الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 457
- بتاريخ: 06 - 04 - 1942
سؤالان متباعدان
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاءني في هذا الأسبوع سؤالان متباعدان من طرفين متقابلين: أحدهما من أديب يسأل عن أبي تمام، والآخر من أديب يسأل عن المدرسة الحديثة في التصوير، أو عن المدرسة التي تزعم أنها تعتمد في تصويرها على الوعي الباطن ولا تعتمد على المشابهات المحسوسة
أما الذي يسأل عن أبي تمام وهو الأديب (السيد حسن قرون التونسي بكلية اللغة العربية) فيسرد أسماء الشعراء الذين كتبت عنهم كتباً أو فصولاً في كتب ثم يقول:
(. . . ولكن شاعراً واحداً لم يفز منك بالإعجاب أو السخط، ولم يظفر منك بتزيين أو تهجين، وهو أبو تمام. ما الذي أبعدك عنه وما الذي أبعده منك؟ أما أنا فأعتقد صادقاً أو كاذباً أن شعرك وشعره ينبعان من منبع واحد. . .)
ثم يقول: (فأبو تمام الذي احدث ضجة في عصره، والذي كتب عنه الآمدي وغيره، والذي كان مثالاً للشعراء يحتذونه ويقلدونه، لا يظفر في العصر الحديث ببحث أو بكتاب أو بطبع ديوانه طبعة أنيقة. ليس هناك شاعر يمثل عصره تمام التمثيل إلا هذا الشاعر. وليس هناك شاعر يعلم البحث والتفكير والتعمق إلا هذا الشاعر؛ ولكنه ينسى ويقدم المجنون ابن الرومي، ويهمل ويذكر رهين المحبسين أبو العلاء، ويكتب عن بشار وأبي نواس ودعبل ولا يكتب عنه!
(أبو تمام حزين ثائر من الأستاذ العقاد لأنه هو الذي إذا تصدى لبحث وفاه حقه، وإذا كتب عن شاعر شرقي أو غربي أعطاك صورة صادقة ناطقة طبق الأصل. . . مهما ظننت بي الظنون فأنا مطالبك بالكتابة عنه، ومهما اعتقدت بي الفضول فأنا مقتنع بفكري راضٍ بنظرتي. . .)
وأنا يعجبني الإعجاب لأنه دليل حسنُ على شعور كريم، ولا يعجبني أن يكون الإعجاب بأحد باباً للجور على آخرين
أما جوابي عن سؤال الأديب: لم لم أكتب عن أبي تمام؟ فابدأه بأن أبا تمام في اعتقادي شاعر في طليعة الصفوة من شعراء العصر العباسي وشعراء العربية عامة، وإنه حقيق بكتاب أو برسالة ضافية كغيره من الشعراء الذين كتبت عنهم أو كتب عنهم النقاد السابقون
واللاحقون
ولكنني لم أعرض له لأن الغالب في كتاباتي من هذا القبيل أن ترجع إلى سببين: إنصاف مغبون، أو تجلية ناحية قد نسيها النقاد أو فهموها على وجه آخر
وأبو تمام ليس بالشاعر المغبون ولا بالمجهول القدر في زمانه وبعد زمانه. بل لعله أصاب من الرعاية والاعتراف بالفضل فوق حقه، أو فوق ما أصابه معاصروه على التحقيق
كذلك ليس في أبي تمام ناحية غامضة أو ناحية تتنازعها الأفهام والبدائه الفنية؛ وإن جرى النزاع في معنى من معانيه فهو نزاع لا يتسع حتى يتناول النفس الإنسانية في آفاقها الواسعة، ولا يترتب على البتّ فيه بت في مشكلة عاطفية أو اجتماعية أو عقدة من عقد الحياة
فهو صاحب إجادات وليس بصاحب عالم
يسأل سائل: وما (صاحب عالم) هذه التي تميز بها بعض الشعراء وتجعلها ذريعة إلى الكتابة عن فريق وترك الكتابة عن آخرين؟
فأقول: إن التمثيل هنا لازم لتقريب المقصود بالشاعر الذي (له عالم) والشاعر الذي لا عالم له وإن كانت له إجادات
فالملكة الشاعرية - بل الملكة الفنية عامة - هي أشبه الأشياء بالزجاجة المصورة التي ترسم ما يقابلها فالزجاجة الحساسة الواسعة لا تدع مما يقابلها شيئاً إلا رسمته وجاءت بصورة منه
والملكة الفنية زجاجة مصورة تقابل العالم بأسره، فإن كانت حساسة واسعة جاءتنا بصورة من العالم كله، وأمكننا أن نعرف ما هو العالم كله كما رآه الشاعر في قصيدة
وأن لم تكن كذلك جاءت بقطعة منه، وبلغت ما يتاح لها أن تبلغ في تلك القطعة المحدودة، ولكنك لا تبدل هذه الصورة بالصورة العالية وإن كانت تفوقها في التظليل والتلوين
أن قطعة من مدينة القاهرة حسنة التصوير لتشتري وتقتني ولأمراء، ولكنك إذا أردت صورة المدينة برمتها فهذه الصورة الشاملة أولى بالشراء والاقتناء من كل قطعة محدودة، بالغة ما بلغت من إتقان التظليل والتلوين
وأبو تمام يجيد في هذا المعنى ويجيد في ذلك، ولكنه لا يعرض لك العالم كله في حالة من
حالاته ولا يخرج لك نسخة عالمية تقرنها إلى النسخ الأخرى التي تستمدها أمثال: ابن الرومي والمتنبي والمعري في الشعر العربي، وأمثال: شكسبير وجبيتي وليوباردي في الآداب الأوربية
ابن الرومي له عالم كامل من الحياة الفنية، والمتنبي له عالم كامل من الحياة العملية، والمعري له عالم كامل من الحياة الفكرية والروحية
فالعالم بكل صورة فنية فيه ممثل في ابن الرومي، أو في تلك الزجاجة الحساسة الشاملة التي لا تدع شيئاً مما يقابلها إلا وعته على الطريقة الفنية
العالم بكل صورة عملية فيه ممثل في ملكة المتنبي، كما تمثل عالم الفكر والروح جميعاً في ملكة أبي العلاء
حياة كاملة تعرضها من جانبها كل ملكة من هذه الملكات فنقول: إن نسخة من صور العالم قد زادت في مجموعتنا الأدبية.
أما أبو تمام فلا يعطينا نسخة من صور العالم على نحو خاص به أيا كان هذا النحو في قيمته وفي مرماه
عنده صورة حسنة جداً لمسجد السلطان حسن، وصورة حسنة جداً لقنطرة قصر النيل، وصورة حسنة جداً للهرم؛ ولكن مدينة القاهرة كلها ليست هناك، سواء (حسنة جداً) أو حسنة قليلاً، أو غير حسنة على الإطلاق
وهذا الذي بالشاعر الذي له عالم؛ وهذا هو المقياس الإنساني الصحيح للشاعرية الممتازة في بابها؛ لأن الشاعرية ملكة إنسانية قبل كل شيء، وملكة لغوية أو بيانية بعد ذاك
وما قاله الأديب عن ابن الرومي لا يدل على أن كتاباً ضخماً في شرح أدبه كثير عليه؛ بل يدل على انه لا يزال في حاجة إلى كتب ضخمة إلى جانب ذلك الكتاب، للتعريف بقدره، والتنبيه إلى دقائقه، والوصول إلى فهم الأدب والشعر عن طريق فهمه
فابن الرومي في الملكة الشعرية الفنية قمة لا تطاولها القمم، مثل لا تقاربه الأمثال، طراز ليس له في الدنيا نظير
نعم في الدنيا أقول ولا أقول في أدب العرب أو أدب الفرس أو أدب الروم أو أدب أمة واحدة من الأمم
في الدنيا كلها لا نعرف نظيراً لابن الرومي فيما رزقه الله من ملكة التصوير الفني ومن القدرة الشعرية على استيعاب كل مرئي رآه وكل محسوس أحسه وكل خالجه جرت بين طواياه
في الدنيا كلها نقول ونحن نعني ونعلم ما نقول. ومن لم يفهم هذا فليجتهد في فهمه، قبل أن يجتهد في رفض رأي ليس عنده من أسباب رفضه مثل ما عندنا من أسباب الذهاب إليه، وأسباب تأييده
بيتان اثنان من شعر ابن الرومي يصلحان لتقريب هذه الحقيقة، لأنهما نظماً بمحض الباعث إلى التصوير الفني، ولم ينظما محاكاة للموضوعات التي يتناقلها الشعراء
وهذان البيتان هما قوله في وصف حقل من الكتان:
وجلس من الكتان أخضر ناعم
…
توسنه داني الرباب مطير
إذا اطردت فيه الشمال تتابعت
…
ذوائبه حتى يقال غدير
بيتان ليس لهما رنين ولا بهرج ولا بارقة من المحسنات وأفانين الأناقة؛ ولكنهما لا يدعان محسوسة واحدة من محسوسات حقل الكتان إلاْ وعياها وسجلاها والتهماها كما يلتهم الفحم الجائع ما يشتهيه
فالصورة المرئية لها عناصرها التي تتم بها من جميع نواحيها: عنصر المنظر كله، وعنصر اللون، وعنصر اللمس، وعنصر الوقت الذي تراها، وعنصر الموقع الذي تقع فيه من المكان، وعنصر الحركة.
ما من شيء يبقى في الصورة المرئية بعد استيعاب هذا، وما من شيء من هذا لم يستوعبه ذانك البيتان
في كلمة (جلس) تمثيل للمنظر كله. اخترها ولم يختر كلمة حقل أو مزرعة أو ما شابه هذه الكلمات، لأنها تمثل المنظر تمثيلاً لا يتفق لسواها
وأخضر تذكرنا اللون، وناعم تذكرنا اللمس، والتوسّن يذكرنا وقت الوسن وشعور الوسن في وقت واحد، وداني الرباب المطير يمثل لنا حواشي المكان حيث تحيط بذلك الكتان، واطراد الذوائب كاطراد الغدير يمثل لنا الحركة على أحسن تشبيه وأصدق محاكاة.
تمت الصورة على هذا النحو لأن كل حاسة من حواس هذا الشاعر الخالد هي في جوعها
إلى محسوساتها كالفم الجائع إلى الطعام الذي تقوم به الحياة
زجاجة حساسة شاملة لا تخطئ شيئاً مما يقابلها، وتصيبه لأنها حية حية بالغة في الحياة، لا لمراعاة النظر ولا لتجويد المحسنات ولا لطرق الأبواب التي تقدم بطرقها الشعراء
إذا قرئ ابن الرومي على هذا النحو عُرف ابن الرومي شاعراً لا نظير له في آداب الدنيا، وإنما الطريق إلى قراءته على هذا النحو أن نحس كما أحس وأن نعلم ما عنده لنبحث عنه ونلتفت إليه ونظفر به حيثما وجدناه
ولمن شاء أن يذكرني ما شاء من أبيات وصفه أبيّن له ما فيها من عناصر الاستيعاب التي لم تتفق لغيره من الشعراء، فإنما وصفه لجلس الكتان نموذج قريب المتناول لسائر الأوصاف
أما الأديب (ح. نظمي) الذي يسألني عن غلاة المحدثين من المصورين فينتظر مني جوابها مسهباً عن مدرستهم ومدارس أمثالهم في سائر الفنون، لأن هذه البدعة قد عمت فنوناً أخرى ولم تنحصر في التصوير
والذي أراه أن الإسهاب هنا فضول لا حاجة إليه، لأن بطلان الأساس الذي قامت عليه هذه المدرسة قد يظهر في بضعة سطور
فالمصورون على مذهب الغلاة المحدثين ينسون قواعد الرسم وينسون ملامح الشبه، وينسون أصول التلوين، ويرسمون الرجل فلا تعرفه بملامحه ولا بظاهر شكله ولا تميز بينه وبين غيره بعلامة تتفق عليها الأنظار، لأنهم يزعمون أنهم يعرضونه لك كما يتمثل في الوعي الباطن أو كما يشعر هو في باطن وعيه، ولا يعرضونه لك كما تراه بالعين
والخطأ هنا أن (الوعي الباطن) لم يخلق ليلغي الوعي الظاهر أو يمنعنا أن نرى الدنيا، ولكنه خلق ليظل وعياً باطناً حيث هو في قرارة الضمير، نستدل عليه بعلاماته التي تتفق عليها الأنظار. وما من أحد يبني بينه أو يطبخ طعامه أو يخيط ملابسه أو يحضر دواءه على ما يتصور هذا وذاك وأولئك في وعيهم الباطن المزعوم. فلماذا يتغير وجه الإنسان لأن له وعياً باطناً أو لأن المصور له وعي باطن، أو ما يزعم من هذا الهراء؟
ومن البديه أن التصوير (فن) له أدواته وتحضيراته وملكاته التي لا تشبه ملكات الفنون الأخرى؛ فما هي الدروس التي يتعلمها المصور ليصبح على هذا المذهب مختصاً في
صناعته؟ ما هي تلك الدروس إذا نحن ألغينا الرسم والتلوين والملامح والأشباه؟ أهي دروس التنجيم عن الباطن؟ وكيف الاتفاق عليها ولا يوجد اثنان يتفقان على تسمية صورة من متعلمي ذلك التنجيم؟
الواقع أن (الوعي الباطن) له مكان واحد من شؤون هذه البدعة المرضية، ومكانه هو إظهار العلة المرضية التي تكمن في بواطن المصورين المشغوفين بكل بدعة من هذا القبيل
فما لاشك فيه انهم جميعاً قوم (تفهون) تتخطاهم العيون، فهم بين مشوه أو ضئيل أو مهزوم النفس أو عاجز عن لفت النظر أليه؛ فحيلتهم هي حيلة هذا الضرب من الناس في اتخاذ المشاكسة والتحدي والأغراب وسيلة للتنبيه إليه، وهذه هي الحقيقة الواحدة التي لها شأن (بالوعي الباطن) في مذهب هؤلاء الغلاة؛ فهم مصابون في وعيهم الباطن يترجمونه كارهين، ويعرضون على الناس من ثم أعراض مرض لا معارض فنون.
