على الجادة، ونمضي قدماً إلى ما عقدنا العزم عليه من النهوض بأنفسنا، وفي ظل هذا الدين الذي شرَّفنا الله به.
وإذا تجانسَ الشعور العام نحو أمرٍ ما، وتقاربت الأفكار حوله بل تلاقت؛ دل صحةٍ في النظر، وصدقٍ في الوسيلة، وشرفٍ في القصد والغاية. ولا أدلَّ على أن هذه حالنا اليوم، من ذلك الإحساس المتبادل الذي جاشت به قلوب كتابنا، ففاض على أسلات أقلامهم وحياً من الوحي، وآياً من الآي!. لقد هتفوا جميعاً بنداء واحد، ودعوا إلي كلمة سواء، هي أن نقف عند حدود شريعتنا فلا نعدوها، وأن نستغْنَي بقانونها عن كل قانون، ونادوا جميعاً أنظمة الغرب في حل مشاكل الحياة، وهداية البشر إلى طريق الخير والصلاح. . .
فعالج الأستاذ الجليل (صاحب الرسالة) مشكلة الفقر كمرض اجتماعيّ له خطورته؛ وبين ما طبَّ له به الإسلام من ضروب العلاج. ثم ذكر أن هذا العلاج (على إحاطته وبساطته ونجوعه ينهض وحده دليلاً على أفَن الذين يقولون إن دستور القرآن لا يأتلف مع المدنية، وشريعة نابليون أصلح للناس من شريعة الله، ونظام مَرْكس أجدى على العالم من نظام محمد)
وفي كلمة الإمام الأكبر الأستاذ المراغي ما نصه: (لا يزكو بأهل القِبلة أن يولوا وجوههم شطر المغرب يأخذون عنه من المذاهب والنظم والتقاليد ما أضل به أهله. إنما النور في الشرق مطلع الأديان، والهدى في شريعة الله مُنزل القرآن، والدليل في سنة الرسول صاحب الهجرة، والسبيل ما سلكه السلف الصالح فأوفي بهم على الغاية).
وفي كلام الأستاذ محمد المدني ما يدخل تحت هذا المعنى؛ فقد تحدث عن الفقه وكيف ركدت ريحه، وعن الفقهاء وكيف غلّقوا أبواب الاجتهاد، حتى أعرض عنهم أهل التشريع وأصحاب النفوذ والسلطان، وانقطع ما بينهم وبين المجتمع من أسباب؛ ثم قال:(وكان من آثار ذلك أن ذلك أن دخلت التشريعات الأجنبية على بلاد المسلمين، فأصبحت دستور الحكم، وأساس الإدارة، وقانون القضاء، وعماد النظام في كل ناحية من نواحي الأعمال!)
والأستاذ محمد الغمراوي يحدثنا في (تأملاته) عن المدنية الغربية؛ وكيف جنى بعدها عن الدين؛ ويبين ضرورة الرجوع إلى مبادئ الإسلام والأخذ بشريعة ثم يقول: (أعجب عجباً بعد عجب من قوم. . . يتطلبون الحياة ممن ضل عن روحه ونوره، ويولون وجوههم وقلوبهم لا شطر المدينة الإسلامية التي أقامها الرسول بتطبيق كتاب الله فكانت مثلاً عملياً أعلى للإنسانية كلها، ولكن شطر المدنية الغربية التي ضلت عن ربها وعبدت المال والقوة والجاه فأداها هذا إلى التهلكة التي ترى والتي تحاول التخلص منها فلا تستطيع. . .)
