الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 454
- بتاريخ: 16 - 03 - 1942
بين ناخب ونائب
بين غداة وعشية أمسى غنينا الطافح عضواً بالتزكية في مجلس النواب. والفوز بالتزكية هنا معناه امتناع المنافس لا انقطاع النظير، وخلو الميدان لا بطولة الفارس؛ ومع ذلك نصب البك السرادق، وقدم الحلوى، وتقبل التهنئات، وسمع بأذنيه الطويلتين القصائد العور والخطب البتر في الإشادة بالكفاية العالية فيه، والثقة الغالية به، والخير المرجو منه. وللريف شعراء وخطباء كعصافير الحصاد: تقع في الجرن ولا تقع في الروض، وتزقزق للحبة ولا تزقزق للزهرة، وتكرر أغرودتها الواحدة ولا تقصد بها معنى غير فرحها هي بسمة البيدر وضخامة العرمة!
ولكن البك وحده هو الذي صدق هذه التفاعيل العروضية فانتفش انتفاش الديك، وراح يعد ويمني، ويعدد ويمن، ويفخر ويفيش، ويزعم أنه باجتهاده وجهاده سيجعل المجلس يبسط الأرزاق، ويطيل الأعمار، ويضمن لكل ناخب في دائرته قصراً في الدنيا وقصراً في الجنة. كان الرجل يتنفخ والناس يجاملون بالاصغاء، ويتجملون بالصبر، إلا صديقنا الشيخ منصوراً فقد قال له في شيء من حدة الصراحة وشدة الحجاج:
- ذلك يا بك كلام من لغة التحيات والمجاملات تردده الألسن بحكم العادة ولا تريد به شيئاً. هو أشبه بقولي: (أهنئك بالفوز) وما كنت أريد انتخابك، أو قول اللص:(السلام عليك) وهو يريد انتهابك. ولو كانت الوعود البرلمانية في آخر الانتخاب، والبرامج الوزارية في أول الدورة، من الكلام الذي يقصد به معناه، لما بقى في صحارى مصر شبر يشكو الظمأ، ولا في مساكين مصر فرد يشكو الجوع! لقد قلتم كثيراً ولم تفعلوا، فحاولوا هذه المرة أن تفعلوا ولا تقولوا!
- أنت يا شيخ منصور كالضرس المخالف في دولاب الساقية! لا يجري كلامك مع الكلام، ولا يقف رأيك مع الآراء! ماذا تريد أن يفعل النائب أكثر من أن يمثل الأمة، ويشرع القوانين، ويبحث الميزانية، ويراقب الحكومة؟
- ذلك هو المفروض يا بك! أما الواقع فهو أن بعضكم متى دخل البرلمان لا يمثل إلا نفسه، ولا يقضي إلا حاجه، ولا يراقب إلا عدوه. ويصوت على القانون في قاعة المجلس بالإقرار، ثم يكون هو أول من يطلب خرقه في ديوان الحكومة بالوساطة!
أن ما يطلب من الحكومة والبرلمان في شؤوننا العامة، لا يزيد كثيراً على ما يطلب من
صاحب العزبة في شؤونه الخاصة: استصلاح الأرض والانتفاع بكل ما فيها؛ ثم تدبير القوت والصحة والمعرفة لكل من يقوم عليها. ليس لنا مستعمرات تقتضي إدارتها النشاط والحكمة، ولا أسواق تجارية تطلب مراقبتها الذكاء والخبرة، ولا سياسة خارجية تحتاج معالجتها الدهاء والقوة. هاهي ذي عشرون سنة مرت على مصر ولها استقلال وفيها برلمان، فهل تستطيع أن تقول أن المصري الآن، اصبح خيراً مما كان؟ أن هذه العشرين سنة غيرت نظماً وخلقت أمما وقلبت الدنيا كلها رأساً على عقب؛ ولكنها مرت على النائمين في الكهف مرور الحلم المزعج، حرك الأجسام بعض الحركة، وترك المشاعر ساكنة كل السكون
- ما هذه الفلسفة يا شيخ منصور؟ هل تستطيع أن تقول لي أنت متى تركوا الحكومة تستقر، وخلوا البرلمان يعمل؟ أن الدستور في الأمة كالمصباح في الصحراء، لا ينشر ضوءه إلا إذا تركته الرياح آمناً
- لو تفلسفت يا بك كما أتفلسف لتبينت أن استقرار الحكومة واستمرار البرلمان لا يكونان مع سياسة الكلام، فإن سياسة الكلام هي سياسة الفراغ، وإذا شغلها شال فهو المراء والمكابرة والمهاترة والخصومة. وكلما علا صوت عل صوت، وظهرت دعاية على دعاية، انقلبت الأوضاع، وتغيرت المكاتب، وتبدلت المناصب، وتعطلت المواهب، وتقوض المبنى، وانتكث المفتول، وتوقف السائر. أما سياسة العمل فتهيئ لكل ذهن ما يشغله، ولك يد ما تعمله. وذا اشتغلت الأذهان وعملت الأيدي، عيت الألسنة فلا تجادل، وائتلفت القلوب فلا تختلف، وانقطع دابر القوالين فلا تعود الحزبية تجارة ولا السياسة حرفة
- أن الدلائل يا شيخ منصور تبشر بصلاح الحال. وما دام الأمر في يد أهله فانظر إلى المستقبل نظر المتفائل الآمل
- لا تكلني إلى المستقبل يا بك. أن من يضيع يومه لا يجد غده. ومن يفرط في عاجل الشهادة طمعاً في آجل الغيب كان حقيقاً إلا يدرك شيئاً
- وماذا تريد أن اصنع لك الآن؟
- أريد أن تنزل عن مكافأتك النيابية لدائرتك الانتخابية. أنك والحمد لله ضخم الثراء رفيع العيش، فلا أقول أنك طلبت النيابة كما يطلب الناس الوظيفة. وإن أربعين جنيهاً في كل
شهر تقسم على ثماني قرى لا تدع فيها أمياً واحداً قبل انقضاء الدورة. ولا اعتقد أنك تؤدي إلى أمتك في طول نيابتك عملاً ارفع ولا انفع من هذا العمل. أنك تعلم أن في مركزين من مراكز الغربية ثلاث عيلات تملك سبعة وعشرين ألف فدان، وتشغل سبعة كراسي في البرلمان، تكافأ على شغلها بأربعين ألف جنيه في العام؛ فقدر في نفسك يا بك ماذا يجدي على دوائرهم الفقيرة هذا المبلغ وهو لا يقدم في ثرواتهم العريضة ولا يؤخر
- ولكنك تطلب ما لا يطلبه أحد في أمة من الأمم
- وهل تجد في أمة من الأمم فقراء في مثل فقرنا يعطون، وأغنياء في مثل غناكم يأخذون؟ أن النيابة عندهم بذل وتكليف، ولكنها عندنا ربح وتشريف. وإن أكثركم ليسخو بالآلاف في سبيل الدعاية لها والظفر بها؛ فهل يضيركم أن تنزلوا لنا عن هذه العشرات فتحفظوا مهجا من التلف وعقولاً من الجهالة؟
- كلامك يا شيخ منصور سديد ورأيك أسد. وإني أعدك إلا أعارض إذا قبل الآخرون
- أي آخرين تريد يا بك؟ ولم لا تسن أنت هذه السنة الحسنة فيكون لك اجرها واجر من عمل بها إلى يوم يحل المجلس؟
- يحل المجلس؟ قل إلى يوم تنتهي الدورة يا شيخ؟ فأل الله ولا فألك! لقد شغلتنا بثرثرتك عن تحية الناس. ثم أشاح البك عن الشيخ وأقبل على المهنئين يوزع عليهم تحياته الشريفة! فلما أعدناها على ترتيبه خرجت لحسن حظ الأدب منظومة في هذا البيت:
أهلاً وسهلاً، طيبونَ، وحشِتنا
…
سَلماتِ، إزَّيّك، وكيف الحال؟
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات
بين آدم وحواء:
تحت شجرة التين
للدكتور زكي مبارك
جاهد آدم نفسه في حدود ما يطيق. . . وماذا يطيق المرء وهو يجاهد النفس في أهواء تسوقها امراة؟ سينتهي أمره إلى الهزيمة، إلا أن تؤيده قوة ربانية تصرف عنه السوء وترده إلى الاعتصام بالعقل. ولحكمة يعلمها الله ضعف آدم عن مقاومة حواء، ودعاها إلى التلاقي تحت شجرة التين
وهنا يذكر شيث في كتابه أن حواء تلكأت في الاستجابة لذلك الدعاء، ولزمت مكانها تحت شجرة الطلح، كأنها تريد أن تحمله على الإلحاح فيكون البادئ بالعصيان
ولو تأمل شيث قليلاً لذكر تعليلاً غير هذا التعليل، فالرأي عندي أن حواء توهمت أن لآدم رغبة في شجرة التين، وإن تمنعه لم يكن عن صدق، وإنما كان يريد أن يحملها تبعة العصيان
والحوادث تؤيد هذا الافتراض، فما كاد آدم يخبر حواء بأنه سيسايرها فيما تريد حتى فترت رغبتها في قرب الشجرة المحرمة، وأعلنت اكتفاءها بما احل الله من طيبات الفردوس
فما معنى ذلك؟ وما مغزاه؟
معناه أن حواء تحب أن تسلك في جانب يغاير ما يسلك آدم من الجوانب، فقد أحبت حواء التين حين ثار آدم عليه، ثم زهدت فيه حين رأته من هواه، وإلا فكيف جاز أن يدعوها فلا تجيب وهي التي قهرته قهرا على أن يذعن لما تريد من قرب شجرة التين؟
وابتسم آدم حين رأى حواء تهدأ بعد ثورة وتلين بعد شماس، ثم حمد الله على انحسار الغمة وانجلاء الضيق، واخذ في الاستغفار من الذنب الذي اقترف. فقد حدثه الضمير بأنه أذنب بالفعل، وإن لم يذق الثمر الممنوع، لأن نية السوء لا تقل بشاعة عن السوء في نظر الأخلاق، وكان آدم يعرف أنه يعامل الله، والله يحاسب على النيات بأقسى مما يحاسب على الأقوال والأفعال، لأنه يحب لعباده أدب الملوك لا أدب العبيد
ثم نظر آدم فلم ير حواء، فأين ذهبت؟
فتش عنها في غياضٍ كثيرة، وسال عنها أسراباً من الطير والظباء فلم يظفر بجواب، فأين
ذهبت؟ وكيف ضاعت؟ وما السبيل إلى مكانها في الجنة الفيحاء؟
أتكون غضبت من طاعة آدم وكانت تحب أن يتمرد؟
لقد خطر لآدم هذا الخاطر، فقد علمته التجارب أن حواء لا تتمتع بالصحوة الجسدية والروحية إلا في أوقات الخلاف. وهل ذاق آدم حلاوة حواء إلا في لحظات الثورة على الأوامر الربانية؟
أمر هذه المخلوقة أعجب من العجب، فهي لا تحلو ولا تطيب إلا عند النضال، وهي تفقد كل قيمتها حين تتناول شؤون الحب في طاعة مجردة من الإحساس، كالطاعة التي تصدر عن فتاة لم تبلغ سن الكيد، وكيد المرأة إثم جميل!
فكر آدم طويلا في غيبة حواء، وانزعج حين خطر له أن تكون حرمت الثورة على ما ترى وما تسمع، وأنها لذلك سكنت العزلة في جنينة مهجورة يسقيها نهير مجهول من رواضع الكوثر وهي رواضع تعد بالألوف
وعاد آدم لنفسه ليعرف حاله في غيبة حواء، فصح عنده بعد التأمل أن العبادة الصحيحة لا تكون إلا بالجهاد، ولا جهاد بدون أهواء
يجب أن يكون في الوجود حرام وحلال، لنشعر بالذاتية في قرب هذا واجتناب ذاك، وإلا صرنا خلائق تواجه الوجود بلا اكتراث، وإذا انعدم الاكتراث فقد انعدمت الأخلاق. وقد يكون العصيان عن نية افضل من الطاعة بلا إحساس، لأن المهم أن ندان حين عصي، ونثاب حين نطيع، ولا يتم ذلك بغير النية الواضحة فيما نباشر من مختلف الأعمال.
أتكون حواء ترهبت فلاذت بأحد الكهوف؟
ذلك ما خاف آدم أن يكون، فالترهب نذير الموت، وهو يكره لحواء أن تموت.
وكيف يعيش آدم إذا غفا كيد حواء؟
لقد أبدعته إبداعاً وإنشائه إنشاءً، حين تولت إضرام الجمر المكنون في قلبه الوسنان، وآدم رجل، والرجل يحفظ الجميل.
ومر حين وأحيان وأحايين وحواء لا تعود.
وشعر آدم بانعدام أسباب الثورة والهدوء فأيقن بقرب الفناء
وما حياة الرجل إذا خلت من الأحلام والحقائق والأباطيل؟
ما حياته إذا حرم التنقل من ضلال إلى هدىً، ومن هدىً إلى ضلال؟
قيمة الرجل بالجهاد، ولا جهاد بدون أهواء، وقد أمسى صدر (آدم) وهو جلمود أملس لا ينبت الأزهار ولا الأشواك ولا يثبت فوقه تراب ولا ماء
والتفت (آدم) فرأى من الخير أن ينقطع للاستغفار ليتوب الله عليه، وهل أذنب حتى يتوب؟
أن كان كل حظه من المعصية أنه رضى مسايرة (حواء)، وقد ذهبت (حواء) ولم يبق موجب للقنوت والابتهال
الموت افضل من حياة تخلو من مقارعة هوى النفس في كل يوم. والرجل الذي يواجه المعاني بقلبٍ أغلف شبيه بالرجل الذي يطالع سفر الوجود وهو معصوب العينين. وهل كان الموت فناءً إلا لأنه يصدنا عن صنع الخير واجتراح الآثام؟
وما طعم الاستغفار على لسان من لم يذنب؟ وما لون الطاعة في عين من لم يقاوم الأهواء؟
لقد مات (آدم) وهو حي، فلم يعد يدرك ما في الفردوس من سحر وفتون
كان (آدم) يجد لذة في ضرب (حواء)، فأين هي الآن ليتمتع بلطم خدها الأسيل؟!
