المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 455 - بتاريخ: 23 - 03 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٥٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 455

- بتاريخ: 23 - 03 - 1942

ص: -1

‌الربيع في غير مكانه!

للأستاذ عباس محمود العقاد

الربيع. الربيع. الربيع!

وكررها ما شئت، فما أنت ببالغ من تكرارها بعض ما تراه من اسم الربيع مرقوماً بشتى الحروف، في كل صفحة من صفحات الكون

كل بستان يقول لك الربيع، وكل شجرة في بستان تقول لك الربيع، وكل طائرة غادية أو رائحة بين الزهر والشجر تقول لك الربيع. . .!

وتقول لك الربيع كل عين لامعة، وكل وجفة متوهجة، وكل قلب خافق، وكل حياة نامية

الربيع في كل مكان

الربيع في مكانه وفي غير مكانه، ويا رب ربيع في غير مكانه يلقاك بمعنيين لا بمعنى واحد، كما يروعك الحسن غير منتظر، أشد من روعته إياك وأنت في انتظاره، وعلى عهدك باختباره

في مكانه بين الضفاف والأشجار

وفي غير مكانه أين؟ أين نلقاه في أوانه، بعيداً من مكانه؟

سلني وسل من واعدوه مثلي قي مختلف المواعد، فيا طول ما رأيته حيث لا يراه الناس! ويا طول ما ذكرته حيث لا يذكره الناس! ويا طول ما حييته حيث لا يحييه أحد، ولا يأنس إليه

في المقبرة، في السجن، في الصحراء، في وحشة النفوس التي تستعير الموت من المقبرة والضيق من السجن والظمأ من الصحراء

هنالك الربيع في خير أوانه؛ وهنالك الربيع في غير مكانه؛ وهنالك الربيع الذي لا أحب أن أنساه حين يذكر الناس كل ربيع!

كانت الشجرة باسقة ناضرة، وكانت العصافير تملأها قبل مطلع الشمس وبعد مغيبها، ثم لا تزال تغبها طوال النهار شادية صافرة، لاهية سادرة، متلاقية زوجين زوجين أو متعاشرة، ظاهرة بالفرار أو متظاهرة، ثم متلاقية في الصبيحة الباكرة، متلاقية في قيلولة الهاجرة، متلاقية في الظلمة الساترة

ص: 1

وكانت الشجرة على قبر فتاة

وكان القبر بين مئات القبور

وكنت أراها من حجرة قريبة إلى القبور في كل شيء: في الجيرة، وفي المرض الذي أقعدني فيها، وفي الوحشة التي لا يشع خلالها رجاء

وكنا في صحراء الإمام

انظر إلى عصافيرها. عصافير المقبرة على رفات الحسناء

انظر إليها لا ترى فرقاً بينها وبين عصافير روضة على ضفاف نهر في يوم عيد

أتلومها أتحمدها؟

نعم، لك أن تلومها كما قلت يومئذ ألومها:

مغرّدةَ الطير بين الحفَر

سواء لديك جميع الشجر

أفوق القبور غناء الغرا

م، وطيب المقام وصفو السمر؟

دعيها لناعبة في الدجى

وناعقِِ سوءٍ رهيب الخبر

ولوذي بأيْكٍ يفيء الهوى

إلى ظله ويميل النظر

فذاك بصفوك أولى مقا

مٍ، وأولى بهذا المقام العبر

ولك أن تحمدها كما قلت يومئذ أحمدها:

مغردةَ الطير أنت الأسدُّ

وأنت الأجدُّ، وأنت الأبر

عرفت الحياة فحييتها

بحيث نما غصنها وازدهر

ولم تعرفي الموت بين القبو

ر، وماذا من الموت تحت الحجر؟

ولا موت حيث يضوع الشذى

ويسري الندى، وتعيش الذكر

فغنِّي فما الأرض إلا حيا

ة تمر وأخرى تلي في الأثر

وكنت أقولها يومئذ ولا أزال أقولها الآن وأنا أعجب لنا حين ننعى على الموت قسوته، وننسى أن الحياة تواجهه بأقسى من تلك القسوة، حيثما ظفرت ببقاياه

متى حفلت الحياة بالقبور؟

متى هزئ الموت بالأحياء بعض ما تهزأ بالموت زهرة ضاحكة تنمو من جوف قبر، وعصفورة عاشقة على مدفن حسناء، وتغريدة تسمعها من الروضة في يوم مهرجان كما

ص: 2

تسمعها من صحراء الإمام في جنازة عزيز؟

تلك قسوة الحياة. وأقسى ما فيها أنها بحق، وأنها لا تخجل ولا تداري ولا تخال في الأمر موضعاً لخجل أو مداراة.

وفي السجن!

والربيع في السجن يعرف أوانه ولا يعرف مكانه

يعرف أوانه فلا يخطئه في ورقة على فرع شجرة، ولا ينساه في قشاشة منسية على الأرض يلمحها عصفور عابر فيهبط إليها، ليتخذ منها أثاثاً لمهاد غرامه، في موسم الغرام

أهذا أوان الربيع؟

نعم هذا أوانه، وهذه أنباؤه، وهذه سيماؤه!!!

أو هذا مكان الربيع؟

لقد كان ذلك بين الأسوار وراء القضبان، وكل مكان فهو منزل للربيع الطلق غير هذا المكان، في حراسة سجان!

ولكننا تلقيناه فيه، وابتسمنا له، وعرفناه غير متنكر ولا متغير، ومقتحماً علينا المكان أحب اقتحام.

ثم في الصحراء

والصحراء والسجن نقيضان، ولكنهما في غرابة الربيع يلتقيان.

زهرة يفرقها من الزهرة التي بعدها مائة ميل، وكأنها من الأنس بنضرتها في جمهرة من الرياض والآجام. لا تلتفت إلى وحدتها لأنها في حجر أمها وبعين أبيها، وهل لها من أم غير الحياة ومن أب غير الربيع؟

ولكننا نحن الذين نراها بأعيننا فنخلق لها الوحشة من نفوسنا، ونفرق بين مكانها وأوانها، ولا ضير عليها ولا عليهما من افتراق

يذكرنا ربيع المقبرة وربيع السجن وربيع الصحراء أن ربيع العام كله في غير مكانه وإن جاء في أبانه

ربيع يقال له موسم الحياة والرجاء وأنباء الموت فيه أشيع الأنباء!

ربيع يتلاقى فيه محبان هنا ومحبان هناك، ثم يتلاقى فيه مائة ألف من الأعداء ومائة ألف

ص: 3

من الأعداء، يتقاذفون الموت في البر والبحر والفضاء!

ربيع يترقبه طلاب الموت، ويفزع منه طلاب البقاء!

ربيع أقرب منه إلى مكانه كل ربيع في مقبرة، وكل ربيع في سجن، وكل ربيع في صحراء

هذا ربيع العام!

السلامة كل ما يسأل منه، وقد كان بعض سؤله النعمة والغرام

وكنت أسمعها تغرد، وأراها تطفر، وأرثي لها وهي في قفصها، وأحبها وهي لا تباليه، كأنها نقلت الحرية من فضاء الله إلى صدرها الصغير بين أفراخها الصغار

تلك عصفورة الكنار عند صديق من محبي الطير في الأقفاص، وإن كنت لا أحبها في غير فضاء الله

بل رأيتها تولد، ورأيتها تزقو، ورأيتها تترقى يوماً بعد يوم من الزقاء في طلب الحب، إلى التغريد في طلب الحب، إلى التغريد في الغبطة بالبنين

ثم نعاها إلى الصديق ذات صباح، فكان لنعيها تعقيب طال بيننا كما يطول التعقيب في هذه الأيام على أنباء الغزوات

فليعجب من هذا من يستبعد الفارق بين النبأين، كما يستبعد الفارق بين عصفورة واحدة ومائة ألف إنسان

إن كان هذا هو المياس فالفارق جد بعيد، بل هو فارق لا يجوز القياس فيه

لكن المقياس غير هذا وأصدق وأكرم من هذا

المقياس بين موت فيه معناه، وموت أخر فيه معناه؛ وقد يتقابل المعنيان في كفتي ميزان، إذا تجاوزت من مات وما مات وانتهيت إلى ما في الموت من سر واعتبار

في مستهل الربيع ماتت عصفورة الكنار التي نقلت إلينا قبساً من الربيع في زمهرير الشتاء

ماتت وهي في أول أمومة لها تستقبل ربيعها الثاني بخمسة من الأفراخ الضعاف

وماتت شهيدة هؤلاء الضعاف الظالمين، لأنها جاعت لتطعمهم والحب عندها كثير، ونسيت أن تأكل لنفسها لتذكر تلك الأفواه المفتوحة كأنها فتحت لتأكل كل شيء. . . وماتت لأنها تعطي الحياة ولا تأخذ منها بعض ما تعطيه

ص: 4

ماتت شهيدة الفداء، وماتت وورائها تدبير حكيم أحكمته العناية في مئات الألوف من السنين

وعندما تموت عصفورة فيترجم لنا موتها ذلك التدبير، ويقد لنا ذلك التقدير، لا عجب أن يقترن موتها بموت الجحافل وأنباء المحافل، وهو في قوانين الوجود كفاء ذلك القانون

لا عجب أن نحسب على ربيع العام هذه الشهيدة وأولئك الشهداء، فكلهم في سر الخليقة سواء

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌صلوات فكر

في محاريب الطبيعة

للأستاذ عبد المنعم خلاف

(كتب كثير من هذه الخواطر في (الرستمية) بالعراق العزيز،

فهي مهداة إليه)

وما رأيت أرضاً يعنف فيها الشعور بالحياة كالعراق!

فهناك طلاسم مخبوءة في التراب والأعشاب للسحر وتفتح القلب للحياة والحب. . .

وهناك تاريخ البشرية الأولى يحرك في نفس الحي الحس بالزمان. . .

وهناك سحر هاروت وماروت لا يزال يجدد شباب قلب القارة العجوز: آسيا. . .

حيث يفيض الماء دم الحياة غزيراً مدراراً. . .

وحيث يفور النفط نهر اللهب غزيراً مدراراً. . .

فينبت من بينهما إنسان ذو جذوة بيضاء وأخرى حمراء! في جماجم عاتية عمرت الحياة بالنسك والفتك في حياة الهوى وحياة الضلال. . .

وهناك ملتقى الكيد وحرب الأجناس والأجيال في تلك الأرض السوادء، على هامش الصحراء الصفراء، وبين هضبة إيران وجبال كردستان تلتقي الأنواع من إنسانها وحيوانها وحشراتها. . . ففيها من كل جنس شاخص أو طلل. . . هبت على قلبي فيها ريح الشمال من صحارى القرغيز وسهوب سيبريا، وريح الجنوب، من خضم تحمل مواعينه الطيوب والأفاويه، والسحر الأسود من القارة السوداء وجزر الهند؛ وريح النار من أرض الفرس؛ وريح الموت من الهند أرض الاستغراق وفناء الأجساد وجنون الأرواح بالأسرار، وانسلاخ القوى وتجسيم الخيال!

إنها طلعة جبارة من طلعات الطبيعة تطلق أشباحاً ترقص في الأوهام والظنون. . .

فلا عجب إذا وعيت بعد هذا كله من أسرار الحياة ما جعل فكري دائم الصلاة!

11 -

أبجد

أبداً أكرر دروس الطفولة فأتهجى أسماء الأشياء حتى لا أنسى. . .

ص: 6

أبداً أحترم الطبيعة البدائية كما يحترم الأطفال كبار القوم. . .

أبداً أسير إلى الأمام وعيني إلى الوراء، حتى لا أضيع طريق العودة إلى أحضان أمي. . .

لي ذهن سحري يزوي لي الأيام الماضية ويحضرها لأعيش فيها فترات ثم يردها إلى مكانها من التاريخ. . .

أسير وفي يدي مهدي الذي ولدت فيه، حتى أصل إلى اللحد الموعود لأراهما معاً يتقابلان. . .

أحتفظ دائماً بوجهي أمي وأبي حين رأيتهما لأول مرة بين الشباب والكهولة من عمرهما. . . ولن أنسى هاتين الصورتين حتى أرى وجه الموت. . . فأقابل بين الثلاثة؟

ولدت في غيبوبة. . . فهل أموت في غيبوبة؟

12 -

حماية الطفولة

الطفولة هي موضع عناية الله. . . ألا ترونه يضم كل جنين أو صغير ناشئ بحنان ويشق له بيده طريق الحياة!

فمواضع يده اليقظة الرفيقة هي البراعم المتفتحة والمناطق النامية تلففها بأقمطة وأربطة، وترصد حولها حراساً من الأشواك والمرارة والمواد قاتلة المكروبات والحشرات

إنها تستكثر من البويضات وجراثيم الحياة وتخرجه بالملايين التي تعجز قوى الإفناء عن إتلافها جميعاً لتسلم الحياة وتدوم الأنواع.

إنها تحب ذلك العالم الجميل البريء الذي لم يقبح ولم يتدنس ولم تحتله بعد قوى الشر.

إنهم يدخلون باسمين للنور والطعام واللعب يسألون عن كل شيء

الشمس لهم المرعى والليل، ولهم السعي والعمل والحب في منطقة الخديعة من قلوب الأمهات والأباء

حملان وجراء وأشبال وأفراخ وبراعم وأطفال. أولئك هم الأصدقاء السائرون معاً في وكبةٍ من مواكب الحياة. . .

13 -

الدوام

هل رأيت الدنيا تخلو يوماً من أشيائها؟

ص: 7

أبداً ترى عصافير متحدة في الشكل والصوت تطفر على الأشجار والأعالي. . .

وأبداً وترى هذه الدار مأهولة بالشمس والقمر والنجوم. . . نجوم السماء ونجوم الأرض. . .

الأرض دائماً تقرع بالأقدام، والصبح دائماً معه صوت الطير. . .

أبداً فيك يا دنيا شباب متوجون بالطرة السوداء والغرة المشرقة، والشفاه الباسمة. . .

أبداً يلعب الأطفال في أمكنة اللعب ويتصايحون عرابيد مهاراً في الملاعب. . .

أزور دائماً أمكنة طفولتي فأجدها عامرة بالأطفال الذين احتلوا مكاني أنا ورفاق صباي. . .

