الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 453
- بتاريخ: 09 - 03 - 1942
دروس في الحرب
هل تنسى؟. . .
للأستاذ عباس محمود العقاد
واحدة. اثنتان. ثلاث. . . ثمان. . .
ومضى صاحبي يعد الفتيات اللائي يعبرن بنا في الظلام واحدة بعد واحدة حتى أربى العد على العشرين، وكلهن يعبرن الطريق منفردات كأنهن رجال، وقل في الطريق من يلتفت إليهن، أو يريهن أنهن أخطأن بالخروج في هذا الليل على انفراد، أو يعجب كما عجب القائل:
ثم قالت وأحسّتْ عَجبي
…
من سُراها حيث لا تسري الأسود
لا تَعجّب يا حبيبي فالسرى
…
عادة الأقمار والناس هجود
قال صاحبي: لو خرج هؤلاء في ليلة كليلتنا هذه في القرن الماضي كيف كن يخرجن؟
كن يخرجن والمصباح أمامهن في يد الخصي أو الخادم إن كن من ربات الخدم والخصيان، أو كن يتسللن في استخفاء كتسلل اللصوص إن لم يكنّ من ذوات اليسار.
قلت: فإن كانت فتيات اليوم لا يحتمين بحارس ولا مصباح فما أظن العلامة كلها علامة خير! من يدريك يا صاحبي لم لا يلتفت إليهن أحد من أولئك المدلجين في الظلام ولم لا يلتفتن إلى أحد؟ لعل كل عابر من أولئك المدلجين ذاهب إلى موعد! ولعل كل عابرة من أولئك المدلجات ذاهبة إلى موعد مثله! ومن لم يكن من الرجال على موعد فلعل الذي يثنيه عن المناوشة والمغازلة علمه أن الفتاة العصرية تجرؤ الابتداء أو على الإيماء والإيحاء ولا تنتظر حتى يجيء الابتداء من الرجال. فإذا رآها معرضة أو جادة في الطريق علم أن ابتداءه بالمناوشة والمغازلة لا يفيد، وأن الأكرم له أن يمضي في سبيله حتى تبدو له إشارة من إشارات التشجيع.
ليس كله يا صاحبي بخير!
ليس كل هذا من الصيانة بل فيه كثير من الابتذال والهوان، وليست كل شجاعة المرأة خيرا بل حياؤها وجبنها أكرم لها من هذه الشجاعة في بعض الآراء.
وانتقل الحديث من عابرات الظلام إلى الظلام نفسه فقال الصديق: والله لقد ألفناه حتى
استحببناه، ووالله إن الإنسان ليخرج من البيت إلى الطريق كأنه على العكس خارج من الطريق إلى البيت، لأن في الظلام معنى الاستكنان والإيواء، وفي النور معنى العموم والشيوع. فإذا تجاوز أحدنا الباب فكأنه خارج من عالم حافل بالناس والمناظر إلى عالم لا مناظر ولا ناس فيه.
قلت: ما أدري إن عشنا كيف تفاجئنا القاهرة أول ما تضاء كما تضاء في أيام السلم قبل سنوات؟ أخالنا سنحسبها ليلة عيد أو مهرجان؛ وأخالهم لا يصنعون في احتفالهم بالسلم أكثر من إضاءتهم المدن كما كانت تضاء.
قال صاحبي وكأنه خاف على ظلامه الذي ألفه واستراح إليه: أو عائدون نحن إلى تلك الأضواء المسرفة لا محالة؟ لم لا نستفيد من دروس الحرب ونقنع بهذا النصيب من النور الذي يهدينا إلى حيث نشاء؟ فإن لم يقنعنا هذا النصيب فلم لا نزيده بمقدار ما نتقي بعض الأضرار التي نحذرها الآن؟. . . لم لا نقنع بربع ذلك الضوء الذي كنا نسفكه على الأرض أو على الوجوه التي هي شر من الأرض قبل سنوات؟
قلت أداعبه: نعم. أو على الوجوه التي تعدها الآن ولا تراها!! ولو رايتها لما كنت ارتقيت بالتعداد إلى العشرين وما فوق العشرين!
وكان صاحبي جائعا فوقف عند دكان من دكاكين الشطائر وقال: بإذنك يا عضو المجمع اللغوي. . . ألا تأذن لنا في (شاطر ومشطور والطازج بينهما)؟
يريد صاحبي ما شاع على ألسنة العامة من تسمية المجمع للشطيرة أو (السندويتش) بذلك الاسم المطول الذي يدل على وليمة كاملة، لا على لقمة تتناولها الإصبعان.
قلت أداعبه أيضاً أو أنتقم منه: بل في بلغة إن أردت!!
قال: أو هذه تسمية المجمع؟ أو هو تصحيح وترجيح؟
قلت: إنك لأحرى أن تصدق هذه التسمية الصحيحة من تصديقك تلك التسمية التي لا تساغ ولو على سبيل المزاح. والبلغة أخف من الطازج بين الشاطر والمشطور.
ثم ذكر صاحبي أن اليوم من أيام النبات وليس من أيام اللحوم. فعاد إلي يرد انتقامي وسألني:
أو يعجب هذا صاحبك المعري؟. . . ما زلتم تهتفون باسم هذا الرجل حتى أوشكنا أن
نقتصر على العدس والتين مثله. فلا تزيدوا بربكم من ذكره لكيلا نلتزم البيوت ولا نرى في الدنيا غير الظلام. . .!
قلت: وما بالك لا تحسبه درسا من دروس الحرب الباقية؟ وما بالك لا تحمد لنا أن ذكرنا المعري حتى أوشكنا أن نرضيه وأن نقتدي به في طعامه؟
وكانت نوبة الاعتبار والاتعاظ مالكة زمام الصديق في تلك الليلة، فأخذ في تفصيل هذا الدرس الجديد، وطفق يقول ويكرر: ولم لا؟ ولم لا؟ إننا تعودنا ونعم العادة ما تعودنا. . . فلنمض في ذلك طائعين ننسى غدا أننا مضينا فيه أيام الحرب ونحن كارهون.
وراح يقول: أو ليس هذا ضرباً من الصيام المحمود؟ أليس فيه ما في الصيام من شعور بالمساواة بين الأغنياء والفقراء؟ أليس فيه ما في الصيام من ضبط للنفس وكبح للشهوات؟ أليس فيه قصد ومنفعة؟ أليس فيه صحة وحمية؟ أليس فيه تآزر بين البيت والأمة فلا يأكل البيت إلا بمقدار ما تسمح الأمة؟
قلت: بلى، فيه هذا وفوق هذا
فظن أنني أمزح سأهزأ به فتأهب قائلا: وما فوق هذا؟
قلت: على ربعك! لست أمزح ولا أنوي أن أستهزئ بنوبة عظاتك في هذه النوبة. . . إن الأيام التي خلت من اللحوم لفيها ما ذكرت وزيادة: فيها الحمية والقصد وضبط النفس والمساواة بين الغني والفقير، وفيها أنها ستبصرنا بمنافع السمك وطالما عجبت لإهمال المصريين إياه.
فمصر يحف بها بحران عظيمان، وفيها بحيرات كبار، ويتخللها النيل وليس هو أغنى هذه الموارد بالسمك النافع، ولكنه مورد لا نستفيد منه كل ما يستفاد
وقد كانوا في مصر القديمة يستفيدون منه ويأكلون سمكه أيام الفيضان، ويملحونه ليحفظوه إلى الفيضان المقبل، لأنهم كانوا يجهلون من أساليب الصيد في البحار وتوليد الأسماك فيها ما نعلمه الآن
أما نحن فعندنا الزوارق البخارية والوسائل العصرية والمعرفة بعلوم الأحياء. فلماذا لا نستكثر من أكل السمك وهو غذاء صالح للأجسام والعقول؟
فصاح مستفهما: وللعقول؟
قلت نعم. . . وإن أناسا جادين في القول والبحث ليزعمون أن الفلسفة اليونانية مدينة للسمك بالشيء الكثير، وإن حكماء الإغريق نبغوا على الشواطئ وبين أبناء الجزر، لأنهم كانوا يستكثرون من أكل السمك وفيه (الفسفور) كما تعلم، وفي الفسفور غذاء للمخ والأعصاب، وغذاء للعقل والإدراك من هذا الطريق.
ومن فكاهات العصر الحديث ما يؤيد أولئك الباحثين الجادين فيما زعموه. . . أو لم تسمع بحوار الإنجليزي والاسكتلندي على السمك ومناصب الدولة؟
قال: لا
قلت: فاعلم أن إنجليزياً سأل رجلاً من أذكياء اسكتلندة متعجباً: ما بالكم يا هؤلاء وليست في بلادكم العاصمة ولا مراكز الدولة، تشغلون أكبر مناصبها، وتستأثرون فيها أحيانا بالوزارة والقيادة والقضاء؟
فارتد إليه الاسكتلندي مجيباً: أو لا تدري؟ إنه الدماغ، وإنه السمك. . .!
قال الإنجليزي: وما العلاقة بين الدماغ والسمك وأبناء اسكتلندة؟
فقال الاسكتلندي: إن السمك فيه الفسفور وإن المخ لا يعمل بغيره، وإنه كثير في سمك بلادنا. . .!
قال الإنجليزي: أئذا أكلت من سمك بلادكم رشحت نفسي بعد حين لمنصب من تلك المناصب الرفيعة؟
قال: بلا جدال
ونقده الإنجليزي جنيهاً وأرسل إليه الاسكتلندي سمكة وعاد بعد أيام يسأله: كيف أنت واقترابك من المناصب الرفيعة!
فهز الإنجليزي كتفيه وأجابه: كما أنا!
قال: إذن كرر التجربة
وكرر التجربة، وأعطاه الجنيه، وأكل السمكة، وعاد إليه بالسؤال مرتين وعاد إليه بالجواب عينه، فلما قال له: كرر التجربة إذا بالإنجليزي يقاطعه هذه المرة صائحا:
- أولاً يباع بالجنيه عندكم أكثر من سمكة واحدة؟!
فابتسم الاسكتلندي وربت على كتفيه وهو يقول: هذا معقول السمك قد آذن أن يظهر يا
صاح!
ومن أين لنا أننا إذا طالت التجربة في مصر، قلنا لمن فهموا بعد أن كانوا لا يفهمون: هذا مفعول السمك يا هؤلاء، وهذه بركة الأيام التي لا تحمدونها الآن!
دروس من الحرب، وكم للحرب من دروس. . . فهل نذكرها؟ وهل ننساه فيضيرنا نسيانها!
ويح بني الإنسان! لو أن درساً من دروس جيل ينفع الجيل الذي بعده لما تلاحقت المصائب عليهم جيلا بعد جيل.
وويحهم مرتين! لو أن الأجيال السابقة تجرب للأجيال التي بعدها وتعيش لها لبطل عيش اللاحقين وأصبح كالنسخة المكررة من عيش السابقين
فليجربوا أو لا يجربوا، ولينسوا أو لا ينسوا، فما هم بناجين، وما هم عن تكرار التجربة بمستغنين، ولو كلفتهم السمكة أكثر من جنيه، وأبطأ مفعولها بعد قضاء الثمن مرات.
عباس محمود العقاد
نظرة عاجلة
في ديوان الشبيبي
للدكتور عبد الوهاب عزام
حسبت، وديوان الشبيبي في المطبعة، أني سأسبق الكتّاب إلى الكتابة عنه حين ينجز طبعه؛ ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه. فقد لبثت حقبة أتربص فرصة بين الأشغال المتتابعة، وأرتقب فترة من المسرعة، وكلما صرفتني الشواغل عن مقصدي أنشدت قول الأنوري الشاعر الفارسي:
أكَر محوّل أحوالِ جهانيان نه قضاست
…
جرا مجاري أحوال برخلاف رضاست
ويمكن أن يؤدي معناه في العربية بهذا البيت:
لماذا يخيب رجاء البشر
…
إذا لم يكن أمرهم للقدر
وكانت عطلة عيد الأضحى، ودعيت إلى المشاركة في المؤتمر الطبي العربي الذي اجتمع في مدينة أسوان فقلت هي فرصة: أصحب ديوان الشبيبي في القطار كما صحبت ديوان البحتري في سفري من حلب إلى استانبول قبل أربع سنين. ورحم الله أبا الطيب الذي قال: وخير جليس في الزمان كتاب.
عبرت ديوان الشبيبي عبرة وعزمت على أن أبادر بالكتابة عنه حينما أعود إلى القاهرة. ثم سارت الأيام سيرتها، وجرت الأمور مجراها، فإذا شهر ونصف يمضيان من الزمن الطيار الذي قال فيه المعري:
وأصغر كون تحته كل عاَلم
…
ولا تدرك الأكوانَ جردٌ صلادم
وقال عبد الحق حامد شاعر الترك الأكبر:
كجمز، صانيرم، بوردز كاري
…
سر عتيلدر أو لقدرَ كَذارى
(وترجمته:
ويسرع هذا الزمانُ المرورَ
…
إلى أن أُرى أنه لا يمرّ)
ثم تسنت لي جلسة خالية مختلسة من بين المشاغل التي تعبدنا وتستبد بعقولنا وقلوبنا فاستطعت أن أخط كلمات قليلة عن ديوان الشبيبي، وما هي إلا نظرة عاجلة غير شاملة حاولت جهدي، حين الكتابة، أن أتجاهل السيد رضا الشبيبي، وأقدر أنني لا أعرفه وأني لا
أكن له في نفسي وداً وإعجاباً ليتيسر لي أن أزن الكلام بقيمته لا بمكانة قائله. ولكن كان كل بيت تقع العين عليه يذكر بأن بيت الشبيبي تتمثل فيه الأديب الوقور جالساً جلسته، متحدثاً حديثه؛ فلم أستطع أن أخادع نفسي عن الشبيبي ساعة واحدة أصف فيها الديوان. قلت لنفسي كيف الحكم وقد قال النقاد ينبغي ألا يكون لمعرفة الإنسان وميله أثر في حكمه؟ قالت: قد حكمت ولم تشعر. قلت كيف؟ قالت: ألست تقول إن كلام الشبيبي يذكر به، ويصدق الحديث عنه؟ وخير الكلام ما شف عن صاحبه ومثله لقارئه.