وكانت (حواء) تجر (آدم) إلى مآزق تشعره بقوة الحيوانية، فأين هو اليوم من تلك المآزق، وأين سبيله إلى الفتك والجنون؟
لقد خلت حياته من جميع المعاني بعد غيبة (حواء)، وما كان يعرف أنها تملك من الروحانية الأثيمة ذلك الحظ العظيم
وانطلق (آدم) يراود معاهد الحب، عله يجد (حواء) مختبئة في بعض ألفاف البواسق، على نحو ما كان يقع في الأوقات السوالف، ولكنه لم يظفر بغير اليأس
أين (حواء) أين (حواء)؟
أين الصبية الجميلة التي أوحت إليه فكرة الثورة على الشرائع؟
أين الحلقة الحلوة التي زينت له طعم العصيان؟
كان آدم يشتهي جميع ما في الجنة من أطايب قبل أن تفارقه حواء، ثم أمسى وهو موقوذ الشهية بسبب الفراق، وهل تطيب الحياة لمن يعيش بلا أنيس موسوم بالصباحة والجمال؟
ذلك نعيم ذهب، وأمل ضاع، فليقتل آدم نفسه أن شاء هي امرأة مخبولة، ولكنها مشتهاة،
والشهوة رزق من الأرزاق، وإن قيل في تجريحها ما قيل
كان آدم يهز الشجرات المثمرات ليطعم حواء، وهو اليوم يرضى بما يسقط من الثمر المعطوب، أن بقي له شيء من نعمة الجوع، والجوع نعمة لا يحسها غير الأصحاء
كان لآدم في الجنة تاريخ بسبب اللجاجة التي كانت تثور عن حواء من حين إلى حين، فما حياته وقد أمسى مغسول القلب والروح والوجدان؟
أيعبد الله بالاستغفار؟ ومم يستغفر وهو مقتول الأهواء؟
أيسبح لله؟ وكيف؟ أن التسبيح تنزيه وهو ممنى لا يدرك بعير القياس؟
لو عادت حواء لاستطاب آدم شجرة التين، ولكن متى تعود؟
لقد اكتفت الشقية بنا تطمئن إلى أنها مصدر ضلاله وهداه؛ وكذلك رأت أن تتركه في حيرة دامية عدداً من الأعوام العجاف؛ وبغي المرأة لا يحتاج إلى برهان
استيأس آدم فرضى بالانزواء في أحد الأدغال، وعند ذلك شعرت حواء بالشوق إلى مصاولته من جديد، والمرأة يؤذيها أن يهدأ الرجل، ولو كان في المحراب
- آدم! آدم!
- حواء؟
- نعم، حواء، إلا تراني؟
- كنت حسبت أنك ذهبت إلى غير مآب
- قبل أن نأكل معاً من شجرة التين؟ هذا مستحيل!
- وهل نعصى الله يا حواء؟
- سترى أن المعصية طيبة المذاق (؟!)
وتنبه آدم فرأى أنه مقبل على خطر جديد، فدار الحوار بأسلوب جديد
(للحديث شجون)
زكي مبارك
النبي المقنع
بقلم الإمبراطور نابليون بونابرت
نقلها إلى العربية عن الترجمة الإنكليزية
الأستاذ إبراهيم عبد الحميد زكي
مقدمة
لا تنحصر أهمية هذه القصة في كونها أثراً من آثار رجل عظيم فحسب، بل تتعدى ذلك إلى ما تكشف للناس عنه من اتجاه نابليون وطموحه قبل أن تتيح له الثورة الفرنسية فرصة إظهار عبقريته ونبوغه في الحرب والقيادة. فقد كان نابليون حتى عام 1789 ضابطاً صغيراً في الجيش الفرنسي، ولم يكن قد ظهر له من المواهب شئ يسترعي الأنظار، وكانت أسرته الكورسيكية قد أخنى عليها الدهر وقضت الأيام بأن تعاني شدائد العسر والضيق المالي، فرأى الشاب أن يحزم أمره ويعقد عزمه على إصلاح شؤونها وتفريج كربتها بالالتجاء إلى الأدب عسى أن يظهر فيه ويذيع اسمه فينال من الشهرة ما يكفل له رواج كتبه وسعة رزقه، فاتجه بجميع قواه نحو تحقيق هذه الغاية، وبذل من الجهد في هذا الميدان مثلما قدر له أن يبذل في ميدان الحرب والقتال، فوضع كتابا في تاريخ جزيرة كورسيكا وهذبه على الأقل ثلاث مرات؛ وألف رواية كورسيكية أيضاً وعدة قصص صغيرة وبضع قصائد شعرية ومقالات كثيرة. فعل هذا كله ولم يبلغ سن العشرين، ولكن ذلك لم يجد عليه نفعا ولم يحقق ما كان يطمح إليه، فلم ينشر كتاب التاريخ، وظلت روايته مخطوطة، ولم تر مقالاته ولا قصصه الضوء إلا بعد سنوات كثيرة من تأليفها
ولقد قيل عن قصة (النبي المقنع) أنها محض خيال، وإنها لا تستند إلى شئ من الواقع، ولكن هذا غير صحيح. حقاً أن نابليون لم يتبع الدقة التامة في ذكر التفاصيل، ولكن هذا لا يعني أن القصة لا تقوم على أساس تاريخي صحيح، بل أن المرء يلاحظ أنه عرض حوادثها عرضاً تمثيلياً (دراماتيكياً) قوياً. وقد كتبها نابليون عام 1787، وجرى في تأليفها على أسلوب فولتير ونشرت عام 1821 - أي عام وفاته
القصة
في سنة 776 ميلادية، أي بعد مائة وستين عاماً من هجرة النبي محمد، كان ميكادي خليفة في بغداد؛ وكان أميراً نبيلاً ذا بأس وقوة، فخشيه جيرانه وقدروه وبجلوه. وفي ظل حكمه العادل تمتعت بلاد العرب بالسلم والرخاء. وكان الخليفة راعياً للعلوم والفنون فتقدمت الحضارة في عهده تقدماً سريعاً، إلى أن كدر صفو هذا الهدوء، والتقدم قيام متنبئ جديد. ظهر هذا الرجل واسمه حكيم في مدينة خراسان فتبعه خلق كثير في وقت قصير. وكان طويل القامة فصيح اللسان فادعى أنه صوت الله على الأرض وقال: أن الواجب أن يكون الناس جميعاً من حيث المراتب والثروة سواء. واستهوى هذا القانون أفئدة الدهماء فهرع إليه ألوف من الناس وكان له بذلك جيش عظيم
ولما رأى الخليفة والنبلاء خطر هذه الثورة عقدوا العزم على خنقها في المهد؛ ولكن جيوشهم كانت تلاقي الهزيمة تلو الهزيمة فازداد بذلك أنصار حكيم يوماً بعد يوم
وبينما كان هذا النبي في أوج مجده إذا به يصاب بمرض شديد، وكان هذا المرض نتيجة الجهد المضني الذي بذله في المعارك التي خاض غمارها. فلما خفت وطأة المرض ونال الشفاء أيقن أن حسنه قد ذهب، وأنه لم يعد بعد خير رجال العرب وأوسمهم إذ كان قد عمى وخبا إلى الأبد ضوء عينيه الرائع
ولما أحس بأن هذا التشويه الطارئ قد يفقده السيطرة على اتباعه والتأثير فيهم، رأى أن يحجبه عن أعينهم بقناع من فضة وضعه على وجهه. فلما فعل ذلك عاد إلى الاتصال بهم والتجول بينهم يخطبهم ويؤثر فيهم بفصاحته المعهودة، فظل الناس مأخوذين بعذوبة لسانه وسحر بيانه كما كانوا من قبل؛ وكان يعلل لهم إخفاء وجهه عنهم بأنه يخشى عليهم أن يبهر أعينهم ذلك الضوء الفياض الخارق للطبيعة الذي ينبعث منه. إذ تبين له أن الظرف الحالي يقضي عليه بأن يعتمد أكثر من ذي قبل على الحماس الديني الذي أوقد شعلته وأثار كوامنه في نفوسهم
ولكن هذه الحال لم تدم كثيراً إذ أصيب اتباعه فجأة بهزيمة منكرة على أيدي جيوش الخليفة؛ فكانت هذه الهزيمة صدمة عنيفة وجهت إلى صميم هذا الدين الجديد؛ فهجر حكيما كثير من أنصاره، وتراجع هو ومن بقي معه من اتباع قلائل إلى مدينة محصنة محوطة بأسوار عالية؛ ولكنه لم يلبث قليلاً حتى أحدق به جند الخليفة وحاصروه
وتبين الآن أن أمام حكيم أحد طريقين: فإما أن يموت، وأما أن يحدث له ما هو أسوأ من الموت وهو الوقوع أسيراً في أيدي اعداه، فجمع أتباعه وخطب فيهم قال:
أيها المؤمنون! لقد اختارنا الله ورسوله لإعادة بناء هذه الأمة واسترجاع مجد الإنسان؟ فلماذا إذن يثبط من عزمنا ويلقى اليأس في قلوبنا كثرة أعدائنا؟ أصغوا إلي! في الليلة البارحة والناس نيام سجدت لله طويلاً ودعوته في حرارة قلت: أبتاه! لقد رعيتني وحميتني هذه السنين الطوال فهل أثمت أو أثم أحد من اتباعي حتى تخليت عنا؟ فسمعت صوتاً يجيب: يا حكيم أن اتباعك الذين حافظوا على عهودهم وظلوا معك يناصرونك ولم يتخلوا عنك في ساعة الحرج، أولئك هم الذين سأنجيهم وأنصرهم، وأولئك هم الذين سيقاسمونك غنائم أعدائهم الطغاة وأموالهم. انتظر حتى يبزغ القمر الجدي، فإذا بزغ فأمرهم أن يحفروا خنادق في الأرض كثيرة فيسقط أعداؤهم فيها ويهلكون
ففعلوا ما أمروا به، وحفرت الخنادق وألقى فيها مقادير هائلة من الجير، ووضع على حافاتها أوان من النحاس كبيرة ملئت زيوتاً قابلة للاشتعال
وعندئذ أقام حكيم حفلاً كبيراً دعا إليه أنصاره فأكلوا وشربوا من الخمر الذي قدم إليهم
ولكنهم لم يلبثوا أن وقعوا على الأرض صرعى يألمون اشد الألم من السم الزعاف الذي مزجت به الخمر، ثم فارقوا الحياة. وكان حكيم وحده لم يذق هذه الخمر فاخذ جثثهم وألقاها في الخنادق ليتلفها الجير ثم سكب عليها الزيوت وأشعل فيها النيران؛ فلما تصاعدت أعمدة اللهب والدخان قفز فوق اتباعه فاحترق وكان من الهالكين
وفي اليوم التالي تقدم الخليفة وجيوشه صوب المدينة وأرادوا اقتحامها ولكنهم عندما اقتربوا من أبوابها وجدوها مفتوحة على مصراعيها بغير حراسة، فوقفوا قليلاً وترددوا خشية أن يقعوا في كمين أعد لهم؛ ثم دخلوها بعد قليل فإذ بها خالية من الناس، وإذا بالنبي وأتباعه جميعاً قد هلكوا إلا امرأة واحدة ن حظايا حكيم
قصة يكاد العقل يأبى تصديقها لغرابتها، وهي تبين المدى البعيد الذي يذهب إليه الناس أحيانا طمعا في الشهرة وبعد الصيت
تعليق
هذه هي القصة كما كتبها نابليون وهي تتفق في جملتها مع الرواية العربية التي سنأتي
بخلاصتها في الأسطر التالية:
ظهر المقنع كما يقول ابن الأثير في حوادث سنة تسع وخمسين ومائة بمدينة خراسان، وكان رجلاً اعور قصيراً من أهل مرو يسمى حكيما. وكان قد اتخذ وجها من ذهب فجعله على وجهه لئلا يرى، فسمي المقنع وادعى الألوهية، ولم يظهر ذلك إلى جميع أصحابه. وكان يقول بالتناسخ فيزعم أن الله خلق آدم فتحول في صورته ثم في صورة نوح وهلم جرا إلى أبي مسلم الخراساني، ثم تحول إلى هاشم؛ وهاشم في دعواه هو المقنع. وتبعه خلق كثير من ضلال الناس؛ وكانوا يسجدون له من أي النواحي كانوا؛ واجتمع إليه خلق كثير وظهرت المبيضه ببخاري والصفد معاونين له
وكان يعتقد أن أبا مسلم أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل المهدي إليه أبا النعمان والجنيد وليث بن نصر فحاربوه مرة بعد مرة، ثم انفذ إليه جبرائيل بن يحيى وأخاه يزيد فاشتغلوا بالمبيضة الذين كانوا بنحارى فقاتلوهم أربعة أشهر في مدينة بومجكت فقتل منهم سبعمائة منهزموهم بالمقنع؛ ثم سير المهدي أبا عون لمحاربة المقنع فلم يبالغ في قتاله واستعمل معاذ بن مسلم
وفي سنة إحدى وستين ومائة سار معاذ بن مسلم وجماعة من القواد والعساكر إلى المقنع وأوقعوا بأصحابه وهزموهم، وقصد المنهزمون إلى المقنع بسبام فعمل خندقها وحصنها. ووقع بعد ذلك نفرة بين معاذ واحد القواد وهو سعيد الحرشي فكتب الحرشي إلى المهدي يقع في معاذ ويضمن له الكفاية أن أفراده بحرب المقنع؛ فأجابه المهدي إلى ذلك، فحاصر المقنع وأطال الحصار، فطلب أصحاب حكيم الأمان سراً فأجابهم الحرشي إلى ذلك فخرج نحو ثلاثين ألفاً، وبقي مع المقنع زهاء ألفين من أرباب البصائر. وتحول رجاء بن معاذ وغيره فنزلوا خندق المقنع في أصل القلعة وضايقوه. فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وأهله وسقاهم السم فأتى عليهم، وأمر أن يحرق هو بالنار لئلا يقدر على جثته. وقيل بل احرق كل ما في قلعته من دابة وثوب وغير ذلك؛ ثم قال من احب أن يرتفع معي إلى السماء فليلق نفسه في هذه النار. وألقى بنفسه مع أهله ونسائه وخواصه فاحترقوا. ودخل العسكر القلعة فوجدها خاوية، وكان ذلك مما زاد في افتتان من بقي من أصحابه والذين يسمون المبيضة فيما وراء النهر، إلا انهم يسرون اعتقادهم. وقيل بل شرب هو أيضاً من السم
فمات. فأنفذ الحرشي رأسه إلى المهدي فوصل إليه وهو بحلب سنة ثلاث وستين ومائة في غزواته
وقد كانت هذه الرواية وغيرها معروفة على الأرجح في القرن الثامن عشر عند أكثر الأدباء الغربيين فاستهوت أفئدتهم وأثارت أخيلتهم لغرابتها وطرافتها، ولانتحار المقنع هذا الانتحار المروع، فاتخذها بعض الأدباء والشعراء موضوعا لقصصهم وأشعارهم. ولعل أشهر من تناولها بشيء من الاحتفال والعناية في القرن التاسع عشر هو الشاعر الإنكليزي المشهور توماس مور (1779 - 1852) وهو صديق الشاعر الكبير لورد بيرون وكاتب ترجمة حياته ورسائله. وقد افرد لقصة المقنع الجزء الأول من قصيدته الكبرى فأثنى النقاد على هذه القصيدة ثناء عظيما لدقة وصف الشاعر للبلاد الشرقية وروحها؛ ولكن هازلت الناقد المعروف أنكر شاعريتها ورأى فيها من آثار الصنعة أشياء كثيرة تفوق ما انطوت عليه القصيدة من روح شعرية صافية
إبراهيم عبد الحميد زكي
اختباراتي في الأحلام
للدكتور محمد حسني ولاية
أن الأخذ بنظرية خاصة في تفسير الأحلام لا يؤدي إلى نتائج صحيحة في كثير من الاحوال؛ فمرامي الإنسان كثيرة التشعب وظروفه مستمرة التقلب، وأهدافه تتغير بتغير الظروف والملابسات وتفاوت السن، وتطور العقلية بحيث يكون من الخطأ أن يولي الحالم القبلة التي يرتضيها مفسر الحلم تبعاً لنظريته.
