الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 456
- بتاريخ: 30 - 03 - 1942
من خواطر الحرب
لابد للإسلام من مؤتمر
جلست ذات أمسية إلى المذياع أتنقل فيه بسمعي المرهف بين برلين وباري ولندن وموسكو وطوكيو وباريس وأنقرة، وكلها تذيع باللغة العربية، وتوجه الكلام إلى الأمة العربية. فقلت في نفسي: سبحان الله! ما هذه العناية اليقظة بنا، والاهتمام البالغ بلغتنا وأدبنا، كأننا لا نزال نملك زمام الدنيا ونصرف عنان القدر! ثم أعلن المذيعون أنباء الحرب في ميادينها المختلفة، فإذا هم يذكرون: أفريقية الشمالية، ومصر، وفلسطين، وسورية، والعراق، وإيران، والهند، والصين، والملايو، وسنغافورة، وجزر الهند الشرقية؛ وكلها مواطن الأمم الإسلامية، ومسارح الثقافة العربية؛ وليس من أهلها المغير ولا المدافع؛ وإنما هم كثروة الأرض وعروض التجارة خسارة للمغلوب وربح للغالب. فعدت أقول لنفسي: ما أشبهَ تلك الإذاعات اللينة العطوف بالرُّقَى الساحرة، يسلطها المفترس على أعصاب الفريسة لِتخدَر وتنام، فلا تنشب في حلقه ولا تضطرب في جوفه! وما أعجب ألا تشب الحرب الاستعمارية، وتتصارع الدول القوية، إلا حيث يملك العرب ويعيش المسلمون، كأنما أصبحوا سلباً لكل غازٍ ونهباً لكل غاصب!
ألم يكن هؤلاء الناس أعقاب أولئك الفاتحين الذين نزل على حكمهم الدهر ودخل في ملكهم العالم بضعة قرون؟
أليس هذا الإسلام الذين يؤمنون به اليوم هو إسلام ذلك الخليفة العباسي الذي نظر ذات يوم إلى السحائب الجُون تزجيها الرياح الرُّعن إلى أقاصي الأرض، فقال في لهجة تنم على العزة والجلالة والشكر:(أمطري يا سحائب حيث شئت فإن خراجك لي)!
بلى، هؤلاء أعقاب أولئك، ولكن الدين الذي يعتقدونه لم يعد دين ذلك الخليفة؛ إنما هو بقية من الإسلام الأول حالت ثم آلت إلى صوفية بلهاء لا يفيق الممسوسُ بها من الغفلة، ولا ينشط من الخمود، ولا يبالي أن يبلغ ساحل الحياة مركوباً على ظهره أو مسحوباً على وجهه! والدين والعلم مآلهما في النفوس الضعيفة والعقول الخفيفة إلى الترهات والأباطيل: فأيلولة الكيمياء إلى البحث عن حجر الفلاسفة، وعلم الفلك إلى التنجيم والسحر، كأيلولة الإسلام إلى هذه العقيدة الملفقة التي زيف فيها الإيمان بالقدر حتى أهمل الناس التوقي
استسلاماً للقضاء، وتركوا السعي اعتماداً على (القسمة). و (إن الله لا يغيّرُ ما بقومٍ حتى يغّيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال)
ولئن سألتني بعد ذلك: هل بلَّغ العلماء رسالة الله لأقولن لك: (لا) مغلَّظة مكبرة مكررة! وأكبر الظن أنهم لا يؤمنون بأن لهم رسالة وأن عليهم تبعة
رجال السياسة يعملون بحق أو بباطل، ورجال الحكم يتصرفون بعدل أو بظلم؛ أما رجال الدين في ممالك الوطن الإسلامي كله فقد قنعوا باللقب والزي، واكتفوا بالشبع والري، ورضوا أن يكونوا متوناً لذوي الطمع، وحواشي لأولى النعمة، وهوامش على صفحة الحياة!
على أن سلطان الدين أكمل وأشمل من سلطان السياسة وسلطان الحكم؛ فإن هذين لا يتجاوزان بقعة من الأرض ولا أمة من الناس؛ ولكن ذاك ينبسط على كل مكان فيه لله ذِكر، ويهيمن على كل إنسان له في الإسلام فِكر. وعلماءُ الدين هم الطوائف التي نفرت من كل فرقة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم؛ فإذا تفقهوا ولم ينذروا، أنكروا ما خُلقوا له، وعصوا ما أُمروا به. وليس الإنذار أن يلهجوا بذكر الحساب والعذاب، وإنما الإنذار أن ينبهوا المخطئ، ويوجهوا الحائر، ويرشدوا الغوي، وينصبوا في مجاهل الأرض أعلام الطريق
لو كان علماء الإسلام يعملون لكان لهم مثل ما للمبشرين والمستعمرين والمستشرقين من المؤتمرات التي تعقد العام بعد العام، في الدولة بعد الدولة. والله قد فرض على المسلمين أمثال هذه المؤتمرات العامة بالحج. وإذا كان وفود العلماء من الأقطار المختلفة إلى إحدى المدن تعوّقه الأهواء والظنون، فإن وفودهم إلى مكة لا يعوّقه غير الشيطان، ورجال الدين والحمد لله في عصمة منه
لا بد للإسلام من مؤتمر يجمع زعماء الرأي في أهله ليجددوا ما دَرس منه، ويوضحوا ما التبس فيه، وينفوا عنه ما غشيه من أساطير القرون وأضاليل النّحل، ويجلوه للناس كما كان صالحاً للحياة، كافلاً للفوز، ضامناً للسعادة
لا نطمع أن يجتمع هذا المؤتمر اليوم، فإن الزلزلة التي لا تنفك آخذة بأقطار الأرض وأفكار الناس تجعل العقاب والسدود من دونه، ولكنا نطمع أن يفكر أولو الأمر فيه ويهيئوا
الأسباب له؛ حتى إذا عادت السّلم وتحلق زعماء الأمم حول الموائد الخضر لإقرار السلام الدائم واختيار النظام الملائم، اجتمع كذلك علماء الإسلام ليعرضوا على العقول الحائرة والأجسام الخائرة نظام الله خالصاً كما أوحاه، صافياً كما أنزله. نعم لا بد للإسلام من مؤتمر يقيم بين الَبهرج والصحيح حداً من نور الحق يجتمع عليه القطيع الشارد، ويهتدي إليه الركب المضلّل. ولكن ليت شعري من الذي يفكر في هذا المؤتمر ويعمل له ويدعو إليه؟
لقد عقدنا الآمال بالأزهر في كل ذلك، فهل عقدناها بلُعاب الشمس؟
كانت (جماعة كبار العلماء) معقد الرجاء ومناط الثقة؛ وكانت هذه الجماعة في نظامها الجديد عسِيَّة أن تدعو إلى هذا المؤتمر بعد الحرب في العيد الألفي للقاهرة؛ وكان الظن ببرنامج الإصلاح الذي اقترحه شبابها المصلحون، وأقره أقطابها المخلصون، أن يكون نواة الإصلاح ونقطة التحول؛ ولكن جنديّاً باسلاً من جنود الإصلاح الديني كتب إلينا يقول: إن برنامج الإصلاح أدركته أزمة رجعية توشك أن تخنقه في درج المشيخة. فإن عضواً من الجماعة يوجس منه شراً، فهو ينسج حوله الشكوك ويؤلب عليه القُوى، وقد نجح في ذلك!
فهل يجوز في ظن امرئ أن يكون في كبار العلماء من يشتبه عليه الحق والباطل والخير والشر والصلاح والفساد؟ ذلك ما لا نصدقه، ولا نود أن تجري الأمور بما يحققه
(المنصورة)
احمد حسن الزيات
بين آدم وحواء
قبل أن تثور القواصف
فوق أثباج الكوثر
للدكتور زكي مبارك
ارتاح آدم إلى كيد حواء بعض الارتياح، وأدرك أن الرجل لا يعيبه أن يُفتن بالمرأة من حين إلى حين، على شرط أن يظل في الحدود التي لا تجرح كرامة الرجال
وفطِن إبليس، لعنه الله، إلى أن آدم أخذ يؤوّل كيد المرأة ويقسمه إلى أقسام فيها المكروه والمباح. . . فطن إبليس إلى هذه الثغرة فجدّد من نشاطه واستأنف الوسواس فهتف:(هل أدلكما على شجرة الخُلد؟. . . هل أدلكما على شجرة الخُلد؟. . . ألا تسمعان؟)
قالت حواء: سمعنا وسنطيع. وقال آدم: سمعنا ولن نطيع
فغضبت حواء من جواب آدم واتهمته بالزهد في الخلود، وهو زهدٌ دميم، فما يليق بالرجل أن يضيع فرصة تنجيه من الفناء، ولو ارتكب في سبيلها ما لا يليق
وغضب آدم من سفاهة حواء فقال: من أين عرف إبليس أن شجرة الخلد هي شجرة التين؟ وعلى فرض أن كلامه صدق في صدق، فكيف يجوز أن نعصي الله لنظفر بالخلود؟
اعلمي، يا حواء، أن الرزق والجاه قسمان: حرام وحلال، وأنا لا أقبل أن نُرزَق الخلد عن طريق الحرام. . . إن اللقمة المسروقة تقف في الحلق لحظة، ثم تُزدرَد برفق أو بعنف. ومع هذا تبقي لها عقابيل تحزّ في القلب إلى آماد طوال، فكيف نستجيز الظفر بنعمة الخلود عن طريق العصيان؟ وكيف نرضى أن نعيش أبد الآبدين في أسر الحرام الممقوت؟
- آدم، أنت أحمق!
- لأني أزهد في الخلد المكسوب بالعصيان؟
- لا، بل لأنك تجهل أن الخُلد أنفس وأثمن وأعز من أن تُتَقي في سبيله الشُّبُهات
- النص صريح في تحريم هذه الشجرة يا حواء
- التأويل يلحق جميع النصوص
- إذا وُجدت الغاية التي تبيح الممنوع من التأويل!
- وأيُّ غاية أشرف من الخُلود؟
- اسمعي، يا حواء، إن الخُلد غاية شريفة - كما تقولين - ولكني أبغضه أشنع البغض، لأنه يوجب أن أعيش في صحبة عقلك الأجوف إلى ما لا نهاية له من الآباد. . . إني ضَجِرت، ضجرت، مع أن صحبتنا في الجنة قريبة العهد، فكيف أصنع إذا كتب الله عليَّ أن أكون من الخالدين في جوارك يا حواء؟
- تغضب مني يا آدم وأنا أدعوك إلى الخُلد؟
- هو خُلدٌ حرام لا حلال. . . وما يليق بنا أن نعامل الله في كرمه بغير الامتثال
- أَتصِفُ الله بالكرم وهو يبخل علينا بشجرة لا يساوي حطبها درهمين؟
- ألم أقل: إن الله يختبر قُوانا النفسية بتحريم تلك الشجرة؟ وإذا عجزنا عن كبح النفس في البعد عن شجرة لا يساوي حطبها درهمين، فكيف يكون المصير لو نُهينا عن شجرة مصوغة من عيون العذارى وخدود الملاح؟ المعصية بغيضة يا حواء، لأنها تضيفنا إلى أهل الكفران، وما يجوز لمن يعيش في مثل هذا النعيم أن يفكر لحظة واحدة في عصيان المنعم الوهاب
- الله منعمٌ وهاب، وهو يبخل بشجرة لا يساوي حطبها درهمين؟
- الآن عرفتُ أنك امرأةٌ سليمة الأعصاب والحواسّ إلى أبعد الحدود
- وكيف؟
- لأنك تنكرين الجميل، والمرأة لا تنكر الجميل إلا حين تكون في عنفوان الصحة والعافية
- وإذن؟
- وإذن أعصى الله من أجلك يا حواء!
- فتأكل من شجرة التين؟
- وأترك طبعات على هذه الخدود المقبوسة من جمر الوجود
- تحبني، يا آدم؟
- أحب المرأة الحلوة الجميلة التي زلزلتْ فؤادي. أحب المرأة التي نقلت قلبي من مكان إلى مكان. أحب الغادة اللعوب بالعقل والروح. أحبك يا حواء حباً أمتنَ من الصدق وأروح من اليقين. أحبك يا حواء حبًّا سيُفسِدُ ما بيني وبين ربي، إلا أن تشاء إرادته السامية أن
أتقرب إليه بعبادة الجمال. . . ولعله يشاء!
- وإذا لم يشأ، فماذا تصنع؟
- آكل من شجرة الخلد، لأحمي هذا الجبين من الأفول
- بالعصيان؟
- هنا المشكلة يا حواء، فما يُسيغ ذهني أن ينهانا الله عن رعاية الجمال
- أراك اهتديت!
- وأراني ضللت!
- أفِقْ، يا نَشْوان
- إن جاز للموقوذ بسكْر الجمال أن يُفيق!
- تحبني يا آدم؟ تحبني؟
- أحب النار التي صهرت روحي، ولن أطمئن إلا يوم أنهشك يا حواء لتعودي نقطة من دمي
- ما هذه الوحشية؟
- أيّ وحشية؟ ألم تؤخَذي من ضلعي؟
- أنا من ضلعك أُخذتُ يا كذّاب؟
- اسألي الملائكة، فعندهم الخبر اليقين
- ولهذا جئت جميلة؟
- وأجمل من الأفعى الملتوية على الشجرة الزهراء!
- أراك تبغضني يا آدم!
- هو ذلك: فأنا أبغض العيون الجوارح، وأبغض الجبين الوضاح، وأمقت القد الرشيق، وأستعيذ بالله من السحر المتموج فوق الثنايا البيض
- ثم ماذا؟
- ثم أكره الصوت الذي يُشبه وسواس الحُلِيّ فوق النحور، والذي يفوق غمغمة الكأس عند فورة الرحيق
- ثم؟
- ثم أثور على التفاتة الجيد عند العتاب
- ثم؟
- ثم أبغض حواء لأنها حواء!
