الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 451
- بتاريخ: 23 - 02 - 1942
التنجيم والحرب
للأستاذ عباس محمود العقاد
نتكلم بلغة الاقتصاد فنقول: إن التنجيم بضاعة يكثر طلبها في أيام الحروب فيكثر عرضها
لأن الناس يتوقون إلى العلم بالمصير، فيظهر لهم من ينبئهم صادقاً أو كاذباً بما يراه من مصير
ولأن الناس جميعاً يخشون شيئاً ويرجون شيئاً في أيام الحروب، فيحبون من يجلب إليهم الطمأنينة بما يزيل من خشية أو يعزز من رجاء، ويتسع من ثمة مجال التنجيم والاستطلاع
ولأن الناس، ولاسيما الجند، يحتاجون إلى الثقة بالغلب، أو ما يسمونه في الاصطلاح الحديث بتقوية الروح المعنوية، فيأنسون إلى ما يوافقهم من كلام المنجمين
ولأن الحوادث الجسام توحي إلى كل نفس أن الأمر فوق طاقة الإنسان، وأن أعنة الأقدار في يد غير يده وعلم غير علمه، فيتجه الذهن إلى عالم الغيب وإلى الذين يدعون له العلم به والإنباء عنه
ولأن النزاع بين طرفين من شأنه في كل حين أن يشحذ غريزة الرهان والسباق حتى في الألعاب التي ليس لها عند الناس خطر الحروب، ومتى شحذت غريزة الرهان فقد شحذت معها غريزة التطلع إلى نجاح هذا وفشل ذاك، أو شحذت معها غريزة الاستطلاع والتخمين، ومنها التنجيم
هذه بعض الأسباب التي تروج صناعة التنجيم في أيام الحرب كالحرب الحاضرة، ولا ندري أهو سوء حظ أم حسن حظ ذلك الذي أغرى الصحف الكبرى في حواضر العالم بأن تتحرى كل ما يروج وتهيئ للقراء كل ما يتوقون إليه من أنباء اليوم والغد، وما يحصل الآن وما سيحصل بعد حين
ولكن الصحف على أية حال تصنع ذلك ولا تبالي أكان حسناً أم كان سيئاً ما تصنع. ففي كثير من صحف أوربا الكبرى أبواب يكتبها مخبرون (مستقبليون) غير الأبواب التي يكتبها مخبرو الوقائع الحاضرة والأنباء الجارية؛ وهؤلاء المخبرون (المستقبليون) هم أناس يحترفون بالتنجيم ويتخذونه جداً يدافعون عنه كما يدافع العالم عن علمه والتاجر عن تجارته، وينكرون أنه لعب مصادفات أو أنه تزجية فراغ أشد إنكار
جاءتنا صحف إنجلترا في البريد الأخير وفيها أحاديث شتى عن مأدبة أقيمت للمنجمين يحاضرون فيها عن صناعتهم ويدفعون فيها ما يتجه إليهم من نقد وريبة، ويذكرون لقرائهم والمستمعين إليهم شيئاً عن أسرار هذه الصناعة وأسسها، فلم يتفقوا لها على أسس ولا أسرار
فمنهم من أثبت للنجوم سلطاناً على حوادث هذه الدنيا وأخصها حوادث الحروب والنكبات، ومنهم من نفى العلاقة بين النجوم وبين الحوادث الأرضية في (علم) التنجيم الحديث
وقال بعضهم أن التنجيم يصيب ويخطئ كما يقع الصواب والخطأ في أصح العلوم، إلا أن الخطأ قليل في حساب المنجم الماهر كثير في حساب المنجم القاصر، وقد يقع الخطأ في خبرين من عشرة أخبار أو في خبرين من أثنى عشر خبراً ولا يقدح ذلك في صحة الحساب ولا في صحة (العلم) أو صحة الأساس الذي يقع عليه
وقد أطلعنا نحن على طائفة كبيرة من نبوءات الحرب الحاضرة فلم نعثر بينها على نبوءة واحدة تقطع بصحة (علم) التنجيم وتحوجنا إلى قبول دعوى المنجمين، وكلها داخل في مستطاع من ينجم ومن لا ينجم ومن يعرف أسرار العلم المزعومة ومن يجهل تلك الأسرار
فالإنباء بما سيأتي قد يتاح لأناس لهم اتصال بمصادر الأخبار أو لهم نصيب من بعد النظر، وهم في هذه الحالة يبلغون من الصدق ما لم يبلغه منجم ولا مصطنع نبوءات
فمن أمثلة الاتصال بمصادر الأخبار أن الصحفي الأمريكي ريتشارد بوير كتب في الثالث من شهر نوفمبر سنة 1940 يقول: (إنهم ينظرون في جميع أنحاء الدنيا إلى روسيا وألمانيا نظرتهم إلى حليفتين. ومع هذا يبدو من الأمور المفروغ منها في الدوائر النازية أن ألمانيا ستغزو روسيا في السنة المقبلة. ويرى رجال الحكومة النازية بشيء من التقية وإن لم يبلغ مبلغ الأسرار المكتومة أن اتحاد السوفييت إما أن يسلم في إقليم أوكرانيا وإقليم النفط في باكو وولايات البحر البلطي، أو تستولي عليها ألمانيا عنوة حيثما تسنى لها أن تفرغ من إنجلترا. وقد يزعم بعض الموظفين في الحزب النازي أن الحرب بين الولايات المتحدة وألمانيا غير ضرورية على خلاف ما تبينته بين كبار الرؤساء من جزم بضرورة هذه الحرب وأنها واقعة لا محالة. . .)
فهذه أنباء لو اتفقت لمنجم لباهى بها أقرانه واتخذها حجة لصناعته في أساسها، ولمهارته
هو في كشف خباياها؛ ولكن الرجل الذي أذاعها قبل وقوعها صحفي لا يدعي لنفسه صفة غير صفة المخبرين الصحفيين ولا يسلك نفسه في عداد المنجمين
وإلى جانب هذا يكتب المنجم المختص بباب النبوءات في صحيفة أنباء الدنيا (أن أموراً على أعظم خطر سيتفق عليها رأسان من رؤوس الدول الكبار - ولعلهم ثلاثة - فيرتبط بها خلاص بني الإنسان)
ثم يزعم له مصدقوه أنه أحسن التنجيم لأنه كتب نبوءته في العاشر من شهر أغسطس ووقعت مقابلة الرئيسين روزفلت وشرشل بعد ذلك بأيام فتم فيها الميثاق الذي أشار إليه وربط به خلاص بني الإنسان!
إلا أن إشاعات المقابلة كانت تحوم في الجو كما يقولون قبل نشر النبوءة بثلاثة أيام، فسرى بين الصحفيين نبأ فحواه أن روزفلت وشرشل قد ذهبا إلى ألاسكا لمقابلة ستالين هناك، وكذبت هذه الإشاعة في حينها وهي بلا شك مصدر النبوءة التي أسرع بنشرها منجم الصحيفة ليواجه بها القراء وهم أكبر عدداً من زمرة الصحفيين القلائل الذين تنسموا النبأ على تلك الصورة قبل وقوع المقابلة، ولهذا تردد المنجم في عدد رءوس الدول فجعله بين الاثنين والثلاثة، واستفاد بين ألوف القراء سمعة التنجيم الصادق لأن هؤلاء القراء يجهلون الإشاعات الخفية التي ينفرد بعلمها بعض المخبرين في دوائر الصحافة، فيسهل إقناعهم بأنها سر من أسرار النجوم
وهكذا يقال في كل نبوءة وقفنا عليها من نبوءات الحرب الحاضرة، فهي إما اتصال بمراجع الأخبار العليا، أو صدق نظر في قياس المجهول على المعلوم
إلا أننا لا نريد أن ننكر الشعور بالأمور المقبلة من طريق غير طريق المراجع العليا، أو بعد النظر الذي يدخل في عداد الأقيسة العقلية
فقد يرى الإنسان ما سيأتي على نحو يشبه رؤية العين لأشباح الظلام، ولكنها رؤية لا تقبل التمحيص والمراجعة ولا تدخل في صناعة التنجيم، وهي مع ذلك مما ينقض التنجيم وليست مما يؤيده ويزكيه، لأنها ترد الشعور بالأمور المقبلة إلى الحس الباطن أو إلى الواعية ولا ترده إلى حساب النجوم أو إلى صناعة قابلة للتعلم والتعليم. وقد يقوى هذا الشعور حتى يتضح للعقل فيفسره كما يفسر الأقيسة ومدركات الأفكار
أما الحقيقة التي لا شك فيها فهي أن البنية الإنسانية تحس ما يهددها من الأخطار الدخيلة قبل وقوعها في بعض الأحايين. كما يقول أبن الرومي:
وللنفس حالات تظل كأنها
…
بما سوف تلقى من أذاها تهدد
فتحس الأمراض المقبلة والعلل المنذرة، ولا تدري لإحساسها سبباً في كثير من الأحوال، وإن كان هذا الإحساس مقدمة للعلة وعرضاً سابقاً من أعراضها بغير نزاع
وقد يهزأ بعضهم بتطبيق أبن الرومي لرأيه حين يقول:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
…
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها
…
لأرحب مما كان فيه وأرغد
ولكنه على ما نعتقد هزؤ ظالم أو مبالغ فيه، لأن الأسباب الطبيعية التي تدعو إلى بكاء الطفل عند ولادته هي مقياس لسنة الدنيا في اقتران كل وظيفة بجهد ناصب، وفي تقاضيها ثمناً لكل فتح من فتوح الحياة. فهي شيء ملازم للبنية الحية، يدل عليه أن أول تنفس للهواء هو أيضاً لون من ألوان البكاء
غير أن إحساس الإنسان بما سيصيب بنيته شيء وإحساسه بما سيصيب الدنيا شيء آخر، ولا سيما ذلك الإحساس الذي يدعيه المنجمون
والمسألة بعد لا تخلو من عزائها وسلواها، فإذا أمتعض أناس منا لما يرونه من تهافت جهلائنا على العرافين والمشعوذين فهذه أوربا تهون عليهم مضضهم بإقبال أهلها (المتعلمين) على لغو العرافة والشعوذة وإقبال صحفها الكبرى على باب من الأبواب مقصور عندنا على منشورات يزهد فيها العقلاء!
عباس محمود العقاد
رسالة الطالب العربي
لصاحب العزة الأستاذ محمد العشماوي بك
لقد قصدت حين اخترت (رسالة الطالب العربي) موضوعاً لحديث أن أتحرر مما تقتضيه المحاضرات من جهد وعمق فلا يرتفع بحثي إلى مرتبة المحاضرة وما تتطلبه المحاضرة من تقدمة وتفصيل وتحليل، وأن يكون سبيلي حديثاً مرسلاً له صفة الحديث، وهي أنه ذو شجون، فأطالعكم بما يعرض للذهن من خواطر وذكريات يطمئن لها خيالي وشعوري حين يجري حديث العرب. وهأنذا في مكاني هذا أذكر مواقف ماثلة أمامي على الرغم من بعد الشقة وتتابع الأحداث. ففي صيف سنة 1937 وقفت على رابية من ربى لبنان الجميل أخطب كشافة العرب: لبنانيين وعراقيين وشاميين وفلسطينيين، فكنت أبصر بعيني بعض البقاع العربية وأستجمع بخيالي نائي الأقطار والديار، فلا ألمح حدوداً بين بعضها وبعض، إن هي إلا أمة واحدة في رقعة من الأرض واحدة، يؤلف بين أجزائها ماض واحد وحاضر مشترك ومستقبل منشود، ويحفز شبابها المتوثب أمل قوي في تجديد الحضارة العربية، وبعث المجد الذي حفلت به صفائح التاريخ. وكذلك لا أنسى أني وقفت أخطب شباب العراق وأتحدث في مذياع بغداد، فجعلت أسائل نفسي: أفي بغداد أنا أم في القاهرة، وعلى ضفاف دجلة أو على شاطئ النيل السعيد، أغريب أنا في هذه الديار، أم أنعم بين عشيرتي وأهلي؟
والآن أقف في جمع يضم شباب العرب من أقطار شتى في ظلال الجامعة المصرية، فلا أجد في نفسي شعور الغريب يتحدث إلى الغريب، وإنما أشعر حق الشعور بأني أتحدث إلى طائفة من بني قومي ليس بيننا وبينهم من الفوارق غير نأى الدار وشط المزار توثق بيننا أمتن الروابط الثقافية والروحية، ويهدينا إلى المستقبل قبس تلك الحضارة العتيدة التي انتظمتنا في الماضي، فجعلت منا أمة موحدة في عقيدتها وأهدافها من المثل العليا
إن رسالة الطالب العربي هي رسالة الجيل الجديد، وهي رسالة المستقبل القريب، فهذه الجماعة التي تألقت من الطلاب العرب في كلية الآداب لترسم الطريق لتحقيق الرسالة، عليها أن تبدأ بتهيئة نفسها لخوض غمارها، وتستوفي من ألوان الإعداد ما يكفل لها النجاح في مهمتها، فأول ما يجب أن يفكر فيه الطالب العربي هو إعداد نفسه وتكوين ذاته،
وأرباب الرسالات لا يلون مهمتهم ارتجالاً ولا يرقبونها عفواً، وإنما يحققون في أنفسهم قدرة الاضطلاع بالأعباء. ومما لا ريب فيه أن الإعداد الصحيح للطالب العربي يجب أن يتناول الجسم والخلق والثقافة، وهؤلاء فريق من طلاب العرب قدموا مصر ليغترفوا من جامعتها ثقافة وعلماً؛ ومصر حين تقوم نحوهم بواجبها وتفسح لهم صدرها، إنما تؤدي إليهم ديناً في عنقها، فإن علماءهم وأدباءهم دانوها في مفتتح نهضتها وفي ماضي حضارتها، وقد بايعت الأمم العربية اليوم مصر بالزعامة في الأدب والثقافة والاجتماع والسياسة، فمن واجب مصر الزعيمة أن تعرف لهذه الزعامة حقها، وأن تنهض بتكاليفها، وأن تخص الطلاب العرب برعايتها
ولعل مما يحسن أن يتوجه إليه الطالب العربي في الأخذ بأسباب رسالته أن تكون ثقافته كاملة؛ فنحن بنو زمان هيمن فيه العلم على الأدب والقانون وعلى الطب والهندسة ومرافق الحياة كلها في السلم والحرب. فالإعداد العلمي ضروري لمغالبة هذه الحياة. ولن يصلح الآن أن يستقبل المرء حياته معتمداً على التجربة أو متكلاً على الحظ؛ فذلك إن أجدى عرضاً على فرد فلا يجدي على أمة؛ وإن صلح فلا يصلح لهذا العصر الذي يهيمن العلم على كل مرافقه وأوضاعه.
وعلى الطالب العربي وهو يستكمل ثقافته أن يضع ماضي العروبة نصب عينيه؛ فإن كان خيراً ترسمه أجمع، وإن كان الخير فيه مخلوطاً بالشر نفى عنه شره واستبقى الخير، وإن كان قد غلب الشر في حقبة من الزمن وجب اختطاط خطة تقوم على الخير الغالب. وإن وراء العرب لماضياً حافلاً بالمفاخر، وحضارة امتدت إلى ما وراء العمران. وكان سبيل الأولين من أسلافنا أن ينتفعوا بما يستطيعون الانتفاع به من علوم الأمم وفلسفاتها ونظم الحياة فيها، فاتخذوا من مختلف الأخلاط مزاجاً جديداً له روعته؛ وبقى هذا المزاج حتى صار أساساً لحضارة العرب الحديثة، فرده الغرب إلينا غريباً علينا. فمن واجب الطالب العربي أن لا ينسى ماضيه لأنه حلقة الاتصال بالحاضر والامتداد إلى المستقبل، وإذا أهملنا هذا الماضي فقد أهملنا مجداً عظيماً تتقطع بنا الأسباب دونه، ونفقد ما لنا من طابع وروح. وكيف نزهد في ماض ينطوي على المثل العالية في التفدية والجهاد، ويصور لنا عظمة في الخلق، وقوة في العقيدة دانت بها ممالك الدنيا جمعاء؟ فلنتبين سر هذا الماضي،
ولنتعرف كنه هذه الحضارة، ولنتدبر الأسباب التي نقضت هذا الحكم، وهدمت ذلك البناء. وليكن ذلك التدبر وسيلة إلى العظة والاعتبار، فنأخذ من الذرائع ما يكفل النهوض، ونتجنب من العلل ما طوى للعظمة العربية علمها الخفاق.