وإني أرى أنه لا توجد نظرية واحدة يمكن تفسير جميع الأحلام بمقتضاها. ونحن لا نستطيع أن نقول: أن كل حالم ينشد إرضاء رغبات طفلية محتبسة في العقل الباطن، أو أنه يسعى إلى توكيد أهمية ذاته في الحلم، كما أنا لا نستطيع أن نجزم بأن الأحلام التي تنشأ مما يسميه يونج (اللاوعي الشامل) تتحدى أية محاولة لتبريرها.
أن ما لا نستطيع تبريره ليس معناه أنه لا يمكن تبريره والتدليل عليه. ولا ينبغي لنا أن نقول: أنه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة لانا لم نستطع الوصول إليها؛ فما زال مجال البحث والاستقصاء متسعا، وما زالت العقلية البشرية تسمو نحو الكمال رويداً رويداً على مر الزمن.
على أن هذا ليس من شأنه أن يبخس النظريات التي وضعها علماء النفس حقها، إذ يكفيهم فخراً أنهم فتحوا أذهاننا للبحث، واستكشفوا آفاقاً مجهولة من العقل البشري، وأرسلوا بصيصاً من النور على كثير من الحقائق. ومع ذلك فإن بعض النظريات التي وضعت تصلح لتفسير بعض الأحلام دون البعض الآخر. ومن الممكن أن يفسر حلم واحد على أساس نظريتين أو أكثر نظراً لتعدد جوانب بعض الأحلام وتشعب مراميها.
كثير من الأحلام تافه القيمة من الوجهة النفسية، فهو أشبه بالأحاديث العادية التي يدلي بها الشخص بمناسبة وبغير مناسبة، لأنه لا يستطيع الصمت في اغلب الأحوال، فلابد أن يقول شيئاً أيا كان للتفريج عن الطاقات الفائضة في نفسه.
وقد تعبر الأحلام على وتيرة الأحاديث البادية أو على نمط الرموز البدائية أو على نهج الأفكار والنزعات الطفلية. على أو لبعض الأحلام قيمة المقطوعات الشعرية الرائعة، أو الصور الزيتية الجميلة، أو النغمات الموسيقية الساحرة.
يستفسر بعض الناس عن السبب في كونهم لا يرون أحلاماً إلا فيما ندر؛ ورداً على هذا أقول: أنه قد يكون راجعاً إلى كون الطاقة الكاتبة (الرقيب الحلمي) لديهم قوية بحيث لا تستطيع المنبهات الكامنة في العقل الباطن التعبير عن نفسها، وقد يؤدي احتباسها في السريرة إلى القلق.
ومن الناس من يعبرون في اليقظة عن أفكارهم ووجدانهم وعواطفهم بوسائل تشبه وسائل الرجل الفطري الذي يستعين بالرموز ويعتقد في السحر لأن قواهم الكاتبة ضعيفة، وهذا يؤدي إلى طغيان عقلهم الباطن على عقلهم الواعي، فتبدوا أفكارهم عجيبة لا يهضمها المنطق لكونها مؤسسة على البدوات مفتقرة إلى الانسجام والتماسك. وقد يبلغ بعض هؤلاء ذروة الذكاء ولكنهم مع ذلك يشبهون الأطفال في تصرفاتهم ولا يستطيعون تكييف أنفسهم للبيئة. ولما كان هؤلاء يعبرون باستمرار عما يدور في سرائرهم في حالة اليقظة فهم لا يدخرون طاقات عقلية مستفيضة تسعى إلى التعبير عن نفسها إبان النوم في شكل أحلام.
وهاك بضعة أحلام وتفسيرها بإيجاز:
1 -
رأى شاب شارع في الزواج أنه موجود في غرفة بيضاء مستديرة الشكل، وقد دهش في الحلم من طراز الغرفة ولعدم وجود أبواب لها.
وقد قال لي أنه عندما استيقظ فطن إلى أن الغرفة تشبه صندوق الحلوى الذي يوزع على المدعوين بعد تحرير عقود الزواج
وفي نفس الليلة رأى في حلم آخر فريقا من السيدات والرجال والأطفال مجتمعين على شكل دائري، وكان هو خارج الدائرة، ثم ما لبث أن نفذ كالسهم إلى داخلها.
إذا أنعمنا النظر في هذين الحلمين اتضح لنا أن الأول يعني عقد الزواج وما يصحبه من توزيع صناديق الحلوى. كما أن وجوده في غرفة لا أبواب لها يعني أن هذا العقد قيد لا مخرج منه.
ويمثل الحلم الثاني الزواج نفسه، فالدائرة ترمز إلى عضو الانوثة، والاشخاص يمثلون المحتفلين بالعرس، ويعني الدخول إلى الدائرة العملية الجنسية ذاتها
2 -
خطبت شقيقة صديق لي إلى شاب ثم ألغيت الخطبة، وقد قص علي الحلم الآتي:
(رأيتني في قاعة إلى جانب شقيقتي، وجلس إزائي الأستاذ أحمد بدرخان والسيدة أسمهان،
وبعد مدة وجيزة اقبل كلبان توأمان ورقصا على نغمات موسيقية)
المقصود من هذا الحلم التحذير من إتمام صفقة الزواج، إذ هو يعني أنه إذا تم الزواج فمصيره إلى الإخفاق مثلما اخفق زواج الأستاذ بدرخان بالسيدة أسمهان. أما الكلبان التوأمان فدخيلان على الحلم. والسبب في رؤية الحالم لهما أنه كان يقرأ موضوعاً عن التوائم في الليلة التي رأى فيها الحلم؛ على أن رقصهما على النغمات الموسيقية يقصد به التعبير عن السرور بالتخلص من خطيب غير مرغوب فيه
3 -
طلب شاب منذ عشر سنوات يد فتاة فرفضته فتزوج بفتاة أخرى. وقد رأت الفتاة الأولى على أثر إصابة الشاب بكارثة منذ عهد قريب أنها تلبس حذاء ذا كعب مكسور ثم خلعته وناولته زوجة الشاب
يرمز الحذاء في هذا الحلم إلى الزواج، وتقصد الحالمة به تحقير خطيبها السابق، ويمثل الكعب المكسور الكارثة؛ وكأن الحالمة تقول لخطيبها السابق:(الآن أسلمك للفتاة التي تليق بك فما أنت أهل لي بسبب وقوعك في الكارثة التي تمخضت عنها تصرفاتك الشائنة)
واضح من هذا الحلم أنه يمزج حوادث ماضية بأخرى حديثة، فالعقل الباطن لا يعي الزمن وليس لمحتوياته انسجام ولا ترتيب
4 -
رأى شاب أنه يسير نحو هوة سحيقة بمحض اختياره على الرغم من أنه يعلم أن تصرفه يؤدي بحياته. وقد قضى نحبه في اليوم التالي للحلم بأن سار نحو مركبة كهربائية في شبه ذهول فاصطدمت به
وهكذا تغلبت رغبات العقل الباطن على ميول العقل الواعي لأنه كانت مزودة بطاقات انفعالية كبيرة. وقد كان عيشه رغيدا فلم يكن هنالك داع لالتماسه الموت، ولكن الميول المحتبسة في العقل الباطن من زمن بعيد عبرت عن نفسها بطريقة عملية فانتهت حياته إلى هذه النهاية المريرة
5 -
رأت فتاة مخطوبة أنها تملأ طبقاً بأوراق من شجرة سلق بدت في الحلم على هيئة شجرة عنب، وقد دهشت من شكلها لعلمها أن السلق ينمو في شكل عشبي
يمثل هذا الحلم الزواج، فالطبق يرمز إلى عضو الأنوثة، والشجرة عضو الذكورة بما تمتاز به من قوة الزحف والتشبث
ولما كان الخاطب أنثوي التكوين مثلته بشجرة السلق، وكانت تريده كشجرة العنب المثمرة، وهي تعني بهذا أنه لا يستطيع إنجاب أطفال
6 -
رأت فتاة أنها في قطار يجري بسرعة شديدة بين بساتين دانية القطوف حتى وصل إلى بحيرة جميلة أينعت على صفحتها زهور النبات الطافي، وسبحت فيها قوارب خضراء
يمثل هذا الحلم رغبة الفتاة الدفينة في الزواج وإعقاب الذراري فالقطار يمثل الرجل، والبحيرة ترمز اليها، والقوارب تعني الأطفال
7 -
رأت سيدة نفسها ترتدي ثوب الزفاف وتتزين كالعروس. كانت هذه السيدة مريضة بمرض خطير يستدعي إجراء عملية جراحية وكأنها تقول في الحلم: (سأسمح بإجراء العملية الجراحية فإذا شفيت فسأستقبل حياة جديدة)
وقد تحققت نبوءتها، فأجريت لها العملية وشفيت
(البحث الآتي (أحلام اليقظة))
محمد حسني ولاية
حاجتنا إلى معهد أثنولوجي
بجامعة فؤاد الأول
للأستاذ محمد جلال عبد الحميد
نعرض في هذه الكلمة الموجزة لضرورة العمل على إنشاء معهد ومتحف بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول يكون الغرض منهما دراسة الإنسان وجميع عناصر نشاطه المادي والروحي في المجتمعات البشرية المحدودة المدنية. وفي هذا المعهد يعني بوجه خاص بدراسة سكان حوض النيل واثر البيئة الجغرافية في حياتهم
وسنتكلم أولاً عن المقدمات والأسباب التي نشأت عنها فكرة وجود معهد الأثنولوجية وملحقاته، ثم ننتقل بعد ذلك للحديث عن الطرق والوسائل والخطوات التي يمكن اتباعها للوصول إلى تحقيق فكرة وجود هذا المعهد، مراعين في ذلك الحالات المادية والمستوى العلمي بمصر في الوقت الحاضر. وفي النهاية نعرض لبرنامج الدراسة فيه وجمع الأشياء وترتيبها بالمتحف
كيف بدأت البحوث الأتنولوجية بمصر
المؤسسات العلمية بمصر
إذا استثنينا بحوث (جيرارد) أحد أعضاء الحملة الفرنسية ووصفه الشامل لبعض نواحي الحياة المصرية، وألقينا نظرة عامة على تاريخ المؤسسات العلمية بمصر، ثم تصفحنا بحوثها الأتنوجرافية وقسنا مجهوداتها لنلمس ما قدمته من فوائد لعلم الاجتماع بوجه عام، ولإتنوجرافية حوض النيل بوجه خاص، وجدنا أن الجمعية الجغرافية الملكية هي أسبق لك المؤسسات إلى تحديد غايتها من حيث العمل على دراسة البيئة الجغرافية والاجتماعية بحوض النيل، إذ نقرأ في منهجها الموضوع عام 1918: أن (الجمعية ترغب بوجه خاص في توسيع وتهذيب البحوث الأتنولوجية):
وجاء في موضع آخر من هذا المنهج أن (البيئة الجغرافية لا تدرس إلا في الحالات التي تتأثر بها طرق حياة الإنسان):
' ' '
ولتحقيق تلك الغاية اتبعت الجمعية الجغرافية عدة طرق، منها القيام بعمل بحوث علمية على البيئات الجغرافية بحوض النيل والأمم والقبائل المنتشرة فوقه لتحديد مميزات تلك البيئات ومعرفة اختلاف تلك القبائل والأمم من حيث الجنس والعادات والتقاليد ونوع نشاطها المادي، وأن تتعهد الجمعية بنشر تلك البحوث وإلقاء المحاضرات التي تعالجها. يضاف إلى هذا أنها أنشأت متحفاً بدارها يضم كثيراً من أنواع الحرف والصناعات التي يمكن اعتبارها إلى حد ما من مميزات البيئة المصرية ممثلة في مدينة القاهرة. ولها أيضاً مكتبة غنية بما فيها من كتب ومراجع تاريخية وجغرافية عامة
ولو حاولنا أن نحصي نتائج البحوث العلمية التي قامت بها الجمعية منذ نشأتها إلى اليوم لظهر لنا أن قيمة هذه النتائج محدودة، وخصوصا إذا قيست هذه النتائج بما استنفد فيها من مجهودات في مدة خمس وسبعين تقريباً. إذ أننا لم نر لها بحثاً علمياً كاملاً في أية ناحية من نواحي الحياة المصرية، أو بما له اتصال مباشر بحوض النيل. هذا إذا استثنينا بعض المقالات والفصول التي تظهر بين وقت وآخر في مطبوعاتها؛ فهي أقرب إلى أن تكون إعلانات عن موضوعات يتناولها فيما بعد علماء مختصون يعنون بدراستها دراسة علمية منظمة. ولا تزال تجهل كثيراً من الظواهر الاجتماعية والدينية واللغوية بحوض النيل. ولا تزال تجهل أيضاً كيفية تعليل تلك الظواهر أوضاعها
