الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 458
- بتاريخ: 13 - 04 - 1942
على محمود طه
(أرواح وأشباح)
على الضفة الشجراء من مصيف المنصورة عرفت (على طه)، وعلى هذه الضفة الخضراء من مَرْبعها قرأت (أرواح وأشباح). وكان بين اللُّقية الأولى للصديق وبين القراءة الأخيرة للشاعر إحدى وعشرون سنة
كان حين عرفته في إبَّان شبابه، وكنت حين عرفني في عنفوان شبابي؛ وابن آدم في هذه السن ربيعٌ من أربِعة الفردوس لا يُدرَك بمحدود الشعور، ولا يوصف بلغة الشعر؛ فهو منظور الِخلقة، مسجور العاطفة، مسحور المخِّيلة، لا يَنشد غير الحب، ولا يبصر غير الجمال، ولا يطلب غير اللذة، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينُشدها الدهر ويرقص عليها الفلك
وعلى ذلك كنا أيام تعارفنا وتآلفنا: هو على حال عجيب من مَواسِّ الهوى وما لا بسها من ألوان وصور، وأنا على عهد قريب من ترجمة (آلام فرتر) وما سايرها من أحلام وذِكَر!
قال لي صديقي (حسين) ونحن عائدان من نزهتنا اليومية في الشقة الخلوية من شارع البحر:
(مِل بنا إلى قهوة (متيو) أعرفك بشاب من ذوي قرابتي يرضيك خلقه، ويطربك حديثه، وقد يعجبك شعره)
وكان شارع البحر كما هو اليوم متنزه المدينة؛ وكان نصفه الغربي لا يزال يومئذ مخطوطاً بين النيل والحقول، فلا ترى على جانبيه غير مَماصِّ القصب، ومشارب الكازوزة، وعريشة من عرائش الكرم وألفاف الشجر تتفيأها هذه القهوة
دخلنا القهوة فوجدنا في باحتها بعض الإغريق، وعلى إحدى مناضدها المنعزلة فتى رقيق البدن شاحب الوجه فاتر الطرف، ينظر في سكون ويقرأ في صمت. فلما رآنا هشَّ بقريبه ورفَّ لي، ثم كان التعارف. وطارحناه طرفاً من الحديث؛ ثم طلب إليه صديقي أن ينشدنا بعض شعره، فنشط لهذا الطلب وارتاح كأنما نفَّسنا من كربه، أو خففنا من عبئه؛ ثم قال في سذاجة الريفي ووداعة الطفل:(نشرت لي جريدة (السفور) هذه القصيدة وقدمتها بهذه الكلمة). ثم أدى المقدمة عن ظهر الغيب وهمَّ بإنشاد القصيدة. وكنت حين ذكر السفور قد
أصغيتُ سمعي وجمعتُ بالي، فلم يكد يفرغ من سرد القصة حتى صحت به:
- أأنت صاحب هذه القصيدة؟
- نعم
- وأنا صاحب هذه المقدمة
- عجيب!!
كان ذلك في سنة 1918؛ وكانت جريدة السفور يحررها يومئذ الأعضاء الأصدقاء من لجنة التأليف والترجمة والنشر؛ وكان النظر فيما يرد على الجريدة من الشعر موكولاً لصديقي الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق، ولي؛ فألقى إلينا البريد فيما ألقى هذه القصيدة غُفلاً من الإمضاء، فقرأناها للاختيار، ثم قرأناها للاختبار، فوجدنا قوة الشاعر الموهوب تطغى على ضعف الناشئ البادئ، فضننا بها على السَّل، وصححنا ما فيها من الخطأ، وقدمت لها ببضعة أسطر تنبأت فيها بنبوغ الشاعر، ونصحت له أن يرفد قريحته السخية بمادة اللغة وآلة الفن، وأخذت عليه أن يُكره قيثاره المرح على النغم الحزين واللحن الباكي وهو لا يزال في روق الشبيبة كما يقول شعره
ثم تتبعت بعد ذلك علياً: تعقبت آثاره، وتعرفت أطواره، وتقصيت أشعاره، فإذا الفراشة الهائمة في أرباض المنصورة ورياض النيل، تُصبح (الملاح التائه) في خضم الحياة، و (الأرواح الشاردة) في آفاق الوجود، و (الأرواح والأشباح) في أطباق اللانهاية! وإذا الناشئ الذي كان يختشب الشعر ويتسَّمح فيه، يغدو الشاعر المحلق بجناح الملك أو بجناح الشيطان، يشق الغيب، ويقتحم الأثير، ويصل السماء بالأرض، ويجمع الملائكة بالناس، ويقضي بين حواء وآدم!
(أرواح وأشباح) هي ملحمة الرجل والمرأة، وقصة الفن والوحي، وحوار الجسد والروح، وأنشودة الشباب والحب. سما فيها الأستاذ (علي طه) إلى غاية من الفن قل أن بلغها شاعر
هي حادث جديد في حياة الشعر المصري لا يزكو بالنقد الأدبي أن يهمل الاحتفال بتسجيلها في تاريخ الأدب. وهي قصيدة من النمط العالي لا تحك معدنها في أية حلقة من سلسلتها إلا ثبتت على المحِك؛ فهي في الصياغة مشرقة البيان منتقاة اللفظ، وفي التفكير واضحة المنهج سديدة المنطق، وفي التخيل بعيدة الغاية قريبة المأخذ. وأشهد أنى قليل الاهتزاز
لأكثر الشعر وأكثر الغناء؛ ولكن (أرواح وأشباح) هزت نفسي هزاًّ شديداً، فكنت أطيل الوقوف عند كل رباعية، وأُديم النظر في كل بيت، أتذوق جمال صياغته برفق، وأستجلي سر بلاغته في أناة. وإن (الحية الخالدة) و (الفنان الأول) و (حواء) لمن الروائع التي تطول على مقاييس النقد وتدخل في منتخبات الخلود
على أن أسلوب هذه الملحمة ليس بدعاً من أسلوب علي طه؛ فان الصفات الغالبة إلى أسلوبه كله هي الوضوح والأناقة والسهولة والسلامة. ومرجع ذلك فيه إلى ثقافته الرياضية. وليس كالعقل الرياضي شكيمةٌ للخيال الجموح يُسلس بها ويُصحب. وما دام الخيال في قيادة المنطق طار بالفكرة في جِواء مشرقة لا سحاب فيها ولا ضباب، فتتميز الألوان وتتحدد الخطوط وتتبين الصور. أما الخيال الشعري الجامح، فهو كالحب الصوفي الجامح، لا يجد اللفظ الذي يُسفر، ولا العبارة التي تُبين. إنما هي (شطحات) وراء الفكر لم تتضح في الشعور ولم تستقم في الذهن، يحاول الشاعر أن يعبر عنها بالمجازات البعيدة والرموز الخفية، فيغرب ولا يُعرب، ويشير ولا يَدل
إن من عادتي في هذا المكان من (الرسالة) ألا أجامل في سياسة ولا أدب. وربما كان من الخير في هذه المرة أن أدافع الظنون عن هذه العادة بذكر الحكم مؤيداً بأسبابه. وكان ذلك يقتضي تحليل القصيدة إلى عواملها البلاغية، ولكن أن الكتاب في أيدي القراء، والتنبيه على مواضع الجمال فيه اتهام للأدباء!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات
اجتماع الملائكة في مسجد الفردوس
للتحدث في نكبة آدم الجديد
للدكتور زكي مبارك
سمع الملائكة بما صار إليه أمر آدم، وعرفوا أنه سيقدَّم للمحاكمة بلا تسويف، وترامَى إليهم أنه قد يتخذ منهم شهوداً على براءته من تهمة العصيان. فاجتمعوا بمسجد الفردوس ليتشاوروا فيما يليق بهم أن يصنعوه إن دُعي فريق منهم للشهادة في ساحة العدل. . . فما الذي دار من الأحاديث في ذلك الاجتماع؟
قبل أن ندون هذا المشهد نذكر أن شيث بن عربانوس يدير كلامه على أساس يخالف ما تعارف عليه جمهور المؤرخين، فهو لا يرى أن آدم صاحب حواء كان أول آدم، وإنما سبقته أوادم تعد بالمئات أو بالألوف. وسنرى كيف يحدثنا أن آدم حين هبط الأرض وجد فيها جماجم بشرية تشهد بأن الأرض سُكنَت قبله بأمم لا يعرف أخبارها غير علام الغيوب
وقد هالني هذا الرأي، فمضيت أستفتي المؤلفات الإسلامية لأعرف حظه من الصحة أو البطلان، فماذا وجدت؟
رأيت من يحكم بأن في قول الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) دليلاً على أنهم رأوا قبل ذلك أجناساً آدمية تفسد في الأرض وتسفك الدماء. ورأيت من يجعل (الخليفة) في قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) آدم جديداً يخلف الأوادم القدماء
ومع أن هذه الأقوال لا تستند إلى نصّ قطعيّ الثبوت والدلالة - كما قال أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار، رضي الله عنه وأرضاه - فهي تؤيد مذهب شيث بن عربانوس، أو تجعله مذهباً لا يتأثم الباحث من الاعتماد عليه وهو يقص أخبار آدم الرسول
والحق أن عبارة القرآن وعبارة التوراة صريحتان في أن آدم صاحب حواء هو أبو البشر. وعبارة القرآن أصرح في هذا المعنى، فالمألوف في أسلوب القران أنه ينهى كل نبي عن الوقوع فيما وقع فيه من سبقوه. ولو أن آدم كان سُبق بأمم بائدة لقص الله عليه أخبارها كما صنع مع سائر الأنبياء، فلم يبق إلا أن نعدّ شيث بن عربانوس مسئولاً عن القول بان آدم صاحب حواء ليس أول إنسان شهد هذا الوجود
ويظهر أن كتاب شيث كان معروفاً في بعض البيئات الإسلامية قبل أزمان طوال، فقد رأينا
أبا العلاء المعري يقول:
جائزٌ أن يكون آدمُ هذا
…
قبلهُ آدمٌ على إثْر آدم
ويقول:
وما آدمٌ في مذهب العقل واحداُ
…
ولكنه عند القياس أوادمُ
ويقول في شيء من الُخبث:
قال قومٌ ولا أدينُ بما قا
…
لوهُ: إن ابن آدمٍ كابنِ عِرسِ
جَهِلَ الناس من أبوه على الده
…
ر ولكنه مسمًّى بحرس
في حديثٍ رواه قومٌ لقومٍ
…
رهنَ طِرس مستنسَخ إثر طرس
ولعل (الطرس) الذي عناه أبو العلاء هو كتاب شيث ابن عربانوس واسمه (تاريخ البشرية) وإن لم نجد فيه ذلك الاستهزاء البغيض
وقد أسرف أبو العلاء في الغض من شأن آدم حين يقول:
قالوا وآدمُ مثلُ أوبرَ، وابنُهُ
…
كبناته، جَهِلَ امرؤٌ ما أوبرُ
وهو قول لا يعتمد على بينة ولا برهان. وأسخفُ منه زعم فريق من قدماء الهنود بأن آدم كان عبداً من عبيدهم ثم هرب إلى الغرب، ولم يَعد إليهم إلا حين أثقلته تكاليف الأبناء!
وبهذه المناسبة أقول: كان المرحوم مصطفى كمال زعم أن آدم وحواء من أصل تركيّ، وقد أزعجني هذا الزعم الفظيع، فكتبت إليه خطاباً أثبّت فيه أن آدم وحواء من أصلٍ عربيّ، بشهادة الاشتقاق؛ فآدم على وزن أفعل، من الأُدمة وهي السُّمرة المشَبعة بالسواد، وحواء على وزن فعلاء، من الحُوَّة وهي سمرة الشفتين، ثم رّجحت أنهما من أهل نجد، بدليل ما في أشعار آدم من الإقواء. وقد انتظرت أن يجيبني مصطفى كمال - غفر الله له - ولكنه لم يفعل. فسألت بعض الأتراك المقيمين بالقاهرة فأخبروني أن مصطفى كمال لم يكن يقبل الاطلاع على خطاب مكتوب بالحروف العربية بعد أن فرض على قومه أن يكتبوا بالحروف اللاتينية
ما لي ولهذا؟ إنما أريد أن يعرف قرائي أن كتاب شيث يقوم على أساس القول بأن آدم سبقته أوادم، ليعرفوا كيف اشتجر الملائكة وهم ينظرون فيما صار إليه بعد العصيان
في مسجد الفردوس
تَنادَى الملائكة للاجتماع في مسجد الفردوس، فحضر فريق وتخلّف فريق، وكانت حجة من تخلفوا أنهم أبدوا رأيهم في آدم قبل أن يُخَلق، فهم لا يحبون التدخل في أمر مخلوق شرس لا يرضيه إلا أن يكون الوجود منادح شقاق ونضال وصيال. وقد خلقه الله برغم رأيهم فيه، فليصنع الله به ما يشاء. فهو المنتقم وهو الغفور!