فإذا عرف الطالب العربي ماضي الأمة العربية بأمجادها ومفاخرها، ووضحت له أسباب تدهورها وخمود جذوتها، وكان قبل ذلك آخذاً من المعرفة بالقسط الأوفى، بدأ يدرس الحاضر وأدواءه، فالطبيب لا يجدي علاجه إذا لم يكن تشخيصه للمرض صحيحاً، ولن تفيد العقاقير مهما تكن قيمتها شيئاً. وإن كثيراً من المصلحين لتذهب جهودهم هباء على الرغم من قوة عزيمتهم وحسن بلائهم، لأنهم لم يفقهوا البيئة التي حاولوا إصلاحها، ولم يتلمسوا العوامل المؤثرة فيها، ولم يتعلموا كيف توجه الشعوب وكيف تواجه العلل
فليكن هم الطالب العربي أن يدرس العلل الخلقية والاقتصادية التي أثرت في البلاد العربية فردتها عن الصدر، وقد تكون هذه العلل واحدة تشترك في معاناتها سائر أقطار العرب، وقد تكون لكل قطر علته الخاصة به، فعلى كل الطالب أن يتفهم العلل التي ينفرد بها وطنه الأصغر، ثم يتفهم العلل المشتركة التي تصيب وطنه الأكبر؛ فإن كان هناك فرقة استجلي أسبابها ودواعيها، وإن كان هناك جهل أو ضعف خلقي تفحص مصادره وبواعثه، وإن وجد تخلفاً في ميدان الصناعة أو التجارة استهدى إلى بواطن هذا التخلف. ومتى فرغ من هذا الدرس والفحص أمكنه أن يرسم منهاجاً سليماً لنهضة علمية خلقية عملية على أساس قويم.
وجدير بكل طالب عربي أن يتمثل له الوطن الأصغر والوطن الأكبر. فوطنه الأصغر شبيه بالأسرة تضم ما لها من أبناء، ووطنه الأكبر شبيه بالأمة تحتوي سائر الأسر. وإني لأتصور الأمم العربية كلها أسرة كبيرة واحدة لها أب واحد وأم واحدة، فشاء ذلك الأب أن يوفر لبنيه الكثيرين أسباب الاستقلال والنماء ففرقهم في منازل شتى يعنى كل منهم بشأنه، ولكن تبقى بينهم أواصر القربى تجمعهم تحت لواء واحد تؤلف بينهم عند الأحداث فإذا هم كالبنيان المرصوص. والحق أن من يزور الأقطار الشقيقة يحس هذا الشعور وهو يجتاز بلداً إلى بلد، ويتنقل بين أهل وأهل، فلا حدود ولا فوارق، وإنما هو وطن بعيد الأطراف وحدت بين أجزائه المترامية روابط الدين واللغة والثقافة، وألفت بين قلوب أبنائه آمال
متشابهة وأهداف مشتركة.
ولا أظن أن ثمة رابطة أقوى من الرابطة الثقافية في وصل الشعوب بعضها ببعض. فالأمم العربية بخير ما توثقت روابط الثقافة بين شباب العرب لأنها توحد بين الأفكار، وتجمع بين القلوب، ويتسنى بها لكل رابطة سياسية أو اقتصادية أن تجد طريقها إلى القبول. ولا يستطيع أحد أن يتصور أمماً تتفرق بعد أن يتم التوحد بين قلوبها وأفكارها وأمانيها جميعاً.
ومما نوصي به الطالب العربي أن يؤمن إيماناً عميقاً بأن اللغة الفصحى هي أداة الاتصال بين الأمم، وإنه يجب أن يقوم على دعائمها صرح الثقافة العامة، فلقد طوفت في الشام والعراق وغيرهما فما كان يتيسر لي تقارب الفهم والإفصاح عن مكنونات النفس إلا حين اخترت الفصحى أسلوباً لحديثي؛ فإذا تدسست اللهجات أفسدت ما بيني وبين محدثي من تعارف، وأسلمتنا إلى التناكر البغيض. فالفصحى هي التي تجمع شملنا؛ وهي التي تقارب تفكيرنا، فليكن من مهمتنا نحن الدعاة إلى الوحدة العربية أن نحرص على الفصحى، وأن نداني بين الأساليب في شتى الأقطار، وأن نعمل على تيسير هذه اللغة لكي يسهل لنا استخدامها في الثقافة المشتركة بين الناطقين بالضاد
ولقد أشرت في مطلع حديثي إلى ضرورة إحيائنا لماضينا. وقد يقال إن لكل أمة من الأمم العربية ماضياً خاصاً، والواقع أن هذا الماضي مشترك بين أمم العرب لأنها كانت تخضع في حقيقة الأمر لنظام واحد، وتستمد حضارتها وأنماط حياتها وتفكيرها من منبع واحد في الأكثر الغالب؛ فمن أركان رسالة الطالب العربي إحياء ماضي العروبة في التفكير، وعرض هذا التراث الفكري العظيم في إطار جديد. فذلك الماضي يستند إلى دين محكم وضع نظامه ليواجه مشكلات الحياة في كل عصر وكل بيئة؛ ولكن لا بد لنا من أن نتفهم روح الدين السامية على وجهها الصحيح خالصة من البدع محررة من الجمود. فلو استمسكنا بذلك النظام الذي وضع أساسه ديننا القويم لاستطعنا الخروج سالمين من نوائب الزمن التي يرجع مصابنا بها إلى تنكبنا ذلك الطريق المستقيم. وعلى أن لنا مع ذلك ماضياً تاريخياً يجمل بنا أن نحييه في أنفسنا معتزين به ليكون حافزاً لنا على التوثب والرقي. ولنا كذلك تراث أدبي وعلمي عني به علماء الغرب قبلنا وكان له أثره في اتساع آفاق تفكيرهم الفلسفي والاجتماعي. فيجب أن يكون لنا في هذا التراث مأرب عظيم وأن نعمل على
تجديده وتنظيمه بما يلائم تطور الفكر الإنساني، وأن نقرب موارده للدارسين والباحثين وطالبي المعرفة. فقد طالما طالعتنا الحقائق بأن كثيراً من نظريات آبائنا السالفين في نواحي العلم يؤيدها الفكر الحديث ويحتفل بها العلماء المعاصرون
غير أننا مع احتفائنا بذلك التراث العظيم ودعوتنا إلى إحيائه والانتفاع به لا يجوز أن نتعصب له ونطرح ما عداه فنقول إن ثقافتنا كل شيء في الحياة، وأننا نستغني بها عما سواها، بل نعمل كما عمل أجدادنا العرب، وننهج طريقهم في اكتساب المعرفة، فلقد نشدوا العلم من شتى مصادره وفرضوه على كل مسلم ومسلمة، وقربوا إليهم العلماء دون تفرقة بين أصيل ودخيل فانعقد لهم لواء الحضارة في فجر نهضتهم، وسخروه لدولتهم وصولتهم. فلنتزود من العلم الصحيح حيث يكون فالعلم لا حكر فيه لأحد ولا وطن له ولا دين
وإنه من تباشير الخير في الشرق أن يوفد أبناءه ليتلقوا العلم من جامعة مصر. ومن تباشير الخير في مصر أن تفتح جامعتها الأبواب لكل وافد عربي. ولقد كنت أتحدث إلى بعض أولي الأمر في البلاد الشرقية أثناء جولاتي فقلت له في سياق الحديث لم تنشئ كل من سورية والعراق وفلسطين جامعة، وليس إنشاء الجامعات بالأمر الهين ولا يقصد به مجرد المظهر، فقليلاً ما يتوافر العلماء، وقليلاً ما يتيسر المال اللازم للإنشاء؟ ولم لا تكون الثقافة الجامعية في الشرق موحدة فتكون جامعة فؤاد الأول في مصر جامعة الشرق كله يفد إليها الطلاب العرب فيتزودون زاد إخوانهم طلاب مصر العرب
إني كلما أفضت في حديث مشكلة اجتماعية يتملكني عاملان: عامل يأس وعامل رجاء. وهذا هو شعوري بعد أن ألمعت لكم برسالة الطالب العربي؛ فيحضرني عامل الرجاء حين أرى طائفة من شباب العرب فيها مخايل الرجولة الكاملة تفكر في العرب وثقافة العرب ومستقبل العرب، وتكون من أنفسها جماعة تدعو إلى رسالتها، وتنظم المحاضرات في موضوعاتها، فهنا يقوى الرجاء ويبتسم المستقبل. ويحضرني عامل اليأس حين أتفرس في الحياة الاجتماعية التي يحيا العرب في أكنافها، فأرى في بعض ما أرى نوعاً من الانقسام، وألاحظ بلبلة في الرأي، وتباعداً عن فكرة الوطن الأكبر، واشتغالاً بتوافه الأمور عن جلائلها. وهنا يلحقني التردد في الاطمئنان إلى الأمل والرجاء؛ ولكن إذا كانت عوامل اليأس مما تجوز لمن هم على عتبة الشيخوخة أمثالي فإن الشباب يجب أن يمتثلوا أملاً
وطموحاً وثقة بالغد المنتظر، وأن يكونوا رسل إيمان ويقين في المستقبل المنشود، فإنهم بهذه الروح تلين لهم الصعاب وتنفتح لهم أبواب الجهاد لتأدية رسالتهم العظمى رسالة الإنهاض للشعب العربي ورده إلى مكانه في الصدر الأول وإسلامه إلى مستقبل ميمون الطلعة مبارك النفع إن شاء الله
محمد العشماوي
من دقائق إعجاز القرآن
للأستاذ محمد احمد الغمراوي
قمت أجمع ما تفرق في مكتبتي من أعداد (الرسالة)، فإذا بعدد منها غلافه لم يفض هو العدد (441). فضضته وجعلت أقرأ ما استرعاني من فهرسه، فبدأت بما كتبه الأستاذ احمد صفوان بعنوان (غلطة مفسر كبير)، وإذا المفسر الكبير هو الإمام أبو بكر بن العربي، وإذا به يورد من سورة التوبة آية على غير نصها، فأبدل كلمة مكان كلمة - غير عامد طبعاً - وجعل يفسر الكلمة التي أبدل كأنما هي الكلمة التي أنزل الله. والآية القرآنية هي:(وإن أحد من المشركين استجارك فأجِرْه حتى يسمع كلام الله ثم أبلغْه مأمَنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون). فجعل الإمام أبو بكر كلمة (لا يعقلون) مكان (لا يعلمون) وطفق يفسر وعلل لماذا نفى الله عنهم العقل. . . إلى آخر ما روى له الكاتب الفاضل الذي نبه إلى هذه الغلطة الفذة
والغلطة في ذاتها مألوف مثلها في التلاوة حين يتلوا الحافظ غير المتمكن عن ظهر غيب تلاوة من لا يتتبع المعنى ولا يتفقه وهو يقرأ. لكنها غلطة نادرة من مفسر إمام مفروض أنه يستوثق من النص قبل أن يبدأ التفسير. لكن الإمام أبا بكر ابن العربي غفر الله له اعتمد على ذاكرته فيما يظهر فخانته هذه اللفظة، وكان حسن الظن بحفظه فيما يبدو فلم يسترعه أي تفاوت في المعنى يحمله على الرجوع إلى المصحف للتأكد من النص
والواقع أن أمثال هذه الغلطة من إمام مفسر، وبعد ما بين المعنى على أصله والمعنى بعد تحريفه، من أقوى الدلائل عندي على أن القرآن ليس من عند بشر وأنه من عند خالق البشر، فشتان بين المعنى لو كان النص كما أورده ابن العربي وبينه كما ورد في القرآن الكريم. شتان بين تعليل أمر الله نبيه أن يجير المشرك حتى يسمع كلام الله ثم يبلغه مأمنه بأن المشرك لا يعقل، وبين تعليل ذلك بأن المشرك لا يعلم. فمن المعقول من الحكمة أن يجار المشرك الذي لم تبلغه الرسالة حتى تبلغه على وجهها بسماع كلام الله، ثم من المعقول ومن الحكمة بعد إذ سمع كلام الله أن يبلغ مأمنه ويترك لنفسه ليتدبر ما سمع بعقله غير مروع ولا خائف، ثم هو بعد ذلك وما يختار لنفسه، فإذا دخل في الدين دخل غير مكره، وإذا لم يدخل عن اختيار، ولكل جزاؤه، إن دخل كان أخاً لجميع المسلمين، وإن لم يدخل كان عدواً ينفذ فيه ما أنزلت سورة براءة من أجله. ولكن المهم أن مدار ذلك جعله الله
سبحانه على علم المشرك الدعوة أولاً، ثم على إعطائه فرصة لتدبرها في أمن وحرية ثانياً، فالعلم بالدعوة على وجهها كما يدل عليه قوله تعالى (حتى يسمع كلام الله)، وتدبر الدعوة في حرية وأمن كما يدل عليه قوله تعالى (ثم أبلغه مأمنه)، هما ركنان للدعوة الإسلامية يدل عليهما دلالة واضحة العلة التي بنى الله سبحانه عليها أمره في قوله (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون)
وإذا عرفت الآيات قبل هذه الآية وما تأمر به من تأجيل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، حتى إذا انسلخت الأشهر الحرم - والسورة العزيزة نزلت وتليت على الناس في الحج وفيه المشرك والمسلم - قتل المشركون بكل وجه وقعد لهم كل مرصد، إلا أولي العهد فيوفى للموفين منهم عهدهم إلى مدتهم: إذا عرفت هذا عرفت الحكمة البالغة الكامنة في ذلك التعليل الإلهي لذلك الأمر الإلهي
إن ذلك التعليل مظهر من مظاهر العدل الإلهي في الدين والرحمة في الدعوة، إذ ما كان الله ليأمر بقتل حتى المشرك قبل أن يدعى إلى الله دعوة مؤثرة. واشد الكلام تأثيراً في نفس العربي هو كلام الله العربي المنزل، لذلك أمر الله نبيه حين أراد تطهير الأرض من الشرك أن يجير المشرك حتى يسمع كلام الله. ثم ما كان المشرك ليقتل حتى يأنس إلى كلام الله، بعد سماعه، مدة قد يجد فيها كلام الله إلى نفسه سبيلاً. وهذا ليس من العدل فقط. بل ومن الرحمة والحكمة؛ وهو في ذاته دليل على أن هذا الأمر للنبي هو من عند خالق النفس وعالم ما هي وما فطرت عليه. فقد علم الله سبحانه بعد ما بين الدعوة إلى الإسلام وبين ما نشأ المشرك عليه، وعلم أنه إن كان في المشركين من أوتي من صفاء العقل ما يدرك به عند سماع الدعوة فضل ما بينها وبين ما هو عليه، فيستجيب لها غير متردد، ويدخل في الإسلام غير مسوف، فإن في المشركين أيضاً الرجل العادي وهو سوادهم: ينفر نفسه مما لم نألف، ونكون له كبوة عند الدعوة مهما بلغ فضلها من الوضوح وبلغت هي من الإشراق. فلو أخذ المشرك بأول رأيه أو شعوره عند سماع كلام الله لكان نصيب أكثر المشركين القتل. لكن الله سبحانه وتعالى أجلهم حتى يأنسوا بكلامه ويتدبروه ويتذاكروه بينهم فعندئذ تكبر فرصة استجاباتهم له بعد أن يزداد فهمهم إياه، ويزول النفور الأول الناشئ عن مخالفة الدعوة لمألوفهم على وضوح خطئه وصوابها، وضعته وشرفها. وفعلاً
تحققت حكمة الله ودخل المشركون في دين الله أفواجاً.