هذا بعض ما نبضت به قلوب قادة الرأي فينا، وما تحركت بتسجيله أقلامهم؛ أفلا يحق لنا أن نطمئن ونستبشر، ونرجو من هذا الشعور المشترك خيراً؟؟
يقول أستاذنا المفتي الأكبر في حديثه المنشور بنفس العدد من الرسالة: (قد اتجهت أفكار المفكرين وآراء المصلحين إلى هذه الشريعة يلتمسون أن تكون نظام حياتهم، وأساس مدنيتهم فلا بد لنا إذن من العمل، ولا بد لنا من تلبية نداء الأمة، وإعداد أنفسنا لهذه المهمة السامية)
. . . وهذا كلام نؤمن عليه مغتبطين، وغاية نبيلة نرجو ألا يقف رجال الإسلام دون تحقيقها؛ والله يكلؤهم برعايته، ويمدهم بعونه وتوفيقه إنه نعم المستعان.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
إلى الدكتور عبد الوهاب عزام
الآن وقد وضعت آخر كتاب قرأته لكم: كتاب (رحلات) تجلت لي منكم خلال (عزامية)، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولمست فيكم تلك الروح الشرقية العربية الإسلامية بأجلى
مظاهرها وأسمى حلاها؛ عرفت فيكم ذلك الأستاذ المثقف الذي لم تغره زخارف المدنية الأوربية ووقف عند كل (أثر) إسلامي يناجيه بروح رفاقه وقلب متوثب وعزيمة وقادة. أين موقفك عند مواطن (بغداد) و (الموصل) و (دمشق) و (طرسوس) وحتى (البحر الأبيض) جعلته مثاراً لذكرى الفاتحين المسلمين الأولين. ثم أين موقفك (عند قبر صلاح الدين) وأين كلماتك التي نفثها يراعك الأكرم ثم ختمت مناجاتك وأمانيك عند البيت الحرام والقبة الخضراء الشريفة. فيا لله من مواقف عظام وذكريات فيها الذكر والعبر كما حدثت
وبهذه المناسبة أتقدم إليكم لأستفسر منكم عن موقف من مواقف المتجادلين في هذا العصر، فبينا أخط هذا إذ وردت مجلة الرسالة (الغراء) وفيها فتوى (في مذاهب الصوفية) نقلها كاتب عن (الطرطوسي) وسجل فيها ما سجل من خزعبلات المتصوفة لا الصوفيين بحق؟ على أن هذا لا يعتبر شاهداً على صوفية أو متصوفة هذا الزمن. ومن مواقفك الحسان في كتاب (رحلات) أنك تركت إخوان (الخيام) لتزور ذلك الصوفي الذي لقيت في سبيل زيارته ما لقيت. على أني وإن لم أكن صوفياً بمعنى الكلمة أكره التجني وأعلم أن هناك أناساً مخلصين يذكرون الله جهراً في حلقات، ثم يتدارسون العلم على يد فقيه عالم فيلقون إليه قيادهم فيبصرهم بأمور دنياهم، ولم يكن هناك نقر على (الدفوف) ولا (جبي ضرائب) ولا (هيولة) معظمة ولا ولا الخ إنما يريدون اخوة في الله، والله لا يرضى عنهم إلا إن كانوا مجدين في عمل الدنيا، وما عليهم إلا (الاستغفار والصلوات على النبي صلوات الله عليه وتكرار اللفظ الأكرم (لا أله ألا الله) ويقولون لسنا إلا على الشرع. أرجو بيان هذا الموضوع ببيانك المعهود على صفحات الرسالة الغراء
إبراهيم السعيد محمد عجلان
الإسلام دين ومدنية
في العدد الممتاز وقع خطأ في عنوان مقالي فصار (الإسلام دينٌ لا دولة) والصواب (الإسلام دين ومدنية) كما ورد في الفهرس وكما ورد في الأصل قبل أن يصاب بذلك التحريف. وإنما اهتمت بتصحيح العنوان لأنه حين حُرف دلّ على معنىّ لا أرضاه للإسلام على الإطلاق، وإن ارتضاه بعض الباحثين
وبعد فهل قرأتم في العدد الممتاز مقال الأستاذ الشيخ محمود شلتوت عن (شخصيات الرسول)
أقرءوا ذلك المقال مرة ثانية لتذكروا أنه متسم بالروح الذي كتبنا به مقالاً في أحد الأعداد الممتازة من الرسالة عن (النواحي الإنسانية في الرسول) وهو مقال سبّب لنا متاعب كثيرة وأستوجب أن تنوشنا المجلات الدينية في مدى يزيد على عامين بلا ترفق ولا استبقاء، مع أننا لم نقل غير الحق