ورأى الذين حضروا أن يصلّوا قبل الكلام في قضية آدم، لتزداد نفوسهم صفاءً إلى صفاء، فيسلموا من أوضار التطاول والإسراف، فما يجوز أن يجلس أحدٌ مجلس القضاء إلا بعد الصلاة والقُنوت، وبعد التحرر من شوائب الأهواء!
أحد الملائكة - هل ترون أن يكون لهذه الجلسة رئيس؟
ملك آخر - إنما هلك الآدميون بسبب الرؤساء
ملك ثالث - كنت أحب أن تقول بسبب استبداد الرؤساء أو تناحر الرؤساء، فالرياسة مأخوذة من الرأس، وهو في العرف مجتمع العقل، فمن الواجب أن يكون لكل جماعة رئيس!
- ولكن ما حاجتُنا إلى رئيس؟!
- لينظّم الكلام عند اشتجار الجدال
- لا يحتاج المتكلمون إلى رئيس إلا حين تغلب عليهم شهوة الثرثرة. . . إن وجود الرئيس هو في ذاته شهادة بضعف المجتمع الذي يحتاج إليه، ولو أدّى كل مخلوقٍ واجبَه تأديةً صحيحة لتساوتْ أقدار المخلوقين. ولن تنجح أمة إلا حين يصبح كل فرد من أفرادها وهو مرءوسُ لعقله ورئيسٌ على هواه. وقد حمانا الله من الأهواء فلن نحتاج إلى رئيس. وعلى هذا أرجو أن يدور الكلام بلا ترتيب ولا تنسيق، على أسلوب الغابات لا أسلوب البساتين
- ماذا تريد؟
- أريد أن يكون كلامنا طبيعيّاً على نحو ما تكون الغابة، ولا أريد أن يكون منسَّقاً على نحو ما يكون البستان، فالفطرة في الغابات أقوى من الجمال المصنوع في البساتين
ثم دار الحديث على الصورة آلاتية بلا تمييز بين الآراء:
- أرأيتم كيف صحت فِراستُنا في آدم فعصى ربَّه وغوَى؟
- تريد الرجوع إلى التاريخ القديم يوم حاورنا الله في خلق (آدم)؟
- هذا ما أريد
- ولكن فاتك أن مضغ حوادث التاريخ عملٌ ضائع، فآدم خُلِق بالفعل، وهو شرٌّ موجود، أو خيرٌ عتيد، والمهم هو أن نحدد موقفنا بالنسبة إليه
- نحن من نور وهو من طين
- ولكنه أحدثَ في الجنة زلزلة لن نستطيع مثلها أبداً، وستجعل له مكانةً في التاريخ
- تحسده على ذلك؟
- ومن أحسد إذا لم أحسد آدم؟ فنحن جميعاً موكلون بعدّ ما له وما عليه، مع أنه خُلِق من طين، فهل تكون للطين فاعلية يخَفى علينا سرها المكنون؟
- إن تحقير الطين بدعةٌ أذاعها إبليس اللعين، ويكفي الطينَ شرفاً أنه أصل آدم
- وآدم مخلوقٌ شريف؟
- بالتأكيد
- وبرغم العصيان؟
- أي عصيان؟
- الأكل من شجرة التين
- إنما أراد الله أن يأكل من الشجرة المحرمة لنجد عملاً، ولو نزَّه الله آدم عن المعاصي لبقينا بلا أعمال. وهل يعيش القضاة والمحامون والشهود إلا بفضل انحراف الناس عن سواء السبيل؟
- إن رأسي يدور من هول ما تقول
- وهل قلت غير الحق؟ إن آدم هو مصدر الفاعلية في جميع أرجاء الوجود، ومن اجل ضلاله وهداه تنصب الموازين
- نحن مقبلون على متاعب جديدة بسبب آدم الجديد
- وهل أنت راض عن الراحة التي عانيناها بعد انقراض آدم القديم؟
- شكراً لك، أيها الرفيق، فقد خطر في بالي مرةً أن الله قد يسرّح جيوش الملائكة بعد انقضاء مهمتهم في مراقبة السلالات الآدمية
- أخطأتَ أخطأت، فما كنا جنود شرطة ولا جنود استطلاعات، وإنما خُلقنا للتسبيح
والتقديس
- خلقنا للتسبيح والتقديس؟ يظهر أنك لم تفهم السخرية الملفوفة في قوله تعالى: (إني أعلم مالا تعلمون)
- وكيف سِخر الله مّنا بهذه العبارة؟
- حين عقّب بها على قولنا: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبّح بحمدك ونقدس لك) فهو لا يرى التسبيح ولا تقديس أفضل من الإفساد وسفك الدماء، بدليل أنه سكت عما اتهمنا به الطبيعة البشرية
- تأدبْ أيها الملَك، فأنت في غفلة عما يعنيه صاحب العزة والجبروت، ولو قضيت دهرك في الاستغفار لعجزت عن محو هذا التطاول الممقوت
- أريد أن أعرف كيف لا يكتفي الله بالتسبيح والتقديس؟
- وما حاجة الله إلى التسبيح والتقديس من أقوام لا تعتلج في صدورهم معاني الكفر والإيمان، والشك واليقين؟ إنما يرضى الله عن تسبيح من يهتدي بعد ضلال، ويؤمن بعد كفران
- إن رأسي يدور من هذا التخريج
- سَلِم رأسك إن كان لك رأس، أيها الشرطيُّ الذي يريد الإقامة بمنطقة ليس فيها خلائق
- أنفهم من هذا أن البشر أفضل منا؟
- لك أن تذكر أن الله يعاقبهم بالانقراض، ثم يتلطف فيخلقهم من جديد، لحكمة سامية، وكيف يغيب عنك المعنى الذي استوجب خلق آدم الجديد في الفردوس؟
- كنت أحب أن أعرف هذا السر العجيب
- خلقه الله في الجنة ليأخذ فِكرةً عن النظام والترتيب والعدل، وليكون لهْ مَثلٌ أعلى يدور حوله حين يقيم مملكته الجديدة في الأرض. ولو أن الله أنشأ الأوادم القديمة هذه النشأة لقل بغُي بعضهم على بعض وسلموا من آفة الانقراض
- غضبة الله عليهم، فما كانوا إلا وحوشاً في ثياب ناس!
- هل تذكر بعض أعمالهم القباح؟
- أعمالهم القبيحة تفوق العد والإحصاء، ولكني أرجح أن الله لم يعاقبهم بالهلاك إلا حين
عاملوه بما لا يليق
- وكيف؟
- كانوا يضيفون إليه أوامر ونواهي لم ينزل بها وحْي، ولا صَدَرتْ عن شرع، ليسوموا رعاياهم سوء العذاب، باسم الله وهم كاذبون
- كما صنع آدم الجديد؟
- آدم الجديد لم يصل إلى ذلك الدَّرَك، فقد عصى الله عن جهل
- إنما عصاه عن حذلقة
- وما حذلقة آدم الجديد؟
- قال الله: (لا تقربا هذه الشجرة) فترك (هذه الشجرة) بعينها ثم قرب شجرة من ذات الجنس، وهو يتوهم أن في هذه الحذلقة ما ينجيه من العقاب
- إن آدم حيوان لئيم!!
- وبلا عقل، فلو كان يعقل لأدرك أن الله لا تخفى عليه خافية من حِيل الفقهاء، وسنرى كيف يدافع غداً عن إثمه في ساحة العدل
- لا يَبعُد أن يرضى الله عن بلاغته وهو يصوّر الدميم بصورة الجميل
- الجمال في نظر الله هو الحق، وذلَّ من يزعم أنه يستطيع مخادعة الله، هلك آدم القديم بسبب الحذلقة الفقهية، وسيهلك آدم الجديد بسبب الحذلقة الفقهية. وسنقول فيه كلمة الحق والصدق إن دُعينا للشهادة في ساحة العدل
- تذكر أنه صاحب حواء!
- ماذا؟
- آدم الجديد هو صاحب حواء
- لا أفهم ما تريد أن تقول
- أريد أن أقول إن آدم لن يهبط الأرض إلا ومعه حواء
- وتظن أننا نزور الشهادة من أجل حواء؟
- أنا لا أدعو إلى تزوير الشهادة، وإنما أدعو إلى الترفق بمن يملك امرأة جميلة
- بهذا هَلَك بنو آدم الأول، فقد كان فيهم من يحالف أمةً تعدي أمته من أجل وجهٍ جميل،
والجمال سهم يصيب صدر الأسد الرابض في حمي العرين
- وما رأيك في المَلك الذي نظّم باقةً من أزهار الفردوس ليتحف بها حواء؟
- كان ذلك بوحي الله
- إنما كان ذلك بوحي الجمال
- هذا تخريج لا أرضاه
- إنما هو حساب يساق إليك
- الآدميون الأغبياء يهيمون بالجمال، فكيف يعاب علينا أن نهيم بالجمال؟
- ومن أجل الجمال عصى آدم ربه طاعة لحواء، أفلا يستحق العطف؟
- سأنظر في هذه القضية
- العجيب أن تُخلَق بلا شهوات ثم تهيم بحواء، فما حال آدم المظلوم في حب حواء وهو مخلوقٌ موقَر بأوزار الشهوات؟
- نهاه الله عن الانخداع لحواء وما نهاني
- كان الظن أن تفهم أن النهي لا يوجه إلا لمن تغيب عنهم دقائق الأدب الرفيع
- أتتهم الملائكة بالغباوة؟
- أتهمك وحدك
- أنا ملكٌ مِثلك
- لن تكون مثلي إلا حين تعترف اعترافاً صريحاً بأن الجمال يزيغ البصائر والعقول
- ولن أعترف إلا إذا سمح جمهور الملائكة بأن أتهم الله بالغَرَض
- ماذا تريد، يا زنديق؟
- أريد القول بأن الله خصّ حواء بأشياء
- لتحلو في عيني آدم، لا في عينيك
- أمركم عَجبٌ من العجب، أنتم تعرفون أن الجمال في ذاته شريعة أذلية، ولا ينظر إليه إلا أصحّاء القلوب، كالشمس لا ينظر إليها إلا أصحاء العيون، ونحن مطالبون بالنظر إلى جميع ما في الوجود، لنزداد يقيناً إلى يقين، فكيف يجب النظر إلى زهرة نضيرة ولا يباح النظر إلى وجه جميل؟
- اترك هذه الفلسفة وحدِّد رأيك في آدم
- هو من المذنبين
- لأنه غريمك في حواء؟
- غريمي في حواء؟ كيف؟ وهل جُنِنْتُ حتى أهيم بمخلوقة لا تملك غير عينين نجلاوين، ولا تعتزّ بغير قدها الرشيق وأنا أعرف أنها سرقت سواد عينيها من عيون الظباء، ونهبت مرونة قدها من أعواد ألبان؟ أنا أحب مخلوقةً مقتولة اللحظ، مبحوحة الصوت؟
- هي سبب نكبة آدم فلتهبط معه إلى الأرض
- يهبط وحده، وتبقى حواء، فما عددت عليها ذنباً يستوجب العقاب
- هذا ما أردنا أن نصل إليه، فقد زعم خصومك أنك لم تراع الأمانة في عدّ أعمال حواء
- اسمعوا، أيها الملائكة، اسمعوا، هل تظنون أن الله يحتاج إلى من يعدّ على عباده الذنوب؟ إنه عز شأنه يعلم من سرائر القلوب ما لا نعلم؛ وهو لم يوكِّلنا بعدّ الأعمال إلا ليختبر ما نحن عليه من الأدب والذوق، فهو يبغض أن نكون جواسيس، وهو يرجو أن نتخلق بأخلاقه فنتغاضى عن أشياء
- وهل يتغاضى الله عن أشياء!!
- لو حاسبَ الله مخلوقاته بالعدل الحاسم لأهلك طوائف من الملائكة والناس
- من الملائكة؟
- نعم، من الملائكة، الملائكة الذين يتعقبون رفيقاً من رفاقهم فيأخذون عليه أنه قدَّم باقةً من الزهر إلى حواء!
- لا تنس أنهم الملائكة الذين يرجون أن تتناسى ذنب آدم كما نسيت ذنوب حواء!