عباس محمود العقاد
صلوات فكر في محاريب الطبيعة
(كتب كثير من هذه الخواطر في الرستمية بالعراق العزيز،
فهي مهداة إليه)
للأستاذ عبد المنعم خلاف
14 -
حقول الشوك
أُنظر بعينيك وحاذر أن تَدمَي من مواقع النظر. . . واجمع أطراف ثيابك لا تعلق بها حُماتُ الشوك فتتمزق. . . وناقِلْ الُخطى في حذر وخشية، حتى لا تقع القدم على هذه الأسِنَّة الُمشْرعَة. . .
لا بلابل هنا ولا فراشات، وإنما نمالٌ تسعى في حذر. . . ولا ورق يرقص مع النسمات، وإنما اهتزازاتُ حِرابٍ تُدمِى جسم النسيم!. . .
ومع ذلك فقد مددت يدي وقطفت عِذْقاً. . . فإذا هندسة بارعة، وإذا القلم الذي نسق الزهرة ونسج حريرها ووشَّى أفْوافَها قد
صنع هنا كذلك عجباً!
يد الخالق تُدبِّب الشوك ولا تَدَمي، وتَمُطُّ فَم الخنزير ولا تتنجس!
15 -
جانيات الشوك
جاء الربيع وأخرجت الأرض نباتها من الزهر والثمر والشوك. . . وخرج كل مالك يقطف ويجني مما يملك من الحقول والبساتين
وخرجت جانيات الشوك إلى الأرض البور التي احتكرتها الطبيعة لنفسها لكي تخططها بالرياح وتسقيها بالسَّيْح والَمطر، وتنبت فيها ما تشاء. . .
خرجن يسعين حافيات قد لَفَّفْن سيقانهن بِخِرَقٍ بالية حفظاً للجمال الِّنسْوي من الخدش والتجريح. . . عليهن ثياب ممزقة، وفي أيديهن حبال رثة، يوزعن نظراتهن هنا وهناك على أديم الأرض باحثات عن أخصب البقاع بالشوك وأملئها بالعوْسج، فإذا وجدنه أعملن فيه فئوسهن الصغيرة ثم جمعنه وحزمنه وحملنه على ظهورهن وسرن به كالقنافذ! وطفن به في الأسواق فيشتريه بعض الناس بثمن بخس ليوقدوا به حماماتهم ومطابخهم.
ولا يبالين بالأزهار البرية الجميلة التي نبتت بجوار الأشواك، إذ هن مشغولات بجمع ما يجلب ثمن الخبز. . . إن الأزهار لا توقد ناراً فلا وزن لها في أيديهن وأعينهن. . .
هنا أمل وعمل من آمال القلوب وأعمال الأيدي يا أرباب الفكر!
هنا ملمس من ملامس الدنيا يا ذوي العيش الرافه الناعم. يا جامعات الزهور من روضات القصور. صافحن الأيدي الخشنة لأخواتكن جامعات الأشواك بأيديكن الناعمة. . . فتلك أيضاً صدقة!
16 -
قذارة عليها طهارة
رأيت قذارة عليها أشعة الشمس! طهارة وصفاء يتنازلان إلى عالم النجاسة والكُدْرَة. . . الطهارة تمد يدها إلى النجاسة لتطهرها وترفعها إليها. . . العالي ينظر إلى السافل نظرة راثية مسعدة منقذة ولا يخشى أن يتلوث ويتسفل.
وهكذا النفوس الشمسية: تضيء للمظلمين، وتطهر المتنجسين وترفع السافلين. . .
17 -
كما تنظر الحشرات
وضعت رأسي مرة بين الأعشاب مستلقياً، فغطت الحشائش وجهي، ونظرت السماء من خلالها، فرأيت مقطعاً من مقاطع الدنيا في بعض الأحياء الضئيلة القميئة. . .
نظرت الدنيا نظرة حشرة من تلك الحشرات التي تختبئ في الأعشاب. . .
صار كل شيء عظيماً جداً في عيني، حتى هذه الأوراق الصغيرة صارت في زيغ البصر كالجبال الشاهقة التي تناطح السحاب. . . وخيل إليّ أني في غابة هائلة كثيفة مظلمة. . . ورأيت الفرق الهائل بين الدنيا في نظر إنسان والدنيا في نظر حشرة وكل حي له دنيا رهينة بحواسه وهندسةِ وَضْعِه وقامَتِه.
فلو سجد بعض المتكبرين المتغطرسين برءوسهم إلى حيث يضعون إقدامهم لتغير نظرهم للحياة ولأنفسهم وللناس. . .
18 -
مفارقات
سقطت فَرَاشةُ على زهرة؛ وسقط جُعَلُ على بَعْرَة، وسقطت عيناي عليهما!
كان كل منهما في شغل بعالمه عن عالم الآخر، ولكن قلبي كان في شغل شاغل بعالميهما. .
لقد رشفت الفراشة رشفة من رحيق الزهرة ثم شالت عنها إلى غيرها، ولكن الخنفساء لم تبرح مكانها، فرزقها كثير. . . إنها حيث تسير تجد العفونات والقذارات فتأكل وتتناسل أما الفراشة فمجهودة كالرغبات الطائرة. . . تسافر كثيراً حتى تظفر بملء أوعيتها. . .
لا شك أن جامع الخير والجمال من الدنيا يَلقُطُه لقطاً من ثنايا الشر والقبح ويتعب في تحصيله تعب هذه الفراشة المجهودة
19 -
الوحوش المحبوبة
كانت عناكب كثيرة صغيرة آمنة في بيوتها تنسج الشباك للصيد. . . فانقضت عليها عصفور صغيرة وابتلعتها واحدة فواحدة أمام عيني. . .
والناس يزعمون أن العصافير وديعة ويحبونها، ولكن من يدرس حياتها يعلم أنها شرسةُ مشاغبة مقلقة كثيرة التصايح من أول النهار إلى آخره، ولها وجه حاد الملامح ومنقارٌ جارح وطباع عصبية. وإنما يشفع لها جمال منظرها ورشاقة جسمها وضآلة حجمها. . .
وكم غَرَّ المنظرُ وفجعَ المْخبَر! وكم رحم الناس ضعفاً وهو أقسى على الحياة من الذئب!
20 -
غضب الضعفاء
اشتبك عصفوران في عراك، وصارا يتصايحان صياحاً لفتني إليهما، ثم نقر كل منهما الآخر بمنقاره نقرة، ثم افترقا من غير دم
فقلت لقد فضحتما ضعفكما. . . فما كلن ينبغي لكما أن تقدما على غضب، لأنكما لا تمثلان قوته العنيفة
وينبغي للضعيف ألا يغضب، لأن غضبه يزيده ضعفاً بما ينال من نفسه، وما ينال من هزء الناس به. . .
إن الغضب يحتاج إلى قوة يُفجِّر بها الدم!
21 -
شباك العنكبوت
لماذا هذا الترقب والانتظار للختل والاغتيال أيتها العناكب؟
لماذا تنسجين شباكك وتطرحينها في طريق الفراشات والنحل التي تحصل غذاءها بجهودها
لتقنصيها وتشربي دماءها وأنت في مكانك؟
لماذا تقطعين الطريق على العاملات المجهودات أيتها المقعدة الكسيحة؟
بخيط خفي رقيق تلقينه للريح تستطيعين أن تقتنصي أجنحة رفافة عاملة!
تمتصين دماء الغافلات المخدوعات وترصّعين بحطام جثها وأشلائها بيوتك الواهنة التي لم تقم على أساس. . .
ولكن لا ملام عليك ولا تثريب. . . وإنما على أيْدٍ تملك المكانِسَ التي تستطيع أن تبطشَ بكِ وتدكَّ بيوتك وتخلص الضعفاء من أحابيلك، ثم لا تفعل!
22 -
الهلوك
وهذا أيضاً نبات طُفَيْلي كسيح الساق لا يضرب بجذْرٍ في الأرض ليقوم عليه ويستغني به عن الاعتماد على الغير. رأيته يمد حباله وشباكه فيصطاد شجيرات من الورد والخشخاش ويقطع طرق غذائها ويسلبه لنفسها ويخنق أطفالها من الأزهار الجميلة ويلف قوام جسمه المتهالك على سيقانها ليعتمد عليها، ثم يزهر ويضحك وينظر إلينا بوقاحة!
لقد أصاب شجيرات الورد بالشلل فلم تزهر وأزهر هو. . . فلم أر بداً أن افصل بين الأصيل والدخيل الغاصب الوقح بضرة فأس وإعمال يد لأخلص أطفال الورد المختنق الجائع المغيظ
أبداً يرصد عالم الشر قريناً من جنود لكل فرد من عالم الخير يعلن عليه حرباً. . .
فعلى إنسان الخير أن يقف دائماً في مكانه من الصف، وأن يعمل فأسه دائماً في بستان الحياة يستأصل بها جذور الشر ويسحق أزهاره وثماره. وإلا لم يجد لنفسه غذاء ولعينه مسرحاً، ويفسد عليه عالم الشر كلَّ إحساس بجمال الحياة، ويسلبه متاعه بمعشوقاته من بنات الطبيعة الفاتنات
23 -
السائرات المطرقات
سائراتٌ مكبوباتُ الوجوه الطويلة، تنظر إلى الأرض دائماً كاسِرَاتِ الجفون
كتل لحمية متجلدة ماتت أعصابها من فرط الضرب والحمل والإرهاق ووراثات الاضطهاد. . .
قطع من الصبر والبلادة وموت النفس والهوان والسآمة. . .
عيونها عميقة تنظر بهدوء لما حولها كأنها عيون فلاسفة فرغوا من حل جميع العقد والمشكلات وليس لها دموع تبكي بها وتعلن الشكوى. . .
تريد أن تفرج عن قلوبها فترسل صوتها لترتاح، فتخرج قلوبها مع همومها من حلاقيمها في صوت منكر فيأبى الناس عليها ذلك ويردون أصواتها وهمومها إلى نحورها. . .
اغفروا أيها المالكون للمملوكين إذا تنفسوا
ارحموا الأغبياء المحدودين فإنهم ما خلقوا أنفسهم حتى يعاقبوا أو يعاتبوا. . .
لا البلبل خلق نفسه ولا الغراب يا أولى الألباب!
ترى، متى يشعر الفلاحون والعمال بالرحمة لهذه المخلوقات فيعاملوها معاملة رفقة العمل؟ ولكن الفلاحين والعمال لا يشعر رعاتهم نحوهم برحمة. فهم كذلك لا يشعرون بها لرعاياهم. كْيلاً بكَيْلٍ. . . والموج دائماً ينحدر من الأعلى للأدنى. . .
متى يأتي اليوم الذي ترتاح فيه هذه المخلوقات وتتخذ للزينة والجمال وحدهما وتقتني في حدائق الحيوان كمخلوقات أثرية تدل على عهد باد من عهود شقاء الإنسان وشقوة سكان الأرض معه؟
هو اليوم الذي تقتني فيه كل فلاح وعامل حاجته من مخلوقات الحديد والفولاذ
عبد المنعم محمد خلاف
أحزان الأسود وأفراح القرود
يوم فضيحة (آدم) و (حواء)
للدكتور زكي مبارك
سارت الأمور إلى ما شاء القدر أن تسير إليه، وذاق آدم لأول مرة لذعة الندم الأليم، فقد كان يملك زجر حواء عن قرب شجرة التين، لو قدرَّ له أن يتماسك فلم يخضع لسلطان حسنها الوهَّاج. . .
وانزعجت حواء لما أصاب الجنة من زلزال، فعرفت من أخطار الخطيئة ما لم تكن تعرف، وأدركت أن المزاح في تفسير
الحرام والحلال عَبَثُ أطفال
- آدم، لا تبتئس، فقد عجل الله بالعقوبة، ولم يبق إلا أن نأنس بالاطمئنان
- وما هي العقوبة التي عجل بها الله يا حواء؟
- هي ما أصاب الجنة من زلزال، فقد هدأت العواصف والقوا صف، وعاد كل شيء إلى قراره المألوف
- الزلزال الخطر هو البلبلة التي تثور في صدري، وما احسبني سأستريح، وهل أنت مطمئنة يا حواء؟
- لا، وإنما أردت أن أهون عليك وقع ما نحن فيه، فما زال قلبي يرتعد من هول الصدمة، وليتني مت قبل الخطيئة وكنت نسياً منسياً!
- أرأيت يا حواء عواقب الإصاخة لأقوال المفسدين؟
ألم أنهك عن صحبة الحية؟ ألم أخوّفك من الاستماع إلى إبليس؟
- ليتني أطعتك! ليتني أطعتك!
- وهل تنفع شيئاً ليت؟
- في ليت تعزية للخائبين، فلنتعزّ بها إلى حين!