وأما قسم المحاضرات بالجمعية الجغرافية فإنه لم ينهض لتحقيق الغرض الذي أنشئ من أجله، إذا لم يعمل على تنظيم إلقاء المحاضرات العلمية التي تتناول في مجملها دراسة أحد الموضوعات والمشكلات التي هي وليدة البيئة المصرية وغيرها
ولعل سبب هذا الجمود الملحوظ من جانب الجمعية الجغرافية الملكية يرجع إلى أنها هيئة لم تشرف عليها الحكومة إشرافاً فعلياً لتخصص لها العلماء وتنفق عليها الأموال اللازمة لتحقيق غرضها العلمي كما جاء في برنامجها السالف الذكر. وما دام هذا هو شان هذه الجمعية فلا يحق لنا أن نعول عليها كثيرا وأن نحملها ما لا طاقة لها به من العمل على درس وتحليل البيئات الجغرافية والاجتماعية المختلفة الموجودة بحوض النيل، مع بدل الجهود في جمع وترتيب ما اشتملت عليه العناصر المادية لتلك البيئات. فضلاً عما يطلب
إليها من العمل على المساهمة في بناء علم الأتتولوجيا مع المؤسسات العلمية في البلاد الأجنبية
ثروة حوض النيل العلمية
حين يتجول المرء بحوض النيل من منبعه إلى مصبه، ومن شرقه إلى غربه، لا يكاد ينتقل من مكان إلى آخر دون أن يلحظ كثيراً من التشابه تارة، ومن التباين تارة أخرى، بين البيئات الجغرافية والاجتماعية المختلفة. فمن منطقة جبال وغابات وبحيرات في الجنوب، إلى منطقة تلال وصحار في الشمال. وكذلك نشاهد على ضفاف النيل وعلى روافده كثيراً من القبائل الزنجية عراة الأجسام مثل الأشولي والمادي والباري والشلوك والدنكا وغيرهم؛ وفي مناطق أخرى نجد قبائل أفرادها نصف عراة مثل الانجستا والبرتا والتعايشة وما إليهم؛ وفي شمال السودان ومصر نجد العرب والفلاحين وهم خليط من الدم السامي والزنجي وقليل من الدم الآري. ونلاحظ أن كل تلك الجماعات البشرية تختلف كثيراً فيما بينها من حيث التكوين الاجتماعي وعناصر التفكير والشعور واللغة وطرق الحياة؛ وأن من تلك الظواهر ما هو بسيط في تكوينه، ومنها ما هو كثير التعقد والتنوع؛ ولكل من هذه الأمم تاريخ قد يكون حديثاً فيرجع إلى مائة عام أو أقل، وقد يكون قديماً فيرجع إلى آلاف السنين
هذه هي حال الأمم والقبائل التي تسكن الآن حوض النيل. أما رجل ما قبل التاريخ والجماعات التي كونها والآثار التي خلفها فوق هذا الوادي فلا زلنا نجهل حقيقة أمرها. وإن بحوث جاك دي مرجان وهنري دي مرجان وفلندرز بتري وغيرهم تدلنا على أن من الممكن عمل دراسة وافية مقارنة لآثار ما قبل التاريخ بحوض النيل إذا تعددت البحوث وتوفرت الوثائق
من هنا يظهر جلياً ميزة الثروة العلمية الموجودة بحوض النيل، وأنها تفوق بكثير ما عداها من ثروات أوربا وآسيا واستراليا. فنرى مثلاً في أوربا نوعاً واحداً من المدنية هي المدنية الغربية الحالية، وفي استراليا نوعاً واحداً من المدنية كذلك وهي (المدنية المحدودة) وهكذا؛ ولكننا نشاهد بحوض النيل (مدنيات محدودة) عند الأشولي والمادي والأدك وغيرهم، ومدنيات متوسطة مثل مدنية شمال السودان وريف مصر، ومدنيات راقية مثل المدنية
المصرية القديمة. ونشاهد أيضاً أن كثيراً من معالم تلك المدنيات لم تزل باقية على حالتها الأولى برغم ما طرأ عليها من عناصر مدنيات أجنبية مختلفة
وإذا عنينا بدراسة تلك المدنيات وأسرعنا في جمع معالمها وتحديد أوضاعها مناطقها تهيأت فرصة طيبة لعلم الاجتماع وعلم تاريخ الأديان والجغرافيا البشرية واللغات وغيرها من العلوم الاجتماعية الأخرى للاستفادة والاستزادة من الأدلة والبراهين في توضيح نظرياتها وتنميتها
تلك هي الفائدة العامة المرجوة من البحوث الأتنولوجية بحوض النيل؛ أما فائدتها لمصر والسودان فإنه يكون من السهل استخلاص العناصر الرئيسية لمدنية كل منهما مع معرفة اتصال تلك المدنيات ببعضها وأثر المدنيات الأخرى فيها، فضلاً عما يكون لتلك البحوث من أثر واضح في توجيه المصلحين الاجتماعيين والدينيين وغيرهم نحو الغاية المنشودة في جهادهم ونضالهم لرفع مستوى الشعب المادي والأدبي. وإذا تعينت أوضاع كل مدنية وحدودها بحوض النيل سهل على أبناء هذا الوادي أن يؤمنوا بحقيقة قوميتهم
(البقية في العدد القادم)
محمد جلال عبد الحميد
ابن خُرْدَاذبَه
للأستاذ كوركيس عواد
1 -
تصدير
كانت مجموعة التصانيف الثمينة، التي طبعها دي غويه المستشرق الهولندي الذائع الصيت، بعنوان (الخزانة الجغرافية العربية)، قد نالت استحسان جمهرة الباحثين، وتقدير كبار العلماء، ولا مراء أن تلك المؤلفات، سطرت لأصحابها اسماً ذهبياً على جبين الدهر وأبقت لهم ذكراً خالداً. وقد كان اهتمام ناشرها العلامة بتصحيحها ومقابلة روايات نسخها، مدعاةً لإعجاب كل من وقف عليها ومجلبةً لإكبار ما عاناه في تحريرها، ودليلاً على ما اتصف به من علم واسع وصبر جميل
والذي يؤسف له أشد الأسف، أن أكثر مؤلفي هذه (الخزانة) هم من صنف العلماء المغمورين الذين نجهل الشيء الكثير من أمرهم. وحسبك أن تعلم أن أغلب كتب التراجم لم تتعرض لذكرهم، وإن فعلت فبالشح والتقتير! وكان المستشرق المذكور، وقد صرف جانباً من عنايته في التعريف بكل واحد منهم فدوَّن ما وسعه تدوينه؛ ومع ذلك ظلت هاتيك التراجم بحاجة إلى من يتبسط فيها، ويزيل عنها ما هو عالق بها من الاقتضاب. وقام بعد دي غويه من اهتم بهذا الشأن أيضاً، فنشر الأب لامنس ترجمة حسنة للبشاري المقدسي، وتلاه الأستاذ أحمد أمين بك فكتب ترجمة ثانية له. ودوَّن أخي ميخائيل عواد ترجمة وافية لابن حوقل. وهانحن أولاء نعرض على القراء ترجمة (ابن خرداذبه) مستقاة من المراجع الموثوق بصحتها. ومن الله التوفيق
2 -
لفظة خرداذبه
اختلفت المراجع القديمة في ضبط لفظة (خرداذبة) أيما اختلاف: فبعضها ضبطها بإسكان الراء، وبعضها بفتحها مع التشديد. ومنها من كتبها بذالين معجمتين بينهما ألف، أو بدالين مهملتين بينهما ألف؛ في حين أن فريقاً آخر جعل من الدال الثانية ذالاً معجمة، وهي الأوفق. فإن الكلمة فارسية على ما تجيء بنا، والدال الواقعة بعد حرف علة تُعْجَم على القاعدة المشهورة. وهناك من أورد الباء مكسورة، أو من أوردها مفتوحة، أو من جعلها
ياء، فقد قال السيد مرتضى الزبيدي:(خرداذيه: بضم الخاء وسكون الراء وفتح الدال بعدها ألف وكسر الذال وسكون الياء التحتية وآخره هاء)
وهنالك اختلافات عديدة غير ما ذكرنا، حصلت من جراء التلاعب بأحرف لفظة (خرداذبه). ونحن على يقين من أن أغلب ذلك إنما جاء على أيدي جهلة النساخ. ومما وقفنا عليه من الصور الممسوخة لهذه اللفظة: جرداذه، وجرداذبه، وجرداويه، وحرادو، وحراذيه، وحرداديه، وخرداذبه، وحردازبه، وخراداذبة، وخرداد، وخردادة، وخردادية، وخرداذه، وخرزاد، ودارية!
فهذه اثنتان وعشرون صورة مضطربة مشوشة، جرت على أسل الكتبة والنساخ، وإنما أوردناها بهذا الوجه من التفصيل ليكون القارئ على بينة من أمرها حين مراجعته المصنفات التي نوهنا بها في الحواشي
وفي عجم ريشاردسن الفارسي - العربي - الإنكليزي تفسير لمعنى لفظة خرداذبة. قال: أن معنى (خرداذ) بالفارسية مَلَاك، و (بًه)، والباء موحدة مفتوحة: جيد أو صالح. فيكون مدلول اللفظة: الملاك الصالح
نخرج بالقارئ مما ذكرنا آنفاً، أن أحسن الوجوه وأصحها في كتابة هذه التسمية الأعجمية هو (خرداذبه) بالضبط الذي نقلناه عن صاحب التاج مع مراعاة تصحيح الياء المثناة باء موحدة مفتوحة
3 -
من عرف باسم خرداذبة
ويحدثنا التاريخ، أنه نشأ غير واحد ممن عرف بهذه التسمية هدانا البحث إلى أسماء خمسة منهم، ودونك شيئاً عنهم:
الأول - خرداذبة الرازي الراوي: ذكره الطبري في حوادث سنة 31 للهجرة. وهذا لا يمت بصلة ما إلى الأربعة الآخرين الآتي ذكرهم.
الثاني - خرداذبة: جد أسرته الأعلى. وهو رجل فارسي من بلاد خراسان، كان في أول عهده مجوسياً، ثم أسلم على يد البرامكة. وهو أول من أسلم من أفراد أسرته.
الثالث - أبو عبد الله ابن خرداذبة: وهو ابن لخرداذبة المتقدم ذكره. لم نقف على ما يستحق التدوين من أخباره.
الرابع - عبد الله ابن خرداذبة ابن السابق ذكره. وهذا قام بفتوحات مهمة، وأسند إليه منصب كبير في عهد العباسيين، أعني به ولاية طبرستان. فقد روي الطبري، وتابعه في ذلك ابن الأثير، وأبو الفداء، في حوادث سنة 201 للهجرة، أن (في هذه السنة، افتتح عبد الله بن خرداذبة، وهو وآلي طبرستان، اللارز والشرز من بلاد الديلم، وزاهدما في بلاد الإسلام. وافتتح جبال طبرستان، وأنزل شهريار بن شروين عنها، فقال سلام الخاسر:
إنما لنأمل فتح الروم والصين
…
بمن أذل لنا من مُلك شروين
فاشدد يديك لعبد الله إن له
…
مع الأمانة رأيا غير موهون
وأشخص مازيار بن قارن إلى المأمون، وأسر أبا ليلى ملك الديلم في غير عهد في هذه السنة). انتهى كلام الطبري
وقد تعرض ابن كثير لهذه الحادثة دون أن يذكر ابن خرداذبه وهذا نص كلامه: (وفيها (سنة 201هـ) افتتح نائب طبرستان جبالها وبلاد اللارز والشيرز (كذا). وذكر ابن حزم أن سلماً الخاسر قال في ذلك شعراً. وقد ذكر ابن الجوزي وغيره أن سلماً توفي قبل ذلك بسنين. فالله أعلم) أهـ
وقد أشار إليه الشابشتي بقوله: (فذكر عبد الله ابن خرداذبه، أنه حضر مجلس المأمون يوماً، وقد عرض عليه أحمد بن أبى خالد رقاعاً. . .)
وذكره أبو الفرج الأصفهاني بما يلي: (أخبرني الحرمي قال: حدثنا الديناري قال: حدثنا إسحاق قال: قالت لي زهراء الكلابية: ما فعل عبد الله بن خرداذبه؟ فقلت: مات! فقالت: غير ذميم ولا لئيم. غفر الله لصداه لقد كان يحبك ويعجبه ما سرك. . .)