وبعد الأنس بقُبلتين محرقتين مضى آدم لشهود حفلة الطيران، وهي حفلة موسمية كانت تقيمها الحمائم والبلابل والعنادل في (غابة الصنوبر) لتروض أفراخها على النهوض والتحليق. ويحدثنا شيث أن حفلات الطيران هذه كانت تجتذب جميع سكان الجنة بلا استثناء. وقد نص على أن السباع كانت تراهاً عجباً من العجب، لأنها تشهد بتنوع المواهب، وإلا فكيف جاز أن يقدر الطائر الضعيف على ما يعجز عنه الأسد الصوّال؟
مضى آدم وحده لشهود حفلة الطيران، وهو مبتسم جذلان، فقد أعفى نفسه من الحيرة في قرب شجرة التين، وأسلم مصيره إلى خالق الأنوار والظلمات، فللأقدار أن تصنع به ما تشاء
أما حواء فشعرت بحزن وانقباض حين رأت آدم لا يمانع في قرب الشجرة المحرّمة، ولهذا قّلت بشاشتها لشهود حفلة الطيران، وكذلك آثرت الاعتكاف لتنظر فيما هي مقبلةٌ عليه. . . فما الذي تأذّت به حواء وقد بلغت من ختل آدم فوق ما كانت تريد؟
نظرت حواء فرأت أن الشقاق حول الشجرة المحرمة كان فرصة لشغل آدم بزوجته شغلاً غير مقطوع، والمرأة يرضيها ويسرها ويشوقها أن يعيش الزوج وهو بها مشغول، فكيف تكون الحال بعد أكل الثمرة الممنوعة حين يصبح جميع ما في الجنة حلالاً في حلال؟
ونظرت فرأت أن الجدال حول الشجرة المحرمة ألانَ لسان آدم وعلَّمه الحوار بأساليب لا تخلو من البراعة والظرف، وقد تصل إلى السحر في بعض الأحيان، فكيف المصير إذا تساوت قِيمُ الأشياء واستغنى آدم عن الجدال؟
سيكون الصمت من نصيب آدم حين تنعدم أسباب الخلاف، فكيف تعيش حواء مع رجلٍ صَمُوت؟ وهل قلّ صمت آدم برغم ذلك الخلاف؟ لقد كانت له تأملات طويلة ينسى بها ما حواليه حتى لتحسب زوجته أنه لا يشعر بأن لها من الوجود أي نصيب، فأي بلاء ينتظر حواء يوم تنقطع موجبات اللجاجة مع فارسها الجميل؟
في تلك الحومة كادت حواء تنتقل من المعصية إلى الكفران، والعياذ بالله، فقد جاز لها أن
تعترض على نظام الجنة، وأن ترى أنه لا يخلو من اختلال. والثورة النفسية تحيل النعيم إلى جحيم، وذلك ما وقعت فيه حواء
نظرت فرأت أن الجنة قليلة المحرمات، فهي قليلة الطيبات، وهل يستطيب الناس غير الممنوعات؟
نظرتْ في هذا المعنى ملياً ثم صرختْ:
أرى طِيبَ الحلال عليّ خُبثاً
…
وطِيبَ العيش في خُبث الحرامِ
وهمّت باقتلاع شجرة التين لتحوّل الجنة إلى خراب يباب، فما كانت الجنة في نظرها غير تلك الشجرة الممنوعة، وإذا اقتلعت تلك الشجرة فسوف يرى الله أن عنايته بخلق الجنة ذهبت أدراج الرياح!
ولكن شجرة التين التي لا يساوي حطبها درهمين أعجزت حواء فلم تستطع اقتلاعها برغم ما بذلت من الجهد (المحمود) فنكصت على عقبيها وقد نال منها الإعياء ما نال
وكان المفهوم أن تخجل من الهزيمة أمام شجرة التين، وأن يزيد حقدها على الله، ولكنها فرحت حين عرفت بالتجربة أن (شجرة الشرّ) قوية الجذور، وأن الأمل في اقتلاعها ضعيف، وتمنّت أن تصبح الجنة وفيها لهذه الشجرة أمثال وأمثال
ذلك ما كان من أمر حواء، فما أمرُ آدم وقد ذهب وحده لشهود حفلة الطيران؟
رأى جميع المتفرجين يتحدث بعضهم مع بعض، وهاله أن يرى الثعلب يناجي أنثاه بجذل وانشراح، كأنه يدرك الدقائق من طيران أفراخ العندليب، ورأى الأفعى تخاطب الأفعوان بعبارات فَهِم منها أن حفر الجُحر في أصل الشجرة لا يقل خطراً عن بناء العش في أعالي الأغصان
أراد آدم أن يتكلم، ولكن مع مَن؟
لو كانت حواء حاضرة لحدثها عن ذكائه في استكشاف ما بين الخشب والماء، فقد اهتدى إلى أن من يمتطي الخشبة لا تهوله أمواج الكوثر في كثير ولا قليل، وهل يكون امتطاء الهواء أوثق من امتطاء الماء؟
لو كانت حواء حاضرة لقال لها وقال، ولكن أين حواء؟
هنا أدرك آدم أن الحياة بلا رفيق لفظٌ بلا مدلول
ألم يكن يجرّد من نفسه شخصاً يحاوره حين يعتكف؟
ألم تكن أشعاره تبدأ بعبارة (يا خليليّ) أو (يا صاحبيَّ) كأنه يرى بضوء البصيرة أنه يحتاج إلى عدد من الأصحاب والخلان؟
ألم يلاحظ أن الله حين اختصه بالنطق قد أوحى إليه أن حياته لن تكون بلا رفيق أو رفاق؟!
أين حواء ليبادلها الأحاديث؟ وأين ماضيه في الطيران بأجواء الحقائق والأباطيل؟
إلى حواء، إلى حواء، إلى حواء!!
فماذا يرى آدم، وماذا يسمع؟
يرى فتاةً خامدة بجوار شجرة التين، ويسمع أنيناً يذيب لفائف القلوب
- حواء!
-. . .
- حواء!
-. . .
- حواء!
- آدم؟
- نعم، آدم، ماذا بك يا حواء؟
- لا شيء، ولكن أين كنت؟
- كنت أشهد حفلة الطيران
- ورأيت عدل الله؟
- فيماذا؟
- في تزويد الطير بنعمة لن نظفر بها أبداً، فهو يطير عن هذه الجنة حين يشاء!
- وهل مللت الثواء بالجنة يا حواء؟
- أي جنة تريد؟ أتريد هذا العيش الرتيب، العيش الذي لا يحرَّم فيه غير طعامٍ واحد؟ العيش المملول، العيش الذي يقدَّم فيه التفاح بلا حساب؟
- وما عيب هذا العيش يا حواء؟
- عيبه أنه حلال في حلال
- وماذا تريدين؟
- أريد أن يكون لي جموح يُغضب الله
- وماذا تستفيدين من غضب الله؟
- أريد أن أشغله بنفسي
- لك الويل، يا شقية!
- لك أنت الويل، يا بليد!
- حواء، أنت حمقاء!
- الأحمق هو الذي يشهد حفلة الطيران ولا يستفيد
- وماذا يستفيد المرء من شهود حفلة الطيران؟
- ألم تر مئات الأفراخ من الحمائم والبلابل والعنادل والصقور والعقبان وهي مجرَّحة بسبب العنف في التمرين على الطيران
- نعم، رأيت، ثم رأيت!
- تقول إنك رأيت، فهل فهمت أن تلك الجراح هي سرّ القدرة على التحليق؟
- وإذن؟
- وإذن نجرَّح مرة أو مرتين أو مرات. . .
- لماذا؟
- لنطير في أجواء الرشد والغيّ والهدى والضلال
- إن كنت تريدين شجرة التين فلن أقرب شجرة التين
- حدثني أحد الملائكة. . .
- وتحدثك الملائكة يا حواء؟
- وتحدثك أيضاً ولكنك لا تسمع!
- وماذا قالت الملائكة؟
- قالت إن الله أخبرهم أنه سيجعل في الأرض خليفة، وأنهم كرهوا أن يجعل في الأرض من يُفسد فيها ويسفك الدماء
- وبماذا أجاب الله؟
- قال: إني أعلم ما لا تعلمون
- ومعنى ذلك؟
- معناه أننا سنصير إلى الأرض
- بعد هذا النعيم؟
- وهل نحن في نعيم؟
- اتقي الله يا حواء
- اتق الله أنت
- الأرض، الأرض، الأرض!!!
- الأرض، الأرض، الأرض!!!
كذلك دار ذهن آدم وحواء بهذه الكلمات، واشتهى آدم واشتهت حواء رؤية ذلك العالم المجهول
- إلى شجرة التين، يا آدم
- إلى شجرة التين، يا حواء
- ولكن أحذر من أن تقول إني أغريتك!
- لم يغرني غير العينين النجلاوين، والخدين الأسيلين، والثغر المعطَّر بأنفاس الرحيق
- اعترف صراحة بأني ما أغويتك ولا أضللتك ولا زينت لك العصيان
- أعترف بأن حواء لا تُسأل عما يجني قدها الرشيق
- ولا خصرها الأهيف؟
- ولا جيدها الأغيد!
- ولا ثغرها الرَّشوف؟
- ولا طرفها الكحيل!
- ولا تثنيها وهي تتخطر فوق شط الكوثر؟
- ولا سحر اللون الذي يتموج بساقَيْها حين نتمدد فوق الأعشاب!
- ولا بلؤمها حين تثور؟
- ولا بكرمها حين تطيع!
- آدم، آدم، أنت مخلوقٌ نبيل
- معاذ الله أن أكون كذلك، فما يوصف الرجل بالنبل إلا حين يملك ما يأتي وما يَدَع. وقد قلّت حيلتي في رياضتك يا حواء، فأنا بفضل هواك من الهالكين
- لن تهلك وأنا معك
- ولن أهلك إلا لأنك معي، فالرفيق الفاسد يجرّ صاحبه إلى الهلاك
- اللهُ قدَّر أن يكون مصيرنا إلى الأرض، فما خوفُك وتلك إرادته السامية؟
- للجنة أسوار وحدود، وأنا أخشى أن تكون الأرض بلا أسوار ولا حدود
- عند ذلك تستطيع أن تفر مني حين تشاء
- أنا في الجنة مقهور على صحبتك بفضل الأسوار، وسأكون في الأرض مقهوراً على صحبتك بفضل الأهواء، والفرق بين الحالتين بعيد
- لك أن تتحرر من هواي
- لو أصبحتِ تراباً يا شقية لكان من واجبي أن أستاف ذلك التراب
- تحبني يا آدم؟
- أحب اللسان الذي يتلجلج بفم الحية النضناض
- أنت وقح!
- الوقاحة لن تكون إلا من نصيب الجمال النشوان!
- النشوة العارمة لم تعرف إهاباً غير إهابك
- ولهذا أخضع للشهوة وأطيع
- إذن تأكل من شجرة التين
- وأستبيح المعصية في سبيل الجمال
- خذ هذه التينة يا آدم
- ابدئي بنفسك
- هذه واحدة وثانية وثالثة ورابعة وخامسة، فهل وقع شيء؟
- لم يقع شيء!
- وإذن يكون التين من الثمر المباح
عند ذلك مدّ آدم يده فالتهم ثمرة التين وهو يرجو أن يكون مصيره مصير حواء، ولكن الجنة زُلزلت من جميع الجوانب فأدرك أن الله لا يقيم وزناً لغير هفوات الرجال.
(للحديث شجون وشجون)
زكي مبارك
الأدب والعلم
للأستاذ محمد محمد المدني
كتب إليّ صديق من زملائي على عهد الدراسة كتاباً يقول فيه: -
(إني مواظب على قراءة الرسالة بشغف واهتمام، ولست تكتب على صفحاتها مقالاً إلا قرأته لك، وتنسمت فيه روحك، وثارت به في نفسي ذكريات محببة عن أيامنا الجميلة التي كنا نختلف فيها إلى دروس الأدب والبلاغة يلقيها المرصفيُّ وعيَّارة والبطراوي والإسكندري وغيرهم، ونتجاذب فيها أطراف المحاورة، وأهداب المذاكرة، ونتساقى كئوس الشعر والنثر كأنها رحيق مختوم. وقد أذكر زميلنا الذي كان مولعاً - في كتاباته الإنشائية - برواية أشعار المتنسكين والمتزهدين، وأننا كنا نغرب في الضحك إذا سمعنا أستاذ الإنشاءَ يقرأ طرفاً مما كتب، ويحاسبه على أفكاره العتيقة. وما لهذا كتبت إليك، ولكني أريد أن أتحدث إليك في أمر كثيراً ما هممت بأن أحدثك فيه:
أنت تعرف رأيي في أسلوبك الكتابي وبحوثك العلمية، وتعرف حبي لك وشديد غيرتي عليك، فهل لي أن أسألك: لماذا تنحو في اختيار موضوعاتك هذه النواحي الأزهرية فتتحدث عن الفقه وأصول التشريع ودراسات الأزهر وأسلوبه في التفكير وما ينبغي له من علو ورفعة شأن، ولا نراك تتحدث عن الأدب والشعر وهما في هذا العصر أنشودة الشُّداة، وأغرودة الحداة، وثقافة المثقفين؟ لو كنت أعلم أنك تخرجت في علوم الشريعة لقلت: رجل مشغوف بما درس، معنيٌ بإشباع نهمه العلمي منه، ولكنك تخرجت في دراستك تخرج الأديب، ونلت شهادة التخصص في علوم البلاغة والأدب، فكيف تجحد حقهما عليك وتنسى فضلهما في تهذيبك وتثقيفك؟ وهل تتحبب إلى الأدب طالباً، وتتنكر له أستاذاً، فتقطع به صلتك، وتزوي عنه وجهك وتنصرف إلى غيره مما ليس منه ولا يمتُّ إليه؟
ما هذا الذي أُغرمت به، وملك عليك نفسك، واستبد بقلمك؟ وأيُّ فرق بينك وبين الزميل المتنسك الذي ألحدْتُ إليه صدر هذا الكتاب؟ ولم إذن كنت تسخر منه، وتُغرب في الضحك عليه؟
لا يا صديقي، ما لهذا يريدك أصدقاؤك، وما لهذا أردت نفسك، وما لهذا أعدتك (شعبة البلاغة والأدب) في تخصص الأزهر. لا تكفر بالأدب ولا تنأ بجانبك عنه، واستغفر لذنبك
ودع الفقه والجدال فيه، ودع الأزهر والحديث عنه، والتحرق له والبكاء عليه، فما ذلك بمغن عنك فتيلاً. وسوف يبقى الفقه كما هو، وسوف يبقى الأزهر كما هو، وسوف تضيع صيحاتك وصيحات غيرك في شأنهما هباء كما ضاعت من قبلُ صيحات وصيحات! عد إلى أحضان الأدب يا صديقي وأسمعنا شدوك عند رياضه وغياضه، وطر إلى آفاقه، وحلّق بخيالك في سمائه، فربما غنيت على قيثارته ألحاناً يرويها عنك الزمان. . .)
هذا كتاب صديقي إليّ، أثبته كما هو لأنه وإن كان كتاباً خاصاً يتحدث عن شأن له ناحية من العموم، ويمثل رأياً ينزع إليه جمهرة من شباب المتأدبين في هذا العصر فهم به مولعون
ولست أرى أني أغاضب الأدب وأجافيه - كما يتصور هذا الصديق - حين أكتب في موضوعات علمية، أو حين أعالج مشكلة من المشكلات الخاصة أو العامة، فإن الأدب ليس محصوراً في دائرة العاطفة والخيال وما يتصل بهما، ولكنه أوسع من ذلك دائرة وأبعد أثراً. وقد أتي على الناس حين من الدهر وهم يظنون الأدب حلية تراد للزينة وتستكمل بها مظاهر الترف، فكانت قصور الملوك والأمراء وذوي اليسار كما تضم الندمان والسقاة والجواري والغلمان، تضم الشعراء والكتاب والقصاص والرواة، قصاراهم أن يكونوا أداة لهو وتسلية تَشرح بهم الصدور وتُنسى الهموم. فلما ترفع الأدباء والشعراء عن تلك المنزلة قصدوا إلى الأدب والشعر بالتكريم فصانوهما عن التبذل في خدمة الأمراء والثراة إلا قليلاً، فأصبح الشاعر يقول ليرضي ذوقه الأدبي، وأصبح الكاتب يكتب ليصف شعوره هو قبل أن يصف شعور الآخرين؛ وبذلك استقل الأدب، ونال الأدباء والشعراء حريتهم، وانطقوا يهيمون في جوهم الصافي، وينعمون بأحلامهم اللذيذة؛ لا يحبون أن يكدرها عليهم مكدر، ولا أن يفسدها عليهم مفسد؛ ولكنهم كانوا من ذلك في شبه غيبوبة عن الحياة العملية المثمرة، لا ينفذون إلى صميمها، ولا يُعنَوْن إلا بحواشيها وأطرافها، ورضوا بالفقر حليفاً، وبالبؤس صاحباً؛ وخيلوا للناس أن الأدب والفقر صنوان، ورضيعا لبان! وأن الأدباء والشعراء هم وراث (أبي الشمقمق) في كل زمان!