وهنا وقف أحد كبار الملائكة وصاح:
(أيها الرفاق المصطفَوْن
لا أحب أن نحترب في شأن آدم أكثر مما احتربنا، فلنا مع أسلاف هذا المخلوق تاريخ، وستكون لنا معه تواريخ، وأنا أدعوكم إلى الرفق به إن دعيتم إلى الشهادة غداً في ساحة العدل، فالصدق في الشهادة يٌطلب في حالة واحدة، وهي الحالة التي يقضي فيها كتمان الشهادة بضياع الحقوق، والترفق بآدم لن ينتصر به باطل، ولن ينهزم به حق، وأنا أخشى
أن يغضب الله علينا إن أدينا الشهادة تأديةً حرفية. وهل يحتاج القاضي العالم بالسرائر إلى شهود؟!)
- ونذٌنب بالكتمان؟!
- قد يكون الكتمان في بعض الأحوال أشرف من البلاغ!!!
- أوضِحْ، أوضح
- آدم متهم بالعصيان، ولهذه التهمة إن صَّحتْ عواقبُ سود، فعلينا أن نقف في صفه صادقين أو مرائين
- ماذا يقول الله؟
- سيقول إن سَتْر العيوب فضيلة لا يتحلى بها غير الملائكة والأنبياء!
(للحديث شجون)
زكي مبارك
ذكرى ميلاد الرسول
للأستاذ محمد يوسف موسى
كلما خطر بالبال أو جرى على اللسان ذكر مولد محمد صلى الله عليه وسلم تذكرنا الدين الذي جاء به فكان فارقاً بين الحق والباطل، وحدا فاصلاً بين عهود خلت لبستها الإنسانية وأخلقتها بعد أن اجتوتها، وعهد جديد آهل بالعز والكرامة. حقاً لقد كان ميلاد الرسول إيذاناً بانتهاء ما سبقه من أديان كانت مناسبة لمن جاءت إليهم، وباستهلال الإسلام الدين الخالد الصالح للناس جميعاً؛ لا فرق بين بدو وحضر، وسود وبيض، وشرقيين وغربيين، تقدم بهم الزمان أو تأخر
وليس من العجب أن يجيء دين صالح عام بعد دين قاصر خاص، بل كان يكون العجب ألا يكون هذا التدرج الذي عرفه التاريخ. لقد ولدت الجماعة البشرية طفلة، وترقت - شأن كل الكائنات الحية - جيلاً فجيلاً، فمرت من الطفولة للشباب، وانتهت أخيراً لدور الرجولة الرشيدة الكاملة. وكان من حكمة الله اللطيف الخبير أن تتفق الديانات التي تعبّد بها عباده في الأزمان المختلفة، وعقول من أرسلت إليهم ومداركهم وحاجاتهم. لهذا رأينا الرسول يتبع الرسول، والدين يجيء في أثر الدين، وكل له ناسه المحدودين وزمنه الموقوت، حتى بعث المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام يدين الناس جميعاً والإنسانية عامة، فتمت به نعمة الله على عباده وكملت لهم السعادة
ولنعرف قيمة منة الله على العالم بأسره بميلاد محمد وبعثه بتاج الأديان، يجب أن نقلب بعض صفحات التاريخ، ونتذكر قليلاً حالة المسيحية التي كانت لها السيادة قبل الإسلام على جزء كبير من العالم المعروف بالمدنية حين ذاك
لقد ظهرت المسيحية في عصر كان المال هو المعبود من دون الله، وكانت الشهوات حتى الوضيع منها هي التي تأخذ على الناس أمرهم وتوجههم في أعمالهم، طلباً لها وتهافتاً عليها كما يتهافت الفراش على النار. وحسبنا أن نعلم أن مذهب أبيقور، في أوضع ما اتخذ من صور إباحية، كان مذهب الكثرة الغالبة، في بلاد الرومان ميدان نشاط المسيحية بعد مهدها الأول وهو الشام. غلو من اليهود في طلاب المال وجمعه من كل النواحي وبسائر الوسائل، وغلو في الافتتان بالشهوات ومتع الحياة الدنيا. هكذا يمكن تصوير ما كان يسود العالم من
نزعات إبان ظهور المسيحية
من أجل ذلك كان طابع المسيحية زهداً شديداً، ولهذا رأينا المسيح عليه السلام معرضاً تمام الإعراض عن الدنيا وحاثا حوارييه وأتباعه على التخلص منها ومن أسرها ومفاتنها، ومؤكد أن ملكوت لن يفتح للأغنياء، وأنه سيكون وقفاً على الفقراء. لكن للنفس شهوات يجب أن ترضى في قصد، لهذا كان من الطبيعي ألا يطيق من جاء لهم هذا الدين وصاياه الشديدة، وما يدعو له من زهد وتقشف وترك تام للدنيا؛ (فهب القائمون عليه أنفسهم لمنافسة الملوك في السلطان، ومزاحمة أهل الترف في جمع الأموال، وانحراف الجمهور الأعظم منهم عن جادته بالتأويل، وأضافوا إليه ما شاء الهوى من الأباطيل).
ولعل من الخير أن نذكر شاهداً ودليلاً على ما نقول من تهالك عامة رؤساء الدين المسيحي أنفسهم على الدنيا. روى ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق في خبر طويل أن سلمان الفارسي - وكان في بدء أمره مجوسياً من أهل أصبهان - صبأ إلى المسيحية، إذ أخذ بقلبه ما سمعه من صلوات وتراتيل دينية، فغافل أباه - وكان دهقان قرية - وفر إلى الشام ليأخذ علماً من علم أهل الإنجيل وليتصل برؤساء هذا الدين. ولما وصل إلى تلك البلاد سأل عن أفضل هذا الدين علماً، فدُلّ على أُسقُفْ الكنيسة، فذهب إليه واستأذنه في خدمته ليتعلم منه ويلتمس من فضله. . . وهنا أترك الحديث لسلمان نفسه يقول:(وكان - يريد الأسقف - رجل سوء؛ يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئاً منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قِلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع). ولما مات وقفت النصارى على ما كان يفعل، وأريتهم موضع كنزه فاستخرجوه، وحنقوا على الأسقف وقالوا والله لا ندفنه أبداً.
ومما يجب أن يلاحظ - وقد بلغنا هذا الموضع من نبأ سلمان - أن النصارى أقاموا بعد الأسقف الذي ذكرنا خبره آخر لم ير سلمان أفضل منه وأزهد في الدنيا، فأقام معه زماناً، ولما حضره الموت طلب إليه أن يوصي به من يرى فيه الخير مثله فقال له:(أي بني، والله ما أعلم اليوم أحداً على ما كنت عليه، فقد هلك الناس وبدّلوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل، وهو فلان وهو على ما كنت عليه فألحق به). فعل سلمان وحمد لصاحب الموصل - وقد خبره - دينه وأمره، ولما حانت منيته لم ير من يوصي به إليه إلا آخر
بنصيبين، وهذا لم يجد من يوصي به إليه حين أشرف على الموت إلا رجلاً بعمُّورية من أرض الروم، لأنه كما يرى صاحب نصيبين آخر من بقى على الدين المسيحي ونهجه الصحيح حين ذاك. ومعنى هذا أن الناس في ذلك الزمن لم يطيقوا الدين المسيحي، فانسلخوا منه شيئاً فشيئاُ لما طال بهم الأمد، وقست قلوبهم فما رعوه حق رعايته
وهنا أنفِّس عن نفسي بالإشارة إلى ظاهرة أحسستها من زمن بعيد وجهدت في أن أجد لها تعليلاً: هي أن الغالب على رجال الأديان عامة - حتى المسلمين - في هذا الزمن حب المال وجمعه والاستكثار منه، وعدم المسارعة إلى أفعال البر التي تقتضي البذل والإنفاق! لماذا! لا أدري، اللهم إلا أن يكون معرفتهم بالدين معرفة دقيقة، والإحاطة بما دونه المتأخرون من الفقهاء في تآليفهم، كل ذلك جعل منهم على حبل الذراع تعلات ليست من الحق في شيء، تجعل من الهين عليهم ما نحسه فيهم من إقبال على الدنيا شديد وتخلف في ميادين البذل والإنفاق!
ومهما يكن فقد كانت المسيحية وما تدعو إليه من غلو في الزهد، وكان أهلها وما فتنوا به من حب المال والشهوات وعروض هذه الحياة، ممهداً طيباً للإسلام الذي جاء والإنسانية قد بلغت رشدها فكان ديناً وسطاً قيماً لا عوج فيه، دين عرف للجسم حقه وللروح حقها، فلم يوجب التقشف ولم يحرم التمتع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، ولم يغلق أبواب الجنان دون الأغنياء كما أعلن عيسى عليه السلام، بل إنه رفع الغني الشاكر إلى مرتبة الفقير الصابر وربما فضله عليه، دين نهانا عن الغلو في طلب الآخرة ونسيان الدنيا، وبخاصة وهذه قد تكون من وسائل تلك، قاصاً علينا ما قال قوم هارون له:(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) دين لم يقل رسوله كما قال المسيح لواحد من أنصاره (بع مالك واتبعني)، بل قال لسعد بن أبي وقاص وقد استشاره - وهو عليل مدنف وذو مال كثير - فيما يتصدق به:(الثلث والثلث كثير! إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)، وهكذا نجد الإسلام يتناسب وما بلغته الإنسانية من رشد، والدين الذي استحق أن يكون خاتم الأديان بما يؤدي إلى سعادة الناس جميعاً مهما اختلف بهم الزمن
إذا كان هذا شأن العالم والمسيحية بصفة عامة، وهو شأن كان ينادي بضرورة دين جديد
فلبى الإسلام النداء، فكيف كان حال العرب وهم مهد الإسلام ومنبِته؟ لا أظن المرء يأتي بجديد إن عرض حالة العرب قبل ميلاد الرسول وبعثه بخير دين، فقد كثر في ذلك الكلام، فْلأقتصر إذن على كلمة قصيرة نتبين منها كيف كان العرب يعكفون على ما كانوا عليه من ضلال في الدين، وضلال في التقاليد، وشدة في الخضوع لما كان عندهم من أوثان وأصنام؛ وهي حالة تستوجب الإنقاذ السريع بدين يرد للإنسان شرفه وكرامته بعد أن ألغى عقله وعبد في موطن البيت الحرام بعض ما كان يصنع بيديه!