- 1 -
يفيض قلب الشبيبي بحب قومه العرب، وينطق شعره بالغضب لهم والتوجع لما أصابهم والفخر بماضيهم والثقة بمستقبلهم. وحسبك بقصيدته القافية التي يتناشدها أهل الشام:
ببغداد أشتاق العراق وإنني
…
إلى الكرخ من بغداد جمُّ التشوق
فما أنا في أرض الشام بمشئم
…
ولا أنا في أرض العراق بمعرق
هما وطنٌ فرد وقد فرقوهما= (رمى الله بالتشتيت شمل المفرق)
وشد ما يعجبني ويطربني قوله فيها:
وما الأرض - لولا أربُع عربية -
…
سوى عطنٍ بالعبقرية ضّيق
وقد ذكرني قوله في حلوان العراق:
فيا ليتها كانت رباً عربية
…
مكرّمة منهن رضَوى وثهلان
بقصيدة أبي الطيب في شعب بوان حينما افتقد وجه العربي ويده ولسانه ثم قال:
ولو كانت دمشق ثنى عناني
…
ليبقُ الثرد صينيّ الجفان
وكذلك يذكر بأبي الطيب قوله:
وافت عجائبُ أجيال وأعجبها
…
إذا تأملت، جيلٌ عُربه عجم
واقرأ قصيدته: (دمشق وبغداد)، وقف على هذا البيت الذي فاضت فيه أنهر العرب الأربعة:
برَدَى وأودية الفرات ودجلة
…
والنيل غصَّ بمائكِ الوُراد
ويتبين الإباء العربي حتى في غزله:
تعفّف بعد العجز قوم فما حكموا
…
خلائق أقوام متى قدروا عفّوا
وأشقى الهوى ما كان غاية أهله
…
وُعقباهم منه الخلاعة واللهوا
ومن خير ما يقرأ في هذا قصيدته الحب الطاهر.
- 2 -
وأما العراق فقد وهبه الشاعر عقله وقلبه. ما يذكره إلا يجب قلبه ويفيض دمعه، أو تثور نفسه، حزنا لما يرى وطموحا إلى ما يبقى له من العزة والسؤدد والسعادة:
أي دمع يفيض من أي مقله
…
لوقوف بين الفرات ودجلة
ما أخال الخرير والماء إلا
…
صوت حزن وعبرة مستهلة
يا خليلي إن تشاءا أسعداني
…
في شجوني فالخل يسعد خلَّه
عللاني بذكر نهضة قومي
…
قبل ألا أرى لقلبي تعلّه
أين ذاك العراق؟ أين بنوه؟
…
ليتهم أبصروا العراق وأهله
وقوله:
نظرت بني الدنيا فأصررت أنها
…
على الشر لا تنفك تجري النحائت
هم أضمروا حب المظالم فاستوت
…
دخائلهم والظاهر المتفاوت
سوائم يرعى بعضها دم بعضها
…
شتاتاً وهل تحمى السروح الشتائت؟
- 3 -
وللأستاذ الشبيبي نظرات في الحياة تعرب عن ضيقه بها وانقباضه وارتيابه في الناس، وتذكر أحيانا بأبى العلاء المعري:
من الناس خافي أيها النفس واحذري
…
ولا تأمني إن المخافة في الأمن
وكأنك تقرأ للمعري حين تقرأ القطعة التي سماها (من لزوم ما لا يلزم):
حياتي هذه ليل
…
إذا متّ غدا يُجلى
وما آسى على شيء
…
من الدنيا وإن جلاّ
- 4 -
وللأستاذ شعر فلسفي يسمو إلى النظر العالي في الكون والإبانة عن جلاله وجماله. اقرأ قصيدته على ضفاف دجلة:
يد لدجلة عندي لست أجحدها
…
إلا إذا جحدت سلسالَها الهِيمُ
حلقت ليلة تعريسي بشاطئها
…
ألا يميل برأسي عنك تهويم
إذ كل زمزمة في الكون هينمة
…
بل كل ما فيه تغريد وترنيم
لي في الرياض إذا أمْرَ عن فلسفة
…
وحكمة ملء مرآها تعاليم. . الخ
وبعد فقارئ ديوان الشبيبي يمر بصور صادقة، صور إنسانية عالية وأخرى قومية رائعة. ويرى من آمال الحياة وآلامها، وسعادتها وشقائها، وجمالها وقبحها، ما يحسن الشاعر الإبانة عنه، ويصدق التصوير فيه، حتى تحسب خياله حسا ومجازه حقيقة.
والخلاصة أن شعره يصدق قوله في الشعر:
إذا أنت كابرت الحقيقة عبَّرت
…
فصاحة قُسّ عن فهاهة باقل
إذا قلتُ إن الشعر بحر غبنته
…
متى يستقيم البحر من غير ساحل؟
قرائحنا منه بحور خضارم
…
ومنها - إذا جربت - رشحُ الجداول
وأجمع أقوال الرجال أشدها
…
معان كبار في حروف قلائل
ولله ما أبصره بالشعر الحر العالي حين يقول:
ما من بصير بحق الشعر يحفظه
…
كن شاعر الوقت أو كن شاعر الزمن
زن قبل لفظك معنى البيت تُنشِئه
…
فرُبَّ بيتٍ بمعنى غير مُتزن
ولعل لنا نظرة أخرى شاملة مفصلة في الديوان إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام
بين آدم وحواء
حديث السدرة
للدكتور زكي مبارك
كانت حواء تعبت من عقل آدم، وكان آدم تعب من جهل حواء، وكان جو الخلاف ينذر بأن صاعقة ستنقض على رأسيهما بعد حين. . . ولذلك الخلاف المزعج تفاصيل في كلام شيث بن عربانوس، فما تلك التفاصيل؟
كانت الأوامر والنواهي ثقلت على آدم وحواء (لحكمة يعلمها الله) وكان آدم مع ذلك يدرع بالصبر الجميل، فيراعي الحدود بقدر ما يستطيع. أما حواء فكانت تتمرد من حين إلى حين، وان كان شيث يؤكد أن تمردها لم يكن في جوهره إلا فنا من فنون الدلال.
ويظهر من كلام شيث أن حواء لم تكن تدرك أن النعيم قد يزول بالعصيان، فما دار في خلدها أن في الوجود مكانا غير الفردوس ينفى إليه العصاة والمتمردون، ولا جاز في وهمها أن ينقل الإنسان من دار إلى دار بسبب الثورة على الأدب والذوق. وكيف تدرك حواء هذا المعنى وقد ولدت في جنة دانية القطوف، ولم تسمع بأخبار الأرض إلا بعد أن قضى الله في أمرها بما أراد؟
ويظهر أيضاً من كلام شيث أن آدم كان يخاف الله أشد الخوف، وكان يدرك بفطرته أن النعيم قد يزول بالعصيان، وأن لابد من تأديب حواء إن تمادت في الضلال.
كان آدم يفهم جيدا أن الله لا يتأذى بجهل الناس، وإنما يوقع العقاب بالجاهلين لخروجهم على نظام الوجود، وهو نظام يتأثر باليسير التافه من الانحراف، لأنه غاية في الدقة والترتيب، ولا يحتمل الثبات على الاعوجاج.
وكان آدم يقسم لئن رأى حواء ليذيقنها العذاب على ما اعتزمت من قرب شجرة التين؛ ولكنه كان يتخاذل حين تقبل عليه بجسمها الفينان، وثغرها الرشوف، فقد كانت ثناياها أحب إليه من حب الزمان، وكان قدها الرشيق نهاية ما يتصور من روعة الخطرات.
كان آدم يشعر بأن عزيمته تتحلل إلى أوهام حين يرى جسم حواء، وكان يعجب من أن يكون في الأوامر والنواهي ما يضع حدوداً لسيطرة تلك الضبية العصماء.
والظاهر أن الجسد الجميل يزيغ البصائر والعقول، وينقل الرجل من حال إلى أحوال،
ويضيف الحليم إلى طوائف السفهاء، ولا عاصم للرجل من فتنة الجمال إلا إن حمته وقاية الله.
وكان قدّ حواء من القدود السمهرية، وكانت لها مشية تزلزل القلب والوجدان، وكان لها في الضوء لون وفي الظل لون، وكانت ظلال الأهداب توهم أن على خديها زغبا يشبه زغب الخوخ، وكان غضبها أحلى من الرضا وقطيعتها أطيب من الوصال، وكان تثنيها وهي تتخطر فوق شط الكوثر غريبة الغرائب في السحر والفتون.
وكان آدم أضعف من أن يقاوم حواء، فقد كان في فورة الشباب، والشباب جهل، وكان أعجز من أن يرجع على نفسه بالتأديب والتهذيب وهو يعاقر الجمال لأول عهده بالوجود، وأخطر الحب هو الحب الأول، ولكل آدم في الدنيا حواء
كان آدم يقسم ويقسم ثم يقسم لئن رأى حواء ليقطعنها إلى قطع صغيرة حقيرة ثم يقدمها إلى ما في أرباض الجنة من ثعالب وذئاب، جزاء بما تقترف من التفكير في قرب شجرة التين، ولكنه كان يصعق حين تشرف عليه بقدها المرهف وطرفها النشوان.
كان يبدأ بالزجر، ثم ينتقل إلى العتاب، ثم ينتهي بالاستسلام، وذلك مصير الغرماء لأمثال حواء
دعاها مرة إلى أحد الأدغال ليقتلها في خفية ويستريح، فحماها منه جسمها المجدول بأسلاك الكهرباء، فارتد وهو هائم حيران، وعرف أن الهوى فرض على من وهبه الله نعمة الشعور بعبقرية الجمال.
كان آدم رجلا وكانت حواء امرأة، وإذا تلاقى الرجل والمرأة فلا مجال لغير الغي والضلال، وقد غوى آدم بطاعة حواء فقضى الله في أمره بما سجل التاريخ.
جسد حواء صنع ما صنع. جسد حواء غفر جهل حواء جسد حواء فعل بآدم الأفاعيل، فزين له الخضوع لهواها الأثيم
كان آدم يضطرب ويرتعد، حين تختال أمامه حواء بقدها المؤلف من الأحلام والأهواء، وكان لا يعرف أين يضع قدميه وهي تساوره بعينين غافلتين عما تصنعان بقلبه المأخوذ، وعقله الموقوذ، وهل يبقى لمن يصارع الجمال قلب أو عقل؟
جسد حواء صنع بآدم ما صنع، ولكنه تماسك في إحدى اللحظات وقد جالسها تحت السدرة
فدار بينه وبينها ما سجل شيث من هذه الأحاديث:
- أين كنت يا حواء؟
- وما أنت وهذا السؤال؟
- من حقي أن أسأل
- وليس من واجبي أن أجيب!
- إذن نفترق؟
- والى أين تذهب، وللجنة أسوار أمنع من الجبال؟
- السور الحصين هو أنت يا شقية، فإذا نجوت منك فقد نجوت من جميع المهالك والحتوف
- أنت تنجو مني يا آدم؟ أنت تنجو مني؟
(ونظرت إليه بعينين نجلاوين فخشع واستكان وهم بأشياء)
- كل ما فيك جميل يا حواء، إلا التفكير في قرب شجرة التين. . .
- والموت أهون من الصدوف عن شجرة التين
- هي محرمة بأمر الله
- وكيف وقد رأيت ظبية تعطو إلى أوراقها منذ لحظات بلا تهيب ولا تخوف ولا احتراس؟
- الظبية حيوان
- ونحن من الحيوان
- ولكن التكاليف تجعلنا أعظم من الحيوان
- وما قيمة التكاليف؟
- التكاليف لا توجه إلا إلى الحيوانات الراقية
- وأنت حيوان راق يا آدم؟
- لأني في صحبة حواء!
(هنا وقع اشتباك بين خلقتين فطريتين لم يؤهلهما التهذيب لمراعاة الأدب في النضال والصيال)
- كان الظن أن تعرف ما نعاني من الظلم في الفردوس
- وماذا نعاني يا حواء؟
- نعاني الخضوع للأوامر والنواهي، وتلك أول مرة أفهم فيها المراد من وصف الله بأنه صاحب العزة والجبروت
- وهل يظلمنا الله يا حواء؟
- انعدام المساواة من صور الإجحاف
- أتريدين أن نكون أشباها لما في الجنة من طير وحيوان؟
- وما المانع من ذلك؟
- المانع أننا ارتقينا؛ وللرقي تكاليف
- وما حظنا من الرقي المقيد بواجبات وفروض؟
- هو حظ عظيم، يا حواء
- وكيف؟
- لأنه يجعل لنا إرادة ذاتية
- ومعنى ذلك إنه يبيحني أن أصارعك فأصرعك؟
(وتصارع آدم وحواء فانصرعت حواء)
- لا تنزعجي من الهزيمة، أيتها الشقية!
- أحب أن أعرف ماذا تأكل حتى صرت أقوى مني
- طعامنا واحد، ولكن الروح مختلف
- يظهر أنك تأكل من شجرة التين
- قوتي الحقيقية ترجع إلي الانتهاء عن أكل شجرة التين، وطاعة الله هي أعظم سلاح يتسلح به الرجال
- والنساء؟
- الطاعة قوة ينتفع بها جميع الخلائق، حتى الشجر والنبات
- نحن إذا خلقنا للمتاعب، فالطاعة لا تتم إلا بجهاد عنيف
- الجهاد الصادق رزق نفيس، يا حواء، ولا يكون إلا بتوفيق، فهو يستحق الشكران
- أتريد أن أجاهد نفسي فأبتعد عن شجرة التين؟
- ليتك تفعلين!
- أسمع يا آدم، فعندي فتوى تنفعك
- أنت تفتين يا حواء؟!
- دع اللجاجة ثم اسمع. . . حدثتني الحية أن النهي عن شجرة التين نهي تنزيه لا نهي تحريم
- وإذن
- وإذن يجوز قرب الشجرة بلا تعرض لغضب الله، وإن تعرضنا للعتاب
- اسمعي يا حواء واعقلي. . . أنا لا أعرف الفرق بين نهى التنزيه ونهى التحريم. إنما أعرف أن الله نهى عن الشجرة، وأعرف أن الطاعة واجبة، وأنا أخشى عواقب العصيان
- قلت لك أن الحية حدثتني. . .
- أنت في نعيم يحتاج إلى حراسة، فاحترسي من الدسائس يا شقية!
- كل شئ جائز، إلا أن تكون في الجنة دسائس، فهذب كلامك يا آدم!
- الدسيسة لا تلاحق غير السعداء بالعيش الطيب والمواهب السامية. وستعرفين يا حواء صدق ما أقول إن استمعت كلام تلك الرقطاء
- قلت لك أن قرب الشجرة لن يعرضنا لغضب الله
- ولا يعرضنا للعتاب؟
- عواقب العتاب هينة، وهو في الأغلب يتوج بالأعتاب
- المهم في نظري أن نقف حيث وقفتنا الإرادة الربانية، بلا تخريج ولا تأويل، فكل خروج على الطاعة يترك في القلب حفرة، والحفرة قد تتحول إلى هاوية، وإذا تذوق المرء أو المرأة طعم الجموح فعلى الأخلاق العفاء
- أنا لا افهم معنى النهى عن شجرة التين، ولها ثمرة معسول
- من حق الله أن ينهى عن الطيبات
- لأي غرض؟
- ليختبر قدرتنا على ضبط النفس، فلا قيمة لترك الأشياء الكريهة، وإنما القيمة في ترك
الأشياء الشهية حين يوجه إليها النهي، ولو عن طريق التنزيه، كما أفتت الحية الباغية
- لا تذكر الحية بسوء أن تكون للمرأة صديقات!