أما في هذا العصر، فقد تغيرت المثُل، واستبدل الأدباء بنهجهم في الحياة نهجاً سواه: أصبح الأديب هو الذي ينفذ بقلمه وذوقه إلى دقائق العلوم، ومعضلات الفِكَر والآراء. هو الذي
يجلو الغوامض، ويفتح المغاليق، وييسر المعاسير. ذلك اليومَ هو صميم الأدب، وقصارى الأديب، وذلك هو الوضع الصحيح الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقة بين الأدب والعلم!
من ظن أن الأدب في هذا الزمان إنما هو أنشودة تنشد، أو أغرودة تغرد، أو خيال يسبح في جوه الهائمون، أو وصف لزهرة مشرقة، أو طائر صداح، أو عاشق ولهان، أو قلب خفاق، أو عين باكية، أو ثغر بسام، أو جمال فتان، أو قد ممشوق، فقد ظن عجزاً!
إن ذلك من الأدب حقاً، ولا يستطيع أن ينكر ذلك منكر، ولكنه اليوم ليس المثل الأعلى للأدباء، وإنما هو لون من ألوان غذائهم الروحي يتشَهَّوْنه الفينةَ بعد الفينة، وهو بعد ذلك أقرب ثمرات الأدب إلى يد الأديب وأيسرها منالاً. أما العلوم والمعارف؛ أما مشكلات الحياة وقضايا العقول؛ أما سهر الليالي ومجافاة الجنوب للمضاجع في سبيل التحصيل والتزود من زاد البصائر، فتلك هي الحَلْبة لمن أراد السباق!!
أعيذك بالله - يا صديقي - أن تستخف بأمر الفقه والأصول وأسرار التشريع، أو يثقل عليك القول في إصلاح الأزهر وتقويم ميله، أو يداخلك اليأس حين ترى الداء مستشرياً والطبيب حائراً
إن الشرق الإسلامي قد استفاق من سباته العميق، وإنه يريد أن ينهض وأن يستعيد مجده السالف يوم كان مصدر النور والمعرفة، بل يوم كان مصدر الهداية ومنبت الخير، ولو تأملنا بوادر هذه النهضة وتأملنا إلى جوانبها بوادر الانهيار، بل عوامل الدمار التي تعمل عملها السريع في إهلاك أعداء الشرق وخصوم الإسلام لكان لنا أن نؤمل دورة الفلك، وأن نأخذ في تكميل أنفسنا، وتصحيح أخطائنا، والرجوع إلى قوميتنا استعداداً لما ينتظرنا. وهذه الشريعة الإسلامية هي الشريعة التي نلنا بفضلها أسباب السماء في الماضي، ولم يجد أعداؤنا منفذاً إلينا ونحن متمسكون بها؛ وفقه هذه الشريعة هو فقه الحياة والعمل، هو فقه العدل والرحمة، هو فقه الحضارة والمدنية في أبهى صور الحضارة والمدنية؛ فإذا تكلم في شأنه المتكلمون، ودعا له الكتاب، وعرض الأدباء العاملون بعض صوره على الناس، وخلصوه مما أضيف إليه واختلط به، كل بمقدار ما يستطيع، فإنهم لا يقومون في ذلك بواجب ديني فحسب، وإنما يقومون مع ذلك بواجب قومي وطني لا مناص لأهل العلم والأدب جميعاً من التعاون على حمل أعبائه. ومثل ذلك يقال عن الأزهر: ينبغي أن يلتفت
إليه أدباؤنا، وأن يكتب في شأنه كتابنا، لأنه (جامعة الشرق)، ووارث ثقافته، وعنوان مجده، ومعقد آماله!
إنك - يا صديقي - تقول لي في كتابك: (سوف تضيع صيحاتك وصيحات غيرك في شأنهما هباءً كما ضاعت من قبل صيحات وصيحات). وأحب أن أقول لك إنه لم يضع شيء أبداً، وإن الذين صاحوا من قبل قد أثروا بصيحاتهم آثاراً بعيدة المدى في العلم والتفكير والإصلاح. ويمكنك أن ترجع إلى عهد الأستاذ الإمام محمد عبده، لتوازن بين عقلية الأزهر الماضية وعقليته الحاضرة في العقائد والفقه وأحكام المعاملات والأحوال الشخصية، فتلمس الفرق بينهما، وتدرك أن صيحات هذا المصلح الديني لم تذهب هباء
ولقد كان الأستاذ الإمام محمد عبده أديباً رائع البيان، وكان له ذوق ممتاز في فهم الشعر والنثر ظهر أثره في تفسيره لما فسر من القرآن، فهل منعه ذلك أن يؤلف في علم الكلام، وأن يفتي في الفقه، وأن يشرع شَبَاة قلمه لتأييد دعوته الإصلاحية الكبرى؟
بل لقد كان الإمام الشافعي رضي الله عنه أديباً عاش في البادية ونزل في هذيل، يقيم معها ما أقامت، ويرحل معها إذا رحلت، ويتعلم كلامها، ويحذق لغتها، ويروي أشعارها، حتى بلغ من ذلك شأواً بعيداً، ولكنه لم يجعل هذا غرضاً، وإنما اتخذه وسيلة إلى علم أكبر، وفضل أظهر، ووقرت في نفسه كلمة الزبيدي الذي لقيه في طريقه، فتحدث إليه فوجده فصيح اللسان، عبقري الذكاء، فقال له: أيها الفتى! يعز عليّ ألا يكون مع هذه الفصاحة وهذا الذكاء فقه تسود به أهل زمانك! وقد أراد الله ذلك، فإذا الشافعي رجل من الرجال العالميين، وإذا اسمه مسجل في سجل الخالدين!
أما بعد، فيا صديقي العزيز: لا تَلْحَني ولكن أَعِنيَّ
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
خواطر وصور
تثيرها مرحلة من الطريق بين القاهرة وبغداد
(إلى الأستاذ المازني نسوق السؤال)
للأستاذ فخري شهاب السعيدي
كانت مفازة رهيبة!
ولم يكن فيها من آثار الإنسان غير اثنين: هذه الأسلاك النحاسيّة المعلّقة في الهواء على ركائز من الحديد الصابر المتين: تبيّن ما طُوِى من الشّقة، وما ظل ينتظر الطيّ؛ وهذا الطريق الأسود الطويل. . . الذي لا تكاد تدرك العين والسيارة آخر ما يمس الأفق من تعاريجه ومرتفعاته، حتى تتكشّف أمام العين مناظر منه أخرى، وحتى تتبدى للسيارة منه تعاريج وأطوال. . .
وكانت السيارة صابرة على هذا الأسود الممتدّ أمامها، الهازئ بها، الذي يمتحن صبرها بأعاجيب من عنده: فتارة يلتوي لها، وأُخرى ينحدر؛ وطوراً ينحني أمامها، وحيناً يستدير. . . وهي لا تعبأ بهذا الهازئ الممتحن، بل تمضي قُدُماً، وصوت شهيقها وزفيرها، وقلبها الخافق، ودمائها الغالية ملء أسماع الركب الذين أسلموها القياد في صبر واضطرار! وكانت السآمة قد تَغشّتهم جميعاً مما يتدفق أمام عيونهم من مناظر الصحراء، وما كانت هذه لتعدو الرمال والجلاميد، والهضاب العالية والوديان الخالية، وكل ما يمثل الموت والسكون والجمود من آثار الطبيعة. وما أشد صدوف الناس عما يذكرهم بمثل ذلك من آثار!
. . . كان بعضهم يزجي فراغه بالحديث يرفعه عالياً ليغالب زئير السيارة الذي ملأ الفضاء والأسماع، ثم لا يلبث - هذا البعض - أن تتعبه المغالبة فيستنجد بالسكوت. وكان بعضهم يأكل! نعم كان يقتل السآمة بالأكل. وبعضهم كان يقرأ. وكنت أنا من بينهم وحدي الذي طاب له أن يقصر عمله على اثنين: مطالعة هذه الصفحة الصحراوية، الجميل خطّها، المذهب متنها بفعل الرمال، والمفضّضةِ حواشيها بإطار الأفق الجميل؛ والتحدث إلى نفسي والأخذ منها والرد عليها فيما كان يحضرني من أفكار. . . وبين هذين العملين، أو هذين الشاغلين - بكلمة أخرى - كان الوقت يمضي مسرعاً، والسيارة تنهب من الأرض كيلو
متراتها نهباً؛ وكنت وجدت في ذلك لي متعة كان يحظرها عليّ المجتمع لو أنني أضعت هذا الوقت فيه!
وعندي أن الأخذ من النفس والرد عليها، ومحاورتها بألوان الأفكار، ومناقشتها في ضروب من الآراء، مما يرتاح الإنسان إليه - أو أنا على الأقل، فما أدري ما حال الناس غيري - ولقد تمّر عليّ في حال معينة وظرف بعينه لحظات أود لو أني استطعت أن أكون من هذا المجتمع في نجوة لألقي تلك الصديقة المحببة. . . التي هي نفسي، فأجلس إليها وأداعبها وأعابثها وأحاورها، وأسمعها وتسمعني في صنوف شتى من أبواب الجد الهازل أو الهزل الجاد!
أما الصحراء هذه الصحيفة التي تنبسط أمامي جديدة من سفر الوجود، فما كان أجملها، وما كان أروع الجلال الذي كان يشع منها على النفس فيصغر من شأنها، ويقلل من تيهها، ويذلل من كبريائها، ويصهر جوهرها صهراً يصفيه ويطهر الأعراق
كم من البشر - قبلنا - مروا بك أيتها الصحراء؟ وكم ركباً قبل هذا اقتحم مفاوزك هذه، ثقةً منه بنفسه، واعتماداً منه على قدرته، واتكالاً على ما أوتي من علم؟ وكم منهم نجا، وكم كان في الهالكين؟ لم أنجيت من أسرك فريقاً؟ ولِمَ اقتنصت فريقاً، فأطبقت عليهم في غير شفقة ولا رحمة، ولا ذكر لذويهم الذين استودعوك قلوبهم وائتمنوك عليها ثقة منهم بعدلك فإذا أنت تضيعين الثقة وتخلفين الرجاء؟!
كم - أيتها الصحراء - فيك من قوافل تسمع ولا تجيب، وتحتمل وطأنا إياها ولا تئن؟ لم لا تطلقين هؤلاء من أغلالهم، وترديهم إلى أهلهم فتكسبي حبهم وشكرهم وثقتهم، وتعودون - أنت وهم - بعض لبعض أحباباً؟! ألا تعجبك أيتها الصحراء صداقة الإنسان؟!
يا الله!
مالها لا تحير جواباً! لعلها كانت تنطق فلا أسمع وترفع بالإجابة صوتها فتتلقاه أذني دوياً لا تستطيع آدميتي فهمه واستجلاء معانيه!
وعدت أنظر إلى هذه التلال ثانية فإذا هي قد نّمتْ وكبرت وتضَخَّمت حجارتها واشتدتْ صلابةً وأيْداً؛ وقد علمت - حين سألتُ عن السر - أننا شارفنا أرض فلسطين!! فالقيعة إذا تلبس لباس وقارها وحشمتها لتدخل الأرض المقدسة أرض المعاد! فما بالنا نحن - البشر
- لا نلبس لهذه الأرض المقدسة لباسها كما تفعل الأرض ذاتها، ولا نحييها باطراح شرورنا ونبذ ما ران على قلوبنا، كما تصنع هذه الجلاميد؟ ولقد هممت أن أقوم احتراماً، بل لقد قمت فعلاً، فما راعني إلا أن أجلستني السيارة المنطلقة في عنف، طالبة أن أكف عن الاسترسال في هذا الخيال وأنصرف معها إلى ما هي فيه من جد وكد عنيف!
ولم نلبث بين هذه الجلاميد إلا ساعة أو نحوها حتى تبدت الأرض في حلة من وشى جديد، تختلط فيه خضرة العشب الغض بسواد الصخور الصم، فكأن الطبيعة قد أرادت بهذا الجمع بين النقيضين أن تجيء بالبرهان القاطع على أنها لا تعرف هذا الذي تواضع الناس عليه من فصل بين شتى مظاهرها في هذا الكون الذي هو معرض الاتساق!
وكان جميلاً أن يُرى ما كان يحسبه الإنسان من هذه الصخور الجرد مثالاً للقسوة وتمثالاً للجمود ينشئ الحياة الغضة إنشاءً ويخرجها أعشاباً طرية من بين الفرجات الصغيرة التي فيه، ويجمع لها في هذه الشقوق الماء الذي تحتاج إليه لترتاح له وتأنس بالمقام عنده وتطمئن - في ضمان حياتها - إليه.
وكانت الجبال على أتم صلة ببعضها، فلا يفصل بينها شيء إلا صبغته بصباغها الأحْوى، وعلمته كيف ينساق لمشيئتها في غير تردد ولا بطء: فالجداول الصغيرة، والوديان الفسيحة، وهذا القليل من رحاب الأرض المنبسطة، ومخارم الجبال ذاتها أيضاً، كل أولئك كان طائعاً لتلك الجبال يصل ما بينها ليظهرها أمام العين بمظهر واحد ينم على الألفة المتينة والوداد الجميل.
وكانت هذه المشاهد التي تطغي على القلب والعقل، فتملأ ذاك غبطة وتزيد هذا إيماناً بالعجز أو سدوراً في الضلال، جديدة أمام عيني؛ وكان كل واحد منها جديراً بأن أطيل النظر فيه لنتعارف، ولكن السيارة كانت تأبى، وحسبتْ أن ذلك قد يطول منا فنعتاقها عما هي وراءه من تقريب الشقة أمام هذا الركب الضجر الملول. وجدة المشاهد أمام العين تذكّر بعهد الطفولة حين يخرج الواحد منا من ظلماته الأزلية إلى هذا النور الدنيوي - أو الذي نسميه نوراً وما ندري من أمره حقيقة ولا ندرك كنهاً - فكل ما تقع العين عليه جديد لذيذ، يبعث الفضول ويرهف الحس ويصب على الفكر وابلاً من الأسئلة الخالدة التي تطوف في فكر كل ذي فكر؛ ثم لا يلبث المرء أن تعييه الإجابة فينزل عند حكم المشيئة التي أرادت
له مثل هذه الحواس المحدود إدراكها، ومثل هذه القوة العاقلة التي يسرع التعب إليها قبل بدئها في البحث عما هي وراءه من استكشاف المجاهيل!
ونبّهتني هذه الخواطر إلى ما للجهل من فائدة وفضل على الناس، واذكرني هذا بالنظرية التي تقول: إن كل شيءٍ خيّر في الطبيعة إذا وُضِع في موضعه وأُحِلّ في المكان المناسب له. فالجهل مثلاً - وهو موضوعنا - يثير فضول القوى العاقلة لدى الناس، ويعقّد أمامهم مشاكل عويصة يعالجون حلها، فكثيراً ما يضلون وقليلاً ما يهتدون. ولكنهم - وعلى أية حالة كانوا - تفيض السعادة والراحة على قلوبهم حين القصور، وحين البلوغ على حد سواء!!