أتراني أرى دوام هذا الكون العظيم. . . هذا الضياء الغامر الفياض، هذا الليل الرائع الجبار. . . هذه الرياح العاتية الجارفة الزخارة. . . هذا العباب الهدار الرجاف الرجراج. . . هذه الصحراء الطامسة الفاغرة. . . هذه الجبال الراسية الشامخة. . . هذه السماء الرحبة البعيدة المدى. . . ثم أرى ذاتي إزاء هذه العوالم ضئيلاً ضعيفاً فانياً ثم لا أصرخ في وجهها صرخة تدوي بها هبوات الرياح، وتتلقفها الجبال، وتذهب أصداؤها في الأعماق والأغوار. . . صرخة تتمثل فيها كل معاني إحساسي بفنائي وضعفي وضياعي بينها من غير سند ولا عاصم أعتز به وأطول وأصول؟!

لماذا تبقين وأنا أذهب؟ وتتجددين وأنا أبلى؟ وتبصرين هذا الجمال الدائم وأنا أعمى وأطمس؟ وتسمعين أصوات هذه الحياة العجيبة وضجتها وأنا أصم؟

لماذا تتوجين دائماً بلآلئ الصباح وذهب الضحى ورصائع النجوم، وتتجملين بأصباغ فاتنة من وهج الظهيرة وطفل الأصيل وشفق المساء، وتتعطرين بأنفاس الأزهار. . . وأنا أجرد من حلي وغرتي وطرتي، وتنصل أصباغي، وتتفكك أعضائي، وتحبس روحي عن هذا الوجود. . . حتى أنتهي إلى أن أنظر الكون من محجري جمجمة يسكنها الفراغ والظلام، وتسكن هي في أعماق حفرة ضيقة تضحك لظلامها بفكين مجرودين مقبوحين حتى تمسها يد البلى فتتركها رفاتاً سحيقاً بعد أن تمل الظلام ويملها؟!

لماذا تمنحين ما أحرم وأنت عديمة القلوب والعيون، وأنا ذو القلب الراقص دائماً على خفق الأدواح وصفق الرياح، الجائع دائماً إلى الأحاسيس والمعاني المعلنة والباطنة، وذو العين الرائدة الباحثة عن الحركات والألوان وسمات الوجوه وأشكال الأجسام!

ص: 8

لماذا يا عدالة السماوات والأرض؟ أفي الحق ذلك؟

كلا! فليست العدالة هي التي قسمت هذا وقالت به. . . وإنما هي العقول السطحية اليائسة القاصرة قالت به. . .

ولكن عدالة الأكوان ومنطق القلوب - أوعية الحياة - هما يقولان ببقاء هذه النفس لهذا الكون ونقلها إلى جمال أكمل وأسمى وأدوم، وعالم من القدرة والتسلط أكثر هولاً وفناً وأعظم، وعالم من الانطلاق والتحرر أرحب وأنعم!

والموت الموعد!

14 -

تهافت الغايات إلا غاية واحدة

وإني لأهتف حين تهب على قلبي نسمات خفية تثير فيه حساسيته بالدوام والخلود واللانهائية. . . ثم أرى أمامي كل غايات الحياة الأرضية متهافتةً أمام العقل لا تقنع عشاق الخلود والآملين فيه:

هل لي يا سيد الوجود شيء في ملكوتك الجميل الخالد يبقى وأحوزه لنفسي بعد فنائي ورحيلي من هنا؟

أم أنا ذاهب من كل هذا الجمال ومعاني الآمال كتبنةٍ ذهبت مع الريح، أو ورقة أحرقت في موقد، أو حشرة عمياء صغيرة سحقت تحت قدم. . .؟

وهل يكون نصيبي من ملكوتك هذا الرحب الواسع الغني بمعاني الحياة مكاناً مبهماً في جوف الظلمات وأطواء العدم وسكون الجمود، حيث لا إحساس بهذه الحياة ولا بما وراءها. . . وحيث لا أمكنة لأشياء إذ لا أشياء إلا تلك الصورة المطموسة التي ينقلها الخيال الإنساني من عالمها هنا إلى هناك، حين عجز أن يتخيل الفراغ والعماء؟!

إنني يا سيدي لا أصدق، لأن ضميري قطعة من ضمير الوجود كله. . .!

وكيف أصدق أن ما في عيني من الصور، وما في سمعي من النغم، وما في قلبي من أحاسيس، وما في فكري من قضايا الكون والفساد وأحلام الكمال، تذهب هكذا كأن لم تكن!

إنهم أطفال أولئك الذي يقصر خيالهم عن إدراك المدى الحيوي الباقي للإنسان وراء هذه الحياة الدنيا، كما يقصر خيال الطفولة عن إدراك عالم الرجولة وبلوغ الأشد في دنيا الأجسام. . .

ص: 9

فكل غايات الحياة الأرضية متهافتة فانية أمام العقل، لا عمر لها إلا خطفات زمنية، ولا وزن لها تجاه الأبد الكبير. . . والهادفون إليها فانون، إلا إذا دارت حول غاية واحدة: هي الله والبقاء معه. . .

عبد المنعم خلاف

ص: 10

‌ين أدم وحواء

شروق العقل

للدكتور زكي مبارك

أفاق أدم من غفوته عند قدوم حواء، وكان المنتظر أن يتلقاها بالضم والتقبيل، ولكنها عاجلته بضربة قاصمة هي تذكيره بشجرة التين، فغام قلبه بعد صفاء، وعاد فانطوى على نفسه كما يصنع الأرقم في ليالي الشتاء.

- آدم، مالي أراك شارد اللب؟

- من الفرح بقدومك بعد طول الغياب!

- أنظر، أنظر، ألا ترى أني صرت أنضر من أزهار التفاح؟

- وأحلي من أثمار التفاح!

- إذا ما هذا الخمود الذي يغالب قواك؟

- ما أنا بغافل عن واجب الترحيب بهذا الجسم الفينان، الجسم البديع الذي أضلني وهداني، ولكني تذكرت (صلاة الشكر) وهي صلاة لا تتم بلا اعتكاف، فإن رأيت أن تتركيني وحدي لحظة أو لحظتين. . .

- انتهاب الجمال هو في ذاته شكران لواهب الجمال

- أبغض ما تكون المرأة حين تتفلسف، فاتركيني لصلاتي، وإلا مزجت الكوثر بدمك النجيع. انصرفي ولا ترجعي إلا إن سمعت ندائي

(وخافت حواء عواقب هذه الغضبة فولت هاربة لا تلوى على شيء وتركت آدم للصلاة، وهي ترجو أن تكون صلاته أقصر من الأمل في سيادة العدل)

فماذا وقع بعد انصراف حواء؟

هل صلى آدم؟ وكيف تصح له صلاة وقبله يفور، وعقله يثور؟

أخذ آدم يفكر فيما انتهى إليه أمره وأمر حواء، فقد كانا غايةً في الطاعة والخضوع، فما الذي جد حتى أصبحنا غايةً في التمرد والعصيان؟

أيرجع السبب إلى وسوسة إبليس؟

ولكن إبليس كان يوسوس منذ أزمان ولم يصل إلى شيء، فكيف وصل بعد اليأس؟

ص: 11

هنا أدرك آدم أن السر يرجع إلى النمو الملحوظ في جسده وجسد حواء، وأيقن أن اضطرام الأجسام يصنع ما تعجز عنه ألوف الأباليس. . . وهل تنجح الغزوات الخارجية إن لم تصادف قبولاً من الأهواء الداخلية؟

وزاد في اقتناع آدم بهذه النظرية ما كان يلاحظ على فصائل الطير والحيوان؛ فقد كان يشاهد أنها لينة رفيقة في أول عهدها بالوجود، ثم تغلب عليها القسوة والشراسة حين تصير إلى النضج والاستحصاد!

وإذن؟ وإذن يكون تطور الفاعلية الجسدية مصدر التطور في الفاعلية العقلية!

ثم؟

ثم يكون في كل تطور جديد إبليس جديد

وعلى هذا يكون لحواء في طغيانها عذر مقبول

وما ذنب حواء؟ ما ذنبها وقد استحالت إلى دوافع ونوازع وأهواء؟

نظرت مرة إلى نهر الكوثر في لحظة سكون فرأت خيال وجهها الجميل وقد استدار في هالة من السحر والفتون، فقدرت أن سيكون لها تاريخ، وعجبت من أن يتعامى آدم عن حسنها الفتان، كأنها تجهل أن آدم صار ألعوبة في زمامها المخبول

وخلاصة ما قرأت في كتاب شيت أن آدم لا يقيم وزناً لنزعات إبليس، وإنما يرى أن الجسد هو الأصل، وأن ألفافه مكونة من أباليس، وأن ثمر الشجرة المحرمة قد يزيده فورةً إلى فورة، وجموحاً إلى جموح

وهل غاب عن آدم أن ثمرات التين سريعة العطب والفساد؟

لقد تأملها مرة ومرتين ومرات، فعرف أنها معرضة لأخطر الجراثيم، وأدرك أن سمها قد يؤرت ما في الأجسام من السم المكنون فتستشري وتهتاج

وإذا كان آدم عجز عن رياضة حواء وهي صحيحة، فكيف يروضها وهي مريضة؟

خطرت لآدم هذه الخواطر وهو يبحث عن السر في تمرد حواء. . . لقد كانت طفلةً وديعة، فكيف صارت امرأةً خبيثة؟ تطور الجسد صنع بها ما صنع، فأمست وهي أخطر من الحية النضناض، ولن يكون إبليس بأمكر من حواء، بعد أن تبلغ مبلغ النساء

وكان آدم يعرف أنه يحمل الجانب الأخطر من المسئولية؛ فهو السبب الأصيل في تمرد

ص: 12

حواء، وبفضل شبابه وصياله ذاقت أفاويق الضلال

والذي ينتظر أن تهدأ المرأة وأمام عينيها رجل، شبيه بالذي ينتظر أن تهدأ النار وقد ألقمت أكداس الحلفاء. . . لقد كان آدم يطرد حواء ثم تعود إليه لتأنس بضربه الوجيع، كما ترجع الفراشة إلى أقباس اللهيب

المرأة تدرك ما في الرجل من المعاني، ولو كان من الخاملين، فكيف تصد عنه وهو من الأنبياء؟

كانت حواء سمعت أن الله لم يخلق آدم إلا بعد أن دار بينه وبين الملائكة حوار طريف، فكيف يفوتها أن تنتفع بشهرته، وهي تعرف أن الهرة مغنم عظيم، وإن اعتمدت على أضاليل وأباطيل؟

وهل تقوم الشهرة بلا أصل؟

إن آدم رجل، والرجولة من أعظم الأرزاق، فما زهدها فيه وهو من أمثلة العزة والجبروت؟ وهل تنسى أنه صرعها فوق شط الكوثر ألوف المرات؟

القوة هي سحر آدم، والضعف هو سر حواء، والوجود يقوم على أسس كثيرة ولكنها ترجع إلى أساسين هما القوة والضعف؛ والعشق العارم لا يقع إلا بين عاشقين مختلفين في العرض والطول، والدمامة والجمال، والقسوة واللين

ومع هذا كان آدم هو البادئ بإعلان شوقه إلى حواء، وكانت حواء تنكر شوقها إليه. وتفسير ذلك سهل: فأسرع الناس إلى الاعتراف بالحق هم الأقوياء

ويزعم شيت بن عربانوس أن آدم قال وهو يحاور تلك اللعوب:

أما والله لو تجدين وجدي

لطِرت إليَّ خالعة العذار

وقد فات آدم ان حواء ضعيفة، والضعف يتسلح بالرياء

والقول الفصل أن آدم قد انتهى إلى حقيقة لا تحتاج إلى برهان، وهي صدور الأهواء عن الأجساد قبل صدورها عن الأرواح، لأن الجسد أداة الروح، ولأنه يحفظ قواها كما تحفظ الكأس سر الرحيق

ثم ماذا؟ ثم التفت آدم إلى وحي النبوة فقال:

(لم أكن أدرك تكاليف النبوة حين أراد الله أن أكون من الأنبياء، فقد فهمت أول الأمر أن

ص: 13

النبوة لا تصح إلا لمن يقف موقف الراعي من الرعية، وليس في الجنة جنود وأتباع يحتاجون إلى من ينظر في شؤونهم بعين المدبر الحصيف. . . ثم عرفت أن الله جعلني نبياً لحكمة سامية: فحواء شخص فرد، ولكنها مؤلفة من شخوص يعدون بالألوف، بفضل ما يصطرع في جسدها وروحها، وقلبها وعقلها، من أشتات النوازع والأحاسيس. . . هي شخص فرد، ولكن أوقاتي تضيق عن الطب لأهواء ذلك الشخص الفرد، فكيف أصنع لو أضيف إليها أفراد يحملون ما تحمل من أوقار النزق والطيش والجموح؟ إنها تتعبني في الحوار، وأكاد أوقن بأن كل كلمة من كلماتها ترمز إلى شيء، فهذه الكلمة عتاب، وتلك الكلمة اتهام، وهذا اللفظ وعد، وذاك اللفظ إغراء، وذلك اللفظ تجريح. . . ومن عجيب الأمر في سياسة هذه الشقية أن خطبها لا يهون إلا حين تنطق، مع أن المفهوم أن نطقها في أغلب أحواله وعيد مخيف. . . أخطر ما تكون حواء حين تصمت، فعند ذلك أدرك أنها تضمر أشياء، وأنا أخاف أشد الخوف من النذير الصموت. . . لو أن الله جعلني نبياً في أمة كثيرة العدد لخف الخطب وهان، فقد كنت أستطيع الاعتذار بالعجز عن رعاية الألوف من الرجال والنساء، ولكن الله جعلني نبياً على مخلوق تحار في رياضته العقول. . . من أي طريق أصل إلى اكتناه قلب حواء؟ وكيف أؤدي الواجب في تهذيب تلك الشقية؟ وهل نجحت في التخلق بأخلاق النبوة وأنا أروض تلك الفرس الشموس؟ الله يعلم أني لم أقصر ولم أفرط، ولكن ما هذا البلاء الذي أعانيه؟ واجب النبي أن يهدي الجميع في حدود ما يطيق؛ وقد يتلطف الله به حين يعجز عن هداية من يحب، لأنه يعلم أن الأحباب هم في الحقيقة أعداء؛ وهل يعرف مقاتل المحب غير الحبيب؟ كان يكفي أن أعجز عن هداية حواء فأسلمها إلى الشياطين، ولكن البلاء كل البلاء أن هذه المرأة لا تكتفي بنجاتها من يدي، وإنما تريد أن تضلني فآكل معها الثمر الممنوع، وبهذا يصبح الهادي وهو من الضالين! إن نجحت حواء في اختتالي واختلابي فسأكون عبرة لمن يأتي بعدي من الأنبياء. . . وهل أضمن حفظ مكانتي في التاريخ؟ إن تطاول الزمان فسيقول قوم إن آدم شخصية خرافية أريد بها تصوير انهزام الرجال أمام النساء. وهل يؤذيني أن يقال ذلك؟ أنا أول ضحية بشرية إن هزمتني حواء، ومن حق من يجيئون بعدي أن يرتابوا في حقيقتي التاريخية. فالرجل الذي يعجز عن كبح المرأة لا يستحق شرف الوجود. . . وأنا أعيذ من