وفي أثناء هذا الحوار كان آدم يلاحظ أن أسراباً من الطير والحيوان تنظر إليه والى حواء باستغراب ثم تنصرف، فما الذي جد عليه وعلى حواء بعد الزلزال حتى يقع ذلك الاستغراب؟
وحانت من آدم التفاته فرأى سوءة حواء بادية، واطرق فرأى سوأته قد انكشفت والعياذ بالذوق، وكذلك أدرك أن أسراب الطير والحيوان قد هالها أن يمسي آدم وحواء وهما في حال تسر العدو وتحزن الصديق
كانت الفاجعة أعنف مما يتصور الخيال، فقد فُطر آدم على الحياء، ألم يكن أول مخلوق ستر ذلك الشيء؟ أما الكلام عن حياء حواء، فهو حديثٌ مُعاد، فما استطاع أحد من سكان الفردوس أن يتوهم صورة المنطقة المحرمة من جسمها الجميل
- أتصنع المعصية كل هذا يا آدم؟
- وأشنع من هذا، فقد يعاقب العصاة بالقتل
- الفضيحة ابشع من القتل
- أنا لا أراها كذلك، فالقتل اخطر وأعنف
- الرجل يُقتل بالسيف، والمرأة تقتل بالفضيحة، فأنا وحدي المقتولة بعقوبة اليوم
- وما المخرج يا حواء؟
- نخصف على هاتين السوءتين من ورق الجنة، إلى أن يقضي الله في امرنا بما يشاء
لا موجب للإطالة في تصوير جزع آدم وفزع حواء مما صارا إليه، فالوصف لا يحيط بصورة الحزن الذي يساور النفس النقية حين تسقط أول مرة، فهي تتخيل أن شبح الفضيحة يلاحقها في كل طريق، وأن الموجودات كلها عيون تنظر إليها باحتقار وازدراء، ولا كذلك النفس الخبيثة، فهي لا تتأثر بالفضيحة إلا بمقدار ما يتأثر الصخر الأصم بهبوب الريح
كان آدم على فطرته الأولى يوم اقترف ما اقترف، وكان وحيداً في بلواه، فلم يجد من أصدقاء السوء من يهون عليه مصيبته العصيان
وحواء؟ وحواء؟
كانت زهرة نضيرة لم تسمع بأن في الوجود لوا فح ترزا الأزهار بالذبول
وهل كانت حواء تجدّ وهي تدعو رفيقها إلى قرب الثمر الممنوع؟
إن شيث حدثنا أن تمردها على الأوامر الربانية لم يكن إلا فنًّا من فنون الدلال. ولعل هذا هو السبب في أن الجنة لم تصب بأذى بعد أكلها من شجرة التين، وإنما وقع ما وقع حين
هفا آدم، لأنه رزق من العقل ما يكفي للتمييز بين المحرَّم والمباح
وزاد في هم حواء عرفانها بخطورة النزق بعد الذي كان، فصارت تصرخ من وقت إلى وقت صراخاً يصل إلى مسامع سكان الفردوس بأعنف مما يصل صوت المظلوم إلى آذان القضاة العادلين. . . وكذلك لطف الله بحواء، فأمر ورق الجنة أن يكون عندما تريد ليحميها من فضول العيون
لا موجب للإطالة بتلخيص الصفحات التي دوَّنها شيث ابن عربانوس في هذا المقام، فما نطيق ولا يطيق القراء مواجهة ما انطوت عليه من أحزان وكروب، فلننظر كيف تسامع سكان الجنة بفضيحة آدم وحواء في لحظات
في لحظات؟ وكيف؟
كان جمهور أهل الجنة في ذلك الوقت جمهوراً قليل الأهمية من الوجهة العدَدية؛ وللجماهير الصغيرة محاسن وعيوب، فمن السهل أن نكوِّن رأياً عاماً في الجمهور الصغير بخطبة أو خطبتين وأن نروضه على الفضائل المنشودة حين نشاء بأيسر عناء، ولكن من الصعب أن نصدّه تسمّع الأخبار السيئة، فهو يُقبِل عليها بشهية عجيبة، وهو يجد لذة في مضغ أحاديث الإفك والبهتان، وقد يتزّيد فيضيف المآثم إلى الأبرياء، ليظفر بالقوت المحبوب وهو الاغتياب، فما يطيب للرجل الحقير أو الجمهور الصغير غير الخوض في الأحاديث التي تشوه أقدار الأكابر من الرجال!
وعلى هذا وصلت أخبار آدم وحواء - أخبارهما المزعجة - إلى جميع سكان الجنة في لمحات معدودات، وصار الحديث عن مصيرهما الفاجع زاد الألسنة في كل مكان
فكيف تلقى الفردوسيون ذلك النبأ الفظيع؟
انقسموا إلى فريقين: فريق الجازعين وفريق الشامتين
فمن الذي جزِع؟ ومن الذي شَمِت؟
جزع الأسود، وفرح القرود، ولذلك حديث يستحق التسجيل:
لم يكد يتسامع الأسود بفضيحة آدم حتى صاموا عن الطعام حزناً لبلية ذلك المخلوق النبيل؛ ثم اجتمعوا في (غابة العَرِين)
ليسمعوا خطبة كبيرهم غَضَنْفَلُوث، وقد خطبهم فقال:
(سُجَرائي وأشبالي
ترامت أليَّ وإليكم أخبار الفضيحة التي رُزئ بها آدم، وقد جزعتُ لها كما جزعتم، برغم اختلاف الجنس؛ فنحن نمشي على أربع وهو يمشي على اثنتين، وقوتنا بالظفر والناب، وقوّته بالقلب واللسان؛ ولكن هنالك آصرة تجمع بيننا وبين ذلك المخلوق، وهي الكرامة الذاتية، فهو يأبى الضيم كما نأباه، وهو يُزهَي ويختال كما نُزهَي ونختال. ولست اعرف قيمة شجرة التين حتى احكم له أو عليه، فنحن لحُّميون لا نباتيون، ومن الصعب أن ندرك ما في التين من دواعي الاشتهاء، وقد حلّ به ما حل، وذاق من علقم الفضيحة ما ذاق، وسيقضي الله في أمره بما يشاء، فهل ترون أن الجرأة على الله أن نعلن الحداد لمصيبة آدم المظلوم؟)
أحد الأسود: أنحزنُ لمصيبة مخلوق عصى الله؟
غَضَنْفَلوث: إذا كان مخلوقاً كريماً، وآدم مخلوقٌ كريم، فهو وحده الذي يستتر حين يلامس أنثاه، وما رايته أبداً في موقف ينافي الأدب والحياء
أسدٌ آخر: وكيف نجيب إذا عدّ الله حزننا لآدم ضرباً من العصيان؟
غَضَنْفَلوث: الله أكبر من أن يستظهر على عباده المذنبين بشماتة حيوان
أسدٌ ثالث: العطف على المذنبين إغراءٌ بالذنوب
غَضَنْفَلوث: هنا دقيقة تخفى عليك، وهي أن العطف على المذنب يجتثّ من صدره بذور العصيان، ويضيفه إلى أهل الطاعة والامتثال
أسد رابع: نحن مع الله في التنكيل بالمجرمين
غَضَنْفَلوث: ومن نحن حتى نشارك الله في الجبروت؟
أسد خامس: نحن أسود
غَضَنْفَلوث: والأسود تحفظ الأدب مع الله فتترك له التفرد بالثواب والعقاب
أسد سادس: لا يجوز العطف على مخلوق خدعته أنثاه
وهنا انبرت لَبَوْلوث زوجة غَضَنْفَلُوث فقالت في زئير يوقظ الأموات:
(لعلكم تريدون التعريض بحواء، فهل تعرفون حواء؟ اسألوني أخبركم: لقد كانت تجيء من لحظة إلى لحظة لتداعب الأشبال بأناملها اللطاف. وكنت اقدر أول الأمر أنها تفعل ذلك
بسبب حرمانها من النسل، ثم عرفت أنها مفطورة على الرفق والحنان، وأنها لا تعيش إلا في ظلال الرفق والحنان. . . ويلي عليك يا حواء، فما رأيت ارخم منكِ صوتاً، ولا انضر وجهاً، ولا الطف مِشية! كنت أنظر إلى نهديك الكاعبين فأعجب وأطرب وأُشاق، ما اجمل نهديك يا حواء! وما اشد جزعي حين أتذكر انك لم تُرزَقي طفلاً يباغم حَلمَتْيك في جذل وانشراح! وهل أنسى أن حواء أرشق مخلوقة تمشي على اثنتين؟ لقد كان تثنيها وهي تتخطر فوق شط الكوثر يخلع قلبي)
غَضَنْفَلوث: حواء جميلة إلى هذا الدرجة؟
لبولوث: واجمل من الغزال المكحول بمرود السحر والفتون
- عطف الأنثى على الأنثى معروف!
- وتحامُل الذكر على الأنثى لا يحتاج إلى تعريف. . . ويلي عليك يا حواء! أأنت تُفضَحين بين سكان الفردوس فضيحة جديدة؟
- وهل كانت لحواء فضائح قديمة؟
- من يومها وهي فضيحة الفضائح، فمشيتها فضيحة، ونظرتها فضيحة، ونبرتها فضيحة، ودلالها فضّاح فضّاح فضّاح. ويلي عليك يا حواء، ويلي عليك يا أختي!
- يظهر أنك مفتونة بحواء!
- وكيف لا أُفتَن بأنثى تفردت بالجسم الأملس إلا بعض شعرات. ولو جازت الغيرة على مثلي لأصبحت من الهوالك
ثم تعكّر هذا الحوار الرقيق بأصوات غليظة وصل صداها البغيض إلى ساحة العرين، فما تلك الأصوات؟
تلك أصوات القرود وقد شمتوا بآدم وحواء، فكانوا يثبون إلى الأشجار ثم ينزلون، في انجذاب يشهد بأنهم صاروا من الفرح مجانين، ثم بدأ لهم أن يضعوا أخشاباً في الكوثر ليركبوها، كما كان يصنع آدم وهو يداعب حواء
وسمع الأسد الأكبر بهذا الضجيج فاقبل يعنف شيخ القرود
- ما هذه الضجة، أيها القرد؟
- نحن نحتفل بعدل الله
- وما ذلك العدل؟
- هو الحكم على آدم بما هو له أهل
- وما خطر ذلك الحكم الذي استوجب أن تقيموا من اجله هذا الاحتفال؟
- لقد كشفت سوءة آدم، ولله الحمد!
- إن سوءة آدم من أمام، فهو يسترها بلا عناء، وسوءتُك من خلف أيها القرد، وستظل إلى الأبد وأنت مفضوح، لأنك شمتّ بآدم المظلوم
- كيف يكون مظلوماً وقد عصى الله؟
- ذلك شرف لن تناله أبدأً. لأنك ضعيف
- وهل تحتاج المعصية إلى قدرة؟
- نعم، ولأجل هذا سأعصي الله كما عصاه آدم
- فتأكل من شجرة التين؟
- أي تين يا قرد؟ إن لي في العصيان مذهباً لا يخطر للقرود في بال
- وما هو ذلك المذهب؟
- هو أن ابطش بكم جميعاً في لحظة واحدة فأريح الوجود من وجوهكم القباح
- أنت إذن لا تخاف الله؟
- وكيف أخاف من يسمح بأن تكون للقرود دولة؟ أنا كافر بالله، كافر، كافر، إن جاز عنده أن تقوم دولة للقرود أو أشباه القرود؛ ففضوا هذا الاحتفال السخيف، وعودوا إلى حظائركم صاغرين، وإلا نكلت بكم أشنع تنكيل
- وهل صنعنا شيئاً يعاب؟
- إن الشماتة إثمٌ حقير وخسيس، وهي لا تقع إلا من ألا وشاب فانزووا أيها القرود قبل أن يحل عليكم غضبي، فأنتم أحقر من أن تبوءوا بغضب الله، ولعله منحني من الشراسة ما منح لأؤدب ما يجلّ عن تأديبه من القرود والثعالب والذئاب
حين وقع الزلزال في الجنة نظر رضوان فرأى الحية تزحف بسرعة تفوق المألوف من زحفها الممقوت، فأدرك أن عليها جانباً من المسئولية، فمنعها من الخروج إلى أن تنجلي الأمور. ونظر فرأى إبليس يهرول ليقتحم باب النجاة، فرده على عقبيه إلى أن يأذن الله
بان يكون من الناجين
ثم سمع هاتف يصيح:
- ماذا تستفيد يا آدم من الاختباء في تلك الألفاف؟
- لأنجو من حسابك يا مولاي
- وكيف تنجو من حسابي، وأنت جان أثيم؟
- لك الأمر من قبل وبعد
- ولهذا أدعوك إلى الوقوف غداً في ساحة العدل، فأحضر من تريد من الشهود، ومن تشاء من المحامين، ليرتفع اللبس في تقدير مالك وما عليك
- أنت الشاهد وأنت الوكيل، فاقض بعدلك ورحمتك ما أنت قاض
- هو ذلك، ولكني أريد أن أقيم بنفسي أول محكمة في الوجود
(للحديث شجون)
زكي مبارك
أثر الآداب الأجنبية في الأدب الفرنسي
للأستاذ صلاح الدين المنجد
أن لامتزاج الآداب بعضها ببعض، أثراً بالغاً في ازدهارها ونموها، لما في ذلك من لقاح مثمر وإحياء باهر، ولما تكتسبه من أناقة في العرض، وطرافة في التصوير، وبراعة في الخيال، ورهافة في الذوق
ولعل ازدهار الأدب العربي في العصر العباسي آية على فائدة اللقاح في الأدب وطيب جناه، فقد حليت نغماته، وطرُفت ألوانه، وتدفقت الحياة في صوره وتهاويله، وخرج من الجمود إلى الحركة، ومن القيود إلى الانطلاق
وقد كان الأدب الفرنسي اكثر الآداب تأثراً بالآداب الأجنبية، ولعل اعظم رائعاته كانت من وحي البلدان المجاورة وآدابها. على أن هذا التأثير كان يقتصر على الفكرة، لا على الشكل في اكثر الأحايين
بدأت فرنسا تستمد من آداب الأمم المجاورة مادة لأدبها، منذ أوائل القرن السادس عشر. فقد كان القصاصان (مرغريت دُ فالوا و (برانتوم ينهجان نهج (بوكاتشيو) القصصي الإيطالي: حتى إذا كان النصف الثاني من هذا القرن ازداد هذا التأثير واتسع. فأسست طائفة من الأدباء مجمعاً لبعث الأدب الفرنسي سموه ورأسهم (رونسار) الشاعر، وكانوا معجبين بالشاعر الإيطالي (بترارك فتتبعوا أشعاره بالدراسة والترجمة والنشر، ونهجوا نهجه في نظمه وأفكاره. وفي الحقبة نفسها، أي في النصف الثاني من القرن السادس عشر، قامت في مدينة (ليون) في الجنوب، مدرسة خاصة لتمجيد آراء ذلك الشاعر الإيطالي وتقليد أشعاره
فلما جاء القرن السابع عشر، عكف (موليير) على المسرح الإيطالي يقتبس منه. وهذا الاقتباس واضح في ' وغيرها. وكان يحتفظ في أحايين كثيرة، بالنماذج الإيطالية نفسها
وظل تأثير الأدب الإيطالي في الأدب الفرنسي مستمراً. ففي القرن الثامن عشر، أولع الأدباء الفرنسيون بالآثار الإيطالية المسرحية (كرينار و (لوساج و (ماريفو أما في الشعر، فكان بعض المحدثين آنئذ، يقلدون (تانسيل ويستقون من (لوتاس