وأذكر أني كنت ذات مرة في زيارة لخرائب بابل، وكنت وقتئذاك صبياً يحسب العلم وقفاً على المسّنين. فسألت أحد الأدلاء - وكان شيخاً - وكان جاهلاً أميّاً - عما صيّر هؤلاء الآدميين الذين كانوا مثلنا من لحم ودم - حجارة! فأجاب أو أجابت بديهته - فما كان عنده عقل يجيب -: غضب الله! وقد ضللت أعتقد بصحة هذه الجملة التي انطلق بها لسان دليلي العامي حتى دخلت المدرسة فعُلَمْت غير هذا، ووعيت في حافظتي كلاماً غير كلام الدليل، علمياً منطقياً، تقوم على تأييده والبرهنة على صحته حجج قواطع. فاستسخفت ذلك الساذج، واستسخفتْ نفس ذلك الطفل الذي لم يحاكم القول الذي سمع؛ ولكني أشهد الله (تعالى)، على أن نفسي اليوم لا تستطيب معنى أحلى، ولا جملة أبلغ، ولا فلسفة أعلى مما انطلقت به بديهية الرجل الجهول!! هل ترى العالم المنقّبَ الفاضل حين يدخل خرائب البابليين يَعْمُرُ صدره بالإيمان، وترتفع روحه إلى أجواء من السعادة العلوية، وتتملكه الروعة والجلال كهذا الدليل الجاهل الأمي
الجواب عندي (لا)!!
لأني من المؤمنين بأن للجهل نفعاً، وأن شأنه في هذا شأن كل ما أبدعته الكف الصَّناعُ الخالقة الجليلة في هذا الكون الجميل. . . وهنا بانت لنا عن بعد دائرة جوازات السفر على الحدود الفلسطينية فأبدلتنا بأفكارنا غيرها، وتبددت هذه الأخيلة وكان ما كان. . .
فإلى الأستاذ المازني الجليل نسوق سؤالاً عن نفع الجهل؛ فقد كان حدثنا بحديث من ذلك قبل سنين. فإن رأى - أطال الله بقاءَه، وجعلنا من كل سوءٍ فداءَه - ألاّ يبخل بهذه الآراء
على قراء (الرسالة) فعل وله منا ومنهم ألف شكر!
فخري شهاب السعيدي
من أدب القرن التاسع
كتاب (سحر العيون)
للأستاذ أحمد يوسف نجاتي
كنت منذ حين قرأت حديثاً للأستاذ أحمد بك أمين يعرض فيه (كتاب سحر العيون) عرضاً شائقاً - والكتاب مطبوع قديماً بدون أن يذكر في أوله اسم مؤلفه - ورأيت الأستاذ يقول في هذا المقال القيّم: من الأسف أني لم أعثر على اسم مؤلفه. ولكنه في ثنايا الكتاب يقول: (أنشدني صاحبنا الشيخ شمس الدين محمد ابن أبي بكر القادري المولود سنة 824. فمؤلف الكتاب إذاً - من أدباء القرن التاسع الهجري - والظاهر أنه مصري لأنه يروى لنا في ثنايا الكتاب أحداثاً مصرية وأمثال عامية مصرية)
فأسفت لأسف الأستاذ، وأردت أن أكتب ترجمة طويلة لهذا المؤلف تكشف الحجاب عنه، وأن أعرض ما أعرفه من مصنفاته عرضاً دقيقاً وأحلله تحليلاً أدبياً مسهباً. ولكن عدت دون ذلك عوادٍ صارفة لا قبل لي بها، وحالت دونه عوائق شاغلة لم يكن أمر نفسي معها بيدي. وطال الأمد على ذلك حتى أنسيت ما كنت قد عزمت عليه؛ وشغلتني أعمالي الكثيرة بغيره، إلى أن سألني اليوم أحد الطلبة الأدباء عن مؤلف هذا الكتاب؛ فذكرني بما كنت قد نسيته؛ ورأيت أن أنتهز هذه الفرصة السانحة فأسعف طلبته بهذه الكلمة الموجزة التي أحررها على عجل. وفي العزم إن شاء الله أن أَبسط القول في ترجمة هذا الأديب وترجمة شيوخه وأصحابه ومعاصريه الذين تربطهم به صلة وثيقة كان لها أثر بين في أدبه؛ وأن أطيل الكلام في الأدب المصري والشامي في عصر المماليك عامة وفي القرن التاسع خاصة. وأرجو أن تفسح لي مجلة (الرسالة) الغراء صدرها فعهدي بها مجلة الأدب الرفيع وحلبة ميدانه الذي تجول فيه أقلام فرسانه من الكرام الكاتبين
1 -
لقد دل مؤلف (سحر العيون) على نفسه في نحو عشرين صفحة من كتابه، ونادى باسمه (البدري) فيه كثيراً حتى بحّ صوته. وكأني به في ص 188 قال:(من عرفني فقد اكتفى، ومن لم يعرفني فأنا جامعه البدري عفي عنه، مولده في عشية الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول من شهور سنة سبع وأربعين وثمانمائة) وسنعرض بعد لسائر الصفحات التي صرح فيها باسمه، ونتناول شعره فيها وفي غيرها بالنقد والتحليل
2 -
للبدري مؤلف (سحر العيون) كتاب آخر اسمه: (نزهة الأنام في محاسن الشام) طبع بمصر بالمطبعة السلفية سنة 1341هـ صدر عنوانه في أول صفحة منه بما يأتي:
(نزهة الأنام في محاسن الشام، تأليف أبي البقاء عبد الله ابن محمد البدري المصري الدمشقي من علماء القرن التاسع (ولد سنة 847) صاحب الديوان المشهور، وتاريخ (تبصرة أولى الأبصار) و (سحر العيون) اهـ. وقد دل المؤلف أيضاً على نفسه في هذا الكتاب في كثير من صفحاته، وموعدنا بالكلام في هذا الكتاب وسواه قريب إن شاء الله
3 -
وفي فهرس الكتب العربية لدار الكتب الملكية بالجزء الخامس المشتمل على فهرس التاريخ في ص 387 ما نصه:
(نزهة الأنام في محاسن الشام، تأليف أبي البقاء عبد الله ابن محمد البدري المصري الدمشقي من علماء القرن التاسع، ولد سنة 847 (وكتب سنة747 غلطاً)، وهو صاحب الديوان المشهور والتاريخ المسمى:(تبصرة أولى الأبصار في انقراض العمر بين الليل والنهار)، (سحر العيون). الخ
وإني أنصح لمن يعنى بالأدب وتاريخه أن يطلع على فهارس دار الكتب، فإنه يعثر فيها على فوائد جمة ويهتدي إلى مراجع قيمة في اللغة العربية وآدابها وتاريخها. وفي كشف الظنون (نزهة الأنام في فضائل محاسن الشام) لأبي البقاء عبد الله ابن محمد البدري المصري الدمشقي الشافعي
4 -
وأبين مما تقدم ترجمة علم الدين السخاوي في كتابه (الضوء اللامع) لمؤلف (سحر العيون). ونحن ننقل هذه الترجمة بنصها، ونشفعها بشرحها ونقدها. قال: (أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الله تقي الدين بن الجمال الدمشقي القاهري الشاعر الوفائي، ويعرف بابن البدري، ويكنى أيضاً أبا البقاء، ولد في شهر ربيع الأول سنة 847 بدمشق ونشأ بها، وتكرر قدومه مع أبيه للقاهرة ثم قطنها مدة، واشتغل بالبلدين قليلاً. وكتب عن خلق من الشيوخ فمن فوقهم. وتعانى الشعر ومدح وهجا وطارح. وتردد إليَّ فأخذ عني ومدحني فيما كتبته في موضع آخر، وفيه:
جد لي سريعاً بالحديث إجازة
…
يا كاملاً دُم وافر الإعطاء
وانتمى لبني الشحنة وتكسب بالشهادة وبالنسخ. فلما ولى الأمشاطي عمل فيه أبياتاً فلم يقابله
عليها، إلى أن تعرض لعبد الرزاق الملقب عجين أمه نزيل القاضي في البرقوقية ونسبه لأمر فظيع الله أعلم بصحته، فبادر لتطلبه فلم يقدر عليه، فصرح بمنعه من تحمل الشهادة فلم يلبث إلا يسيراً. وماتت له زوجة فورث منها قدراً طائلاً بعد فقره فلم أطرافه وسافر لمكة فجاور ثم قطن الشام، ثم جاور بالمدينة سنة 892 وكتب فيهما من تصانيف الشريف السمهودي وغيره، ثم جاور التي تليها سنة 892 بمكة؛ وكان يجتمع عليّ بها، وكتب من تصانيفي مجموعاً، ولازمني في التحمّل رواية ودراية. وأوقفني على مجموع سماه (غرر الصباح في وصف الوجوه الصباح) وقرظه له الشعراء فأبلغوا، وكان من أعيانهم البرهان الباعوني وأخواه، والشهاب الحجازي، والمنصوري، والقادري، وابن قرقماس. وقال إنه ألفه بدمشق سنة 865، والتمس مني تقريظه فأجبته وكتبت له إجازة حسنة، وامتدح قضاة مكة وغيرهم، وليس نظمه بالطائل، ولا فهمه بالكامل. وكتبت عنه من نظمه:
إذا ما كان مجموعي لديكم
…
من الدنيا بهذا قد قنعت
وما قصدي سوى هذا وحسبي
…
بأني في يديك وما جمعت
وكان يتكسب بالتجارة، وربما جلس بحانوت بمكة في الموسم. تعلل بمكة مدة وسافر منها وهو كذلك في أوائل المحرم سنة 894 في البحر فوصل إلى الطور ثم غزة فأدركه أجله هناك في جمادي منها. وبلغنا ذلك في شوال - عفا الله عنه - وترك ولدين أو أكثر وتركة، وأظن والده في الأحياء. عفا الله عنه وإيانا) اهـ
انتهت ترجمة السخاوي. وهو معروف بأنه قد يتحامل علي بعض معاصريه، ويقذفهم بعبارات تهكم لاذعة وقوارص من الكلم تنطوي على سخرية مريرة، بداعي المنافسة والمعاصرة والازدحام على منهل عذب واحد. وقد قال فيه معاصره (ابن إياس) في كتابه (بدائع الزهور):(إنه ألف تاريخاً فيه كثير من المساوئ في حق الناس). وأنشأ معاصره (جلال الدين السيوطي) مقامة من ضمن مقاماته سماها (الكاوي في رد تاريخ السخاوي) شنع عليه فيها. . . يقول فيها: (ما ترون في رجل ألف تاريخاً جمع فيه أكابر وأعياناً، ونسب لأكل لحومهم خواناً، ملأه بذكر المساوئ وثلب الأعراض، وفوَّق فيه سهاما على قدر أغراضه والأعراض هي الأغراض. وجعل لحم المسلمين جملة طعامه وإدامه، واستغرق في أكلها أوقات فطره وصيامه. . .) والمقامة مخطوطة محفوظة بدار الكتب
الملكية تحت رقم 1510. فينبغي للمنصف أن يقف أمام بعض تراجم السخاوي موقفاً محايداً مروياً
ونحن بعد هذا نشرح ما يحتاج إلى الشرح والتبيان من ترجمة علم الدين السخاوي لأبي بكر البدري، ونشفع ذلك بنقده ونصل القول إلى ما وعدنا به من ترجمة حياة هذا الأديب ترجمة ضافية وترجمة أدباء عصره وأقرانه وشيوخه وأصحابه، ونكشف النقاب عن الأدب المصري في القرن التاسع بل في عصر المماليك عامة بإذن الله
1 -
أما بنو الشحنة الذين انتمى إليهم البدري فهم من أسرة شامية من مدينة حلب كريمة الأصل والحسب، عريقة في العلم والأدب. وقد تقلدوا كثيراً من الوظائف العلمية والدينية بالشام ومصر من قضاء وإفتاء وخطابة وتدريب. وكان لبعضهم أثر في الحركات السياسية في ذلك العصر؛ وجدهم الأعلى (محمود) من أصل تركي وهو الملقب بالشحنة لأنه كان شحنة مدينة حلب (وشحنة البلد من فيه الكفاية لضبطها من جهة السلطان)، فهي وظيفة كأنها وظيفة (الحكمدار) الآن.
ومن أقدم من عرفت من بني الشحنة:
1 -
كمال الدين محمد بن محمد بن محمود (الشحنة) بن غازي ابن أيوب، كان من فضلاء زمانه متقناً لعلوم الدين واللسان، واشتغل بالتدريس والقضاء ونشر العلم وإفادته. وتوفى بمدينة حلب في شهر ربيع الأول سنة 776.
2 -
وابنه أبو الوليد محب الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمود ولد سنة 749 بحلب ونشأ بها في كنف أبيه وارتحل إلى دمشق والقاهرة للأخذ عن علمائها. وارتحل مرة أخرى إلى مصر سنة 777 بعد وفاة والده فظهرت بها فضائله فولاه سلطانها قضاء بلده حلب سنة 778 فلبث بها حيناً يتقلب بين الولاية والعزل حتى فصله السلطان برقوق سنة 793 فعاد إلى القاهرة وأقام بها نحو ثلاث سنين، ثم توجه إلى بلده وشغل نفسه بالتأليف وإفادة العلم، ثم ولى قضاءها سنة 809، وبعد حوادث عاد إلى القاهرة معزولاً عن عمله فولى بها عدة وظائف في التدريس، ثم عاد إلى وطنه حلب فتوفى بها في شهر ربيع الآخر سنة 815 وكان نابغة في علوم اللغة والدين والأدب والتاريخ، وله مؤلفات مفيدة ذكر منها في كشف الظنون كتاب (أوضح الدلائل والأبحاث فيما تحل به المطلقة بالثلاث) و (روض المناظر
في علم الأوائل والأواخر) انتهى فيه إلى سنة 806؛ وبدار الكتب المصرية نسخة منه مخطوطة في مجلد فرغ كاتبها منها آخر شوال سنة 1297هـ نقلها عن النسخة الخطية بخط أبى الحسن علي بن حسن بن علي ابن احمد السروي الأزهري، انتهى من كتابتها في شهر شعبان سنة 873 وهي منقولة عن نسخة بخط القاضي محب الدين أبي الفضل محمد بن محمد بن محمد بن محمود بن الشحنة ولد المؤلف، أتمها كتابة في شهر رمضان من سنة 825
وكان عاقلاً ذكياً دمث الأخلاق، حلو النادرة، لطيف المحاضرة، قوى البديهة. قال المقريزي: ولقد قام مقاماً عجز أقرانه عنه، وتعجب أهل زمانه منه، وذلك أن الطاغية تيمورلنك لما استولى على مدينة حلب 803 وتسلم قلعتها بالأمان بعد أن استحرَّ القتل والأسر في أهليها، صعد إليها وجلس في إيوانها وطلب القضاة والعلماء لملاقاته فامتثلوا أمره. وكان من عادته أنه إذا فتح مدينة يعقد مجلساً لمناظرة علمائه وإعناتهم، وكأنه يريد أن يريهم أنه على حق في عمله، ويصبغ فظائعه المروعة صبغة شرعية. واتفق هؤلاء العلماء فيما بينهم أن يتولى القاضي ابن الشحنة الإجابة عن الأسئلة التي يوجهها تيمور إليهم ثقة بحذقه وحسن تصرفه. وكان للطاغية إمام من جلَّة المعتزلة هو القاضي عبد الجبار بن عبد الله الخوارزمي الحنفي ولد سنة 770 وتوفي سنة 805 وكان عالماً قديراً بارعاً متقناً لعلوم الدين واللغة والأدب، يجيد اللغات العربية والفارسية والتركية، وكان ذا ثروة طائلة وجاه عظيم ومنزلة رفيعة لدى تيمورلنك حتى انتهت إليه الرياسة في أصحابه. وكان يصحبه معه في غزواته لمناقشة العلماء ومناظرتهم وليكون حلقة اتصال بالترجمة بينه وبينهم. وقد كان القاضي عبد الجبار رحمة للمسلمين، طالما أنقذهم من غضب الطاغية وسخطه، وأطفأ عنهم نار ثورته وحدته. وكان ربما تبرم من صحبة تيمورلنك في نفسه ولكن لا يسعه مخالفته مع ما يرجو في ذلك من ثواب نفعه للناس لدى هذا الطاغية وكف شره عنهم.