الخامس - أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه. وهو الذي عليه مدار كلامنا في هذا البحث
4 -
عبيد الله بن خرداذبه
وهذا أشهر من ذكرنا من هؤلاء القوم، وأعظمهم مكانة، وأبقاهم اسماً. كان قد أنيط به منصب (صاحب البريد والخبر) بناحية الجبل بفارس. على أن ما زاد في شهرته وتخليد اسمه في التاريخ، هو المؤلفات التي صنفها، وسيأتي الكلام عليها في موطن آخر من هذا المقال
وكان ابن خرداذبه قد نادم (المعتمد) خامس عشر الخلفاء العباسيين وخص به. وقد ساق المسعودي (المقالة الموسيقية) لابن خرداذبه، ومما جاء في ثناياها قوله:
(وذكر عبيد الله بن خرداذبه أنه دخل عليه (على المعتمد) ذات يوم وفي المجلس عدة من ندمائه من ذوي العقول والمعرفة والحجى؟ فقال له: اخبرني من أول من اتخذ العود؟ قال ابن خرداذبه: قد قيل في ذلك يا أمير المؤمنين أقاويل كثيرة. الخ)
إلى أن يقول: (قال المعتمد: قد قلت يخاطب (ابن خرداذبه) فاحسنت، ووصفت فأطنبت، وأقمت في هذا اليوم سوقا للغناء وعيدا لأنواع الملاهي. وإن كلامك لمثل الثوب الوشي، يجتمع فيه الأحمر والأصفر والأخضر وسائر الألوان. فما صفة المغني الحاذق؟ قال ابن خرداذبه: المغني الحاذق يا أمير المؤمنين. . . الخ)
ويختم المسعودي الحكاية بقوله:
(فهذه - يا أمير المؤمنين - جوامع في صفة الإيقاع ومنتهى حدوده. ففرح المعتمد في هذا اليوم وخلع على ابن خرداذبه وعلى من حضره من ندمائه، وفضله عليهم، وكان يوم لهو وسرور)
(يتبع - بغداد)
كوركيس عواد
في الفلسفة الإسلامية:
إخوان الصفاء
للأستاذ عمر الدسوقي
- 4 -
النفس الإنسانية
تستعد النفس الإنسانية قوتها من النفس الكلية؛ ومراتب النفوس ثلاثة أنواع: منها مرتبة الأنفس الإنسانية، ومنها ما فوقها وما دونها. والمعروف من هذه النفوس خمس، فالتي فوقها اثنتان: رتبة الملكية، ورتبة القدسية، فرتبة الملكية هي رتبة الحكمة، ورتبة القدسية هي رتبة النبوة. والتي دونها اثنتان: النفس الحيوانية والنفس النباتية
ومن الأخلاق والقوى ما ينسب إلى النفس النباتية الشهوانية، ومنا ما ينسب إلى الحيوانية الغضبية، ومنها ما ينسب إلى النفس الإنسانية الناطقة، ومنها ما ينسب إلى النفس العاقلة الحكيمة، ومنها ما ينسب إلى القدسية. فالمنسوب إلى النباتية: الغذاء، والرغبة في المشروبات، والحرص في طلب الشهوات. والمنسوب إلى الحيوانية الغضبية: الشهوة الجنسية، والانتقام، وشهوة الرئاسة، وكل الغرائز الشهوانية، والمحافظة على بقاء النوع؛ ويشترك في هذه الحيوان والإنسان. والمنسوب إلى النفس الناطقة: شهوة العلم والمعرفة، والعز والرفعة. والمنسوب إلى الملكية والقدسية: شهوة التقرب لربها والزلفى لديه. والسبب في وجود هذه الغرائز بنفوسنا أنه يوجد في المعلول دائماً شيء من العلة، فإن انعدم في المعلول سبب أو غير ذلك فهي كما في الحيوان والنبات؛ والله الذي هو علة الوجود حي باق لا يعرض له الفناء، ولهذا صارت الموجودات محبة للبقاء كارهة للفناء؛ ولهذه فالسعادة هي أن يبقى كل موجود أطول ما يمكن على أفضل حالاته وأتم غاياته لا ينقصه شئ؛ حتى يكون شبيهاً بالإله
الفضيلة
إذا ظهرت من الطبيعة هذه الشهوات المركزة في الجبلة، وكانت على ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي من أجل ما ينبغي سميت خيراً؛ ومتى كانت بخلافه سميت شرا. وإذا فعل
الإنسان ذلك باختياره وإرادته على ما ينبغي بمقدار ما ينبغي، من أجل ما ينبغي، كان صاحبه محموداً؛ ومتى كان بخلاف ذلك كان سفيهاً جاهلا وكل نفس خادمة للنفس التي أعلى منها، وصلاحها في امتثالها لأوامرها
قوى النفس
وللنفس الإنسانية قوى كثيرة تساعدها على أن تصير عقلا بالفعل، وأفضلها القوى المفكرة لأنها تؤدي إلى المعرفة، والمعرفة لباب حياة النفس. ونفس الطفل في أولها صحيفة بيضاء لم ينقش عليها شيء، وكل ما تحمله إليها الحواس الخمس تتناوله القوة المتخيلة وتجمعه، ومجرى هذه القوة مقدم الدماغ، ثم تدفعه إلى القوة المفكرة ومسكنها وسط الدماغ، وهي تميز بعضه من بعض وتعرف الحق والباطل، ثم تؤديه إلى الحافظة التي مجراها مؤخر الدماغ. والقوة الناطقة تعبر عما في النفس بالألفاظ للسامعين، أو تقيدها بصناعة الكتابة، فيكون للنفس خمس حواس باطنة تقابل الخمس الظاهرة
الموت والحياة
الإنسان مكون من جسم ونفس روحاني، والجسم يريد البقاء في الدنيا، والنفس الروحانية تريد الرحيل إلى الآخرة؛ وعلى هذا فالموت والحياة نوعان: جسدي ونفساني، والحياة الجسدية ليست شيئا سوى استعمال النفس الجسد، والموت الجسدي ليس شيئاً سوى تركها استعماله؛ كما أن اليقظة ليست شيئاً سوى استعمال النفس الحواس، وليس النوم شيئاً سوى تركها استعمالها، أما النفس فحياتها ذاتية لها، وذلك أنها بجوهرها حية بالفعل علامة بالقوة فعالة في الأجسام والأشكال، وموتها هو جهالتها بجوهرها وغفلتها عن معرفة ذاتها، وذلك عارض لها من شدة استغراقها في بحر الهيولي، فكما أن ولادة الطفل ليست شيئاً سوى خروجه من الرحم، فكذلك ولادة النفس ليست شيئاً سوى مفارقة النفس إياه، والنفس لا تعرف السعادة إلا بعد ما تفارق الجسم، وعلى ذلك فالموت حكمة لأنه سبب لحياة الأبد
وبعد مفارقة النفس الجسد تبقى الشقية هائمة بهمومها معذبة دون فلك القمر، سائحة في بحر الهيولي، هاوية في عالم الكون والفساد مع أبناء جنسها من الأمم الخالية إخوان الشياطين وجنود إبليس أجمعين:(كلما دخلت أمة لعنت أختها)
وهذه هي جهنم عند أخوان الصفاء، ونراهم يتابعون فلاسفة اليونان والمسلمين في قولهم يحشر الأرواح دون الأجسام، وإن العذاب عذاب الروح لا الجسد. ولقد رد عليهم الغزالي في تهافت الفلسفة رداً لا باس به
أما النفوس الخيرة عند أخوان الصفاء فتصعد إلى عالم الأفلاك وتصير ملائكة بالفعل، وهذه هي الجنة عندهم؛ والثواب هنا ثواب روحي لا جسدي. ولقد فصل الفارابي هذه النظرية في مدنيته الفاضلة ووضحها ابن سينا في النجاة والشقاء
خلود النفس
يعتقد إخوان الصفاء اعتقاداً جازماً الأجساد حبس للنفوس أو حجاب لها أو صراط أو برزخ، والنفوس تعلم تمام العلم بأن لها وجوداً آخر خيراً وأبقى وألذ وأحسن من هذا الوجود والبقاء الذي مع الجسد، فإذا استتمت الأنفس الجزئية وكملت صورتها ومعارفها، واستيقظت من هذه الغفلة وأحست بغربتها في هذا العالم الجسماني وأنها في أسر الطبيعة تائهة في بحر الهيولى، وعرفت فضيلة جوهرها ونظرت إلى عالمها، وشاهدت تلك الصور الروحانية المفارقة للمادة، إذا أدركت هذا كله هانت عليها مفارقة الجسد وسمحت بإتلافه وفي هذا سعادتها
وموت النفس هو جهلها بجوهرها وغفلتها عن معرفة ذاتها، والنفوس السعيدة هي التي قطعت أيام الحياة الدنيا بالأعمال الصالحة وسارت سيرة عادلة، وتخلقت بأخلاق جميلة، وبحثت عن حقائق المعقولات وأحكمتها؛ فإذا ما بلغت آخر العمر اشتاقت إلى مفارقة هذه الحياة، فلو لم يكن الموت لما أمكنها الصعود إلى ملكوت السماء ولا الوصول إلى الجنة
وعلى العكس من ذلك نفوس الأشقياء، فإنها بما اعتادته من لذات هذه المحسوسات، وقد منعت الوصول إليها والعودة للجسم نقول:(يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل) وتبقى متألمة بذاتها معذبة من سوء عاداتها دون فلك القمر
وعلى هذا فالنفوس البشرية الخيرة ملائكة بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت ملائكة بالفعل. والنفوس الشريرة شياطين بالقوة فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل
أما يوم القيامة ونهاية العالم فيكون بمفارقة النفس الكلية للعالم ورجوعها إلى الله
الله والعالم
لما كان الله تام الوجود كامل الفضائل عالماً بالكائنات قبل كونها، قادراً على إيجادها متى شاء، لم يكن من الحكمة أن يحبس تلك الفضائل في ذاته فلا يجود بها ويفيضها؛ فإذا بواجب الوجود قد أفاض الجود والفضائل منه كما يفيض النور والضياء من عين الشمس. والله سبحانه لا يباشر الأفعال بذاته، بل يقتصر على الأعمال الكلية، أما التفصيلات فيدعها لملائكته الموكلين (وما أمْرُنا إلا واحدةٌ كلمحٍ البصر)، ويقول تعال كذلك:(وما خلْقُكُم ولا بعْثُكُم إلا كنفْس واحدة). ونسبة الأفعال التي تجري على أيدي عباده إلى الباري سبحانه كنسبة أفعال الملوك إذا قيل بني فلان الملك مدينة كذا، وحفر نهر كذا، فهؤلاء الملوك قد أمروا فقط، أما مباشرة العمل فتركت لغيرهم
وعلم الله تعالى محيط بما يحوي العقل من المعقولات، والفعل محيط بما تحوى النفس الكلية من الصور، والنفس محيطة بما تحوى الطبيعة من الكائنات، والطبيعة محيطة بما تحوى الهيولي من المصنوعات
تأثير أخوان الصفا
قد بينا سابقاً تلك الدعاية المنظمة التي قام بها أخوان الصفا لحمل الناس على الدخول في مذهبهم، وقد أدى نشر هذه الرسائل الآنفة الذكر إلى نشر الفلسفة ومبادئها، واشتغال الناس بها؛ إذ كتبوها بلغة سهلة تناسب عقلية الجمهور، ومزجوها بالدين مقتبسين كثيراً من آي القرآن الكريم حتى لا ينفرون منها، ووضعوا فيها مبادئ عامة من كل فن، فكانت من الوجهة العلمية موسوعة احتذى حذوها كثير من المؤلفين فيما بعد
وقد حملت الرسائل على رجال الدين والفقه، وأدى ذلك إلى اشتغال كثير من هؤلاء بالرد عليهم وتكفيرهم كابن تيمية وابن حجر وغيرهما. ثم أن رسائل إخوان الصفا كانت أول محاولة للتوفيق بين الدين والفلسفة، تلك الخطة التي اقتفاها الفارابي وابن سينا وابن رشد فيما بعد، والتي تأثروا فيها بإخوان الصفا كما تأثر هؤلاء بالأفلاطونية الحديثة بعد أن تنصرت ونقلها السريان إلى لغتهم محاولين أن يتخذوا منها دعامة لتأييد مذاهبهم المتعددة. . .
والرسائل كانت دستورا لطائفة الإسماعيلية كما رأينا من قبل فيها رموز وإشارات
واصطلاحات لا يعرفها إلا الأتباع المخلصون. على أن هناك طائفة ممن اشتهروا بالعلم والفلسفة قد تأثروا بهم ومنهم: أبو حيان التوحيدي، وقد عرفنا أنه كان الصلة بين جماعة البصرة وجماعة بغداد، وقد اتهم بالزندقة من أجل ذلك، حتى جاء في طبقات الشافعية ما يأتي:(زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري)، ومنهم يحيى بن عدي المترجم المشهور والذي كان أحد أعضاء فرقة بغداد، وقد نشرت له مجلة اللغات السامية الأمريكية كتاباً في تهذيب الأخلاق تشبه تعاليمه ما عند أخوان الصفا في كثير من الموضوعات: ومنهم كذلك جماعة بغداد ورئيسهم السجستاني أبو سليمان وقد رأينا كيف أن أبا حيان قد اخذ رسائل إخوان الصفا وعرضها عليه؛ وعرفنا ما قاله أبو العلاء المعري فيهم عند مغادرته بغداد وكيف سماهم إخوان الصفا
نعم أن الغزالي يعرض بفلسفة أخوان الصفا، ويعدها فلسفة العامة من الناس، بيد أنه لا يتحرج من الاقتباس منها، وهو مدين لفلسفتهم بأكثر مما يعترف
(بيروت)
عمر الدسوقي
آثار من أولية الشعر
في الشعر الجاهلي
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
ظهرت في عصرنا دعوى عريضة، يذهب أصحابها إلى إنكار صحة الشعر الجاهلي، وكان من أكبر ما قامت عليه تلك الدعوى أن هذا الشعر على حسب ما روي لنا يخالف سنة النشوء والارتقاء فيظهر أول ما يظهر بالغاً غاية الكمال، لا شئ ينقصه من جهة الوزن، ولا من جهة القافية، ولا من جهة اللفظ، ولا من جهة المعنى، ومثل هذا لا يمكن قبوله، لأن سنة النشوء والارتقاء من السنن الطبيعية التي لا يشذ شيء عن حكمها، ويجب إنكار ما يأتي على خلاف مقتضاها
فإذا قيل لهؤلاء الناس أن هذا الشعر الجاهلي كان قبله شعر قديم لم يصل إلينا، وقد مر هذا الشعر القديم في أطوار تدرج فيها على سنة النشوء والارتقاء، حتى وصل إلى هذا الشعر الجاهلي فجرى أمره على تلك السنة أيضا، ولم يكن فيه شذوذ عنها، يتخذ ذريعة الى إنكار صحته، والطعن في نسبته إلى عصره
إذا قيل لهم هذا قالوا أن هذا الشعر القديم حديث خرافة أيضا، لأنه لو صح وجوده لكانت له آثار ولو قليلة في الشعر الجاهلي، ولم ينقطع أثره هكذا مرة واحدة، لأن هذا يخالف سنة النشوء والارتقاء أيضاً، فهي كما تقضي بالتدرج من غير الأصلح إلى الأصلح، تقضي ببقاء آثار قديمة فيما تتدرج اليه، لتكون شاهدة بهذا التدرج، وهي المعروفة في مذهب النشوء والارتقاء باسم الأعضاء الأثرية
ولاشك أن هذا اعتراض له قيمته، لأنه يقوم على شاهد من العلم، فلا يقوم في وجهه إلا شاهد يعتمد على العلم كما يعتمد ويتفق مع ما يقضي به مذهب النشوء والارتقاء من سنة التدرج ولا يكفي في إثبات ذلك الشعر القديم الإشارة إليه في مثل قول امرئ القيس:
عُوجَا على الطَّل المحيل لأننا
…
نبكي الديار كما بكى ابنِ خذامِ
وقول عنترة:
هل غادرَ الشعراءُ من مُترَدَّمِ
…
أم هل عرفتَ الدار بعد توُّهمِ
وقول زهير:
ما أُرانا نقول إلا مُعاراً
…
أو معاداً من لفظنا مَكرُورا
لأنه لا قيمة لهذه النصوص إذا لم يوجد في الشعر الجاهلي آثار من ذلك الشعر القديم تشهد بوجوده، وتبين بعضاً من حاله قبل أن يصل إلى طور الشعر الجاهلي، لأنه لا يعقل أن يطفر الشعراء كلهم إلى هذا الطور كما طفر مهلهل وامرؤ القيس وغيرهما من القدماء، ولا يوجد بينهم متخلفون قد تبثوا بشيء مما كان عليه الشعر قبل هذا الطور
فذلك الشعر القديم لابد أنه لم يكن مستقيم الوزن، ولم يكن يجري على هذه البحور التي يجري عليها الشعر الجاهلي، فأين أثر ذلك في هذا الشعر؟
وهو أيضاً لابد أن يكون مضطرب القافية، لا يجري فيها على سنن مطرد، ولا يتأنق فيها كما تأنق الشعراء الجاهليون، فأين اثر ذلك في شعرهم؟
فإذا كان ذلك الشعر قد وجد حقاً، فانه لابد أن يبقى اثر من فساد وزنه وقافيته في الشعر الجاهلي، حتى يكون دليلاً ناطقاً بأنه درج على سنة الدرج، ويكون لوجوده فيه دلالة الأعضاء الأثرية على أصلها، وهي دلالة لا تقبل شكا، ولا يمكن أن يجادل فيها أولئك الذين ينكرون صحة الشعر الجاهلي.