واليوم يستطيع خصومنا أن يوجهوا خصومتهم إلى فضيلة الشيخ شلتوت إن أرادوا، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا فمن حقنا أن نرجوهم هم أن يتريثوا في الحكم على ضمائر الرجال قبل أن يسوقوا التهم الجوارح بلا بينة ولا برهان
هدانا الله وإياهم إلى ما يحبه ويرضاه
زكي مبارك
حول محاضرة الدكتور زكي مبارك
كنت من اشد الناس إعجاباً بهذه المحاضرة القيمة التي ألقاها الدكتور في دار اتحاد الشباب المسلمين بالقاهرة لأنها كانت تعالج موضوعاً خطيراً هو (اتجاهات مصر الأدبية وأثرها الضار أو النافع في مركز مصر في الشرق) إلا أن لي عليها ملاحظتين:
الأولى: أنه حينما ذكر أن مصر في سبيل تعزيز اللغة العربية، وتقوية العلاقات بينها وبين الأمم الشرقية، قد أنشأت قسماً داخلياً في مدرسة دار العلوم لإيواء طلبة الأمم الشرقية فسهَّلت لهم سبيل الثقافة والمعرفة، وهذا عمل مشكور لوزارة المعارف المصرية؛ ولكن أليس من الحق أن نقول أيضاً إن الجامعة الأزهرية قد أسهمت في هذا الموضوع وكان لها فيه القدح المعلي، وأكبر دليل على ذلك أنه لما فكر المرحوم الملك فؤاد الأول في إنشاء أبنية فخمة تضم كليات الجامعة الأزهرية، رأت إدارة الجامعة الأزهرية أن تجعل من بعض هذه العمارات مساكن لطلبة الأمم الشرقية موفورا فيها كل أسباب الراحة؛ وقد جعلت في كل قسم مكتبة علمية لتزويدهم بمختلف الثقافات والمعارف. هذا ما عدا ما في الجامع الأزهر، وما في العمارات الأخرى التي استأجرتها إدارة الجامعة الأزهرية، وهي في أفخم
أحياء القاهرة، وكل هذه الأماكن لا تضم أفراداً من العراق والشام فحسب، بل فيها طلبة من السودان وشمال أفريقيا والعراق والشام والهند والأتراك وداغستان والصين وغير ذلك من الأمم الشرقية؛ وقد رتبت لهم المكافآت المالية الكثيرة
الملاحظة الثانية: أنه قال (في مناحيَ) ونطقها بثبوت الياء مفتوحة في حالة الجر ونص على هذا قائلاً إنه هو الصحيح. وإني مع احترامي لرأي الدكتور أرجو أن يدلني على وجه الصحة في هذا، لأن المسموع في أفصح كلم وأبلغه وهو القرآن عدم ذكر الياء مفتوحة في مثل هذه الكلمة، قال الله تعالى:(والفجر وليالٍ عشر). (ومن فوقهم غواشٍ). وأما ما ذكره الدكتور فهو خاص بحالة النصب
وقد أجمع النحويون على معاملة مثل هذا الجمع معاملة قاض. هذا ما أعرفه؛ وللأستاذ مني أصدق التحية
(القاهرة)
عبد المنعم سليمان مسلم
بين أغسطين والغزالي
ذكر العلامة المحقق الدكتور جواد على، وجه الشبه بين اعترافات القديس (أوغسطين) وبين اعترافات الغزالي في كتابه (المنقذ من الظلال)، وقد حار في تعليل هذا التشابه. وقد حملتني بعض الغرائب في أخلاق المتصوفة على دراسة هذا الموضوع من الناحية الطبيعية السيكولوجية زهاء سبعة عشر عاماً، رجعت في خلالها إلى شتى المصادر العلمية، وخرجت من بحثي بأن التصوف ضرب من الانحراف الذهني يحدث ما يشبه الضغط في بعض مراكز الفكر، وهذا ما يعلل ما يتسم به المتصوفة في كل عصر ومن كل جنس ومن كل دين من الاتفاق في الأفكار الأساسية التي يجمع عليها المتصوفون
وقد عثرتُ أثناء دراستي الطويلة على أمثلة رائعة لهذا التشابه بين متصوفين يفصلهم عن بعض الزمن والثقافة والجنسية والديانة؛ فالحلاج يفكر في مسألة الحلول نفس تفكير القديسة تريزا، ولا يخرج تفكير ابن العربي وابن الفارض في الحب الإلهي عن تفكير سويدنبرج السويدي. وقد كان البسطامي في حدبه على النمل كثير الشبه بالقديس فرنسيس الأسيسي
في مناجاته للطير ونعته بالأخوة.