- هل يغيظك أن يكون لي في الجنة رفيقة اسكن إليها من وقت إلى وقت؟ أنت إذن لا تحبني
- احبك حباً لا يطاق، ولهذا الحب عواقب ستعملين أنباءها بعد حين!
- قبلني أن كنت تحبني
- ستقبلك الحية فهي أقرب إليك مني!
(وفي تلك اللحظة سمع فحيح هو دعوة الحية فجرت إليها حواء، وتركت آدم لمصارعة ما في صدره من آراء وأهواء)
فماذا قال آدم لضميره وهو يحاوره تحت السدرة بعد انصراف حواء؟
من كلام شيث نفهم أن آدم زلزل بعد ذلك الحوار، فقد تأهبت نفسه لمناقشة الأوامر والنواهي، وصح عنده أن لكل مسالة وجهين، وان من حقه كمخلوق مفكر أن يدرس ما يعرض لذهنه من حقائق وأباطيل
بدا له أولاً أن الطاعة أفضل، وأن الهيام بالتخريج والتأويل قد يكون من نزغات الشياطين؛ ثم رجع فرجح أن النهي قد يكون ضرباً من الإغراء، فليس بمعقول أن تكون ثمرة التين من الخبائث وهي فيما يظهر طيبة المذاق.
والتفت مرة ثالثة فرأى من الحمق أن يخالف الرجل عن أمر الله من أجل امرأة
ثم عاد فرأى أن تلك المرأة هي رفيقه الأول والأخير في الفردوس، فما ارتاحت نفسه لرؤية الأشجار والأزهار إلا وهو مأهول الروح بهوى حواء
هي امرأة لا تخلو من هوج وطيش وسخف، ولكنها من ذوات المعاني، فقد كانت تعرف كيف تصيره جذوة من الصبوة حين تشاء، وكان آدم لا يتمتع بإشراق الفكر إلا في لحظات الصبوات.
ومن عجيب أمره أنه كان يتمثلها حين تغيب، فقد كانت ذاكرته تعي الأصوات والألوان والحركات إلى الحد الذي يسمح بأن يعانق حواء وبينه وبينها فراسخ وأميال
ولكن. . . ولكن الله نهاه عن الشجرة، فماذا يصنع؟
توجه إلى الله بهذا الدعاء:
(يا خالق الكوثر، ويا فاطر الأعناب والنخيل، بك استجير ُظلم الجمال!
يا مبدع العيون الكحيلة، والخدود الاسيلة، بك استغيث من سحر الفتون!
أنت سويتني بيديك من جسد وروح، وأنا بالروح أطيعك وبالجسد أعصيك، فهل ترى عدالتك أن الحسنات يذهبن السيئات؟
أن كنت ترى أن شجرة التين شجرة مسمومة فاصرف عنها حواء، فلم تعد لي طاقة على مقاومة حواء؛ ولطف صنعتك هو الذي جذبني إلى تلك الهوجاء.
وإن كنت ترى أن الهاوية تترقب من يعصيك فجرد حواء من سحرها الفتان لأملك من أمري ما لا أملك، لأستطيع الصبر عن ثغرها الرشوف، فأنت يا مولاي تعلم أني بها من الهائمين
أنا عبدك وحواء أمتك، فاقض في أمرنا بما تشاء، يا أحكم الحاكمين)
وانتظر أدم أن يغير الله ما بنفسه بعد هذا الدعاء الصادق، ولكن الأقدار سكتت عنه فظل مخلوقا من جسد وروح، أو من طين وماء
وفي لحطة من لحظات الضجر عزم على المعصية ليعرف مكانه من الوجود
في تلك اللحظة ظهرت حواء، فهتف:
- إلى شجرة التين، يا حواء!
- هل غيرت رأيك، يا آدم؟
- بعض الشيء!
- أنت إذن تحبني؟
- ومن أجل هذا الحب أتعرض لمكاره وخوب، فقلبي يحدثني بأننا مقبلون على بلاء!
- لا تحزن فأنا معك
- من موجبات الحزن انك معي، يا حمقاء!
فكيف انتهت بهما الأمور تحت شجرة التين؟
(للحديث شجون)
زكي مبارك
العادات والإصلاح
كيف نعود إلى التشريع الإسلامي
للأستاذ محمد محمد المدني
يشعر كل امرئ منا بأنه خاضع في نفسه، وفي نظام بيئته، وفي دائرة عمله، وفي كل ناحية من نواحي حياته ونشاطه إلى عادات متنوعة تتحكم فيه، وتفرض عليه سلطانها الجبار وإرادتها القاهرة، وتطبعه بطابعها من حيث يريد أو لا يريد.
يشعر كل منا بذلك في نفسه، ويشعر به في الناس من حوله لا فرق فيه بين طبقة وطبقة، ولا بين بيئة وبيئة، ولا يختلف فيه غنى عن فقير، ولا كبير عن صغير، ولا متعلم عن جاهل.
في الطعام والشراب عادات، وفي اللباس والزي عادات، وفي الجلوس إلى الناس والتحدث معهم عادات، وفي البيت عادات، وفي الطريق عادات. . . وهكذا
وإننا لننتهز فرص الأيام والحوادث، والأعياد والمواسم فنتخذ منها مناسبات لعادات شتى نحافظ عليها ولا نتسامح فيها، وربما عددناها من شعائرنا، وحسبناها من تقاليد ديننا!
هذه فطرة في الإنسان لا بد له منها بقطع النظر عن شريف العادات وذميمها. قضت بذلك حكمة العليم الخبير، ليكون الاستقرار والهدوء، ولتتركز شؤون الحياة، ولينجو الناس من الاضطراب والمفاجآت وأخطار التقلب السريع والتطوير العنيف لذلك يجب أن يدخل في حساب كل مصلح ما للعادات من سلطان على النفوس، ورسوخ في الأذهان، واستقرار في المجتمع ولكن بجانب هذه الفطرة في الإنسان طبيعة أخرى هي طبيعة هذه الحياة نفسها، أن الحياة تأبى الركود، ولا يصلح معها الجمود، ولا بد لمن في سبيل الرقي والكمال؛ فإذا ظل الإنسان عبدا لعاداته، رازحا تحت سلطانها، لا يفكر في التحول عن نظامها المفروض قيد شعرة، بل ينقد غيره ويعنف عليه في النقد إذا رآه يفكر في التحويل أو يدعو إليه، ويقف في سبيل دعوات الإصلاح والتجديد لاوياً عنقه، مثيراً المشاكل، فإنه يكون محتقرا لإنسانيته ملغيا لعقله جاهلاً بالحياة وما ينبغي للحياة!
وإذا أصرت طائفة من الناس على أن نصادر دعوات الإصلاح في دائرتها، أو على أن تقف في طريق الحياة العاملة الناصبة المنتجة المجددة في غير دائرتها لمجرد المحافظة
على العادات والتقاليد الموروثة، فقد عرضت نفسها لعوامل الانحلال والفناء.
هي إذن معركة حامية الوطيس بين طبيعتين متقابلتين: طبيعة الخضوع للعادات والتأثر بسلطانها، وطبيعة الحياة التي تطلب إلى كل حي أن يسايرها ويتدرج معها، ولا بد من تدخل العقل للفصل في هذه المعركة ووضع علاج يوجد به التوازن بين هاتين القوتين الضروريتين للإنسان. لا بد أن نزن كل شيء بميزان العقل، وان نسترشد بنور هداه في كل طريق نسلكه، وأن ننزل على حكمة راضين غير متبرمين
في كل أمة دعاة إلى الإصلاح يقفون منها موقف المرشد الناصح، ويعكفون على مشاكلها ليضعوا لها الحلول، وعلى أمراضها ليصفوا لها العلاج
وكثيرا ما يقع بين الناس وبين هؤلاء الدعاة المنادين بمبادئ الإصلاح خلاف، وقد يؤدي هذا الخلاف إلى إثارة المتاعب ووضع العقبات في طريقهم، بل قد يؤدي إلى التشكك في نياتهم وأغراضهم وانصراف النفوس عن دعوتهم. ولست أرى في ذلك شذوذاً، وإنما هو شيء طبيعي، لأن المصلح الداعي إلى الخير يحاول أن يلفت الناس عما ألفوا. يحاول أن ينتزعهم من أحضان عادات حبيبة إلى نفوسهم، عزيزة عليهم. يحاول أن يصادر الأهواء والنزعات وشهوات النفوس، فلا عجب أن تكون دعواته ثقيلة على الأسماع، كثيرة الخصوم والمستهزئين.
وقديما جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب بدين العقل والفطرة والسيادة والعزم والكرامة الإنسانية، فقاوموه ووقفوا في سبيل دعوته استكبارا أن يتركوا ما ألفوا، أو ينخلعوا مما ورثوا، وقالوا: أنا وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون! ولم يقفوا عند هذا الحد بل زعموا انهم لا يدركون ما يقول، وان قلوبهم في أكنة مما يدعو إليه، بل رموه بالكذب والافتراء وهم الذين لقبوه من قبل بالصادق الأمين؛ ورموه بالجنون وهم يعلمون أنه أقواهم عقلاً وأعظمهم رشادا.
هكذا قابل الناس دعوة سيد المصلحين، وبمثل هذه الدعاوي والتهم واجهوه. والتاريخ يحدثنا عن كل مصلح بمثل ما حدثنا به عنه، فكم شرد المصلحون وعذبوا، وكم أوذوا واضطهدوا، وكم قذفوا بالتهم، ودبرت لهم المؤامرات، وحيكت من حولهم الاكاذيب، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين.
لا بد لدعاة الإصلاح إذن من الصبر وتحمل المشاق، ولكن هذا وحده لا يكفي، لا بد إلى جانبه من اللباقة وحسن التصرف وتقدير الظروف والأحوال حق قدرها؛ وإنما يكون ذلك بالتدرج دون الطفرة. لقد تدرج القرآن بالمسلمين من قبل، فكان ينزل أولاً في بيان العقيدة والاستدلال عليها؛ وكان ينزل بمكارم الأخلاق؛ وكان ينزل في الزراية على العادات الذميمة. ثم جعل - بعد أن استقرت الدعوة - ينزل بتشريع الأحكام شيئاً فشيئاً، حتى أن قوله تعالى:(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، لم ينزل إلا في العام الذي توفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يفاجئهم بالدين كاملا قد استوفى جميع مبادئه وأحكامه، ولو فاجأهم بذلك لفشلت دعوته، وقل أنصاره وحماته!
لقد تناولت هذا المعنى في مقال لي قبل اليوم، وإنما أسوقه الآن ليتخذ منه المصلحون عبرة وليعرفوا ما فيه من موضع الأسوة الحسنة، فيتدرجوا بالأمة كما تدرج القرآن
لقد بدأ هذا الدين غريبا، وهاهو ذا يعود غريبا كما بدأ: أصبحت تقاليدنا غير تقاليد الإسلام، وأخلاقنا غير أخلاق الإسلام، وأحكامنا غير أحكام الإسلام، وقوانيننا غير قوانين الإسلام. أصبحنا نحرص على العادات التي ورثناها عن الآباء والأجداد أكثر من حرصنا على الدين. وإن أحدنا ليثور ويتألم إذا حاول محاول أن يصادره في عادة من عاداته، ولا يثور إذا اعتدى معتد على دينه، زاعماً أن للدين ربا يحميه، وما يريد بذلك إلا تبرير سكوته على العدوان وإيثاره للسلامة!
عندما أبطلت عادة الاحتفال بالمحمل انقطعت العلاقة بيننا وبين حكومة الحجاز، وظل حكامنا ووزراؤنا معنيين بهذا الشأن في كل مفاوضة لإعادة هذه العلاقة، حتى إذا نجح وزير من وزرائنا في إعادة الاحتفال بالمحمل وإرسال الكسوة عددنا ذلك ظفراً بتبادل الناس التهنئات بالتوفيق إليه، ولكننا مع هذه الغيرة الشديدة على تقليد من تقاليدنا نرضى بهذه التشريعات المجلوبة، والأوضاع المقلوبة، والنظم المستعارة! نرضى بشرائع فرنسا وبلجيكا ونحن أمة القرآن!
يتساءل الناس: ماذا نصنع لكي نعود إلى أحضان الإسلام ونعمل لمبادئ الإسلام؟ ماذا نصنع ليعود التشريع الإسلامي مصدرا للقانون العام في مصر والشرق؟ ماذا نصنع
لنستظل بلواء القرآن ونهتدي بهدى القرآن؟
والجواب في ذلك عند الذين بيدهم الحول والطول، ولهم الإشراف على مناصب التشريع والتنفيذ في البلاد: إنهم يرونه بعيدا ونراه قريباً. يقولون: ماذا نصنع وقد أصبح للأمة نظام ثابت متركز، وقانون قد ألفه الناس، ووضع اقتصادي قد سرى إلى سائر معاملاتها ولن تستطيع التخلص منه؟ ماذا نصنع وقد ألفنا في الأحكام والقضاء والعقوبات نظاماً معيناً لا تسمح لنا المعاهدات والقيود الدولية بالخروج عنه؟
يقولون هذا، ويردون به دعوة الدعاة إلى هذه الشريعة، وهم يعلمون أن هذه الشريعة لا تجافي أصول المدنية الحديثة، ولا تنفر من مجاراة النهوض والتقدم، وأن مؤتمرات أوربا قد شهدت لها بذلك وسجلته في قراراتها، وأن ما لا يدرك بالطفرة يدرك بالتدرج وحسن التأتي.
لا نقول لكم: اقلبوا التشريع في البلاد رأسا على عقب، ولا نقول لكم فضوا الشركات والمصارف التي تتعامل بغير ما يقضي به الدين فيما بين يوم وليلة، ولا نقول لكم نفذوا ما جاءت به الشريعة الإسلامية في أحكام القضاء والعقوبات دفعة واحدة؛ وإنما نقول لكم تدرجوا بالأمة في سبيل العودة إلى أحكام الإسلام كما تدرج القرآن بالمسلمين من قبل: خذوا في كل قانون تضعونه منذ اليوم، وفي كل تعديل تقررونه، بمبادئ القرآن، ولا بأس من أن تؤجلوا ما لا تقدرون عليه حتى تعدوا النفوس له، وتقنعوا أنفسكم وتقنعوا الناس به. فإنكم إذا بدأتم السير في هذا الطريق تمهد أمامكم وتيسر لكم، ولم تصادموا به تعهدا من تعهداتكم!
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون؟)
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
يحيى النحوي
للدكتور جواد علي
ومن هو يحيى النحوي ذلك العالم الذي يرد اسمه كثيراً في كتب الفلسفة والطب والطبيعيات لدى العرب؟ يرد كمؤلف وكمنتقد لكتب اليونان السابقين، وكطبيب، ويرد كوسيط بين الحضارة اليونانية المسيحية وبين الحضارة العربية الإسلامية فيدخل اسمه بين مؤلفات كثير من علماء المسلمين ويستشهد بأقواله جماعة من أسلافنا العلماء.