وقد عثرت على بعض من هذه الآثار في هذه الأيام، ولا أنكر أنها في كتب متداولة بين الناس، ولكنهم يمرون عليها ولا يعرفون قيمة دلالتها، ولا يلتفتون إلى أنها آثار من ذلك الشعر القديم الذي انطوى عنا خبره، ولا يدركون أن منزلتها في الدلالة على ذلك الشعر، كمنزلة تلك الآثار المطوية في بطون الأرض، في دلالتها على تاريخ آبائنا الأقدمين.
وممن وجد في شعره بعض هذه الآثار عبيد بن الأبرص، وهو شاعر قديم معاصر لمهلهل وامرئ القيس، وقد روي صاحب الأغاني عن محمد بن سلام أنه قال:
عبيد بن الأبرص قديم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب لا أعرف له إلا قوله:
أفقرَ من أهله مَلْحوبُ
ولا أدري له ما بعد ذلك
وهذه القصيدة التي ذكرها ابن سلام أشهر قصائد عبيد ابن الأبرص، ولكنها مع هذا مضطربة الوزن، مختلة القافية، ولا يزال علماء العروض مختلفين في أمرها، فمن قائل
أنها من البسيط، ومن قائل أنها من الرجز، ومن قائل أنها خليط منهما، وذلك أنك تراه يقول في مطلعها:
أقفر من أهله ملحوبُ
…
فالْقُطَّيِبَّاتُ فالذّنُوبُ
وهذا من مخلع البسيط، ثم تراه يقول:
أفلحْ بما شئت فقد يُدرَكُ بالض
…
عفِ وقد يُخْدَعُ الأريبُ
وشطره الأول من الرجز، وشطره الثاني من مخلع البسيط
ثم يقول بعد هذا في اختلال وزن واضطراب قافية:
لا يعظ الناسُ من لا يعظ الدّ
…
هْرُ ولا ينفع التَّلْبِيبُ
إلا سَجِيّاتُ ما لقلوبِ
…
وكم يصيرَنَّ شائنا حبيبُ
وقد ذكر ابن رشيق أن هذه القصيدة كادت تكون كلاما غير موزون بعلة ولا غيرها، حتى قال بعض الناس: أنها خطبة ارتجلها، فاتزن له أكثرها
والحق عندي أن هذه القصيدة تمثل أولية الشعر العربي خير تمثيل، وتبين أنه لم يكن له أوزان محدودة يتقيد بها، ولا بحور متميزة لا يتعدادها، ولا تجري فيه الحركات والسكنات على لحن مطرد، لا يتغير ولا يتبدل في القصيدة الواحدة، وإن عبيدا في هذا يمثل بين شعراء عصره حال الشاعر المتخلف، لأنه لم يتهيأ له من أسباب النهوض ما تهيأ لهم، فجرى في شعره مجراه الأول، ولم يعبأ بما تقيد به شعراء عصره في أمر الوزن
ومما يروى لعبيد أيضاً من الشعر المختل الوزن قوله:
هي الخمر تكني الطَّلَا
…
كما الذئب يكنى أبا جعده
ومما وقع من هذا الشعر قول علقمة الفحل، وهو شاعر قديم
دافعت عنه بشعري إذا
…
كان في الغد أجحد
فكان فيه ما أتاك وفي
…
تسعين أسرى مقرنين في صفد
دافع قومي في الكسر إذ
…
طار بإظهار الظباة وقد
فأصبحوا عند جفنة في الأغ
…
لال منهم والحديد عقد
إذ مجنب في المجنبين وفي
…
النكهة عن باد ورشد
فهذه القطعة مما أدخل في جملة شعر علقمة، وهي مختلة الوزن حتى قال بعضهم إنها
ليست بشعر
وأما القافية فإنها لدقتها كانت أحكامها تخفي على كثير من الشعراء الجاهليين، فبقي فيها كثير من آثار أولية الشعر كالإقواء والسناد وغيرهما من عيوب القافية، حتى قيل أن الإقواء كان مذهب العرب في شعرهم، ومن ذلك قول امرئ القيس:
أحنظلُ لو حامِيتمُ وصبرتُمُ
…
لأثنيتُ خيراً صالحاً ولأرْضاني
ثياب بني عوف طُهارًى نقيَّة
…
وأوجههم عند المشاهد غرانُ
عُوَيْرٌ ومن مثل العوير ورهه
…
وأَسْعَدَ في ليل البلابل صفوانُ
فقد أصبحوا والله أصفاهم به
…
أبَرَّ بأيمان وأوْفَي بجيرانِ
وكذلك كان النابغة الذيباني يقوى في شعره - وهو من متأخري شعراء العصر الجاهلي - وكان لا يعرف أن الإقواء من عيوب القافية، ومن إقوائه قوله في داليته:
أَمِنَ مَيَّة رائحٌ أو مُغْتَدٍ
…
عجلانَ ذا زادٍ وغير مُزَوَّدِ
زعم البوارحُ أن رحلتنا غداً
…
وبذاك خيرنا الغرابُ الأسودُ
وقوله أيضاً:
سقط النصيفُ ولم ترد إسقاطه
…
فتناولته واتقتنا باليدِ
بمُخَضَّب رخْص كأن بَنانه
…
عَنَمٌ يكاد من اللطافة يُعْقَدُ
فلما ظهر الإسلام نهض العرب ورق وجدانهم، ولطف ذوقهم، فعرفوا هذه العيوب وتجنبوها، وافتخروا بذلك على الشعراء قبلهم، كما قال ذو الرمة:
وشعرٍ قد أَرْقتُ له طريفٍ
…
أجانبه المُسَانَدَ والمحالا
وقال جرير:
فلا إقواء إذ مَرِسَ القوافي
…
بأفواه الرواة ولا سِنَادا
وبهذا استقامت قوافي الشعر، واتسقت أوزانه، بعد أن مر في تلك الاطوار، ولم يشذ في ذلك عن سنة النشوء والارتقاء
عبد المتعال الصعيدي
27 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرآن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنكليزي إدوارد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
الفصل التاسع
اللغة والأدب والعلوم
احتفظت القاهرة بشهرتها النسبية التي امتازت بها عدة قرون، أنها خير مدرسة للأدب العربي وعلم التوحيد والفقه الإسلامي. ولا جرم أن التعليم انحط كثيراً عند العرب عامة إلا أنه كان أقل انحطاطا في القاهرة. فشهرة علماء هذه المدينة لا تدانيها شهرة. ولا يزال مسجدها (الجامع الأزهر) يجذب إليه الطلاب من كافة أنحاء العالم الإسلامي.
ويلاحظ أن اللهجة العربية التي يتكلمها أهل القاهرة من الطبقتين الوسطى والعليا أدنى من لهجات بدو الجزيرة العربية وسكان المدن المجاورة مباشرة من حيث النطق وقواعد الصرف والنحو؛ إلا أنها تفضل اللهجات السورية كثيراً، واللهجات المغربية أكثر. وأهم الخصائص التي تلاحظ في نطق المصريين ما يأتي: ينطق القاهريون ومعظم المصريين حرف الجيم جامداً بينما يعطشه عرب الجزيرة وسورية وغيرهما. ولكن يجدر أن نلاحظ أن حرف الجيم ينطق جامداً في بعض جنوب جزيرة العرب وهو منشأ اللغة العربية كما يقال. وينطق حرف القاف همزة حيث يسود نطق الجيم الأول، غير أن المثقفين ينطقونه قافا على حقيقته. وتنطق الجيم معطشة أو قريبة من ذلك في بعض مناطق مصر، كما تنطق القاف جيما. وينطق المصريون جميعاً وكذلك اغلب الشعوب التي تتكلم العربية حرف الثاء تاءً والذال دالاً والظاء ضاداً أو زاياً أحياناً. ومن أهم خصائص اللهجة العربية المصرية من حيث التركيب إضافة حرف الشين للدلالة على النفي، مثل (ما يرضاش) بدلاً من (ما يرضى) و (ما هوش طيب)(ويقول العامة موش طيب) بدلاً من (ما هو طيب)
ووضع اسم الإشارة بعد المشار إليه مثل (البيت ده)، وكثرة استعمال التصغير في الصفات بلا مسوغ مثل (صغير) بدلاً من صغير و (قريب) بدلاً من قريب
ولا يوجد فرق كبير بين اللهجة الدارجة والفصحى كما يفرض المستشرقون الأوربيون. ويمكن وصف اللهجة الدارجة أنها تبسيط للهجة القديمة بحذف حركات الكلام الأخيرة خاصة، وبوجه آخر إهمال التفرقة بين أنواع إعراب الاسم المختلفة وبعض أشخاص الأفعال. كما أنه لا يوجد فرق كبير بين اللهجات العربية في البلدان المختلفة كما يتصور بعض من لم يخالط أهل هذه البلاد. وتتشبه هذه اللهجات أكثر مما تتشابه لهجات بعض مناطق إنجلترا المختلفة. وتفيض اللغة العربية بكلماتها المترادفة، فتجد بعض الكلمات تستعمل في بلد ما وما يرادفها في بلد آخر. فيقول المصريون مثلاً (لبناً) بينما يقول السوريون (حليباً)، ويطلق السوريون (اللبن) على الصريب (اللبن الحامض). وكذلك الخبز يسميه المصريون (عيشاً) بينما يطلق عليه في البلدان العربية الأخرى خبزاً، إلى غير ذلك من الأمثلة العديدة من هذا النوع. ويلاحظ أن نطق المصريين ألطف وأعذب من نطق السوريين وأكثر البلدان التي تتكلم العربية
والأدب العربي غني شامل، وأهميته في كمية كتبه أكثر مما هي في كيفيتها. ويبلغ عدد الكتب التي تبحث في الدين والفقه الربع تقريباً، يتلو ذلك كتب النحو والصرف والمعاني والبيان والفروع المختلفة لعلم اللغة وتشغل كتب التاريخ (وعلى الأخص تاريخ الأمة العربية) والجغرافية المرتبة الثالثة، وأخيراً الشعر. أما المؤلفات الطبية والكيميائية والرياضية والجبرية وغيرها فقليلة جداً بالنسبة لغيرها
ويوجد في القاهرة عدة مكتبات كبرى، ويلحق أغلبها بالمساجد، ويتألف معظمها من كتب التوحيد والفقه ومعاجم اللغة؛ إلا أن هذه المكتبات مهملة إهمالاً يرثى له، وتفنى محتوياتها بسرعة والى حد بعيد لعدم أمانة القائمين بأمرها أو باستعمالها وإهمالهم. ويقتني بعض التجار الأثرياء وغيرهم مكتبات حسنة. ويبلغ عدد تجار الكتب في القاهرة - كما أخبرت - ثمانية فقط. إلا أن حوانيتهم غير مجهزة تجهيزاً حسناً. ويدور الكتبي كلما عثر على كتاب نفيس على حرفائه وهو يكاد يثق بالحصول على مشتر. وقلما تخاط أوراق الكتاب معا وإنما يدرج الكتاب عادة في غطاء مجلد، وكثيراً ما يكون له غلاف خارجي من الورق
المقوى والجلد
وتتكون (الكراسة) من خمس ورقات مزدوجة كل منها في الأخرى، وترتب الأوراق ملازم صغيرة دون أن تخاط فيستطيع أكثر من قارئ استعمال الكتاب معاً، فيتناول كل كراساً، وتوضع الكتب مسطوحة الواحد فوق الاخر، ويكتب عنوان الكتاب على واجهة الغلاف الخارجي أو طرف الأوراق، وورق الكتب غليظ لامع، ويستورد غالباً من البندقية ويلمع في مصر. والحبر كثيف لزج، ويستعمل القلم للكتابة وهو أكثر ملاءمة للخط العربي. وعندما يكتب العربي يضع الورق فوق ركبته أو على راحته اليسرى، أو على (مسندة) تتكون من بعض أوراق قد يزيد عددها عن دستجة وتشد معاً عند الأطراف الأربعة فتكون كالكتاب الرقيق، ويجعل الكاتب الحبر والأقلام في (الدواية) المذكورة في الفصل الأول من هذا الكتاب، ويوضع معهما المقشط والمقطة: وهي آلة من العاج يوضع عليها القلم ليقط. ويسطر الكاتب الورق بالمسطرة: وهي قطعة من الورق المقوى يشد عليه بعرض الورق خيوط ملصقة بالغراء، فيجعل المسطرة تحت الورقة ويضغط على كل خيط بخفة، وتتضمن عدة الكاتب مقصاً لقطع الورق، إذ لا يليق أن يكون أطراف الورق ممزقة. ويعيش الكثيرون في القاهرة على نسخ المخطوطات ويبلغ اجر نسخ الكراسة وهي عشرون صفحة في كل صفحة خمسة وعشرون سطرا بالخط العادي، ثلاثة قروش، ويزيد المبلغ إذا حسن الخط ويتضاعف إذا شكل الكلام
ويتلقى الذين يعدون أنفسهم لوظيفة دينية أو علمية دروسهم في الأزهر، ويعلمون قبل ذلك القراءة والكتابة وتلاوة القرآن أحياناً. والأزهر - جامعة الشرق عامة - بنيان واسع الأرجاء، يحيط بفناء مربع فسيح. ويوجد على أحد جوانب الفناء من جهة القبلة مكان الصلاة الرئيسي: وهو رواق فسيح، وعلى كل جانب من الجوانب الثلاثة الأخرى أروقة صغيرة مقسمة إلى عدة أقسام يخصص الواحد منها للطلبة بلد معين أو مديرية خاصة من مديريات مصر. ويقع الأزهر في قلب القاهرة، وعمارته لا تستحق الاعتبار، وإحاطته بالمنازل تخفي خارجه إلا قليلاً. ويسمى من يتلقى العلم في الأزهر (مجاورا)، ولكل رواق مكتبة لاستعمال الطلبة، ويتعلم الطلبة من الدروس التي يلقيها المدرسون ومن محتويات الكتب الموجودة بمكاتب الأروقة
ويتكون برنامج الدراسة من علم الصرف والنحو والمعاني والبيان والعروض والمنطق والتوحيد والتفسير والحديث والفقه والحساب في حدود المسائل الشرعية. وهناك دروس في الجبر والمقابلة والميقات. ويجلس الشيخ على الأرض عند اسفل عمود من الأعمدة، ويتحلق حوله الطلبة. ويقرأ طلبة المذاهب المختلفة كتباً مختلفة. وأغلب الطلبة قاهريون، وهم لذلك شافعيون، وشيخ الأزهر شافعي دائماً. ولا يدافع الطلبة للدراسة في الأزهر أجراً إذ أن أغلبهم فقراء. ويتناول أغلب الأجانب الذين لهم أروقة خاصة راتباً من الطعام يومياً يصرف لهم من إيراد العقارات الموقوفة عليهم. والعادة أن يتناول طلبة القاهرة وما جاورها مثل هذا الرتب إلا انهم لا يتمتعون بذلك طويلاً، خلا شهر رمضان، لأن (محمد علي) استولى على جميع الأراضي الزراعية الموقوفة على المساجد ففقد الأزهر أكبر جزء مما وقف عليه. ولا تنفق الحكومة شيئا غير مصاريف الصيانة اللازمة وأجور المستخدمين الرئيسيين. ولا يتناول المدرسون أجراً. وليس لهم وسيلة منظمة لكسب معيشتهم غير التدريس في المنازل ونسخ الكتب الخ. . . إلا إذا ورثوا ملكاً أو كان لهم أقارب يعولونهم. وقد يتناول المدرس هدية من الأغنياء. ويستطيع أي طالب كفء أن يصبح مدرساً بإجازة شيخ الجامع. ويتبع الطلبة غالباً طريقة المدرسين لكسب معاشهم، أو يتلون القرآن في المنازل أو على القبور أو في مكان آخر. وعندما يتقدم الطلبة في دروسهم التقدم الكافي يدخل بعضهم في القضاء أو الإفتاء أو إمامة المساجد أو التدريس في قراهم أو مدنهم أو في القاهرة. ويحترف البعض الآخر التجارة، وقد يستمر بعضهم طول حياته يتلقى العلم مبتغياً الوصول إلى صاف كبار العلماء. وقد نقص عدد هؤلاء الطلبة الذين لا رواق لهم كثيراً منذ الاستيلاء على الأراضي الموقوفة على الأزهر. ويبلغ عدد طلبة الأزهر ما خلا العميان حوالي ألف وخمسمائة كما اخبرني أحد المدرسين.