ص: 14

تصل إليهم هذه الأخبار أن يسيئوا الظن بجدهم المظلوم، فليس عندي أوامر صريحة أتولى بها زجر حواء، ولست أعرف المصير إن عاقبتها بالقتل، فما لي صديق غير هذا المخلوق، والصديق الواحد جدير بالاستبقاء وإن تردى بالعيوب. من أخصب تخير، وأنا في الصداقة مجدب لا مخصب. فهل ألام إذا استجزت المعصية طاعةً لمحبوب لا أجد غيره حين يضيع؟ سأقرب الشجرة رعاية لحواء، وليصنع الله بنا ما يشاء. . . وماذا يريد الله! أيريد أن نشاركه في السمو المطلق؟ أيريد أن نتنزه كما تنزه عن جميع الشبهات؟ أين نحن من الله وهو قوة أزلية لا يعتريها نقص ولا خمود؟ بأمر الله سأعصي الله فأقرب الشجرة مع حواء. سأعصيه بأمره وإن كان نهاني، فهو يعلم أن المخلوق المؤلف من أحلام وأهواء لا يعظم عليه العصيان)

وانخرط آدم في البكاء، فلم يوقظه غير حواء

- آدم، آدم، ماذا بك؟

- حواء؟

- نعم، حواء، هل فرغت من صلاتك؟

- أي صلاة؟

- صلاة الشكر، ألم تحدثني أنك من أجلها أردت الاعتكاف

- لقد صليت صلاة لا تخطر لك في بال

- هل صليت كما تصلي الملائكة؟

- أعظم مما يصلون

- وكيف؟

- ناقشت الله!

- من ناقش الله هلك

- قولي هذا لنفسك، يا حواء!

- أحب أن أعرف كيف تكون المجادلات من ضروب الصلوات؟

- حين تكون شاهداً على شروق العقل

- لا أفهم ما تريد أن تقول

ص: 15

- أريد أن أقول: إن الله يكره لعباده أن يلوذوا بالصمت والجمود

- ومعنى هذا أنه يجب أن نتكلم ونتحرك في كل وقت؟

- إذا أشار العقل

- وما العقل؟

- أن تسكتي إلى الأبد الأبيد!

- أتريد أن تتمتع بنعمة الكلام وحدك؟

- لأنني أشقى بنعمة العقل وحدي، ولأن الله لن يسأل غير (آدم) عن نزق (حواء)

- وما رأيك في شجرة التين؟

- المرأة حين تولع بشيء لا تنفك تدور حوله ولو نهاها عنه الأنبياء

- وأنت نبي يا (آدم)؟ لم يبق إلا هذا الزعم الطريف!

- إن صوت الله قرع أذنيك ولم تنتهي، فهل تسمعين صوت النبي المسكين؟!

- ومتى نهاني الله عن الشجرة؟

- كيف نسيت يا حواء أننا سمعنا ألف مرة هاتفاً يصيح: (لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)

- هو نداء موجه إليك

- إلي وحدي؟ وكيف؟

- لأنك رجل!

- وإذن يكون من حقي أن أقرب الشجرة وحدي

- لن تذوق ثمرها إلا من يدي

- وهل أذوق من يديك غير العلقم والصاب؟

- اسمع يا آدم، اسمع: ينظر أنك أغلف القلب، وأنك في احتياج إلى من يزيل الغشاوة عن عينيك. ما هذا التمرد على الله؟ وما هذا العصيان؟ مزيتك أنك رجل، ورجلة آدم رهينة بشهادة حواء، ولن أعترف لك بشيء إلا إن عصيت وغويت

- ويقول الله: وعصي آدم ربه فغوى؟

- ومن أنت حتى تصل إلى أن ينالك الله بالغمز والتجريح؟

ص: 16

- اسكتي، يا حواء!

- لن أسكت قبل أن أزلزل قلبك جزاءً بما احتكرت من دعوى الفضيلة والشرف والنبل؛ كأن سلوكي معك رذيلةٌ وضعةٌ وإسفاف. أنت تصور نفسك دائماً بصورة المظلوم وتنسى أنك في أغلب أحوالك من الظالمين

- ومتى ظلمتك، يا حواء؟

- حين تناسيت فضلي عليك، فأنا أضرم أهواءك لتشعر بعنفوان الرجولة الحق، وستموت حسياً ومعنوياً يوم أعجز عن إغوائك. فيوم ذاك تعرف يا جاهل أن طيش حواء ليس بالمغنم القليل

- كفى. كفى!

- لا، لا، لن أتركك أو تعترف بفضلي عليك

- أمن الفضل أن تزيني المعصية؟

- ما زينت لك شيئاً غير جميل

- وشجرة التين؟

- ما تهمني شجرة التين بالذات فسأحاول هدايتك إن امتنعت عن شجرة الجميز، لأملك نقل قلبك من مكان إلى مكان، ولأطمئن إلى أنك بعافية تجعلك في طليعة الفحول، فما ينجو من كيد المرأة إلا العنين أو المجبوب

- أنت يا حواء شقية!

- وأنت يا آدم جهول!

ومرت لحظات صمت فيها آدم صمت الأموات، ثم ثاب إلى صحوه فأيقن أن نجاته من كيد حواء أمل عزيز المنال. . . ولكنه جمع قواه ليصدها عن الغواية بأسلوب لم يفكر فيه من قبل. فهل يصل إلى ما يريد؟

(للحديث شجون)

زكي مبارك

ص: 17

‌حاجتنا إلى معهد أثنولوجي

بجامعة فؤاد الأول

للأستاذ محمد جلال عبد الحميد

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

2 -

كيف نبتدئ في تكوين المعهد الأثنولوجي؟

قد يبدو غريباً أن نطالب الحكومة بإنشاء مؤسسة علمية جديدة بجامعة فؤاد الأول في هذا الوقت وخصوصاً وقد أصبح من المتعذر استدعاء العلماء الأخصائيين من أوربا وغيرها، وأنه أصبح من الصعب أيضاً توفير المال اللازم لتنفيذ مثل هذا المشروع، ولكنا إذا توسعنا في التفكير والبحث عن أقرب الطرق وأسهلها مع توخينا البساطة في التنفيذ ظهر لنا الأمر على عكس ما كنا نتوهم

من حيث هيئة التدريس وتكوين أعضائها فإن من السهل انتداب بعض الأساتذة من كليات جامعة فؤاد الأول وغيرها من المؤسسات العلمية بمصر. ففي كلية العلوم مثلاً يمكن استدعاء أستاذي البيولوجيا والفزيولوجيا لمعالجة هاتين المادتين بالمعهد؛ وكذلك يمكن انتداب أستاذ علم التشريح من كلية الطب لمعالجة مسائل الجنس البشري. ومن السهل أيضاً أن يقوم أساتذة علم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا واللغات لمعالجة المسائل الاجتماعية وأثر البيئة الجغرافية في تحديد النشاط المادي والروحي للجماعات البشرية المحدودة المدنية؛ ثم البحث عن معالم مدنياتها وآثار ما قبل التاريخ في الجهات التي تسكنها

فكما نشاهد فيما بعد أن المواد الرئيسية التي يتكون منها علم الأثنولوجيا هي ضمن اختصاص جماعة من العلماء لهم معاملهم وتجاربهم وأوضاع بحوثهم المستقلة. ولما كان الغرض الأول من معالجة تلك المواد بمعهد الأثنولوجيا هو رسم صورة عامة للتكوين الاجتماعي والأسس الدينية والأوضاع الاقتصادية، وتحديد المميزات الرئيسية للأجناس البشرية المحدودة المدنية؛ فليس من الصعب أن نبدأ من الآن فنعمل على إنشاء معهد للبحوث الأثنولوجية وأن تكون هيئة التدريس فيه من الأساتذة المصريين والأجانب الموجودين بمصر الآن

ص: 18

وأما مشكلة التجارب الأثنولوجية وكيفية تهيئة المعامل اللازمة لها، فليس فيها تعقيد أو صعوبة لا يمكن تخطيها، لأنه من السهل استدعاء بعض الأطفال والأولاد من المدارس الإلزامية والابتدائية، وأما الرجال والنساء، فيؤتى بهم من بعض وحدات الجيش والمستشفيات والسجون لوصف وأخذ أقيسة مختلفة لأعضائهم وتحليل الدم عندهم لتحديد مجموعاته المختلفة. ويمكن أيضاً إجراء مثل هذه التجارب على الهياكل البشرية التي يمكن الحصول عليها من كلية الطب

ومن ضمن التجارب الأثنولوجية أيضاً القيام ببعض زيارات لمتحف الأثنولوجيا والمتاحف الأخرى الموجودة بمصر للوقوف على كيفية ترتيب المعروضات فيها، ثم القيام بوصف وتحليل بعض هذه المعروضات لمعرفة طريقة تكوينها واستخلاص الأسس الفنية والغاية التي أنشئت من أجلها

3 -

منهج الدراسة

أولا - الدراسة النظرية

تتناول هذه الدراسة نشأة الإنسان ومميزاته الرئيسية والمؤثرات الخارجية المحيطة به واتصال ذلك بنظام تطوره العام، وأبواب هذه الدراسة هي:

(ا) نشأة الإنسان ومميزاته

1 -

باليونتولوجيا

نستعين بهذه الدراسة في معرفة آثار الحياة في المخلوقات البسيطة التركيب وغيرها والتي وجدت في عصور جيولوجية قديمة سبقت عهد ظهور الإنسان مع العمل على تحديد المناطق الطبيعية لتلك الحيوانات وتعيين اتجاه هجرتها في تلك العصور، ثم تعيين المناطق الأولى التي ظهر فيها الإنسان

2 -

وعند الإلمام ببعض مبادئ علم الحياة نستطيع أن نعرف التطورات والتغيرات التي تنشأ داخل جسم الإنسان وتعتريه في حياته، ثم العمل على تحديد العوامل الوراثية وأثرها في

ص: 19

انتقال المميزات الرئيسية للجنس البشري

3 -

فزيولوجيا

ونقصد من هذه الدراسة الوقوف على كيفية ومدى تأثير البيئة الجغرافية وطرق التغذية ووسائل العمل في اختلاف الأجناس البشرية.

4 -

أنتروبولوجيا

يتناول هذا العلم دراسة الصفات الرئيسية لجسم الإنسان وتحديد المميزات المختلفة للأجناس البشرية كلها مع الإلمام التام بتاريخ نشأة كل منها.

(ب) مؤثرات خارجية

1 -

البيئة الجغرافية والبشرية:

بعد معرفة العناصر المختلفة للبيئة الجغرافية من حيث الطقس ودرجة خصوبة الأرض والتغيرات المناخية يمكن تحديد تأثير تلك العوامل الطبيعية في التكوين الاجتماعي والنشاط المادي والروحي للأمم المختلفة.

2 -

اتصال الأجناس والمدنيات:

إذا تغلبت أمة على أمة أو طغت مدنية على مدنية أخرى فقد يؤثر ذلك في حجم الأمة المغلوبة إما بزيادة عدد أفرادها أو بنقص هذا العدد. وللمدنية الغابة الحق والقدرة على توجيه رأي الجماعة والتعبير عن شعورها وتحديد طرق معيشتها. وعلى هذا فمن الضروري أن نهتم كثيراً بدراسة تأثير المدنيات بعضها في بعض، ومعرفة النتائج المادية والمعنوية للاستعمار البشري والاتصال المدني. ويكمل هذه الدراسة بحوث يقصد منها تحديد مناطق المدنيات وعصورها واتجاهاتها ومميزاتها الرئيسية.

(ج) النشاط الإنساني

1 -

علم النفس

يقصد من هذه الدراسة الإلمام بمعرفة الظواهر الأولى لنشأة الحياة الفكرية والإحساس

ص: 20

والشعور وطرق التعبير عنهما لدى الإنسان ومقارنة تلك الظواهر بما تشابهها لدى الحيوانات الراقية

2 -

علم اللغة

ونستعين بهذه الدراسة في معرفة القوانين العامة لاختلاف اللغات واللهجات والإلمام بالطرق العلمية لجمع عناصرها ومعالمها بين الجماعات المختلفة

3 -

علم الاجتماع

يقصد من هذه الدراسة معرفة الأسس والتعاريف العامة للظواهر الاجتماعية والدينية والاقتصادية

4 -

أتنوجرافية

وغاية علم الإتنوجرافيا دراسة الطرق المختلفة التي يجب اتباعها في جمع معالم ولم شتات المدنيات لدى الأمم المحدودة المدنية

5 -

علم آثار ما قبل التاريخ

نبغي من وراء هذه الدراسة معرفة المميزات الأساسية للإنسان الأول ومعرفة آثاره المادية والروحية والعمل على جمعها وترتيبها حسب مواطنها وعصورها المختلفة

ثانيا - الدراسة العملية

1 -

تجارب أنتروبولوجية

يقوم الطلبة بإجراء تجارب مختلفة، كوصف جسم الإنسان وأخذ أقيسة لأعضائه، وأن تجرى هذه التجارب على الرجال والنساء والأولاد والأطفال؛ وذلك في بيئات وطبقات اجتماعية مختلفة. هذا وأن تجرى نفس التجارب على الهياكل البشرية والحيوانية

2 -

تجارب بسيكولوجية

يتمرن الطلبة على استعمال الآلات الحديثة الخاصة بقياس قوة النظر وسرعة الإحساس، مع الإلمام بمعرفة الطرق العلمية المستعملة في قياس قوة الذاكرة

ص: 21

3 -

تجارب انتوجرافية

يقوم الطلبة بعدة زيارات لمتحف الأتنولوجيا والمتاحف الأخرى بالقاهرة وغيرها للوقوف على كيفية ترتيب وضع المعروضات فيها ووسائل حفظها والعناية بها. وأن يتدرب الطلبة أيضاً على وصف هذه الأشياء ومقارنتها بنظائرها