قالوا إنه كان يحيى الإسكندراني الأسكلاني تلميذ ساوداي وانه كان أسقفا في بعض الكنائس بمصر ويعتقد مذهب النصارى اليعقوبية، ثم رجع عما يعتقده النصارى في التثليث فاجتمعت الأساقفة وناظرته فغلبهم واستعطفته وآنسته وسألته الرجوع عما هو عليه وترك إظهاره فأقام على ما كان عليه وأبى أن يرجع فأسقطوه وعاش إلى أن فتحت مصر على يد عمرو بن العاص فدخل إليه وأكرمه ورأى له موضعاً. وقد فسر كتب أرسطو طاليس وكتب عن طب جالينوس الشهير.
وقد ذكر الوزير جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف القفطي (المتوفى عام 646هـ) في كتابه أخبار الحكماء نفس القصة التي ذكرها ابن النديم بعد أن أضاف إليها أن عمرو بن العاص لما سمع من ألفاظه الفلسفية وحججه المنطقية التي لم يكن للعرب بها أنسة لازمه وكان لا يكاد يفارقه، وأنه نظراً لهذه الدالة التي كانت ليحيي على عمرو طلب منه ذات يوم تسلم بعض ما في خزائن الإسكندرية من كتب لينتفع بها. ولما كتب عمرو إلى الخليفة يستأذنه أمره الخليفة بإحراق ما في الإسكندرية من كتب.
وذكر الوزير قصة أخرى سندها رواية أبي عبيد الله بن جبريل ابن عبيد الله بن بختيشوع الطبيب في كيفية نبوغ يحيى في الفلسفة والمنطق دون سائر العلوم. وهي قصة وردت في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة أيضاً؛ وسندها كتاب مناقب الأطباء لعبيد الله بن جبريل على ما يقوله صاحبنا ابن أبي أصيبعة هذا، ويضيف إليها رواية نقلها من تعاليق الشيخ أبى سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني في أن يحيى كان في أيام عمرو بن العاص وأنه شهد الفتح الإسلامي لمصر.
وقد عرف اليونان والسريان هذه الشخصية ولكنهم عرفوها في وقت آخر غير الوقت الذي
حدده المسلمون وسموها اسما يختلف قليلا عن هذا الاسم: سموه يوحنا فيلوبونس ومعناه يوحنا الحريص؛ وسموه أيضاً يوحنا الغراماطيقي أي يوحنا النحوي (يحيى) وقالوا عنه: إنه كان أحد تلامذة أمونياس بن هرمياس. وكان يعلم في الإسكندرية نحو السنة 480 الميلادية وانه كان من رجال القرن السادس. وقال عنه ميخائيل إنه ظهر سنة 550 ميلادية وانه اتبع بدعة المثلثين وأنه ألف كتبا يدافع عنها. فلما عرف به الإسكندريون حرموه كما حرمه رؤساء ذلك أديرة بلاد العرب نحو سنة 573 الميلادية. فأنت ترى من ذلك أن الرجل عاش ومات في عصر لم يكن العرب فيه قد فتحوا مصر بعد؛ ولا يعقل أن يكون قد شهد هذا الفتح أيضاً، فكيف السبيل؟
حاول جرجيس أفندي فيلوثاوس عوض من أقباط مصر وحاول الأب لويس شيخو اليسوعي إيجاد حل معقول لهذه المشكلة التاريخية، فقالا: المعقول أن يكون مقصود العرب من يحيى النحوي هو يوحنا النقوي أو النخوي أسقف مدينة نخو، المعروفة عند اليونانيين باسم نيقيوس أو نيكيو وعند اللاتين باسم أو وإن هذا الاشتباه الذي حصل لدى العرب إنما كان من قبيل التصحيف. وتكاد الظروف التي أحاطت بالأسقف يوحنا النخوي تنطبق مع الظروف والتفصيلات التي تنقلها الرواية العربية المذكورة عن يحيى النحوي، فقد ذكر هذا الأسقف في جملة من حوكم أمام سيمون أسقف الإسكندرية الذي ترأس محاكمة أصحاب البدع عام 683 الميلادية وذكر أنه ألف كتابا في التاريخ باللغة اليونانية ذكر فيه فتح العرب لمصر، عرّبه أحد الأقباط ونقل هذا التعريب إلى الحبشية، وتوجد النسخة الحبشية في جملة مخطوطات المتحف البريطاني. وذكر عنه أيضاً أنه كان صديقا موالياً لقورس بطريرك الإسكندرية وزعيم المنوثلين، وهو الذي يدعوه العرب بالمقوقس، وقد ناصرهم في فتح الإسكندرية. فهذه الصداقة على ما يقوله الأب لويس شيخو قربته من العرب وجعلته من أصدقاء عمرو بن العاص.
وهذا الحل لا يخلو من اعتراضات أيضاً. فالمعروف عن يحيى النحوي أنه كان من الأطباء وأنه كان من الفلاسفة أيضاً، وكتبه تدل على رجل عالم بالطب والفلسفة معاً على رجل ديني فحسب كما هو شأن الأسقف يوحنا النخوي. والمعروف عنه أيضاً إنه كان أسقفاً من أساقفة الإسكندرية، ولم يكن النخوي أسقفاً على الإسكندرية أبداً. على أن الإمام
ظهير الدين أبا الحسن علي ابن أبى القاسم زيد البيهقي (المتوفى عام 565 هجرية) يحدثنا في كتابه (تتمة صوان الحكمة) عن رجل يعرف بيحيى النحوي الديلمي الاسكندراني الملقب بالبطريق، فيقول عنه إنه كان من قدماء الحكماء وأنه كان نصرانياً فيلسوفاً، فأراد عامل علي بن أبي طالب إزعاجه عن فارس وتخريب ديره فكتب يحيي قصة إلى أمير المؤمنين وطلب منه الأمان، فكتب محمد ابن الحنفية له كتاب الأمان بأمر أمير المؤمنين. ويقول مؤلف الكتاب أنه رأى نسخة هذا الكتاب في يدي الحكيم أبى الفتوح المستوفي النصراني الطوسي وكان توقيع علي بن أبي طالب عليه.
ويضيف البيهقي على روايات من تقدمه من المؤلفين قوله إن خالد بن يزيد بن معاوية أخذ الطب عنه، وإن أكثر ما أورده الإمام حجة الإسلام الغزالي في تهافت الفلاسفة هو تقرير كلام يحيى النحوي، وقد وافقه على هذا الرأي الشهرزوري الشهير أيضاً وقد قال إنه ألف كتباً ورد بها وفيها على أفلاطون وأرسطو حين همت النصارى بقتله، ولا يتعرض بعد ذلك إلى حادثة التقائه بعمرو ولا إلى قصة الحريق المزعومة.
ومشكلة المشكلات هي قول الرواة العرب إنه كان أسقفاً على الإسكندرية وانه عاش في زمان عمرو. وعلى كل فالرواية اليونانية السريانية تعارض هذه الرواية العربية ولا تعترف به كأسقف على الإسكندرية أبدا. والرواية العربية على ما يظهر مستقاة بعضها من بعض؛ فقصة الحريق مأخوذة عن ابن العبري وابن العبري ينقل عن ابن القفطي، وابن القفطي ينقل متن الرواية بدون ذكر حادثة الحريق من الفهرست لابن النديم؛ ولم يذكر ابن العبري نفسه في كتبه السريانية: الكنيسة منها والمدنية، قصة الحريق مما يدل على إنه لم يجد ذلك في كتب السريان.
الحق أننا أمام مشكلة تاريخية فلسفية عويصة، فالرجل مهم جداً في بحث الفلسفة العربية والعقلية الإسلامية، والموضوع معقد لا يعالج في صفحات. ولابد للباحث من تقليب المصادر اليونانية والسريانية والقبطية والعربية أيضاً للحكم بصورة قطعية على شخصية وعصر هذا الفيلسوف الذي هو حلقة وصل بين العقليتين: العقلية اليونانية المسيحية، والعقلية العربية الإسلامية.
(بغداد)
جواد علي
تطور العلوم الاجتماعية
للأستاذ محمد جلال عبد الحميد
يتبين من تاريخ علم الاجتماع إنه لا يزال في دور التكوين. ولعل سبب ذلك يرجع إلى ما يشوبه من نظريات فلسفية أفسدت عليه استقامة عوده، والى عدم استقرار فروعه وتحديد غايتها واستخلاص طرقها.
فنرى تاريخ الأديان مثلا تتنازعه تيارات كثيرة؛ وعلى حسب اختلاف اتجاه تلك التيارات وقوتها تختلف طريقة البحث ونتيجته. وكثير من مؤرخي الأديان الكبرى كاليهودية والنصرانية والإسلام يرون أن للأديان منشأ واحدا لأنها جميعا تعترف بوجود قوة خالقة واحدة لهذا الكون يشعر بوجودها الإنسان حين النظر في أمر تكوينه والبحث عن آثار تلك القوة الممثلة في وجدانه. أخذ هؤلاء العلماء يردون ويفسرون جميع الظواهر الكونية والاجتماعية والنفسية إلى أصل واحد يحيط بها ويعبر عنها بأسلوب لا يأتيه الباطل ولا يتطرق إليه الشك، وهذا الأصل هو الكتب المقدسة وآثار الأنبياء. من أجل ذلك توفرت جهود المؤرخين على جمع وترتيب شتات هذه الكتب وتلك الآثار، وانكبوا على دراستها ليستخرجوا منها أسباب الحوادث والوقائع التاريخية مفسرين كل هذا حسب ما لديهم من اعتقادات راسخة وإيمان ثابت في صحة روايات ووقائع تلك الكتب والأحاديث.
وهناك فريق آخر - وهم الفلاسفة ومن إليهم - يرى أن نشأة الأديان ترجع في أصلها إلى عوامل نفسية لما فطر عليه الإنسان من حب ولما تكون فيه من غرائز، وإن هذين العاملين يتنازعان القوى الروحية للإنسان، وعلى قدر تغلب أحد هذين العاملين على الآخر تتعين طبيعة الدين وقوته. فالدين عند الأمم المحدودة المدنية مثلا هو دين غريزي، لأن أصله غريزة الخوف والتنازع على البقاء. وقد نعته (برجسن) بأنه دين خامد لخلوه من عناصر التطور والتجدد. وأما الأديان الكبيرة كاليهودية والنصرانية والإسلام والبرهمية فإنها تصدر عن عاطفة الحب التي يتميز بها الصوفي في تلك الأديان. ومن أجل ذلك اعتبر موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام أنبياء لتميزهم بحبهم الخالص للعالم كله، وتفانيهم في العمل من أجل سعادته، وقدرتهم على الإشراق والتقمص في قوة الكون ذاتها، ليمثلوها في أجلى مظاهرها وأتم معانيها من خلق وتجديد، وهذه هي الأديان (المتطورة)
ولكن علماء الاجتماع لم يرضهم هذا الرأي أو ذاك، لأن العوامل النفسية والاعتقاد بوجود قوة خالقة ومدبرة لهذا الكون لا يمكن اعتبارها أساساً ومصدراً للأديان، فهناك أديان كبيرة كالبرهمية والبوذية - نشأت وانتشرت ولم تزل تعم جزءا كبيراً من العالم، على رغم إنها خالية من مثل هذا الاعتقاد. ونرى أيضاً أن هناك أدياناً متعددة عند الأمم المحدودة المدنية
- كالقبائل الأسترالية والزنجية وغيرها - لها أوضاع وأسس تشبه في كثير من ظواهرها الأديان الكبيرة، لأنها قادرة على التمييز بين الحلال والحرام وأمر القيام بعبادات منظمة؛ وهذه الأديان أيضاً لم تقم ولم تحدد بمثل ما تتقيد به النصرانية أو الإسلام من ضرورة الشعور بوجود هذه القوة الذاتية؛ وكما إنها لا تشعر الفرد بأن هناك قوة روحية كامنة في الإنسان وخارقة للعادة تدفع الزنجي أو الأسترالي إلى حب غير بني جنسه كما يعمل الصوفي في اليهودية أو النصرانية. فالزنجي أو الأسترالي يتقرب لأبناء جنسه ويفنى فيهم لأنه لا يرى سواهم حوله، فقبيلته هي كل شيء كذلك حين يقدس هذا الزنجي معبوده (أي توتمه) ويفنى فيه بحبه له، يفعل ذلك، بل وأكثر من ذلك، لأن معبوده هو رمز قبيلته، وأن الفرد والقبيلة هما وحدة لا تتجزأ. وأما الصوفي فحبه الشامل للكون وتفانيه في القوة الخافقة له، لأنه مجبر على الإحساس - دون وعي لحالته - بهذا الشعور، لأن الجماعة التي يعيش فيها تلهمه ضرورة حب غيره من عامة البشر، بل وحب الكون عامة، لأن هذه الجماعة هي خلاصة العناصر المادية والروحية للإنسانية كلها، ولأنها رمز قوة الكون، لذلك كان هم الصوفي أن يسعى ليفنى في هذه القوة ذاتها.
من أجل ذلك يقرر علماء الاجتماع أنه إذا فرض واعتبرت الجماعة البشرية مصدر الأديان مهما اختلفت عصورها وتباينت بيئاتها فقد يكون في ذلك حالة أدعى للطمأنينة وأدنى للصواب حين يعمل الإنسان لكشف حقيقة الأديان وتحليلها إلى عناصرها الأساسية، وفي هذا الاتجاه سار إميل دركيم وتلامذته بفرنسا.
وهذه وإن كانت محاولة جريئة قد تهيئ لنا مجالا أوسع للبحث والتنقيب عن أصل كثير من الظواهر الدينية ومعتقداتنا وأساس إيماننا.
ولم يكن حظ الجغرافيا البشرية أوفر من حظ علم تاريخ الأديان من حيث القدرة على استخلاص قوانينها العامة والاسترسال في تحقيقها. فكثير من الجغرافيين يرون أن البيئة
الاجتماعية - بما فيها من تنوع في النشاط المادي والروحي - هي نتيجة حتمية للتأثيرات والعوامل الطبيعية للمنطقة التي تشغلها تلك البيئة الاجتماعية؛ فإذا أينعت الأرض وعم خيرها وصلح جوها شبعت الجماعة وكثر نشاطها وعم فرحها وتنوعت ظواهرها الاجتماعية وتميزت عناصرها الجنسية.
وهناك فريق آخر من العلماء يقولون إن غاية علم الجغرافيا البشرية هي دراسة العلاقة بين الإنسان وبين البيئة الجغرافية التي يسكنها وأثر كل منهما في الآخر وتحديد ما يتركه هذا الأثر في التكوين الاجتماعي. ويظهر أن هذا هو الرأي الأخير الذي استقر عليه عامة الجغرافيين والاجتماعيين.