والمهم ملاحظة أن المشركين ما كانوا ليدخلوا كما دخلوا في دين الله أفواجاً لو كان المانع لهم من قبول الدعوة أو الأمر قلة العقل بدلاً من قلة العلم، فالعاقل الذي لا يعلم مرجو أن يستجيب للحق إذا زال جهله به، وأعطى فرصة لتدبر ما دعي إليه. لكن لا رجاء في استجابة من لا يعقل، أو من كان على حال من الإصرار والعناد يحول بينه وبين قبول الحق وينزله منزلة من لا يعقل. فالحكمة واضحة في تأجيل من لا يعلم حتى يعلم وحتى يتدبر ما علم. لكن أي حكمة هناك في تأجيل من لا يعقل، وهو مهما علم لن يفقه لأنه ليس لديه عقل يفقه به، وتأجيله إلى أجل طال أو قصر لن يؤتيه ذلك العقل؟ إن الفرق هائل بين قول الله سبحانه (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) وفي موضعها من الآية الكريمة من سورة التوبة، وبين قول ابن العربي في نفس الموضع (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون)
والغريب العجيب أن الجملة (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) فهي مما أنزله الله في مواطن أخرى من القرآن. فهي في موضعها من القرآن الكريم من كلام الله سبحانه لها كل ما لكلام الله سبحانه من روعة وجمال وجلال وإعجاز. فلما نقلها الإمام أبو بكر بن العربي خطأ أو سهواً عن موضعها التي نزلت فيه إلى غير موضعها في تلك الآية من سورة التوبة أصبحت من كلام البشر لا من كلام الله، ولم تتلاءم مع بقية الآية التي هي من كلام الله، كالرجل أو العين الصناعية شتان بينها وبين الطبيعة، أو كالعضو المنقول - لو أمكن النقل - إلى غير موضعه من جسم الإنسان
أنظر إليها في موضعها من سورة الحشر في قوله تعالى يخاطب المؤمنين منبئاً عن المنافقين: (لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون)، هي هنا من كلام الله سبحانه. وهي حيث أقحمها الإمام ابن العربي في آية التوبة غير قاصد ولا عامد من غير كلام الله، بل لقد أفسدت من المعنى. فأعجب إذن لكلام إذا التبس الأمر فيه على الإنسان العاقل العالم فأبدل كلمة أو كلمات مكان أخرى تشبهها فقد صبغته وخرج من حيز الإعجاز إلى حيز غير الإعجاز
ذاك مثال من أمثلة دقة الإعجاز في القرآن. ومن غريب المصادفة أني وجدت في نفس
العدد من الرسالة مثلاً آخر، إذ وجدت غلطة أخرى في آية أخرى لرجل من رجال العربية المحدثين له إيمان ويقين إلا أنه لم يقع في غلطته في معرض تفسير القرآن، فقد قرأت في العدد نفسه من الرسالة مقال أخي عبد المنعم خلاف (الحياة صادقة) وإذا فيه:
(إن الحياة هي كلمة الله النافذة إلى القلوب لا يحسها إلا من يحملها بأعبائها ثم يحاول أن يسلمها لغيره، وقد أودعها الله قلب آدم (فجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم يرجعون)
والآية ليست بالفاء في أولها ولكن بالواو، لكن لعل الفاء جيء بها لربط الكلام بالمقتبس من الآية فأدخلها الطابع في القوس. إنما موضع النقد الكبير والاستدراك هو ما دخل على آخر الآية، فليست الآية (إلى يوم يرجعون)، ولكن (لعلهم يرجعون). ومن هنا يبدو لأول وهلة الفرق في المعنى بين الصيغتين، ويبدو ذلك بصورة أوضح إذا عرفت سياق الآية الكريمة (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) في موضعها من سورة الزخرف
فلنأخذ في الفرق الأول: الأستاذ عبد المنعم خلاف يريد بيوم يرجعون يوم الحشر، فهو يقول إن الحياة باقية في عقب آدم إلى يوم الحشر؛ ومن هنا يظهر بعد هذا المعنى عن الواقع، لأن الحياة كما يعلم الأستاذ ستزول عن عقب آدم قبل يوم الحشر بأمد لا يعلمه إلا الله، فسيشمل الموت بني آدم فترة يغلب أن تكون طويلة كما جرت العادة في أيام الله في الخلق، ثم بعد ذلك يكون البعث ويقوم الناس، والآيات متظاهرة على ذلك، لكن يكفي هنا الاستشهاد بقوله تعالى:(ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا ما شاء الله. ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيان ينظرون). فالحياة ليست باقية في عقب آدم إلى يوم يرجعون في المعنى الذي أورده أخونا عبد المنعم، ولا كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم إلى يوم يرجعون إذا أخذنا لفظ الأستاذ عبد المنعم وطبقناه على ما أخبرنا به الله سبحانه عن سيدنا إبراهيم في القرآن
إن النص القرآني بتمامه هو:
(وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون)، وهنا يتبين أي فرق في المعنى دخل على الآية الكريمة يجعل كلمة (إلى يوم) مكان كلمة (لعلهم). فالمعنى القرآني أن إبراهيم صلوات الله عليه - أو الحق سبحانه، والآية تحتمل المعنيين - جعل كلمة براءة مما يعبد من دون الله
باقية في عقب إبراهيم لعلهم يرجعون عن عبادة ما سوى الله، إن كانت الكلمة هنا هي الدعوة إلى التبرؤ مما سوى الله، أو يرجعون إلى ما تستلزمه كلمة التوحيد من أحكام، وعن كل ما ينافيها من سلوك، إن كانت الكلمة الباقية في عقب إبراهيم عليه السلام هي كلمة التوحيد. ووجود كلمة التوحيد بين العرب وسائر المسلمين هو من غير شك مناط الأمل وموضع الرجاء أن ينتبهوا يوماً ما إليها وإلى ما تستلزمه من إقامة دين الله، ومن إسلام الوجه والقلب إلى الله، وجعل الصلاة والنُّسك والمحيا والممات (لله رب العالمين لا شريك له) كما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول:(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
فكلمة (لعلهم) فيها ما فيها من الترجي، وفيها ما فيها من التذكير. لكن كل ذلك يتغير ويزول إذا قيل:(إلى يوم يرجعون) بدلاً من (لعلهم يرجعون)؛ إذ تصبح الآية إخباراً عن بقاء الإيمان والتوحيد في ذرية إبراهيم عليه السلام إلى يوم البعث، ولم يخبرنا القرآن بشيء كهذا. أما (لعلهم يرجعون) فتشعر بأنه سيكون من عقبه عليه السلام طائفة غير مؤمنة يرجى أن تعتبر بالطائفة المؤمنة من عقبه وترجع معها إلى الله. لكن أكبر دلالتها - والله أعلم - أن المؤمنين من ذرية إبراهيم سيكون منهم تفريط في توابع الإيمان ومستلزماته، وإن شئت فقل في حقيقة الإيمان، وأن كلمة الإخلاص والتوحيد ستكون دائماً فيهم منذرة ومبشرة وداعية إياهم إلى الله وإلى إقامة شرع الله الذي قام على التوحيد، وأنها ما دامت فيهم فسيرجى لهم ومنهم الخير
فأنظر إلى جيش المعاني هذا الجائش من كلمة واحدة هي كلمة (لعلهم) في موضعها من الآية الكريمة، وإلى التفاوت البالغ الطارئ على المعنى حين اعتمد الأستاذ عبد المنعم على ذاكرته من غير رجوع إلى المصحف للاستيثاق من النص، فأبدلته ذاكرته من (لعلهم يرجعون)(إلى يوم يرجعون). وخرج الكلام بهذا التبديل الطفيف في ظاهره من دائرة الإحكام
هذان مثلان يوضحان مقدار ما أودع الله في القرآن من إحكام يزول إذا امتدت يد أو عقل أو ذاكرة إليه بأدنى تغيير أو تحريف أو تصحيف. ولو تتبع تالي القرآن ما يسبق إلى لسانه من غلطات أثناء التلاوة، وتدبر بعد ما بينها وبين النص كما أنزله الله سبحانه،
لوقف من كل مثل على مثال جديد لإحكام القرآن، وحجة جديدة لإعجاز القرآن
محمد أحمد الغمراوي
للحقيقة والتاريخ
بين آدم وحواء
للدكتور زكي مبارك
كثر الكلام في هذه الأيام عما كان بين آدم وحواء لعهد الجنة وعهد الأرض. وقد تورط صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم فأقحم خياله الروائي في شؤون فصل فيها التاريخ منذ أجيال طوال ولم يبق موجب لذلك التورط بعد حكم التاريخ، فهذا الصديق يعرف أن آدم من الأنبياء والتزيد عليه لا يجوز وإن احتال فزعم أنه يكتب باسم الفن لا باسم التاريخ
وهل يستطيع بفنه الروائي أن يخلق من الصور مثل ما سجل المؤرخ شيث بن عربانوس، طيب الله ثراه؟
ولكن ما حديث ذلك المؤرخ المجهول؟
لم أكن أعرف عنه شيئاً قبل سنة 1933، وإنما هداني إليه أستاذنا المرحوم احمد زكي باشا بعد أن انتهى ما كان بيني وبينه من خصومة وصيال
فإن سألتم كيف ابتدأت تلك الخصومة وكيف انتهت فأنا أدونها في سطور ثم أمضي إلى ترجمة شيث بن عربانوس بإيجاز، تمهيداً لشرح آرائه في آدم وحواء بإطناب:
كانت وزارة المعارف قررت إقامة حفلة تأبين للشاعر احمد شوقي، حفلة يشترك فيها أقطاب البلاد العربية، وكان منهاج الحفلة يوجب أن يتكلم الضيوف في الأوبرا الملكية تكريماً لمقدمهم الحميد. أما أدباء مصر فيتكلمون في الحفلات التي تقام بكلية التجارة، وهي حفلات دامت ثلاثة أيام، وكانت أشبه بسوق عكاظ، فقد اتسع فناء الكلية للمئات أو الألوف ممن يسرهم أن يستمعوا كلمات الخطباء وقصائد الشعراء
ومضيت لأشهد الحفلة الأولى بكلية التجارة فهالني أن أسمع خطيباً يتنحنح بعنف، مع أني لم أكن اجتزت عتبة الكلية، فسألت نفسي كيف يصل صوت التنحنح برغم تلك الأبعاد الطوال وبعد لحظة فهمت أن الحفلة أقيم لها ميكروفون، وأقيم لذلك الميكروفون مسامع في جميع الأركان. فمن السهل أن يسمع صوت الخطيب جميع المارة بشارع (قصر العيني) أو شارع (أفر الأنجال)، ولا تسأل عما تصنع النحنحة وقد ضجت بها مسامع ذلك المذياع؟
ونظرت فإذا الخطيب أحمد زكي باشا. فكيف غاب عنه وهو عالم علامة أن الميكروفون
سينقل إلى الجيران وجيران الجيران نحنحته القوراء؟
أمَا كان في مقدوره أن يدير وجهه أو يدير الميكروفون قبل أن يقترف ذلك الصوت؟
أضحكني أن يقع شيخ العروبة فيما وقع فيه فأخذت أترصد له غلطة أدبية أو تاريخية لأهجم عليه في جريدة البلاغ، ثم اتفق لحسن الحظ قال كلاماً غير صحيح، وهو يتكلم عن مدح الرسول في (نهج البردة)، وكنت يومئذ مشغولاً بتأليف كتاب (المدائح النبوية) فوجدت عندي من المحصول الأدبي والتاريخي ما يكفي لإفحامه بلا عناء
وما كادت تظهر كلمتي فيه حتى اندفع الرجل لمصاولتي على صفحات البلاغ بأسلوب ساحق ماحق، وكان رحمه الله آية في الكر والفرّ، وكان لا يهجم على باحث إلا تركه كالرفات، بفضل اطلاعه الشامل وذكائه الوهاج
كنت يومئذ بين نارين: نار الخوف من التطاول على شيخ جليل خدم اللغة والأدب والتاريخ، ونار الخوف من الهزيمة أمام القراء، وأنا محرر الصفحة الأدبية بجريدة البلاغ
وفي تلك المعمعة قدم الباشا للبحث عني في الجريدة ومعه الأستاذ عبد الرحمن بك عزام فحدق في وجهي وقال: أما تستحي من شتمي وأنا أستاذك؟
فتماسكت قليلاً ثم قلت: وأنت يا باشا. أما تكف شرك عن تلميذك؟
فابتسم عبد الرحمن بك وقال: لا موجب للجدل بعد هذا العتاب اللطيف!
ولكن زكي باشا لم يسكت عني، ومضى يلاحقني بإيذاء لم يفضه غير الحادث الآتي:
كانت حوادث فلسطين وصلت إلى آلام وجراح، فأرسل زكي باشا إلى الحاج أمين الحسيني برقية مطولة كلفته أحد عشر جنيهاً، وكان ينتظر أن يصل إليه جواب رقيق، ولكنه لم يتلق أي رد من الحاج أمين، فكتب إليه يسأل عن سر ذلك السكوت فكان الجواب أن البرقية وصلت، ولكنها لم تكن بإمضاء (زكي باشا) وإنما كانت بإمضاء (زكي مبارك)!
وامتشق زكي باشا قلمه وأنشأ مقالاً أخذ أربعة أنهر من جريدة الأهرام، وكان في مقاله أن عامل التلغراف حرف الإمضاء، فإن كان من مصر فإلى (الليمان) وإن كان من فلسطين فإلى (البحر الميت) وأعلن زكي باشا أن التحريف مقصود، وكانت حجته أن (زكي باشا) قد تحرف إلى (زكي الابراشي) بسبب (الشين) ولكنها لا تُحرّف إلى (زكي مبارك)
وامتشقت قلمي فكتبت رداً وجيزاً نشرته الأهرام في أول نهر من الصحيفة الأولى، وكان
الرد يتلخص في أن (زكي باشا) هو نفسه الذي أمضى باسم (زكي مبارك)، وحجتي أن الباشا مشغول بمناوشتي على صفحات البلاغ، فأنا ملء قلبه، ومن السهل أن ينسى اسمه ويذكر أسمي؛ ورأى زكي باشا أن التعليل مقبول، فذهب إلى إدارة التلغراف وطلب أصل البرقية، ثم ابتسم حين شاهد أنها باسم زكي مبارك، وبخط الباشا الظريف؟
لم يكن بد من أن يدرك زكي باشا أن الأقدار أرادت أن تطوقه بالخطأ ليكف عني أذاه. فاتصل بي تليفونياً ليدعوني إلى العشاء وإمضاء عقد الصلح، فأجبت بالقبول
دخلت على الباشا العلام العلامة (العالم حقاً والعلامة صدقاً، فزكي باشا طراز وحيد من العلماء، وليس من السهل أن يجود بمثله الزمان). دخلت على الباشا فوجدته في ثياب البيت وهو يلعب الشطرنج مع الدكتور (أحمد عيسى) فأشار بعد السلام إلى أن انتظر لحظات، فسيغلب الدكتور أحمد عيسى ثم يلتفت إلى واجب الترحيب!