4 -

رحلات

يقوم الطلبة برحلات وزيارات لكثير من القرى المصرية والسودانية لدراسة نظام تكوين القرية ووصف الحياة فيها ويقوم الطلبة أيضاً بزيارة المناطق التي اكتشف فيها آثار ما قبل التاريخ

وقبل أن أنتهي من الحديث عن منهج الدراسة بمعهد البحوث الأتنولوجية أريد أن ألفت النظر إلى أنه يشترط في طالب الالتحاق به أن يكون من خريجي كليات الآداب والحقوق والتجارة والطب وأن تكون مدة الدراسة فيه سنتين

هذا وإننا نرى أن متحف الأتنولوجيا يكون جزءاً متمماً للمعهد فيجب أن يبدأ في تكوينه مع المعهد

يظهر لنا مما تقدم أن بوادي النيل كثيراً من الجماعات البشرية تختلف عن بعضها من حيث جنسها ونوع تكوينها الاجتماعي ودرجة مدنياتها، وأن البحث عن معالم تلك المدنيات لم يتسع ميدانه ولم تتنوع أبوابه بعد، فيجب أن نشرع في إنشاء معهد ومتحف الأتنولوجيا لنتابع بذلك تقدماً مطرداً في نهضتنا العلمية الحديثة والتي تبغي لها انسجاماً في جميع نواحيها. وإذا نظرنا إلى ماضي نهضتنا على الأخص هذه وجدنا أن في عنقنا ديناً نحو العلم الذي أصبح اليوم يزهق من زفرات أوربا المحرقة والتي شردت العلماء في فيافي الأرض بعد أن تفككت أواصر مجتمعاتهم وانقلبت أوضاع معاملهم، وأن شعورنا بهذا الواجب يحتم علينا أن ننهض ونضحي ونهيئ للعلم وطناً كما فعل السابقون من أبناء هذا الوادي

محمد جلال عبد الحميد

ص: 22

‌2 - ابن خرداذبه

للأستاذ كوركيس عواد

يؤخذ مما ورد في بعض المراجع - أن ابن خرداذبه هذا - كان وزيراً، فقد ذكر البشاري المقدسي في عرض كلامه على (سد ذي القرنين) ما هذا نصه:

(قرأت في كتاب ابن خرداذبه وغيره في قصة هذا السد على نسق واحد، والفظ والإسناد لابن خرداذبه، لأنه كان وزير الخليفة، وأقدر على ودائع علوم خزانة أمير المؤمنين. . .)

ويؤسفنا أنه لم يشر إلى اسم ذلك الخليفة الذي وزر له، والمرجح عندنا أنه كان (المعتمد)

وقد بحثنا فيما بين أيدينا من تواريخ الدولة العباسية، والمصنفات الباحثة في أخبار الوزراء خاصة؛ فلم نجد بين هاتيك المدونات من ذكر أن ابن خرداذبه كان وزيراً لخليفة من الخلفاء. والذي نذهب إليه أنه كان وزيراً بالاسم فقط، وهذا أمر معروف عند متتبعي أحوال الإدارة في تلك الأزمنة التي كثرت فيها الوظائف، واصطنعت فيها الألقاب!

ومهما يكن من أمر، ففي العبارة التي نقلناها عن البشاري، خير دليل على عظم منزلة ابن خرداذبه عند الخليفة، وعلى اعتماد ذاك الخليفة عليه في أمور خزانته الحافلة

وقد ذكر ابن خرداذبه نفسه بنفسه، في أوائل كتابه (المسالك والممالك)، ولمح إلي مكانه من الخليفة بقوله:

(هذا كتاب فيه صفة الأرض، وبنية الخلق عليها، وقبلة أهل كل بلد والممالك والمسالك إلى نواحي الأرض، تأليف أبي القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه، مولي أمير المؤمنين)

والظاهر أن (أمير المؤمنين) هذا، قد كان المعتمد أيضاً، على ما عرف من صلة وثيقة بينه وبين هذا الخليفة

ولعبيد الله ابن خرداذبه أخبار تفرقت في شعر بعض معاصريه فيها ما يسير إلى أصله (الفارسي)، وما يشيد بذكر عائلته العريقة في المجد، وما يدل على سمو منزلته في الدولة

روى أبو بكر الصولي في كلامه على الشاعر أبي الطيب محمد ابن عبد الله بن أحمد بن يوسف أنه قال: (وكتبت إلى ابن خرداذبه، وقد دام المطر (بسر من رأى) وتأخرت عنه:

لعمري لئن سرّ الحيا في مواطن

لقد ساَءني أن عاقني عن لقائكا

وقد كنتُ مشغوفاً بذاك أريده

فحالَ قضاءُ الله من دون ذلكا

ص: 23

فَصِفْ لي فَدَتْك النفس أمراً يسرني

وأحمد فيه الله من حسن حالكا

وحال أَحينا أَحَسنَ الله صنعه

وحال فَتاك منعماً في كتابكا

فهذا الشاعر، على ما يبدو من الأبيات المتقدمة، قد كان صديقاً حميما لابن خرداذبه. ونظيره في هذه الصداقة كان البحتري الشاعر المشهور المتوفى سنة 284 هـ؛ فقد وقفنا في ديوان شعره على قطع له فيه. من ذلك ما قاله في عبدون بن مخلد وقد كتب بها إلى ابن خرداذبه:

أبلغْ لديكُ عبيد الله مألكة

وما بدَارِ عُبيْدِ الله من بُعدِ

أضحتْ بقطر بّل والدَّيْرُ حَلَّتُه

ومَا يُجَاوِرُ بيتَ النارِ ذا العُمُدِ

لم تدر ما بي وما قد كان بَعدَك من

نفاستي لك في عبدون أو حسدي

أغَرُّ، أَحسَبُ نُعْمَاهُ الجليلةَ من

ذخائري لِصرُوفِ الدهرِ أو عُدَدِي

إذا مضى اليوم لا نلقاه فيه مضى

سرورنا وترَّقبنا مجىء غدِ

إن فات في السبت أن نزدار سيدنا

فلا تَفُتْنا لشيءٍ زَوْرَةَ الأحد

وفي القطعة التالية، يوجه البحتري الكلام إلى ابن خرداذبه بعد أن خلع عليهما عبدون بن مخلد. وفي هذه إشارة صريحة إلى ما كان من صلة بين عبدون وابن خرداذبه. قال البحتري:

يا أبا القاسم استَجَدَّ لنا عبدو

نُ حالاً تمامُها في ضمانِهْ

جمعتنا مَوَدَّة واجتمعنا

بعدُ في برّه وفي إحسانهْ

قد لبسْنَا ثيابَهُ وتَسايَرْ

نا بتقريظه على حُمْلانه

وأجزل فائدة من ذلك، ما قاله البحتري في مدح عبيد الله ابن خرداذبه، وذكر صداقته، وتهنئته بخروجه من علة كان فيها ودونك ذلك:

إن ترْجُ طوْلَ عبيْدِ الله لا تخبِ

أو ترْم في غرضٍ من سيبه تُصب

لم تلقَ مثلَ مَساعيه التي اتصلتْ

وما تقيَّلَ منها عن أَبٍ فأًبِ

رأْيٌ صليبٌ على الأيَّام يُتْبعُهُ

ظرفٌ متى يَعترض في عيشِنا يطِب

ذاكَ أَخٌ أَفتديهِ إنْ يُحِسَّ أَذىً

بالنفسِ مما توقَّاهُ وبالنَّشبِ

(إذ كان من فارسٍ في بيت سؤددها

وكنت من طيئٍ في البيت والحسب

ص: 24

فَلم يَضِرْنا تَنائي المنصبين وقد

رُحنا نسِيبَيْن في خلُقٍ وفي أًدًبِ

إذا تشاكلتِ الأخلاقُ واقتربتْ

دنتْ مسافةُ بين العُجم والعربِ)

اسلم ولا زلتَ في سترٍ من النُّوَبِ

وعِشْ حميداً على الأيام والحُقُبِ

ولْيهْنِكَ البُرْءُ مما كنتَ تَألمُهُ

والأجرُ في عقْبِ ذاك الشكوِ والوَصبِ

أَوْحشتَ، مذْ غبتَ قوماً كنتَ أُنسَهمُ

إذا شَهِدْتهمُ فاشهَدْ ولا تغِبِ

إلاّ تكنْ مَلِكاً تُثْنَى تحيَّتهُ

فإنَّك ابنُ مُلوكٍ سادةٍ نُجُبِ

وإن قصدْتَ ابتغاَء البُرْءِ من سَقمٍ

فقد أَرقتَ دَماً يَشْفي من الكلَبِ

وغني عن القول أن ابن خرداذبه، وهو الفارسي الأصل، كان يعرف اللغة الفارسية، ولا ندري ما إذا كانت له كتابات أو تآليف بهذه اللغة. وإنما وجدناه في كتابه المسالك والممالك يستشهد في موطنين بشعر فارسي

أما سنة وفاته، فلسنا على ثابت منها. وقد وجدنا الحاج خليفة يقول إن ابن خرداذبة توفى في حدود سنة 300 للهجرة، ولعل هذا صحيح، غير أننا لم نقف في كتاب قديم على ما يدعم هذا القول

وقد قلنا إن ابن خرداذبة نادم المعتمد وخُصَّ به. ومعروف أن المعتمد ولد سنة 229، وبويع له بالخلافة سنة 256، وتوفي سنة 279هـ، فيكون ابن خرداذبة قد بلغ أوج عزه خلال هذه الفترة المنحصرة بين 256و279 للهجرة.

وذكرنا ما كان من صداقة بينه وبين البحتري المتوفى سنة 284هـ. إلا أن المراجع التي بأيدينا لا تعيننا على معرفة ما إذا كان ابن خرداذبة قد توفي قبل البحتري أو بعده.

وما قلناه في عبيد الله، نقوله في سائر بني خرداذبة، فإننا نجهل سني وفياتهم، فضلاً عن أن علمنا بسائر أخبارهم وشؤونهم ما زال مقتضباً يسيراً. وحسبك أن تعلم أن الترجمة الوحيدة لعبيد الله ابن خرداذبة، هي التي كتبها ابن النديم في فهرسته، وهي أقل من خمسة أسطر!

5 -

مؤلفات ابن خرداذبة

سبقت الإشارة إلى بعض تصانيف ابن خرداذبة، التي خلدت اسمه على كر العصور. وهذه المؤلفات قد تزيد على العشرة، ذكر ابن النديم ثمانية منها، ضاع أغلبها فيما ضاع من

ص: 25

تراث الأقدمين. وإليك الآن أسماءها وما نعلمه من أمرها:

1 -

كتاب أدب السماع.

2 -

كتاب جمهرة أنساب الفرس والنوافل.

3 -

كتاب المسالك والممالك: ضمنه إحصاء جباية المملكة العباسية في أواسط المائة الثالثة للهجرة. وهو من خيرة المراجع القديمة في معرفة الطرق والمسالك، وتعيين المسافة بالفراسخ أو بالأميال بين مكان ومكان، على ما كان معروفاً عند القوم في ذلك الزمان. ولا مراء، إن ابن خرداذبة كان الرجل الثقة في مثل هذه البيانات، لأنه تولى أعمال البريد. ومن المعلوم أنه (لا غنىً بصاحب هذا الديوان أن يكون معه منه ما لا يحتاج في الرجوع فيه إلى غيره، وما إن سأله عنه الخليفة وقت الحاجة إلى شخوصه وإنفاذ جيش يهمه أمره، وغير ذلك مما تدعو الضرورة إلى علم الطرق بسببه، وجد عتيداً عنده ومضبوطاً قبله، ولم يحتج إلى تكلف عمله والمسألة عنه)

ويبدو لنا واضحاً أن ابن خرداذبة لم يؤلف هذا الكتاب إلا بطلب من شخص كبير لم يصرح باسمه ولعله أحد الأمراء. قال في أول كتابه، وفيه ما يوضح غرضه من هذا السفر ما إليك نصه بالحرف الواحد:

(أطال الله تعالى بقاءك يا ابن السادة الأخيار والأئمة الأبرار منار الدين وخيرة الله من الخلق أجمعين، وأدام الله لك السعادة، وكثر لك الزيادة من جميع الخيرات، ووفقك لسبيل الصالحات، وجعلك ممن ارتضى أفعاله وزين أحواله. فهمت الذي سألت، أفهمك الله جميع الخيرات وأسعدك إلى الممات، وأفلح في الدارين سهمك، ووفر فيهما قسمك، من رسم إيضاح مسالك الأرض وممالكها، وصفتها وبعدها وقربها وعامرها وغامرها، والمسير بين ذلك منها من مفاوزها وأقاصيها ورسوم طرقها وطقوسها على ما رسمه المتقدمون منها. فوجدت (بطليموس) قد أبان الحدود وأوضح الحجة في صفتها بلغة أعجمية، فنقلها عن لغته باللغة الصحيحة لتقف عليها، وقد رسمت، رسم لك فوز الحق في جميع مأمولك ومطالبك، ما رجوت أن يكون محيطاً بمطلوبك وآتياً على إرادتك كالمشاهد لما نأى والخبر بما قرب، وصنعته كتاباً افتتحته بالحمد لله ذي العزة المنيعة والنعمة السابغة، الذي أنشأ الخلق على ما أراد، وبين سبيل الحق للعباد، لم تشركه في خلقه الآراء المتوهمة ولا ظنون الرؤيات،

ص: 26

تعالى الله عما يشركون، وصلى الله على محمد نبيه، وعلى الأخيار من عترته وسلم كثيراً) أهـ

والمعروف في وقتنا أن لهذا الكتاب ثلاث نسخ خطية، اثنين منهما في خزانة أكسفرد وفيهما خروم

وكان المستشرق باربيه دي مينار أول من نشر هذا الكتاب ونقله إلى الفرنسية (المجلة الآسيوية الفرنسية، السلسلة 6، المجلد 5، سنة 1865، ص 227 وما بعدها ثم عني بتجديد طبعه العلامة دي غويه فنشره مترجماً إلى الفرنسية أيضاً (الخزانة الجغرافية العربية، ج 6، ليدن 1889 في 183 صفحة للمتن، و144 للترجمة. ويليه في المجلد نفسه نبذ من (كتاب الخراج وصنعة الكتابة) لقدامة بن جعفر الكاتب البغدادي، المتوفي سنة 310 أو 320هـ، صفحة 184 - 266) وجديرة بالعناية تلك التحقيقات الثمينة والتعليقات الدقيقة والفهارس المتقنة التي تحلى بها هذا الكتاب. وقد اشتملت المقدمة التي كتبها الناشر دي غويه بالفرنسية على فوائد جزيلة، جاءت في 23 صفحة. وصفوة القول أن هذه الطبعة نفيسة، فيها ما يحمل القارئ على الاطمئنان إلى سلامتها من الشوائب

وقد نشر دي غويه أيضاً، قطعة من هذا الكتاب في مجموع بلداني له، كما نشر بلاشر قطعاً أخرى منه في مجموع بلداني له

ومن الدراسات الثمينة التي حظي بها هذا السفر، ما كتبه الرحالة المستشرق موزيل في كتابه (الفرات الأوسط) فقد عمد إلى المسافات والأبعاد التي ذكرها ابن خرداذبه في الطريق من بغداد إلى الرقة، وانتقد ما اعتورها من أوهام. وجدير بمن يطالع المسالك والممالك أن رجع إلى ما كتبه موزيل في هذا الشأن لتتم به الفائدة.