على أن القرن السابع عشر قد عرف أدباً آخر، أثَّر في الأدب الفرنسي؛ وكان ينبوعاً
ارتشف منه الاتباعيون مادة لروائعهم؛ وهو الأدب الأسباني. فقد عبّ منه كثيرون ومنهم (كورنيل في مأساته (السيد وأعجب الأدباء الفرنسيون (بلوب دُ (آلاركون و (تيرسو دُ مولينا واقتبسوا من آثارهم، ونقلوا إلى الفرنسية بعضها. وقد استمر هذا التأثير حتى القرن الثامن عشر؛ فقد اقتبس (لوساج) من المسرح الأسباني فكرة روايته (الشيطان الأعرج) كما اقتبس (بومارشيه) منه روايته (زواج الفيجارو)
ثم جاء الأدب الإنجليزي يؤثر في الأدب الفرنسي. ولم تؤثر أمة في فرنسا تأثير إنجلترا فيها. فقد كان أثرها ظاهراُ في نواحي شتى: في الأدب، والفلسفة، والسياسة، والأذواق. وكانت ملجأ لكثير من الأدباء الفرنسيين ومنفى. فقد رحل إليها فولتير، ومونتسكيو، وبوفّون، وروسّو، وشاتوبريان، ومدام دُستال وغيرهم؛ فأقاموا فيها وأعجبوا بها. وقد أبان فولتير في (رسائله الإنكليزية عما أحس به في تلك البلاد. وتكلم ما راق له من الكلام، على الدين والفلسفة والأدب والشعر فيها. حتى انه حاول أن يقتبس من شكسبير بعض مشاهد رواياته. ثم نقلت روايات و (سويفت و (دُفوا فلقيت إعجاباُ وأثارت حماسة. ودبت الحياة في الشعر الفرنسي التثقيفي مذ قرأ الناس (تومسون و (جراي وكان شعر (أوسّيان مقدمة للشعر الإبداعي. وأثرت فلسفة (لوك و (هيوم في رجال الموسوعة الفرنسية. واصبح طراز الحكم الإنجليزي مثلاً أعلى عند سياسي فرنسة. فلما شبت الثورة الفرنسية، انقطع هذا الاتصال؛ على أنه عاد اشد قوة، واعظم شأناً بعدها. وانكب الشعراء الإبداعيون آنئذ على روائع (بيرون و (شيلي و (شكسبير يقلدونها مرة ويستوحونها مرات
وما كاد الهم يدرك القرن الثامن عشر حتى سرب الأدب الألماني إلى فرنسة. وكان لنقد (ليسنغ أثر بعيد فيها. ثم جاء (جوته) وننشر (فرتر) فألهبت المشاعر والعواطف؛ وهزت الناس، فانتحر منهم عدد كثير تقليداً لفرتر. ثم اخذ الفرنسيون يقلدون (شيلر وأخذت فلسفة الألمان تحل محل الفلسفات الأخرى. ولعل انطق صورة لهذا التأثير كتاب (مدام دستال) عن (ألمانية ثم عرّج الناس وأخذوا يتتبعون آثار (جوته) و (شيلر) و (هوفمان) و (هنري هاين)
وفي أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، اتجهت فرنسة نحو الآداب
الاسكندنافية والروسية، فقد استهوى الفرنسيين نجاح الروايات الروسية، كما جذبتهم الروايات الإنجليزية من قبل، فترجمت روايات (غوغول) و (تورجنيف و (دستويفسكي حتى ألفها وتناقلها، ونحا بعض الأدباء في رواياتهم نحوها
على أن هذا التأثير قد اتسع منذ أوائل هذا القرن العشرين؛ لسرعة المواصلات، وانتشار المجلات، وازدهار المؤلفات. وغزت أسواق فرنسة مؤلفات الأمم كلها. فكيبلنغ ودانونزيو. وسلمى لاجرلوف، وبرناردشو، وأوسكار وايلد، أثروا في الكتاب المعاصرين وإن لم تظهر آثار هذا التقليد واضحة بعد.
وكذلك بدأت مؤلفات الكتاب العرب تظهر بالفرنسية أيضاً. فقد نقلت لها أعظم آثار الأستاذين توفيق الحكيم ومحمود تيمور، وبعض آثار الأستاذ الدكتور طه حسين وبعض مقلات للأستاذ الرافعي
أما في القرون الحالية فقد كان للشرق العربي أثر في بعض مؤلفات شعراء فرنسية وكتابها، كلامارتين، وبارّيس، ولوتي، ورينان، وجيرار دونرفال، وألاخوين تارود، ودورجليس، وغيرهم ممن زاروا بلاد الشام ومصر وتمتعوا بما فيها من روعة وجمال وسحر، فوصفوها وخصوها بالكتب. ولا ننس ما كان لكتاب ألف ليلة وليلة الذي نقل إلى الفرنسية منذ قرون، من أثر وما كان لكتاب السياحات والرحلات والعجائب التي نقلت من قبل وتأثير وإعجاب
وهكذا نجد أن الأدب الفرنسي قد استمد كثيراً من آداب الأمم الأخرى، فكان ذلك من أسباب ازدهاره ونموّه، ورقته وسموّه
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
-
من أدب القرن التاسع
كتاب (سحر العيون)
للأستاذ احمد يوسف نجاتي
- 2 -
6 -
ومن أولاد أبي الوليد بن الشحنة أوحد الدين عبد اللطيف بن محمد بن محمد بن محمود: ولد سنة 788 وتلقى العلم ببلده وبالقاهرة، ووّلى قضاء مدينة (صفد) مراراً، وناب في القاهرة عن قاضيها وتوفي بها بالطاعون سنة 833 هـ. رحمه الله.
وهؤلاء المتقدمون من بني الشحنة أدركهم الموت قبل مولد البدريّ صاحب (سحر العيون)؛ وأما الذين عاصرهم البدري وانتمى إليهم فمنهم:
7 -
محب الدين أبو الفضل بن المحب أبي الوليد المتقدم ابن كمال الدين، فهو محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمود وهو من أشهر بني الشحنة وأسيرهم ذكْراً: ولد بمدينة حلب سنة 804، فهو أسنّ من البدريّ بنحو 43 سنة، وسافر مع والده صبيّاً لم يبلغ عشر سنين إلى مصر، ثم قدم إليها مستقلاً بنفسه بعد ذلك، وتلقى العلم بمدن الشام ومصر، وجد في الطلب، وأخذ عن كثيرين من أجلاء عصره بالقطرين، وكان آية في الذكاء وقوة الحافظة حتى قيل فيه:
سمح الزمان بمثله فاعجب له
…
إن الزمان بمثله لشحيح
فالأصل زاكٍ والخلال حميدة
…
والذهن صاف واللسان فصيح
وفيه يقول بعض شيوخه:
أقسمت إن جدّ وطال المدى
…
أروي الورى من بحره الزاخر
فقل لمن بالسبق قد فضّلوا
…
(كم ترك الأول للآخر؟)
ولما كملت أداته، ولى الوظائف الجليلة من قضاء وتدريس ونحوهما فولى القضاء الحنفية بمدينة حلب سنة 836 وعظمت رياسته وظهرت كفايته، وانطلقت الألسنة بذكره، وظل في مدة الظاهر جقمق بين رفعة وخفض وولاية وعزل حتى ولى كتابة السر بالقاهرة سنة 857، ولم يلبث أن صرف عنها وبقي بالقاهرة حيناً من الدهر في عيشة غير راضية، ثم
رحل إلى بيت المقدس وأقام بها إلى سنة 862 ثم عاد إلى وطنه حلب. ثم ولى كتابة السر بالقاهرة ثانية سنة 863، فسار فيها سيرة مشكورة واقبل عليه السلطان الأشراف (إينال) إقبالاً عظيماً حتى كان هو المنشئ لعهَده في مرض موته لولده أحمد الملقب (بالمؤيد)، وبقي بعد ذلك بالقاهرة يتقلد وظائف القضاء والتدريس، ولاقي كثيراً من صروف الزمان ومنافسة الأقران حتى توفي بالقاهرة في أوائل سنة 890. فبان من هذا أن الذي أنشأ عهد (اينال) لولده (المؤيد) هو أبو الفضل المحب الأصغر لا أبوه أبو الوليد المحب الأكبر المتقدم والمتوفى سنة 815، ولكن رأيت في فهرس دار الكتب بالجزء الخامس صفحة 273 ما يأتي:
(عهد للسلطان المؤيد أبي الفتح أحمد بن الملك الأشرف (إينال) تأليف العلامة أبي الوليد قاضي القضاة محب الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمود بن غازي بن أيوب الشهير بن الشحنة التركي الحلبي الحنفي المولود سنة 749، والمتوفى بحلب يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الآخر سنة 815هـ أوله: هذا عهد شريف تبسم ثغر ربيعه لما تنسم الخ (نسخة ضمن مجموعة في مجلد مخطوطة بقلم معتاد) 1هـ رقم 59؛ وهذا غير معقول، فإن الملك الأشرف سيف الدين أبا النصر إينال العلائي - وهو الثاني عشر من ملوك الجراكسة - إنما ولي مملكة مصر في شهر ربيع الأول سنة 857:(بعد وفاة أبي الوليد المحب الأكبر والد أبي الفضل المحب بنحو 32 سنة)؛ واستمر الملك الأشرف (إينال) سلطاناً إلى أن خلع نفسه وعقد الولاية لولده الملك المؤيد شهاب الدين أبي الفتح احمد في 14 من جمادي الأولى سنة 865 بعد وفاة أبي الوليد بنصف قرن (فينبغي إصلاح ما في فهرس الدار بنسبة العهد إلى كاتبه، وإنما كان الاشتباه، لان أبني الشحنة هذين الأب وابنه يلقب كلاهما (بالمحب ابن الشحنة)، وإنما يميز بينهما بالكنية؛ فكنية كاتب العهد أبو الفضل توفي سنة 890، وكنية والده أبو الوليد وتوفي سنة 815. هذا، وقد توفي الأشرف (إينال) عقب ذلك بيوم واحد (15 جمادي الأولى سنة 865)، ومكث ولده المؤيد احمد سلطاناً زهاء خمسة أشهر، ثم خلعه أنابكه (مربيه) الملك الظاهر (خشقدم) سيف الدين في شهر رمضان سنة 865 الذي كان سلطاناً بارّاً محبّاً للخير توفي في شهر ربيع الأول سنة 872.
ولقد كان المحب بن الشحنة أبو الفصل عالماً جليلاً أديباً فصيحاً بديع النظم والنثر سريعهما حلو الحديث حسن العشرة يميل إلى النكتة اللطيفة والنادرة الظريفة، عذب الروح رقيق الطبع عليَّ الهمة صبوراً على محن الدهر ورزايا الأيام، ذا شغف بجمع الكتب واقتناء النادر منها. وله مصنفات في الفقه والأصول والحديث والتفسير والتاريخ وغيرهما. وله من مطلع قصيدة وهو بالقدس:
قلب المحب بدار البين مشغول
…
كما حشاه بنار البعد مشعول
وطرفه الليل ساه ساهر أرق
…
ودمعه فوق صحن الخد مسبول
وله مما يقرأ على قافيتين:
قلت له لما وفي موعدي
…
وما بقلبي لسواه نفاق
وجاد بالوصل على وجهه
…
حبي سما كل حبيب وفاق
وله يطلب الإجازة في سنة 828 من الأستاذ العلامة احمد ابن حجر المشهور المتوفى سنة 852:
وإذ عاقت الأيام عن لثم تربكم
…
وظنٌ زماني أن أفوز بطائل
كتبت إليكم مستجيزاً لعلتي
…
ابلّ اشتياقي منكم بالرسائل
ومن مؤلفاته التاريخ المسمى (نزهة الناظر في روض المناظر) وهو تاريخ كبير جعله كالشرح لتاريخ أبيه المسمى
(روض المناظر في علم الأوائل والأواخر) السابق. وله - كما في فهرس الدار - كتاب (الدار المنتخب في تاريخ مملكة حلب) ضمنه تاريخ مدينة حلب وآثارها ومعاهدها وجوامعها ومدارسها وغير ذلك مما يتعلق بشؤون مملكة حلب التاريخية والجغرافية، وجعله ذيلاً على (بغية الطلب في تاريخ حلب). تأليف العلامة المؤرخ كمال الدين أبي حفص عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن أبي جرادة العقيلي المعروف بابن العديم الحلبي المولود سنة 586 والمتوفى سنة 660؛ وقد انتهى في تاريخه إلى سنة 650؛ ومنه بدار الكتب 14 جزءاً في متتابعة في ثلاثة مجلدات. وقد رتب المحب بن الشحنة تأريخه على تمهيد وفاتحة وخمسة وعشرين باباً. وقد طبع بمدينة بيروت سنة 1909م، وبدار الكتب الملكية نسخة منه قيمة رقم 2326 تاريخ، وأخرى رقم 2327. هذا وفي كشف الظنون في الكلام
على (بغية الطلب في تاريخ حلب) لابن النديم ما يأتي:
والذيل عليه لأبي الحسن علي بن محمد بن سعد الحلبي الجبريني المعروف بابن خطيب الناصرية المتوفى سنة 843، رتب الأعيان على الحروف وسماه (الدر المنتخب). ولما طالعه الحافظ بن حجر حين قدم حلب سنة 836 الحق به أشياء كثيرة ثمينة وأثنى على صاحبه. ثم ذيل عليه موفق الدين أبو ذر أحمد بن إبراهيم بن محمد الحلبي المتوفى سنة 884 وسماه (كنوز الذهب في تاريخ حلب). ولم يذكر في كشف الظنون أن ابن الشحنة ألف تاريخاً لحلب اسمه (الدر المنتخب) فلعله جمع هذه الذيول قبل وفاته سنة 890 وتصرف فيها ونسبها لنفسه - والله أعلم - أو لعله ألف تاريخاً لحلب مستقلاً واستعار اسمه من اسم تاريخ خطيب الناصرية. وقد يرجع هذا بما ذكره صاحب كشف الظنون في موضع آخر قال
(كنوز الذهب في تاريخ حلب) لأبي ذر احمد بن البرهان إبراهيم الحلبي المتوفى سنة 884 ذيل به (الدر المنتخب في تراجم أعيان حلب). وأقول إذا علمت أن محب الدين بن الشحنة كان زوج السيدة خديجة بنت القاضي علاء الدين علي بن محمد بن سعد المتقدم المعروف بابن خطيب الناصرية مؤلف (الدر المنتخب) هان الخطب ووضح المشكل، على أنه يؤخذ من ترجمته الطويلة في الضوء اللامع أنه ألف تاريخين وذكر له عدة مؤلفات في علوم مختلفة.