عقد تيمور المجلس وأخذ يوجه إلى العلماء الأسئلة بوساطة إمامه، وابن الشحنة يجيب عنها بلباقة، فكان من ضمن هذه الأسئلة أن قال لهم: أي الطائفتين من القتلى هو الشهيد، أمن قتل منكم أم من قتل منا؟ وقد كان هذا السؤال محرجاً لولا مهارة القاضي ابن الشحنة؛ فقد
أجاب قائلاً: لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك فأجاب: فإنه وفد إليه أعرابي وسأله: يا رسول الله، إن الرجل ليقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، فأينا في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الشهيد في سبيل الله. . . فراق تيمورلنك هذا الجواب وأحسن إلى ابن الشحنة، وأعجب بدهائه وحسن تخلصه ولطف احتياله وسرعة بديهته، وجعل يؤانس العلماء ويلاطفهم، ووعدهم العفو عنهم حتى أفرخ روعهم؛ وأقبلوا يجيبون على أسئلة تيمور بما عندهم، وكان آخر ما سألهم عنه أن قال: ما تقولون في علي ومعاوية ويزيد؟ وما الحكم في قتال علي ومعاوية؟ وهل يجوز لعن معاوية وابنه؟ فأجاب القاضي علم الدين القفصي: محمد بن ناصر الدين محمد بن محمد الدمشقي قائلاً: إن علياًّ اجتهد وأصاب فله أجران، ومعاوية اجتهد وأخطأ فله أجر واحد. فغاظ ذلك الجواب تيمورلنك وأهان العلماء وسبَّ أهل حلب، ورماهم بأنهم يزيدّيون يبغضون أهل البيت وشيعتهم، فتدارك ابن الشحنة الأمر بلطفه وقال: إن القاضي علم الدين أجاب بما وجده في كتاب لم يمعن في معناه والغرض منه. فأعجب ذلك الطاغية، وسكت عنه الغضب. وأجاب القاضي شرف الدين موسى ابن محمد بن محمد قاضي حلب المتوفى سنة 803 بأن معاوية لا يجوز لعنه لأنه صحابي؛ فثار الطاغية وسب العلماء، ولولا أن القاضي شفع ذلك بقوله: إنه رأى حاشية على بعض الكتب بأنه يجوز لعن يزيد، ولولا أن الطاغية كان قد وعد بالعفو، ولولا حسن وساطة القاضي ابن الشحنة، للاقى العلماء يومئذ من تيمور شراً مستطيراً
هذا، ولابن الشحنة نثر ونظم ليس عالي الطبقة، بل هو كشعر الكثير من أبناء عصره
ومن ذلك قوله:
كنت بخفض العيش في رفعة
…
معتدل القامة ظلي ظليل
فاحدودب الظهر وها أضلعي
…
تعدّ والأعين مني تسيل
ومنه:
ساقي المدام دع المدام فكل ما
…
في الكأس من وصف المدامة فيكا
فعل المدام ولونها ومذاقها
…
في مقلتيك ووجنتيك وفيكا
ومنه:
أَسير بالجرعا أسيراً ومِن
…
هَمّىَ لا أعرف كيف الطريق
في منحنى الأضلع وادي الغضا
…
وفوق سفح الخد وادي العقيق
هذا وقد كان أبو الوليد بن الشحنة ممدَّحا. وممن مدحه الجمال عبد الله بن محمد بن زريق المعري ثم الحلبي. ولد سنة 775 بالمعرة ونشأ بها ثم قدم مدينة حلب فاشتغل بها وتوفى سنة 827 وكان فاضلاً أديباً ناظماً ناثراً محسناً. . . قال فيه قصيدة مطلعها:
لم أدر أن ظُبَى الألحاظ والهدب
…
أمضى من الهندوانيات والقضب
3 -
وأبو الوليد هذا كان يكنى بابن له اسمه الوليد كان آية في الذكاء أديباً ناظماً ناثراً. توفى شاباً في حياة أبيه حوالي سنة 804هـ
4 -
وأخوه فتح الدين عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمود ولد سنة 753 بحلب ونشأ بها. وأخذ عن أبيه أخيه وغيرهما. وقدم القاهرة غير مرة. وناب عن أخيه في قضاء الحنفية بحلب وكان ذا حشمة ومروءة وعناية بالأدب. وله نظم قليل منه:
يا سادتي رقّوا لرقّة نازح
…
لفظته أيدي البعد عن أوطانه
والله ما جلتم بخاطر عبدكم
…
إلا وفاض الدمع من أجفانه
(يتبع)
أحمد يوسف نجاتي
الأستاذ بكلية اللغة العربية
3 - ابن خُرداذَبهَ
للأستاذ كوركيس عواد
لقد تطرق غير واحد من الكتبة والمؤلفين الأقدمين إلى ذكر هذا الكتاب، والكشف عن محاسنه ومساوئه. من ذلك ما حكاه المسعودي بشأنه، نورده هنا استتماماً للموضوع، وإظهاراً لرأي مؤرخ وبلدانيّ جليل، ارتآه في كتاب ثمين تتداوله الأيدي في يومنا. قال المسعودي:
(وقد ذكر عُبيْد الله بن خرداذبه، في كتابه المترجم بالمسالك والممالك، أن الطريق من موضع كذا إلى كذا مقدار كذا من المسافة، ولم يخبر من الملوك والممالك، ولا فائدة في معرفة المسافات والطريق، إذ كان ذلك من عمل الفتوح وحمال الخرائط والكتب. وذكر أيضاً أن خراج طساسيج العراق كذا وكذا من المال، وهذا ما ينخفض ويرتفع ويقل ويكثر على حسب الأحوال وتصرف الأزمان، وإن جبل العَرْج الذي بين مكة والمدينة متصل ببلاد الشام، إلا أن وصله بالجبل الأقرع من بلاد إنطاكية وإن ذلك متصل بجبل الآكام هذا عجيب من قوله، أما تراه علّم أنّ أجزاء الأرض مماسة بعضها لبعض، متصلة غير منفصلة ولا متباينة مما بين بعضها ببعض إلا أن الأرض ذات وهاد وأنجاد وحدب. على أنه أحسن كتاب في هذا المعنى) أهـ. أو قوله الآخر في هذا الكتاب:
(ومن كتبه النفيسة، كتابه في المسالك والممالك، وغير ذلك مما إذا طلبته وجدته، وإن تفقدته حمدته)
أو قوله الثالث في هذا السفر عينه:
(. . . وقد صنف أحمد بن الطيب السرخسي، صاحب يعقوب بن إسحاق الكندي، كتاباً حسناً في المسالك والممالك والبحار والأنهار وأخبار البلدان وغيرها؛ وكذلك أبو عبد الله محمد بن أحمد الجيهاني، وزير نصر بن أحمد بن إسماعيل بن احمد ابن أسد صاحب خراسان، ألَّف كتاباً في صفة العالم وأخباره، وما فيه من العجائب والمدن والأمصار والبحار والأنهار والأمم ومساكنهم، وغير ذلك من الأخبار العجيبة والقصص الظريفة؛ وأبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه في كتابه المعروف بالمسالك والممالك، وهو أعم هذه الكتب شهرة في خواص الناس وعوامهم في وقتنا هذا)
وقد أشار ابن حوقل إلى هذا الكتاب إشارة خفيفة بقوله:
(ولا يقارب هذا التأليف عنده (عند قارئ الكتاب أو الناظر فيه. والكلام هنا على كتاب صورة الأرض) كتاب الجيهاني ولا يوافق رسم ابن خرَّاداذَبه. . .)
ولابن حوقل كلمة ثانية بشأن هذا الكتاب، إلى القارئ نصها:(وكان لا يفارقني كتاب ابن خرداذبة وكان الجيهاني وتذكرة أبي الفرج قدامة بن جعفر. وإذا الكتابان الأولان قد لزمني أن أستغفر الله من حملهما واشتغالي بهما عن ما يلزمني من توخي العلوم النافعة والسنن الواجبة. . .)!
ومن الآراء الطريفة التي وقفنا عليها بصدد هذا الكتاب، ما حكاه البشاري المقدسي بقوله، وهو رأي تفرد به:(ومن مفاخر كتابنا (يعني كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) الإعراض عما ذكره غيرنا، وأوحش شيء في كتبهم ضد ما ذكرنا. ألا ترى أنك إذا نظرت في كتاب الجيهاني وجدته قد احتوى على جميع أصل ابن خرداذبة وبناه عليه، وإذا نظرت في كتاب ابن الفقيه، فكأنما أنت ناظر في كتاب الجاحظ والزيج الأعظم، وإذا نظرت في كتابنا وجدته نسيج وحده يتيماً في نظمه)
وكذلك ما ندد به البشاري المقدسي، حين قال:
(. . . وأما الجاحظ وابن خرداذبة، فإن كتابيهما (في المسالك والممالك) مختصران جداً لا يحصل منهما كثير فائدة. . .)
ومع ذلك، وجدنا المقدسي، ينقل غير مرة من كتاب ابن خرداذبة.
ولم يكن المقدسي الوحيد بين الكتبة الأقدمين الذين عرفوا كتاب المسالك والممالك ونقلوا عنه نقولاً مختلفة، بل هناك جماعة فعلوا فعله، نذكر منهم: ابن رسته، وابن الفقيه المهذاني، والمسعودي، وأبا الريحان البيروني، وياقوتاً الحموي، والشريف الإدريسي، والمقريزي، والقلقشندي.
أما ابن خرداذبة نفسه، فقد وجدناه ينقل أحاديث عن بعض معاصريه من ذلك قوله (المسالك والممالك ص 48)؛ وخبرني الفضل ابن مروان، والفضل هذا رجل من أهل البردان بالعراق استكتبه المعتصم وبلغ مقاماً رفيعاً في الدولة، ثم تقلبت به الأحوال بين صعود وهبوط، فذكر الطبري أن المعتصم غضب عليه سنة 220 وحبسه، ثم ذكر أن المتوكل
عزله سنة 234 عن ديوان الخراج، وحكى في مكان آخر أن المستعين عزله سنة 249هـ عن ديوان الخراج
ومما أشار إليه ابن خرداذبة في نقوله هذه العبارة ص 106: فحدثني محمد بن موسى، وعبارته ص 114، وحدثني أبو بكر بن عمر القرشي وعبد الله بن أبي طالب القرشي من كورة تونس بالمغرب قالا. وقوله ص 162 - 170 فحدثني سلام الترجمان، وقوله ص 180 - 181 وحدث أبو الفضل رائض بن الحارث بن أسد، وقد ذكر الطبري أباه الحارث بن أسد في غير موضع من تاريخه وقد يعمد ابن خرداذبة أحياناً إلى إغفال من ينقل عنهم والاكتفاء بالقول ص 178: وحدثني بعض من أثق به، أو ص 181 وحدثني محدث أنه. . .
والآن بعد أن أطلنا الكلام على كتاب المسالك والممالك، نعود إلى بقية مؤلفات ابن خرداذبة
4 -
كتاب الطبيخ
5 -
كتاب اللهو والملاهي في خزانة الأستاذ حبيب زيات مخطوط عنوانه (مختار من كتاب اللهو والملاهي لابن خرداذبة) ولا ندري ما إذا كان هذا (المختار) للمؤلف نفسه، أم أنه لشخص آخر. وليت صاحب المخطوط، وهو الباحث الكبير المعروف بسعة اطلاعه وبُعد تحقيقه، يعني بنشره، فيضيف بذلك مأثرة جديدة إلى مآثره العلمية الجمة
6 -
كتاب الشراب
7 -
كتاب الأنواء
8 -
كتاب الندماء والجلساء
والغريب أنّ هذه المصنّفات الثمانية باستثناء المسالك والممالك لم نقف البتة على ذكر لها، في ما سوى الفهرست لابن النديم. وهذا كشف الظنون للحاج خليفة، وهو من أوسع المراجع التي تَقِفُنَا على الكتب، لم يتطرق إلى تسمية شيء منها، اللهم إلا المسالك والممالك، وما قاله فيه لا يتعدى كونه رأياً منقولاً عمن سبقه، كما أسلفنا القول في ذلك في موطن آخر من بحثنا
هذا ونحن على يقين من أن لابن خرداذبة تصانيف أخرى، الثمانية المشار إليها أعلاه. فقد أورد المسعودي مقالة ابن خرداذبة في (الموسيقى)، وهي التي قالها بحضرة الخليفة المعتمد
فهل تكون هذه (المقالة الموسيقية) فصلاً أو قطعة من أحد الكتب التي ألمعنا إليها، أم أنها شيءٌ قائم بذاته فات ابن النديم ذكره، فكان نصيبه الخلود على يدي المسعودي؟؟
وقد أثنى المسعودي ثناءً عاطراً على (تاريخ) ابن خرداذبة الذي لا ذِكْرَ له بين الكتب والمنوّه بها آنفاً. وهذا قوله بالحرف الواحد:
(. . . وعبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه؛ فإنه كان إماماً في التأليف، متبرّعاً في ملاحة التصنيف، اتّبعه من هذه طريقته وأخذ منه ووطئ على عقبه وقفي أثره. وإذا أردت أن تعلم صحة ذلك فانظر إلى كتابه الكبير في التاريخ؛ فإنه أجمع هذه الكتب جداً، وأبرعها نظماً، وأكثرها علماً، وأحوى لأخبار الأمم وملوكها وسيرها من الأعاجم وغيرها. . .)
وهي لنعم الشهادة يُصدرها مؤرخ جليل ثَبْت كالمسعودي!
وفي مكان آخر لمّح المسعودي إلى (تاريخ ابن خرداذبه). فقال بعد كلام نقلناه في مطاوي بحثنا ما هذا نصه:
(على أنه - أي كتاب المسالك والممالك - أحسن كتاب في هذا المعنى. وكذلك كتابه في التاريخ وما كان من ذكر الأمم الماضية قبل مجيء الإسلام. . .)
(البقية في العدد القادم)
كوركيس عواد
29 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل التاسع - اللغة والأدب والعلوم
تتألف السنة الهجرية من أثني عشر شهرا قمريا، ويتأخر التقويم القمري عن التقويم الشمسي سنة في كل ثلاث وثلاثين سنة ونصف تقريباً، ولذلك لا يستعمل هذا التقويم إلا في تحديد الأعياد الدينية والمواسم السنوية؛ فلا يستعمل في حساب الفلك ولا في تحديد الفصول. وإنما يستخدم فيها التقويم القبطي.