(يتبع - بغداد)

كوركيس عواد

ص: 27

‌أستراليا

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

بيت القصيد، وميدان القتال الجديد، وما نخال إلا أنها كانت السبب الأول والعامل المهم في دخول اليابان الحرب الحاضرة ضد بريطانيا العظمى - بعد أن حرم على أبنائها سكنى استراليا -

والآن وبعد أن أجهزت اليابان في مدى شهرين أو ثلاثة على الجزائر التي تربط هذه القارة بآسيا، فأنها لا شك متقدمة إليها زاحفة عليها: ولسنا ندري ماذا ستكون نتيجة الصراع القادم بين الأستراليين واليابانيين؛ فالأستراليون محاربون بواسل كان لهم القدح المعلى والنصيب الأوفر في كسب بريطانيا للحرب الماضية، وفي رد العدوان الإيطالي في الحرب الحالية عن مصر؛ وسوف يكون نضالهم عنيفاً من غير شك، فإنهم لن يسلموا بلادهم دون الاستشهاد في سبيلها، وهم يدركون الآن أن الساعة التي تفرض عليهم المقاومة الباسلة آتية لا ريب فيها. وقد جاء من سيدني بتاريخ 9 فبراير سنة 1942 أن الجنرال جوردن بنيت ألقى خطبة في حفلة أقيمت لاستقباله قال فيها:(عندما نقابل اليابانيين في استراليا - وأنا واثق من أننا سنقابلهم - فإني موقن بأن روح القتال في الشعب الأسترالي ستسود الموقف وتقودنا إلى النصر. فيجب علينا أن نقذف بهم في البحر في كل مكان يحاولون فيه تثبيت أقدامهم. إن محاولة غزو بلادنا تعد مغامرة تكتنفها الأخطار، ولكننا لم نعد نقلل من قوة العدو كما أننا لن نقلل من قوتنا وقوة حلفاءنا)

وسنحاول في هذا المقال وصف المناطق الشمالية من استراليا التي ستكون أول ميدان للقتال، ووصف استراليا وصفاً إجمالياً ومقدار ثروتها الزراعية والمعدنية وقدرتها على الإنتاج الصناعي

هذه القارة

أصغر القارات جميعاً وأكبر جزائر العالم. تبلغ مساحتها 54

مساحة أوربا و 51 مساحة أفريقيا و 61 مساحة آسيا، ويتكون

شمالها من سهول شاطئيه منخفضة لا يزيد ارتفاعها على

ص: 28

600 قدم. وتتدرج في الارتفاع نحو الداخل. ويمتاز هذا

الإقليم بشدة حرارته وغزارة أمطاره في فص الصيف الجنوبي

(يناير)، وبجفافه وقلة حرارته نسبياً في فصل الشتاء الجنوبي

(يونيه). وفي اعتقادنا أن ذلك من حسن حظ الأستراليين، لأن

القتال سيدور في جو ملائم نوعاً لهم بعد أن ولى فصل

الصيف الشديد الحرارة وأقبل الخريف. أما شرق هذه القارة

فتوجد به المرتفعات الشرقية، وهي تتكون من مرتفعات

كوينزلند، وجبال نيوانجلند، والجبال الزرقاء، وجبال الألب

الأسترالية؛ تلي هذه المرتفعات السهول الوسطى، وتتكون من

إقليم الآبار الارتوازية العظيم وتبلغ مساحته نصف مليون ميل

مربع تقريباً، وهو أكبر إقليم من نوعه في العالم، ومن حوض

المري ودارلنج. وتنصرف مياه شمال هذا الإقليم في خليج

كاربنتاريا. أما في الوسط فتنصرف في بحيرات داخلية أهمها

بحيرة أير. وتمتاز أمطار هذا القسم بقلتها وعدم ضمانها؛ ولذا

يطلق عليه (قلب استراليا الميت) أما الجنوب فيجري به

نهر المري ودارلنج ويطلق عليه (قلب استراليا الحي)

ويلي السهول الوسطى الهضبة وأعظم جهاتها ارتفاعاً أجزاؤها

ص: 29

الغربية والشرقية

ثروتها المعدنية والزراعية

هذه القارة من أغنى القارات بمواردها الزراعية، فهي تزرع مساحات واسعة من القمح، وتنتج منه مقادير كبيرة تفيض عن حاجتها وتصدرها إلى الخارج. والدقيق الأسترالي مشهور معروف. وفي جنوبها تزرع أشجار الفاكهة من: أعناب وبرتقال وليمون وتفاح ويصنع بها النبيذ. أما شمالها، فتزرع به مساحات كبيرة من قصب السكر وتزرع كوينزلاند وحدها ما يزيد على 150000 فدان، وتصدر الزائد عن حاجتها من السكر إلى بريطانيا العظمى

والمراعي باستراليا عظيمة القيمة، فباستراليا يربى ما يزيد عن المائة مليون رأس من الضأن. وقيمة الصادر من الصوف وحده تزيد على قيمة ما يصدر من محصولاتها جميعاً. وتمتاز كوينزلاند ونيوسوث ويلز بتصدير اللحوم المجففة ومستخرجات الألبان، حيث تربى بهما الماشية. أما الثروة المعدنية، فاستراليا غنية بها، وقد لعب الذهب دوراً هاماً في تاريخها، فقد كانت قبل اكتشافها منفى للمجرمين، ولكن بعد كشفه هرعت ألوف من المهاجرين إلى استراليا واستقرت بها، ونشأت عدة مدن بالقرب من مناجمه مثل بلارات وبندنجو وكلجوري وكلجاردي. ومن أهم المعادن التي تستخرج: الفحم والفضة والرصاص والزنك والقصدير؛ وتعادل قيمة المستخرج من الفحم قيمة المستخرج من باقي المعادن، وهي تصدر الفحم الزائد عن حاجتها

ونظراً لتوافر المعادن والمواد الأولية قامت عدة صناعات أهمها دبغ الجلود وصناعة الآلات من الحديد والصلب والمنسوجات الصوفية وصناعة الأثاث والصابون. والأستراليون يعتمدون على مصنوعات بلادهم ويشجعونها ويؤثرونها على المصنوعات المستوردة وإن غلا ثمنها

السكان

هذه القارة رغم ثرائها قليلة السكان، فإن عددهم لا يزيد على ستة ملايين وثمانمائة ألف. ولعل السبب في ذلك تلك السياسة التي جرت عليها حكومتها من تحريم سكناها على

ص: 30

العناصر الملونة وقصرها على العناصر البريطانية فمنعت الصينيين من دخولها وعملت على حفظها ميراثاً لأبناء العناصر البيض وأحفادهم.

وقد أقلق بال الأستراليين استيلاء اليابانيين عقب الحرب الماضية على جزائر مارشال وكارولين، إذ اقترب اليابانيون من استراليا ألفي ميل. وزاد في قلقهم أن جهات استراليا الشمالية قليلة السكان لعدم ملاءمة مناخها لسكني الأوربيين. ودرءاً لهذا الخطر اتفقت الحكومة البريطانية مع حكومة استراليا على تشجيع الهجرة البريطانية إليها عام 1925، وقد خصصت الحكومة البريطانية لهذا المشروع 000ر83ر70 جنيهاً

أما أكثر جهات استراليا ازدحاماً بالسكان، فهي السواحل الشرقية والجنوبية، حيث يسكنها ما يزيد على 80 % من السكان ولكنهم من أنشط العناصر وأبسها

والآن اقتربت الساعة ودنا الخطر الياباني من استراليا، وسيتوقف الفوز في المعركة القادمة على عاملين مهمين: أولهما المساعدات التي يقدمها الحلفاء ولا سيما الولايات المتحدة؛ والثاني عزيمة الأستراليين أنفسهم ومقدرتهم على كيل الضربات إلى اليابانيين بصورة أقسى وأشد من الضربات التي يكيلها لهم اليابانيون. وهذه هي الروح التي يجب أن يعتصم بها الاستراليون في هذا الصراع وإنا لشمس الغد لمنتظرون.

أبو الفتوح عطيفة

مدرس العلوم الاجتماعية

بمدرسة الزقازيق

ص: 31

‌28 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل التاسع - اللغة والأدب والعلوم

يلحق بالأزهر في ركنه الشرقي (زاوية العميان) يعيش فيها الآن حوالي ثلاثمائة ضرير فقير، وأغلبهم من الطلبة، على الأوقاف المحبوسة عليهم. وقد عرف هؤلاء بسلوكهم طريق التمرد والعنف والتعصب. وقد حدث منذ زمن غير بعيد أن دخل سائح أوربي الأزهر وشاع أمر حضوره، فأخذ العميان يبحثون عنه صائحين: أين الكافر؟ سوف نقتله! وجعلوا يتحسسون طريقهم إليه للقبض عليه. بينما لم يظهر غيرهم رغبة ما في مهاجمة الدخيل. وكثيراً ما كانوا ينتهجون، قبل تولي محمد علي الحكم، مسلك الطيش والضجيج كلما حسبوا أنفسهم مظلومين، أو كلما أنقص راتبهم في الطعام، فكانوا يخرجون إلى الشوارع مصطحبين بعض الإدلاء مسلحين بالعصى، يخطفون عمائم العابرين، وينهبون محتويات المتاجر. ولم يكد يعين الشيخ القويسني، أشهر علماء الأزهر الحاليين، شيخاً لزاوية العميان منذ بضع سنين، وكان كفيفاً، حتى أوجب جلد كل ضرير هناك، إلا أن العميان ثاروا عليه وقيدوه ثم جلدوه جلداً أشد بكثير مما قاسوه، وأكرهوه أخيراً على ترك منصبه

وكان التعليم مزدهراً ازدهاراً عظيماً في القاهرة قبل دخول الجيش الفرنسي أكثر منه في السنين الأخيرة. وقد عانى التعليم كثيراً مما أحدثه هذا الغزو من الرعب والهرج. وكان يكفي قبل ذلك العصر أن يقوم الشيخ المتخرج من الأزهر بالتدريس لولدين من أولاد الفلاحين المتوسطي الثروة ليعيش في بحبوحة. إذ أن تلميذيه كانا يقومان على خدمته ونظافة منزله وتجهيز غذائه. فكانا وإن شاركاه الطعام يعتبر أن خادمين له في كل آن. فيتبعانه أينما ذهب، ويحملان نعليه (وكثيراً ما كانا يقبلان حذائه بعد خلعه) عند دخوله

ص: 32

المسجد، ويعاملانه في كل حين معاملة الأمراء. وكان الشيخ حينئذ يلبس الملابس الفضفاضة والمقلة العظيمة. وكثيراً ما كان المارة يسرعون إليه عندما يمر بالطريق راجلاً أو راكباً طالبين منه الدعاء لهم؛ ويعتقد من تحقق رجاؤه أن البركة حلت به. وإذا مر الشيخ بإفرنجي راكب وجب على الإفرنجي أن يترجل. وإذا ذهب إلى الجزار لشراء اللحم (إذ يرى أن الذهاب بنفسه خير من إرسال غيره) رفض هذا أن يتناول الثمن وقبل يده معتبراً طلب الشيخ شرفاً وبركة. أما الآن فقد انحط شأن هؤلاء الشيوخ حتى يصعب عليهم الحصول على معاشهم إن لم تكن مواهبهم منقطعة النظير

ولا جرم أن علماء المسلمين يعوقهم الدين عن السير في بعض سبل العلم. وقد تفصل الخرافة في أمور اختلف فيها الناس أجيالاً طويلة. وهناك وسيلة غريبة لحسم النزاع في أي موضوع ديني أو علمي أو في أي حادث، أضرب لها مثلاً. فقد قص على إمام الشيخ المهدي المفتى السابق الحكاية التالية: كان الشيخ محمد البهائي، وهو رجل مثقف يعتبره العامة ولياً من أولياء الله، يستمع إلى درس الشيخ الأمير الكبير شيخ المالكية عندما قرأ هذا حديثاً للرسول من الجامع الصغير للسيوطي وهو (إن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة في الجنة) وأخذ يشرح الحديث بعد أن لخص تاريخ الحسن والحسين ملاحظاً أن لا أساس للرأي القائل بوجود رأس الحسين في مسجده بالقاهرة. وهنا قال محمد البهائي: فتملكني غم شديد لهذه الملاحظة لمخالفتها ما أعتقد وما زلت أعتقد، بوجود الرأس الشريف في هذا المشهد. ولكني ما كنت لأعارض الشيخ لشهرته وسعة علمه.