ومرت ساعة وساعة والخلائق تتقاطر بميعاد وبدون ميعاد؛ فعرفت أن العشاء في بيت زكي باشا ليس لمن دعي إليه، وإنما هو لمن تداعوا إليه!
ثم مُدَّ السماط على الطريقة العربية، وأقبل خادم فقدم إلى الباشا ورقة مطوية فمحا الباشا كلمة وأبقى على كلمة. فماذا محا؟ وماذا ثبت؟
كان التفاضل بين نوعين من الشراب: أحدهما عصير الشعير وثانيهما منقوع الخروب. وقد رأى الباشا أن يكرم ضيفه المتخرج في السوربون فاختار الشراب الأول وهو شراب أصهب يستطاب في ليالي الصيف!
لم أكن دخلت (دار العروبة) من قبل، ولا كنت عرفت كيف ظفرت بذلك اللقب الظريف؛ وكان مبلغ علمي أن صاحبها يتحدث عن العروبة في كل يوم؛ فهي دار العروبة لأنه شيخ العروبة، والألقاب لا تعسر على أحد في هذا الزمان!
وفي تلك الليلة عرفت ما لم أكن أعرف: عرفت أن زكي باشا يسير سيرة العرب القدماء، فبيته مفتوح للجميع، ومن حق أي إنسان أن يحضر وقت الغذاء أو وقت العشاء بدون احتياج إلى استئذان، على شرط أن يترك للباشا حرية التصرف في وقته بعد رفع السماط
والحق أن زكي باشا كان ينوب عن مصر في مهمة من أصعب المهمات؛ فقد كانت داره مثابة الوافدين من الشرق، ولم يكن لأي ضيف أن يتهم مصر بالبخل وزكي باشا موجود.
وإنما نصصت على هذا الجانب من شمائل زكي باشا رعاية للتاريخ، وأملاً في أن يقتدي به من يسرهم إكرام من يفد على مصر من أهل الشرق. فمن العيب أن يذهب السخاء العربي إلى غير معاد وكانت له مواسم في هذه البلاد!
وقد سمعت عن كرم زكي باشا في سره وعلانيته أخباراً لا يصدقها العقل، جزاه الله عما صنع خير الجزاء، وحفظ اسمه بين الكرماء، كما حفظ اسمه بين العلماء
ثم أرجع إلى الغرض من هذا الحديث فأقول: جلست أسامر زكي باشا بعد العشاء تمهيداً للصلح المنشود؛ فقد كنت في سريرة نفسي أومن بأن التطاول على مثل ذلك الرجل قد يعرضني لغضب الله. وأنا أخاف الله أشد الخوف لأنه حماني من أن أخاف أحداً سواه؛ فمن المخاطرة أن أشجع في موطن لا تكون فيه الشجاعة من رضاه. وكذلك عزمت على أن أتلطف ما استطعت لأظفر من زكي باشا بالصفح الجميل
- هذه أول مرة تأنس فيها (دار العروبة) بزيارة الدكتور مبارك
- ليست هذه أول مرة أتشرف فيها بزيارة (دار العروبة) أعزها الحب!
- ما هذا الكلام؟ وما رأيتك هنا قبل اليوم!
- سمعت أخبار دارك، أيها الشيخ الجليل، وكنت أشعر أني شريك بالقلب لكل من يفد عليها من أهل الشرق، وما غاب عني كرم تؤدي به فرض الكفاية عن بلادنا الغالية
فابتسم زكي باشا وقال:
- ما كان ضرك لو قلت هذه الكلمة وأنت تلاحيني على صفحات البلاغ ليخف عتبي عليك!
- سأقولها يا مولاي لجميع الناس، وسأملأ بها مسامع الأرض والسماء
- أسمع يا مبارك، أسمع، إن أدبك في هذه اللحظة يستأهل جائزة سنية، جائزة تذكرني بها طول حياتك، وقد تكشف لك عن أشياء من غوامض التاريخ القديم، وهو التاريخ الذي أرادت شراستك أن تجعله ظنوناً في ظنون!
- أعظم جائزة أتلقاها من أستاذي هي رضاه عني
- الجائزة العظمى لمن كان في مثل أدبك أن تهدي إليه النسخة الوحيدة من كتاب شيث بن عربانوس. أما رضاي عنك فهو مضمون مضمون
ومضى الباشا لإحضار الهدية، ثم عاد ومعه كتاب في أكثر من خمسمائة صفحة بالخط الكوفي، وهو مجلد على طراز المصاحف المحفوظة بدور العاديات
أقبلت على الكتاب بلهفة وشوق، ثم لاحظت أن منزلتي عظمت في قلب زكي باشا حين رآني أقرأ الخط الكوفي بلا عناء، وعندئذ تذكرت جناياتي على نفسي وعلى مصيري في هذا الوجود
وما تلك الجنايات؟
سأتكلم بصراحة لأخدم قرائي، فقد يكون فيهم من انحرف عن طريق النفع كما انحرفت
يعرف الناس أني مثال الحرص على طلب العلم والأدب وتعرف مكتبتي أني صديق يزورها في كل يوم، ويعرف قلمي أني أخلو إليه في كل ليلة ساعة أو ساعتين
فكيف تخلفت مع ذلك الحرص؛ وكيف جاز أن أكون واحداً من الناس، وكفاحي يوجب أن أكون أوحد الناس، لو نجوت من ذلك الانحراف؟
يرجع التخلف الذي أعانيه إلى أني أقبلت على علوم وفنون يقبل عليها أكثر الناس، ويصعب فيها الادعاء، لأن عليها رقباء يعدون بالألوف
أردت التفوق في علوم اللغة العربية فوصلت إلى أشياء، ولكن علوم اللغة العربية مبذولة لجميع الطالبين، وليس من العسير أن يكون لي نظراء في كثير من البلاد
وأردت التفوق في الدراسات الجامعية فنلت إجازة الليسانس مرة وإجازة الدكتوراه مرات، ولكن الدراسات الجامعية لم تعد من الأسرار، فمن السهل أن يكون لي فيها منافسون
وأردت أن أكون من كتاب اللغة العربية وشعرائها وخطبائها فكان ما أردت، ولكن هذا الميدان محفوف بالأخطار في كل صباح وفي كل مساء بسبب نشاط الزملاء
وأردت أن أتفوق في اللغة الفرنسية فبلغت ما أريد، ولكن اللغة الفرنسية يجيدها ألوف أو ملايين، فأين مجال التفرد والازدهار؟
آه، ثم آه!!
كان الرأي أن أقصر جهودي على اللغات الميتة، وهي لغات يدعيها من شاء كيف شاء، بلا رقيب ولا حسيب. ألم تسمعوا أن في الناس من يزعم أنه يجيد عشر لغات من لغات القدماء: كاللاتينية واليونانية والديموتيقية والسريانية والبابلية والحبشية والسنسكريتية
والفهلوية، إلى آخر ما تعرف الأنظمة الجامعية؟!
من الذي يحاسب مدرس اللغة اللاتينية إذا أخطأ؟ ومن الذي يجادل مدرس اللغة الديموتيقية إذا انحرف؟ ومن الذي يراجع مدرس اللغة البابلية إذا حاد؟ ومن الذي يتقدم فيردع من يخلط بين النصوص الحبشية والحميرية؟
عرفت فيمن عرفت رجلاً يعجز عن كتابة صفحة سليمة باللغة العربية، مع أنه من أبوين عربيين، ولم يمنعه ذلك الضعف من أن يكون أستاذ اللغة البابلية في إحدى الجامعات الأمريكية!
وعرفت فيمن عرفت شخصاً يتصدر لتدريس إحدى اللغات الميتة في كلية تحيط بها حديقة بالقرب من نهر له مكانة في التاريخ، وهو لا يجيد لغة قومه الأحياء، فكيف يسهل عليه فهم لغة مات أهلوها منذ أزمان؟
لو أني التفت إلى هذه الناحية لأرحت نفسي من منافسات لا تطاق.
كان من السهل أن أتعلم الأبجدية من إحدى اللغات الميتة، فالأبجدية تكفي للتفوق في اللغات البوائد!!
وهل فُضح فلان لأنه أخطأ عشر مرات في خمسة سطور كتبها باللغة العربية إلى عميد إحدى الكليات بأحد البلاد؟
هو متخصص في اللغة الأكادية، أو اللغة القنقلية، فكيف يطالب بإجادة اللغة العربية؟
وهل يستطيع أحدٌ أن يطالب الدولة بمحاسبة هؤلاء وهو يعرف أن الدولة تريد أن تسامي الأمم الأوربية والأمريكية في الحذلقة الجامعية؟
الدولة على حق والشاهد الآتي يؤكد ذلك الحق:
قال فلان: القنقلون كلمة آرامية، وهي الكنكلون في السريانية، والفنكلون في البابلية، والكنفلون في الآشورية، ومعناها القنقلون، والوصف منها متقنقل ومتكنكل، ومتفنكل، ومتكنفل، على خلاف في صياغة الأوصاف
ومن أجل هذا العلم الغزير تنفق الدولة ما تنفق لإحياء لغات ماتت في بلادها الأصيلة بسبب انعدام الحيوية، وعلينا نحن أن ننفض عنها أتربة القبور، لأننا موكلون ببعث الأموات
الأوربيون يدرسون اللغة اللاتينية واللغة اليونانية ليعرفوا أصول لغاتهم ولينقلوا ما في هاتين اللغتين من نفائس الآداب.
وقد عرفت اللغات الحية في أوربا خير ما أثر عن اللاتينية واليونانية، ونحن لن ننقل تلك الآثار إلى لغتنا إلا عن الفرنسية أو الإنجليزية، فما الموجب لقتل الوقت في درس لغات ميتة لن ننقل عنها أي حرف؟
يضاف إلى ذلك أن الشواهد تنطق بأن الشبان الذين قهرناهم على درس اللغات الميتة قد ضاعوا على مصر وعلى أنفسهم من الوجه العقلية، وأن كانوا أساتذة محترمين، وكيف لا نحترم من يعرف من أسرار القنقلون ما لا نعرف؟
أتريدون الحق؟
الحق أن مصر تبتدئ من حيث انتهى الناس
والحق أن مصر تحاول أن تخلق من الدراسات الجامعية لوحة إعلانات عن قربها من العقلية الأوربية، وكأنها لم تسمع أن أوربا بدأت تنفض يديها من التعصب للأموات
لو أن ما أنفق على درس اللغات الميتة كان أنفق على ترجمة ما آثر من تلك اللغات لظفرنا بنفائس تزيد في ثروتنا الذوقية والأدبية، ولكننا أطعنا الوهم فأضعنا أموال الدولة وأعمار الطلبة في شؤون قليلة النفع والغناء، مالي ولهذا؟
أنا أضعت الفرص السوانح في درس أبجديات تلك اللغات، وهي فرض لن تعود، فما تستطيع الأمة بعد اليوم أن تنفق درهماً فيما لا يفيد، إن صح أن الأمة صَحَتْ من غفوتها فأدركت الفرق بين ما يفيد وما لا يفيد!
إن زكي باشا طرب حين رآني اقرأ الخط الكوفي بل اعناء، فكيف يكون حاله لو نظر فرآني أقرأ الخط السنسِكريتي؟
وهل أجهل الخط السنسِكريتي؟
أنا أعرف منه ما لا يعرف فلان، فليجادلني فيه إن استطاع!
افتحوا أعينكم يا بني آدم من أهل هذه البلاد، واعرفوا أن الحذلقة الجامعية لن تنفعكم في كثير أو قليل، وتذكروا جيداً أن العلم الصحيح هو علم هذا الزمان، وستأثم الجامعة المصرية إن شغلت عنه بأوهام التاريخ
اسمعوا قبل أن لا تسمعوا، فأنا أخاف عليكم أشياء لا تخطر لكم في بال، وهذا نذيرٌ من النذر الأولى يصوبه إلى عقولكم كاتب يبغض المداهنة والرياء.