(يتبع)
أحمد يوسف نجاتي
الأستاذ بكلية اللغة العربية
أحلام اليقظة
للدكتور محمد حسني ولاية
قص عليّ صبي في الرابعة عشرة من العمر الحلم الآتي:
(بينما كنت واقفاً في غرفة الدراسة أجيب على سؤال وجهه إليَّ مدرسي، اختفى عن ناظري التلاميذ والمدرس وجميع مل في الغرفة سوى (السبورة)، وانقلبت أرض الغرفة الخشبية إلى أرض صحراوية، ثم ما لبث أن أطل من خلف أعلى (السبورة) رجل ذو منظر مخيف، عريض الوجه، منبعج الأنف، غريب الخلقة، ذو مخالب كمخالب النمر، مرتد ثوباً أخضر وقلنسوة خضراء، ممسك بطفل صغير في الثانية من العمر، وقد ارتدى ثوباً أحمر وقلنسوة حمراء، وكان الطفل كثير الشبه بالرجل، ولكن أنفه لم يكن منبعجاً، ولم تكن له مخالب
(وبعد برهة شطر الرجل الطفل الصغير شطرين بيديه القويتين، فصحتُ من شدة الجزع بأعلى صوتي. . . ثم سمعت مدرسي يقول: (لا تّخف)؛ ثم أفقت ووجدتني واقفاً أمام مدرسي كما كنت، وعاد كل شيء إلى ما كان عليه. . .)
لاحظت أن الحالم يشبه أمه البلجيكية، وأن أخاه البالغ من العمر ثلاثة عشر عاماً يشبه أباه المصري، وقد كان الأب شديد القسوة وكثيراً ما كان يضربه ضرباً مبرحاً؛ أما أمه، فكانت لينة القلب
أدى تحليل الحلم إلى استكشاف عقدة في عقل الصبي الباطن، مؤسسة على نزعات ترمي إلى التخلص من أخيه الذي كان مريضاً بالحصبة عندما كان في الثانية من العمر، وكان الحالم حينذاك في الثالثة فألبس المريض رداء أحمر وقلنسوة حمراء؛ وقد ظلت هذه العقدة محتبسة في العقل الباطن منذ إحدى عشر سنة، والسبب في نشوء هذه العقدة هو العناية الفائقة التي وجهها الوالدان إلى الطفل المريض، ومن ثم تشبثت بالحالم غيرة شديدة من أخيه
يمثل الرجل الوحشي أب الحالم ويرمز الطفل الصغير إلى أخيه، وقد شوهت هيئة الأب والأخ في الحلم بفعل الطاقة الكاتبة:(الرقيب الحلمي)؛ وكأن الصبي يقول لأبيه: (مزّق أخي بمالك من البطش والقوة، وخلصني منه، ليخلو لي الجو. . .)
قال لي الصبي انه لا يكره أخاه، ولكن نشأت بينهما حزازات، لأن والده يدلل أخاه كثيراً ويغضي عن هفواته، وقد استغل أخوه هذا التحيز من جانب الأب، فلجأ إلى ضربه وسلب الحلوى والنقود منه، فهو في عرفه صورة مصغرة من أبيه
وقد قص عليَّ الصبي حلماً ليلياً يدل على مبلغ استقرار نزعة التخلص من أخيه في سريرته:
(رأى منذ عهد قريب صبيّاً في عمر وهيئة أخيه يقود طائرة، ثم وقفتْ الطائرة في الهواء بجوار نافذة منزله، فاستقلها كراكب فأطلق قائد الطائرة العنان لطائرته، ولكنه بعد مضي زمن قليل أصابته رصاصة لم يعرف مصدرها فصرعته، فما كان من الحالم إلا أن حل محله وقاد الطائرة بنفسه)
يعني هذا الحلم أنه يريد التخلص من أخيه الذي كانت له الكلمة النافذة والسلطة والقيادة في محيط العائلة
ورأى في حلم ليلي آخر أنه يسير في أرض صحراوية انبعثت صخرة من الأرض ومنعته من استئناف المسير؛ وترمز الصخرة هنا إلى أخيه، لأنه واقف له بالمرصاد
محمد حسني ولاية
4 - ابن خُرْدَاذبه
للأستاذ كوركيس عواد
(تتمة)
6 -
الخصومة بين ابن خرداذبة وأبي الفرج الأصفهاني
(ا) تمهيد
كان الأستاذ كامل كيلاني قد أحسن غاية الإحسان بنشره بحوثاً طلّية في وصف بعض (الخصومات) أو (المناظرات) الأدبية القديمة التي دارت رحاها بين طائفة من أكابر العلماء، وكان لها شأن في توجيه الرأي الأدبي في تلك الأزمنة الغابرة.
وما من شك في أن هاتيك الخصومات تمثل لنا لوناً من ألوان الثقافة، وتكشف عن منحي من مناحي المجتمع، كما أنها توضح لنا بأجلى بيان ما كان يضطرم أحياناً في نفوس بعض الأدباء من حبٍ للتنافس، وميلٍ إلى الظهور والتصدُّر، وانسياقٍ لعوامل الحقد والضغينة؛ وتفصح لنا عما كانت تنطوي عليه أخلاق بعضهم من كبرٍ أو مكابرة، وعنتٍ أو دهاء. . . ومهما يكن من أمر، فإن تلك الخصومات صفحة أدبية رائعة الجمال، إذ شحذ مسطِّروها أذهانهم لإحراز الفوْز، وأفرغوا ما في وسعهم من الأدلة والبينات التي كانت تتجاوب أصداؤها بينهم، وتتدافع تدافع السيل العرم، لتنال مكانها من الظفر!
ولقد وقفنا على شيء يقرب من ذلك، تشب بين اثنين من أشهر الكتبة الأقدمين، وهما ابن خرداذبة وأبو الفرج الأصفهاني.
وإذا تكلمنا على الأول منهما بما مرَّ بك تفصيله، فلنقل كلمةً وجيزة نمهد بها موقفه من الخصومة، فنقول:
(ب) أبو الفرج الأصفهاني
إن شهرة أبي الفرج البعيدة، تغنى عن التعريف به. وكتابه العظيم الموسوم بـ (الأغاني) الذي سلخ في جمعه وتأليفه على ما قال خمسين سنة، لمن أعظم الكنوز الأدبية قيمة، وأحفلها مادة! وكفاه من سمو المنزلة ومزيد الاعتبار أن الصاحب بن عباد - وهو من هو - (كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها، فلما
وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعد ذلك يستصحب سواء لاستغنائه به عنها!)
وكان الصاحب هذا يقول: (لقد اشتملت خزانتي على مائتين وستة آلاف مجلد، ما منها ما هو سميري غيره (أي غير كتاب الأغاني) ولا راقني منها سواه. . .)
وكان عضد الدولة (لا يفارقه في سفره ولا حضره، ولقد كان جليسه الذي يأنس به، وخدنه الذي يرتاح إليه)
ولأبي الفرج كتب عديدة أخرى ذكرها مترجموه ورواة أخباره. ضاع اغلبها، ففاتنا بضياعها من الخسارة بما لا يمكن التعويض عنه.
ولسنا في مقام التبسط فيذكر ترجمته، فذاك أمر معروف مشهور، وإنما اكتفينا بالتنويه بكتابة الأغاني، لما له من الخطر في الخصومة التي أشرنا إليها. أما من أراد الوقوف على أخبار أبي الفرج، فعليه بها مفصلة في (تصدير) المجلد الأول من الأغاني المطبوع في دار الكتب المصرية. ففيها كل الغناء.
وما لا بد من النص عليه، هو أن أبا الفرج توفي في أواسط المائة الرابعة للهجرة (أي في سنة 356 للهجرة)، وهي المائة التي ازدهر فيها الأدب العربي، واستقام أمره، واتسعت مادته
(ج) الخصومة
والخصومة التي سنذكرها، تختلف عن كثير من الخصومات لأنها جرت بين شخصين باعد بينهما الزمن! فقد ذكرنا من قبل أن ابن خرداذبة نادم المعتمد الخليفة العباسي، وخص به، وكانت وفاة المعتمد في سنة 279 هـ. فيكون ابن خرداذبة من أبناء المائة الثالثة للهجرة، ولعله تعداها فعاش بعض السنين من المائة الرابعة
أما أبو الفرج الأصفهاني، فقد وُلِدَ سنة 284 ومات سنة 356 للهجرة. فهل يكون قد أدرك في أوائل شبابه شيخوخة ابن خرداذبة؟ وهل يكون قد حصل بينه وبينه تنافر وتباغض أدى بابي الفرج إلى أن يقف موقفه المريب إزاء زميله على ما سنوضحه؟
فإذا طالعت كتاب (الأغاني) لأبي الفرج، ألفيته يذكر ابن خرداذبة في مواطن عديدة منه، ويستشهد بأقواله ولكنه لا يذكره إلا ليثلبه، ويحيط من قدره، ويجرده من كل حسنة سواء أكان لذلك كله موجب أم لم يكن! وهو لا يروي قولاً من أقواله إلا ليردّ عليه ويضعّفه
ويتعمد تزييفه! فهو على ما يبدو ظاهر التحامل. على أننا لا ندري ما مبلغ الصحة في ما حكاه عن ابن خرداذبة، ولا الدواعي الحقيقية التي حماته على أن يشدّد النكير على صاحبه، لأن مؤلفات ابن خرداذبة التي ندد بها وانتقد أقوالاً منها ضاعت بأجمعها! ولهذا، نُرَ أنا في هذه الخصومة سنصغي - على الرغم منّا - إلى شهادة جانب واحد! وللتاريخ أن يحكم على صحة هذه الشهادة، ولعل الأيام تكشف لنا مصنفات ابن خرداذبة، فنعود نستمع إلى أقوالها، وقد ينجلي الأمر إذ ذاك وتتضح الحقيقة!
واليك أقوال أبي الفرج في خصمه، استخلصناها من أماكن مختلفة من كتاب الأغاني:
قال في (5: 3 من طبعة الساسي، أو 5: 156 من طبعة دار الكتب المصرية) ما هذا بحرفه:
(وذكر ابن خرداذبة، وهو قليل التحصيل لما يقوله ويضمنه كتبه، أن سبب نسبته (أي نسبة إبراهيم الموصلي) إلى الموصل، إذا سكر كثيراً ما يغني على سبيل الوَلَع:
أناجت من طرق مَوْصل
…
أحمل قلل خَمْريَا
من شارب الملوك فلا
…
بُدَّ مِن سُكْرِيَا
وما سمعت بهذه الحكاية إلا عنه؛ وإنما ذكرتها على غثاثتها لشهرتها عند الناس، وأنها عندهم كالصحيح من الرواية في نسبة إبراهيم إلى الموصل، فذكرته دالاّ على عواره) أهـ.
وقال في (1: 18 س، أو 1: 36 د):
(وذكر ابن خرداذبة أنه (الكلام على مبعد المغنى) غَنَّى في أول دولة بني أمية وأدرك دولة بني العباس وقد أصابه الفالج وارتعش وبطل، فكان إذا غنى يُضحك منه ويُهزأ به. وابن خرداذبة قليل التصحيح لما يرويه ويضمنه كتبه. والصحيح أن معبداً مات في أيام الوليد بن يزيد بدمشق وهو عنده. وقد قيل: إنه أصابه الفالج قبل موته وارتعش وبطل صوته. فأما إدراكه دولة بني العباس فلم يروه أحد سوى ابن خرداذبة، ولا قاله ولا رواه عن أحد وإنما جاء مجازفة) أهـ.
ونظير ذلك قوله في (6: 15 س، أو 6: 173 د):
(وذكر ابن خرداذبة، أنه (يقصد يحي المكيَّ) مولى خُزاعة. وليس قوله مما يحصل، لأنه
لا يعتمد فيه على رواية ولا دراية)! ومثله قوله (13: 154 س):
(ويزعم ابن خرداذبة، أن الصنعة فيه (في بيتين من الشعر أوردهما الأصفهاني) ليزيد وليس كما ذكر، وإنما أراد أن يوالي بين الخلفاء في الصنعة، فذكره على غير تحصيل، والصحيح، أنه لمعبد. . .)