وانتهى الدرس وخرجت أبكي. فلما جن الليل قمت أدعو الله وأبتهل إليه ولجأت إلى رسوله الكريم (ص) متوسلاً أن أراه في المنام ليخبرني بحقيقة الأمر. فرأيتني أسير إلى المشهد الحسيني. فلما دنوت من القبة أبصرت بها نوراً ساطعاً فدخلت فوجدت أحد الأشراف واقفاً بالباب. فحييته فرد التحية وقال: (سلم علي رسول الله). فأرسلت النظر نحو القبلة فرأيت الرسول (ص) جالساً على عرش وعلى جانبيه وقف رجلان. فرفعت صوتي قائلاً: (الصلاة والسلام عليك يا رسول الله) عدة مرات وأنا أبكي. فسمعته (ص) يقول لي: (أدن يا بني، يا محمد) فأخذ الرجل الأول بيدي وقدمني إلى الرسول (ص). فحييته فرد التحية وقال: (جزاك الله خيراً على زيارة رأس الحسين يا بني). فقلت: (يا رسول الله هل رأس

ص: 33

الحسين هنا؟) فأجاب: (نعم. إنه هنا) ففارقني الحزن وفرحت وثبت جناني وقلت حينئذ: (يا رسول الله سأقص عليك ما أكده شيخي وأستاذي الأمير في درسه). وأعدت عليه قول الشيخ. فأطرق (ص) ثم رفع رأسه وقال: (إن النقلة معذورون). واستيقظت فرحاً سعيداً ولما ينقض الليل بعد. فعيل صبري بطوله وجعلت أترقب طلوع النهار لأذهب إلى الشيخ فأقص عليه الرؤيا. فلما طلع الفجر أقمت صلاتي وخرجت إلى منزل الشيخ وأخذت أطرق الباب بشدة. فأسرع البواب فزعاً يسأل من الطارق؛ فلما عرفني فتح الباب، ولو كنت غيري لضربني. ودخلت الفناء وأخذت أصيح:(سيدي! يا سيدي!) فاستيقظ الشيخ صائحاً: (من هذا)؟ فأجبته: (أنا تلميذك محمد البهائي) فتعجب الشيخ لحضوري في هذا الوقت وقال: (يا الله! ما هذا؟ ما الخبر)؟ فقد ظن أن حادثاً عظيماً نزل بالناس. ثم قال: (انتظر حتى أقيم الصلاة). فظللت واقفاً حتى نزل الشيخ إلى الغرفة السفلي ودعاني إلى الصعود. فصعدت دون أن أحييه أو أقبل يده تحت تأثير الرؤيا، وإنما قلت:(إن رأس الحسين في مشهده بمصر، لا شك في ذلك). قال الشيخ: (وما دليلك على ذلك؟ وإذا كان مستندك صحيحاً فأرنيه). فلقت: (ليس هذا في كتاب). فقال الشيخ: (هل رأيت رؤيا)؟ فرويت له الرؤيا وعرفته أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرني أن الواقف بالباب هو علي بن أبي طالب، والواقف على يمين العرش أبو بكر وعلى يساره عمر بن الخطاب؛ وأنهم حضروا لزيارة رأس الإمام الحسين). فوقف الشيخ وأخذ بيدي وقال:(هيا بنا نزور المشهد الحسيني). فلما دخل القبة قال: (السلام عليك يا أبن بنت رسول الله. آمنت أن رأسك الشريف هنا بعد الرؤيا التي رآها هذا الرجل، لأن رؤية الرسول في المنام حقيقية؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي). وحينئذ قال الشيخ: (لقد آمنت أنت وآمنت أنا ولا يمكن أن تكون هذه الأنوار خادعة)

وقد أثار حديث الرسول صلى الله عليه وسلم السابق مناقشات أخرى بت فيها بالطريقة نفسها، أي بالرؤيا. ولا يجرؤ أحد على مجادلة صاحب الرؤيا إذا كان ذائع الصيت في العلم والورع

يفيد ما أشرت إليه في بدء هذا الفصل أن بالقاهرة عدة علماء في وقتنا الحاضر، وأن بغيرها من المدن المصرية بعض العلماء الآخرين. ويعتبر الشيخ حسن العطار وهو شيخ

ص: 34

الأزهر الآن أحد مشاهير العلماء المعاصرين. وهو وإن يبلغ في التوحيد والفقه مبلغ بعض معاصريه كالشيخ القويسني خاصة، ضليع في الأدب. وهو مؤلف كتاب (الإنشاء) الذي يعتبر مجموعه فائقة من الرسائل العربية في مختلف الموضوعات، وضعها نموذجاً للأسلوب الإنشائي. وقد طبع هذا الكتاب في مطبعة بولاق. وقد ذكرت أسم هذا المؤلف تنفيذاً لوعد قطعته على نفسي، إذ طلب أن أنوه بمعرفتي له وأن أبين رأيي في علمه ظنا أنني سأنشر في بلدي أحاديث عن أهل القاهرة

وقد أشتهر بحق الشيخ محمد شهاب بجودة أدبه ورقة شعره. وكان أنسه وذكاؤه يجذبان الأصدقاء إلى منزله كل مساء، وكنت أحياناً أشترك في مسراتهم. فكان الشيخ يستقبلنا في غرفة صغيرة مريحة، فيدخن كل منا شبكه، وتقدم إلينا القهوة. وكان حديث الشيخ أعذب ما يقدم لنا. وفي القاهرة أيضاً علماء يتمتعون بشهرة عظيمة في اللغة والشعر. ويستحق الشيخ عبد الرحمن الجبرتي - وهو من مؤلفي القاهرة المتأخرين - أن يشار إليه بصفة خاصة، إذ أنه وضع تاريخاً جليلاً لحوادث مصر منذ القرن الثاني عشر لهجرة. وقد توفي عام 1825 أو 1826 عقب قدومي القاهرة لأول مرة. وتنتمي أسرة الشيخ الجبرتي إلى الجبرت في جنوب شرق الحبشة على شاطئ المحيط، ويدين أهل جبرت بالإسلام، ولهم رواق في الأزهر، ومثل ذلك في مكة المكرمة، وفي المدينة.

لم يعد الشعر الجاهلي يفهم على حقيقته في القرنين أو الثلاثة الأولى للهجرة لغرابة ألفاظه، فمن باب أولى لا نجد الآن من يستطيع شرح هذه النصوص القديمة. غير أن هناك في مصر من تضلع من علوم الصرف والنحو والبلاغة والأدب بالرغم من سيادة التوحيد والفقه في هذا البلد. وقلما عرف علماء مصر تاريخ بلدهم معرفة جيدة، وأقل من ذلك معرفتهم بتاريخ الأمم الأخرى. أما الذين لا يحترفون الأدب من سواد الشعب فمحصولهم الأدبي منحط النوع. ويجيد الكثير من التجار الأغنياء فن القراءة والكتابة، ولكن قل من يخصص أكثر وقته لدراسة الأدب. ويعتبر من حفظ القرآن جميعه أو أكثره، واستطاع أن يتلو قصيدتين أو ثلاثاً، أو يضمن الحديث بعض الأمثال، رجلاً كامل الثقافة. وهناك تجار في القاهرة أميون فيلجئون إلى أصدقائهم ليكتبوا لهم حساباتهم ورسائلهم. إلا أن هؤلاء التجار لا يهتمون بذلك على العموم، فيقومون بعمليات حسابية ذهنية معقدة بسرعة فائقة

ص: 35

ودقة مدهشة.

ويخطئ المسيحيون في أوربا في اعتقادهم أن المسلمين أعداء العلم على اختلاف أنواعه تقريباً. والحقيقة أن العلم في الوقت الحاضر تحده حدود ضيقة، فقل من يدرس الطب والكيمياء والرياضيات وعلم الفلك. وتجد أغلب الأطباء والجراحين المصريين حلاقين يجهلون العلم الذي يباشرونه جهلاً مضراً وتنقصهم المهارة فيما يمارسونه.

ويرجع بعض ذلك إلى تحريم الدين تشريح الجسد. إلا أن بعض المصريين الشبان يتلقون الآن دراسة أوربية في الطب والتشريح والجراحة وعلوم أخرى لخدمة الحكومة. وكثيراً ما يرفض المرضى من المصريين كل مساعدة طبية متوكلين على العناية الإلهية أو معتمدين على السحر. ويدرس في هذا البلد علم تحويل المعادن أكثر من دراسة علم الكيمياء الصرف، وعلم التنجيم أكثر من علم الفلك. ولا يستعمل في مصر من آلات الفلك غير الإسطرلاب والربع المقنطر تقريباً ويندر أن نشاهد مرصد (تلسكوب) هنا. وقلما تستعمل الإبرة المغناطيسية (البوصلة) إلا لمعرفة القبلة. ويصنع لهذا الغرض في دمياط بوصلة صغيرة ملائمة (تسمى قبلية) تبين اتجاه القبلة في المدن الكبيرة للبلاد المختلفة. وأغلب المدن بها مزاول تبين الوقت ظهراً وعصراً في أماكن متعددة وفصول مختلفة. ويجهل هؤلاء الذين يدعون علم الفلك الأصول العلمية الصحيحة ويعتبرون القول بدوران الأرض حول الشمس إلحاداً مطلقاً؛ ويستخدمون علم النجوم في حساب التقويم السنوي

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 36

‌حيلة جديدة

هَلْ دَرَى عَاشِقُوكِ أَني تَجَنيْ

تُ عَليْكِ الذّنوبَ بَعَدَ الذّنوبِ؟

هلْ دَروْا أنني افتريتُ الأكاذي

بَ وأمعنتُ في اختلاق العيوب

// ليثُوروا على هواكِ ويُمسوا

في رُيوبٍ موصلةٍ بريوب

وتعُودي لِمُنْيَتِي وَلقلْبي

أنا وحدي لا لِلْمُنَى والقلوب

كُنْتِ نجوايَ وابتِسامَ حياتي

في حياةٍ مليئةٍ بالخُطوبِ

تتمنى عرائسُ الشعر لو كُ

ن لِحَاظاً في طَرْفِكِ المَرْهُوب

وعلى راحتيْكِ رقرقتُ أشوا

قي صلاةً لحسنِكِ المحبوب

أتحدَّى بشائرَ الكوْنِ والآ

مالَ طُرّاً بوجْهِكِ المَوْهوب!

حِينَ كنتِ الحياةَ تملأُ عيْني

ثمَّ كنتِ الحياةَ تملأُ كوبي

ثمَّ كنتِ الْحياةَ في غَوْرِ إِحْسَا

سي ونفسي وقلبِيَ المَشْبُوب

كَمْ تَمَنَّيْتُ أن أنالَ نصيبي

وَبِحَسْبِي أن كُنتِ أنتِ نصيبي

كان لي في هواكِ ماضٍ طويلٌ

وأغانٍ رقراقةُ التَّشبيبِ

أتغني بسحرِ عينْيكِ ظمآ

نَ إلى ثغرك الرقيق الشنيب

فخلقْتُ العشاقَ بالشِّعر والْح

بِّ وبالدَّمع والضنى والشّحوب

فترامَوْا على هَوَاكِ ظماءً

كترامي الفَراشِ حول اللهيب

وأحبوكِ أنتِ أنتِ وذاقوا

حُرَقَ الْحُبِّ حُلوةَ التعذيب

وغدوتِ الحبيب في كلِّ قلبٍ

وَسَلَا العاشقونَ كُلَّ حبيب

فَأَصَرَّتْ صبابتي أن تكوني

لِيَ وَحْدي في فرحتي ونحيبي

وبرغمي أرجفتُ فيكِ فقالوا

أَنْتِ كالشَّمْسُ آذَنَتْ بغروب

هل درى عاشِقوكِ أني تجنيْ

تُ عليكِ الذنوب بعد الذنوب

هل دروْا أنني افتريتُ الأكاذي

ب وأمعنتُ في اختلاق العيوب

لتعودي لمنيَتي ولقلبي

أنا وحدي لا للمنى والقلوبِ

(كوم النور)

أحمد أحمد العجمي

ص: 37

‌على عودي الحزين

ليتنا. . .

لَيْتَنَا نَحْيَا سَعِيدَيْنِ هُنَا!

فِي ظِلَالِ الدوْحِ نَشْدُو لَحْنَنَا!

وَإِذَا مَا هَتَفَ الْمَوْتُ بِنَا!

نَطْرَحُ الزهْرَ عَلَيْنَا كَفَنَا!

صَبَوَاتِي أَنْتَ فِي الدُنْيَا وَأَحْلَامِي وَفَني

وَسَعَادَاتِي وَصَفْوِي وَتَسَابِيحِي وَلَحْنِي

أَنْتَ فِي قَلْبِيَ يَنْبُوعٌ مِنَ الْخُلْدِ يُغَني

فَجَّرَ اللهُ عَلَى وَجْهِكَ مَا يَمْسَحُ حُزْنِي

فَتَغَنَّيْتُ مَعَ الأَطْياَرِ مَا يُسْعِدُ كَوْنِي

لَيْتَنَا نَحْيَا سَعِيدَيْنِ تُغَنِّي. . . وَأُغَنِّي

أَنْتَ يَا رُوحِي نِدَاءٌ في فَمِي!

وَشُعَاعٌ ضَاحِكٌ في حُلُمِي!

أَنْتَ صَفْوٌ يَتَهَادَى في دَمِي!

كُلَّمَا ضَجَّ بِقَلْبِي أَلَمِي!

هَاتِ مِنْ سِحْرِكَ هَاتِ وَاسْقِني كَأْسَ حَيَاتي

أَنْتَ نَبْعِي وَظِلَالِي وَدُعَائِي وَصَلَاتي

نَسَجَ الْوَهْمَ عَلَى أُفْقِي طُيُوفَ الظُّلُمَاتِ!

وَبِكَفَّيْكَ إذا شِئْتَ صَفَائِي وَنَجَاتي

أَنَا في الدُّنْيَا غَرِيبٌ تَائِهٌ في رَحَبَاتي

فَاسْكُبِ الأَفْرَاحَ في قَلْبِي وَأَسْكِرْ نَغَمَاتي

عبد العليم عيسى

ص: 39

‌البريد الأدبي

في الأدب التركي

من أنباء اسطنبول أن الدكتور (طازر) سكرتير حزب الشعب اقترح تأليف هيئة تحكيم تختار من الكتاب والأساتذة الأتراك برياسة السيد خالد ضياء أو شكيلجيل لاختيار أحسن رواية تركية نشرت خلال العشرين سنة الماضية، فوقع اختيارهم على رواية (سنيكلي البقال) للسيدة خالدة أديب، وفازت بالجائزة الثانية رواية (يابان) للكاتب (كياسمانجلو) وفازت بالجائزة الثالثة رواية (فهيم بك) للكاتب السيد حيدر.

وتعد السيدة خالدة أديب من أنبغ من جمعوا الثقافتين السكسونية والتركية، وقد ولدت في اسطنبول من أسرة تركية عريقة في النسب، وقضت طفولتها في الأناضول، ثم تلقت دراستها في الكلية الأمريكية للبنات المقامة على ضفاف البسفور

وقامت بعد ذلك بدور هام في الحرب الوطنية التي حدثت في 1918 - 1922 وعملت في الجيش برتبة نفر في فرقة النساء المتطوعات، وقد رقاها الغازي أتاتورك نفسه إلى رتبة جاويش في ميدان القتال لما أبدته من ضروب الشجاعة وإقدام.