وأما علم الأنتولوجيا فإنه لم ينج أيضاً من تلك العقبات الموضعية عند نشأته، فقد اعتبره (كترفاج) أحد فروع الزيولوجيا وجاء بعده (بروكا) وتلامذته (أرنست هامي)(وفرنو) فتوسعوا في فهم هذا العلم ووضعوا أسسه المختلفة، فضموا إليه دراسة المدنيات واللغات، وتسابقت الدول بعد ذلك في إدخال تعديلات وزيادات في مناهجه وأسسه كل منها حسب فهمها له والغاية التي ترجوها منه؛ فبعض هذه الدول كان يتخذه أداة صالحة للاستعمار، وبعضها الآخر يتناوله على أنه علم قائم بذاته له تجارية وأوضاعه؛ وغنى به كثيراً في الفترة الأخيرة في ألمانيا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا.
وهكذا حال بقية العلوم الاجتماعية الأخرى مثل علم النفس الاجتماعي وعلم الاقتصادي الاجتماعي وغيرهما لم تكن أثبت وأدعى للطمأنينة فيما سبق من العلوم، لأن ميادين تجاربها لم تتعين إلا قليلا ولم يتنوع العمل فيها إلا يسيرا
وبرغم هذا فإن تطور علم الاجتماع وبلوغه الدرجة التي يقف عندها الآن مدين في كثير منه إلى تلك العلوم، لأنها عملت وما زالت تتعاون فيما بينها على كشف حقيقة عدد قليل من الظواهر الاجتماعية والدينية والاقتصادية. وكثيرا ما استفاد إميل دركيم من البحوث الأثنولوجية التي قام بها (سبنسر وجلن) & على قبائل استراليا؛ وذلك حينما حاول دركيم عام 1912 تفسير الظواهر الدينية لدى الأمم المحدودة المدنية. ونرى كذلك (ليفي برهل) - يرجع دائما إلى نتائج البحوث الأثنولوجية حينما يريد أن يحدد ويحلل عناصر التفكير ووسائل التعبير عنه لدى الأممالمحدودة المدنية. وتجد أيضاً (ومرجان)(ووستر مارك)
(ومارسل موس) وغيرهم من الاجتماعيين لم يتمكنوا من التقدم خطوة واحدة في بحوثهم وتحقيق نتائجها دون الرجوع إلى بحوث الأثنحرافيين.
وإذا أنعمنا النظر يظهر لنا الفرق الحقيقي بين العلوم الاجتماعية من حيث فائدتها لعلم الاجتماع؛ فالأتنولوجيا هو الطريق المباشر الذي يسلكه الاجتماعي للبحث عن اصل كثير من الظواهر الاجتماعية والدينية والاقتصادية بل والمبادئ العلمية نفسها؛ لأننا لم نزل نشاهد في كثير من بقاع الأرض أمماً وقبائل تتبع في طريقة عيشتها وسائل بسيطة، وتتبع في التعبير عن تفكيرها وشعورها صوراً متناهية في البساطة إلى درجة يمكن اعتبارها إحدى صور الحياة والتفكير للأمم التي سكنت أوربا وغيرها في عصور ما قبل التاريخ. فهي صور خالية من التعقيد والتنوع اللذين تمتاز بهما حياة الأمم الراقية. وإن البحث عن أصل تلك الظواهر وكيفية نشأتها وطريقة تكوينها ثم العناية بترتيبها وتبويبها بطريقة علمية منظمة هو غاية الأثنولوجي؛ وبعمله هذا يكون ثروة علمية لا تفنى لدى العالم الاجتماعي.
وسنبحث في الكلمة القادمة عن أهمية البحوث الأثنولوجية بحوض النيل والعمل على تنظيم تلك البحوث وإدخالها ضمن التعليم العالي بمصر.
محمد جلال عبد الحميد
صور من العصر العباسي
عشق القيان
للأستاذ صلاح الدين المنجد
كان للقيان في العصر العباسي الشأن العظيم والمنزلة العليا. ولم تشغل الحرائر ما شغلته القيان في الأدب والتاريخ والاجتماع، ولم يكن لهن ما كان لأولاء من أثر في تهذيب النفوس وصقل الطباع وانتشار المجانات؛ إلا من أوتيت منهن الإمارة والجاه والسلطان، شبيهات علية وزبيدة والعباسة والخيزران.
وقد خلا الأدب من صور المخدرات، ولكنه رف بكثير من صور هؤلاء الجاريات؛ ففيه عنهن أشاوى حسان، وأحاديث ظراف، وأوصاف بارعات
ولم تبلغ القيان هذه الرفعة وتلك المنزلة إلا بعد الجد والجهد، والتعليم والتلقين، والصقل والتهذيب؛ فكن يتخرجن على المغنين الكبار أشباه الموصلي وابن المهدي، ويحذقن العزف والضرب، ويتفقهن في العربية، يحفظن نوادر الأحاديث وفرائد اللغة، وأمالي المجالس وشوارد الأشعار؛ ثم يبر في إظهار الأناثة والدل، حتى تصبح الفينة مصدر غواية وفتون، ومثار دعابة وفجور، وبهجة الأرواح ومنية النفوس؛ فلا غرو إن أقبل عليهن الشيخان والشبان، ولا عجب إن هن أتقن فن العشق وأصابت سهامهن قلوب الأبعاد والأحباب.
وقد ألفوا عنهن رسائل حسانا، منها رسالة القيان للجاحظ، وكتاب القينات لإسحاق بن إبراهيم الموصلي، وكتاب القينات للمدائني، وكتاب القينات ليونس بن سليمان المغنى، وغيرهن كثار.
على إنه لم يصل إلينا من هذه الرسائل كلها غير رسالة الجاحظ التي ذكر فيها الكثير من أحوال القيان وطبائعهن وميولهن وأخلاقهن وطرقهن في الإغواء. وقد خصهن أبو الطيب الوشاء في كتابه (الموشى) بفصل ممتع عن عشقهن وغرامهن، زاد فيه على ما ذكره الجاحظ وأفاد.
وقد لا تجد في أدبنا العربي صفحة أكثر متوعاً وأبرع وصفاً وأشد دقة من وصف الجاحظ والوشاء لعشق القيان، والحيل التي يتبعنها لاستمالة الشبان، والسبل التي يسلكنها لطردهم إذا نفذت دنانيرهم وأفلسوا. فلقد بلغا في وصفهما الذروة التي لا تسامي، والغاية التي لا
تدانى.
لا جرم أن الجاحظ كان أسبق إلى وصف ذلك، ولكنه أجمل وأوجز؛ أما الوشاء فلم يتعد ما قاله الجاحظ إلا قليلاً ولكنه شرح وفصل
والمهم في وصف عشق القيان أن الكاتبين أبانا فيه عن عواطف كامنات، وحيل مكنونات، وطرق مغريات، حتى تشعر وأنت تقرأ أنك اليوم بين يدي غانية من غواني الحانات اللواتي تخرجن في الفتنة والإغواء
فقد قرروا أن القينة لا تكاد تخلص في عشقها، أو تناصح في ودها، لأنها مجبولة على نصب الحبالات والشراك للمتربطين ليقعوا في أنشوطتها. ذلك لأن حبهن كلهن كذوب، وعشقهن متبدل غير ثابت. فهو لطمع وغرض، ولذا كن يقصدن أهل النشب واليسار، ويصدفن عن ذوي الإقتار.
وكان من عادة القينة إذا رأت في مجلس فتى له غنى وكثرة مال وحسن حال، أن تميل إليه لتخدعه؛ فتمنحه بادئ بدء نظرها، وغمزته بطرفها، وأشارت إليه بكفها، وداعبته بالتبسم، وغازلته بأشعار الغناء، فغنت على كاساته، ومالت إلى مرضاته، ثم تظهر الشوق إلى طول مكثه، والميل إلى سرعة عوده؛ حتى توقع المسكين في حبالها، وتعلق قلبه بحبها، وتطعمه في قربها ثم تحزن لزواجه، وتبكي لفراقه، وتكاتبه تشكو إليه هواها، وتقسم له إنه ضميرها في ليلها ونهارها، وأنها لا تريد سواه، ولا تؤثر أحداً على هواه، ولا تنوي انحرافاً عنه؛ ثم تعزز ذلك بالرسل، وتخبره عن سهرها، وتنبئه عن فكرها، وتشكو إليها القلق، وتخبره بالأرق، وتبعث إليه بخاتمها وفضلة من شعرها، وقلامة من ظفرها، وقطعة من مسواكها، ولبان قد جعلته عوضا من قبلتها، وكتاب قد نمقته بظرفها، ونقطت عليه قطرات من دمعها، وضمنته الشوق والشكوى، وسألته المواتاة على حبها. . . وربما منحته من ريحانها، وأهدت إليه في النيروز سكراً وفي المهرجان خاتماً، وأخبرته إنها لا تمل الدموع إذا غاب، ولا ذكرته إلا تنغصت، ولا هتفت باسمه إلا ارتاعت. . . فلا يشك المسكين في إخلاص حبها، فيميل إليها بوده. . . حتى إذا رأت إنها حوت عقله، وصارت شغله، واستمالت لبه، وسلبت قلبه، وعلمت أنه غريق في بحر حبها. . . أخذت في طلب الهدايا، فتشهت الثياب والأزر والأردية والعمائم والتكك والخفاف. والعصائب المرصعة،
وخواتيم الياقوت، ثم تمارضت من غير سقم، وتعالجت من غير حاجة منها إلى الدواء لتجيئها هدايا ذوي الوجد، من القمص المعنبرة، والغلائل الممسكة، والأردية المرشوشة، ومخانق الكافور، والمسك الأذفر، والعنبر الأشهب، والعود الهندي، والماورد الجوري، والفراريج، والجداء الرضع، والدجاج الفائق، والفراخ المسمنة، والفاكهة والرياحين؛ يتبعها صنوف من الشراب: من العسل والمطبوخ والمشمس، ثم تلحقها الدنانير والدراهم، فلا تزال في هدايا متواترة، وألطاف متتابعة. حتى إذا نفد اليسار وذهب الإكثار، وأتلف المال وجاء الإقلال، وأحست بالإفلاس. . . أظهرت الملل، وتبرمت بكلامه، وضجرت بسلامه، وتفقدت منه الزلل، وتتبعت عليه سقطاته، وأخذت في الجفاء والعتاب والقلى والإبعاد، وصرفت عنها هواه ومالت إلى سواه، فحينئذ يدرك المغرور الندم والأسف.
ولقد كانت القيان ينظرن إلى المال، وكن يحتملن القبح والشيب مع اليسار ويكرهنهما مع الفقر. وهذا شأن الحسان كلهن. . . (فليس للفقر مع الحب عمل)
وربما اجتمع عند القينة من مربوطيها ثلاثة أو أربعة، وعندئذ يتحامون الاجتماع، ويتغايرون عند الالتقاء، فتبكي لواحد بعين، وتضحك للآخر بالأخرى، وتغمز هذا بذاك، وتعطي واحدا سرها، والآخر علانيتها، وتوهم أنها له دون الآخر، وتكتب لهم عند الانصراف كتبا على نسخة واحدة تذكر لكل واحد منهم تبرمها بالباقين وحرصها على الخلوة به دونهم جميعاً.
وبعد، فما رأيت ابرع، ولا أحسن، ولا أرق، ولا أملح، ولا أنفذ في العواطف، ولا أكسب للقلوب من هذا الوصف. حتى لتحسب أنك أمام عالم نفسي لا يدع غمزة ولا إشارة ولا عاطفة ولا حيلة إلا أحصاها. وليت شعري أكان الجاحظ والوشاء عاشقين للقيان لقيا في سبيلهما الجهد والعناء، فثأرا منهن بهذا الوصف؟ وكأني بالجاحظ (وهو الذي عابوه بملك القيان) قد تيمه هواهن، وأذبل غصنه حبهن. . . أو أنه رأى عن قرب ما كن يصنعن.
فقال: (ولو لم يكن لإبليس شرك يقتل به ولا علم يدعو إليه ولا فتنة يستهوي بها إلا القيان لكفاه) ثم يستدرك فيقول (وليس هذا بذم لهن، ولكنه من فرط المدح، وليس يحسن هاروت وماروت، وعصا موسى وسحرة فرعون، إلا دون ما يحسن)
على أن الجاحظ إذا قسا عليهن فقد اتخذ لهن أعذاراً. قال: (وكيف تسلم القينة من الفتنة، أو
يمكنها أن تكون عفيفة، وإنما تكتسب الأهواء، وتتعلم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهي تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها بما يصد عن ذكر الله من لهو الحديث وصنوف اللعب والأخابيث، وبين الخلعاء والمجان، وتروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوت فصاعداً؛ يكون الصوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات، إذا ضرب بعضه ببعض يكون عشرة آلاف بيت ليس فيها ذكر الله إلا عن غفلة، ولا ترهيب عن عقاب، ولا ترغيب في ثواب، وإنما بنيت كلها على ذكر الزنا والقيادة والعشق والصبوة والشوق والغلمة؛ ثم لا تنفك من الدراسة لصناعتها، منكبة عليها، تأخذ من المطارحين الذين طرحهم كله تجميش، وإنشادهم مراودة، وهي مضطرة إلى ذلك في صناعتها، لأنها إن جفتها تفلتت، وإن أهملتها نقصت، وإن لم تستفد منها وقفت).
تلك صفحة من أدبنا العربي ما أحسب إنها تقل عن أدب كبار الوصافين والنفسيين في الغرب، لأنها صورة حية تشيع منها القوة والصدق، ما نزال نراها كل يوم.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
في الفلسفة الإسلامية
3 -
إخوان الصفاء
للأستاذ عمر الدسوقي
رسائلهم
هي موسوعة ضمت بين دفتيها مبادئ العلوم التي كانت معروفة في البلاد العربية حتى القرن الرابع الهجري، ولاسيما تلك التي ترجمت من اليونانية. وقد اعترف إخوان الصفاء بأنهم ألفوها كنماذج ومقدمات للعلوم فلم يتوسعوا في بسط قضاياها. ويقولون في ذلك:(قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الآداب وغرائب العلوم وطرائف الحكم، كل واحدة منها شبه المدخل والمقدمات والأنموذج).
ويظهر أنهم ألفوها للإخوان الأبرار الذين هم أولى طبقات هذه الجماعة، ولم يقتصروا فيها على مبادئ الفلسفة والعلم، وإنما خلطوها بكثير من الخرافات والأساطير؛ وحاولوا أن يوفقوا بين الدين والفلسفة محاولين أن يجدوا من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية ما يؤيد نظريات أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وغيرهم. وخير ما قيل في وصفها رأى أبى حيان التوحيدي:(هي مبثوثة من كل فن بلا إشباع ولا كفاية، وهي خرافات وكتابات وتلفيقات وتلزيقات) وذلك أنهم قالوا: (إن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية)؛ وزعموا: (أنه متى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية والشريعة الإسلامية فقد حصل الكمال)؛ وحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية، والأمثال الشرعية، والحروف المحتملة، والطرق المهملة.