والحديث قد طال فلنرجئ تمامه إلى العدد الآتي أن شاء الله
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين
خُسرو وشيرين
في التصوير الإسلامي
للدكتور محمد مصطفى
خسرو الثاني، بن هرمزد الرابع، بن خسرو أنو شروان العادل، المعروف عند مؤرخي العرب باسم كسرى برويز، أي كسرى المظفر؛ وهو آخر ملوك الدولة الساسانية الكبار، ملك إيران ثمانياً وثلاثين سنة (590 - 628م)، فكان عهده من أطول العهود، مليء بالحوادث العظيمة، والقصص الممتعة، ذات الأثر البليغ في الأدبيين الإيراني والتركي وفي الفن الإسلامي
تولى خسرو برويز عرش إيران والبلاد في حالة ثورة واضطراب عظيم، فقد كان أبوه هرمزد عسوفاً شديد البطش، وكان من آثار سياسته أن ثار به القائد الشهير بهرام جوبين، الذي هزم الترك سنة 588م وقتل ملكهم ساوه شاه وأسر ابنه بعد أن غنم ما يفوق الوصف، فأوغر بذلك صدر هرمزد بالغيرة منه والحقد عليه. ورأى هرمزد في انهزام بهرم جوبين أمام الروم في موقعة عند اللاذقية سنة 589م، فرصة ليحط مقدار القائد العظيم فأمر بإحضار قميص من الشعر، وسراويل أحمر، ومعجر أصفر، ووعاء فيه قطن، ومغزل إلى غيرهما مما يصلح للنساء، وأمر بعض أصحابه أن يحملها إلى بهرام فأقحمه الثورة. وثار الناس بهرمزد ودخلوا عليه القصر ونكسوه من العرش، وكحلوا عينيه وحبسوه، ثم قتلوه بعد ذلك، وأنهى الخبر بذلك إلى خسرو وبرويز، فطار بجناح الركض، وجاء من أرمينيا حيث كان قد فر إليها لما أوقع بهرام جوبين بينه وبين أبيه، فتغير رأي أبيه عليه وأراد أن يقتله. ولكن خسرو برويز لم يفلح في مصالحة بهرام جوبين، وفر ثانية ولجأ إلى موريس إمبراطور الروم يطلب معونته، فزوَّده بجيش استطلاع به أن يقهر بهرام جوبين ويضطره أن يفر فيلجأ إلى خاقان الترك حيث قتل فيها بعد. وكانت لإمبراطور الروم بنت متحلية بالخلال الحميدة والخصال المرضية تسمى (مريم)، وكانت جميلة كالشمس إذا انكشف عنها السحاب، فرأى أن يزوجها من خسرو ليتم بذلك ربط صلات المودة بين البلدين، وقد تزوج خسرو من (مريم)، فولدت له ابنه (شِيروُيَه)
وبلغ خسرو برويز من سعة السلطان مبلغاً عظيماً، فاستولى على مصر والشام وسائر ما
كان يملكه الروم في آسيا الصغرى، حتى عسكرت جنوده على شاطئ البسفور في مقابلة القسطنطينية، ولكن بسطة السلطان هذه انقبضت في آخر أيامه، واستطاع (هرقل) إمبراطور الروم أن يهزم جيوش خسرو بعد حرب طاحنة دامت أعواماً طويلة، فثار الناس به وقبضوا عليه وحبسوه وولوا ابنه (شيرويه) العرش باسم (قباذ الثاني)، فأمر بقتل أبيه (خسرو) وعقد الصلح مع الروم
أما (شيرين)، فقد اختلف الرواة في أصلها، فقال بعضهم - ومنهم الشاعر نظامي - إنها بنت ملك الأرمن، أحبها خسرو حين فَّرمن أبيه هرمزد؛ وقال آخرون أنها إيرانية كانت في خدمة أحد الأشراف، وكان خسرو في صباه يتردد على دار هذا الشريف فأحب شيرين وأعطاها خاتماً، فلما علم رب الدار بهذا الحب، أمر أحد خدامه أن يغرقها، وقد استطاعت شيرين أن تؤثر في هذا الخادم، فألقاها في مكان من نهر الفرات قليل الغور، فنجت من الغرق ولجأت إلى أحد الأديرة. ولما تولى خسرو العرش، سار ذات يوم إلى ناحية هذا الدير، فأرسلت إليه شيرين الخاتم مع أحد عساكره، فذكرها وأخذها إلى قصره في المدائن، فعاشت معه وأخلصت له. وبعد مقتل خسرو رآها ابنه شيرويه، فكانت في نظره ذات وجه كالنهار الشامس، وشعر كالليل الدامس. . . فلما رآها كادت تزهق روحه شغفاً بها. . . فتناولت شيرين السم لتضع حداً لهذا الحب وتبقى على إخلاصها لخسرو
وكان لشيرين عاشق ثالث اسمه (فَرْهاد): كان مثَّالاً إيرانيًّا بارعاً في فنه، اشتهر في عصر خسرو برويز بنحت التماثيل والزخارف. ويقال إنه هو الذي نحت الصور الخالدة لخسرو في (طاق بستان)، وسيأتي ذكر ذلك فيما بعد
وقد نظم الشاعر نظامي الكنجوي قصة (خسرو وشيرين)، وجعلها إحدى منظوماته الخمس، ثم اقتدى به كثير من شعراء الإيرانية والتركية، فنظمها بالإيرانية خسرو الدهلوى، وبالتركية شيخي وعطائي وآهي وغيرهم. ووجد الفنانون في حوادث هذه القصة ومواقفها مادة ليس لها من نهاية يستلهمون منها في رسم صور لا حصر لها، فصوروها في جميع مراحل التصوير الإسلامي وفي مختلف عصوره. وشاء القدر بذلك أن يخلد لأبطال هذه القصة صفحات في كتب التاريخ والأدب والفن
يقول الشاعر نظامي الكنجوي أن خسرو برويز ولد في طالع حسن عند بزوغ فجر أحد
الأيام، فكان مولده كشروق الشمس في الأفق من بين الظلمات، تجلب معها النور والخير والبركات والقوة والشباب؛ وإذ مضى عام على ولادة ذلك الطفل وحلت ليلة القدر، قام واقفاً على قدميه، وبدأ لسانه يثرثر بما وعاه من كلمات، فعهد والده بتربيته إلى (بُزُر جُمِيد) الحكيم، وفي رعايته نما ذلك الطفل إلى أن صار شاباً كامل التربية تام التهذيب، وأميراً شجاعاً وبطلاً صنديداً؛ وامتلأ قلب (هرمزد) بالسرور والشكر لله جلت قدرته، الذي وهبه هذا الوريث الشهم السامي الأخلاق، واعتزم أن يحكم المملكة التي سيرثها مثل هذا الابن بعدالة أكثر من ذي قبل، ورسم بعقاب أيما رجل تعدى على أملاك آخر، وقطع أذن وذنب أيما فرس دخل أرضاً مزروعة فأضرّ بها، وصلب من سرق شيئاً
وذات يوم جلس هرمزد في مجلس العدل يحكم بين الناس فدخل إليه بعض القرويين بمظلمة، يشكون من ولده الأمير خسرو أنه حل الليلة الماضية في بيت أحدهم عند مروره بقريتهم أثناء رجوعه من إحدى رحلات الصيد العديدة، التي اعتاد الأمير الشاب أن يقوم بها. ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل إن خسرو أمضى ليلته بأكملها في ذلك البيت، ومعه جماعة من أقرانه وأصحابه يتناولون الجام من المدام بعد الجام، وهم يستمعون إلى نغمات مطرب الأمير، وقد اندفع هو في الغناء فاندفعوا هم في الشرب وأكثروا حتى ثملوا. وما كان هذا كل ما اقترفه الأمير من ذنوب، بل إن فرساً من مراكبه الخاصة جفل من مربطه وانطلق يلهو في حقل رجل فقير فداس شيئاً من الزرع وأضر به. ثم إن أحد أصحاب الأمير رأى عناقيد من الحصرم متهدلة من بعض الكروم في حديقة، فأمر غلاماً من عبيد الأمير بأن يقطع منها عدة ويحملها إليه ففعل. فثار الملك من سخطه على سلوك ابنه الأمير وأمر بالفرس فأعطى لصاحب الحقل الفقير؛ وبالغلام فوهب لمالك حديقة الكروم؛ وبأسلحة الأمير وشاراته، فمنحت لسكان البيت حيث قضى ليلته. وكاد الملك أن يخرق ابنه لولا شفاعة بعض أكابر المملكة، فعفا عنه بعد أن اعترف الأمير بسوء فعلته وفي (الشكل 1) نرى الأمير الشاب خسرو برويز وهو راكع أمام والده الملك هرمزد الجالس على العرش يسلمه أسلحته عقاباً له لمخالفته ما رسم به والده، ووقف على الجانبين بعض كبار المملكة يستعطفون الملك هرمزد ليعفو عن ولده خسرو. وسحن الأشخاص هنا اصطلاحية. وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي الكنجوي. كتبه درويش عبد الله
الأصفهاني في سنة 868 هجرية (1463م). والظاهر من الصور التوضيحية التي به أنه قد اشترك في تصويرها غير واحد من الفنانين. ولهذا المخطوط ميزة كبيرة وهي انسجام الصور مع المتن. وهو الآن محفوظ في مجموعة شستر بيتي بلندن
بعد ذلك بمدة قصيرة رأى خسرو في منامه جدَّه العظيم أنو شروان، وقد وقف أمامه في عظمة وجلال، وأخبره أنه سيكافأ بقبوله جزاء فعلته دون تذمر، ولتخليه عن مطربه وفرسه وغلامه وأسلحته، وأنه سيحصل في نظير ذلك على مطرب بارع في فنه، له صوت عذب حنون، سيكون اسمه (باربُد). وعلى جواد أسرع من فكر الإنسان، سيكون اسمه (شَبْديز). وعلى امرأة لا تضاهي في الحسن والجمال سيكون اسمها (شيرين) وأخيراً على العز والمجد بجلوسه على عرش إيران
وبعد هذه الرؤيا بمدة قصيرة جاء لزيارة خسرو صديقه الحميم (شابور)، وقد كان مصوراً بارعاً، يجيد الرسم والتصوير، ولا يضارعه أحد في هذا الفن، وكان إلى جانب ذلك رحالة بكل قلبه وقالبه، مولعاً بالأسفار، مشغوفاً بالرحلات إلى البلاد البعيدة والغريبة. وفي سياق حديثه مع خسرو، أخبره أنه قدم مرة إلى بلاد جميلة تسمى (أرمينيا) تحكمها ملكة عظيمة اسمها (مهين بانو) مشهورة بين ملوك الدول المسيحية. وأن وريثة هذه الملكة العظيمة هي ابنة أخيها الأميرة (شيرين) وأن هذه الأميرة ذات جمال فريد لا مثيل له، وسحر ملائكي وفتنة تأخذ بمجامع الألباب. وقد اعتادت هذه الفاتنة أن تجوب نواحي المملكة على رأس (قطيع) من ثلاثمائة عذراء، تنافس كل منهن الأخرى في جمال النفس ورشاقة القوام؛ ليس لهن من همّ سوى التفكير في أماكن جديدة بعيدة، يقضين فيها أوقات طويلة في المرح والنزهة والصيد والقنص. وأخبره أيضاً أن الملكة (مهين بانو) تملك فرساً لونه أسود كلون الليل الدامس اسمه (شبديز). وقد عجب خسرو لاتفاق الأسماء فيما رواه له صديقه شابور مع ما حفظه عن جده أنو شروان من أسماء عند ما ظهر له في الحلم، وأخذ يستزيد شابور من أخبار شيرين حتى تأجج قلبه من نيران الهوى، وهام بها هياماً شديداً لمجرد سماع أخبارها؛ وكانت نتيجة ذلك أنه أمر صديقه (شابور) بالسفر في التو واللحظة إلى أرمينيا، وأن يسعى هنالك في ربط الصلة بينه وبين (حبيبته) شيرين
وصل شابور إلى أحد أديرة أرمينيا، حيث علم أن شيرين قادمة بعد قليل مع صويحباتها
العذارى، وأنهن سيهبطن للراحة في روضة مجاورة. ووجد شابور في ذلك فرصة مناسبة ليستلفت نظر شيرين إليه، فرسم صورة لخسرو وعلقها على شجرة في مكان ظاهر من تلك الروضة، ثم اختبأ منتظراً ما سوف يحدث. وأقبلت شيرين إلى الروضة ومعها صويحباتها، ورأت الصورة فأعجبت بها، وكأن الشخص الذي تصوره قد أثر في نفسها تأثيراً شديداً فأمسكت بها بين يديها، واسترسلت في البكاء وهي تقبلها. وعند ما تبين صويحباتها شدة انفعالها، عملن على إبعاد الصورة عنها، ومزقنها خفية، ، وأفلحن في إقناعها بمغادرة هذه الروضة لأنها مسكونة بالجان، وكانت الصورة سوى عمل من أعمالهم
وفي (الشكل2) جلست الأميرة شيرين في روضة على سجادة تتناول صورة خسرو من إحدى الفتيات، وقد جلس إلى جواريها أربع موسيقيات: الأولى منهن إلى اليمين هي مطربتها الشهيرة (نيكيسا) وفي يدها الجنك، ثم ضاربة للدف، فثالثة تغني وتصفق، ورابعة تعزف على المزمار. وقد وقف حولهما بعض صويحباتها وجواريها وأحد الحراس. وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي، مؤرخ سنة 900هـ (1494م) كتب للأمير ميرزا أحمد علي فارسي أحد أمراء السلطان حسين بيقرا، واشترك في تصوير الصور التوضيحية التي به بعض مشاهير المصورين في ذلك العصر. وهذه الصورة من تصوير الفنان (ميرك خراساني)، وهو إلى جانب ذلك خطاط مشهور. ويقال إنه أحد أساتذة المصور الشهير (بهزاد) وهذا المخطوط محفوظ في المتحف البريطاني
غادرت شيرين ومن معها الروضة الأولى ونزلن في روضة ثانية، وكان شابور قد رأى وسمع من مخبأه هناك كل ما حدث وقيل، فسبقهن إلى الروضة الثانية ووضع صورة أخرى في مكان ظاهر منها. وقد حدث هنا ما حدث في الروضة الأولى وغادرتها شيرين وفتياتها إلى ثالثة، حيث كان شابور أيضاً قد سبقهن وعلق صورة ثالثة، وكانت شيرين قد غلبها حب خسرو لمجرد رؤية صورته، كما غلبه حبها لمجرد سماع أخبارها - والحب كما يقولون يعلم الحيلة والدهاء - فاحتفظت بالصورة هذه المرة، وأرسلت صويحباتها يبحثن عن صور أخرى في الرياض المجاورة، وهي في الحقيقة تود أن تخلو إلى نفسها. ورأى شابور أن الفرصة قد حانت، فخرج من مخبأه وتقدم إليها متنكراً في زي راهب، وبعد أن جعلها تأمر بانسحاب أتباعها، أخبرها أنه مصور هذه الصور وأنها تمثل شخص
الأمير خسرو برويز، وأن هذا الأمير قد تملك فؤاده حبها، وأرسل معه إليها خاتماً كدليل لمحبته لها. وهنا صارحته شيرين بحبها لخسرو، وتوسلت إليه أن يرشدها إلى الطريق نحو المدائن، عاصمة إيران. وبعد أن وصف لها شابور الطريق، انسحب ورجع من حيث أتى.