وفي سنة 1930 رحلت إلى أمريكا حيث ترجمت عدداً من كتبها ورواياتها إلى الإنكليزية، فصادفت رواجاً واستحساناً عظيمين. ثم ألقت سلسلة محاضرات في جامعة كولومبيا بنيويورك عن (الآراء الحديثة السائدة في الشرق الأدنى).

ورجعت إلى تركيا، ثم عينت قبل أربع سنوات أستاذة للأدب الإنكليزي في جامعة اسطنبول، ولا تزال تقوم بالتدريس في الجامعة. وهي تعد من أشهر وأحب النساء في تركيا، وهي خير مثل لمزج الثقافتين السكسونية والتركية. فهي جريئة لا تتردد في قبول التبعات وتحملها مهما بلغت. فإذا رأيتها رأيت سيدة وقورة هادئة غير هيابة. وهي خير مثال للأم الحنون وربة الدار الكاملة؛ ولم يمنعها ذلك كله من أن تحمل السلاح وتخوض المعارك حينما أهاب بها الداعي إلى الدفاع عن بلادها، والنضال عن حريتها واستقلالها. وهي وإن كانت كاملة الأنوثة والرقة لم يمنعها ذلك كله من أن تكون مقدامة لا تهاب، وفيها ما فيها من سحر الشرقيات وجاذبيتهن

إلى الدكتور زكي مبارك

ص: 40

قرأت مقالتك الحافلة (تحت السدرة)، وأهنئك بتصوير أحاديث الضمير، هذا التصوير الرائع الطريف؛ ولكني أستميحك في أن أقول لك: لقد ظلمت في هذا التصوير أبانا (آدم)، فصورته خاضعاً مستكيناً لعبقرية الجمال

وأنا أزعم بأن ما حدث من (آدم) من التعرض لمكاره الأكل من (الشجرة)، لم يكن الموحي به جسد (حواء) وحده؛ ولكنني أتهم معه ما ركب في رجولة (آدم) من حب المخاطرة والاستطلاع، والتلذذ باقتحام المكاره والمصاعب!

ولا أكاد أسيغ أن (آدم) قد تلقى أمر الله باجتناب (الشجرة) فلم تحدثه نفسه، ولم يتحدث هو إلى نفسه في هذا الأمر، حتى أتت (حواء) فطوته بدلالها وفتنة جمالها دفعة واحدة، وذهبت به إلى حيث أرادت. وأعتقد أنه لو رزقها الله الصبر ولم تتحدث إلى (آدم) لتحدث هو إليها، ولفعل ما كانت تريد. وليس معنى هذا أن أعفي الأثر الذي أحدثته (حواء)، ولكنني لا أنسب لجمالها كل شيء!

صحيح أن الناحية الأدبية تفقد كثيراً من حرارتها على هذا الوضع، ولكن هذا خير لنا من أن نعطي (حواء) الجديدة الفاتنة مادة جديدة تتطاول بها على (آدم) الحديث

فما رأيك يا دكتور في أن نلقي على كاهل كل منهما تبعته في الخروج من الجنة لتصطرع الأهواء على هذه الأرض ولتحقق الله حكمة تحار في فهمها العقول والأفهام؟

أحمد رضوان حامد

آثار من أولية الشعر

للباحث العالم الأستاذ عبد المتعال الصعيدي آراء في الأدب سديدة، ونظرات في النقد والتحليل عميقة، وقد كتب في عدد (الرسالة) رقم 454 مقالاً بالعنوان الذي يظل كلمتي هذه رأي فيه أن قصيدة عبيد بن الأبرص التي مطلعها:

أقفر من أهله ملحوب

فالقُطَّبيَّات فالذنوب

تمثل أقدمية الشعر خير تمثيل؛ إذ لا يستقيم لها وزن، ولا تضمها قافية، ومع تقديري لآراء الأستاذ أخالفه في ذلك الحكم لما يأتي:

1 -

عاصر عبيد امرأ القيس المعقود له لواء زعامة الشعر، فاضطراب قصيدة شاعر في

ص: 41

عصر بلغ الشعر فيه آية الجودة لا يتخذ دليلاً على سنة التطور والارتقاء، وإلا لصح لنا أن نتخذ من محاولات المبتدئين في عصرنا هذا دليلاً كذلك على كيفية نشأة الشعر الأولى، وأحسب الأستاذ يرفضه رفضاً جازماً

2 -

سبق عبيدا شعراء كثر خلا شعرهم من ك اضطراب في الوزن والقافية من أمثال دويد بن زيد القضاعي والأفوه الأودي من أصحاب المقطعات، والمهلهل بن ربيعة والحرث بن عباد من أصحاب المطولات

3 -

لم يكن عبيد شاعر الطبيعة، فشارحو المعلقات يروون عنه (أن أحد بني ثعلبة هجاه مقذعاً فابتهل عبيد إلى الله بقوله:(اللهم إن كان هذا ظلمني ورماني بالبهتان فأدلني منه)، ثم نام ولم يكن قبل ذلك يقول شعراً فأتاه آت في المنام بكبة من شعر حتى ألقاها في فيه فقام ترتجف هاجيا بني ثعلبة) الشك في القصة لا يرقى إلى أنه لم يكن شاعراً سليقياً، وهذا الجاحظ يستضئل آثاره فيقول:(إن عبيدا وطرفة دون ما قال عنهما إن كان شعرهما ما في يد الناس فقط)

4 -

اتخاذ عبيد وعلقمة دليلاً على تطور الشعر يقرب نشأة الشعر عند العرب ويظهرهم أمة جامدة العواطف متحجرة المشاعر آماداً طويلة وهو ما لم يزعمه غير العربي، فضلاً عن العربي المنافح عنها

5 -

لأن نتخذ عدم قيام دليل أدبي لتطور الشعر حجة على أقدميته وبعد نشأته أشرف للغة العربية وديوانها من تلمس أدلة لا تقوم على دعائم قويمة؛ لأنه ليس هناك من يشك في أن الشعر ككل أثر أدبي أو علمي مرت عليه أحقاب وآماد حبا فيها وخطا ينهض حيناً ويكبوا حيناً حتى نما واستحصد وصار فناً له قواعد وقوانين، وابن خذام الذي ورد في قول امريء القيس:

عوجاً على الطلل المحيل لعلنا

نبكي الديار كما بكى ابن خذام

شخصية مجهولة للقدامى لإيغالها في البعد

6 -

لا يغض من قيمة الأدب الجاهلي أنه لم يقيد؛ لأن الأمة كانت تحيا حياة فطرية فهي تعتمد في أدبها على حوافظها وصدورها لا على كتبها ومدوناتها، والشاكون في الشعر الجاهلي لا يشكون فيه جملة وإنما يساورهم الشك في بعضه، ولعل قصيدة عبيد هذه من

ص: 42

دعائم شكهم؛ لأنهم يرون ما فيها من اختلال واختلاط عبثاً من الرواة، وسخرية بالقدامى

تلك نظرة عابرة أرجو أن يعيرها الأستاذ لفتةً فاحصة؛ ليتبين ما فيها من سداد أرجوه. وله من الأدب وأبنائه التقدير والإكبار

عبد العظيم علي قناوي

ما قول الأستاذ لطفي جمعة؟

قرأت في جريدة (منبر الشرق) الزهراء في عدد 6 مارس عام 1942 مقالة بعنوان: (علي العزبي يمر بمواكب الحياة) للأستاذ محمد لطفي جمعة المحامي فوجدتها مأخوذة بالنص في كثير من مواضعها من كتاب (معالم تاريخ العصور الوسطى) المقرر على السنة الثانية الثانوية هذا العام لمؤلفيه محمد رفعت بك والأستاذ محمد أحمد حسونة، فقول الأستاذ لطفي مثلاً:

(فكانت روما عاصمة الإمبراطورية ترسل إلى كل جهة من يغرس فيها حضارتها بمجرد استعداد البلاد المفتوحة لقبولها، فمتى ثم فتح إقليم بدأ صبغه بالصبغة الرومانية، وإذا أخلد أهله للسكينة منحوا حقوقاً مدنية تشابه حقوق أهل روما أنفسهم، حتى أنه على الرغم من الفروق التي كانت تفصل كل ولاية عن الأخرى شاعت بين الجميع مبادئ التهذيب الروماني الخ) مأخوذ بالنص من الفصل الأول صفحة (1) من هذا الكتاب، وقوله أيضاً:

(وكان أبناء الأشراف ينضمون من سن السابعة إلى فارس مشهور ينشئون معه ويقومون بخدمته ويتعلمون منه ضروب القتال وآداب المائدة والحديث والاستقبال ويصحبونه في الصيد والحرب وكان السواد الأعظم من القائمين بفلح الأرض وغيره من الأعمال من طبقة الأقنان أو رقيق الأرض وكانوا مرتبطين بالأرض ملزمين بالعمل في أرض السيد الخاصة نحو نصف الأسبوع الخ) مأخوذ بالنص من الفصل الرابع صفحة (128) من نفس الكتاب، كما أن قوله أيضاً:

(وكان العرب يعتمدون على الخيل في حربهم فلما قابلهم شارل مارتل في موقعة (تور) عام 722 أعجب بما للخيل من الصفات الحربية فكون فرقاً من الفرسان على النسق العربي ومن ثم انتشر النظام في أوربا كلها الخ) مأخوذ بالنص أيضاً من الفصل الرابع صفحة

ص: 43

(127)

من نفس الكتاب. فإذا كان مراد الأستاذ الاستشهاد بما نقله من الكتاب فلماذا جاء به في سياق كلامه دون أن يضعه بين قوسين علامة التضمين؟ ولماذا لم يذكر المصدر؟ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ما دخل المرحوم علي العربي شاعر دمياط في تاريخ العصور الوسطى وأحوالها الاجتماعية وهو رجل عاش ومات في القرن العشرين؟ وما دخل عهد الإقطاع وأحواله في (دراسة تحليلية) الشاعر؟ وما فائدة إقحام العصور الذهبية للأمم في مجال ذكرى أديب

كمال الدين نشأت

ص: 44

‌القصص

النغم الضائع!

بقلم

(قصة من أدب الحياة الواقعي، طغت فيها التقاليد على قلب

فنان عبقري)

للأديب حسين محمود البشبيشي

في يوم من أيام عام 1717م أضاءته شمس الجنوب اللامعة الباسمة، ترنحت عربة رثة متربة خلال مدخل كابيونيا أحد مداخل نابلي، وقد جلس في داخلها غلام في عامه الثامن، تحمل الرحلة المرهقة القاسية وحيداً من قرية جيزي إلى نابلي. وما كان معه من سند غير بعض كتب التوصية لنفر من البيوتات النابولية الرفيعة.

كان هذا الغلام هو (جيامباتيسنا بورجوليزي)

ولما نزل من العربة تعباً غريباً تائهاً في حياة العاصمة الدوارة الصاخبة، وضعه جنود الحراسة في عربة عامة، وأرسلوا به إلى أحد العناوين التي على كتبه.

تصور طفلاً صغيراً ضعيفاً كصاحبنا خرج لأول مرة من مجتمعه الصغير الحقير في قرية جيزي بالقرب من أنكونا حيث توافقت الأزقة المهجورة وملالة الوجود، وتمازجت حقارة الفكرة وشفافية الحياة، إلى نابلي هذه المدينة الرحبة الصاخبة الماجنة العابثة الغارقة في النور وشهوته، الضاربة في كل فن وكل غريب. . .

تصوره وقد تعلق الأطفال حول العربة كل يريد الركوب، والحوانيت تبين وتغيب، والمطاعم تقدم صحاف المكرونة المعهودة ليلاً ونهاراً في ضجة ومرح، وهناءة وفرح، والجمهور التائه كسرب من الحمام، الصاخب كقطيع من الأغنام، يزيد في صخبه، ويمعن في دورانه، والأسواق متنوعة: أسواق للسمك وأسواق للفاكهة وأسواق للخضر تموج في ضجتها وشدتها، وتضطرب في تقلبها وحركتها، كل ذلك بين أصوات الباعة ترتفع جشاء جوفاء لا انسجام فيها ولا اتزان. . .

مسكين (جيامباتيسنا)! هل كان في حيرته يدور في خلده، إذ ذاك، أن عبقريته ستتوجه يوماً

ص: 45

ما في هذه المدينة الدوارة المضطربة بوسائل الفرح، المتقلبة في مظاهر الانطلاق الروحي والحسي!!

لقد ولد في أسرة هي أغنى في عقليتها وتعليمها منها في ماليتها وتقاليدها، وأعظم في ميولها وأحاسيسها منها في أصلها وأعراقها.

ورأت فيه عائلته عن حق ميلاً إلى النبوغ الموسيقي، يتألق أنغاماً روحية تشعها روحه الباسمة وحركاته الراتبة ولفتاته الأنيقة. فأرسلته إلى (نابلي) ليأخذ هناك من نبعها الدافق، ويتعيش فيها بعد منها. ودخل بالتوصية والالتفات والرعاية (المعهد الموسيقي العظيم) حيث تعلم العزف على القيثارة تحت إرشاد الفنان القديم (ديماتيس)، فكان له من طبعه الفني القادر، وروح أستاذه الساحر، أكبر باعث ألهب فيه حيوية الفن واقتباسه. فصقل روحه بكل جديد من الصور، وخلع على قلبه كل فاتن من الأحاسيس، وإن ما كان يتوقعه هذا الفنان (ديماتيس) لتلميذه المتألق المتوثب من مجدٍ دفعه إلى أن أثر على الشاعر العظيم (جريكو) الذي أهتم بهذه العبقرية المتألقة المتطلقة التي لم تزل بعد في أكمامها.

ووجد (برجوليزي) ككل فنان حديث يشعر في قرارة نفسه بحيوية تريد أن تفيض، وأقباس تتطلع للظهور، وألوان تتواثب لتتنسم الحياة؛ وجد فناننا (برجوليزي) من القيود الموسيقية الرثة أغلالاً تجعل أجنحة فنه تحلق في سماء محدودة وأجواء مقيدة، وآفاق لا تشبع الرغبة الجامحة والنزعة الطافرة. وضاق صبره بتلك القيود ولكنه أكره نفسه عليها! حتى غادر مع أستاذه المعهد العظيم في عام 1726 ليجني حراً طليقاً ما يريده من أزاهير، فتفتحت أمامه مبكرة، وتحققت أمانيه؛ فلحن على حداثته قطعاً من الأوبرا ونشيداً رائعاً فاتناً ساحراً هو (سان جيجليلمو) مما كان له مكانه سامية وشهرة عظيمة حتى في هذا الوسط الفني

ورحبت به العائلات الرفيعة التي كان عطفها ورعايتها قبلة فناني القرن الثامن عشر

ولا عجب أن رحبت به والتفتت إليه، وهامت بألحانه الساحرة، وما تريد سوى أن يلتف حولها الفنانون. أما هو فقد جملت أثوابه الجديدة الأنيقة من ملامحه الدقيقة الوسيمة، وقد عكس وجهه المضيء الغني وروحه الشاعرة الفتية العامرة بالحساسية!