(للحديث شجون)
زكي مبارك
محمد بن عبد الله الجبلي الباطني
للدكتور جواد علي
اتخذت محمد بن عبد الله (أو عبدون) الجبلي موضوعاً لحديثي، لأن الجبلي من الشخصيات الفذة التي يجب أن تدرس ويجب أن تقرأ ويجب أن يذكر عنها شيء، وذلك بالرغم من إهمال المؤرخين والمترجمين شأن هذا الفيلسوف وغضهم النظر عنه؛ فلم يذكروه إلا عرضاً ولم يحفلوا به إلا قليلاً، وبالرغم من إعراض قومه وهم سكان الأندلس وعرب الغرب عنه وإغفالهم أمره لسبب كانوا يذكرونه بمرارة عنه، وحقد قديم كان قد علق في قلوبهم ضد فيلسوفهم؛ ذلك لأنه كان يدين بعقيدة تختلف نوعاً ما عن عقيدتهم، ويقدس فيلسوفاً أعجمياً غريباً تقديساً يكاد يصل حدود الغلو والإغراق؛ وهذا ما كان يزعجهم ويؤذيهم
وكان هذا الفيلسوف الأعجمي الغريب الذي قدسه محمد ابن عبد الله بن ميسرة (مسرة) ابن نجيح القرطبي هو الفيلسوف اليوناني بندقليس أو أبيذقليس أحد فلاسفة اليونان القدماء وأول الفلاسفة الخمسة الذين وضعهم العرب في قائمة الحكماء اليونانيين الممتازين وقد ميز هؤلاء عن بقية الفلاسفة بنعوت تدل على مقدار تقدير العرب لهم وإعجابهم بهم. نعتوهم مرة (بالحكماء الخمسة) ونعتوهم أخرى بأساطين الحكمة). سلكوا في ذلك سبيل اليونانيين ونهجهم. وكان اليونان قد اختارواقديماً سبعة أشخاص الفلاسفة القدماء لقبوهم (بالحكماء السبعة) وأسبغوا عليهم صفات في العلم والاطلاع والحكمة تكاد ترفعهم من صفوف البشر إلى صفوف سكان السموات
وقد ميز العرب أيضاً بين هؤلاء الحكماء فجعلوا أفلاطون مثلاً رئيساً على الحكماء الإشراقيين. وجعلوا أرسطو زعيماً على رأس الفلاسفة المشائين المعروفين. وأحاطوا هؤلاء الفلاسفة الحكماء بهالة من التقديس والتعظيم، وزادوا على زمان بعضهم أزمنة ليزيدوا على رأيهم في كثير من المسائل التي تستهويهم تعظيماً وفي شانهم شأناً، فقالوا عن بندقليس مثلاً إنه كان في زمان داود النبي، وأنه أخذ الحكمة عن لقمان بالشام، إلى أمثال ذلك من روايات. ولعل مصدر ذلك الكتب التي دونها أتباع مذهب هذا الفيلسوف والتي وجدت لها سبيلاً إلى اللغة العربية، والذين كانوا لا يكتفون بالمبالغات عن زعيمهم بل
نسبوا إلى زعيمهم المعجزات والكرامات والقدسية الإلهية، وقالوا بأن أرواح الآلهة حلت فيه
وكان صاحبنا محمد بن عبد الله الجبلي الباطني كلفا بفلسفة بندقليس دؤوباً على دراستها ملازماً لها مجاهراً بغرامه العلمي هذا، فاتهمه أبناء قومه لذلك بالزندقة والإلحاد، وغضبوا عليه حتى أضطر إلى الخروج إلى المشرق فاراً سنة سبع وأربعين وثلثمائة (958م) ودخل البصرة ومصر ودبر مارستانيهما وتمهر في الطب ونبل فيه، وأحكم كثيراً من أصوله، وعانى صناعة المنطق عناية صحيحة واشتغل بملاحاة أهل الجدل وأصحاب الكلام وأتصل بأساطين هذه المواضيع؛ وهذا ما زاد في قوة علم صاحبنا قوة وفي منطقه فصاحة وبلاغة
ذهب أصحاب بندقليس مذهب الفيثاغورثيين في العدد وفي الرموز والإشارات وتناسخ الأرواح. حولوا الفلسفة من فلسفة ظاهرة واضحة ذات قواعد معينة إلى فلسفة ورموز وإشارات وأسرار دينية فانتقلت هذه الفلسفة من الفيتاغورثيين إلى المسلمين فظهرت فلسفة قائمة بذاتها اعتقدها جماعة من المسلمين حتى العصور المتأخرة واكتسبت صبغة خاصة دينية لدى جماعة (الحروفية) من المسلمين. ونظراً لغموض تعاليمهم الفلسفية هذه أطلق عليهم اسم (الباطنية) أيضاً وهم غير الباطنية المعروفين الذين كان منهم الإسماعيلية، وإلى الباطنية الفلسفية نسب صاحبنا محمد بن عبد الله الجبلي
أتصل محمد بن عبد الله أثناء إقامته ببغداد بشخصية كبيرة من شخصيات العلم في العراق هي شخصية محمد بن طاهر أبي سليمان ابن بهرام السجستاني البغدادي، وهي شخصية كبيرة ذات مركز مهم خطير في عالم المنطق والجدل. فاستفاد الباطني منه كثيراً وتعلم من هذا الأستاذ فن الإقناع والتأثير في الجمهور والقدرة على البحث في شتى المواضيع المتنوعة، وكانت له قابلية عجيبة على التأثير في المستمعين: له لسان خلاب يتوصل به إلى حرارة، وقابلية عجيبة على إبداء الحجج والإقناع. فلما عاد إلى وطنه الأندلس أظهر النسك والورع والتقوى وأغتر الناس بظاهره واختلفوا إليه وسمعوا منه وتكونت له جماعة التفت حوله ودانت بعقيدته وظلت تلازمه وتجتمع به سراً حتى توفي 151)
حمل الجبلي إلى الأندلس منطق السجستاني وقواعد أهل العراق في الجدل والمناظرة، وقد
جدد بذلك ما كان قد بدأ به محمد ابن إسماعيل المعروف بالحكيم، وعبد الرحمن بن إسماعيل بن زيد المعروف بالإقلقدي، وهو صاحب تأليف مشهور لدى أهل الأندلس في اختصار الكتب الثمانية في المنطق، وعلي بن أحمد بن حزم وكان من أهم أركان هذه الحركة في الأندلس فقد انصرف هذا العالم هو وابنه من بعده خاصة إلى المنطق دون سائر الفلسفة إلا أن هذه الحركة لم تكن مستقلة كتلك الحركة التي ظهرت في الشرق ولم تكن قوية. كان عماد منطق أهل الأندلس على منطق أهل العراق وعلى الأخص منطق السجستاني ومنطق متي ابن يونس والفارابي وأمثالهم من زعماء هذه الزمرة
حاول علماء الشرق أن يرفعوا المنطق إلى مصارف علم الفراسة أو علم النفس، حاولوا أن يستدلوا به على معرفة دخائل أمور الفرد وطراز تفكيره، وحاولوا أن يجعلوه سلاحاً ماضياً بأيديهم يسكتون به الخصم، حتى أطلق عليه الرئيس الفيلسوف ابن سينا (علم الفراسة) في رسالته (قصة حي بن يقظان). أما أهل الغرب فكانوا يرون فيه - وعلى الأخص رجال الحكم والسياسة - شيئاً لا يليق بأهل التقي والدين
جواد علي
الديمقراطية ومستقبلها
للأستاذ محمود تيمور
الأصل في الديمقراطية أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، لا رئيس ولا مرءوس، ولا قاض ولا محكوم؛ فقد ابتدع بعض مفكري الإغريق هذا النظام كأنه حلم خيالي لتحقيق العدالة، وإيجاد نوع من المدينة الفاضلة، حيث يعرف كلُّ حقه لنفسه، ويؤدي واجبه لغيره، فيرتفع الظلم، ويعيش الناس أخواناً
وقد تطور هذا المعنى للديمقراطية تطوراً ينزل به من آفاق الخيال، فأصبح رمزاً للنظام النيابيّ، إذ ينتخب الشعب من بين ثقاته نواباً يتولى مجلسهم مراقبة الحكومة فيما تأخذ وما تدع، ويحث الحكام على تحقيق الأغراض التي يدعوا إليها الصالح العام. وهذا النظام يختلف باختلاف البلاد وخصائص الأمم، فكان في اليونان جمهورياتٍ متعددة بتعدد المدائن، وكان في الرومان يتمثل في مجالس الشيوخ والأعيان؛ وهو في العهد الأخير: ملكية ديمقراطية كما في إنجلترا، وجمهورية ديمقراطية كما في فرنسا، والمدلول في كل هذا واحد، هو أن تكون بيد الشعب مقاليد حكمه، وإليه يصير الأمر في الهيمنة والسلطان
ومما بعث مفكري الأمم وساستها على اقتراح هذا النظام، رغبتهم في أن يدرءوا طغيان بعض الطبقات على بعض، فارتأوا أن النظام النيابي كفيل بضبط الحقوق العامة، وبسط المساواة بين الناس
ونحن إذا نظرنا إلى هذا الأسلوب في الحكم من ناحية تَمَثُّلِه في هيئات نيابية صحيحة، لم يقم شك في أن العرب الأولين لم يعرفوه؛ فلقد كانوا في رحاب الصحراء يعيشون على نظام القبائل، وكانت العصبية والأنفة تحول بينهم وبين الاندماج، فكل قبيلة تتفرد بأبنائها، وتعتز بحرياتها بقدر مالها من سطوة ونفوذ؛ وكل شخص يتفرد بنفسه ويعتز بحريته في حدود ما تفرضه عليه قبيلته من واجبات وتبعات. فلما جمع الإسلام شملهم كان من العسير إخضاعهم لنظام نيابي كالذي شاع عند الإغريق، لأنهم حديثو عهد بالنظام القَبَليّ، وما يزال فيهم من العصبية الجاهلية أثر. وليس يعيب الأمم العربية أنها عدلت عن أسلوب الإغريق في الحكم، واقتربت من أسلوب الفرس؛ فإنما تصطنع الأمم من نظم السياسة ما يلائم البيئة والطبع
ولكن الدول العربية التي لم تتخذ مظاهر الحكم الديمقراطي كما رسمه واضعو هذا النظام، كانت في حقيقتها وجوهرها - في كثير من العهود - حافلة بثمرات الديمقراطية في القيام على صوالح الرعية. فالخلفاء والأمراء الذين حكموا البلاد حكماً قد يعتبر أوتقراطياً في المظهر، كانوا يتبعون تعاليم الإسلام في التشريع والتنفيذ، وهي تعاليم ديمقراطية الروح. ولذلك نعم الناس في ظلال هذا الحكم عهوداً كثيرة بالمساواة في الحقوق والواجبات، وبالحريات الفردية في تصريف الشئون. وكان الحاكم حريصاً على ذلك ابتغاء مرضات الدين، واستجلاباً لتأييد الأمة، عليه من ذمته وضميره رقيب فوق رقابة الرأي العام. فإن أخل بشرائط العدالة، وتجافى عن النزعة الديمقراطية في السياسة، ثارت عليه الأمة حين تُمْكِن الفرصة، واستبدلت به حاكماً يوفر لها حرياتها على النهج القويم
والآن نسأل: هل يصلح النظام الديمقراطي للحكم؟ الحق أن هذا النظام الديمقراطي القائم على أساس الانتخاب النيابي أفضل نظام عرف حتى اليوم لنشر العدالة، ودفع الطغيان الحكومي، ولكنه لا ينتج نتاجه الطيب في الأمم العربية إلا إذا توافر له أمران: الأول قلة الأحزاب، فإن الأحزاب ضرورية للتنافس والمراقبة، ولكن الإقلال منها ضروري أيضاً لما أدت إليه كثرتها من اضطراب وزعزعة في الحكم. والأمر الآخر: تربية الشعب، فلا بد أن يكون على درجة من الثقافة والتربية الخلقية والاقتصادية يتمكن بها من الهيمنة على نفسه، وانتخاب الأكفاء الصالحين للنيابة عنه
ولسنا ننكر أن الإصلاح في ظلال الحكم الديمقراطي بطئ الخطأ، وذلك لخضوعه للرقابة وما تتطلبه من تعدد جهات النظر؛ إلا أنه على أية حال يأتي بالنتائج المرضية، وهو أوفى نظام يقر الطمأنينة في نفوس الأمة على اختلاف طبقاتها. وإذا اجتمعت لتنفيذه أيد رشيدة وقلوب مخلصة كان أحسن نظام لإقرار العدل وإيتاء النفع العام
فأما القول بأن الديمقراطية أعلنت إفلاسها في سوق الحكم، فهو قول يلقى على عواهنه في غير تبصر، لأنه حكم الواقع الوقتي بحالته الخاصة. وما الديمقراطية إلا نظام يجب أن تجري عليه سنة التطور؛ ولكن روح الديمقراطية حقيقة صالحة يجب أن تبقى وأن ترعى. والذي أنكرناه قبيل هذه الحرب الراهنة، مما سميناه إخفاق الديمقراطية، كان خليطاً من الأسباب والآثار، منها ما أعقب الحرب الماضية من اضطراب الميزان الاقتصادي، وتزايد
العمال المتعطلين نتيجة تغلب الآلة الأيدي العاملة؛ أضف إلى ذلك تفشي الآراء الخيالية في إيجاد نظام يضمن المساواة الاقتصادية بين عامة الناس. وواضح أن ذلك ليس وليد الفساد في النظام الديمقراطي وإنما نشأ من عوامل عمرانية واجتماعية اقتضاها تطور الحياة
فالديمقراطية لم تستطع إزاء هذه المشكلات أن تحل عقدتها بالسرعة الواجبة لها، لطبيعة البطء فيما تعالج من حلول. ولم يدركها في ذاتها التطور المنشود حتى تعالج بعقلية جديدة تلك المشكلات الإنسانية الناشبة؛ فانطلقت الطبيعة البشرية ثائرة فائرة، تبغي نظاماً في الحكم يستقيم به الميزان الاقتصادي والاجتماعي، ويرفرف به الرخاء الممكن على مختلف الشعوب
وإذا جاز لنا أن نقدر ما يجئ به الغد المرتقب رجحنا أن تتمخض هذه الثورة العالمية عن المحافظة على الروح الديمقراطي الصالح، مع تجديد في نظام الحكم. ومعنى ذلك أن تتطور الديمقراطية تطوراً يوائم البيئة الجديدة والعقلية الجديدة التي تسود بعد هذه الحرب القائمة. وإننا لنلمح من الآن بوادر هذا التطور في الأمم الديمقراطية العريقة
واليقين أن العالم سيشهد في مستقبله السلمي نظاماً مستحدثاً يمكن للسعادة بقدر المستطاع بين طبقات الشعب، ولكن هذا النظام ستحل فيه روح الديمقراطية دائماً.
محمود تيمور
مطالعاتي حول المدفأة
ساحرة الجبال
للأستاذ صلاح الدين المنجد
نَعِمْت الليلة بزورة من آنستي. فجفوتُ حديقة أبيقور، وكنتُ أرتع فيها منذ ثلاث، وجلست بين يديها؛ فهي كتاب حي كله إبداع وإغراء. وهي بساّمة جذابة، كأن جسمها الأهيف ظَرْفُ فتونٍ وعطور، وكأن ثغرها الحبيب جمرة ترفّ ولهب يفور. ولا سبيل إلى الإنكار فهي حلوة بارعة الجمال
دخلت عليّ تقفز وتضحك، وإذا ضحكت آنستي، فالدلُ الناعم، والنَغْم الجذاب. فرمت قفازها في الأرض، وفراءها الأشقر على نضد الزهور، واقتربت من المدفأة جذلى وهي تقول:
- مررتُ، وأنا آتية إليك، بعجوز. فدفعُتها فانغمست في الطين!
ثم قهقت، فقلت
- أوه. . .! ولم إذاً؟. . .
- طلبت قرشاً وألحت، ثم أمسكت بفرائي، فزجرتها، فتبعتني، فدفعتُها وأسرعت!
وآنستي لعوب يروقها أن تعبث بالعجائز كلما صادفتهن، فتغمز بهن، وتسخر منهن، كأن ثاراً لا يدرك بينها وبينهنّ.
قلت لها وقد جلست أمامي تجعد شعرها والمقعد يصيح تحتها:
- أراكِ مسرورة، ألا تخافين؟
- هه. . . ومما أخاف؟. . .
- أن يصيبك - مثلاً - ما أصاب الأميرة التي طردت الساحرة العجوز لماّ سألتْها قطعة من اللحم
- وماذا أصابها. . .
- انقلبت عجوزاً ذات شعور بيض، وأسنان دُرْدْ، بعد أن كانت فتّانة الصبا جذابة الجمال
فضحكت ضحكة طويلة. . . وقالت مستغربة:
- وكيف صارت عجوزاً؟
- قلبتها ساحرة الجبال. . . لأن العجائز مصونات محوطات، ما آذاهن أحد إلا مسّه السوء. . .
- وكيف كان ذلك. . .؟
- لا تسخري، أصغي إلّي، أقرأْ عليك قصّتها:
وتناولت كتاباً من جانبي وقرأت: (هاهي ذي تترك كهفها المظلم، مأوى الخفافيش، لتحدر إلى السهل من مهاوي الجبال، وتزور القصور والسفوح.
(إنها قصيرة، قصيرة جداً. تلبس رداء من جلد الذئاب، وتسعى وراء الفلوس والقروش؛ فهي عطشى للمال على رغم غناها. لقد قالوا إن الغيران التي تملكها في الجبال مترعة بأساور من فضة بيضاء، وأن بقراتها ذوات القرون المذهبة ترعى في الأهاضيب الخضر، على شطآن السهول.
(لقد عجب الناس إذ رأوها، وقالوا: ماذا أتت تفعل في السهول، ولِمْ تركتْ كهوف الذئاب. . .؟
(إنها عجوز هَرمة. يا بعد وجهها الأصفر القبيح، الرفاف بالدهون، وأنفها الغليظ النافر، وعينيها الصغيرتين الوامضتين تحت الأوساخ كالجمرات تحت الرماد. . . يا بعد ذلك من صباحة العذارى وحلاوة الفتيات!
(لقد زعموا أن لها من العمر مئات السنين، وأنها قادرة على إنزال البَردَ وإيماض البرق. وهي تضلّ القطعان، وتسلّط الذئاب على الخرفان؛ وفي إكرامها الخير والبركة. . . فمن حَقَرَها فجزاؤه أن بنفر الحصان، ويحترق الكوخ، وتعلّ البقرة، وتجن الزوج. . .
(يا ويحها! لَمَ هبطت من ذرى الجبال. . .؟ لِمَ تركت غيران الذئاب. . .؟ ولماذا يصحبها البوم، وترف حواليها الخفافيش، وتخرج الحدآت فيملان الأفق ويغزون الدور والقصور. .؟
(إنها تمشي مطمئنة، لا تخاف شيئاً ولا تفزع من مخلوق، وهل هي ذي تصل إلى قصر الأميرة الشامخ ذي العُمُد البيض والجدران الشواهق
(وداست بحذائها الغليظ المصنوع من قشور الأشجار العتاق مماشي الحديقة المطرَّزة بالأزهار، ثم صعدت السلم إلى الطبقات العُلى
(وكانت الأميرة في روشن القصر تتمتع بروعة السماء وأناقة الرياض، وقد حمل لها خادمان قطعاً من اللحم المشوي ذي الرائحة الطيبة. . .