والواقع يثبت رأي أبى حيان، فالرسائل لا تعمق فيها، ولا نظام يربط بين فصولها، وفيها تكرار وحشو. وعندي أن الرسائل كانت بمثابة موسوعة تبسط فيها المسائل الفلسفية الأولية بأسلوب يوافق عقلية العامة. وحتى لا ينفر هؤلاء من الفلسفة أخذ مؤلفوها يستشهدون بالآيات والأحاديث الكريمة وبأقوال من التوراة والإنجيل، وينسبون أشياء إلى نوح وإبراهيم وعيسى، ويروون قصصاً وأساطير إذا حاولوا البرهنة على مسألة من المسائل
بدلاً من استعمال الأسلوب المنطقي الفلسفي. خذ مثلاً محاولتهم البرهنة على خلود النفس فإنك لا ترى سوى أساطير تحكي عن الأنبياء وآل البيت وسقراط وإبراهيم ونوح وأفلاطون وأرسطو وفيثاغور وما قاله كل منهم وما عمله كل. وتخرج من هذا الموضوع إذا بحثته بحثاً علمياً كما ابتدأت فيه دون أن تقتنع، ولكن عقلية العامة يوافقها هذا الأسلوب تماما.
هذا وقد وضع الإخوان لرسائلهم مقدمة أشبه بالفهرست بينوا فيها بإيجاز عدد الرسائل والموضوعات التي تعرض لها بحثهم: (وهذه فهرست رسائل إخوان الصفا، وخلان الوفا، وأهل العدل، وأبناء الحمد، يجمل معانيها وماهية أغراضهم فيها: وهي اثنتان وخمسون رسالة في فنون العلم وغرائب الحكم وطرائف الآداب وحقائق المعاني من كلام الخلصاء الصوفية، صان الله قدرهم وحرسهم حيث كانوا في البلاد؛ وهي مقسومة على أربعة أقسام: فمنها رياضية تعليمية، ومنها جسمانية طبيعية، ومنها نفسانية عقلية، ومنها ناموسية إلهية). ثم أخذوا يبينون موضوع كل قسم: فالرياضيات تشمل العدد والهندسة والموسيقى والفلك والصنائع والمنطق بمقولاته وعباراته وبراهينه؛ والطبيعيات يتكلمون فيها على الهيولي والصورة والسماء والعالم والكون والفساد وكيفية تكوين المعادن وفي النبات والحيوان؛ والرسائل النفسانية تبحث في المبادئ العقلية وفي البعث والصور والنشور والقيامة؛ والإلهية تبحث في الآراء والمذاهب، وبيان اعتقاد إخوان الصفاء وكيفية أنواع السياسات وماهية السحر والعزائم. ويختمونها بالرسالة الجامعة التي لم تصل إلينا والتي كشف فيها كما يقولون عن كثير من الرموز والكنايات التي امتلأت بها رسائلهم: (وتليها الرسالة الجامعة. . . . . . المشتملة على حقائقها بأسرارها. . . إذ هذه الرسائل كلها كالمقدمات لها والمدخل إليها والأدلة عليها والأنموذج منها. . . وهي منتهى الغرض لما قدمناه.
ومثلهم في ذلك - على حد تعبيرهم - كمثل بستاني له حديقة لم تر العين مثلها حسناً وإبداعاً، وأراد لكرمه أن يدعو الناس إليها والتمتع بما فيها، فأخذ نماذج من أزهارها ورياحينها وفاكهتها ووقف أمام بابها يعرضها على الناس، حتى إذا تذوقوها وعرفوا مزاياها واشتاقت نفوسهم لدخول البستان أفسح لهم الطريق كي يتمتعوا ما شاءوا ويتلذذوا ويطربوا.
ويختم إخوان الصفاء كل رسالة بنصيحة للأخ البار الرحيم حتى يتفهم غرضها ويعرف أسرارها. ثم إنهم كانوا يكثرون من القصص على لسان الحيوان، ويدلون بأشياء لو صرحوا بها لفضح أمرهم وانكشف سترهم. ومهما يكن الأمر فرسائلهم سهلة الأسلوب خالية من السجع والمحسنات البديعية، واضحة العبارة أحياناً، غامضة في الغالب من حيث المقصد والغاية. وقد ذكرنا في المقدمة أن الغرض من تأليفهم هذه الرسائل بث تعاليمهم السرية وإيجاد طبقة من الشعب مثقفة تقود الرأي العام إلى أغراضهم السياسية وهي قلب نظام الدولة.
آراؤهم الخيالية
لا نريد أن نتعرض في هذا البحث إلى كل ما تناوله إخوان الصفا في رسائلهم من خرافات، وإنما الذي يهمنا أن نضرب أمثلة على إغراقهم في الخيال أحياناً. فأنت تراهم مثلا في رسالة العدد، وعلى العموم في الرياضيات يتبعون الفيثاغوريين، فلا يهتمون في البحث في علم الحساب كما يهتمون بتبيان خواص الأعداد والكلام عن موسيقى الأفلاك. . . الخ؛ وهاك مثلاً على ذلك:(اعلم بأن كون العدد أربع مراتب آحاد وعشرات ومئات وألوف ليس أمرا ضروريا لازما لطبيعة العدد، ولكنه أمر وضعي رتبته الحكماء باختيار منهم، وإنما فعلوا ذلك لتكون الأمور العددية مطابقة لمراتب الأمور الطبيعية، وذلك أن الأمور الطبيعية أكثرها جعلها الباري والبرودة جل ثناؤه مربعات منها: الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومثل: الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ومثل الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والصفراء والسوداء، ومثل الأزمان الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء، ومثل الجهات الأربع. . . الخ)
والواحد من الأعداد هو أصل كل الأعداد، وعنه تصدر بالتكرار ويذهبون مذهب الفيثاغوريين في ذلك وهو أن الواحد أصل الوجود وإن حاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة: (واعلم أن الباري جل ثناؤه أول شيء اخترعه وأبدعه من نوره جوهر بسيط يقال له العقل الفعال كما أنشأ الاثنين من الواحد بالتكرار، ثم أنشأ النفس الكلية الفلكية من العقل، كما أنشأ الثلاثة بزيادة الواحد على الاثنين؛ ثم أنشأ الهيولي الأولى من حركة النفس كما أنشأ
الأربعة بزيادة الواحد على الثلاثة. ثم أنشأ سائر الخلائق من الهيولي ورتبها بتوسط العقل والنفس؛ كما أنشأ سائر العدد من الأربعة بإضافة ما قبلها إليها) ومن ذلك قولهم: (إن منفعة الشكل المتسع تسهيل الولادة إذا كتب على خزفين لم يصبهما الماء وعلقتهما المرأة التي ضربها الطلق)
ويقولون في نشأة علم الفلك: (إن هرمس المثلث الحكمة وهو إدريس النبي عليه السلام صعد إلى فلك زحل ودار معه ثلاثين سنة حتى شاهد جميع أحوال الفلك؛ ثم نزل إلى الأرض فخبر الناس بعلم النجوم، قال تعالى (ورفعناه مكاناً علياً). ويعتقدون بتأثير الكواكب في السعد والنحس (الكواكب السبعة السيارة اثنان منها نيران، واثنان منها سعدان، واثنان نحسان، وواحد ممتزج. أما النيران فالشمس والقمر، والسعدان المشتري والزهرة، والنحسان زحل والمريخ، وأما الممتزج فعطارد)
وأكثر من ذلك خرفة قولهم: (اعلم يا أخي أن كواكب الفلك هم ملائكة الله وملوك السموات، خلقهم الله تعالى لعمارة عالمه وتدبير خلائقه وسياسة بريته، وهم خلفاء الله في أفلاكه، كما أن ملوك الأرض هم خلفاء الله في أرضه) ويعتقدون أن لحركات الأفلاك والكواكب نغمات وألحاناً طيبة لذيذة مفرحة لنفوس أهلها الذين هم الملائكة؛ فإن قال قائل: (لابد إذا أن يكون لهم شم وذوق ولمس) قلنا: (إن هذه حاجة التسبيح، الآكل للطعام والشارب للشراب؛ أما هم فغذاؤهم التسبيح، وشرابهم التهليل، وفاكهتهم الفكر والروية واللذة والفرح. . . ويقال إن فيثاغور الحكيم سمع بصفاء جوهره وذكاء قلبه نغمات الأفلاك والكواكب، فاستخرج بجودة فطرته أصل الموسيقى ونغمات الأفلاك، وهو أول من تكلم في هذا العلم). ولولا خليفة الإطالة لذكرت كثيرا من هذه الآراء الخرافية، وحسبك أن تقرأ رسالة السحر والطلاسم والتعاويذ، وكيف يحاولون معرفة الجنين وقدوم الرسول ومعرفة الكتاب قبل فضه واللص وماذا سرق ومعرفة الحروب وأسبابها. . . الخ
مراتب الوجود:
(اعلم يا أخي أن الله تعالى لما كان تام الوجود كامل الفضائل ملماً بالكائنات قبل كونها، قادراً على إيجادها متى شاء لم يكن من الحكمة أن يحدث تلك الفضائل في ذاته، فلا يجود بها ولا يفيضها؛ فإذا بواجب الحكمة أفاض الجود والفضائل منه كما يفيض من عين
الشمس النور والضياء)
وقد استمر هذا الفيض فنشأ عنه العالم، وأنت ترى أنهم يأخذون بنظرية الفيض التي ابتدعها الأفلاطونية الحديثة، وأنهم يقولون بالعناية الإلهية التي وضحها ابن سينا فيما بعد بقوله:(لما كان المبدع الأول يعلم ذاته ويعلم لذلك نظام الخير في الوجود المطلق كان علة للخير والكمال اللذين فاضا على الوجود عندما فاض الوجود نفسه، فانتقل بذلك نظام الخير إلى العالم بحسب القدر الممكن لهذا العالم)
والعالم عندهم على الترتيب الآتي:
1 -
العقل الفعال: وهو جوهر بسيط روحاني أبسط من النفس وأشرف منها قابل لتأييد الباري تعالى علام بالفعل.
2 -
النفس الكلية: وهي جوهرة بسيطة روحانية علامة بالقوة فعالة بالطبع قابلة فضائل العقل بلا زمان، فعالة في الهيولي بالتحريك لها؟
3 -
الهيولي الأولى: وهي جوهرة بسيطة روحانية معقولة غير علامة ولا فعالة بل قابلة آثار النفس بالزمان منفعلة لها.
4 -
الطبيعة الفاعلة: وهي قوة من قوى النفس الكلية سارية في جميع الأجسام محركة مدبرة لها وتسمى النفوس الجزئية أو الملائكة.
5 -
الجسم المطلق: ذو الطول والعرض والعمق وهو الهيولي الثانية.
6 -
عالم الأفلاك: وسنتكلم عليه بالتفصيل فيما بعد.
7 -
العناصر السفلى: كالنار والهواء والماء والأرض.
8 -
المعادن والنبات والحيوان المكون من العناصر السابقة. وقد فاضت كلها من الله، ولكن وقف الفيض بعد الجسم المطلق الذي لم يفض منه جوهر آخر لنقصان رتبته عن الجواهر الروحانية.
عالم الأفلاك:
الأفلاك أجسام كرية شفافة مجوفة، وهي تسعة أفلاك مركبة بعضها في جوف بعض كحلقة البصلة، وهناك كرتان ليستا من الأفلاك، وهما كرة الهواء وكرة الأرض، فيكون المجموع إحدى عشرة كرة. وتقع الشمس في الوسط، وفوقها خمس كرات وتحتها خمس؛ فالتي فوقها
على الترتيب. . . كرة المريخ، المشتري، زحل، الكواكب الثابتة، ثم فلك المحيط، والتي تحتها على الترتيب. . . الزهرة وعطارد، والقمر، ثم كرة الهواء، ثم كرة الأرض التي هي المركز، وليست مجوفة ولكن متخلخلة.
والشكل الكري أفضل الأشكال كلها، وحركته تامة، وأفضل الحركات. والفلك المحيط ألطف الأجسام وأشدها روحانية وأشفها نوراً لقربه من الهيولي الأولى. والأرض أغلظ الأجسام كلها وأشدها ظلمة لبعدها عن الفلك المحيط. والقمر هو السماء الأولى وعطارد السماء الثانية وهكذا حتى تنتهي من السموات السبع التي آخرها زحل. أما فلك الكواكب الثابتة فهو الكرسي الذي وسع السموات والأرض، والفلك المحيط هو العرش العظيم الذي يحمله يومئذ ثمانية.
هل قالوا بالنشوء والارتقاء؟
ذهب بعض الباحثين إلى أن إخوان الصفا كانوا يقولون بنظرية النشوء والارتقاء. والواقع أنهم كانوا بعيدين كل البعد عن هذا، بيد أن لهم نظرية خاصة في تدرج الأجسام المولدة: (واعلم يا أخي بأن أول مرتبة الحيوان متصل بآخر مرتبة النبات، وآخر مرتبة الحيوان متصل بأول مرتبة الإنسان، كما أن أول مرتبة المعدنية متصل بالتراب والماء. فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط كالحلزون والديدان التي تتكون في الطين وقعر النهر. . .
فهذا النوع حيوان نباتي لأن جسمه ينبت كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه. ولما كان جسمه يتحرك حركة اختيارية كان حيوانا. (أما رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسان فليست من وجه واحد، ولكن من عدة وجوه، فمنها ما قارب رتبة الإنسان بصورة جسده كالقرد، ومنها ما قاربها بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثير من أخلاقه، ومنها كالطائر الإنساني أيضاً، ومثل الفيل في ذكائه، وكالببغاء والهزار ونحوهما، ومنها النحل اللطيف الصنائع. . . إلى ما شاكل هذه الأجناس. فهذه الحيوانات في آخر مرتبة الحيوان مما يلي رتبة الإنسان لما يظهر فيها من الفضائل الإنسانية)
ولاشك أن هذه النظرية بعيدة كل البعد عن مذهب النشوء والارتقاء الحديث، إذ جعلوا الفيل والنحل والطائر قريبة الشبه بالإنسان وفي أعلى مراتب الحيوان. ولعلنا إذا أخذنا
رأيهم من الناحية العضوية البيولوجية توجد عندما شبهة للقول بمذهب النشوء، فالحلزون حيوان نباتي، والقرد قريب للإنسان جسمياً. ولكن حتى مع هذا لم يقل إخوان الصفا بأن الإنسان هو والقرد متفرعان من أرومة واحدة. وهم يعتقدون أن النبات متقدم في الوجود على الحيوان لأنه غذاء له، والحيوان متقدم على الإنسان لأن وجوده لخدمته ومنفعته.