وقد ذكرت فيما يلي الشهور القبطية بأسمائها الحديثة مع ما يقابلها من التقويم الميلادي
توت ويبدأ في العاشر أو الحادي عشر من سبتمبر
بابة ويبدأ في العاشر أو الحادي عشر من أكتوبر
هاتور ويبدأ في التاسع أو العاشر من نوفمبر
كيهك ويبدأ في التاسع أو العاشر من ديسمبر
طوبة ويبدأ في الثامن أو التاسع من يناير
أمشير ويبدأ في السابع أو الثامن من فبراير
برمهات ويبدأ في التاسع من مارس
برمودة ويبدأ في الثامن من إبريل
بشنس ويبدأ في الثامن من مايو
بؤونة ويبدأ في السابع من يونيو
أبيب ويبدأ في السابع من يوليو
مسري ويبدأ في السابع من أغسطس
ويلحق بالسنة القبطية خمسة أيام أو ستة تسمى أيام النسيء
والشهر القبطي ثلاثون يوماً، ويضاف إلى كل سنة من السنوات الثلاث المتعالية خمسة أيام، وإلى السنة الرابعة ستة أيام. والسنة القبطية الكبيسة تليها مباشرة سنة ميلادية كبيسة. فالسنة القبطية تبدأ في الحادي عشر من سبتمبر فقط عندما يسبق هذا الشهر سنة قبطية كبيسة أو تلحقه سنة ميلادية كبيسة. ولذلك تتشابه الأيام المتقابلة في التقويمين القبطي والميلادي بعد شهر فبراير التالي. ويبدأ القبط تأريخهم من عصر دقلديانوس سنة 284م
ويقسم المصريون المحدثون السنة إلى ثلاثة فصول كما كان يقسمها أسلافهم وهي: الشتاء والصيف والنيل. ويستعمل الفلكيون تقويم الأبراج القمرية التي اعتاد أهل الجزيرة العربية تنظيم شؤونهم المتعلقة بالفصول عليها
ويبدأ الوقت المدني في مصر وغيرها من البلدان الإسلامية من غروب الشمس إلى الغروب التالي، فيحسب الليل السابق مع النهار التالي، وتسمى الليلة السابقة ليوم الجمعة مثلاً ليلة الجمعة ويوافق غروب الشمس الساعة الثانية عشرة، فتكون الساعة واحدة بعد غروب الشمس بساعة، والساعة الثانية بعده بساعتين، وعلى هذا المنوال يحسب الوقت حتى الثانية عشرة. وبعد الثانية عشرة صباحاً تبدأ الساعة واحدة مرة أخرى، ثم الساعة الثانية وهكذا. ويملأ المصريون ساعاتهم ويضبطونها عند الغروب عندما يسمعون آذان المغرب على العموم، وتضطرهم طريقة حسابهم الو من الغروب، إلى ضبط ساعاتهم كل مساء، إذ أن الأيام تختلف طولاً وقصراً
ويبين الجدول الآتي أوقات الصلاة عند المسلمين مع ما يقابلها من الوقت الأوربي الظاهر عند الغروب على خط عرض القاهرة في بدء كل منطقة من مناطق البروج
غروب
عشاء
فجر
ظهر
عصر
إسلامي
س ق
أوربي
سق
إسلامي
س ق
إسلامي
س ق
إسلامي
س ق
إسلامي
س ق
يونيو 21
1200
74
134
8 6
456
831
يوليو 22 مايو 21
1200
6 53
130
830
57
843
أغسطس 23 إبريل20
1200
6 31
122
924
529
9 4
سبتمبر 23 مارس 20
1200
6 4
118
10 24
556
924
أكتوبر23 فبراير 18
1200
537
118
11 18
623
935
نوفمبر22 يناير20
1200
515
122
11 59
645
941
ديسمبر21
1200
5 4
124
12 15
656
943
يطبع في مطبعة الحكومة ببولاق تقويم صغير سنوي، ويشمل هذا التقويم السنة الشمسية منذ بدأ الاعتدال الربيعي إلى نهايته، وأيام الأسبوع والشهور الإسلامية والقبطية والسريانية والإفرنجية مع الإشارة إلى حركات الشمس في منطقة البروج وأوقات الشروق والظهر والعصر. ويصَّدر التقويم بنبذة في أهم المواسم والأعياد الإسلامية والقبطية وغيرهما وبعض الملاحظات والإرشادات المتعلقة بالفصول. ويلحق بالتقويم نتيجة طبية وزراعية لكل يوم من أيام السنة. ويشير التقويم إلى الخسوف والكسوف كما يشمل أموراً كثيرة تلائم خرافات الشعب وتتضمن آثاراً من التقويم المصري القديم. ويقوم بعمل هذا التقويم قسيس سوري مسيحي أعتنق الإسلام يسمى يحيى أفندي
وليس للمصريين معرفة بالجغرافيا إلا فئة قليلة أكثر ثقافة. ويكاد المصريون يجهلون موقع أكثر البلدان الأوربية الكبيرة جهلاً تاماً لعدم وجود الخرائط الجيدة. وقلما يجرؤ بعض المتعلمين منهم على إعلان كروية الأرض؛ إذ أن أكثر علمائهم على عكس هذا الرأي. والرأي السائد بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم أن الأرض مهاد يحيط به المحيط الذي يحده جبال (قاف) كما يزعمون. ويعتقد هؤلاء أن هذه الجبال هي ذروة الأرض السابعة، كما يعتقدون أن السموات سبع طبقات تعلو إحداها الأخرى
فإذا كان هذا هو حال العلم عند المصريين المحدثين، فلا يعجب القارئ إذا وجد بعد هذا
الفصل فصلاً ضافياً يصف خرافاتهم. والإلمام بهذه الخرافات لازم ليتبين القارئ أخطاءها وليستطيع أن يفهم طباع المصريين. وإنا لنتوقع لهذا الشعب تقدماً عظيماً من الناحية الفكرية والأخلاقية باقتباس العلوم الأوربية في عهد محمد علي، ذلك الاقتباس الذي قوّم إلى حد ما سلطته الجائرة، ولكن ليس من المحتمل أن يتحقق هذا الرجاء قريباً على مدى واسع
عدلي طاهر نور
هي والربيع.
. .
العطر الأسير
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
يَا رَبِيعَ الْكَوْنِ مَا ذَنْبِي إذا قَلْبِي جَفَاكا؟
الْهَوَى لَمْ يَسْقِنِي إِلا خَرِيفاً مِنْ رُبَاكا
فَأَنَا أَوْرَاقُ دَوْحٍ ذَابِلَاتٌ في ثَرَاكا
وَأَنَا آهَاتُ طَيْرٍ مُسْتَضَامٍ في ذُرَاكا
وَأَنَا عِطرٌ أَسِيرٌ يَسْأَلُ اللهَ الْفَكَاكا
أَطْلقِينِي أَنْتِ. . . إِني كِدْتُ أَسْتَافُ الْهَلَاكا!
أَطْلِقِينِي وَاسْبَحِي مَا شِئْتِ فِي الدُنْيَا بِفُلْكِي
لَا تَخَافِي الْغَيْبَ، إِن الْغَيْبَ سِرٌّ شَعَّ مِنْكِ
فَإِذَا جَاءَتْكِ أيَّامِيَ هَوْجَاءَ التَّشَكيِّ
أَحْرِقِي فِي لَهَبِ النَّشْوَةِ إِيمَانِي وَشَكيِّ
وَانْسَخِينِي قُبْلَةً تَبْحَثُ فِي جَنْبَيْكِ عَنْكِ
جَذْوَةٌ أَنْتِ وَقَلْبِي حَطَبٌ لِلنَّارِ يَبْكِي. . .
مَا لِعَيْنَيْكِ وَضَوْءِ الْفَجْرِ نَاحا في خَيَالي!
أَأَنَا بَحْرٌ مِنَ اْلأَحْزَانِ نَشْوَانُ الضَّلالِ
كُلُّ مَنْ شَارَفَ مَوْجِي ذَابَ كالْوَهْمِ حِيَالي!
أَمْ أَنَا كالْحَبَب الْمَشْدُوهِ في كَأْسِ اللَّيَالي
زَالَ كَوْنِي وَتَلَاشَى كُلُّ شَيْءٍ في ظِلَالي
غَيْرَ طَيْفٍ مِنْكِ مَحْزُونِ الْهَوَى بَاكِي الْجَماَلِ!!
محمود حسن إسماعيل
وجوه طريفة
للأستاذ سيد قطب
طالعيني في كل يوم بوجه
…
فلديك الوجوهُ شتى طريفهْ
وَافْجَئِينِي لديكِ باخطر المحبو
…
بِ يُجَدِّدْ حياتَنا المألوفه
بِتُّ أشتاقُهُ وأرقُبُ ماذا
…
يحملُ اليومُ من أمانٍ مَخُوفه!
كلُّ سَمْتٍ أراكِ فيهِ جميلٌ
…
كلُّ ظلٍّ أراكِ فيه شَفيفَه
أنتِ ما أنتِ؟ عالَمٌ مُترامٍ
…
أَبْدَعَ الفنُّ والمنَى تأليفه
أنت كُثْرٌ فَفِيكِ تَحْيَا طُيُوفٌ
…
كل طيفٍ له رُؤَاهُ المُطِيفَه
تارةً أنتِ حَرَّةُ أَصْطَلِيهاَ
…
وإذا أنتِ كالرِّياضِ الوريفه
وَتَلُوحِينَ قطعةً من حَنانٍ
…
وَتَلُوحِينَ بعد حِينٍ مُخِيفه!
وأرى فيكِ طفلةً لم تبارحْ
…
ملعبَ الطفلة اللَّعوبِ الخفيفه
وإذا أنتِ قَهْرَمَانَةُ دَهْرٍ
…
مُوغلٍ في المَسَارِبِ الملفوفه
وإذا ما انطويتِ أمسيتِ سِرًّا
…
صَانَهُ الدهرُ مُحْكِماً تَغْليفَه
وإذا ما انطلقت مثلَ شُعَاعٍ
…
كنتِ رَقْرَاقَةً وكنتِ لطيفه
لكِ طعمٌ أذوقُهُ بل طُعُومٌ
…
كُلُهاَ نَاضِجٌ هَوِيتُ قُطُوفَهْ
هُوَ طَعْمُ الحياةِ في فورةِ النُضْجِ
…
شَهِيُّ الْجَنَي خبرتُ صُنُوفهْ
(حلوان)
سيد قطب
البريد الأدبي
التشريع الإسلامي الدائم والمؤقت
كتب صديقي الأستاذ الجليل الشيخ محمود شلتوت مقالاً في عدد الرسالة الممتاز تحت هذا العنوان (الهجرة وشخصيات الرسول) وليس المهم في هذا المقال تقسيم شخصيات الرسول، فذلك أمر يعرفه كل العلماء، وإنما المهم والجديد في هذا المقال ما جاء فيه من توزيع أحكام الشريعة الإسلامية على تلك الشخصيات، ومن جعل التشريع الدائم والمؤقت تابعاً لهذه الاعتبارات، وهذا أمر جديد لم يظهر إلا في عصرنا. وإذا أمكن الاتفاق عليه بيننا أمكن حل مشاكلنا التشريعية، وزالت أكبر عقبة في سبيل وضع تشريع إسلامي يفي بحاجات المسلمين في هذا العصر، ولا يمكن أحداً أن يوجه إليه أي طعن.
وخلاصة ما يرمي إليه هذا المقال أن الذي يعد شرعاً دائماً هو ما يرجع إلى شخصية الرسول من العقائد وأصول الأخلاق والعبادات، وما عدا ذلك مما يرجع إلى شخصية الإمام أو المفتي أو القاضي فليس بشرع دائم، وإنما هو شرع مؤقت يمكن أن يتأثر بالاجتهاد، وأن يترك العمل به لسبب من الأسباب. على أن لي فيه رأياً آخر لا أبديه الآن، لأنا نريد الإصلاح من أي سبيل ينتهي بنا إليه، ويحقق رغبتنا في رفع شأن هذه الشريعة الغراء.
(عالم)
أين علقمة وعبيد بين شعراء الجاهليين
أراد الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في مقال له عن الشعر الجاهلي (بالعدد 454 من الرسالة)، أن يدحض آراء بعض أدبائنا المعاصرين ممن يشكُّون في نسبة هذا الشعر إلى أصحابه؛ ويزعمون أن بلوغه هذا الحد من الكمال والإتقان مما يخالف سنّة النشوء والارتقاء
وقد رأى - في صدد ذلك - أن يثبت وجود نوع من الشعر السقيم المختل الأوزان، يعتدُّه الخطوة أو الخطوات الأولى التي مهدت السبيل إلى ظهور هذا الشعر القوي الناضج الذي انتهى إلينا من أدب الجاهليين. ووقع اختياره على عبيد بن الأبرص كنموذج للشعراء المتخلفين، أو أصحاب الفطر السقيمة ممن سبقوا بوجودهم أرباب الشعر الرصين، وضرب
المثل في ذلك ببائيته المشهورة - أقفر من أهله ملْحوبُ - فأورد عدةً من أبياتها ثم قال: (والحق عندي أن هذه القصيدة تمثل أولية الشعر العربي خير تمثيل. . . وأن عبيداً في هذا يمثل بين شعراء عصره حال الشاعر المتخلف، لأنه لم يتهيأ له من أسباب النهوض ما تهيأ لهم. . .)
وعجيبٌ حقاً أن نهبط بابن الأبرص إلى هذا الدرك الأسفل من منازل الشعراء، وهو أحد العشرة الذين وقع الإجماع قديماً على تفضيلهم؛ ولا تعد بائيته هذه عاشرة القصائد المأثورة فحسب؛ بل يضعها بعض النقاَّد بين السبعة الأولى منها، وهي المعروفة بالمعلقات. ومن هؤلاء ابن قتيبة صاحب كتاب (الشعر والشعراء)
وينفي تهمة التخلف عن عبيد أن جميع شعره - عدا هذه القصيدة - يجري على الأوزان المعروفة في قوة وجزالة تنهضان به إلى مصافّ كبار الشعراء من معاصريه؛ فهو القائل في الافتخار بمكارم خلُقه:
لعمُرك ما يخشى الجليس تفحَّشي
…
عليه ولا أنأى على المتودِّد
ولا أبتغي ودَّ امرئ قل خيرهُ
…
ولا أنا عن وصْلِ الصديق بأحْيَد
وقد سجل له صاحب (البيان والتبيين) قصيدة كريمة اللفظ والمعنى يقول في مطلعها:
تلك عِرسي غضبي تريد زِيالي
…
ألبَيْنٍ تريد أم لدلال؟
إن يكن طبّك الفراق فلا أح
…
فِل أن تعطفي صدور الجِمال
ومما أورده له صاحب الأمالي قوله من قصيدة:
يا من لبرقٍ أبيتُ الليلَ أرقبه
…
في عارضٍ كمضيء الصبح لمّاح
دان مسفٍّ فويق الأرض هيدبه
…
يكاد يدفعه من قام بالراح
وأورد الخطيب التبريزي في كتابه (شرح القصائد العشرة) - عند تعرضه لذكر عبيد - أن سعيد بن العاص سأل الحطيئة: من أشعر الناس؟ قال الذي يقول:
أَفلِحْ بما شئتَ فقد يُبلَغ بالضعفِ وقد يخدع الأريب!
. . . فشاعر هذا شأنه، وتلك منزلته عند النقاد والشعراء، لا ينبغي أن يوصف بالتخلف، أو ينسب إلى الجهل بإقامة الأوزان على نهجها الصحيح. وإنما الأقرب إلى الصواب - وذلك رأي خاص نتقدم به - أن تكون هذه البائية إنما جاءت على وزن أو أوزان هجرتها
العرب في أواخر جاهليتها. والأوزان كانت - وما تزال - في تطور مستمر؛ ونحن لا نستسيغ منها إلا ما ألفناه وأكثر الشعراء من القول فيه. وإلا فمن منا يستسيغ هذا الوزن مثلاً، وهي لابن تقي من وشاحي الأندلس:
يا ويح صبٍّ إلى البرقِ له نظرُ
…
وفي البكاء مع الورْق له وظرُ
أو من منا يستسيغ قول (المهر بن الفرس) وهو من شعراء الموشحات في غرناطة:
لله ما كان من يوم بهيجٍ
…
بنهر حْمص على تلك المروج
ثم انعطفنا على فم الخليج
…
نفض مسك الختام. . .