(وبدت العجوز ومدت يدها إلى اللحم. . .
وشدهت الأميرة فنادت:
- ويلك أيتها العجوز السارقة. . . أذهبي. . .
فقالت العجوز:
- أعطيني قطعة لحم. . . أعطيني. . .
- مجنونة. . سارقة. . . أخرجوها. . .!
- أعطيني قطعة من اللحم الأشقر المشوي. . .
- لا. . . لن أعطيك يا عجوز القبح. . . لن أعطيك فأذهبي. . . أطعمها للخفافيش ولا تذوقين طعمها. . .
واضطربت العجوز، ثم أخرجت قضيبها الأخضر المسحور وتمتمت وبربرت، ثم قالت:
- إذن فلتفترسك الخفافيش!
وكنت أرامق آنستي وأنا أقرأ لها، فرأيتها قد فغرت فمها الصغير، وتورَّدت وجنتاها الريانتان، وحملقت عينيها الناعستين فبدت كالطفل المذعور، فقالت:
- ثم ماذا أصابها. . . أتمم. . . أتمم. . .؟!
(وجمدت الأميرة من الخوف: أرادت أن تضحك فلم تستطع وحاولت البكاء فجمد الدمع. . .!
(وأقبلت خفافيش الغاب، مناقيرهن حمر، يبتغين افتراسها وكن يضحكن ضحكات ملأى بالسخرية. تنشر الذعر وتبعث الخوف!
(لقد أسرعت الأميرة إلى مخدعها وأغلقت الباب، ولكن رنين الضحكات واصطفاق الأجنحة كانا يسمعان في كل مكان!
(وعاشت الأميرة فلم تر عيناها بعد ذلك اليوم عذوبة الصباح، ومتوع المساء، وفرح الحياة. . . واختبأت في الظلام وراء السُجف الصّفاق خوفاً من الخفافيش
(وأصبحت بعد أيام، وإذا شعورها تبيض، ووجها يتجعد، وإذا هي عجوز
(أين صباحتها الضاحكة، أين شعرها الناعم، أين جسمها الطري. . . أين. . .؟)
ونظرت إلى آنستي، فإذا بها قد اقتربت مني وأمسكن بيدي، وإذا رأسها الجميل الأشقر يميل برفق على كتفي. . . كأنما خدَّرها دفء الهواء، وأفزعتها خفافيش الغاب، وأحزنها دفعها السائلة، فخافت أن يدركها الهرم، ويضحك في رأسها المشيب
نامي آنستي. . . نامي. . . ولا تفزعي، فتلك أساطير وأوهام
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
24 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل السادس - عاداتهم
يقوم الخادمات المصريات بأحقر الأعمال. ويغطين وجوههن في حضرة سادتهن فيسحبن بعض الطرحة على الوجه فلا يظهرن غير عين ويد للقيام بالعمل. وإذا ما أستقبل ضيف في حجرة من حجر الحريم انسحبت النساء إلى حجرة أخرى وبقيت خادمة منتقبة لخدمته
تلك هي أحوال طبقات النساء المختلفة، ويجب علاوة على ذلك أن نصف عاداتهن وأعمالهن وصفاً سريعاً
لا تحرم الزوجات كما تحرم الجواري من امتياز تناول الطعام مع رب العائلة غالباً فحسب، بل يجب عليهن أيضاً أن يقمن على خدمته أثناء طعامه أو عندما يدخن شبكه ويحتسي قهوته في الحريم. وكثيراً ما تشتغل الزوجات كالخادمات فيحشون الشبك ويشعلنه ويصنعن القهوة ويجهزن الطعام أو بعض الأصناف اللذيذة على الأقل. وإذا استطعت الحكم تبعاً لتجربتي الخاصة قلت إن أغلبهن طاهيات بارعات. وكلما أوصي إلي بطبق صنعته زوجة مضيفي وجدته لذيذاً بصفة خاصة. وتهتم السيدات في الطبقات العليا والوسطى بإرضاء أزواجهن وجذب قلوبهم اهتماماً متواصلاً بحيل شتى. ويظهر دلال النساء حتى في مشيتهن العادية عندما يخرجن، بهز الجسم هزاً خاصاً. وتضبط الزوجات أنفسهن عادة في حضرة الزوج قليلاً أو كثيراً. ولذلك يسرهن ألا تتكرر زيارة الزوج للحريم أو تطول أثناء النهار. وكثيراً ما يستسلمن في غيابه إلى ابتهاج صاخب
ولا يختلف طعام المرأة عن طعام الرجل إلا في قلة مقداره ولا تختلف كذلك طريقة تناول الطعام. ويسمح لأغلب النساء أن ينعمن بترف التدخين. ولا يعتبر النساء مهما علا
مركزهن هذه العادة غير لائقة بهن، إذ أن رائحة أنواع التبغ الجيد المستعمل في مصر لطيفة جداً. ويلاحظ عادة أن شبك النساء أرشق من شبك الرجال وأكثر زخرفة. ويكون مبسم الشبك أحياناً من المرجان بدلاً من الكهرمان. ويستعمل النساء العطور مثل المسك وقط الزباد الخ وكذلك الأدهان بكثرة. ويستعملن بضعة عقاقير تؤكل أو تشرب للحصول على بدانة ملائمة وبعض هذه المسمنات تثير الاشمئزاز إلى أقصى حد، لأنها تتكون خاصة من الخنافس المسحوقة. وقد تعود كثير من النساء مضغ اللبان واللادن اللذين يطيبان النكهة، كما تعودن كثرة الوضوء ليكن طاهرات. ولا يبذل النساء وقتاً طويلاً في التبرج، وقلما يغيرن ملابسهن طول اليوم بعد أن يلبسن في الصباح. ويضفرن شعرهن في الحمام ولا يحللنه بعد ذلك عدة أيام
والاعتناء بالأطفال أول ما يهتم به السيدات المصريات، وعليهن أيضاً إدارة الشئون المنزلية؛ إلا أن الزوج وحده في أغلب الأسر يقوم بنفقات المنزل. ويمضي السيدات ساعات الفراغ غالباً في الأشغال بالإبرة، وعلى الأخص في تطريز المناديل والطرح بالحرير الملون والذهب على إطار يسمي (منسج) أنظر شكل 49، وتكسب الكثيرات، حتى في منازل الأثرياء، من تطريز المناديل وغيرها بهذه الطريقة إذ يستخدمن (دلالة) تبيعها في السوق أو في حريم آخر. وكثيراً ما تشغل زيارة حريم لحريم آخر اليوم كله تقريباً. ولا تخرج تسلية النساء عن الأكل والتدخين واحتساء القهوة والأشربة والثرثرة وعرض زينتهن. ولا يسمح لرب الدار في مثل هذه الأحوال أن يدخل الحريم إلا لعمل خاص لابد منه. ويجب عليه في هذه الحالة أن يعلن قدومه، ويترك للزائرات الوقت الكافي للاحتجاب أو الانسحاب إلى غرفة أخرى. وينغمس النساء في المرح والبهجة لاطمئنانهن بالوحدة وعدم المفاجأة، ولميلهن بطبيعتهن إلى الجذل والتبسط. وقد تقوم إحدى السيدات أحياناً بتسلية الجماعة عندما ينضب الحديث العادي بسرد القصص العجيبة أو الفكاهية. وقلما يعلم السيدات المصريات الموسيقى أو الرقص، ولكنهن يتلذذن كثيراً بسماع محترفي الموسيقى والرقص ورؤيتهم. وكثيراً ما يسلين أنفسهن وضيفاتهن بالضرب على (الدرابكة) و (الطار) إذا لم يتيسر وجود العازفين. ويندر ذلك في المنازل التي يستطيع المارة أن يسمعوا منها أصداء الاحتفال. وكثيراً ما يستخدم القيان (العوالم) في أي مناسبة تبهج النساء
كميلاد طفل أو الاحتفال بختان أو عرس الخ. ولكن ذلك لا يحدث عند العائلات الجليلة في المناسبات العادية لاعتبارها إياه مخالفاً للآداب. وقلما يقبل في الحريم الغوازي اللاتي يعرضن رقصاتهن سافرات في الشوارع؛ ولكنهن يرقصن أمام المنزل أو في الفناء في مثل المناسبات السالفة الذكر، وإن كان هذا يبدو للكثيرين غير لائق. ولا يستأجر (الآلاتية) دون غيرهم لتسلية النساء، وإنما يستأجرون خاصة لتسلية الرجال ويعزفون دائماً في مجتمعاتهم، ويسمعون مع ذلك بوضوح داخل الحريم.
يركب نساء الطبقتين العليا والوسطى الحمير عندما يخرجن للزيارة أو لغيرها ويجلسن على براذع مرتفعة عريضة تغطى بسجادة صغيرة (أنظر شكل رقم 50) ويسير في ركابهن رجل واحداً أو اثنان كل منهما في جانب. ويركب نساء الحريم جميعهن معاً الواحدة خلف الأخرى. ويظهرون وهن راكبات بالطريقة الموصوفة في هيئة غريبة جداً، فيبدون غير مطمئنات في جلستهن على هذا الارتفاع. ويطلق على الحمار الذي يجهز بالبرذعة المرتفعة:(الحمار العالي) ولكني أعتقد أن الحال ليست من الصعوبة بحيث تظهر، فإن الحمار قد شد حزامه جيداً ورسخت مشيته فهو يسير ببطء ورهو وحركة سهلة. ويركب سيدات الطبقات العليا كما يركب سيدات الطبقات الوسطى، الحمير المجهزة بهذه الطريقة. ويندر أن يرين فوق البغال أو الجياد. وتكرى الحمير على العموم؛ وإذا لم تستطيع السيدة الحصول على حمار عال تركب آخر مما يركبه الرجال بعد أن يوضع على البرذعة سجادة. وكثيراً ما يفعل ذلك نساء الطبقة الدنيا ونساء الطبقة الوسطى. ولا يمشي السيدات أبداً في الخارج إلا إذا قصدن مكاناً قريباً جداً؛ فيمشين ببطء وارتباك لصعوبة الاحتفاظ بالخف في أقدامهن، ويمسكن أطراف الحبرة الأمامية بالطريقة الموضحة في شكل 27. ويتمتع النساء سواء ركبن أو مشين بالاحترام الزائد عند العامة؛ فلا يشخص إليهن حسن التربية وإنما يحول نظره إلى اتجاه آخر. ولا يرى النساء في الخارج ليلاً أبداً إلا إذا اضطرهن إلى ذلك ضرورة ملحة. والقاعدة العامة أن يعود النساء من الزيارة قبل غروب الشمس. ولا يذهب سيدات الطبقة الراقية إلى الحوانيت أبداً وإنما يرسلن في طلب ما يشأن. وهناك (دلالات) يدخلن الحريم لعرض أنواع الزينة وأمتعة النساء الخ. ولا يذهب أولئك السيدات إلى الحمام العمومي إلا إذا دعين لمرافقة بعض صديقاتهن إذ أن لأغلبهن
حماماً في المنزل
أما الحياة المنزلية عند الطبقات السفلى فهي بسيطة إلى حد أنها بمقارنتها بحياة الطبقات الوسطى والعليا التي تكلمنا عنها الآن لا يفيدنا العلم بها شيئاً كبيراً
تتكون الطبقات السفلى من الفلاحين، ما عدا فئة قليلة جداً تسكن المدن الكبيرة على الأخص. وأغلب هؤلاء الذين يسكنون المدن الكبيرة والقليل ممن يسكن المدن الصغيرة وبعض القرويين هم من صغار التجار أو أهل الحرف أو ممن يكتسبون معاشهم بالخدمة أو بمختلف الأعمال. وأرباحهم على أي حال طفيفة تكاد تكفيهم. وقد لا تضمن لهم ولعائلاتهم ضروريات الحياة
ويتكون طعام الطبقة السفلى على الأخص من الخبز المصنوع من الدخن أو الذرة، وثم من اللبن والبيض والفسيخ والخيار والشمام والقرع على أنواع كثيرة الاختلاف، والبصل والكراث والفول والحمص والترمس والعدس الخ، والبلح الطازج والمجفف والمخللات، ويأكلون أكثر الخضروات نيئة. ويقطع الفلاحون كيزان الذرة عندما تقرب من النضج ويأكلونها مشوية أو مطبوخة. ولا يدخل الفلاحون الأرز في طعامهم العادي لغلو ثمنه. وقلما يذوقون اللحم. وينعم أغلبهم مع ذلك بترف تدخين تبغ بلدهم الرخيص الذي يجفف ويفرم. ولون هذا التبغ يضرب إلى الخضرة وهو لطيف العطر. وكثيراً ما لا يجد الفقراء غير (الدقة) التي وصفتها في فصل سابق يغمسون فيها خبزهم بالرغم من بخس أثمان الأطعمة المذكورة آنفاً. ومما يثير الدهشة أن يكون الفلاح قوياً صحيحاً مع بساطة طعامه وقلته وما يعانيه من كد
وقلما يحيا نساء الطبقات السفلى حياة الخمول؛ وإن بعضهن ليكد أكثر من الرجال. وأهم أشغال النساء تجهيز الطعام، وجلب المياه، في جرار كبيرة يحملنها على الرأس من الموارد وغزل القطن والكتان أو الصوف، وعمل (الجلَّة) أقراصاً مستديرة مسطوحة من روث البهائم المخلوط بالتبن، للوقود، ويقمن هذه الأقراص على حوائط منازلهن أو فوق أسطحها أو على الأرض لتجفف في الشمس ثم يستعملنها لوقود الأفران ولأغراض أخرى. ويخضع نساء الطبقة السفلى لأزواجهن أكثر من خضوع نساء الطبقات الراقية. ولا يسمح دائماً للمرأة الفقيرة أن تتناول الطعام مع زوجها. وإذا خرجت معه سارت وراءه. والعادة أن
تحمل الزوجة كل شيء إلا الشبك أو العصا. ويفتح بعض النساء في المدينة حوانيت يبعن فيها الخبز والخضر الخ. . . فيساعدن مساعدة الزوج أو أكثر في الإنفاق على الأسرة. ويضع الفقير الذي يرغب في الزواج مسألة المهر موضع الاعتبار. ويكون المهر عادة من عشرين ريالاً إلى أربعة أضعاف هذا المبلغ إذا كان نقوداً فقط، ويقل إذا شمل بعض الملابس كما هو الحال في معظم القطر المصري. وقلما يتردد الفقير في الزواج إذا استطاع أن يقدم المهر، فأي مجهود إضافي يساعده على قوت زوجه وطفلين أو ثلاثة أطفال. ويصلح الأطفال عند سن الخامسة أو السادسة لرعي القطعان، ويساعدون آباءهم في أعمال الفلاحة عندما يتقدم بهم السن إلى أن يتزوجوا. وكثيراً ما يعتمد الفقير في مصر على أولاده الاعتماد التام لمعيشته في سن الكهولة؛ ولكن أغلب الآباء يحرمون من يحرمون من هذه المساعدة؛ فيقضون حياتهم على السؤال أو يموتون جوعاً. وقد حدث من زمن غير بعيد أن ألقى محمد مرساه في قرية على شاطئ النيل أثناء سفر له من الإسكندرية إلى القاهرة، فأسرع إليه رجل فقير وأمسك بكمه بقوة لم يستطيع معها أحد من الحاشية منعه، وشكا إليه أنه كان وقتاً ما في رغد، ثم تحول الأمر إلى عوز تام بتجنيد أولاده في الجيش وهو كبير السن. فخفف عنه الباشا بأن أمر أن يعطي له أغنى رجل في القرية بقرة.