وأرجو أن أوفق إلى نشر بحثي مع ما فيه مما يخالف المألوف في القريب العاجل. . .
كامل يوسف
عضو بالمعهد الفلسفي البريطاني بلندن
تبرئة القضاء العربي من وصمة
أورد صاحب مقال (التبعة والعقوبة في المجتمع البشري) قصة للحزين الديلي بنى عليها أحكاماً منها أن العرب (أقروا شهادة الحيوان أمام القضاء)، وأن ذلك (بمثابة رجوع العربي إلى المنطق القبلي الذي كان يأخذ الحيوان بالتبعة)
ومن الواجب - وللرسالة مكانتها وتحريها - أن أنبه إلى أن
الخبر الذي ذكره الفاضل نقلاً عن الأغاني محرف ملفق، فلا
صاحب الأغاني ذكره ولا غيره. وكل ما في الأغاني خبر
صغير عن الحزين الديلي خلاصته أن طائفاً وجده سكران
فحبسه مع حماره إلى الصباح ثم ضربه الحد وأطلقه والحمار
(الأغاني 1477)، وأما بقية القصة التي أوردها فممسوخ عن
قصة أخرى تذكرها كتب النوادر لأحد المتماجنين لا علاقة لها
ألبته بالحزين الديلي. وفي القصتين لا ورود لذكر قاض ولا
لمجلس قضاء. وإذاً ينهار كل ما بناه عليهما الكاتب من
أحكام. وأرجو أن أفرغ لتفصيل هذا الإجمال.
(دمشق)
سعيد الأفغاني
حول المرحوم معاوية محمد نور
قرأت في عدد (الرسالة) الغراء رقم 445 الكلمة الموجزة التي كتبها الأستاذ محمد أمين حسونة عن أخي المرحوم معاوية؛ وإني نيابة عن أسرة الفقيد أشكر له هذا الشعور الكريم
غير أنه قد وقع فيها بعض الخطأ عن عهد دراسة الفقيد الجامعية إذ قال: إن معاوية بعد أن اكمل دراسته الثانوية بكلية غردون قصد إلى مصر للالتحاق بجامعتها وحالت بينه وبين الجامعة بعض الحوائل ووصل ذلك إلى علم صاحب السمو الأمير عمر طوسون فأرسله إلى الجامعة الأمريكية بيروت على نفقته وهذا الكلام لا يتفق والواقع
فإن الحقيقة أن معاوية أمضى دراسته في بيروت على نفقته الخاصة، وعلى نفقة أهله وذويه بالسودان وهم والحمد لله على خير ما يكون العبد الشاكر لنعمة ربه
السبكي خالد
المسرح والسينما
توطئة
قد اتسع أفق الفن التمثيلي في مصر أتساعاً نغبط عليه من حيث هو اتساع فحسب. وقد كثرت الأصباغ الفنية فيه وتعددت الألوان. وما من ريب في أن بعض هذه الأصباغ تؤدي مشاهدتها العين. ومن شأن النقد أن يوجه المنقود إلى السبيل السوي، وأن يبين الحسن في مواطنه ويرشد إليه، وأن يفضح القبح وإن خفي وينفر منه. . .