(يتبع)
عدلي طاهر نور
فوق االحياة
إِنِّي احْتَرقْتُ وَلَمْ تَدَعْ أَشْلَائِي
…
نِيرَانُ تِلْكَ الْحَسْرَةِ الْهَوْجَاءِ
قَدْ أَوْغَلِتْ بِي نَزْعَةٌ مَدْفُوعَةٌ
…
نَحْوَ الْكَمَالِ تَمُدُّ في بُرَحَائي
إِذْ أَنَّ مَا يَسْبِي قُلُوبَ النَّاسِ لَا
…
أَلْقَاهُ حَتَّى فِي ذُيُولِ سَمَائي
أَقْبَلْتُ مِلَْء دَمِي عَلَى الدُّنْيَا وَفي
…
قَلْبِي حَيَاةٌ جَمَّةُ الأَهْوَاءِ
وَطَرَحْتُ أَعْوَاِمي عَلَيْهَا شَادِياً
…
مُتَنَقَّلاً في الزَّرْعِ والصَّحْرَاءِ
وَنَزَعْتُ عَنِّي كُلَّ مَعْنًى كاَذِبٍ
…
وَنَشَدْتُ وَجْهَ النُّورِ في الظَّلْمَاءِ
وَتأَمَّلتْ رُوحِي أَسَارِيرَ الدُّجى
…
وَتَغَلْغَلَتْ في ذَاتِهِ السَّوْدَاءِ
وَإِذَا الرِّياحُ تَقُولُ لِي في نُصْحِهَا:
…
قِفْ أَيُّهَا السَّارِي إِلى التَّيْهَاءِ!
مَنْ لَمْ تَشُقْهُ اْلأَرْضُ وَهْوَ مُكَبَّلٌ
…
نَبَذَتْهُ عَنْهَا عِبْرَةَ الأَحْيَاءِ!
تِلْكَ السُّدُودُ أَقَامَهَا فَوْقَ الثّرَى
…
رَبُّ الْوُجُودِ وَضَارِبُ الْجَوْزَاءِ
قُلْتُ اهْدئَي يَا رِيحُ مَا أَنَا مُسْرفٌ
…
مُتَطَلِّبٌ في الصَّخْرِ دَفْقَةَ مَاءِ!
وَطَفِقْتُ أّخْبِطُ في الظَّلَامِ مُنَقِّباً
…
عَمَّا وَرَاَء اللَّيْلِ مِنْ أَشْيَاءِ
حَتَّى بَدَا لِي خَلْفَ أَحْجَارِ الدُّجى
…
نَهْرٌ يَعِجُّ بأَعْذَبِ الأَضْوَاءِ
وَنَهَلْتُ مِنْهُ فَاكْتَمَلْتُ كَأَننِي
…
أَصْبَحْتُ أَسْمَى مِنْ بَنِي حَوَّاءِ
وَتَأَلَّقَتْ مِنْ حَوِلهِ لِي جَنَّةٌ
…
عُلْوَّيةٌ مَطْلُوَلَةُ الأَرْجَاءِ
هِيَ عَالَمُ اْلُمُثلِ الرَّفِيَعةِ صَاَغَهَا
…
(فَوْقَ الْحَيَاةِ) تَدَفُّقُ الإِيحاَءِِ
أَظْلَالُها فَوْقَ الزُّرُوعِ مَدِيدَةٌ
…
وَنَسِيمُها مُتَعَطِّرُ الأَحْنَاء
وَطَيُورُهَا ذَهَبِيَّةٌ مَسْحُوَرَةٌ
…
تَشْدُو فَيَهْتَزُّ الْفَضَاءُ إِزَائي
وَأَخَذْتُ أُرْشِدُ َمْن أُحبُّ إِلى السَّنَى
…
وَمَسَابِهِ، وَالنَّهْلَةِ الْبَيْضَاءِ
وَاْلَحَقِّ وَالْخَيْرِ الْذِي يَمْشِي عَلى
…
رَبَوَاتِ تِلْكَ الْجَنَّةِ الْعَذْرَاء
لَكِنَّهُم ضَجَّتْ بِهِمْ أَرْوَاحَهُمْ
…
ظَمْأَي إِلى الأَوْحَالِ وَالأَنْوَاء
عَادُوا وَفي أَلْبَابِهِمْ لِي لَعْنَةٌ
…
مَكْنُوَنةٌ كالسُّمِّ فِي الرَّقْطاَء
قَالوا لقَدْ عِشْنَا عَلَى الدُّنْيَا كَمَا
…
شِئْنَا وَشَاَءتْ رِبْقَةُ الأَحْيَاء
مسُتْعَذِ بيِنَ قُيُوَدنَا لَا تَنْجَليِ
…
عَنَّا عَمَايَةُ هذِهِ الظَّلْمَاء
تِلْكَ الْحَوَاجِزُ لَا نُحِبُّ عُبُورَهَا
…
نَحْوَ الّذِي نَخْشَاهُ مِنْ أَجْوَاء
ياَ أَيُّهَا الْمَجْنُونُ! إِنَّكَ شَاعِرٌ
…
يَقْتَاتُ مِنْ أَوْهَامِهِ الْحَسْنَاءِ
اذْهَبْ فَلَا كاَنَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَعِشْ
…
في بُرْجِكَ الْمَمْلُوءِ بِالْخُيَلَاء!
لَكِنَّنِي نَادَيْتُ مِنْ عَلْيَائِي
…
مُسْتَعْصِما بِالذِّرْوَةِ الْقَعْسَاءِ:
الْبَرْقُ يُكْسِبُنِي الْتِماَعاً إِنَّنِي
…
أُفُقٌ فَضِجُّوا في رِحَابِ فَضَائي!
وَالنَّارُ تَمْنَحُنِي حَيَاةً إِنَّنِي
…
ذَهَبٌ فَبُثُّوا النَّارَ في أَحْشَائي!
عبد الرحمن الخميسي
غَيران.
. .
إذا الفجرُ لاحَ وحيَّا العذارى
…
وحييَّتْهِ بابتسامٍ رقيقْ
تلَفَّتَ قلبي له واستطارا
…
كأنَّ به سَكرةً لا يُفيقْ
يَغارُ عليكِ إذا الفجرُ لاحْ
وإنْ جِئتِ في خِفَّةٍ تَخْطُرِينْ
…
ومالتْ عليكِ غصونُ الطريقْ
فما أشفقَ الغصنَ بالعاشقينْ
…
ولكنْ بقلبي زَفيرُ الحريقْ
يغارُ عليكِ إذا الغصنُ مالْ
وإنْ رقَّ بين يدْيكِ النسيمْ
…
يُسايرُ ظِلَّكِ مثلَ الرفيقْ
فلا كانَ هذا النسيمُ الكريم
…
أَلَمْ يَدْرِ أنَّ فُؤَادي عشيقْ
يغارُ عليكِ إذا الظلُّ سارْ
وإن نطقُوا باسمِكِ الطَّاهِرِ
…
وخَفَّ له كلُّ سَمْعٍ طَليقْ
ترامى صَدَاهُ إلى خَاطِرِي
…
ولكنَّ قلبَ المُحِبِّ المَشُوقْ
يغارُ عليك إِذا الاسمُ ذاعْ
وإِن ضمَّكِ البحرُ يا فاتنةْ
…
وداعبَ منك القَوامَ الرشيقْ
فيا حُسْنَ أَمواجِهِ الساكنهْ
…
وقلبي الذي هو دجاهُ عريقْ
يغارُ عليكِ إِذا البحر ماج
وإن رقص الليل في راحتيك
…
واهديته بسمة من رحيق
فها قد حرمت سنى ناظريك
…
وقلبي الذي في دجااه غريق
يغار عليك إذا الليلُ جاءْ
محمد محمود زيتون
البريد الأدبي
التعاون الثقافي بين مصر والعراق
أقامت المفوضية العراقية بالقاهرة حفلة شاي دعت إليها جمهورا كبيراً من رجال التربية والتعليم بمناسبة انتهاء (مؤتمر تدريس العلوم)، وقد اشتركت فيه الحكومة العراقية بإيفاد اثنين من رجالها الفضلاء: هما الدكتور الجمالي والدكتور عقراوي. أما الحكومة السورية، فقد اعتذرت بخطاب كريم نصت فيه على أن ضيق الوقت حال بينها وبين ما تريد من الاشتراك، وتمنت أن يديم الله على رجال العلم في مصر نعمة التوفيق
وفي الحفلة دار الحديث حول نشاط أعضاء المؤتمر فقلت: أن الذي شرح صدري هو أن أرى وزير العراق المفوض يحضر جميع الجلسات وعلى صدره شارة المؤتمر؛ فقال الدكتور عقراوي: هذا اقتداء بالتقليد الذي سنه صاحب سمو الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق، فهو يحضر جميع المحاضرات التي تلقى في بغداد باسم التعاون الثقافي بين مصر والعراق وفي معيته جمهور من الوزراء والنواب والأعيان، وتلك االتفاتة نبيلة تبين لك عظمة ذلك الأمير الجليل
وانتهزت الفرصة فسألت الدكتور عقراوي عن شعوره نحو المؤتمر فقال: دلني هذا المؤتمر على نواحي جديدة من النهضة المصرية، فأنا الآن أومن بأن لرجال التعليم في مصر آراء لا تقل وجاهة عن آراءً رجال التعليم في الأقطار الأوربية والأمريكية
والحق أن الصلات العلمية والأدبية بين مصر والعراق قويت جدا بفضل تعاون الأمتين، وبفضل الأساتذة الذين أسسوا ذلك التعاون من مثال: السنهوري والزيات وعزام؛ ولم يبلق إلا أن نفهم أن تلك الجاذبية الروحية تحتاج إلى أسندة من الصدق والإخلاص في كل يوم، لتصل إلى كمالها المنشود
وفي هذا المقام اذكر أن سعادة الدكتور فاضل الجمالي حدثني أن معالي السيد تحسين علي، وزير المعارف العراقية، أوصاه بأن يصحبني معه إلى بغداد، وقد أجبت بأن التشوق سيحملني إلى بغداد على غير ميعاد، ولكن الذي يهمني هو أن يوجد مصريون بعواطف عراقية، وعراقيون بعواطف مصرية؛ وعند ذلك ابتسم سعادة الأستاذ شفيق بك غربال وقال: أنت هنا والجمالي هناك!
زكي مبارك
أولية سوق عكاظ
ذكر الأستاذ (علي محمد حسن) في الرسالة الغراء (العدد 451) تصيحاً لما في دائرة معارف وجدي إذ جعلت افتتاح عكاظ سنة 540م، قال في خاتمته:(وبعد، فجمهرة الكتب على أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وعلى أن عكاظ قامت بعد الفيل بخمس عشرة سنة فتكون قد أقيمت في سنة 585)
والواقع أن جمهرة الكتب ذهبت إلى هذا، إلا أنه لا يثبت على التحقيق، بل أن سوق عكاظ ليرتفع تاريخها إلى ما قبل سنة 500 ميلادية لهذه الأسباب:
1 -
أجمعت كتب السير على أن رسول الله حضر حرب الفجار بنفسه ويحدد بعضها سنة إذ ذاك مستنداً على الحديث: (كنت أنبل على أعمامي يوم الفجار وأنا ابن أربع عشرة سنة) وحرب الفجار كانت في عكاظ إبان الموسم، وذلك بعد عام الفيل بأربع عشرة سنة، فكيف يقولون أن عكاظ أقيمت بعد الفيل بخمس عشرة (انظر أسواق العرب ص 146 فما بعد).
2 -
تزوج عبد شمس بن عبد مناف امرأة بعد أن طلقها زوجها لبيعها السمن وراحلتين بخمر شربتها في عكاظ. وهذا الحادث قبل عام الفيل بعقود السنين (أسواق العرب ص290)
3 -
قالوا أن عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة عاش حول سنة (500م)، وعمرو أنشد معلقته في عكاظ بالموسم، فلا شك إذن في أن السوق كانت قبل هذا التاريخ بسنوات.
مما تقدم لأسباب أخرى لنا أن السوق أقيمت قبل التواريخ التي يذكرونها بأزمان وهي على اقل تقدير كانت قبل القرن السادس الميلادي، ومن أراد زيادة في التحقيق فليرجع إلى كتابنا (أسواق العرب في الجاهلية ولإسلام ص294، 295، 146 فما بعد
سعيد الأفغاني
(أبو العلاء) و (إخوان الصفاء)
نقل الأستاذ عمر الدسوقي في العدد (246) من هذه المجلة الرفيعة قول الدكتور طه حسين بك أن (أبا العلاء المعري) قد اجتمع بإخوان الصفاء إبان إقامته في بغداد؛ وقد استدل
الأستاذ الدكتور على ذلك بالبيتين الآتيين:
كم بلدة فارقتها ومعاشر
…
يذرون من أسف علىَّ دموعا
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى
…
لوداد (إخوان الصفاء) مضيعا
لورود (إخوان الصفاء) فيهما.