وقد يكون الأطفال مع ذلك حملاً ثقيلاً على والديهم الفقراء، ولذلك لا تجد من النادر في مصر أن يباع الأطفال علناً بواسطة أمهاتهم أو نساء أخريات يستخدمهن الآباء لذلك. ولكن هذا لا يكون إلا في حالة الضيق الشديد.
(يتبع)
عدلي طاهر نور
ساعة حب.
.
للدكتور زكي مبارك
(قصيدة يغنيها الموسيقار عبد العزيز محمود عن طريق
الإذاعة اللاسلكية)
يا مليكَ الُحسن عزَّتْ دولُتلكْ
…
ورَعَت آلهِةُ الجبَّ صِباكْ
شِرْعةٌ الإسعاد فينا شِرعتُكْ
…
وهُدَى الإشفاق والعطف هُداكْ
أنتَ أنقذْت فؤادي من جَوَاهْ
…
وسَقيتَ الروحَ أكوابَ الصفاءْ
آن أن يَنْسَى فؤادي ما شجاهْ
…
نَسَخ الإقبالُ أيام الشقاءْ
ساعةٌ مرَّت وفي القلب هواكْ
…
ساحرَ النَّغَمة خفاَّقَ الجَناح
يَرْشُفُ اللَّثمةَ من كأْسِ لمَاكْ
…
في ظِلال الأنسِ والصَّفو المتُاح
سَكَبَتْ نجواكَ في الروح الأمانْ
…
وأراني الوصلُ أسرارَ جمالِكْ
فتمثَّلْت فراديسَ الجِنانْ
…
ورأيت الُخلدَ منَضْوُرَ وصالِكْ
وقَفَ النَّجْمُ وَألْقَى بالهُ
…
ليَعُدَّ اللَّمحَ من قلبي وقلبكْ
وَيْحَ هذا النجمِ مماّ هاَلهُ
…
في ضمير الليل مني حبي وحبَّكْ
غارت الأنجم من قلبي الطَّرُبْ
…
ما يقول الناسُ لو شامُوا غرامي
أنا بالأفنان فتَّاك لَعُوب
…
يزدهيني الغيَّ في تِيِه هيُامي
شُبْهَةٌ في قلبك البِكرْ يَلُوحْ
…
طيفها المرُتاَب في إنسان عينكْ
أنا يا مولايَ لو تَعلَمُ روُحْ
…
يَهْصِر المطلولَ من مائدِ غُصْنِكْ
تَنْظُرُ الساعة من حينٍ لحينْ
…
لَيْتَ شعري ما الذي يَسْتعجِلُكْ
إن هذا الوصل أحلامُ سنينْ
…
فاتق الحبّ ودّعْ ما يشَلُكْ
زكي مبارك
بين عهدين
للأستاذ سيد قطب
1 -
العش المهجور
طِرْتِ عَنْ عُشَّكِ الَجْمِيلِ فأُوبي
…
شَدَّ مَا اشْتَاقَ طَيْرُهُ أَن تَؤَوبي!
كانَ دِفئاً وَكانَ مَرْتَعَ صَفْوٍ
…
فكَسَاهُ الصِقَّيع ثُوبَ القُطوب
مُنْذُ غَادَرْتِهِ قَدِا اْنَتَثَرَ الَحْبُّ
…
وَطاَحَتْ بهِ رِيَاحُ الْهُبُوبِ
وَتخَلَّتْ عِنَايةُ اللهِ عَنْهُ
…
فَهُوَ في وَحْشةِ الغرِيبِ الكئِيب
وَلَيَالِيهِ شاَجيَاتٌ حَيَارَى
…
يَتَرَامَيْنَ حَوْلَهُ مِنْ لُغُوبِ
2 -
نداء العودة
عُودي إلى الْعُشَّ عودِي
…
وَرَفْرفِي مِنْ جَدِيد
وَرَنَّميِ بالأَغَاني
…
في جَوَّهِ وَاستَعِيديِ
وَأَدْفئِي بالأَمَاني
…
مَا مَسَّهُ مِنْ جُمُوِدِ
وَتَمْتِمِيِ بالتَّعَاوِيذِ (م)
…
وَالرُّقَى وَالنَّشِيدِ
وأطْلِقيِ فِيهِ لَحْناً
…
يَشْدُو لِحُبٍّ سَعِيدِ
وَيَطْرُدُ الْيَأْسَ عنْهُ
…
بالشَّدْوِ وَالتَّغْرِيدِ
طَالَ انْتِظاَرُكِ وَهْناً
…
في ظُلْمَةٍ وَكنُوُدِ
وَالرَّيحُ تَعْبثُ فيهِ
…
بكلَّ غالٍ مَجِيدِ
وَكلُّ خَفْق جناحٍ
…
أَوْ رَجْفَةٍ مِنْ بَعِيدِ
يخاَلُ فِيها مَآباً
…
بَعْدَ النَّوَى وَالشرودِ
عُوديِ إلى الْعُشَّ عُوديِ
…
وَرَفْرِفِيِ من جدَيدِ
أَضْنَاكِ طُولُ الشُّرُودِ
…
وَلَذَّةُ التَّصْعِيدِ
عُودِيْ إلى الدَّفءْ فِي عُشَّ
…
كِ الأَمِينِ الوَدَودِ
الْعُمْرُ يَمْضيِ فَهَيَّا
…
نُعِيدُهُ لِلْوُجُودِ
سيد قطب
البريد الأدبي
إلى الدكتور زكي مبارك
في أي عصر نحن حتى توجه هذه الكلمات المخزية إلى شخص المرأة وهي التي ولدت العباقر وساعدت على قيام الحضارة؟ وكيف تستطيع هذه المرأة التي وصفتها بهذا الوصف ورميتها بهذا الخلق أن تنشئ طفلاً على الكرامة، أو تطبع أمة على الاستقلال؟ ثق يا أستاذ أن الأمم الشرقية ما سهل عليها تحمل الاستعباد والذل الجيل بعد الجيل إلا لأن الزوجات كن مستعبدات مستذلات. وهل تراني في حاجة إلى أن أذكرك بهند أم معاوية التي لم تخضع لزوجها أبي سفيان زعيم مكة وسيد قريش بل رمته بالحصباء وأغلظت له القول وعيرته وطردته حين آتاها يزف إليها البشرى يوم الفتح أن من دخل بيته فهو آمن. هل تجهل أنها أنجبت خير ملوك المسلمين سياسة، وأكيسهم معاملة: معاوية الذي أنشأ دولة وحكم عشرين سنة استطاع بعدها أن يبايع لابنه الفاسق دون أن يعارض معارض؟ حسبي ما ذكرت؛ ولعلك راجع عما كتب
(سوهاج)
(بثينة)
(الرسالة):
جاءنا في هذا الموضوع كلمات أخرى لبعض السيدات الفضليات فيها كثير من القسوة والعنف. وقد لامت إحداهن الرسالة على أن نشرت هذه الكلمة؛ والرسالة التي تسجل ألوان الأدب الحديث لا تؤدي واجبها لتاريخ الأدب إذا مثل هذا الرأي من آراء كاتب معروف
في المجتمع اللغوي
أجتمع مجلس المجمع اللغوي في الأسبوع الماضي، ونظر في. كثير من الأعمال، وكان في مقدمة ما تناوله بالبحث مسألة الأعضاء الشرقيين والمستشرقين، وهل يمكن دعوتهم هذا العام، ليتسنى عقد المؤثر السنوي، فعرض المجلس ما يقوم في سبيل ذلك من العقبات، واستقر رأيه على أن يصرف النظر عن عقد المؤتمر، وأن يحاول المجمع ما أمكن لتوثيق
الصلات بينه وبين الأعضاء غير المقيمين بالقطر المصري، كل في مكانه، وذلك باطلاعهم على قرارات المجمع ومصطلحاته وسائر أعماله، والرغبة إليهم أن يوافوا إدارة المجمع بنقداتهم واقتراحاتهم فيما يعود بالفائدة على اللغة العربية، حتى يكون في هذه الصلة بعض العوض عن المؤتمر المتعذر عقده بسبب الظروف الدولية الراهنة
وقد تقرر أن يعقد مجلس المجمع في الثاني والعشرين من فبراير الحاضر ليوالي النظر في الأعمال المطروحة عليه، وفي طليعتها ما أنتجته لجان المجمع المختلفة من المصطلحات في ضروب العلوم والفنون والآداب.
وينتظر أن يفتتح المجلس درسه للمصطلحات بما أتمته اللجنة الطبية من أشتات الكلمات في فروع الطب، وسيتابع المجلس عقد جلساته مرتين في كل شهر.
في مطالعاتي
كثيراً ما يمر القارئ في كتبنا على أغلاط فلا يلقي لها بالاً وهي ذات شأن، ولقد كنت جمعت من ذلك مجموعة ثم أهملتها فما انتفعت بها ولا انتفع الناس، لذلك رأيت أن أبادر بنشر كل ما أعثر عليه من ذلك:
1 -
يروى كثيرون هذا البيت المشهور هكذا:
وعدت وكان الخلف منك سجية
…
مواعيد عرقوب أخاه (بيثرب)
و (يثرب) هي مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء في القاموس في مادة ترب ما نصبه:(ويترب كيمنع موضع قرب اليمامة وهو المراد بقوله: مواعيد عرقوب أخاه بيترب)؛ وإذن فالكلمة بالتاء المثناة لا بالثاء
وفي لسان العرب ج1 ص224 قوله: (ويترب بفتح الراء موضع قرب اليمامة؛ قال الأشجعي (وذكر البيت السابق)؛ ثم قال: هكذا رواه أبو عبيدة (بيترب) وأنكر (يثرب)؛ وقال عرقوب من العماليق: ويترب من بلادهم ولم تسكن العماليق (يثرب)).
والميداني في كتابه (مجمع الأمثال) روى البيت بالتاء وذكر بيتاً آخر بالتاء، وقال يروى:(يعني البيت الأول)(بيثرب)
2 -
ذكر الكتاب الكبير المرحوم جورجي زيدان في كتابه (تاريخ آداب العرب) الشاعر عبد الله بن الدَّمَيْنة في الشعراء الجاهليين في غير موضع من كتابه، وعند الترجمة له قال:
(وبقي جماعة منهم - بعثي الشعراء الجاهليين - لا يجتمعون في باب وهم كثيرون نكتفي بذكر أشهرهم)
ثم ذكر ابن الدمينة، وهذا الكلام خطأ من وجهتين: الأول أن ابن الدمينة شاعر أموي لا جاهلي؛ والثاني أنه من أكبر شعراء الغزل الرقيق
3 -
قال الأستاذ الرافعي في كتابه (تاريخ آداب العرب) عند الكلام على أسواق العرب: (أما عكاظ فهي أعظم أسواقهم اتخذت سوقاً بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة (540 للميلاد)) وكنت أظن أن هذا الرقم خطأ مطبعي حتى رجعت إلى دائرة معارف القرن العشرين للأستاذ وجدي فوجدته بنصه
ومعرف أن عام الفيل هو العام الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عام 570 للميلاد، كما في تاريخ الطبري وأبي الفداء وكتاب الكامل لأبن الأثير، وكتاب أخبار الدول وآثار الأول وفي العقد الفريد؛ قالوا: ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول وقال بعضهم لليلتين خلتا منه؛ وقال بعضهم بعد الفيل بثلاثين يوماً؛ فهذا جمع ما اختلفوا في مولده
وهذه العبارة الأخيرة من صاحب العقد خطأ، فإنهم اختلفوا في مولده صلى الله عليه وسلم على أقوال كثيرة
وبعد، فجمهرة الكتب على أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وعلى أن عكاظ قامت بعد الفيل بخمس عشرة سنة، فتكون أقيمت في سنة 585 للميلاد
علي محمد حسن
حول مقال
كنت كتبت في العدد (438) من (الرسالة) الزهراء كلمة صريحة بعنوان: (بين الأدبين المصري والسوري) وبتوقيع (كاتب لبناني) أنعى فيها على الأدباء السوريين واللبنانيين غرورهم وزهوهم اللذين كانا السبب الأول في اقتصارهم على إنتاج ضئيل هيهات أن يقاس بإنتاج المصريين الغزير
ولم يكن من عجب أن تنبري جريدة (المكشوف) الغراء دفاعاً عن الأدب اللبناني من أن
يخدش أو يُمس. فكان أن نشرت المقال لتطلعَ عليه القراء اللبنانيين، ولمُ تُعلق علي الكلمة إلا بقولها:
(على أننا نشك في أن يكون هذا الكاتب لبنانياً على الرغم من توقيعه؛ فإن بعض تعابيره (ك) يقرزم وغيرها لا تمتُ إلى الذوق بصلة، ونلاحظ أن الكمية عنده تفضل القيمة. . .)
وكل ما أملك من قول، هو أنني لن أقسم أنن لبناني، فبحسب (المكشوف) أن ترجع إلى غير عددٍ من أعدادها لترى أسمي الكامل، وبحسبها كذلك أن تعود إلى المقال فتروَّى فيه لتتبين خطأ (ملاحظتها). . .
بيد أن الذي سرني هو أن (المكشوف) الغراء لم ترفع علم النكير في هذه المرة، فقد أيقنت أن الكلمة التي نشرتها لم تعدُ الحقيقة
(بيروت)
سهيل إدريس
إلى الأستاذ ناجي الطنطاوي
كنت أقرأ في كتاب (كشف الحجاب والران، عن وجه أسئلة الجان) للشعراني، حتى وصلت إلى السؤال (56) وهو:
ما أقرب الطرق إلى دخول حضرة الله تعالى؟ فأجاب بما ملخصه أقرب الطرق كثرة ذكر الله تعالى، فلا يزال العبد يذكر ربه، والحجب تتمزق عنه شيئاً بعد شيء؛ حتى يقع (الشهود القلبي) فإذا حصل الشهود، استغنى عن الذكر بمشاهدة المذكور، فلو ذكر العبد ربه في تلك الحضرة، كان غير لائق بالأدب.
إلى أن قال: وقد أنشدوا في حضرة المشهود:
بذكر الله تزداد الذنوب
…
وتنكشف الرذائل والغيوب
وترك الذكر أفضل كل شيء
…
وشمس الذات ليس لها مغيب
وختم جوابه بقوله: وأنشدوا في ترك الذكر في حضرة الشهود
فترك الذكر أولى بالشهود
…
وذكر الله أولي بالوجود
فكن إن شئت في وجد الشهود
…
وكن إن شئت في فضل الوجود
عند ذلك وضح لي معنى البيتين الأوليين وضوحاً لا يحتاج إلى تبيان، وتذكرت ما دار في مجلتنا المحبوبة (الرسالة) حول هذين البيتين في الأعداد 375، 378، 382 بحالة تغاير ما هو مذكور هنا، اضطرت الأستاذ سعيد جمعة إلى تأويل معناهما. ولو أنه شرحهما بحالتهما الراهنة لما احتاج إلى تأويل وعناء وشرح حال.
هذا ما عن لي أن أذكره وفاء لمجلتنا الرشيدة المحبوبة.