وفي (شكل 3) نرى أن الأميرة شيرين قد جلست في روضة على العرش وجلس أمامها شابور وفي يده صورة خسرو، وأمام العرش فسقية بها ماء تسبح فيه أوزة، ووقف خلف (شيرين) بعض العذارى من صويحباتها، وحول شابور نرى الأتباع والخدم، منهم الجالس والواقف، وبعضهم يقوم بواجباته من تقديم الطعام والشراب. ولم ينس المصور أن يرسم صورة البستاني وفي يده جاروف يعمل في الأرض. والرجال يلبسون عمائم تخرج منها عصا كانت الزي المتبع في لباس الرأس في عصر الدولة الصفوية. ونرى أن سحن الأشخاص في هذه الصورة تمتاز بما بها من حياة وظهور التأثيرات المختلفة عليها من اهتمام وتفكير وسرور وحزن إلى غير ذلك مما امتازت به صور هذا العصر. وهذه الصورة من تصوير (ميرزا علي) أحد تلاميذ المصور بهزاد، ومن مشاهير الفنانين في عصر الشاه طهماسب، وقد اعتاد هذا المصور أن يصور رجاله وهم ملتحين. وبالرغم من براعة (ميرزا علي) في تصوير هذه الصورة، فإنه فاته أن يمثل مقابلة شابور لشيرين وهما منفردان كما أراد ذلك الشاعر نظامي. وهذه الصورة في مخطوط لنظامي كتب للشاه طهماسب ومؤرخ سنة 946 - 950 هجرية (1539 - 43م)، واشترك في تصوير الصور التوضيحية التي به خمسة من كبار فناني ذلك العصر. وهو محفوظ في المتحف البريطاني.
بعد انسحاب شابور من الروضة، رجعت شيرين ومن معها إلى القصر، وصعدت في ذات الليلة إلى عمتها مهين بانو، وأخذت تحدثها عن رحلاتها للنزهة والصيد، وفي سياق كلامها أبدت رغبتها في الخروج صباح اليوم التالي في رحلة طويلة للصيد، وهي لذلك ترجو عمتها إعارتها الفرس الأسود شبديز، وقد أجابتها عمتها إلى ذلك. وفي الصباح الباكر تمنطقت شيرين بأسلحتها، وركبت الفرس الأسود، وخرجت مع فتياتها لصيد الغزلان. وكانت هذه فرصة لها كي تعدو بجوادها السريع خلف غزال وتغيب معه عن الأنظار،
وعبثاً حاول صويحباتها اللحاق بها أو البحث عنها، فرجعن إلى مهين بانو وأخبرنها بالأمر، فحزنت حزناً شديداً لاختفائها
وبعد أن ركبت شيرين سبعة أيام متوالية، شعرت بالتعب يدب في جسمها، فترجلت ونامت بعد أن استودعت نفسها الله عز وجل ولكنها سرعان ما صحت من نومها على صهيل جوادها، وتبينت أسداً يقترب من ناحيتها، فأخذت سهماً وأطلقته على الأسد فقتلته. ثم تابعت السير حتى وصلت إلى روضة في وسطها بركة جميلة من الماء، فاعتزمت الاستحمام بها لشدة ما نالها من التعب وما كساها من الغبار. وعلى ذلك ربطت شبديز إلى شجرة، وتجردت من ملابسها وأسلحتها وعلقتها إلى جواره، ثم تمنطقت بقماش أزرق حول وسطها ونزلت في الماء تستحم
وإذ هي تستحم قدم شاب إلى هذه الروضة، ورأى شبديز مربوطاً إلى الشجرة، فاقترب منه معجباً به، وعند ذلك رأى الملابس والأسلحة معلقة إلى جواره، وأخيراً رأى شيرين وهي جالسة في بركة الماء تعبث فيه وتداعبه، كأنها حورية جلست لتسحر من يرتاد ذلك المكان، فشخص إليها خسرو - وكان هو ذلك الشاب القادم - وقد ألهاه جمالها الفاتن عن كل ما عداه. وشعرت شيرين بوجود غريب قريباً منها، فالتفتت إلى الخلف. ولما رأت خسرو ارتبكت، فانسحب هو في حياء وانطلاق يعدو بجواده بعيداً عنها، وخرجت هي من الماء وارتدت ملابسها وامتطت شبديز فانطلق بها يسابق البرق. وهكذا التقى الحبيبان لأول مرة دون أن يعرف أحدهما الآخر، ثم افترقا وقلب كل منهما يحدثه أنه رأى حبيبه
وفي (الشكل 4) نرى شيرين وهي جالسة في بركة الماء، وإلى جوارها وقف (شبديز) جوادها الأسود الأصيل، وعلى ظهره غطاء جميل، وهو يصهل كأنه ينبهها لوجود (خسرو) الواقف بجواده على مقربة، وقد وضع سبابته في فمه لشدة ما اعتراه من تأثر عند رؤيته شيرين بجمالها الفاتن، وقد صار وضع السبابة في الفم من التقاليد التي اتبعها الفنانون في تصويرهم خسرو عند رؤيته لشيرين، كما نرى ذلك في صور كثيرة لهما، وهذه الصورة من تصوير (سلطان محمد) أحد مشاهير مصوري عصر الشاه طهماسب، وهي مخطوط نظامي السابق ذكره المكتوب لهذا الشاه
وقد صور المصور (رضا عباسي) في القرن العاشر الهجري صورة شيرين واقفة وهي
تخرج من الماء شبه عارية، وهذه الصورة محفوظة في مكتبة الدولة ببرلين
(له بقية)
محمد مصطفى
أمين مساعد دار الآثار العربية
من أدب القرن التاسع
كتاب (سحر العيون)
للأستاذ أحمد يوسف نجاتي
- 3 -
ولقد أنجب المحب بن الشحنة ورزقه الله ذرية مباركة طيبة منهم:
8 -
أثير الدين محمد (وهو سبط العلاء بن خطيب الناصرية، أمه السيدة خديجة بنت العلاء) ولد أثير الدين في شهر صفر سنة 824 بحلب ونشأ بها، وأخذ عن أبيه وغيره، وناب عن أبيه في القضاء بمدينة حلب سنة 1839 وناب عن جده لأمه في خطابة الجامع الكبير بها أيضاً، ثم استقل بالقضاء في أوائل سنة 856 وقلَّد كثيراً من الوظائف الدينية والعلمية، وقدم على أبيه القاهرة غير مرة وحج معه، واتصل بعلم الدين السخاويّ، وفيه يقول كان كثير التودد خيراً من أخيه عبد البر، ولكن ذاك أفضل في الجملة مع سكون هذا وتواضعه وأدبه. وتوفي في جمادى الأولى سنة 1898 بمدينة حلب
9 -
سرىّ الدين أبو البركات عبد البر الشحنة وهو أنبه أبناء المحب. ولد في أواخر سنة 851 بحلب، وانتقل منها صحبة أبويه إلى القاهرة وتلقى العلم بها عن أبيه وجده وكثير من فضلاء عصره كما سمع ببيت المقدس وغيره، وعرف بالذكاء والفطنة، وقلد كثيراً من وظائف القضاء والإفتاء والخطابة والتدريس بمدارس كثيرة بالقاهرة، وفيه قيل:
دروس عبد البر فاقت على
…
أبيه في الحفظ وحسن الجدل
وذاك عند الأب أمر به
…
نهاية السّول وأقصى الأمل
وولي قضاء حلب والقاهرة، وارتفعت منزلته حتى كان جليس السلطان الغوري وسميره، ولا غرو فقد كان عالماً أديباً ذا حشمة وفضل وحسن بيان متقناً للعلوم الشرعية والعقلية واللسانية، وقد ترجم له السخاوي ولم يسلم من غمزاته حتى قال فيه: وليس بثقة فيما ينقله ولا بعمدة فيما يقوله، بل هو غاية الجرأة والتقول، ولو تصوَّن وسلك طريق السداد أو تستر أو تأدب مع مشايخ الوقت وفضلائه أو ضبط لسانه عن الوقيعة في الأكابر لكان أخلص له وأقرب إلى محبة الناس فيه. إلى أن قال: وصار أبوه بسببه إلى غاية في
الامتهان، وقاسى ألواناً من الذل والهوان؛ ولكن عسى أن يكفر ذلك عنه بعض ما اقترفه، فالولد سر أبيه. . . الخ. أهـ
أقول: يظهر أن عبد البرّ كان عنده شيء من الاعتداد بالنفس والاعتزاز بمكانته وأنه نافس السخاوي مع أنه أكبر منه وأعلم، ولكليهما تآليف في علوم مختلفة. هذا إلى أني لا أنزه ابن الشحنة من بعض ما وصفه به، ولكل جواد كبوة. وكان بمصر في ذلك الحين شاعر هجاء خبيث اللسان جعل لسانه مقراضاً للأعراض اسمه عبيد السلموني؛ فكان من يتقي عرضه من كرام الناس يشتريه منه بالإحسان إليه أو بمداراته، فاتفق أن تعرض للقاضي عبد البر وهجاه بقصيدة في أولها:
فشا الزور في مصر وفي جنباتها
…
ولم لا وعد البر قاضي قضاتها
فأدبه السلطان الغوري وعقد له مجلساً بحضرته في مستهل شهر المحرم من سنة 913 وأحضر عبيد السلموني هذا مكبلاً في الحديد، فأنكر أن تكون القصيدة له، فلم ينجه هذا من تعزيره وأليم تأنيبه
وللقاضي عبد البر بن الشحنة مؤلفات كثيرة، منها (شرح منظومة ابن وهبان في فقه أبي حنيفة النعمان) وابن وهبان هو القاضي أمين الدين عبد الوهاب بن أحمد بن وهبان الدمشقي قاضي مدينة حماة توفي سنة 768، ومنظومته قصيدة رائية من بحر الطويل عدتها 400 بيت، ضمنها غريب المسائل في الفقه سماها:(قيد الشرائد ونظم الفرائد)؛ ثم شرحها في مجلدين وسماه: (عقد القلائد في أصل قيد الشرائد)، ثم شرحها قاضي القضاة عبد البر بن الشحنة شرحاً حسناً قيد فيه ما أهمله الناظم في شرحه وألحق به مسائل أخرى وفروعاً غريبة، وغير ما عسر فهمه من بعض أبياته بأوضح منه، وسمّى شرحه:(تفصيل عقد الفوائد بتكميل قيد الشرائد)؛ وفرغ من تصنيفه في شهر شوال سنة 885، ثم هذبه سنة 895. ومن مصنفاته شرح منظومة جده أبي الوليد المتوفى سنة 815، والتي نظمها في عشرة علوم. ومنها شرح (كنز الحقائق) في فقه الحنفية (ومتن الكنز هو للإمام أبي البركات عبد الله بن أحمد الحافظ النسفي المتوفى سنة 710) وسمى شرحه (الإشارة والرمز إلى تحقيق الوقاية وفتح الكنز) ومنها (تحصيل الطريق إلى تسهيل الطريق) وهو رسالة أولها: (الحمد لله الذي سهل لمن اختار من عباده طريقاً إلى الجنة)، ذكر فيه أن
بعض الناس أحدث في طريق القاهرة وحوادث تضر بعامة المسلمين، فألف هذه الرسالة في دفع مثل ذلك في شهر شعبان سنة 886. ومنها:(زهر الروض في مسألة الحوض) تكلم فيه عن حوض دون ثلاثة أذرع وعن حكم الوضوء فيه. وله (الذخائر الأشرفية في ألغاز الحنفية)، وله شرح (جمع الجوامع) المشهور في أصول الفقه لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي المتوفى سنة 771 وغير ذلك
وكان القاضي عبد البر شاعراً أديباً ومن شعره:
أأنصار الشريعة لن تراعوا
…
سيفني الله قوماً ملحدينا
ويخزيهم وينصركم عليهم
…
(ويشف صدور قوم مؤمنينا)
وله مفتخراً ومعدداً مناقبه (وقد كان غير ذلك أولى به):
أضاروها مناقبيَ الكبار
…
وبي والله للدنيا الفخار
بفضل شائع وعلوم شرع
…
لها في سائر الدنيا انتشار
ومجد شامخ في بيت علم
…
مفاخرهم بها الركبان ساروا
وهمة لوذع شهم تسامي
…
وفوق الفرقدين لها قرار
وفكر صائب في كل فن
…
إلى تحقيقه أبداً يصار
وكان بمصر في ذلك العصر امرأة جميلة مغنية تسمى خديجة الرحابية ذات براعة في الغناء والإنشاد يتعرض لها شبان عصرها وأهل الخلاعة منهم، وكان ممن تعرض لها أحد المنتسبين للعلم المسمى محمد بن سالم بن خليل بن إبراهيم القاهري الأزبكي ولد سنة 855 وتوفي سنة 900. فقال القاضي عبد البر يعرض به:
إن تمنّعت يا مهاة عن الوص
…
ل فإني والله حلو الوصال
لست ندلا ولست فظاً غليظاً
…
لا ولا في الوجود شيء مثالي
وكانت وفاة القاضي عبد البر بحلب في شهر شعبان سنة 921 رحمه الله تعالى. ولسرى الدين عبر البر وأخيه أثير الدين أبناء بررة هم أحفاد المحب بن الشحنة؛ ومنهم:
10 -
لسان الدين بن أثير الدين أحمد ولد سنة 844 بحلب ونشأ في كنف أبيه وجده، وربي تربية بني الشحنة، وقدم على جده المحب القاهرة، ثم ناب عنه في كتابة السر بها، ثم ولي قضاء الحنفية بمدينة حلب، وحج مع أبيه وجده، ثم فارقهما من عقبة أيلة إلى حلب
لمباشرة وظيفته. وكان عالماً عاقلاً عفيفاً كيساً. قال السخاوي: (. . . مع فتور ذهنه، وله نظم وسط فمنه لما فصل جده عن كتابة السر ليحل محله ابن الدِّيري:
كتابة السر قد أضحت مشوهة
…
لما قلاها محب الدين قد هانت
وأصبح الناس يدعون المحب لها
…
كيما يرق عليها بعد ما بانت
توفي شهيداً بالطاعون سنة 882 رحمه الله
11 -
وأخوه جلال الدين محمد ويكنى أبا البقاء مثل كنية البدري صاحب (سحر العيون): نشأ نشأة سلفه وأهله، وتلقى العلم بحلب وبيت القدس والقاهرة، وولى قضاء حلب سنة 862، وقدم القاهرة غير مرة، ثم أدركته منيته بها بعد علِّة طال أمدها في شوال سنة 892 رحمه الله. قال السخاوي: وكان ذا شكالة وهيئة، غير محمود في دينه ولا معاملاته، عفا الله عنه وإيانا
12 -
وأخوه عفيف الدين أبو الطيب بن أثير الدين ابن المحب حسين بن محمد ولد سنة 858 وسمع عن جده وغيره، وقدم القاهرة غير مرة، وأخذ عن بعض علمائها، وكان يتردد بينها وبين حلب، وولي قضاء حلب وكتابة السر بها، ولما عاد إلى القاهرة بعد موت أخيه المتقدم سنة 892 في أيام الملك الأشرف أبي النصر فايتباي أمر بنفيه إلى الواحات، فذهب إليها ولبث بها حيناً حتى شفع فيه فعاد، ثم توفي بالقاهرة مطعوناً في شهر شوال سنة 910 رحمه الله؛ قال السخاوي: وكان مع كثرة اشتغاله جامداً وله اعتناء بالخيول. أهـ
13 -
عبد الغفور بن عبد البر توفي في طفولته بالطاعون سنة 82
14 -
وأخوه قاضي القضاة محب الدين محمد بن سري الدين قاضي القضاة عبد البر. ولد بمدينة القاهرة ونشأ بها، واشتغل بالعلم على أبيه وغيره، وولي نيابة الحكم عنده، ثم نيابة الحكم عنه، ثم قدم مدينة حلب عند انقضاء الدولة الجركسية سنة 922 بعد أن حج وجاور بمكة. وكان لطيفاً أديباً حسن البزة جميل المطارحة لطيف الممازحة مقداماً مهيباً دمث الطباع رقيق الحاشية أديباً شاعراً. وتوفي ببلدة حلب في شهر شعبان سنة 951 رحمه الله، ومن شعره:
يا حبيبي صل مُعَنَّى
…
ذاب وجداً وغراما
وارحمن صبَّا كساه
…
غزل عينيك سقاما
ورماه عن قسّى الح
…
اجب اللحظُ سهاما
أنحلته رقة الخصر
…
نحولاً حيث هاما
لا يرى إلا خيالا
…
إن تقل فيه نظاما
لم يذق من يوم غبتم
…
عنه لا أكلاً ولاما
أطلقت عيناه نهراً
…
طلقت منه المناما
أوقدت حشو حشاه
…
نار خديك ضراما
عجباً للنار فيه
…
وبه حزت المقاما
إن بعد الوصل عادت
…
بك برداً وسلاماً
(يتبع)
احمد يوسف نجاتي
الأستاذ بكلية اللغة العربية
هل فكرنا في المستقبل؟!
للأستاذ عبد السلام المنياوي
يسألني كثير من الناس: لماذا تعيش في عزلة عن دولة الأقلام؟ ولماذا تقنع بالصمت عن رسالة الدعوة؟ ولماذا لا يرتفع صوتك في مجال الإصلاح والتفكير؟
أطيل الوقفة إزاء هذه الأسئلة، ويمتد بي التفكير أمام هذا الغرض، لا بحثاً عن الجواب ولا تلمساً للسبب، ولكن ألمح في سرعة صور هذا المحيط الذي نعيش فيه، وأتمثل في إنصاف نفثات هذه القلوب المؤمنة في سبيل الدين والوطن والحياة العزيزة
أجل أطيل النظر والاستعراض ثم. . . أجيب ولكن إجابة الآسف الملتاع وأخشى أن أقول إجابة اليائس المتشائم، ذلكم لأنني أعتقد أن القلم يجب أن يستريح حيثما يكون تعبه هباء، وأن الدعوة يجب ألا توجه حيثما لا تكون إلا في الهواء، وأن الإصلاح يجب أن ينادي به حيثما يهيأ الجو ويوجد الرجال!
فهل تهيأت القلوب للاستماع؟ وهل آن للضمائر أن تنصت؟ وهل بين المقتنعين من بيده التنفيذ؟ إنا لنلتهب حماسة إلى خير هذا الوطن العزيز، وتنفطر قلوبنا أسى عند ما نذكر هذه المخزيات المصرية، ونرجو في تلهف وطماعية أن تقر عيوننا حيناً من الدهر بما ينال هذا الشعب المجيد، ونهتف من أعماقنا مع أستاذنا المراغي في عقيدة وإيمان: لابد من دين الله لدنيا الناس، كما نضم صوتنا في حرارة وإخلاص إلى الأستاذ الزيات إذ يقول: لابد للإسلام من مؤتمر. . . لسنا صادرين في هذا عن عصبية ولا جمود بل هي عقيدة الفطرة ونطق الواقع وشهادة الأعداء، وإنه ليمتزج بأفكارنا ونفوسنا امتزاجاً أن هذا العالم صائر يوماً لا محالة طوعاً أو كرهاَ أو طبيعة إلى هذا الهدى الإلهي الحكيم. . .
ولكن دين الله ومؤتمر الإسلام لابد أن نمتلئ بهما نحن المسلمين! ولابد أن نجاهد من أجلهما عواطف الزعماء! ولابد أن نمكِّن لهما في قلوب الشباب! نعم لابد أن نمتلئ وأن نجاهد ونمكن حتى نفيض على هذه الدنيا بما في حيازتنا من كنوز طالما أغرونا بأن نستبدلها بزيفهم، ونعيد إليهم باطلهم بعد ما نكون قد محوناه بحقنا الخالد، وندفع بالتي هي أحسن السيئة حتى يدركوا وضع الشرق والغرب ويقروا على رغمهم بزعامة الإسلام والمسلمين
ولكن بيننا رِبا وخمر ومقامرة، وفينا تبذل وغرور وبغي، ومنا أناس ينكرون - أو يتجاهلون - هذا الماضي المجيد. فماذا نعمل وبلادنا قد عجت بالمشكلات وشعبنا قد تفشته الأدواء؟ ماذا نعمل وقد استعصت هذه (المشكلات) على الحل، وأعيت هذه (الأدواء) علاج ذوي الغيرة من رجال الفكر والإصلاح؟ اللهم لا استعصاء ولا إعياء ولكن يعوزنا الإيمان ويعوزنا الإقدام ويعوزنا النزول على حكم الله (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)
إن هذا الوقت الذي تمضي فيه (اللجان) إلى العمل، وإن هذا الوقت الذي يكتبون فيه (تقاريرهم) وإن هذا الوقت الذي يجهدون فيه أنفسهم للبحث حرام أن تضيع هذه الأوقات في غير ما ثمرة! وحرام أن تصرف هذه الأموال بلا مقابل! وحرام ألا يجد الناس ما يحميهم من أغوال الفقر وويلات الجهل وخفض المستوى العام بينما لا تبعد عنهم هذه الحماية إلا بمقدار ما يبعد هؤلاء عن معين الإسلام وقانون الإنسانية!!
وإنا لنسمع العالم كله يتحدث عن (نظامه الجديد) ومن خلال هذا الصراع العنيف وفي وسط هذا الدوي الهائل يتردد في الآفاق صدى صوت حبيب منعش هو أنشودة الحرية ورجاء السلام ومنية الاستقرار، فسنة الله أن ينجاب الظلام عن الفجر، وأن يتنفس الصبح بعد إدبار الليل؛ ولابد أن يرتفع المستقبل على أنقاض الحاضر، وقد تواطأت الفِكَر على أن هذا المستقبل مليء بأساليب الهدم حافل بأنواع الإصلاح مشيد من لبنات قوية ليس من ذراتها اطمئنان إلى ترف ولا ركون إلى دعة ولا عزوف عن جد. . . هذا هو الجيل الجديد وهؤلاء هم أبناء العهد الجديد، فعلى أي أساس يكون مستقبل جيلنا المنتظر. وعلى أي الدعائم يرتكز عهدنا المنشود؟؟
لقد قال الأستاذ إدوار مونتيه في إحدى محاضراته: (لا شك أن الإسلام يعد من أكبر وسائل تمدين الناس وترقية أحوالهم الاجتماعية والدينية والخلقية والاقتصادية. الإسلام حضارة قائمة بنفسها رغم ضعف المسلمين في فترة من الزمن، وسينتبهون مرة ثانية فينشرون المدنية والرقي في كل أنحاء العالم) وهذا برناردشو يقول: (إني دائماً أحترم الدين الإسلامي غاية الاحترام، لما فيه من القوة الحيوية، فهو وحده الدين الذي يظهر لي أنه يملك القوة المحركة التي تغير صورة الكون، ذلك لأنه يوافق كل جيل، ويتمشى مع
مصلحة البشر في كل زمان. . . لاشك أن العالم يقدر تكهنات رجل مثلي: أنا على يقين أن دين محمد سيكون دين أوربا في غد. . . وقد رأى عظماء المفكرين من أهل النزاهة مثل كاريو وغوتي وجيبون في القرن الـ 19 وجرب تقدير وإجلال دين محمد، وقد أحدث رأيهم شيئاً من التغيير في سلوك الأوربيين مع الإسلام، لكن أوروبا هذا القرن (العشرين) قد تقدمت في ذلك تقدماً بعيد الشأو وقد أخذوا يقعون في الهيام بعقيدة محمد، وفي القرن التالي سيكون أهلّ أوروبا أكثر معرفة بفائدة اعتقاد محمد في حل مشكلاتهم، وبهذا يمكنك أن تفهم ما تكهنت به!)
بعد هذا - ولا أحسب نفسي في حاجة إليه، فربما قد رآه من إليهم أوجه الحديث - أحب أن نصل إلى خطة حاسمة في هذا المعترك، وأن نفكر جادين في مستقبلنا مهما تكن الأوضاع؛ ولنُوَلّ وجهنا إلى غير ما اتجهت القافلة، وما دامت هذه المدنيات تنهار وهذه النظم تعلن عن نفسها بالفشل، فمن الخطأ والحمق أن تنتمي إلى التقليد، ولنستبق الزمن بأخذ أساليب الحكم والتشريع والقضاء على نظام إسلامي، قبل أن نفعل تابعين وليس لنا يد. هذا الإسلام يا قوم، اعرضوه على أنه فكرة من الفكر، وكثيراً ما فشلت برامج وأهملت قوانين لم تتفق وهذا القانون السماوي. جربوه. . . جربوه أيها الناس وإلا فقد دللتم على خبايا النفوس ومكنونات الصدور. . . يجب أن نرى أمامنا الفرد المسلم والأسرة المسلمة والحكومة المسلمة والوطن المسلم، ولنعتز بهذا الشرف الذي وضعنا فيه وخوّلنا إياه أحكم الحاكمين: شرف الوساطة بين السماء والأرض، بين الله والناس. . .!
هذا وإن الغرائز البشرية أو جُلّها البارز قد جعلت من الإنسان الذي يبغي كمال الحياة ويتلمس نور النعيم وينشد ذروة المجد، مجاهداً يصارع نفسه، ويجاهد هواه، وينازع فطرته التي تكونت من الأنانية والتكاثر والهلع والعجلة والجبن واللذة الخ. لا أقول كما قال الشاعر إنها كالطفل، ولكن كما قال النبي إنها أعدى الأعداء، جهادها هو الجهاد الأكبر، والظفر بأسرها هو النصر المؤزر. . .