وقد كتب الأستاذ سليم الجندي عضو المجمع العلمي العربي بدمشق مقالاً في مجلة المجمع المذكور: (العدد الثامن، المجلد السادس عشر، 941) بين فيه التناقض الذي وقع فيه الدكتور فيما ذهب إليه، ونفى أن يكون أبو العلاء قد اجتمع بإخوان الصفاء مستدلاً بأمرين:
الأول: أن وقوع كلمة (إخوان الصفاء) في هذين البيتين لا يدل دلالة واضحة على اجتماع أبي العلاء بهم، فقد وردت في شعر كثير من الشعراء الجاهليين والإسلاميين والعباسيين: كالخنساء وأبي حبال البراء بن ربعي الفقعسي، ويسار بن إسماعيل، وعبد السلام بن رغبان، وابن الرومي، وصريع الفواني، وابن المقفع (في كلية ودمنة، باب الحمامة المطوقة)؛ وبدهي أن هؤلاء جميعاً لم يقصدوا بإخوان الصفاء (الجمعية المعروفة)، وإنما أرادوا إخوان المودة الصافية الخالصة
والأمر الثاني: أن معرفة سبب قول هذين البيتين تنفي ما ذهب إليه الدكتور؛ فقد روي ياقوت في معجم لأدباء (ج1 ص175) عن أبي الوليد الدربندي قال: أنشدني أبو العلاء التنوخي في داره عند وداعي إياه (وذكر الأبيات. . .)
هذا، وفي المقال أشياء آخر ذات شان يحسن الرجوع إليها
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
في الكتب لا في الصدور
نعم كل شئ في الكتب؛ من يغض في أعماق تلك البحار يجد العب العجاب، ويعثر بالفريد المستطاب، وإن تراثنا العربي لا يمكن أن نهضمه في أعوام ولا قرون، ولا نسيغه بكلمة أو مقال: أنه تراث غني ولكنه مدفون
وما كان الأستاذ الجليل (شلتوت) وهو يتحدث عن (شخصيات الرسول) يجهل أن الذي
تحدث به مدفون في بطون الحواشي والمتون، وما كان يجهل أن العلماء أقاموا من أجله العراك والخصام. كان يعلم ذلك، ويعلم أيضاً أن الناس معنيون بالظاهر، واقفون عند القريب، قانعون بالميسور، فأراد أن يضع أيديهم على الداء والدواء ويلفت أعينهم إلى ما خلف الستار والحجاب
وكيف يجهل الأستاذ ذلك وهو أحد مؤلفي كتاب (مقارنة المذاهب)، وهو بحث طريف، وإن كنت أعتب عليه أن يحصر مثل هذا النوع من التفكير بين جدران الكليات، ولا يذاع ليعرف الناس، وليقول المنصفون!
ولقد قال الأستاذ شلتوت في حديث لي معه: أن صح أن ديننا الحنيف يحتاج إلى شيء فهو حسن العرض والإعلان لنلفت إليه أنظار المفتونين بزخرف الأوربيين، فيروا ما فيه من خبايا ودفائن، وميزات وحسنات. ثم قال: أنريد من الناس أن يلتمسوا الدين من حواشي ابن عابدين، وحواشي القليوبي والأسنوي والمحلي؟ الخ
وقد يكون هذا هو الحافز لأستاذنا الجليل إلى أن يلفت لهذه الناحية الأنظار، وخاصة أنظار الذين عموا وضلوا وحسبوا ديننا الكريم عصبية عمياء، فذهبوا ينالون أحرار الفكر بالإيذاء
السيد جمعة
إيجبت
قرأت في جريدة الأهرام كلمة للأستاذ محمد حسني عبد الله تحت عنوان: (لفظة (إيجبت) ولم سميت بها مصر) ذكر فيها أسطورة يونانية، ثم طلب ممن يعلم شيئاً في هذا الموضوع أن يذكره. والى القارئ خلاصة ما وقفت عليه في مطالعاتي:
أطلق اليونان لفظة اجيبتوس على مصر ولا نعرف تمام تاريخ هذه التسمية، إلا أن مصر لم تكن تسمى دائماً أجيبتوس وإنما عرفت قديما بأسماء مختلفة أهمها: كيمي أو كاميت أو خمي بمعنى الأرض السوداء أي الخصبة؛ ومن هذا الاسم اشتقت لفظة كيمياء؛ وذلك هو الاسم الشائع. وسميت أيضاً نهى بفتح النون أو ضمها وأي بلد الجميز؛ وتوميرا - أي الأرض المغمورة، لفيضان النيل عليها. وأطلق عليها الساميون: عبرانيون وفينيقيون وعرب، لفظة مصر، ولعل أصل هذه التسمية جاء من أن معنى مصر في لغاتهم: البلد
العظيم. أما كلمة اجيبتوس فلا يزال تدل عليه اصلها موضع التخمين والاستنساج، ولم يستطع أحد أن يقطع فيه برأي. وقد رأيت هذه الكلمة في الأوديسة تشير تارة إلى مصر والمصريين، وتارة أخرى إلى نهر مصر أي النيل؛ وقد أطلق فيما بعد على هذا النهر اسم نيلوس وأصله مجهول أيضاً
وهناك رأي يقول أن لفظة إجيبتوس أصلها مصري. ويحاول هذا الرأي أن يرجع هذه التسمية إلى (هاكابتاح - أو (هاكوبتاح وهو الاسم المقدس لمدينة منف في عهد مينا ومعناه (مكان عبادة بتاح) إذ كان بتاح يعبد في هذه المدينة
وأذكر أني قرأت في كتاب أو مقالة أن هاكابتاح ورد في نص من النصوص القديمة بمعنى مصر، لا مدينة منف، وإن هذه الكلمة نقلها الفينيقيون إلى اليونان فجعلوا منها إيجبتوس. ولو صح ذلك لكان مؤيداً للرأي السابق.
وهناك رأي للدكتور أبات باشا ورد في كتابه مصريات: في فصل أفرده لكلمة إيجيبت تحت عنوان: ' يخالف فيه الرأي السابق ويرجعه إلى العالم بروكش إذ يرى أن اليونان انتشروا في مصر في وقت قريب فتر فيه نفوذ مدينة منف العاصمة وعبادة بتاح المعبود، وقوى سلطان مدينة وقد شاركت مدينة فقط مدينة طيبة في علو الشأن وذيوع الصيت لموقعها على طريق البحر الأحمر ومحاجر وقد لعبت هذه المدينة دوراً كبيراً، وأصبحت مركز التجارة بين مصر وبلاد العرب والهند. ولابد أن اليونان الذين جذبتهم روح التجارة إلى (كيمي) أولاً انتشروا في منطقة فقط وجعلوا من اسمها اسما عامة لمصر فقالوا إجيبتوس أي بلد كبتوس. ويحتمل أن يكون أصل القبط من ذلك. وهكذا إجيبتوس فيما بعد محل كيمي التي اقتصر على نقشها في الآثار
وكثيراً ما أشارت النصوص القديمة إلى الصعيد باسم وقد ذكر العالم لبسيوس عند الكلام على مصادر الذهب: ذهب الحبشة وذهب بلد كبتوس (وقد يكون أصل تسمية بلاد النوبة بوجود الذهب بها فكلمة تعني الذهب). كما أنه ورد في حجر رشيد كلمتا الواحد ترجمة للأخرى
وإذن تكون أرض فقط، وقد يكون اليونان قد وضعوا مكان الفرعونية، الموصول الحرفي اليوناني الذي يدخل على الكلمة لتوضيحها أو للدلالة على صدارة الشيء
عدلي طاهر نور
القصص
المصابيح السبعة
قصة من القصص الشعبي لسكان جزيرة بورينو
مترجمة عن الإنكليزية
عندما كبر والد الأبناء السبعة وطالت لحيته البيضاء بطول عمر، دعا إليه ثمار بذوره وتحدث إليهم في صوت خافت:(أبنائي! أنني أقف هنا في مكان مظلم وتقفون أنتم حولي ولكن انظروا: هاهي أمامكم سبعة مصابيح عددها كعددكم، فليختر كل منكم مصباحاً يستضيء به ويتبع نوره، ولا يأخذنكم الإعجاب بشدة ضوئها الحالي، فإني أنصحكم أن لا تتخيروا ما قد يبدوا لكم الآن أنه احسن المصابيح وأسطعها ضوءاً. انظروا إليها نظرة فاحصة ثم تخيروا ما شئتم، وإني لكم لنذير بأن اختياركم ذا اختيار نهائي لا رجعة فيه. فتبينوا الأمر قبل أن تقدموا، فإذا أقدمتم وتخيرتم ما استقر عليه رأيكم فلا تتحولوا عنه وأصروا على الاستضاءة به إصراراً، إذ الأفضل أن يؤمن المرء إيماناً تاماً برأي ما ويتبعه في إخلاص وأمانة، وفي ثبات وإصرار - ولو كان هذا الرأي خطا في جوهره - أقول أن هذا أفضل من أن يتبع المرء في تردد وضعف رأياً يؤمن في قرارة نفسه ببطلانه، ولو كان هذا الرأي في جوهره هو الحق والصواب).
فتقدم عند إذ الابن الأكبر ومد يده نحو المصباح الأحمر، ثم تمنطق بسيفه ودرعه وبدا على وجهه إمارات الجشع والطمع؛ ثم صاح صيحة الوداع وانقلب على وجهه مسرعاً ليقضي حياته كلها في السلب والنهب والإجرام.
ورأى الوالد سوء طالع ابنه وفساد رأيه، ولكنه لزم الصمت وأدار وجهه نحو الباقين مكن أبنائه ليرقب ما استقر عليه رأي ابنه الثاني، وكان ضعيف الجسم قوي العقل، فتقدم ببطء وتردد وأخذ يعمل فكره في تؤدة شأن الحكماء من بني الإنسان، ثم ترنح قليلا ومد يده نحو المصباح الأزرق وقبض عليه. فاغتبط الأب بهذا الاختيار أياما غبطة وقال:
(اذهب أنك لمن المبرزين، وإنك سوف تظهر على الناس أجمعين)!
وكان المصباح الأزرق - مصباح الحق - يتلألأ أثناء ذلك
وتقدم الابن الثالث وكان جميل الوجه حسن السمات. . . فأعجبت به النساء وشغفن به حباً، فتخير المصباح الأخضر ذا اللهب الخافق الحائر وأخذه بين يديه، ثم انصرف. فلما خرج من الباب لمح والده (صاندال) تجري في إثره وكانت هذه المرأة مضغة الأفواه لقبح سيرتها وفساد أخلاقها، فطأطأ الشيخ رأسه وقال: أن الرجل الذي يجعل النساء الجميلات قبيلته وغاية سيعه، فيخضع لهن ويرضى أهوائهن، لهو رجل خاسر، إذ لا يتيسر له أن يتجه وجهة أخرى أو يعمل عملاً آخر
ولم يكن يختفي هذا الابن الذي جعل النساء شغله الشاغل في هذه الحياة حتى سمع الجميع صوت النقود ورنين الذهب، إذ تقدم الابن الخامس وعلى وجهه تعلو سمة المرابي، فاختطف المصباح الأصفر وولى مسرعاً
وجاء الابن الخامس خائفا مسرعا يترقب، يلتفت يمنة ويسرة، ويتقدم رجلاً ويؤخر أخري أصفر الوجه، مرتجف اليد. . . ونظر إلى المصابيح البقية فتخير المصباح الرمادي - مصباح الخوف والجزع - فقبض عليه بيده الحائرة، وتولى من مجلس أبيه وهو يرتجف فرقاً. . .
وتبعه الابن السادس: وكان مدللاً ملحوظاً من يوم ولادته بعناية والديه، فشب أنانياً محباً لذاته، فلم يتردد ولم يتمهل، بل اندفع نحو المصباح الأسمر - مصباح الأثرة والضوء القاتم الخائر وقبض عليه. . .
وأخيرا. . . وقف الابن الأصغر في تواضع وخشوع بين يدي والده، ثم ركع على ركبته واخذ المصباح الأبيض - مصباح الإيمان بالله - وقال: يا أبت. . . لسوف أتبع هذا النور على الدوام في كل مكان وكل زمان، في السراء والضراء. . .
ومرت الأعوام. . . فضمر جسم الوالد، وانحنى ظهره، وطال شعره. . . ولكن ظلت عيناه الحادتان ترقبان - على الدوام - عودة أبنائه السبعة. . .
وقرع الباب يوماً، فلما فتحه الوالد الشيخ وجد أمامه الابن الثالث الذي تخير المصباح الأخضر فقال له:(أبي لقد تبين لي أن النساء مخادعات غادرات. ولقد احترق زيت مصباحي عن آخره. وهاأنذا شريد بائس، ولقد قابلت أخي الذي شغف بجمع المال وطلبت مساعدته، ولكنه أبي على ذلك)
ثم عاد بعد ذلك الابن الرابع صاحب المصباح الأصفر فإذا بمصباحه قد خبأ ضوؤه وهو ما يزال يسعى وراء المال وجمعه؛ وكان هذا هو كل ما حصل عليه. فقال: (يا أبي، أنني رجعت دارنا لأموت) ثم سقط على الأرض وفارق الحياة
وعاد الابن الخامس ذو المصباح الأسمر وكان سلطان شهواته ورغباته وأثرته لم يبق له خليلاً ولا صديقاً، ولم يجلب له سلاماً أو طمأنينة فرجع إلى أبيه بائسا مسكيناً
وعاد بعد ذلك الابن الخامس ذو المصباح الأخضر فإذا به قد قضى حياته كلها يحيه الخوف والجزع، ذلك فانه لم يؤمن بالله، ولم يعرف أنه أرحم الراحمين، فاحترق مصباحه بين يديه، ونفذ زيته، وأخذه الشك والخوف من كل مكان، وكان نصيبه الوحدة والهزؤ من الناس أجمعين
وأخيراً رجع الأبناء معاً يحمل أحدهم المصباح الأخضر - مصباح الحق - ويحمل الآخر مصباح الأبيض - مصباح الإيمان بالله - فقال للشيخ: (يا أبانا، لقد هدانا المصباحان سواء السبيل فاسترشدنا بهما وسط العواصف والأنواء، وكلما حزب الأمر واشتد الإغراء وجدناهما خير معوان لنا على مقاومة النفس والشر أينما كان. وهانحن أولاء نعود إليك نشكرك ونحييك ونخلص لك)
إبراهيم عبد الحميد زكي