ونعود فنقول: إنه لو كانت بائية عبيد نموذجاً للاختلال كما وصفت، لكان للقدماء عن اختيارها مندوحة. وفي أشعار عبيد مما استقام وصحت طريقته ما يغنى عنها ويجزيء، وجميع شعره من هذا النوع كما ذكرنا. والبيت الوحيد الذي أورده الأستاذ - من غير القصيدة البائية - وجعله دليلاً جديداً على قصور الشاعر، هو بيت صحيح الوزن كما سجلته كتب الأدب. وإنما أخل الأستاذ بوزنه حين حذف (التفعيلية) الأولى منه:(وقالوا) - ولعل ذلك سهو منه غير مقصود. وصحة البيت نقلاً عن حياة الحيوان للدميري (باب الذئب):
(وقالوا) هي الخمر تكنى الطلا
…
كما الذئب يكنى أبا جعدة
هذا عن عبيد. . . أما علقمة الفحل فلا يقل عن صاحبه شأناً؛ وما احتججنا به للأول نحتج به للثاني، ثم نزيد عليه أن قصة تلقيب علقمة بالفحل - وهي مشهورة متداولة في كتب الأدب - تعدُّ الدليل الأقوى على تبريزه في الشعر؛ حيث يشيرون فيها إلى أنه احتكم مع امرئ القيس إلى امرأته (أم جندب) وأنشدها كل منهما لنفسه شعراً، فحكمت لعلقمة على زوجها. حتى قال امرؤ القيس: ما علقمة بأشعر مني ولكنك له وامق. ثم طلقها فخلفه عليها علقمة؛ وسمي بذلك (الفحل)
إلى هنا أقف الحديث. . . ولعل الأستاذ الفاضل يهتدي إلى (الحلقة المفقودة) من الشعر الجاهلي، في أقوال شعراء آخرين غير عبيد وعلقمة؛ والله أسأل أن يوفقنا وإياه
(جرجا)
محمود عزت عرفه
اقتراح
أرى من واجبي الآن - وقد فرغتم من نشر اللائحة القيمة التي أعدها الأديب (كوركيس عواد) وضمنها ما استطاع الوصول إليه من المؤلفات العربية التي نشرت سنة 1940، البالغ عددها 39 كتابا ً - أن أشكر للأديب الفاضل هذه العناية الفائقة، ولمجلتكم الغراء نهجها القويم وحرصها على التراث العربي المجيد
إني أرى أن النهضة الثقافية الأدبية، القائمة في هذا الوطن العربي تستند إلى عوامل منها بعث هذا التراث، واقتباس الملائم النافع من أدب الغرب وثقافته، ثم توليد شيء جديد. ولكن ما هدف هذا البعث وما فائدته، إذا لم تصل الكتب إلى أيدي القارئين؟ وأنى لها أن تصل وهم يجهلون أنها أصبحت ميسورة؟ أما الكتب المدرسية والمترجمة من قصص وغيره، فينتشر خبرها حالما تطبع وأحياناً قبل ذلك، وخاصة إذا تولت طبعها دار للنشر تتبع أساليب الإعلان الحديثة، أو كان مؤلفوها من مهرة التجار
ولذلك كان لا بد أن تتولى إحدى المؤسسات الثقافية في العالم العربي إعداد ثبت سنوي بكافة ما تخرجه المطبعة العربية في سائر الأقطار. ومما يسهل هذه المهمة أن كل من ينشر كتاباً في أي قطر مكلف بتقديم نسخة واحدة منه أو أكثر إلى المرجع الرسمي المختص بذلك. وأظن أن دار الكتب المصرية هي هذا المرجع في القطر المصري، وأعرف أن دائرة المعارف تمارس هذا الحق في فلسطين
ولما كانت مصر تنتج من الكتب أكثر من غيرها بكثير، فإن دار الكتب المصرية، تسدي إلى نهضتنا المباركة جميلاً تحمد عليه، إذا هي اتصلت بالمؤسسات التي تمارس هذا الحق في سائر الأقطار العربية وغيرها (فيما يتصل بالمطبوعات العربية)، فحصلت على لوائح الكتب التي تصلها، ثم جمعتها وصنفتها ونشرتها وسدت هذه الثلمة في الأساس، وأنارت السبيل للقارئين.
(القدس)
عصام الشريف
نظرة في ديوان الشبيبي
وقع في كلمتي عن ديوان الشبيبي أغلاط مطبعية أرجو أن يكون كثير من القراء قد أدركوا صوابها. وهي:
1 -
ولكن كان كل بيت تقع العين عليه يذكر بأن بيت الشبيبي. والصواب: يذكر بأنه. . . الخ
2 -
ببغداد أشتاق العراق وهأنا=إلى الكرخ من بغداد جم التشوق
والصواب: أشتاق الشام
3 -
وطموحاً إلى ما يبقى له من العزة والسؤدد.
والصواب: ما ينبغي له
4 -
ثم الأبيات الثلاثة:
نظرت بني الدنيا فأصررت أنها
…
على الشر لا تنفك تجري النحائت. الخ
هذه الأبيات قد وضعت في غير موضعها. وضعت في الكلام على حب الشاعر العراق، وموضعها في الكلام على نظرات الشبيبي في الحياة
عبد الوهاب عزام
وفاة فيكتور مرجريت
توفي الكاتب الروائي الفرنسي المعروف فيكتور مارجريت في بلدة مونيستييه قرب فيشي وهو في الخامسة والسبعين من عمره. وقد ولد في الجزائر سنة 1866. وانتخب في سنة 1906 رئيسا لجماعة رجال القلم وعين في سنة 1914 رئيسا لجمعية فيكتور هوجو، وكان في أثناء الحرب العظمى ضابطا في هيئة أركان الحرب، وأسس جريدة (أنفورماسيون أونيفرسال)
وقد لفتت مؤلفات فيكتور مارجريت عند أول ظهورها نظر البيئات الأدبية الفرنسية لأسلوبها الواقعي الصريح، حتى أنه جرد من وسام (الليجون دونور) عندما نشر كتابه المعروف (لاجرسون) في 1922، ومن مؤلفاته المشهورة:(البغي)، و (فتيات)، و (حدود القلب)، و (الرفيق)، و (جسمك لك)، و (الماشية البشرية)، و (نشيد الراعي)، و (صوت مصر)، وغيرها
بين البشر وتيمور
الدكتور بشر فارس كاتب منِّمِق وأديب ضليع، لا تعدم في أسلوبه آبدةً من أوابد اللغة كانت هائمة في المعاجم والأضابير قد أتى بها الدكتور مقيدة مكبلة، فلولا القيد الذي به كُبّلت، والوثائق الذي إليه شُدت، لنفرت شاردة وعادت كما كانت
والمعنى يتناوله الدكتور من جعبته، ثم ينفضه أمامك فجأة فيدهشك تكويره وتحويره وتعجبك طرافته، فهو يتهيأ لعمله الأدبي كما يتهيأ القناصون للخروج للصيد في أحراش أفريقيا، أو طالب الحوت في بحار القطب، فلهم لباسهم الخاص وسلاحهم وعدته وعتادهم، وكلما كانت الرحلة شاقة مضنية كانت الغنائم أعجب وأغرب. وكم في أسلوب الدكتور من طرف هي للقاعدين غرائب!
وهو حين يكتب في الفن ينقاد لملكته بعد أن يكون قد هيأ لها الجو على النمط الذي هفا إليه مزاجه كمن يريد ليلة حمراء فينسرب إلى الغرفة ذات اللون الأحمر والستائر القرمزية والضوء القاني الجريح! وأما حين يكتب في النقد والبحث فهو يحمل تحت إبطه نخبة ما خطه جهابذة الاستشراق (والدكتور بشر سريعهم) وكلما خط سطراً فتح من آثارهم سفراً يستلهم منه نصاً أو يطوف بنص، وقد تخلَّى عن نافذ بصره وصحصحان بصيرته، وألقى على وجهه بردة سوداء كتلك التي يصطنعها المصور حين يتملى آلته من الداخل ليخرج (العفريته) فأمامه (أي المصوِّر) الشيء مقلوباً، وهو يعلم أنه لكذلك ما دام مالكاً لحسه، أما إذا غفا أو سها فالمقلوب هو الأقوم!
ومن هنا جاءت نقدات الدكتور للأستاذ تيمور في مقتطف مارس 1942 وتقويمه لبعض عبارات عامية وردت في قصة المخبأ رقم 13 يقول الدكتور بشر عن قصة تيمور: (ومن الغريب في هذا الصدد أن يقول ماسح أحذية (صوت فأري) ص8 من القصة وأقرب إلى الدارج (صوت فيراني)، هكذا النسبة إلى الفأر عن السوقة). إلى هنا انتهى كلام الدكتور. ولا شك أن الناقد الفاضل كان يستلهم هنا نصاً لمستشرق جهبذ، فلو نظر بعينه هو وهي نفّاذة نقادة لعلم أن تيمور هو الأصدق والأقوم، (ولكن لعن الله بردة المصورِّ)، لأن المعنى هنا منسوب إلى الفقر لا إلى الفأر كما توهم الدكتور، ولم توجد قط السوقة التي تنسب النسبة التي يزعمها الناقد في مثل هذا الموضع، وإن كان وجودها لا يستبعد في مقبل
الأزمان!
ويقول الناقد في موضع آخر من المقال نفسه (ولربما أفلتت العامية من أنامله (أي أنامل تيمور) مثلاً (ساعتين وألا أكثر) وهو يريد ساعتين مش زيادة)، والحقيقة أن العامية هنا لم تفلت من أنامل تيمور، والعبارة مستقرة لا تحاول إفلاتاً كما تشهد بذلك العامة ذاتها، ولكن لم يرها الدكتور كذلك، لأنه كما قلنا استطلع بردة المصوِّر ثم سها. وليس معنا ردّنا أن قصة تيمور خالية من الشوائب ولكن الدكتور بشر قد طعن في غير مطعن
(القاهرة)
محمد فهمي
القصص
من قصص الرأي
عبادة. . .
للأستاذ محمد عنان
كل شيء كان يتعذب. . . الطيور في ظل الأغصان فاغرة أفواهها تلهث، والبهائم في مرابطها تتألم في استكانة وصمت، والزبد يتناثر من أشداقها في لهثات مطردة متقطعة، وأوراق الأشجار متراخية في ركود وإعياء، والحقل متمدد تحت لهب يوليو العنيف يتلوى ويرسل من جوفه أبخرة حارة تشارك السماء في لعنتها على قطيع القرويين الهزيل الجائع الذي كان يروي هذه الأرض بعصير حياته
كانت أبالسة الجحيم تملأ الحقل، والشمس في كبد السماء تصلي الأرض بكل ما فيها من قوة وما في عناصرها من آلام، والهواء يهب ساخناً كاوياً يشوي الحياة ويخنقها، ويدفع العرق غزيراً على الوجوه القروية الكالحة العابسة، والأبدان الفاترة الضامرة، ويطفئ من جذوة نشاط الحركة التي كانت تنتج ما كلفوا القيام به من عمل. وكانوا يجاهدون ويغالبون في صبر وجلد كحيوانات أضناها الجوع تحبو على بطونها إلى طعام بعيد
تحدثوا حتى فرغ كل ما في جعبتهم من حديث. . . اخترعوا حتى نضب خيالهم الجاف. وارتفعت عقيرة إحدى الفتيات بالغناء. . . ردده البعض وآثر الآخرون الوجوم. واشتد ضغط الحياة فتبدد الصوت. . . وانتشر على البوتقة الرهيبة صمت مروع كان فيه احتكاك العمال بالشجيرات هو الصوت الوحيد لعجلة العمل الغشوم وهي تدور في أبشع صورها وتحول في همجية وقسوة خبزاً جافاً إلى ذهب
واخترق الصمت الحزين صوت رفيع يصيح ولا نبرات له. ماء. . . ماء. . . إن حلقي يلتهب. وجاءت إحدى العاملات بالماء من أقرب المصارف آسنا ساخناً، فتجرعوه في نهم وعادوا يعملون كآلات في جمود ورباطة جأش
السماء والأرض، والهواء والماء، والطبيعة والإنسان، كل هذه الأشياء القوية الكبيرة تتآمر على هذا القطيع الهزيل المريض. إنها البربرية وسط هالة من نور!
قالت هذا فتاة في العشرين، لها لون القمح قبيل الحصاد، ورقة زهر القطن في الصباح الباكر، ورشاقة عود الذرة الناضج، وعذوبة ظل التوت في اليوم القائظ. . . ترتدي ملابس الركوب وتمتطي خيرة خيول القرية، وعلى رأسها قبعة واسعة تخفي قليلاً تاجاً ثميناً من الشعر الفاحم. تتأمل في إشفاق زمرة من الشباب والنساء والأطفال ينقون لطع دودة القطن في ركن قريب من أركان الحقل المترامي
كان يبدو عليها أنها ترى الحقل لأول مرة، لأنها ذعرت وهمت أن تناديهم بأن يكفوا عند ما سمعت بكاء خافتاً مجهداً لرضيع بالقرب منها في ظل مظلة من العشب كان في قفص من سعف النخيل مفروش بالقش يحرك يديه وساقيه في عصبية ويبكي.
اندفعت من فوق جوادها في جزع وقفزت في لهفة القناة التي كانت تفصلها عنه تدفعها في ثورة وجموح أسمى عواطف البشر
كان إنساناً ضئيلاً، باهتاً ضامراً، محتقناً في لون الأرض، تفوح من ملابسه الممزقة القذرة رائحة كريهة عفنة، وتغطي الأوساخ وجهه وشعره وأطرافه. وكان يبدو أنه بكى كثيراً حتى أنهكه البكاء
انحنت على الفراش في حنو بالغ كأم وحملته بين ساعديها ونفسها تذوب رفقاً وشفقة
همت بالغريزة أن تعطيه ثديها ولكنها تذكرت فانحنت عليه وقبلته.