وشبيه به ما رواه في (10: 115 س):
(وذكر ابن خرداذبة، وهو ممن لا يحصل قوله ولا يعتمد عليه، أنه (أي عَلَّوية المغنى) من أهل يثرب، مولى بني أمية)
أو ما قاله في (8: 156 س، أو 9: 276 د):
(وممن دونت صنعته من خلفاء بين العباس، الواثق بالله، ولم نعلمه حُكى ذلك عن أحد منهم قبله، إلا ما قدمناه سوء العهدة فيه عن ابن خرداذبة، فإنه حكى أن للسفاح والمنصور وسائرهم غناء، وأتى فيها بأشياء غثة، لا يحسن لمحصل ذكرها)!
ومما يتصل بها المعنى، ما حكاه أبو الفرح في (8: 144 س أو 9: 250 د):
(قال مؤلف هذا الكتاب: المنسوب إلى الخلفاء من الأغاني والملصق بهم منها، لا أصل لجله ولا حقيقة لأكثره، لاسيما ما حكاه ابن خرداذبة، فإنه بدأ بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر أنه في هذا البيت:
كأنَّ راكبها غصنٌ بمَرْوَحَة
ثم والى بين جماعة من الخلفاء واحداً بعد واحد، حتى كأن ذلك عنده ميراث من مواريث الخلافة أو ركن من أركان الإمامة لا بد منه ولا معدلَ عنه، يخبط (يعني ابن خرداذبة) خبطَ العشواء ويجمع جمع حاطب الليل. . .!)
أو ما سطره في (13: 110 س):
(وذكر ابن خرداذبة، أن المهدي اشتراها (اشترى الجارية بصبص) وهو ولي العهد، سراً من أبيه، بسبعة عشر ألف دينار، فولدت منه عُلَيّة بنت المهدي. وذكرغير ابن خرداذبة، أنه غلط في هذا، وإن الذي صح، أن المهدي اشترى بهذه الجملة جارية غيرها وولدت عُلَيَّة. . .)
فهذه، على ما رأيتَ، آراء صريحة، طعن فيها أبو الفرج بصاحبه، وضعَّف مرويّاته.
وليس بوسعنا أن نبدي فيها رأيا للسبب الذي قدمناه في محل آخر من هذا المقال. ونضيف الآن إلى ذلك، أن عشرات الكتب في الغناء والمنادمة والشراب وما اتصل بهذه الموضوعات من قريب أو بعيد، مما صنفه اقدم الكتبة كإسحق الموصلي، ويحيى بن أبي منصور الموصلي، وعبد الله بن هارون، ويونس الكاتب، وعمر بن بانة، وحسن ابن موسى النصيبي، وأبي حشيشة الطنبوريَّ، وجحظة، وأبي أيوب المديني، وغيرهم، كل تلك الأسفار قد ضاعت وامحي أثرها، ولم يبق لنا منها سوى أسمائها الجميلة
التي حفظها لنا ابن النديم وغيره في تصانيفهم
هذا، وقد ذكر أبو الفرج زميله في أماكن أخرى من أغانيه، ونقل عنه أخباراً ومرويات لا فائدة من إيرادها هنا.
غير انه في بعض نقوله كان يمر به دون ما تجريح، ذلك إذا راعى جانب الهدوء والاعتدال في القول، وإلا، فلا أَقل من أن يتوج ما ينقله عنه بعبارة (وزعم ابن خرداذبة)، ولا يخفى على اللبيب، ما تنطوي عليه لفظة (زعم)!
فهل كان أبو الفرج في مواقفه النقدية يعتمد الإساءة إلى أقرانه ومعاصريه ممن ألف في موضوع الأغاني وما إليها؟ أم إنه كان على حق فيما فند وزيّف، وقد وقفنا على رأي له في كتاب من هذا القبيل، ننقله إلى القارئ، لما فيه من مغزى أدبي، قال:
(وذكره جحظة (الكلام هنا على أحمد النَّصْبِيّ المغنىّ الطنبوري) في كتاب الطنبوريين، فأتى من ذكره بشيء ليس من جنس أخباره ولا زمانه، وثلبه فيما ذكره، وكان مذهُبهُ - عفا الله عنه - في هذا الكتاب، أن يَثْلِبَ جميع من ذكره من أهل صناعته بأقبح ما قَدَر عليه، وكان يجب عليه ضد هذا، لأن من انتسب إلى صناعة، ثم ذكر متقدمي أهلها، كان الأجمل به أن يذكر محاسن أخبارهم وظريف قصصهم ومليح ما عرفه منهم، لا أن يثلبهم بما لا يعلم وما يعلم. فكان فيما قرأت عليه من هذا الكتاب أخبار احمد النصبي، وبه صدَّر كتابه فقال:
وحسب القارئ أن يسأل لماذا حمل أبو الفرج على جحظة في موقفه من احمد النَّصبي؛ وندد به لأنه ثلب مَن تقدمه، وهو نفسه لم يطبق هذا المبدأ في موقفه من ابن خرداذبة على ما مر بنا
7 -
ختام البحث
رأى القارئ في تضاعيف هذا المقال أن ابن خرداذبة كان إلى جانب مركزه الاجتماعي مؤلفاً في ميادين الكتابة المختلفة، فقد صنف في التاريخ والبلدان والأنواء والأنساب والموسيقى والمنادمة والشراب وغير ذلك. . . وان الكتبة انقسموا بشأنه فريقين: له وعليه. فأفراد الفريق الأول وعلى رأسهم المسعودي مدحوه، وقرضوا كتبه؛ والفريق الثاني، وعلى رأسهم الأصفهاني حملوا عليه حملة شعواء فأوسعوه نقداً وتجريحاً
ومن العسير علينا أن نبدي رأياً أو نقول قولاً في هذا الموقف الذي ينقض أوله أخره، ونحن في وقت نتلمس فيه تأليف ابن خرداذبة التي دارت عليها رحى الخصومة، فلا نجد منها شيئاً ما، كما أننا لا نجد اغلب الكتب التي تناظرها في البحث لنتحقق صحة ما قيل فيها، وقد يتاح حينذاك الحكم لها أو عليها!
(بغداد)
كوركيس عواد
الهند.
. .
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
هي الدرة اليتيمة في التاج البريطاني! من أجلها حقدت الدولة على بريطانيا، وبسببها تحملت إنجلترا الكثير من الشدائد ونزلت بساحتها الكوارث. إليها رنت أبصار الفرنسيين، وهفت قلوب الألمان، وداعب طيفها اليابان. وهاهي ذي اليوم تستعد للهجوم، وتتحفز للوثوب على الهند.
لقد داعب نابليون طيف الهند! اشتد العداء بين فرنسا وإنجلترا، ورأى نابليون أن خير طريق لقهر إنجلترا هو غزوها في بلادها (وإرغامها على إملاء شروط الصلح في لندن)!
حينذاك يسجد للعالم أمام نابليون، وتحت أقدام فرنسا والفرنسيين! ولكن دراسة هذا المشروع ردت نابليون إلى صوابه فعلم أن غزو إنجلترا ضرب من الأوهام والأحلام. إذن أين يوجه الطعنة القاتلة إلى بريطانيا؟ هداه تفكيره إلى أن خير طريق للوصول إلى هذه الغاية إنما يكون بالاستيلاء على مستعمراتها وبخاصة الهند، وكيف يكون ذلك؟ إن ذلك يمكن أن يتحقق إذا تمكن من غزو مصر، فمن مصر يمكن السير براً إلى الهند. ألم يفعل ذلك الاسكندر المقدوني أكبر قواد العصور القديمة؟ لم لا يفعل نابليون بونابرت أكبر قواد العصور الحديثة؟ وعبارة نابليون (لضرب إنجلترا يجب أن نكون سادة مصر) مشهورة معروفة، وفي نفس المعنى قال تاليران:(عن طريق مصر نصل إلى الهند). وتنفيذاً لهذه الخطة قدم نابليون بحملته المشهورة إلى مصر في أول يوليو سنة 1798، وبقى بها سنة وبضعة أشهر، ورأى بعيني رأسه آماله تنهار ومشروعه يفشل، وتحت جنح الليل البهيم غادر مصر في 22 أغسطس سنة 1799 وبعد قليل لحق به جيشه؛ وهكذا فشلت الحملة ولم يستطع نابليون الوصول إلى الهند.
ومن اجل الهند وحرصاً عليها خرجت بريطانيا على صداقتها التقليدية للروسيا وناصبتها العداء طوال القرن التاسع عشر لأنها رأت في مطامع روسيا وفي توسعها في آسيا خطراً على الهند، ولكن الخطر الألماني وحد بين صفوف البريطانيين والفرنسيين والروسيين. ومن أجل الهند والمستعمرات البريطانية الأخرى ناصبت ألمانيا إنجلترا العداء. وقد فزعت إنجلترا من تقدم الألمان نحو القوقاز في الصيف الماضي وسارعت إلى احتلال إيران،
وكل ذلك لتأمين الهند.
والهند تجذب أنظار العالم اليوم لعاملين:
1 -
اقتراب الخطر الياباني منها.
2 -
ذهاب السير سترافورد كريبس إليها لحل مشاكلها المتعددة ووضع نظام جديد لحكمها.
مشاكل الهند
ليس هناك دولة في العالم تحاكي الهند من حيث كثرة مشاكلها وتعددها وصعوبة حلها، فهي من ناحية من أغنى بلاد العالم، ومن ناحية أخرى من أكثر جهاته ازدحاماً بالسكان.
ومع هذا فإن حكمها ليس بالأمر اليسير الهين، وذلك لتباين ديانتها واختلاف عناصرها وكثرة لغات أبنائها وكراهية طوائفها بعضها لبعض كراهية شديدة
يبلغ عدد سكان الهند 320 مليون نسمة، ومساحتها مليوناً ونصف المليون ميلاً مربعاً، أو قدر نصف مساحة أوربا. على أن بريطانيا لا تهتم بالهند حباً في حكها، ولكن لأنها سوق عظيمة لمصنوعاتها ومورد للمواد الخام. وقد كانت صادرات بريطانيا إلى الهند في كثير من السنين أعظم من صادراتها إلى دولة أخرى. وقد بدأت الهند تدخل في الدور الصناعي وقد جاء هذا الدور على يد البريطانيين وتحت إشرافهم
ومشكلة الهند أمام إنجلترا تنحصر في أمرين: الإشراف على سكانها البالغ عددهم 320 مليوناً، وترقية التجارة البريطانية مع الاحتفاظ بالسلام. وليس من السهل حكم دولة معقدة كالهند ذلك لان التباين بين سكانها عظيم بدرجة يستحيل معها تحقيق أي وحدة حقيقية بين أجزائها، فلكل إقليم من أقاليمها ولكل دين من أديانها وطائفة من طوائفها أفكارها ومعتقداتها، ويتكلم سكانها 170 لغة، وتنقسم إلى 2400 طائفة. ومن أبنائها 217 مليونا من الهندوكيين و 60 مليوناً من المنبوذين، وهؤلاء هم أحط سكانها، وهم مجرمون من الحقوق المدنية؛ والبراهمة وعددهم 14 مليوناً، والمسلمون وعددهم 66 مليوناً
وبالهند سبعمائة مقاطعة تحقد الواحدة منها على الأخرى وتملك خمس أرضها؛ وعدد سكانها 75 مليوناً، وأكبر مقاطعاتها حيدراباد وسكانها 13. 000. 000 نسمة. وبعض هذه الولايات قديمة التاريخ، وبعضها حديثته
على أن البريطانيين حين قدموا الهند عقدوا معاهدات مع الكثير منها وضمنوا لها استقلالها
الذاتي وأقروا حكمها، وقد احترمت هذه المعاهدات حتى الوقت الحاضر، وهؤلاء الحكّام ليسوا مستقلين ولكن يخضعون لجلالة ملك بريطانيا وإمبراطور الهند ولنائبه الحاكم العام
والهند ما تزال أمة زراعية واهم محصولاتها القمح والقطن، وتعتمد الزراعة في كثير من جهاتها على الري ومعظم أمطارها موسمية؛ وهي في البنغال وأسام وبرما فقط تكفي للزراعة. أما في باقي الأجزاء فتختلف الأمطار من عام لعام مما عرض الهند لكثير من المجاعات التي كانت تقضي على الملايين من أبنائها. وقد خفف التقدم الحديث في وسائل النقل من وطأة هذه المجاعات. وتعنى حكومة الهند الآن بمشروعات الري وبواسطتها أن تزرع 20 ، 000 ، 000 مليون فداناً
وبتزايد عدد سكان الهند عاماً بعد عام (50 مليوناً في السنين الأخيرة) ولكن عدد المهاجرين من أبنائها مازال قليلاً، ولذلك يتعذر على الكثير من أبنائها الحصول على طعامهم، ويضطر الكثيرون منهم إلى الاستدانة على المحصول الجديد قبل نضجه
موقف بريطانيا
ليست مشاكل الهند الاجتماعية والاقتصادية من خلق بريطانيا ومع هذا يلقى الهنود تبعتها دائماً على بريطانيا ويطلبون منها حلها واشتراك أبنائها في حكم بلادهم. وقد منحت بريطانيا الهنود كثيراً من السلطة الإدارية المحلية عقب الحرب الماضية إرضاء لهم، فتركت لثمان من ولاياتها الكبيرة شئونهم الداخلية الخاصة بالتعليم والزراعة والصناعة والصحة والأعمال العامة، وعينت كثيرين من أبنائها حكاماً لولاياتهم، وأشركتهم في المجالس التشريعية، وأنشأت مجلساً للدولة يرأسه الحاكم العام وعدد أعضائه ستون: منهم 16 من الهندوكيين و11 من المسلمين و3 من السيخ و3 من الأوربيين والباقي من موظفي حكومة الهند البريطانيين، وجمعية تشريعية يرأسها كذلك الحاكم العام وعدد أعضائها 140 منهم 100 منتخبين، ولكن حرمت هذه الجمعيات من بعض الحقوق الهامة فلا تسري قراراتها المتعلقة بالدين العام وبقوات الدفاع وبالسياسة الخارجية بدون موافقة الحاكم العام
وقد شعر كثير من الهنود أن الحقوق التي نقلت إليهم قليلة الأهمية وبذلك طلبوا من بريطانيا أن تمنحهم الحكم الذاتي وغلا بعضهم فطلب الاستقلال. على أن أي حل لا يرضي مختلف الطوائف سيكون نصيبه الفشل. ويجب أن تنتبه بريطانيا إلى مطالب
المسلمين بصفة خاصة وذلك بالنسبة لعظيم عددهم وشدة تمسكهم بمطالبهم.