ألا فانتزعوا أيها الشباب من بين جنوبكم هوى النفس، ومن أذهانكم خمود الفكر، ومن أعماقكم وهن العزيمة، ثم هبوا في إقدام لا يعرف التواني؛ وهنا تسطرون بحق أول من صفحات الجدارة بالحياة!؟
عبد السلام المنياوي
من غزل الملوك
للأستاذ عبد الله مخلص
كنتُ أعددت بعض فصول من كتاب باسم (العاطفة عند العرب) وبينها فصل عنوانه سلطان الحب وحب السلاطين فرأيت أن أنقل شيئاً منه لقراء الرسالة ترويحاً عن نفوسهم المكروبة في هذه الأيام السود. قال سليمان بن الحكم المرواني الملقب بالمستعين وهو من بني أمية:
عجباً يهاب الليث حدّ سناني
…
وأهاب سحر فواتر الأجفان
وأقارع الأهوال لا متهيّباً
…
منها سوى الإعراض والهجران
وتملكت نفسي ثلاث كالدمى
…
زُهر الوجود نواعم الأبدان
ككواكب الظلماء لحن لناظر
…
مْن فوق أغصان على كثبان
حكّمت فيهن السلو إلى الصبا
…
فقضى بسلطان على سلطاني
فأبحن من قلبي الحمى وتركنني
…
في عز ملكي كالأسير العاني
لا تعذلوا مَلكاً تذلّل للهوى
…
ذلّ الهوى عزّ وملك ثاني
ما ضر أني عبدهن صبابة
…
وبنو الزمان وهن من عبداني
إن لم أطع فيهن سلطان الهوى
…
كلفاً بهنّ فلستُ من مرّان
وقال الخليفة هارون الرشيد العباسي يرثي جاريته هيلانة:
فارقت عيشي حين فارقتها
…
فما أبالي كيفما كانا
كانت هي الدنيا فلما ثوت
…
في قبرها فارقت دنيانا
قد كثر الناس ولكنّني
…
لست أرى بعدك إنسانا
وكان للخليفة المأمون العباسي جارية بارعة الجمال ظريفة حاذقة بالغناء ونظم الشعر تدعى عريب وقد كان اشتراها من أخيه المعتصم بمائة ألف دينار ثم أعتقها، وكان المأمون شديد الكلف عظيم الشغف بها فقال مداعباً لها:
أنا المأمون والملك الهمام
…
على أنى بحبّك مستهام
أترضي أن أموت عليك وجداً
…
ويبقى الناس ليس لهم إمام
فقالت يا أمير المؤمنين والدك أعشق منك حيث قال:
ملك الثلاث الآنسات عناني
…
وحللن من قلبي بكل مكان
مالي تطاوعني البرية كلها
…
وأطيعهنّ وهنّ في عصياني
ما ذاك إلاّ أنّ سلطان الهوى
…
وبه قوين أعزّ من سلطاني
ويرى القارئ أن الرشيد أغار على أبيات ابن الحكم الأموي
وقال المعز لدين الله الفاطمي:
لله ما صنعت بنا
…
تلك المحاجر بالمحاجر
أمضى وأقضي في النفو
…
س من الخناجر في الحناجر
ولقد تعبت ببينكم
…
تعب المهاجر في الهواجر
وقال أيضا:
أطلع الحسن من جبينك شمساً
…
فوق ورد في وجنتيك أطلاَّ
وكأن الجمال خاف على الور
…
د جفافاً فمدّ بالشعر ظلاَّ
وقال السلطان سليم - بن السلطان بايزيد العثماني - فاتح مصر:
لولا الإله وحرّ نار جهنمَّ
…
لعبدتُه وسجَدتُ بين يديه
وهذه أشعار بعض الأمراءِ والوزراء الذين كانوا ملوكاً بالفعل في إدارة الممالك وعبيداً في دولة الحب
قال الأمير عبد الله بن طاهر بن الحسين من أمراءِ الدولة العباسية:
نحن قوم تليننا الحدق النج
…
ل على أننا نلين الحديدا
طوع أيدي الظباء تقتادنا العي
…
ن ونقتاد بالطعان الأسودا
نملك الصيد ثم تملكنا البي
…
ض المصونات أعيناً وخدودا
تتقي سخطنا الأسود ونخشى
…
سخط الخشف حين يبدى الصدودا
فترانا يوم الكريهة أحرا
…
را وفي السلم للغواني عبيدا
وقيل إن هذه الأبيات هي لأصرم بن حميد ممدوح أبي تمام
وقال محمد بن عبد الملك الزيات الوزير العباسي:
صغير هواك عذّبني
…
فكيف به إذا احتنكا
وأنت جمعت من قلبي
…
هوًى قد كان مشتركاَ
وحسن رضاك يقتلني
…
وقتلي لا يحلّ لكا
أما ترثي لمكتئبٍ
…
إذا ضحك الخِليّ بكا
وقال سيف الدولة علي بن عبد الله حمدان صاحب حلب يصف حجزه إحدى جواريه في قلعةٍ عندما خاف عليها:
راقبتني العيون فيك فأشفق
…
ت ولم أََخلُ قطّ من إشفاقِ
ورأيت العدوّ يحسدني في
…
ك مجدّاً بأنفس الأعلاقِ
فتمنيتُ أن تكوني بعيداً
…
والذي بيننا من الودِّ باقِ
ربّ هجرٍ يكون من خوف هجرٍ
…
وفراق يكون خوف فراقِ
وقال طلائع بن رزيك من وزراء الدولة الفاطمية من أبياتٍ:
الناس طوع يدي وأمري نافذ
…
فيهم وقلبي الآن طوع يديه
فاعجب السلطانٍ يعمّ بعدله
…
ويجور سلطان الغرام عليه
والله لولا اسم الفرار وإنه
…
مستقبح لفررتُ منه إليه
عبد الله مخلص
30 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل التاسع - اللغة والأدب والعلوم
يعتقد العرب بالخرافات اعتقاداً عظيما. ويعد عرب مصر أكثرهم تعلقاً بهذه الاعتقادات الباطلة. وأكثر هذه الخرافات اعتباراً الاعتقاد بالجن. ويقال أن الجن أصلهم سابق على آدم، وإنهم في خصائصهم العامة طبقة من الكائنات تتوسط بين الملائكة والأنس وتقل عنهما فضلاً. خلقت الجن من نار وتستطيع أن تتشكل بأشكال الأناس والبهائم والوحوش الخيالية وتختفي عن الأنظار كما تريد. والجن يشربون ويأكلون ويتناسلون مثل البشر أو معهم، كما أنهم عرضة للموت وإن كانوا يعيشون أجيالاً عديدة. ويسكن الجن سلسة جبال قاف التي يزعمون أنها تحيط بالأرض جميعها كما ذكر في الفصل السابق. ويعتنق بعض الجن الإسلام، والآخرون كفرة. ويسمى هؤلاء الكفرة أيضاً شياطين ويرأسهم إبليس، إذ أنه تبعاً للرأي السائد، جني مثل غيره من الشياطين لأنه خلق من نار بينما خُلق الملائكة من نور معصومين من الخطأ
ويخشى العرب الجن أخيارهم وأشرارهم كثيراُ. ويحفظون لأخيارهم احتراماً عظيماً. وقد جرت العادة عند هذا الشعب عندما يصب أحدهم ماء أو غيره على الأرض أن يصيح أو يدمدم (دستور) مستأذناً أو مستغفراً الجني الذي قد يوجد هناك. ويظن أن الجن ينتشرون في طبقة الأرض الصلبة مثلما ينتشرون في السماء حيث يقتربون من حدود السماء الأولى فيسترقون السمع عن المستقبل ويستطيعون هكذا أن يساعدوا العرافين والسحرة. ويعتقدون أيضاً أن الجن يسكنون الأنهار والخرائب والآبار والحمامات والأفران والمراحيض. ولذلك عندما يدخل أحد مرحاضاً أو يدلي دلواً في بئر أو يوقد ناراً الخ. . . يقول (دستور) أو
(دستور يا مباركين). ويتلو الداخل بيت الراحة هذه العبارة مبتهلاً إلى الله أن يحميه من الأرواح الشريرة. إلا أن البعض لا يذكرون اسم الله باعتبار أنه لا يليق به في مثل هذا المكان فيكتفون بقولهم: (أعوذ بك من الشياطين ذكوراً وإناثاً)، وتفسر هذه العادات إحدى قصص ألف ليلة وليلة التي يحكي فيها أن تاجراً قتل جنياً بنواة تمرة كان يأكلها. ويظهر الجني في القصة نفسها وفي غيرها قادماً في زوبعة من الرمل أو الغبار. والاعتقاد العام عند عرب مصر أن الزوبعة التي تثير الغبار أو الرمال، وتكسح الحقول والصحارى، يسببها تحليق هذه الكائنات ويفوه المصريون عادة عندما تبدو الزوبعة قريبة منهم بتعويذة لإبعادها فيهتف بعضهم:(حديد يا مشئوم) إذ يظنون أن الجن يخافون هذا المعدن كثيراً. ويصيح آخرون: (الله أكبر). ويعتقدون أن الشهب سهم يقذف به الله الشياطين، ويصيح المصريون عندما يرون شهاباً ساقطاً:(سهم الله في عدو الدين) ويسمي العامة الشياطين عفاريت، وقد وردت في القرآن ذلك بهذا النص:(قال عفريت من الجن) وقد ترجم اللفظ: (قال جن هائل)، ويعتقدون أن العفاريت يختلفون عن الجن الآخرين بعظيم قدرتهم ودوام شرهم، ويسمي الشيطان الأقوى ماردا
يرتبط تاريخ الجن بعدة أساطير لم يذكرها القرآن، ولذلك لا يؤمن بها المسلمون العقلاء. ويتفق الجميع على أن الجن خلقوا قبل الإنسان. إلا أن البعض يقولون لطبقة أخرى من الكائنات السابقة على آدم ذات طبيعة مشابهة. ويعتقد العامة أن الأرض كان يسكنها قبل آدم جنس من المخلوقات يختلف عن البشر شكلاً وقوة، وأن أربعين ملكاً من هؤلاء، أو اثنين وسبعين تبعاً لقول آخر، سمى كل منهم سليمان، حكموا هذا الشعب تباعاً. وكان أحد هؤلاء السليمانين يسمى جان بن جان. ويتوهم البعض أن الجن، ويسمون أيضاً جاناً، اشتقوا تسميتهم من اسم هذا الملك. ومن هنا يعتقد البعض أن الجن يشبهون هذا الجنس السابق ولكن البعض يؤكد أن الجن كانوا طبقة من الكائنات مختلفة أخضعها الجنس الآخر.