ورأتها الأم فأسرعت خوفاً من أن يكون في وجوده ما يؤذي. وحارت الدموع في عينيها وهي تعدو توجساً من وقوع هم جديد. ولكن نظرة الفتاة الوديعة، ونومة الطفل الهادئة بين أحضانها رفعت قليلاً كابوس الشر الجاثم على صدرها
فاقتربت متهملة وقالت وهي تنحني مادة ذراعاً تأخذ بها الطفل والأخرى على ثديها محاولة في جهد أن تبتسم:
- العفو يا سيدتي! لسنا في هذا المقام
وتنبهت الفتاة إلى الأم وما هي عليه من إعياء فقاطعتها وهي تحتضنه وتبعده عكس اتجاهها:
- لا. لا. . . دعيه لي الآن. . . اجلسي. استريحي. لا ترضعيه. اتركيه لي. . . إن لبنك الآن في تسمم
فقاطعتها القروية في سذاجة وشفتاها الجافتان تنفرجان عن شبح ابتسامة تائهة:
- إنها طفلة. و. . . صمتت عند ما رأت صورة الهلع التي ارتسمت على وجه الفتاة وهي تعاود بسرعة النظر إلى الوجه الصغير الغارق في الأقذار والدموع
- آه. طفلة!. . . ما أقسى هذا؟ أهكذا تربي الأمهات؟ واستطردت هامسة وهي تمسح على جبين الطفلة بمنديلها الصغير وتزداد بها تعلقاً والتصاقاً:
لماذا أحضرتِها في هذا المكان؟ إنه يقتل فيها الإحساس بالعطف الأموي. إنه يصرع أنوثتها ويحولها إلى خانقة أطفال. ثم رفعت رأسها وسألتها في إشفاق وتأنيب:
- لماذا لم تتركيها في المنزل وتظلي في رعايتها؟
فأجابت القروية المشدوهة:
- كيف! والخبز يا سيدتي؟
- وزوجك؟ أليس لك زوج؟
- ولكن أجره لا يكفينا
فقالت الفتاة في حيرة:
- لكن. . .! يجب أن تفعلي شيئاً. . . أي شيء. . . ليكن مثلاً. . . كم يبلغ إيرادك؟
فخفضت المرأة رأسها في حزن. . . أحست بمزيج عجيب من السرور والألم يضطرب في قلبها القاتم، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تسمع فيها حديثاً يتعلق بحياتها إذا كان لها حياة بالمعنى المفهوم. . . واستيقظت أفكارها الراقدة المظلمة الراسبة في قرارها الحزين. . . وأخذت تصف للفتاة آلامها في نبرة خافتة محرومة من كل صفات الأنوثة والحيوية
أخبرتها أن القرية فئتان: عمال. . . وملاك. وأنها من الفئة الأولى التي تحيا تحت أقدام الأبقار وأطفالها يموتون جوعاً، وأن أجر زوجها يتراوح بين القرشين والثلاثة يومياً، وأنه يعمل ثلثي العام فقط ويقضي الباقي متعطلاً، وأن لها عدا الرضيعة طفلة في الخامسة ذهب الصديد ببصرها، وطفلاً في السابعة مريضاً لا يكف عنه المرض؛ استعرض في عمره الصغير آلام عدة أمراض لا يزال يعاني الآن بعضها؛ ومات لها عدا ذلك ثلاثة أطفال. ولد الأول ميتاً، وقضى الآخران في سن الرضاع. . . وقصت عليها بعض ما تعانيه في سبيل
التوفيق بين مطالب هذه الأسرة الكبيرة القابلة للتضخم وبين الأجر الذي تناله مقابل المجهود المزدوج. . . هذا عدا ما يصيبها من ألوان القسوة وضروب المعاملة السيئة من زوجها. إنها تدرك السبب. وتعرف أنه يثأر لشقائه منها. كما تفرج هي عن نفسها أحياناً بالدموع وأخرى بضرب أولادها. إن حياتها سلسلة طويلة ثقيلة شقية متشابهة الحلقات؛ وإن الرضيعة في قفصها المنكود أسعد حالاً منها؛ فأمامها وقت تستطيع أن تموت فيه طفلة. ثم غلبها التأثر فقالت والدموع تنهمر من مآقيها:
- ما أشد قسوة العيش يا سيدتي! على الأقل بالنسبة إلينا نحن الأمهات العاملات
أنصتت الفتاة إليها في ذهول وصمت. وعندما فاضت عينا القروية بالدموع أحست بجرح ساخن عميق يصيب كرامتها كامرأة. . . وكالنائمة. . . - وأوضاع الحياة تتمرغ أمام عينيها - نفحتها في خجل كل ما معها وعادت تسير بجوادها خبباً وكل ما حولها يتقلب ويلف في رأسها ويدور
وروعت القروية. كان مبلغاً جسيماً جداً باعتباره منحة؛ وأخذت تحدق في الفضة التي تغمر قبضتها في بلاهة وشك حتى أنها لم تجب زميلاتها في التو عندما سألنها في فضول وهن يمددن أعناقهم من بين الشجيرات. بل كشفت عن رأسها وصدرها في انفعال وعصبية ورفعت يديها ووجهها إلى السماء، وفي صوت حار متهدج يمتزج بعبارات تنبعث من مكان عميق في قلبها، عبرات لم تسقط من عينيها من قبل، أخذت تدعو للفتاة بطول العمر والستر وبلوغ المآرب وكل ما يملأ قلبها من أماني الخير
وسرى خبر المنحة في أنحاء الحقل سريان روح الربيع في العود الجاف، فأفاق من جموده قليلاً قليلاً، ونهض ينشد الابتسام في هذا النسيم الرقيق المليء بالحنان والعطف، ويصغي في شغف إلى موسيقى الحادث فتطربه، ويلعب كل على هذا الوتر الرقيق الرفيق ما في أمانيه وأحلامه من ألحان قصصية فطرية أضافت إلى الحقيقة سطوراً شعرية فاتنة
وحار سؤال على الأفواه: من تكون هذه المحسنة الصغيرة الجميلة؟
ولم تدم الحيرة طويلاً بفضل (معوّض الجمال)، وكان يتنقل بين الحقل والقرية ينقل محصول القمح إلى الجرن
أخبرهم وهو يتعالى على ظهر ناقته الضامرة أنها ابنة صديق لحامد بك مثري القرية
وسيدها الأول. . . كان هذا الصديق في يوم ما مأموراً للمركز، وهو اليوم أحد كبار موظفي الداخلية، وأنها جاءت بناء على إرشاد طبيبها، وستقضي بينهم وقتاً قد يكون طويلاً. . . و. . . والكثير مما أثبتت الأيام أنه كان من نسج خياله، والنتيجة اللازمة لقلة العرض وإلحاح الطلب
ومن هذا اليوم تعودوا أن يروها عند ما يجب أن تظهر الملائكة في أقسى ساعات العمل، وفي حالات المرض والجوع والعرى التي كانت ترزح القرية تحت أعبائها الثقال، وأصبح من المألوف لديهم أن يروها بينهم في القيلولة، عندما يشتد ضغط الحياة وتتخلى عنهم السماء، تلهو معهم بالعمل وتغني وسطهم وهي تضحك، وتنثر بحيويتها الفطرية زهور الربيع على أطلال خريفهم الكئيب الدائم، وتملأ الحياة من حولهم مرحاً وابتساماً
وكثيراً ما كانت تشاهد في أزقة القرية بين الأطفال تداعبهم في لطف، وتمتحن ذكائهم في براعة، وتثير فيهم حب النظافة بالانتقاد الخفيف والمنافسة الهادئة. أو بين القرويات في دورهن تساعدهن في بساطة وألفة على تنظيم أثاثهن عندما كن يقمن بذلك أثناء زيارتها لهن
وقد كانت تجلس وسط رهط منهن تحدثهن حديثاً عادياً شاملاً وأسنانها البيضاء تسطع من بين شفتيها الخلابتين في ابتسامة مشرقة، وهن من حولها يصغين في انتباه والسرور والإعجاب يملأهن
وكان حنوها البالغ على المرضى من الأسباب القوية التي كانت تقضي سريعاً على اليأس والكآبة والمرض حتى أنه عرف عنها أنها لا تزور مريضاً حتى يشفى
ثم هي تغدق عطفها في سخاء وغزارة منزهين عن الغرض، وشعور صادر عن إحساس عميق صادق تدفعه في حرارة رغبة روحية صافية لا تشوبها ذرة مادية. ومع أن قسوة الحياة وجمود البيئة جعلت من هذه المخلوقات التعسة حيوانات ضارية فإن القلب الكبير وجد له صدى مضاعفاً في القلوب المجدبة. . . وقام هذا القطيع الكبير المنهك يستظل بحنانها، ويستمتع إلى جوارها بالنور والدفء، ويستمرئ طعم الحياة الحلو الذي فقد مجرد الإحساس بوجودها. . . وقام كل يبحث بين طيات هذه النفس الواسعة عن معنى الخلجات الغامضة التي كانت تملأ نفسه ولا يستطيع إدراكها أو التعبير عنها. . . هذه الرغبة في
عبادة الأكمل التي جعلت من الإنسان حيواناً راقياً. . .
غمرت القرية روح عجيبة غيرت من كل شيء فيها. . . وملأت هذه المخلوقة الصغيرة كل هذا الفراغ المترامي. . . حتى تكونت لهم أخلاق خاصة بها، فخفت الألفاظ البذيئة التي كانوا يتنادرون بها عادة فيما بينهم، وأصبحوا يعدون كل كلمة تفوه بها حجة لا تقبل الجدل وبنداً يضاف إلى بنود دستورهم الأخلاقي الجديد
قالت يوماً لقروية رأت ما عليها طفلها من الإهمال: إن الفقر ليس معناه القذارة، وإن النظافة أقل أسباب الصحة نفقات، وهي من ضروب الاقتصاد التي يجب أن تلازم الفقر. . . فتضاعفت كمية الصابون الواردة إلى القرية بشكل لم يسبق له نظير في تاريخها
وحدث أن هاج ثور من ثيران العمدة وأخذ يغدو ويروح بين الأزقة الضيقة وينطح كل ما يصادفه بقرنيه الشرستين، واتفق وجودها في الشرفة ورأت في جزع حياة المارة المعرضة للخطر. فدفع هذا الجزع قروياً شابا كان مشهوراً بين زملائه بالاستكانة والضعف الجسماني إلى المغامرة بحياته. . . ويقول الذين رأوا الحادث إن الشاب امتلأ فجأة بنور كضوء القمر، والتمعت عيناه كنجمتين وانقض على الثور الهائج معرضاً حياته لموت محقق، وقبض على قرنيه وضغطهما في قوة هائلة جعلت الثور يتراجع ويسقط على قائمتيه؛ ثم ربطه في حبل وقاده إلى مربطه بين الدهشة والضجيج. ومما هو جدير بالذكر أن الفتاة قدمت إليه بهذه المناسبة قطعة فضية ظل يحتفظ بها كوسام برغم الظروف العسيرة التي مرت به
وكان هذا الحادث سبباً في زواجه من فتاة كان يحبها وكانت ترفضه.
وأشد من ذلك غرابة أن قوة الشاب البدنية أخذت من هذا اليوم تزداد، ومظهره أخذ يبدو أكثر نظافة وأناقة. وأنا وإن كنت لا أستطيع تفسير هذه الظاهرة تحليلياً إلا أني لا أشك مطلقاً في أن هذا الحادث كان سبباً لها
تحققت إذن كل خيالات القرية الجائعة في هذا الملاك الشهي واندفعت بكل رغبتها في الخلاص وأملها في التخلص تقيد الشموع وتشعل المباخر في معبد أقامته من الأماني قرباناً للمعبودة السمراء
لقد ارتفعت وارتفعت حتى وصلت إلى مصاف الأنبياء أو فوق مكانة البشر
وكان الحقل يظل عابساً أو كالعابس حتى تمر به كنسمة الحياة في وادي الموت فينقلب عبوسه إلى طرب ووجومه إلى ابتسام وخموله إلى جذوة من النشاط والحركة والمرح
وفي صباح خريفي رأوها كالعادة قادمة في الطريق الضيقة الملتوية التي تصل الحقل بالقرية. تسير كالجدول الرقراق بجوادها الأبيض، يتبعها على جواد آخر شاب نظيف ممتلئ يطفح صحة وبشراً
حدثهم بالروح الطيبة التي اعتادوها فاطمأنوا إليه وازداد تعلقهم وتقديرهم واحترامهم لها عند ما ساعدها في أدب جم (وهو لا يقل نظافة عن وكيل النيابة) على الترجل. وقابلوهما والإشراق والابتسام يملأ وجوههم. ووقفوا في خشوع يعبرون بوجوه صامتة تختلج عن مقدار ما يملأ قلوبهم من الإخلاص والحب؛ وظلت هذه الزيارة تملأ كنسيم العصر حديثهم طول اليوم
وفي المساء عند ما لفظ الحقل بقاياهم دفع الإعجاب الشديد قرويا في سن الحلم إلى أن يلقي نظرة على الفتاة من وراء سياج حديقة المنزل وكان في طريقه
ولم يكد يفعل حتى سمر في مكانه واتسعت حدقتاه وشحب، وأخذ يرتعد كالمحموم ويدعو زملاءه في إشارات مجنونة وينصحهم بالصمت والحذر بوضع سبابته الحائرة على فمه المرتعش؛ وكل من كان يأخذ مكاناً إلى جواره كانت تعتريه نفس الحالة. ولم تمض مدة حتى تكونت جمهرة ترتعد وراء السياج
كانت المعبودة السمراء تتمرغ بين ذراعي الشاب الذي رأوه معها في الصباح يغمر وجهها وتغمر وجهه بقبلات حارة فائرة، ويلتصق بها وتزداد به التصاقاً حتى تكاد تفنى فيه، وبقايا الغروب تلقى عليهما لوناً حيوانياً ساخناً يضيء وجه الفتاة الملتهب ووجنتيها المتقدتين، ويشعل الرغبة العنيفة المنبعثة من عينيها الغارقتين في الأحلام، ويسدل ستاراً كثيفاً على الوداعة الملائكية التي اعتادوها
ولما همت تسير مع الشاب متحاملة بكل جسدها على ذراعه عرت القوم جنة وذهبوا إلى القرية عدواً
وانطلق الخيال الخصب من عقاله، وملأت الإشاعات بشكل مضاعف مجالس السمر، على المصاطب، وفي موارد المياه والمخابز. وملأ الحنق والغضب قلوب القرويين
وباتت القرية ترعد من الألم وتعصف بها قوة عاتية، غاضبة، حائرة!
وفي الصباح عند ما قدمت عليهم عرتهم رعدة قوية - على رغم أنهم كانوا ينتظرون هذا القدوم بصبر نافد - وتصبب العرق البارد على أجسامهم في غزارة، وتسارعت دقات قلوبهم وهم يخفون رؤوسهم بين الشجيرات ويراقبونها من وراء الأوراق بأنفاس مكتومة ونظرات مرتبكة. وأخذت تنطلق بين الفينة والفينة أصوات كالفحيح بعبارات ساخطة مبهمة في يأس كالبكاء
ولما حيتهم والدهشة تعقد لسانها أجابها البعض بأصوات مختنقة وهم يغالون في الاختفاء، وصمت أكثرهم شجاعة إمعاناً في الازدراء والاحتقار!
وبعد أن توارت وسط هذه العاصفة الصامتة وقف الشاب الذي قهر الثور وهو يكاد يسقط وقد تهدلت تقاطيعه وعادت إليه في الاثنتى عشرة ساعة الماضية هيئته الذليلة وسيماه الممزق، وصاح منهوكا والدموع تملأ عينيه، والعرق يغطي وجهه المغبر. . . إنه خطيبها. . . أقسم أن زينب الخادمة قالت لي ذلك. . . إنه حلال! حلال! وهي ستتزوجه. إنه زوجها. أقسم بالطلاق أنه زوجها!
وعصر قلبه ألم كبير لم يقدر على مقاومته. ولكن ما قاله برغم تناقضه وجد مرتعاً في النفوس الظامئة المصابة؛ فقد تحدث في الوقت المناسب أثناء تعادل القوى النفسية المتدافعة. وكاد القوم يثوبون ويعدون خلفها يعفرون تحت أقدامها بالتراب وجوههم؛ بل فكر البعض في جعل التقبيل قبل الغروب سنة يجب أن تسنها شبيبة القرية، ولكن زميلاً وقف يهدر وانفجر بصوت قوي كله حقد والشر يتطاير من حوله. . . ليكن خطيبها، زوجها. . . أبوها. . . إنها كانت تأكله! إن عينيها حرقتاني وأنا وراء السياج! لقد كانت تخدعنا هذه الـ. . . وهم أن ينعتها بأحط النعوت، ولكن الكلمات ماتت على شفتيه، وعاد إلى عمله وهو يكاد يضرب نفسه!
وعاد الحقل إلى صمته الحزين الأبدي!
(أبو حمص)
محمد عنان