وإني لأستعين بالله على كتابة هذه الصفحة عن: السينما. والمسرح. والإذاعة. وأحب أن ألفت أنظار أصحاب هذه الفنون والمشرفين عليها إلى أن مجلة (الرسالة) قد أفسحت صدرها لقلمي الضعيف على رغم إلحاح أزمة الورق للاتجاه بالنقد الصريح إلى ما فيه الخير للفن المصري الشرقي. . . فلينتظر هؤلاء كلمة الحق لهم أو عليهم
كتاب عن السينما
أخرج الأديب الشاب الأستاذ محمد عبد القادر المازني أول كتاب له تحت عنوان: (السينما مفخرة القرن العشرين) وقد جاء كتابه هذا في الوقت الذي تلح الحاجة فيه على قراء العربية أن يعرفوا شيئاً عن فن السينما وتاريخها. فليس أقبح من الجهل بأسرار مظهر من مظاهر الحياة نراه ونلمسه. . . والسينما مظهر قوي من مظاهر حياة البشر في القرن العشرين. فلا مندوحة للناس من أن يلموا بسر هذا الفن؛ ومعرفة المظهر تستدعي معرفة النشأة والتطور
وقد تناول الأديب في كتابه نشأة السينما وتطورها وسرد تاريخها سرداً مجملاً أتى فيه على أهم ما يعني القارئ من أمورها. وهو بهذا العمل الفني الأدبي قد سد نقصاً في الثقافة العربية
الفرقة القومية
قدمت الفرقة القومية في الأسبوع الماضي رواية (صلاح الدين ومملكة أورشليم) مأساة من أربعة فصول ألفها الأستاذ فرح أنطوان وأخرجها الأستاذ سراج منير وقام بتمثيل أدوارها عدد كبير من ممثلي الفرقة القومية. ولقد أحسنت الفرقة في تقديم مثل هذه الرواية التي
تعالج فكرة تاريخية وطنية في ظروف كهذه. وقد نجحت الرواية تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً بالرغم من بعض الهنات التي ظهرت في تكلف بعض الممثلين وفي عدم ملاءمة الإضاءة في مواقف كثيرة. . . ويسرنا أن نشير إلى النشاط الذي بدا على الفرقة وهو يبشر بالانتعاش والحياة. وأحسب أن سر ذلك النشاط راجع إلى الأستاذ سليمان نجيب الذي عين مديراً للأعمال الفنية فيها. وإنا لنرجوا للفرقة وأفرادها ومديرها اطراد التقدم
فرقة ملك
قدمت فرقة ملك على مسرحها الجديد رواية (بنت بغداد)
وهي نوع من الأوبريت ألفها ونظم أغانيها الأستاذ بيرم التونسي. ولا يسعنا إزاء مجهود (ملك) القوي إلا أن نهنئها على هذا الإقدام. ونرجو أن تعمل على استكمال أدوات (الأوبريت) الفنية حتى تستطيع أن تؤدي واجبها الفني على الوجه الأكمل. ولسنا نغفل مجهودها المبذول في التلحين والغناء فذلك شيء مشهود لها به
أفلام جديدة
انتهت شركة أفلام الشباب من عمل فلمها الجديد: (أحب الغلط) الذي أعده للسينما وقام بإخراجه الأستاذ حسين فوزي. وقد اشترك في تمثيله لفيف من نجوم السينما نذكر منهم تحية كاريوكا - حسين صدقي - منسي فهمي وغيرهم. وكذلك انتهت السيدة آسيا من فلم (الشريد) الذي ألفه الأستاذ فتوح نشاطي وأخرجه الأستاذ هنري بركات، وأشترك في تمثيله حسين رياض - زكي رستم - أمينة نور الدين - نادية - وهناك أفلام جديدة أخرى يجري العمل فيها في استديو مصر وغيره من الشركات المصرية سنتحدث عنها في أعداد قادمة إن شاء الله
عبد الفتاح متولي غبن