(يتبع)
عمر الدسوقي
مدير كلية المقاصد الإسلامية ببيروت
26 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الثامن - عادات المجتمع العامة
للطبقة المهذبة تحيات وتهنئات أخرى متكلفة تتبع السلام. كما أن هناك عبارات خاصة للرد على أكثرها أو عبارتين أو أكثر قد تستعملان في بعض الأحوال. غير أن الرد الذي لم تلزمه العادة قد يعتبر دليلاً على الجهل أو الخساسة. وعندما يسأل رجل صديقه (كيف صحتك) يجيبه الآخر (الحمد لله) ويستدل المستفهم باللهجة التي يرد بها الآخر إذا كان صديقه معافى أو مريضاً، وعندما يقول الواحد للآخر (طيبين) يجيب الآخر عادة (الله يبارك فيك) أو (الله يسلمك)، وعندما يتقابل صديقان لم يلتقيا عدة أيام أو وقتا طويلاً يقول أحدهما بعد السلام (أوحشتنا) فيجيبه الآخر:(الله لا يوحشنا منك). وقد يشغل ذكر التهنئات الفخمة التي يستعملها المصريون عادة صفحات من هذا الكتاب.
ولا يدخل الرجل منزل غيره بدون استئذان لأن القرآن حرم ذلك صراحة، وعلى الأخص إذا كان يريد أن يصعد إلى إحدى الغرف العليا، فلابد في هذه الحالة أن يصيح طالباً الإذن، أو يعلن قدومه عندما يصعد السلم بالطريقة التي وصفتها سابقاً. وإذا لم يجد أحدا أسفل المنزل يصفق بيديه عند الباب أو في الفناء وينتظر نزول الخادم إليه أو الإذن له بالجلوس في حجرة سفلى أو بالصعود إلى غرفة عليا. ثم يحيي رب الدار عندما يدخل الغرفة التي يجلس فيها، فيرد عليه رب الدار ويرحب به بأدب وبشاشة. ويقف رب الدار لمن كان أعظم منه ولأقرانه على العموم، ويتقدم لاستقبال من هم أعلى منه مركزا إلى الفناء أو بين الفناء وغرفة الاستقبال، أو في مدخل الغرفة أو وسطها، أو على بعد خطوة من مكان جلوسه. وكثيراً ما يكتفي عند استقبال أقرانه بأن يتحرك حركة خفيفة كما لو كان يهم
بالوقوف. ولا يتحرك لمن دونه مقاماً. ويقدم رب الدار إلى الرفيع القدر وإلى أقرانه غالبا أفضل مكان في ركن من الديوان على يمين من يواجه (صدر) الغرفة أي طرفها الأعلى، ويعتبر المجلس الممتد بطول (الصدر) أكثر إجلالاً من المجلسين الممتدين على الجانبين، ويسمي كل منهما (جنببا)، ولا يجلس من هم دون رب الدار في الصدر أبداً إلا إذا دعاهم إلى ذلك. وكثيراً ما يرفضون هذا الشرف. ويجلس أقران رب الدار واضعين رجلاً على رجل، أو رافعين ركبتهم ومستندين على المساند. وكثيراً ما يجلس من دونه بادئ الأمر على الأقل، على أعقابهم أو على حافة الديوان أو على الحصير أو البساط إذا كان فرق المكانة بينهما كبيراً. وتقتضي دقة الآداب ألا يظهر الزائر يديه عند دخول الغرفة أو عند الجلوس، ويجب أن يسبل كميه عليهما، وألا يمد رجليه عندما يجلس على الديوان، وألا يترك قدميه مكشوفتين، ولكن هذه القواعد لا تراعى إلا في منازل العظماء. وتردد التهاني والتحيات بعد السلام وعلى الأخص عبارتا (طيبين) و (إيش حالكم) مرات عديدة أثناء المحادثة.
وقد يقوم أحياناً خادم الزائر نفسه بتقديم الشبك، فيخرج السيد كيس التبغ من عبه ويناوله الخادم الذي يملأ الشبك منه ثم يطويه ويعيده بعد ذلك أو عند انتهاء الزيارة. وفي غير هذه الحالة يقدم خادم المضيف شبكا إلى الزائر وآخر إلى سيده ثم يتناول القهوة لأن التدخين بدون قهوة الطعام بلا ملح، كما يقول الغرب. ويحيي الزائر رب الدار عندما يتناول الشبك والقهوة بالتمنية فيردها الأخير إليه، وكذلك الأمر عندما يعيد الفنجان إلى الخادم، كما أن رب الدار يحيي ضيفه بالطريقة نفسها إذا لم يكن الفرق بينهما كبيراً. وكثيراً ما يلبث الخدم في الغرفة مدة الزيارة واقفين باحترام عند طرفي الغرفة الأسفل ضامين اليدين (اليسرى في اليمنى) فوق الحزام، وينادي على الخدم عادة بالتصفيق بأصابع اليمنى على راحة اليسرى، ويسمع صوت التصفيق في المنزل لأن النوافذ من الخشب المشبك. ويدور الحديث على الأخبار اليومية وحال التجارة وأسعار المؤن، والدين والعلوم أحياناً، وتروي الحكايات الفكاهية. ويحدث كثيراً أن تسرد القصص والأمثال البذيئة في غير المجتمعات. وقلما يتحدث الناس في المجتمعات الطيبة عن نسائهم، ولكن كثيراً ما يفعل ذلك الأصدقاء الخلص ومن لا يراعي دقة قواعد الأدب بطريقة لا تكون لطيفة دائماً. ويستفسر المهذبون
كل عن (منزل) الآخر للاطمئنان على الزوجة والعائلة. وكثيراً ما تشغل الزيارات وقتاً طويلاً، وقد تستمر أحياناً طول اليوم وعلى الأخص زيارات الحريم. ويتكرر حشو الشبك أو تبدل بغيرها كلما اقتضت الضرورة ذلك لأن الزائر لا ينقطع عن التدخين مدة بقائه. ويعاد تقديم القهوة والأشربة أحياناً. وقد سبق وصف طريقة تقديم القهوة والأشربة. وتقدم التهاني نفسها إلى الزائر بعد الشراب كما تقدم كذلك بعد جرعة ماء.
وجرت العادة في منازل الأثرياء أن يرش الضيوف قبل انصرافهم بماء الورد وماء الزهر، ويطيبون ببخور بعض المواد العطرية. وقد أصبحت هذه العادة شائعة في السنوات الأخيرة. وتكون قارورة العطر المسماة (قمقماً) من الفضة الساذجة أو المذهبة، أو من النحاس الدقيق أو من الفخار الصيني أو من الزجاج ولها غطاء به ثقب صغير. أما أداة البخور المسماة (مبخرة) فتكون من أحد المعادن المذكورة ويجهز وعاء الجمر بالجص أو يملأ نصفه، وبغطائه عدة ثقوب لصعود الدخان (أنظر شكل رقم51). وتستعمل المبخرة بعد القمقم. ويقدمها الخادم إلى الزائر أو السيد فيحول البخور نحو وجهه ولحيته الخ، بيمناه. وتفتح المبخرة أحيانا لإرسال البخور بلا عائق. وأكثر المواد استعمالاً: العود والجاوي وقشر العنبر. ويبلل الخشب العطري قبل أن يوضع على الجمر. ويستعمل العنبر للغرض نفسه ولكن يندر استعماله إلا في منازل الأثرياء لغلو ثمنه. وينصرف الزائر بعد أن يعطر؛ ولكنه لا يخرج قبل أن يستأذن ثم يقرأ السلام ويقدم غير ذلك من التحيات والتمنيات التي يرد عليها رداً موافقاً. ويجب على رب الدار إذا كان الزائر يفضله مركزا ألا يقوم له فحسب، بل يرافقه إلى أعلى السلم أو إلى باب الغرفة ثم يودعه في أمان الله.
ومن المعتاد أن يعطي الزائر قبل انصرافه من الزيارات العظيمة هدية صغيرة قرشين أو ثلاثة قروش أو أكثر حسب الظروف، إلى أحد الخدم أو بعضهم. ويرافق الزائر أحد الخدم إذا كان مطيته على الباب أو في الفناء ليساعده على الركوب، وينتظر هذا الخادم الحسن الالتفات - على الأخص - عطية، وعندما يعطي الزائر الخدم نقوداً فعلى السيد أن يرد المثل تماما عند رده الزيارة.
وكثيراً ما يتبادل الأصدقاء الهدايا تبعا للعادة العامة، ويقدم الأصدقاء الهدايا عند أي حفل خاص، والقاعدة العامة أن يرد إلى مقدم الهدية واحدة مماثلة أو في قيمتها عند مناسبة
مماثلة. والشائع أن يعبر المهدى إليه في مثل هذا الحفل عن رجائه استطاعة رد الهدية في مناسبة مشابهة، ويعتبر هذا الشكر المصحوب بالإشارة إلى وفاء دين الهدية أدباً وتلطفاً في هذا البلد وإن كان الأوربي الكريم يراه إهانة له. وتلف الهدية في منديل مطرز يعاد إلى الرسول مع منحة مالية صغيرة. ومن الهدايا الشائعة الفاكهة تقدم على أوراق الشجر، والحلوى في طبق أو على صينية تغطى بمنديل ثمين أو بمفرش. وكثيراً ما تقدم الهدية إلى العظيم لأجل الحصول على هدية أثمن، ويفعل هذا غالبا الخادم. وقلما يرفض السيد الهدية، ولكنه يدفع في الحال نقوداً تفوق قيمتها. وليست عادة منح الخدم منحة بعد الزيارة شائعة الآن كما كانت منذ بضع سنوات. إلا أنه لا يزال أغلب الناس يراعون ذلك في الزيارات الكبيرة وعلى الأخص في العيدين، كما يراعى ذلك المدعوون إلى الحفلات الخاصة، وسنصف عادات أخرى مثل العادات الأولى يراعيها المصريون في هذه الحفلات في الفصل السابع والعشرين ويعتبر رفض الهدية إهانة لمقدمها، وتعبيراً عن زوال الحظوة.
وهناك عادات كثيرة يراعيها المصريون، لا في الزيارات الكبيرة، أو في حضرة الغرباء، أو عند مقابلة الأصدقاء العارضة فحسب، بل في العلاقات العادية، فعندما يعطس الرجل يقول: الحمد لله، فيقول كل من الحاضرين حينئذ ما عدا الخدم: يرحمكم الله، فيرد عليهم: يهدينا ويهديكم الله، أو بعبارة مماثلة. وإذا تثاءب يضع ظهر يسراه على فمه، ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ ولا يقال له شيء في هذه الحالة، لأن تجنب ذلك أجدر، إذ المعتقد أن الشيطان يقفز إلى فم المتثائب. والعادة أن يستغفر الله من يخالف قواعد الآداب بدلا من الاعتذار للحاضرين. وهناك عدة عبارات تقال بعد الحلاقة أو الاستحمام أو الوضوء أو الصلاة، أو أي فعل يستحق الثواب، أو عند القيام من النوم أو عندما تشترى ملابس جديدة أو تلبس، وفي عدة مناسبات أخرى، ولتلك العبارات أجوبة خاصة.
والقاعدة أن يكرم المسلمون يمناهم يداً وقدماً، فيستعملون اليد اليمنى للأغراض الجليلة واليسرى للأعمال التي تعتبر على رغم ضرورتها حقيرة، ويلبسون الحذاء الأيمن ويخلعونه قبل الأيسر، ويخطون عتبة الباب بالقدم اليمنى قبل اليسرى.
ويجامل المصريون بعضهم بعضاً إلى أقصى حد. ولتحيتهم وسلوكهم العام رقة ووقار خاصان ومهارة سلسلة تبدو أنها في طبيعتهم لملاحظتها في الفلاحين أيضاً. ويتفاخر أهل
المدن من الطبقتين الوسطى والعليا بحسن الأدب ورشاقة المنهج وقوة الذكاء وطلاقة اللسان؛ إلا أنهم ليسوا أقل خلاعة في أحاديثهم من مواطنيهم الأقل تربية. ويمتاز المصري على اختلاف طبقاته بالبشاشة والأنس. ومن المألوف أن ترى غريبين يتحدثان بحرية كما لو كانا صديقين قديمين في أي مكان، ويقدم أحدهما شيكه إلى الآخر، وليس من غير المعتاد ولا من سوء الأدب أن يستفسر الغريب في أول مقابلة عرضية عن اسم الآخر وصناعته أو تجارته ومسكنه. وكثيراً ما تنشأ في مثل هذه المناسبات صداقة دائمة بينهما. وقلما يسمع في مجتمعات الطبقتين العليا والوسطى ما يمس شعور الحاضرين؛ ولا يجرؤ الخليع مهما كانت خلاعته أن ينطق أي عبارة يقصد بها الهزؤ. ومع ذلك فأغلب الناس من جميع الطبقات هم خلعاء في أحاديثهم ويحبون الدعاية إلى أقصى حد. وحديث المصريين مؤثر حار، ولكن أفراحهم تكون أبداً بلا جلبة تقريباً. وقلما يستسلمون للضحك العالي وإنما يعبرون عن سرورهم بالابتسام أو الهتاف.
(يتبع)
عدلي طاهر نور
نجوى المغني.
. .
(مهداة إلى الموسيقي النابغ الأستاذ محمد عبد الوهاب)
للأستاذ محمود عماد
يا نضيرَ العودِ هاتِ ال
…
عودَ إني سأُغنِّي
واجلُ لي حسنَك إني
…
منهُ قد أُلهمتُ فني
كل معنى فيك يوحي
…
ليَ لحناً بعد لحنِ
إن تكن ماءً فألحا
…
نيَ للماء خريرْ
أو تكن ناراً فمنه
…
نَّ شهيقُ وزفير
وإذا ما كنت زهراً
…
لم يفتهن العبير
مثلما ألقاك تلقا
…
ني على العود أُغني
فيكَ للشِّعر معانٍ
…
غالياتٌ كالجواهرْ
فيك للتصوير ألوا
…
نٌ كألوان الأزاهر
كيفَ لا يجلوك لحني
…
في مجاليك البواهر
سأغنيك إلى الدّ
…
نيا فتروِي ما أغني
يا حبيبي هاتِ لي العو
…
دَ وهاتِ الخدَّ هاتِ
رَوِّ عينَّي ورَوِّ ال
…
عودَ من ماء فُراتِ
فإذا الألحانُ تَهمي
…
حانياتٍ عاطراتِ
كندىَ الوردِ، فَغَنِّ
…
بفمي حين أغني
مَن ترَى غيري إن غنَّا
…
كَ يا فاتن أبدَعْ
إنني أعطيكَ ما مِن
…
زهرِ بستانِك أجمعْ
فأنلني يا حبيبي
…
خيرَ ما فيه وأمتع
واصرف الحارسَ عني
…
أو فإني لا أغني
محمود عماد
أغنية
ضفاف النيل
للأديب مصطفى علي عبد الرحمن
صفَّق الموجُ وغنَّانا أناشيدَ الجمالِ
ومضى الزورقُ يجري مطمِئناً لا يُبالي
يا ضفافَ النيلِ روّي القلبَ من خمرِ الليالي
جددي عرسي وأفراحي وأُنسي
…
واسكبي النشوة في روحي وحسي
ودعيني قبلما تفرغُ كأسي
…
وأرَى الدنيا فما تضحكُ نفسي
واجْرِ يا زورق نشوان على نورِ الأماني
حولك الدنيا صفاءُ وضياءٌ وأغان
ضحك الكونُ وغنى بهوانا الشاطئان
فأعيدي فتنة الماضي إليَّا
…
يا ضفاف النيل رَوِّي مقلتيَّا
من ضياءٍ يملأ الأرواح رِيَّا
…
قد دعا الحْبُّ إلى دنياي هيَّا
نعبرُ الشطآن في ظلٍ من النُّعمى نغني
فابتعدْ يا دهرُ لا تحرمْ فؤاديْنا ودعني
لا تقفْ بين هوى نفسي وآمالي وبيني
أيها النيلُ على صدرِك يجري
…
زورقٌ تَحدوه آمالٌ بِصدري
أنت تدري ما بقلبي أنت تدري
…
وتعي سِرّي ولا تجهل أمري
كُنْ رفيقاً أيها النيلُ ودعْنا وهوانا
غنِّنا لَحنَ صِبانا، واسقنا وأطفئ صَدانا
واملأ الجو فتوناً وأماناً وحنانا
يا حبيبي هاهي الدنيا أراها
…
مثلما أهوى بعيني وتراها
آه لو تغفلُ عنا مقلتاها
…
أبد الدهرِ وهل تُغنيك آها!