وقد طار إلى الهند أخيراً السير (سترافورد كربيس) ليحاول حل القضية الهندية (وان ذهابه إليها دليل على أن حكومة بريطانيا وشعبها يعلمان بأن مطالبة الهند بأن تكون أمة قائمة على حق). ونحن نتمنى له التوفيق في مهمته
أبو الفتوح عطيفة
دفين (لا كْرُونيه)
للشاعر الأرلندي تشارلز وولف
بقلم الأستاذ محمود عزت عرفة
(لاكرونيه ميناء على الساحل الشمالي الغربي من أسبانيا، ودفينها هو السير (جون مور) أحد كبار قواد الإنجليز في حرب شبه الجزيرة. وكان قد التقى بالفرنسيين عند هذا الموقع وهو يحاول الارتداد إلى الساحل يوم 16 يناير 1809م فأنتصر عليهم وأوقف زحفهم. . . ولكنه أصيب بقذيفة من مدفع، ومات متأثراً منها في مساء اليوم نفسه. وقد احتفل الإنجليز بتشييعه - في منتصف الليل - احتفالاً صامتاً مؤثراً، ودفن تحت أسوار مدينة لاكرونيه. . .
أّمّا تشارلز وولف صاحب هذه القصيدة فهو شاعر أرلندي عاش بين عامي 1791 و 1823م. ولم يعثر من شعره إلا على مقطوعات قلية؛ أهمها وأجودها جميعاً هذه القطعة التي كفلت - وحدها - لاسمه الشهرة والخلود)
مضيناً بجثمانه إلى القبر حثيثاً؛ فما دوَّى لطبلِ صوت، ولا ارتفع لترنيمةٍ صدى. . .
وأودعناه مقرَّه الأبدي في سكينة وهدوء لم يعكرهما جنديٌّ بمقذوف تحية، أو طلقة وداع.
كان ذلك والليل مظلم الرقعة حالك الجلباب؛ فما أضاءتْ لنا فيه إلا خيوط من شعاع القمر واهية، وإلا أقباس متضائلة من مصباحنا الخافت. . .
وقد أضجعناه بثوبه العسكري الذي مات فيه، فبدا كجندي يستجمّ بعد طول جهاد؛ ولم نُرِدْ أن نوشح صدره أو نلفَّ جثمانه في هذه الأسمال البالية التي يسمونها الأكفان. . .
كانت صلاتنا عليه قصيرة ومقتضبة، رتَّلناها في تأثر وإيمان؛ أما كلمات الحسرة والألم المألوفة في مثل هذا المقام، فما فُهنا منها بكلمة!!
لقد تعلقت أعيننا في سكون بهذا الوجه الشاحب؛ بينما اتجهت بنا الأفكار إلى الغد المجهول في مرارة وأسى.
كنا نفكر - ونحن نشق له لحده الضيق ونمهد له وساداً من التراب - في العدوِّ الذي سيطأ هذا الرفات الطاهر بقدميه؛ والأجنبي الذي سيمرّ فوقه ثانيَ عِطفِه. . . بعد أن نصبح نحن بمنأى عنه فوق أثباج هذا الخضَم الجائش!
سيتحدثون باستخفافٍ عن روحه الكريمة التي صعدت إلى بارئها؛ وفوق رفاقه الهامد سينبزونه بكلمات ملؤها السخرية والإفحاش؛ ولكن عبثاً يحاولون تحريكه أو إقلاق سسباته في هذا المضجع الذي سوّته له أيدينا بعناية ورفق.
فكَّرنا في كل هذا. . . ثم اقبلنا نواصل العمل في مهمتنا الشاقة المؤلمة، حتى دقّ فجأة ناقوس الخطر مؤذناً بالانسحاب؛ وسمعنا دوىً المدفع التي راح العدوّ يصب قذائفها من مدىً شاسع. . . وعلى غير هدى. فأضجعناه في أناةٍ وحَزَن؛ ثم انصرفنا وقد أخلينا منه ساحةَ مجده التي ما زالت بدمه مخضوبة. . .
لم نخُطَّ على قبره حرفاً؛ ولم نُقِم فوقه تذكاراً أو نرفعْ نصباً؛ بل خلفناه في مضجعه فريداً مستوحشاً. . . وهيهات أن ينفرد أو يستوحش من كان له المجد جليساً، والخلود صاحباً وأنيساً!
(جرجا)
محمود عزت عرفة
المنصورة.
. .
للدكتور إبراهيم ناجي
بِأَيِّ مُعْجِزَةٍ في اُلْحبِّ نَتَّفِقُ؟
…
ياَ قَلْبُ لَا يَتَلَاقَى الْفجْرُ وَالْغَسَقُ!
يَا قَلْبُ إِنَّا لَقِينَا الْيَوْمَ جَوْهَرَةً
…
تَكَادُ في ظُلُمَاتِ الَّليْلِ تَأْتَلِقُ
ظَلَلْتُ أَسْأََلُ نَفْسِي كَيْفَ تَعْشَقُهَا
…
بَقِيَّةٌ مِنْ بَقاَيَا الْعُمْر تَحْتَرُق؟!
وَاَفْيتُهَا وَفُلُولُ النُّورِ دَامِيَةٌ
…
تَطْفُو وَتَرْسُبُ أو تَعْلُو فَتَعْتَلِقُ
لمَْ أَدرِ حِينَ تَبَدَّتْ لِي إذا شَفَقِي
…
أَبْصَرْتُهُ أم عَلَى الْمَنْصُورَةِ الشَّفَقُ
ياَ مَنْ مَنَحْتِ الأَمَانِي الْبِيضَ مَعْذِرَةً
…
إِنِّي بِهذِي اْلأَمَانِي الْبِيضِ أَخْتَنِقُ
أَيْنَ الْهُدُوءُ الْمُرَجَّى في جَوَانِبِهَا؟
…
إِنِّي رَجَعْتُ وَلَيْلِي كُلُّهُ أَرَقُ
أَقْبَلْتُ أَنْشُدُ أَمْناً في هَوَاكِ بِهاَ
…
فَلَمْ أَنَلْ وَتَوَلَّى قَلْبِيَ الْفَرَقُ
لَا باُقُلوبِ وَلَا اْلأَرْوَاحِ يَا أَمَليِ
…
إِنَّا بِشَيْءِ وَرَاَء الرُّوحِ نَعْتَنِقُ
وَيْحي عَلَى كَفِّكِ الْبَيْضَاءِ إذ بُسِطَتْ
…
عِنْدَ السَّلامِ وَوَيْحي حِينَ تَنْطَبِقُ
هَلْ يَسْمَعُ النِّيلُ إذ سِرْنَا بِجَاِنِبِهِ
…
وَالْمَوْجُ مُجْتِمعٌ فِيهِ ومُفْتَرِقُ
صَوْتاً تَمَاَوَجَ في رُوحِي فَجَاَوَبَهُ
…
مِنْ جَانِبِ الْقَلْبِ مَوْجٌ رَاحَ يَصْطَفِقُ
تَضَلُّ تَنْهَبُ أُذنِي مِن أَطَايِبِهِ
…
كَأَنَّهَا مِنْ خَفَايَا الْغَيْبِ تَسْتَرِقُ
يَاَ جَنَّةً مِنْ جِنَانِ الله أَعْبُدُهَا
…
لَنْ تَبْعُدِي وَلدَيَّ السِّحْرُ وَالْعَبَقُ
ناجي
الشعاع الغريب!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
وَمَا أَنَا إِلاْ شُعاٌعٌ غَرِيبٌ
…
تَأَلَّقَ بَيْنَ جُفُونِ الضَّبَابْ
لَهُ نَفْثَةٌ مَنْ وَرَاءِ السَّدِيمِ
…
تُثيُر عَلَى اْلأَرْضِ حُزْنَ الُّترابْ
لَهُ نَشْوَةٌ في اْلأَسَى وَالْعَذَابِ
…
أَمَا أَيُّ خَمرٍ بِهذا الْعَذَابْ!
تَوَهَّجَ حَتَّى بَكَاهُ الرَّمَادُ
…
وَأَغْفَى فَجُنَّ عَلَيْهِ السَّحَابْ
يَلُومُونَ فِيهِ اشْتِعَالَ الضِّيَاءِ
…
وَهَلْ يَمْلِكُ النَّارَ قَلْبُ الشِّهَابْ
تَطَلَّعَ إِشْرَاقُهُ لِلسَّماَءِ
…
فَأَوْشَكَ أَن يَسْتَشِفَّ الْحِجَابْ
وَخَانَتْهُ إِيمَاَءةٌ لِلثَّرَى
…
فَلَمْ يَلْقَ إِلاَّ الدُّجى وَاَلْخَرَابْ
فَظلَّ عَلَى نَارِهِ وَالِهاً
…
يُدَمْدِمْ كَالْمَوْجِ بَيْنَ الْعُبَابْ
حَزِينٌ وَتَضْحَكُ آهَاتُهُ
…
شَقِيٌّ وَيُغْرِيهِ سِحْرُ الشَّبَابْ
يَعِيشُ عَلَى اْلَوَهْمِ في عَالَمٍ
…
يُجَسِّدُ لِلطِّينِ وَهْمَ السَّرَابْ!
أَلْيلاي مَاتَ بِقَلْبِي الرَّجَاءُ
…
وَأَبْلَتْ حَيَاتي الأَمَاني الكِذَابْ
وَتُهْتُ فَلَمْ أَدْرِ أَنَّى الْتَفَتُّ
…
إلَى أَيِّ أُفْقٍ أَسُوقُ الْعِتَابْ!