ووجد ثمرة الإلهام أمامه ناضجة

فقد كان ملك نابلي المتحمس لتشجيع فناني عصره ملاذاً للعلماء والمهندسين والرسامين

ص: 46

والموسيقيين، وأصبحت نابلي إذ ذاك ف أوج مجدها الفني، إذ كانت مركزاً منفرداً للمدنية، انبثق منها إلهام حي سام متألق لجامياتيسنا

لقد كانت الدينة الغنية بفنانيها حقاً. لقد انطفأت شعلة حياة (كوريللي) و (وللي) ولكن الجمرة التي تركاها تأججت من جديد عندما نفخ فيها سحر (سكارلاتي) ولما قضى هذا الفنان أيضاً لم يكن إلا لفنان قادر سامي العبقرية، متوقد الروح، بعيد مدى الآمال، أن حفظ عظمتها وينهض بها

فكان برجوليزي فتاناً ولم يزل بعد في العشرين وارثاً ملهماً فذاً لهذا الإرث السامي من الفن العظيم. ما أسعده وما أتم نعمة الفن عليه! لقد بلغ المجد الذي تطلع إليه. لقد سطع عليه القبس الروحي الذي طالما عناه. لقد أصبح الفنان القادر الساحر

ثم خفق فؤاده يوماً ما شديداً عنيفاً عند ما دعي إلى بيت (سبينللي) النبيل الكبير

ثم خفق فؤاده مرة أخرى، ولكنه كان في هذه المرة أشد خفقاناً، حينما انتهت مراسيم التقديم، ووجد نفسه منحنياً أمام غيداء فاتنة. لقد تنازلت ابنة أكبر البيوتات النابولية أرستقراطية عن كبرياء عائلتها، رائعة دقيقة ساحرة، تلك هي ماريا سبينللي التي نظرت إلى الشاب الفنان بورجليزي، وألهبت شرارة حبها نار الوجد في حناياه!. . . وسواء أكان ذاك لفتنة فيه أم لسحر في موسيقاه فقد باحت بسر الجوى أعين لطاف فجاوبتها عيون! وصفق قلب فأسرع إليه قلب. . . وهكذا فاض روح الحب من النفس الجميلة والنفس الفنانة

ولكن وا أسفاه! لم يكن للقصيدة الأبدية من تمام. لقد كانا في ميعة الشباب وفتنته، يتدفق فيهما الشعور روح الجمال، وتفيض أعينهما إحساساً به، كما كان هناك على آخر ما يصل إليه البصر من نافذة القصر حيث يتصاعد عبير البرتقال قبور، ترفع نصبها في جنون تحت شمس الظهر المرهقة الحارة. أجل لقد كانا في ميعة الشباب، ولكن كان هنالك قبور بالقرب من عش غرامهما!

فلا عجب أن دار قدرهما قوياً قاهراً فعصف بهما عصفاً

تناثرت هنا وهناك الأحاديث! وعرى أرستقراطيو القوم وجوم ودهش. يا عجبا! ابن الشعب ذلك الحقير، يتطلع إلى أن يختلط دمه الأحمر الشديد الحمرة بدم أسرة سبينللي

ص: 47

الأزرق الشديد الزرقة! لتكن عبقريته ما هي، ليكن قدره ما يكون، ليكن مستقبله ما سيكون، ليكن كل شيء

لقد كانوا حمقى! وما كانوا غير ذاك. فإن من اتحاد الأحمر والأزرق يتكون ذلك اللون البنفسجي الرائع الذي يعلوهما!

تلك هي السماء

ولقد كانت الفكرة، بل التفكير فيها أمراً حراماً. . . ابن الشعب يتطلع إلى بنت البيوتات الرفيعة!

ثار أهلها كل الثورة، وحقدوا على الفنان كل الحقد، وبرموا به كل التبرم. وأما أشياعهم من ذوي التقاليد والأشراف ولهم فتيات قد يتطلع إلى إحداهن يوماً ما فنان من أبناء الشعب فقد شاركوهم الأمر، وتنكروا لفناننا برجوليزي

وهكذا تعبث الشهوات الزائلة بجلال الفن، وتعبث الأغراض الدنيئة بجلال الحب، وتفسد التقاليد العتيقة انسجام روحين؛ فما أحقر الإنسان إذا انطلقت فيه نوازع النفس الترابية وغطت على بصره، فظن أن الحياة مظاهر وتقاليد؛ وما كانت لتكون كذلك والزهر يعانقه الشوك ويقاسمه أغصان دوحته! أوصدت الأبواب المسرحية، وحبست الوجوه الباسمة، وولت الأقدام المقبلة، وأغلقت. . . وأغلقت تلك الخميلة التي طالما عزف فيها لماريا، وألهمته فيها ماريا

وحجبت عن نظراته الوالهة ابنة أسرة سبينللي

ولم يك يصل إليها إلا على جناحي أنشودة خالدة، وفي ثنايا نسمة عابرة، وبين ألفاف أمنية مستعرة. وثقلت به الحياة وثقل بها فانغمس في ألحانه الباكية، وترانيمه الحزينة، عساها أن تكون له عن دنياه سلوى، كما هي عن جواه

وتدفقت أمامه الشهرة الفارغة الجوفاء. وسجدت نابولي لعبقريته حين قدم لها في عام 1730 قطعته الخالدة بعد نجاتها بأعجوبة من زلزال مروع. ولقد كانت قطعته هذه فريدة حقاً في نغماتها، وحيدة حقاً في ألحانها، فذة حقاً في معانيها، منقطعة حقاً في روعتها. ولقد أدرت عليه كل ما ابتغاه في فجر أيامه، وتمناه في متنفس عمره. أدرت عليه كل شيء ليضعه تحت قدمي ماريا، ماريا الفاتنة، ماريا ملهمته الفن الساحر القادر. ولكنما قدماها

ص: 48

كانتا مغلولتين بغل من حديد التقاليد

لقد كان محرماً عليها هناك في سجنها الذهبي حتى النطق باسم برجوليزي. فماتت بسمتها المرحة على شفتيها، وانطفأت شعلة في عينيها كانت متألقة باسمة. وجاءها أخوتها الثلاثة يوماً، وقد أخذ الغضب منهم كل مأخذ، وتطاير شرر التقاليد من أعينهم، وأجهر بوق الأرستقراطية أصواتهم، فتدافعوا إلى خدرها، وهددوها وسيوفهم مشروعة بأنها إن لم تتخذ لها بعلاً كفئا لها استقر السيف في قلب هذا الموسيقي الحقير! فدافعتهم بدورها ولوحت لهم بالقانون منتقماً لحبيبها. فضحكوا؛ فهم حماة الشرف السبينللي؛ ولم تك ليد أن تمتد إليهم إذ ذاك لا أن تمسهم. لقد كان لهم أن يضحكوا؛ فلم يك قولهم إلا حقاً، فما نابلي إذ ذاك إلا مدينة الأشراف؛ ولقد كانوا هم سادة الأشراف!!

ومرت أيام ومضت ليال وجاء أخوتها برجل من أسرة كرافا أثقلته حليه، وجللته عظمته، فأخفت رأسه الفارغ، وكست روحه العارية

لقد كان غنياً أرستقراطياً لا شبهة في ذلك، جاء به أخوتها لترضى به زوجاً؛ ولكن لم تكن ماريا لتفتنها الثروة أو تأخذها الأبهة، وما كانت لتريد رجلاً أياً كان. . . لقد كانت تريد شيئاً غير هذا! شيئاً أجمل من هذا. فخرج الكرافي بوجهه المصقول، وجواهره اللامعة، وتقاليده الرائعة، وانحنى له أخوتها مودعين وقد وضع يده في جيبه بتحسس خاتمه الذي لم يقدر له بعد أن يوضع في مكانه

وأمضت ماريا برفضها الكرافي أمراً القضاء على برجوليزي. ولم تك هناك إلا طريقة واحدة لنقضه. لم يك هناك إلا أن تهب نفسها لله!

فوافق أخوتها. ولأمر ما قرروا أن يرأس برجوليزي العازفين في حفل ترهيها! يا عجباً! برجوليزي يقدم قلبه لله!

وفي الحادي عشر من مارس عام 1734 في كنيسة سانتاشيرا رأس برجوليزي العازفين وبدأ الحفل فلوح بعصاه يفتتح قبر قلبه فكان لنقراته على حامل الموسيقى صدى، كأنما هو يؤذن برفع الستار عن إحدى المآسي

ورفع الستار عن مأساة مروعة: عذراء تترهب مقدمة شبابها، جمالها، حياتها، قلبها، إلى نسيج حسن لا يرققه ولا يلطفه إلا الإيمان بالله

ص: 49

مأساة أعمق من أن تصل إليها الألفاظ والجمل. لقد كان الرهبان يصيحون: (مرحباً بعروس البيعة)، ورنت أصواتهم في كل أذن سمعتهم. أما أذن العروس، وأما أذن رئيس العازفين فقد سمعتا مأربا كل نغمة تصيح: وداعاً. وداعاً رمى بها الأفق، وداعاً ابتهل بها الرهبان. وداعاً نطق بها دخان البخور وقد صعد يتلوى في زرقته إلى الله. إنه لم يترنم في صعوده برسالة حبيب إلى السماء، بل لقد كان يصيح وداعاً ويتلوى لرسالته من الألم! وتخافتت الأصوات، وسكنت الأقدام ووقف برجوليز وحيداً مرفوع الرأس مديراً بعصاه أنغام العازفين وحركاتهم

لقد كان جديراً حقاً ذلك الحفل بأن يضع على رأسه أكاليل الغار، ولكنه كان مأخوذاً مرعوباً لم يدر شيئاً، ووقف يحترق في لهبه، لقد كان فريسة لأساه، هشيما لنار جواه. وبكاها برجوليزي إلى العالم ولم تزل حية، لم يبك (الأخت فكتوريا) كما نادوها في الدير، بل بكى الحبيبة ماريا. لقد بكاها وهي في كهفها الضيق ولا من يسمع أناتها. إنك لتقرأ مأساتها كما قرأها من قبلك، وكما سيطالعها إلى الأبد الكثيرون في دمعته المحرقة في دمعته الصارخة ولا عجب أن كانت معجزة فلم يك أبداً فؤاد إنسان ذاك الذي لحنها، ولكنه فؤاد من ذهب روحي خالص نقي صهرته الآلام الملتهبة

لم يتمكن الزمن أن يحدث معجزة النسيان، ولكن لم يك غير الموت شافياً (لماريا). فلم تمض سنة حتى تركت الأخت (فكتوريا) وراءها على الأرض صدفة مرمرية ورسالة إلى من وهبته قلبها. وحمل الرسالة أخوتها إلى (برجوليزي) في روما؛ فقد رحل من قبل عن (نابلي) مثوى أحلامه. أما الرسالة فكانت:(دعوا برجوليزي يدير المحفل الأخير لروحي حتى يتاح لها أن تصعد إلى عالم الخلد على أجنحة المجد)

فترك برجوليزي ما لم يتم من تأليفه؛ وقد كاد أن يتم أوبراه الخالدة (الأوليمبياد) ورحل سريعاً إلى (نابلي) ليجد هناك طعنة جديدة تنتظره؛ فقد كانت القطعة التي سيدير عزفها ليست له ولكنها من تلحين (ليد) الموسيقي القديم. ويحهم! ويحهم! لم يريدوا حتى أن يكون له شرف تأليف لحن جنازتها. لم يريدوا إلا حرمانه حتى ذلك التأسي الفاني، ولكنه فنان عاشق، ولكنه محب واله، ولكنه. . . لحن في سرعة جنونية يائسة قطعة كل نغم فيها فلذة من حنايا قلبه المضني، من ثنايا أساه البليغ

ص: 50

لم ير شيئاً سوى وجوهٍ كالحة ساخرة مجرمة. وتخافتت الأصداء، وسكنت الأقدام، ولكن أقدام ماريا لم تخفق معها هذه المرة، ولم تندمج في الصف الذي اندمجت فيه من قبل في حفل ترهبها. وهاهي ذي فوق أكتاف الراهبات يحملن منها صدفتها المرمرية الهشة. وهاهي ذي وخزات الآس الدامية ينقلها (برجوليزي) إلى لغة اللحن في أنات طويلة علوية

ولما أوصد الباب للمرة الأخيرة، وانتهت المراسيم الحزينة، تقدم برجوليزي وهبط عن منصته ثم جمع أوراقه التي سطر فيها أساه واحدة فواحدة، وعدها ببطء ودقة. ولما تأكد من أنه لم يترك منها شيئاً. تقدم إلى المذبح. ويحه ماذا يريد؟ وعلى أحد الشموع الكبيرة التي قدمت حياتها قرباناً لتضيء ساحة بيت الله، ألهبت ناراً في عصارة قلبه، في هديته الأخيرة لماريا ملهمته، ولما اسودت الأوراق، وتلوت ثم ترامت في ألم على الأرض، صاح في أسى وحرقة:

لقد لحنتها لماريا! لماريا وحدها. إنها لحني الأخير لموكبها. إنها سلامي الأخير لها، ووداعي الأخير لروحها. ولن تكون إلا لها. دائماً أبداً لن تكون

ولم يعلم أحد هل كانت هذه البقايا المحترقة هي معجزة برجوليزي التي جمعها الراعي في الصباح

لم يعلم أحد هل كانت هذه البغايا المرتعشة في مهب الريح هي (النغم الضائع) أو الوتر المنزوع من قيثارة (جيامباتسنا)

ولم تنتظر ماريا طويلاً. فلم تمض سنة حتى كان جيامباتسنا برجوليزي في قرية بوزيولي، قريباً من نابلي، وقد امتنع عن العزف، وامتنع عن الشكوى والنواح

وارتفع إلى السماء ليعزف لها هناك على قيثارة الروح الأناشيد التي وضعها لها على الأرض

حسين محمود البشبيشي

ص: 51