(الإسكندرية)
مصطفى علي عبد الرحمن
البريد الأدبي
اتجاهات جديدة لرجال التعليم
في الأسبوع الماضي أقيم في القاهرة مؤتمران: مؤتمر التفتيش ومؤتمر تدريس العلوم. وإنما أقيم المؤتمران في أسبوع واحد، لأن (إجازة نصف السنة) هي الفرصة التي تسمح بأن يلتقي المفتشون والمدرسون في القاهرة بلا عناء.
وقبل أن نشير إلى أهمية هذين المؤتمرين نسجل أن (الظروف الحاضرة) لم تمنع رجال التعليم من أن يشغلوا أنفسهم بشئون لا يطالبهم بها أحد في هذه الأيام، وذلك يشهد بأن النزعة العلمية تأصلت في النفوس، ولم تعد تحتاج إلى بواعث وأسباب. ولو أضفنا إلى ذلك أن مؤتمر تدريس العلوم حضره مندوبان عن وزارة المعارف العراقية: هما الدكتور فاضل الجمالي والدكتور متي عقراوي، لعرفنا أن أصدقاء مصر في الشرق يلتفتون إلى أخبارها العلمية بأسلوب يستحق الثناء.
أقيم الاجتماع الأول لمؤتمر التفتيش في مدرسة فاروق الثانوية، وألقى فيه الأستاذ سامي بك حسونة كلمة ضافية حدد بها الأغراض المنشودة من التفتيش، ثم تفرع المؤتمر إلى لجان تدرس ما يعترض التفتيش من مصاعب ومشكلات.
وأقيم مؤتمر تدريس العلوم بالجمعية الجغرافية، وقد افتتحه سعادة الأستاذ شفيق بك غربال بالنيابة عن معالي وزير المعارف الرئيس الفخري للمؤتمر، وتكلم في اليوم الأول الأساتذة محمد فؤاد جلال وأحمد زكي بك والمستر هملي والدكتور الجمالي والدكتور الكرداني، ثم استمر في الأيام التالية يقوم بدراسات على جانب عظيم من الأهمية حضرها مئات المدرسين.
والمهم هو أن نذكر بصراحة أن الذين حضروا هذين المؤتمرين راعهم أن يشهدوا وثبات فكرية وعقلية تستوجب الإعجاب، وتجدد الثقة برجال التربية والتعليم في هذه البلاد.
وقد لاحظت أن اللغة العربية أصبحت في غاية من المرونة والقدرة على شرح أدق الأغراض، فقد كان الخطباء يتدفقون بأساليب منوعة الألوان، وكان تعبيرهم يشهد بأننا نعاصر (لغة علمية) تعرف كيف تحيط بدقائق المعضلات.
أما بعد فمن حق من شهدوا هذين المؤتمرين أن يرجوا أن تدوم هذه السنة الحميدة، وأن
تكون (إجازة نصف السنة) فرصة سنوية لإذكاء الأفكار والآراء في التربية والتعليم، والله بالتوفيق كفيل، وهو القادر على إثابة أهل الصدق والإخلاص.
زكي مبارك
نزع العمائم في دور الخلفاء والأمراء والسلاطين وبحضرتهم
قرأت في باب البريد الأدبي من الرسالة الغراء (العدد429) ص1191) كلمة بعث بها الأستاذ عبد المجيد الساكني من بغداد يسأل فيها الدكتور زكي مبارك عن (البيئة ونزع العمائم) في عرض كلامه عن تأثير البيئة في بعض عادات أهل الأندلس (الرسالة العدد418؛ ص862: تأثير البيئة)
وقد وقفت أثناء مطالعاتي على ما له صلة بهذا الموضوع أحببت أن أبينه فيما يلي لأنه يرينا ناحية من مناحي الرسوم المتبعة عند الإسلام بشأن العمامة.
قال محمد بن عبدوس الجهشياري المتوفى سنة331 للهجرة ما هذا نصه: (وكان عيسى (بن عبد الرحمن) كاتب طاهر (بن الحسين) لما دخل مجلس الفضل (بن سهل) نزع قلنسوته وجعلها إلى جانبه، ثم فعل ذلك مراراً، فقال نعيم بن حازم ليعقوب بن عبد الله، وكان يعقوب آلفا لعيسى: إن أبا العباس - يعني عيسى - إذا جلس في مجلس الأمير - يعني الفضل - رفع قلنسوته عن رأسه، وهذا استخفاف منه بالأمير، قد أنكره الناس، وتكلموا فيه، فأعلمه ذلك ليمسك عنه فيما يستقبل، فإنه إن عاود دنوت منه ورددتها على رأسه بعنف وإنكار. فقال يعقوب لعيسى ذلك؛ فقال له: بأي شيء رددت عليه؟ قال قلت له: إنه محرور، ولعله قد استأذن الأمير في ذلك، أن كان لا يجهل ما يأتي ويذر. فقال: والله ما بي أني محرور، وما استأذنت، ولكني أريد أن يعلم الفضل أولاً، ثم من حوله إنه أهون علي وأدق في عيني ما دام صاحبي - أعزه الله - حيا، من هذه الشعرة - وقلع شعرة من عرف دابته - ومن فوق نعيم، فضلا عن نعيم، أشد تهيبا للإقدام عليّ بشيء أنكره، فلا يدخلك من قولهم شيء، وعرف نعيم ابن حازم ما قلته)
ونظير هذا النبأ ما أورده هلال بن المحسن الصابي المتوفى سنة448 للهجرة، قال:(وحدثني جدي (أبو أسحق إبراهيم الصابي) أن المكنى أبا الهيثم حضر يوماً في دار عضد
الدولة وأخذ عمامته من رأسه ووضعها بين يديه، ورآه بعض أصحاب الأخبار فكتب بما كان منه، وخرج أستاذ دار، فخرق به وشتمه، وأخذ العمامة وضرب بها رأسه حتى تقطعت قطعاً، ووكل به واعتقله. فسئل فيد عضد الدولة، وقيل: هذا رجل محرور الرأس، ولا يستطيع ترك العمامة على رأسه، وإنما فعل هذا لذاك، لا لجهل بأدب الخدمة. فبعد مراجعات ما. أمر بإطلاقه)
(بغداد)
ميخائيل عواد
إلى الدكتور زكي مبارك
قرأت بمزيد الأسف ما كتبته في رسالة هذا الأسبوع من حديث تهكمت فيه بمن يدرس اللغات الميتة كما سميتها أنت، ونعيت فيه على الجامعة المصرية التي تعنى بإحياء ما اندثر وباد وانقطعت صلته بالحياة، وأنا في هذه الكلمة أضرب صفحاً عما أدخلته في هذه المسألة من جوانب شخصية، فإن هذا لا يعنيني، وإنما أنفذ إلى لب المسألة فأقول:
يؤسفني أن أرى الدكتور زكي مبارك - وهو الرجل العظيم الذي أحبه أشد الحب وأعجب بشخصيته أعظم الإعجاب - يتجرد من ثياب العالم الواسع الأفق والباحث الطويل الباع، وكيف يكون عالماً واسع الأفق وباحثاً طويل الباع من يجهل صلات العربية بهذه اللغة الميتة؟ كيف يكون كذلك من يجهل أن خدمة اللغة العربية خدمة صادقة حقاً تستلزم معرفة واسعة بلغات عاصرتها في أجيال طويلة من التاريخ فأثرت فيها وتأثرت بها؟ بل كيف يكون كذلك من يريد أن يفهم لغة بله أن يدرسها فلا ينظر إلى أخواتها التي تفرعت معها من أصل واحد؟
هل يصح في أذهان العلماء أن تدرس اللغة العربية دراسة لغوية لا تستند إلى مقارنات شتى بينها وبين العبرية والسريانية وسائر الأخوات؟ وهل ينكر أثر اليونانية واللاتينية في قاموس اللغة العربية؟ ثم هل ينكر وجوب دراسة الصلات بين الأدب السريانية والعبرية والأدب العربي، تلك الصلات التي لم أجد أحدا تنبه إليها حتى الآن إلا البعض القليل؟ ثم هل ينكر أثر الوراثة الأجنبية فيما نظمه ابن الرومي وأبو تمام؟
لئن كان الفرنجة يدرسون اللاتينية واليونانية كوسيلة لدراسة لغاتهم، فنحن يجب علينا أن ندرس اللغات السامية أولاً ثم اللاتينية واليونانية ثانيا لدراسة لغتنا العربية التي نتعشقها ونفنى أعمارنا في خدمتها.
السيد يعقوب بكر
حول مقال الأستاذ المازني
يقول الأستاذ في مقاله تحت عنوان (بطولة محمد) في العدد (449) الهجري ما نصه:
(فما كان صلى الله عليه وسلم يعنى بالاشتراك في القتال بسيف أو رمح، وكان يشهد المعارك ويصحب رجاله، ولكنه لا ينزل إلى الحومة بنفسه، ولا يخوض المعمعة مع أنصاره، وإن كان يوجههم)
وهذا يخالف الواقع والتاريخ؛ فقد ثبت إنه كر على الأعداء في بعض الغزوات كراً عنيفاً قائلاً متحمساً: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) وثبت أنه كسرت رباعيته وجرح حتى سال منه الدم، فجعل يمسح الدم ويقول:(كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم)؟ وفي تفسير الكشاف الجزء الأول ص (214) في ذكر غزوة أُحد ما نصه: (وكان نزوله في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أُحد، وأمر عبد الله ابن جبير على الرماة وقال لهم: انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا)
وفي الجزء الأول من السيرة الحلبية ص (550، 551) في غزوة بدر أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ثلاث حصيات فرمى بهن في وجوه المشركين يمنة ويسرة، وحين رمى بذلك قال لأصحابه شدوا، فكانت الهزيمة. وأنزل الله تعالى:(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى). وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بنفسه قتالاً شديداً)
هذا وغيره كثير يدل دلالة واضحة أن رسول الله خاض المعمعة بنفسه وقاتل بسيفه.
إبراهيم محمد عيسى
إجازة القضاء الشرعي
مات حتف أنفه
تحت هذا العنوان كتب الأديب خالد الشواف كلمة في البريد الأدبي بعدد (الرسالة) الأخير تساءل فيها: كيف يمكن التوفيق بين ما روى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من قوله: (ما سمعت كلمة غريبة من العرب إلا وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعته يقول: (مات حتف أنفه)، وما سمعتها من عربي قبله)، وبين ما يروى للسموءل بن عادياء من قوله في لاميته:
وما مات منا سيد حتف أنفه
…
ولا طل منا حيث كان قتيل؟
وطلب الأديب الإجابة عن هذا السؤال ممن يشاء من القراء فإليه الجواب:
رويت هذه القصيدة لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي، وهو شاعر إسلامي شامي من شعراء الحماسة. ولئن اعتمدنا هذه الرواية فلا إشكال. . . على أن البيت في بعض الروايات هكذا:(وما مات منا سيد في فراشه. . . الخ)
قال الخطيب التبريزي تعقيباً على هذه الرواية في شرحه للبيت في الجزء الأول من الحماسة صفحة113، تحقيق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد:(وهذه الرواية رواية من يجعل القصيدة جاهلية). وعليها فالبيت مني بالتحريف، وكم عدا التحريف البغيض على آثار العبقرية العربية الشاعرة.
ولقد ذهب الأستاذ الزيات في كتابه (تاريخ الأدب العربي) صفحة177 الطبعة السادسة، إلى أن ما روى عن علي دليل على أن قصيدة السموءل منحولة كلها أو بعضها. . .
ولعل في هذا ما يكشف الريب.
محمد فهيم عبيد
عام الفيل ومولد الرسول
في بريد العدد451 من (الرسالة)، يذكر الأديب الفاضل علي محمد حسن في الفقرة الثالثة من كلمته (في مطالعاتي) أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل الموافق سنة (570م) وبالرجوع إلى العدد349 من (الرسالة)، نرى الأستاذ البحاثة المرحوم (إسماعيل أحمد أدهم) في مقالة له عنوانها (عام الفيل وميلاد الرسول) يثبت ويؤكد بالأدلة القاطعة، أن عام الفيل كان يوافق سنة (540م)، وميلاد الرسول يوافق سنة (570م). وهذا يدل على
أن الصلة مفصومة بين ميلاد الرسول وعام الفيل، وأن محمداً صلوات الله وسلامه عليه ولد بعد عام الفيل بنحو ثلاثين سنة، ويوجه في ختام بحثه أنظار المشتغلين بالتاريخ الإسلامي، وخاصة أساتيذ الجامعة إلى هذه الحقيقة. ورجا أن يكون في (بحثه هذا) تصحيح لما تجري به أقلام الباحثين في العالم العربي، من أن رسول الله ولد عام الفيل.
وبعد. فإلى الأديب الفاضل أقدم هذا البحث القيم للاطلاع عليه في ص450 من العدد349 في السنة الثامنة من عمر (الرسالة) المديد.
وإلى جمهرة المؤرخين الأفاضل، أرجو بسط هذا الموضوع وبحثه على صفحات (الرسالة) الغراء لحيويته وخطورته بالنسبة لتاريخ مولد سيد العالمين، وحقيقة صلة هذا الميلاد بعام الفيل.
(ديروط)
أحمد محمد فرج