محمود حسن إسماعيل
البريد الأدبي
شعر لولي الدين يكن لم ينشر
تربطني بأسرة فقيد الشعر والأدب ولي الدين يكن أواصر مودة وصداقة أثناء إقامتي الطويلة بحلوان معقل اليكنيين في العهد الغابر، وقد كتبتُ في الرسالة سنة 1938 عن نجله الشاعر المبدع فولاد يكن الذي لاقت أشعاره الفرنسية إعجاب أدباء فرنسا
وقد آلت إلي بعض مخطوطات الفقيد وفيها مقطوعات شعرية لم تنشر بديوانه نظمها وهو يعاني شدة الداء، وكان يشكو من الربو، وهاهي القطع أنشرها خدمة للأدب:
- 1 -
عمرَ الشباب لقد مضيت محبَّبا
…
وتركت لي عمراً سواك بغيضاً
أُمحى وتثبتني الشقاوة كارها
…
مثل الكتاب يكابد التبييضا
عوُدت أمراضي وطول تألمي
…
حتى كأني قد ولدتُ مريضاً
- 2 -
ترى مادا وراءك من عجيب
…
إذا فُتٌحتَ يا باب المنون
مظاهرك السكون ولكن
…
أما وُلد الحراك من السكون
قد استعصى الرتاج على عقول
…
وقد سُدَّ الطريق على عيون
قصارانا الضنون فما أجزنا
…
مُذِ الإعصارِ ساحات الظنون
وما في دولة الأرواح روح
…
دنت من عرش سلطان اليقين
- 3 -
تحيرتُ - كم أهفو وكم تتجنبٌ
…
وكم أرتضى بالصد منها وتغضبُ
وكم أتلهى (الأمانيٌ دونها
…
وكم أدّعيها لي هوًى وتكذّب
فهل لي ذنب يصغر العفو عنده
…
أما إنه إن لم يكن فسأذنب
علامَ أظل الدهر أحمل هجرها
…
تنعّم أيام النوى وأعذبُ
تنام وأبقى ساهراً كل ليلة
…
وترتاح من حمل الهموم وأتعب
وتزداد أنساً حين أزداد وحشة
…
وتنضر في روض الشباب وأشحب
لئن تك آلت أن تديم تجنباً
…
فإني سآلُو أن يدوم التجنب
لها الخير ما يجزى بمثل ما
…
رأيت ولكن سوء حظي المسبب
- 4 -
(للاتحاديين في إحدى نوبات جنونهم)
إن تندموا ليس يفيد الندم
…
قد قضى الأمر وجف القلم
الله خلاًق الورى عادل
…
فلا يلومن غيره من ظلم
يا أمة يقتلها جهلها
…
جهلك لا يُشبه جهل الأمم
كامل يوسف
سرقة أدبية
نشرت مجلة الثقافة في العدد (170) مقالاً بعنوان (عذاب الكاتب) للأديب محمود محمود. . .، وقد قرأته فوقفت عند كل معنى من معانيه موقف المتشكك المتحير، إذ شعرت تواً بأني قرأت هذا الحوار منسوباً إلى غيره، ثم ما لبثت أن أدركت انه منقول بالنص من مسرحية للكاتب الروسي وقد ترجم ترجمة حرفية مع حذف بعض الجمل التي يقتضيها سياق المسرحية من الترجمة الإنكليزية المنشورة في كتاب طبعة من صفحة 83 إلى 86، وليس للكاتب من المقال إلا بضعة اسطر قدم بها هذا الجزء المسروق وتحوير يسير في الخاتمة يحمل نفس المعنى الأصلي
حسين محمد عبد الخالق
آثار من أولية الشعر
قرأت ما كتبه الأستاذ الفاضل عبد العظيم قناوي في العدد (450) من مجلة (الرسالة) الغراء تعقيباً على مقالي
(أثار من أولية الشعر في الشعر الجاهلي) فوجدته يرى أن اضطراب قصيدة عبيد في عصر بلغ فيه الشعر آية الجودة لا يتخذ دليلاً على سنة النشوء والارتقاء؛ مع أن وجود هذه القصيدة في العصر الجاهلي كوجود الأعضاء الأثرية في الإنسان ألان؛ فإذا كانت هذه
الأعضاء تتخذ دليلاً على سنة النشوء والارتقاء في الإنسان مع بلوغه آية الجودة في الخلق، فكيف لا تتخذ هذه القصيدة في الشعر الجاهلي دليلاً على سنة النشوء والارتقاء. ولا يمنع من ذلك بلوغه آية الجودة التي يذكرها الأستاذ، وان كان كثير من الباحثين يرى فيه كثيراً من النقص، ويرى أن تقليد ذلك النقص فيه هو السبب في تأخر الشعر العربي الآن
وقد ذكر الأستاذ أن عبيداً لم يكن شاعراً بسليقته، وان اضطراب شعره يرجع إلى هذه الناحية فيه، وهذا قد أشرت إليه في مقالي حين جعلته من الشعراء المتخلفين في عصرهم، وهم الذين يتشبثون بآثار الماضي، ولا يجارون شعراء الطليعة المجددين ولا يتأثرون بابتكارهم وتجديدهم
أما قياس قصيدة عبيد (أقفر من أهله ملحوب) على محاولات المبتدئين في عصرنا فقياس غير ناهض، لأن قصيدة عبيد معدودة من عيون الشعر العربي، ولم يؤخذ عليها إلا اضطراب الوزن والقافية، ولم يكن إلا بعد أن استقر أمر الوزن في الشعر، وجرى على سنة مطردة لا يشذ أحد عنها. أما في عصر عبيد فلم يؤخذ عليها شيء من ذلك، بل كانت تعد فيه آية من آيات الشعر العربي، وهذا يدل على أن مسألة الوزن لم يكن ينظر إليها في هذا العصر كما نظر إليها بعد، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بقرب عهده من عصر كان الوزن لا يراعى فيه مراعاة دقيقة، وكان الشعر فيه أشبه شيء بما نسميه الآن الشعر المنثور. ولعل الأستاذ قناوي يقتنع بعد هذا برأيي في قصيدة عبيد
وقد ظهر رد آخر على رأيي في قصيدة عبيد للأستاذ الفاضل محمود عزت عرفة في العدد (546) من مجلة الرسالة، وهو ينظر إلى تلك القصيدة نظراً يختلف إلى حد بعيد عن الرد السابق، فيبرئها من كل عيب، ويرفع من شأن عبيد في مغالاة ظاهرة، مع أني لم أطعن في قصيدته إلا من جهة الوزن، وهذا لا يحط قدرها من جهة اللفظ والمعنى، وعيب الوزن فيها معروف لدى جمهور العلماء، ولم يأت الأستاذ عرفة في نقضه بشيء، وقد ذكر أن بيت عبيد المختل الوزن صحته:
وقالوا هي الخمر تكنى الطلا
…
كما الذئب يكنى أبا جعده
ولكن هذه الرواية غير متفق عليها، ومن الجائر أن تكون محاولة من بعض الرواة
لتصحيح وزن البيت، على أن الأستاذ عرفة يكاد يتفق معي في أن قصيدة عبيد يجوز أن تكون على وزن أو أوزان هجرتها العرب في أواخر جاهليتها
ومما ألاحظه على كلا الردين أنهما لم يتعرضا لرأيي في الإقواء ونحوه من عيوب القافية، والأمر عندي لا يقف في هذه الآثار عند الحد الذي ذكرت، بل يتعداه إلى ما حذفه الخليل عند تدوين العروض من الأوزان الشاذة، فلا شك عندي في أن هذه الأوزان كانت تمثل كثيراً من أولية الشعر، وأنها لو وصلت إلينا لعلمنا منها ما له قيمة كبيرة عن حال هذه الأولية المجهولة
عبد المتعال الصعيدي
النهضة الأدبية في السودان
من ابرز الأشياء التي تبدو للناظر في نهضة السودان الحديثة وتتمثل أمام رواده وزواره هو شيوع الروح الأدبي وازدياد النشاط الفكري، ففي كثير من مدنه وعواصمه عدد من الجمعيات الأدبية يعنى عناية خاصة بدراسة الأدب العربي ومسايرة النهضة الفكرية في العالم العربي المتوثب، وتتبع حركته الأدبية، واستعراض الآراء القديمة والحديثة فيها، ثم بحثها واستخلاص نتائجها. لذلك لم يمضي موسم من مواسم الأعياد الدينية إلا وتقام أسواق الأدب في رحاب الأندية التي لم تخل إحداها من جمعية أدبية حتى الأندية الرياضية بجانب كل منها جمعية آداب. وفي (أم درمان) العاصمة الوطنية وكبرى مدن السودان يتجلى النشاط الأدبي في أروع معانيه وأسمى روحه. و (نادي الخريجين) وهو أكبر أنديتها مسرح لملتقى الأقلام ومعرض لدراسات الآداب العربية، وبه يقام المهرجان الأدبي السنوي العام تستعرض فيه صور من الإنتاج الأدبي في خلال العام، ويستخلص منه ما وصلت إليه العقلية السودانية من بحوث. وقد اشترك فيه بعض كبار الأدباء المصريين في دورته الأخيرة منهم من اشترك بنفسه ومنهم من اشترك بقلمه، فادوا بذلك واجب مصر الأدبي نحو السودان، وما ثقافة السودان إلا قبس من الثقافة المصرية، وما أدب السودان إلا صورة من الأدب المصري.
يقتنص نادي الخريجين كل فرصة ليقيم فيها سوقاً أدبية، والأعياد الدينية هي أهم المواسم
لديه، ففي عيد الأضحى يجتمع المؤتمر السوداني العام لبحث مختلف الشؤون السودانية؛ وفي مقدمة بحوثه الناحية الأدبية. وفي عيد الهجرة الاجتماع الأكبر لجمع أموال التعليم الأهلي وتوجيهاته، وهو سوق عظيمة للأدب لما يقال فيه من شعر ونثر. وفي عيد الميلاد النبوي يقام مهرجان كبير لهذه المناسبة يتبارى فيها الخطباء والشعراء بما تجود به قرائحهم ويجيش في صدورهم. وفي عيد الفطر يقام المهرجان الأدبي السنوي العام الذي تقدم ذكره وهو أشبه بسوق عكاظ. وقد كان منتظراً أن يحضره الأستاذ الزيات، والدكتور زكي مبارك، والدكتور عبد الوهاب عزام، وفاء لما وعدوا به لجنة المهرجان في دورته الأخيرة، ولكن جدت ظروف خالصة حالت دون حضور هؤلاء الأعلام الذين لهم منزلة عظمى في قلوب الشباب السوداني المثقف، فلعل الفرص تسنح لهم ولغيرهم من الأدباء بحضوره
وتعتبر مجلة (الرسالة) من أكبر المصادر الموجهة للشباب السوداني في الناحية الأدبية، وهي واسعة الانتشار يقتنيها كل مثقف، ولصاحبها مكان رفيع في المجتمع السوداني وهو لا يدرك مقدار ما يحمله له الشباب السوداني من حب وولاء، وما يحفظونه له من إجلال وإكبار، إلا بعد أن يشرف السودان فيرى ويسمع ذلك نفسه
عبد الرحمن الصائم
أذاعوا به
كتب إلى الأديب محيي الدين مسلاتي من حلب ما يلي:
(جلست إلى المذياع استمع حديثكم القيم من محطة القدس وقد استرعى انتباهي من ذلك قولكم: (وبلغتهم دعوة صاحب (الرسالة) - فأذاعوا بها - وتناقلوها بينهم سراعاً. . .)؛ وإن ما أعلمه أن يقال: (أذاعوها) لا (أذاعوا بها)؛ فهل لأستاذي الكريم أن يتفضل فيبين ما يستند إليه في هذه الصيغة)
وجوابي: أنه ليس هنالك فيصل يحتكم إليه الناس فيما استغلق عليهم من أمر هذه اللغة اصدق من كتاب الله تعالى، وفيه يقول:
(وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف (أذاعوا به))
(شرق الأردن)
محمد سليم رشدان
1 -
تزوج منها خطاً
تكرر في قصة (العقاقير المخدرة): (العدد 447) استعمال (تتزوج منه، والزواج منه، وأتزوج منك) وهو خطأ؛ قال في (المصباح المنير): زوجت فلاناً امرأة - يتعدى بنفسه إلى اثنين - فتزوجها؛ قال الأخفش: ويجوز زيادة الباء فيقال: (زوجته بالمرأة)؛ وقد نقلوا أن أزد شنوءة تعديه بالباء؛ وقول الفقهاء: (زوجته منها لا وجه له)؛ وفي نسخة من التهذيب: (زوجت المرأة الرجل)؛ ولا يقال: (زوجتها منه)
2 -
نصب الراية
قال الأستاذ كوركيس عواد في العدد (451): (نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي - نشرته مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد الدكن في الهند). والناشر هو المجلس العلمي بدابهيل في الهند، وطبع في القاهرة في 4 مجلدات، وفي صدره مقدمة ضافية للأستاذ الشيخ محمد زاهد الكوثري
محمد أبو البهاء
القصص
الحزن
قصة من القصص الشعبي لسكان جزيرة بورنيو
مترجمة عن الإنجليزية
بقلم الأستاذ إبراهيم عبد الحميد زكي
عندما أراد الروح الأعظم بفضله وكرمه أن يجعل الإنسان على الأرض، ويخلقه على صورته التف حوله الملائكة في غبطة وسرور، وتوسل إليه كل منهم أن يجعل له نصيباً في هذا العمل الجليل. فسر الروح الأعظم لهذا الحب والإخلاص كل السرور وحقق لهم ما يرغبون
ثم حدث ذات يوم أن عم الحبور أرجاء الكون، وتجاوبت أنحاؤه بأصوات الموسيقى؛ وغنت الملائكة أغنيات الفرح وترددت النغمات العذبة في كل مكان: في الأنهار والأشجار والأزهار، وكيف لا يحدث ذلك وقد شاءت إرادة الروح الأعظم في هذا اليوم أن ينفخ نسمة وروح الخلود في قطعة الطين التي اشتركت الملائكة في صنعها على صورته
على أن ملاكاً واحداً - وهو ملاك الحزن - لم يشترك في هذا العمل المجيد ولم يكن له في السرور نصيب. ذلك لأنه قضى أيامه كلها يبكي حسرات على مياه الأمطار التي كانت تتساقط دواماً في البحار. فلما نظر الروح الأعظم إليه وجده غارقاً في دموعه، فأراد أن يخفف عنه فقال له: لا تبك! إن غارقاً في دموعه، فأراد أن يخفف عنه فقال له: لا تبك! إن كنت تود أن يكون لك نصيب فيما خلقت فسأمنحك ذلك. لقد تأخرت قليلاً وهاهو ذا الإنسان قد تم خلقه وتكوينه، ولا يمكن أن نرجع في هذا، ولكن أنظر! إنه ما زال غطاً طرياً؛ فتقدم واجلس إليه، وكن حارساً عليه، وامنع عنه كل ما يشوهه، أو ينقص من كمال صنعه
فابتسم ملاك الحزن لهذا الفضل العظيم، إذ أي فضل أعظم من رعاية هذا الصنع الجميل ووقايته من كل شر وتشويه
وجلس الملاك إلى جانب الطين اللين وقد عرض لأشعة الماتاهارى (عين النهار أي الشمس) ليمتص منها حرارة الحياة ودفئها وأخذ يرقبه في عناية وحذر خشية أن يحدث له
ما يؤذيه
ومر الزمن فأحس ملاك الحزن بالوحشة وآلمته الوحدة فراح يحدث نفسه على هذا النمط: لم يعاملني الروح الأعظم على كل حال معاملة عادلة. لماذا لم ينتظر عودتي قبل تكوين الإنسان وخلقه؟ وأي فخر وأي مجد يعود على من الجلوس هنا أرقب شيئاً قد تم صنعه وكمل تكوينه؟ وهل يوازن هذا الاشتراك الفعلي فيه كما اشترك إخواني الملائكة الآخرون؟؟
واختفت حينئذ البسمة التي علت وجهه من قبل، ووضع وجهه بين كفيه، وانهمرت دموعه على خديه، ونسى بذلك ما عهد إليه من حراسة الإنسان، فتساقطت الدموع كالمطر على الجسم الذي كان قد بدأ يجف، وعندئذ علق الغبار بمواقع الدموع، واستقرت بها الحشرات فشوهت بها الصنع الكامل الجميل
وجاء الروح الأعظم بعد ذلك بأيام قلائل تحف به الملائكة من كل جانب ليشهدوا مدى التقدم الذي أصابه الخلق الجديد؛ فلما رأوا ما فعل الحزن به لازموا الصمت، إلا ملكاً واحداً هو ملاك العطف والحنان، فإنه لم يكد يرى الفساد الذي أحدثه إهمال أخيه حتى أجهشه البكاء، وأسرع إلى الجسم يزيل ما علق به من غبار، ويرفع ما استقر به من حشرات
وقضى على ذلك أياماً طوالاً يحدوه الحب وتدفعه الرحمة حتى أتم عمله، واصلح ما أفسده أخوه. فناداه الروح الأعظم وقال: ما ارفع مكانك، وما اجل شانك في الخلق! لن يستطيع إنسان قط أن يقدرك حق قدرك. لتكن مباركاً مني. اذهب لتأدية رسالتك، فأبك مع البائسين، وافرح مع السعداء المغتبطين، ومهد الطريق للمجهدين المتعبين، وخفف العبء عن الذين أثقلت كواهلهم مشقات الحياة. أما أخوك ملاك الحزن فلا مكان له في السماء ولا نفع منه في الأرض. . . انظر! ما شوه عملي العظيم إلا هو.
(الإسكندرية)
إبراهيم عبد الحميد زكي