(شطانوف)
محمد منصور خضر
نسبة شعر
في أثناء مطالعاتي ما يختص بالأدب العباسي رأيت الكامل للمبرد (ج2 ص254) يورد هذه القصة: (دخل شبل بن عبد الله مولى بن هاشم على عبد الله بن علي وقد أجلس ثمانين رجلاً من بني أمية على سُمُطِ الطعام فمثل بين يديه فقال:
أصبح الملك ثابت الآساس
…
بالبهاليل من بني العباس
طلبوا وتر هاشم فشفوها
…
بعد ميْل من الزمان وياس
لا تقيلن عبد شمس عثاراً
…
واقطعن كل رَقْلَةِ وعراس
خوفها أظهر التودد منها
…
وبها منكم كحز المواسي
إلى أن قال:
نعم شبل الهراش مولاك شبل
…
لو نجا من حبائل الإفلاس
فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد، وبسطت عليهم البسط، وجلس عليها ودعا بالطعام وإنه ليسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعاً. وقال لشبل لولا أنك خلطت كلامك بالمسألة لأغنمتك جميع أموالهم). وقد عجبت كثيراً بعد أن فرغت من تلاوة هذه القصة؛ إذ أنني أحفظ من قديم هذا الشعر منسوباً إلى رجل آخر غير شبل يخاطب به رجلاً آخر غير (عبد الله). . . فرجعت بالذاكرة حتى اهتديت إلى الكتاب الذي أخذت عنه، وهو (الأغاني) فصاحبة أبو الفرج الذي ينتسب إلى بني أمية يعنون فصلاً في (ج4 ص92 - 96) بقوله (ذكر من قتل أبو العباس السفاح من بني أمية) ويدير أبو الفرج فصله هذا على قصة سديف بن ميمون
الشاعر فيزعم أنه دخل على أبي العباس بالحيرة وعنده بنو هاشم وبنو أمية فأنشده قصيدته:
أصبح الملك ثابت الآساس
…
بالبهاليل من بني العباس. . . الخ
ثم قال بعد أن روى الشعر: (فتغير لون أبي العباس وأمر بمن في مجلسه من الأمويين فأهمدوا)
قلت لنفس بعد أن تلوت هذا وذاك. . . إنه لو صحت الرواية الأولى (وهذا ما نعتقده) لوجب أن يغير الحكم على أبي العباس بأنه كان سفاكا للدماء بهذه الصورة المرعبة التي يصوره بها المؤرخون فإنهم لا يكادون يستدلون على فظاعته وقساوته إلا بهذه الرواية
ثم قلت لنفسي أيضاً وأنا حائر بين هذا وذاك: ما أحْوجَ أدبنا العربي إلى غربال دقيق
عبد العليم عيسى
(الرسالة):
لقد نشرت الرسالة في تحقيق هذا الموضوع مالا مزيد عليه، مما كتبه الأساتذة: عبد الحميد العبادي، ومحمود شاكر، وعبد المتعال الصعيدي، فارجع إليه
الكتب
المؤلفات العربية القديمة
وما نشر منها في سنة 1940
للأستاذ كوركيس عواد
(تتمه)
33 -
المفاضلة بين الصحابة
لابن حزم الأندلسي (456هـ). نشره الأستاذ سعيد الأفغاني بعد أن قدّم له ببحثٍ ضافٍ في ابن حزم. وقع في 160 صفحة من الكتاب، وذّيله بفهارس متعددة للأعلام والأماكن والشعار. (المطبعة الهاشمية، دمشق، 420ص)
34 -
مقدمة تحفة الأحوذي لجامع الترمذي
(الترمذي، صاحب أحد الكتب الستة في الحديث، توفي سنة 279هـ)، نشرته مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد الدكن في الهند
35 -
المكافأة وحسن العقبى
لأحمد بن يوسف الكاتب المعروف بابن الداية (340هـ). حققه وشرحه وصححه الأستاذ محمود شاكر. مطبعة الاستقامة القاهرة، 14 صفحة لمقدمة التي درس فيها حياة المؤلف، و 160ص للمتن والتعليقات والفهارس
36 -
المنتظم في تاريخ الأمم
لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي البغدادي (597هـ). المجلدات 5 - 10 نشرتها مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد الدكن في الهند. المجلدات 1 - 5 ظهرت سابقاً
37 -
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
لابن تغرى بردى (874هـ). المجلد الثامن، نشره القسم الأدبي بدار الكتب المصرية، العناية
بهذا المجلد بادية في التعليقات والشروح والفهارس، كما هو الشأن في المجلدات السابقة (مطبعة دار الكتب المصرية. القاهرة، 342ص) المجلدات 1 - 7 صدرت خلال 1929 - 1938. في هذا المجلد حوادث السنين 690 - 709هـ ـ، وسيليه التاسع
38 -
نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية
للشيخ جمال الدين يوسف الزيلعي (762هـ ـ). نشرته مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد الدكن في الهند، الكتاب في علم الحديث
39 -
وثائق تاريخية عن حلب
فيها حوادث حلب وأخبارها، للسنوات 1855 - 865 م أخذاً عن يومية نعوم بخاش وغيرها من المخطوطات، نشرها الأب فردينال توتل اليسوعي، بتعاليق وفهارس، (المطبعة الكاثوليكية بيروت، 234 + 10ص)، ظهرت هذه الوثائق متتابعة في مجلة المشرق، ثم طبعت على حدة
المستدرك على مطبوعات سنة 1939
1 -
إغاثة اللهفان في مصايد الشطان
لابن القيم الجوزية (751هـ ـ)، المجلد الأول، نشره الأستاذ أحمد حامد الفقي (مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 386ص)
2 -
الثمالة
لجميل صدقي الزهاوي (1936م) وهي الأشعار التي عملها الزهاوي في أواخر أدوار حياته (مطبعة التفيض الأهلية، بغداد 76ص)
3 -
الجامع لأحكام القرآن
لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (671هـ ـ) الجزء التاسع، نشرة القسم الأدبي بدار الكتب المصرية، (مطبعة دار الكتب المصرية، 386ص) الأجزاء 1 - 8 صدرت سابقاً
4 -
درة الناصحين
لعثمان بن حسن بن أحمد الخوبوي (فرغ من تأليفه سنة 224هـ)، وهي مجالس مشتملة على تفسير آيات من القرآن وشرح أحاديث في الوعظ أيضاً نشرتها المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة (320ص)، الكتاب طبع قبل هذا
5 -
ديوان حافظ إبراهيم
لحافظ بك إبراهيم (1932م)، الطبعة الثانية، أظهرتها وزارة المعارف المصرية. ضبطها وصححها وشرحها ورتبها الأساتذة: أحمد أمين، أحمد الزين، إبراهيم الإبياري، وبمراجعة محمد مختار يونس. (مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة. مجلدان: الأول 47 + 318 والثاني 262ص)
6 -
الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة
لأبي الحسن علي المعروف بابن بسّام الشنتريني الأندلسي (542هـ ـ). القسم الأول من المجلد الأول نشرته كلية الآداب بالجامعة المصرية (مطبوع رقم 26)؛ مستعينة بمراجعة السادة: محمد عبده عزام، خليل عساكر، بخاطره الشافعي. وأشرف على عملهم أساتذة الجامعة: أحمد أمين، مصطفى عبد الرازق، عبد الحميد العبادي، عبد الوهاب عزام، طه حسين. وشاركهم في بعض ذلك المستشرق ليفي بروفنسال - (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ي + 416ص) الكتاب مرجع هام في تاريخ الأندلس وشعرائها وبلغائها وكتابها. بقية أقسامه شيئاً بعد شيء
7 -
رسائل فلسفية
لأبي بكر محمد بن زكرياء الرازي (320هـ ـ)، مع قِطَع من كتبه المفقودة؛ جمعها وصححها المستشرق (باول كراوس) الجزء الأول، نشرته الجامعة المصرية (القاهرة، ص316)؛ يتألف هذا المجلد من الرسائل التالية:
1 -
كتاب الطب الروحاني
2 -
كتاب السيرة الفلسفية
3 -
مقالة فيما بعد الطبيعة
4 -
مقالات في أمارات الإقبال والدولة
5 -
من كتاب اللذة
6 -
من كتاب العلم الإلهي
7 -
القول في القدماء الخمسة
8 -
القول في الهيولي
9 -
القول في الزمان والمكان
10 -
القول في النفس والعالم
11 -
المناظرات بين أبي حاتم الرازي وأبي بكر الرازي
8 -
شرح ألفية بن مالك
لنور الدين أبي الحسن الأشموني (900هـ ـ). نشرهُ الأستاذ محمد محي الدين عبد الحميد (مجلدات، 532 + 528ص. مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة). ابن مالك صاحب الألفية في النحو، توفي سنة 672هـ ـ.
9 -
شرح ديوان امرئ القيس ومعه أخبار المراقسة وأشعارهم
في الجاهلية وصور الإسلام
أشعار امرئ القيس (566م) جمعها ورتبها وشرحها الأستاذ حسن السندوبي، وأضاف إليها أخبار المراقسة (مطبعة الاستقامة، القاهرة، 192 + 112ص)
10 -
شرح ديوان الحماسة
لأبي زكرياء يحيى بن عليّ، الشهير بالخطيب التبريزي (502هـ ـ) حققه وضبط غريبة وعلق حواشيه ووضع فهارسة، الأستاذ محمد محي الدين عبد الحميد (4مجلدات، مطبعة حجازي، القاهرة 464 + 464 + 420 + 440ص). وديوان الحماسة، هو لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي (231هـ ـ)، جمع فيه ما اختاره من أشعار العرب الأقدمين، ورتبه على عشرة أبواب: الحماسة، المراثي، الأدب، التشبيب، الهجاء الإضافات، الصفات، سيرة الملح، مذمة النساء، وقد اشتهر الكتاب ببابه الأول.
11 -
الكليات في الطب
لابن رشد الفيلسوف الطبيب الأندلسي (595هـ). نشرته بالتصوير الشمسي، لجنة الأبحاث العربية الأسبانية، ضمن منشورات معهد الجنرال فرانكوا. (مطبعة الفنون المصور، بوسكا، العرائش (المغرب)، 30 + 34 + 231ص)
12 -
المثل السائر في أدب الكتاب والشاعر
لضياء الدين بن الأثير الموصلي (637هـ ـ). حققه الأستاذ محمد محي الدين عبد الحميد. (مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده) القاهرة. مجلدان، الأول: ز + 429 والثاني 419ص)
13 -
مختار الصحاح
لمحمد بن أبي بكر الرازي (620هـ ـ) طبع هذا المعجم على الحجر بحجم صغير للجيب. (مطبعة الترقي دمشق، 641ص)
14 -
نزهة الرفاق عن شرح حال الأسواق بدمشق
ليوسف بن عبد الهادي المعروف بابن المبرد) (فرغ منه سنة 883هـ ـ). وهي رسالة نشرها الأستاذ حبيب زيات في مجلة المشرق بيروت (27 (1939) ص 18 - 28) في هذه الرسالة بيان بجملة أسواق دمشق في المائة التاسعة للهجرة التاسعة للهجرة وما يتعلق بها وما كان يباع فيها
هذا ما أمكنني الوقوف عليه حتى هذه الساعة، وإنني موقن أن قد فاتني طائفة منها على الرغم من تتبعي لها، وقد سقت وجه العذر عن هذا التقصير في صدر المقال، ورجائي من القراء أن يتفضلوا باستدراك ما لم أقف عليه، ولهم أخلص الشكر وأطيب الثناء.
كوركيس عواد
المسرح والسينما
محطة الإذاعة
إن محطة الإذاعة وسيلة من وسائل التهذيب والترقي عند الأمم، ولكنها في مصر بوق تنفخ فيه فئة معينة من الناس. واقفة عند حدود بدائية من الفن والفكر. وأبين ما يتضح من هذه الحدود تلك الأغاني الخائرة (معنىً وموسيقى) التي تجأر بها حناجر المطربين فتتناقلها أفواه الناس في سائر الأقطار - صورة من الفن المصري والأدب المصري!
يا ضيعة الشعر والغناء في هذا البلد. . . هل يحسب المشرفون على أمر المحطة أن ما يختارونه ليذاع لا تردده إلا أركان مصر حتى يتساهلوا كل هذا التساهل في توخي الدقة والصلاحية فيما يذاع؟
إن البلدان العربية تعني بالاستماع إلى الإذاعة المصرية فيجب أن نعطيها أمثلة صادقة عن الشعر والغناء في مصر، ولكن المحطة - سامحها الله - تسرف في تنكب الصراط المستقيم ولا يقع اختيارها إلا على الأزجال الرخيصة، والموسيقي المتهالكة، والمطرب الناشئ المضطرب
إن الغناء والشعر غذاء الأرواح في كل بلاد الله. فماذا يمنع محطة الإذاعة أن تقدم شعراً طيباً فيه قوة الشباب وعفاف الهوى العذري بدلاًٍ مما نسمع من لغة ركيكة ومعان مبتذلة ولدينا - والحمد الله - شعراء موهوبون لهم من القصائد ما يبهر القلب، وما لو تغني به المغني الموهوب لأعطى المستمع فكرة سليمة عن الشعر والفن والغناء. ماذا يمنعها؟! أحد أمرين: إما أن المشرفين عليها جهلة، وهذا ما لا نعتقد. وإما أنها المحسوبية العمياء التي تسد الطريق إلى الحق والصواب. نرجو الله أن يوفق أولي أمر هذه المحطة إلى ما فيه الخير
صالات الرقص
إن جبين الحر ليندي خزياً كلما استعرض صالات الرقص في هذه الأيام السود
أي مصر! يا بلد الإسلام والمسلمين! كيف يسمح القوم أن تدار في رحابك المواخير علناً باسم الحرية؟! وكيف يرفع المصري وجهه وقد وصمه العار بأبشع ما يوصم به الرجل الشريف؟ لقد آن لنا أن نحارب هذه المباءات المتناثرة في أحضان القاهرة، فنأتي على ما
فيها من أسباب الإجرام
قالوا يوم افتتحوا هذه الصالات: إنها لون من التسلية لا بد منه للبلد الراقي. وكانوا يعرضون فيه الرقص والغناء والرواية الهزلية ثم أضافوا (الفتح) إلى البرنامج، ثم هم يقتصرون الآن على شرب الخمور وارتطام الصدور في الصدور، وامتصاص دماء الرواد. . . فما معنى أن يسمح بفتح هذه المحلات (وهي عمومية) خاصة للشابين الماجنين. لا يدخلها عامر الجيوب إلا ويخرج منه صفر الجيب من المال مفلس الروح من الإيمان.
يخيل إلي أن انصراف الناس عن التمسك بالدين يغرى في نفوس بعض المسئولين نوعاً من أنواع الخمسة الجوعى.
أفلام جديدة
يدور العمل (الآن) بين جدران استديو مصر في صنع أفلام جديدة نذكر منها فلم (محطة الأنس) سيناريو وإخراج الأستاذ عبد الفتاح حسن، وتمثيل: علي الكسار، عبد العزيز خليل، عقيلة راتب، ماري منيب، وغيرهم. وفلم (الستات في خطر) تأليف الأستاذ فؤاد الجزايرلي وإخراج الأستاذ إبراهيم عمارة وتمثيل: فوزي الجزايرلي، مختار عثمان، عبد العزيز خليل، تحية كاريوكا، إحسان الجزايرلي، أمينه فهمي. وقد أوشك الأستاذ (محمد عبد الوهاب) أن ينتهي من فلمه الجديد (ممنوع الحب) الذي أخرجه الأستاذ محمد كريم. وقد انتهت شركة أفلام جلال من فلم (رباب) الذي ألفه وأخرجه الأستاذ أحمد جلال والذي سنشاهد فيه: ماري كويني، ثريا فخري، سميرة كمال، أحمد جلال، عمر جميعي، عبد الحميد زكي. ونذكر بهذه المناسبة أن أحد تجار الحمزاوي يعمل على تأليف شركة سينمائية جديدة اسمها (شركة أفلام عبد الجليل غازي) ولا يسعنا إزاء هذا المجهود إلا أن نرجو الله أن يوفق الجميع إلى ما فيه الخير للفن المصري الشرقي.
عبد الفتاح متولي غبن