ويعتقدون أن الجن كثيراً أو دائماً يتشكلون بأشكال القطط والكلاب والحيوانات المفترسة. وقد روى الشيخ خليل المدابغي - وهو من أشهر علماء مصر، وقد ألّف كتباً عديدة في مختلف العلوم وتوفي في سن متقدمة أثناء زيارتي الأولى لمصر - الحكاية التالية: (كان له - كما يقول - قط أسود عزيز ينام عند ذيل كلّته. ففي منتصف إحدى الليالي سمع طرقاً
على باب داره؛ فقام القط وفتح مصراع الشباك وهتف: (من؟) فأجابه صوت: (أنا فلان (وذكر اسما غريباً) الجني، افتح الباب). فقال قط الشيخ:(إن المزلاج قرء عليه اسم الله) فقال الآخر: (إذن اقذف لي رغيفين من الخبز) فأجاب القط: (إن سلة الخبز سُمي عليها) فقال الغريب: (حسن. أعطني على الأقل جرعة ماء. ولكنه رد عليه بأن وعاء الماء محفوظ بالطريقة نفسها. فسأل ماذا يستطيع أن يفعل وهو يوشك على أن يموت جوعاً وعطشاُ. فأشار عليه القط أن يذهب إلى باب الدار التالية. وذهب هو بنفسه وفتح الباب ثم لم يلبث أن عاد. وفي الصباح التالي غفل الشيخ عن عادة كان يراعيها دائماً فأعطى القط نصف الفطيرة التي كان يفطر بها بدلاً من قطعة صغيرة اعتاد أن يعطيه إياها. ثم قال له: (يا قطي، أنت تعلم أنني فقير، فجئني إذن ببعض الذهب) فاختفى القط في الحال بعد هذا الكلام ولم يره الشيخ بعد ذلك). والحكايات من هذا النوع تستوجب السخرية، لكن من المستحيل أن نقف على حقيقة عقلية الشعب الذي أحاول وصفه دون أن أسرد حكاية أو أكثر
ويؤكد العامة أن أشرار الجن كثيراً ما يعتلون الأسطح والشبابيك ويقذفون بالقراميد والحجارة في الشوارع والأفنية. وقد أخبرت من أيام قليلة بحادثة من هذا النوع أفزعت سكان أهم شوارع في القاهرة أسبوعاً بأكمله، إذ كانت القراميد تقذف بكثرة من بعض المنازل كل يوم طوال هذه المدة، ولم يصب أحد. وقد ذهبت إلى مكان هذه الدعابة الجنية المزعومة للنظر والاستقصاء ولكن قيل لي عند وصولي إن الرجم انقطع. ولم أجد أحداً أنكر قذف القراميد أو شك في أنه من أعمال الجن. وكانت الملاحظة العامة عند ذكر هذا الموضوع قولهم:(الله يحفظنا من شر أعمالهم)
وقد أخبرني صديق بهذه المناسبة أنه قابل بعض إنجليز لا يعتقدون بوجود الجن. وقد استدل بذلك على أنهم لم يشاهدوا أبداً تمثيلاً عاماً، وإن كان منتشراً في بلدهم التي سمع عنها منذ ذلك الحين باسم (كوميديا) قاصداً بهذه العبارة التمثيل المسرحي؛ ثم قال بعد أن وجه الكلام إلى أحد مواطنيه، ودعاني لأصدق على حديثه:(منذ زمن قصير وصف لي جزائري منظراً من هذا النوع كان قد رآه في لندن)؛ فقاطعه مواطنه سائلاً: (أليست إنجلترا أم لندن مدينة في إنجلترا؟) أجابه صديقي بتحفظ وهو ينظر إلىّ أن لندن عاصمة
إنجلترا، ثم أوجز موضوع المسرح فقال:(لا يمكن وصف الدار التي عرض بها التمثيل: كانت الدار مستديرة صفت على أرضيتها مقاعد عديدة وحولها مقصورات كثيرة الواحدة تعلو الأخرى حيث جلس أفراد الطبقات العليا، وكان هناك فرجة مربعة كبيرة أسدل عليها ستار، وعندما غصت الدار بالمتفرجين الذين دفعوا مبالغ كبيرة للدخول أظلم المكان فجأة وكان الوقت ليلاً، وكانت الدار قد أضيئت بعدة مصابيح، إلا أنها أطفئت كلها تقريباً في وقت واحد دون أن يمسها أحد، ثم رفعت الستارة الكبيرة، فسمع المشاهدين هدير الموج وصفير الهواء، ورأوا دون تمييز في الظلام الأمواج ترتفع وتزيد وتضرب الشاطئ، وسمع في الحال صوت رعد مرعب، ثم أضاء البرق للمشاهدين البحر الهائج، وسقط حينئذ سيل من المطر الحقيقي، وبعد ذلك صفا الجو فظهر البحر بوضوح، وشوهدت باخرتان على بعد اقتربتا ثم اشتبكتا في قتال أطلقت فيها نيران المدافع، وعرضت بعد ذلك مجموعة مختلفة من المناظر الفريدة، وأضاف صديقي: (من الواضح الآن أن مثل هذه العجائب لابد أن تكون من أعمال الجن، أو على الأقل عملت بمساعدتهم)؛ وقد شرحت له هذه الظواهر، ولكني لم أستطع إقناعه بخطأه
ويقال إن الجن يسجنون أثناء شهر رمضان. ومن هنا نرى بعض المصريات يرششن في وقفة عيد الفطر ملحاً على أرض الغرف مبسملات لمنع هذه المفزعات من دخول منازلهن. ويجب أن أشير هنا إلى بقية عجيبة من خرافة مصرية قديمة إذ يعتقدون أن لكل حي من أحياء القاهرة حارساً خاصاً من الجن ذا شكل أفعى
ويعتقدون أن القبور المصرية القديمة والهياكل المظلمة تسكنها العفاريت. وقد استحال علي أن اقنع أحد خدمي بدخول الهرم الأكبر معي لرسوخ هذه الفكرة في ذهنه. وينسب الكثير من العرب بناء الأهرام والآثار المصرية المدهشة جميعها إلى جان بن جان وأتباعه الجن. فهم لا يتصورون أن تقيم هذه الآثار يد بشر
وتطلق عبارة عفريت بالحري على الشيطان، إلا أن أرواح الأموات تسمى أيضاً بهذا الاسم. وينسج من هذه حكايات لا يقبلها العقل كما أنها تلقي في النفوس رعباً هائلاً. إلا أن هناك من لا يخشاها إطلاقاً. وكان في خدمتي طاه مضحك يتعاطى الحشيش أحياناً. وقد سمعته ذات ليلة، بعيد دخوله خدمتي، يدمدم ويهتف على السلم كما لو كان دهشاً لحادثة ما.
ثم قال بأدب (ولكن لم تجلس في تيار الهواء؟ تفضل بالصعود إلى المطبخ وسلني بحديثك قليلاً). ولما لم يرد على خطابه المؤدب كرره عدة مرات حتى ناديت عليه وسألته إلى من يتحدث. فأجاب: (إنه عفريت جندي تركي صعد من البئر وجلس على السلم يدخن شبكه ويرفض أن يتحرك. تقدم من فضلك وانظر إليه). ولما ذهبت إلى السلم وأخبرته أنني لا أرى شيئاً لاحظ أن سبب ذلك صفاء العقل. وقد قيل له فيما بعد إن المنزل ظل مسكوناً طويلاً؛ وقد قرر أنه لم يُخبر قبلاً بهذا الموضوع المزعوم أن جنديًّا تركياً قتل هناك. وقد صرح لي أنه كثيراً ما يرى العفريت بعد ذلك
ويعتقد المصريون وبعض الشرقيين بوجود الغيلان أيضاً. ويحسبون أن هذه الكائنات طبقة من الشياطين. ويقال إنهم يظهرون في أشكال الحيوانات والوحوش وأنهم يسكنون المقابر وغيرها من الأماكن المنعزلة، وأنهم يأكلون الجثث ويقتلون من يوقعه سوء الحظ في طريقهم ويلتهمونه. ومن هنا تطلق عبارة الغول على آكلي لحوم البشر
(يتبع)
عدلي طاهر نور
فرحة الحياة!
للأديب عبد الرحمن الخميسي
أَنا حَيٌّ وَنَعيِمي بالحيَاهْ
…
فَرْحَةٌ تَغْمُرُ مِنْ قَلْبِي مَدَاهْ
أَجْتلَيِ فِي مَوْكِبِ الأيام مَا
…
يَبْهَرُ النَّفْسَ وَيَخْفَي مُنْتَهَاَه
وَأَرَى تِلْكَ الرُّمُوزَ انْغَلَقَتْ
…
في طَوَايَاهَا عَلَى رُوحِ الإله
وَأُغَنِّى مثْلَمَا غَنَّى عَلى
…
جَنَّةِ الْوَهْمِ هَزَارٌ لَا أَرَاه
أَنَا حَيٌّ! يَا نَعيِمي بِالحَيَاهْ!
بَيْنَ جَنْبَيَّ فُؤاَدٌ كُلَّماَ
…
نَفَخَ الإحْسَاسُ فِيهِ صَدَحَا
تُرْقِصُ الدُّنْيَا عَلَى أَنْغَامِهِ
…
كُلَّ مَا فِيهَا أَسًى أوْ فَرَحَا
وَهْوَ مرْآةٌ صَفَتْ كَمْ تَرْتَمِي
…
صُوَرُ الْكَوْنِ عَلَيْهَا مَرَحَا!
يَا أَنَاشِيدِي تَبَارَكْتِ وَيَا
…
بُورِكَ الْقَلْبُ إليهِْ قَدْ صَحَا
كُلُّ عِرْقٍ يَتَغَّنى بِاَلْحَياهْ!
إِنَّنِي الشُّعْلَةُ شَبَّتْ نَارُهَا
…
وَسَرَتْ أَنْفْاسُهَا بِاللَّهَبَِ
يَا هَنَائِي بِالّذِي يَأْكُلُنِي
…
مِنْ لَهِيِبي وَالّذِي يُحْرَقُ بِي
يَا لَهذَا الدِّفْءِ مِنْ سِرٍّ جَرَى
…
في كِيَانِي مِنْ وَرَاءِ اُلْحجُبِ
هُوَ لُغْزٌ خَاِلدٌ مُسْتَتِرٌ
…
أَزَلِيٌّ قُدُسِيُّ اْلأَرَبِ
أَتَشَهَّاهُ وَأَفْنَي فِي لظَاَهْ
هذِهِ الرُّوحُ التي تَسْكُنُنِي
…
قَبَسٌ مِنْ هَالَةٍ تَجْذِبُنِي
وَلَقَدْ دَارَ بِجِسْمِي نُورُهَا
…
بَاعِثاً فِيهِ حَيَاةَ الزَّمَنِ
يَا سُرُورِي بِالّذِي أَيْقَظَنِي
…
مِنْ سُبَاتِ اْلعَدَمِ الْمُرْتَهَنِ
وَانْتَشَي بِي وَاْنَتَشَي فِيهِ دَمِي
…
وَشُعُورِي وَالّذِي أَوْجَدَنِي
أَنَا حَيّ. . . غَنِّ لِي لَحْنَ اْلَحَياهْ!
إِنَّنِي الْبُرْعُمُ قَدْ دَاعَبَنِي
…
وَهَجُ الشَّمْسِ وَدَمْعُ السَّحَرِ
فَتَنَّفْسْتُ وَغَشَّتْ وَرَقِي
…
نَضْرَةٌ تَسْبِي فُنُونَ النَّظَرِ
يَا شَبَابِي شدَّ مَا أَنْتَ عَلَى
…
عُودِيَ اْلأخضَر عَذْبُ الصُّوَرِ
إِنَّنِي أَرْنُو إلى اْلأفْقِ وَفِي
…
طَلْعَتِي حَمْدٌ شَذِىُّ السُّوَرِ
لِلَّذِي أَوْرَثَنى هذِى الحَياهْ!
عبد الرحمن الخميسي
أين السلام؟.
. .
للأديب علي جليل الوردي
قالت وقد لاح عليها السَّقامْ:
…
الحربُ طالت أين عهدُ السَّلام؟
كنَّا به في عشيةٍ راضيهْ
…
نمرح في أُنْسٍ وفي عافيَهْ
الأرضُ من فرحَتِنا زاهيهْ
…
والطيرُ من نشوَتِنا شادِيهْ
تشدو أغاريدَ المنى والغرامْ
…
قد أخرستْها الحرب أين السلام؟
عهدٌ به طافتْ كؤوسُ الهنا
…
ما بين أيدينا، ورفَّ المنى
فعندليبُ السَّعدِ يشدو لَنا
…
ونحن نُبدي للدُّجى سرَّنا
فيا له عهداً كنفح الخزامْ
…
أودتْ به الحربُ فأين السلام
أين زمانُ الأملِ الباسمِ؟
…
أين خيالُ الشاعر الحالمِ؟
أينَ هدوءُ الطائرِ الناغمِ؟
…
وأين حُلْمُ العاشقِ الهائمِ؟
أوْدَى بها طرًّا لهيبُ الخصامْ
…
فأين أين الأمنُ؟ أين السَّلام؟
أينَ ابتساماتُ زهورِ الربيعْ؟
…
وناىُ راعٍ من وراء القطيعْ؟
وطفلةٍ غنَّت بلحْنٍ بديعْ
…
أهزاجَها، والقلبُ منها وديع
أخرسَها قَسْراً لهيبُ الخصامْ!
…
فأين أين الأمنُ؟ أين السَّلام؟
قلتُ وقلبي بالأسى مُفْعَمُ
…
ونارُ حُزنٍ في الحشا تضرِمُ
وعبرةٌ من مقلتي تسجُمُ
…
أكتمها عنها فلا تُكْتَمُ!
لا تيأَسي فاليأْسُ موتٌ زؤام
…
لابدَّ من يومٍ يعودُ السلامْ
(الكاظمية - بغداد)
على جليل الوردي
البَريدُ الأدبيّ
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
صديقي العزيز!
قرأت لك في (الرسالة) منذ أسابيع كلمةً صغيرة تذكُر فيها أن في مصر كاتباً قال في سياق حديثه: إنه صديقك، وأنك تنكر أن يشرّف الناس أنفسهم بالانتساب إليك. . . ولم يخطر في البال أنى مقصودٌ بتلك الغمزة، لأني أعرف أن منزلتي في نفسك لا تبيح لك أن تقع في مثل هذا الخطأ
ولكنّ ناساً حدثوني أنك تريدني بتلك الكلمة الصغيرة، وقد أردت أن أستوثق من نيتك، فجشّمت نفسي مقابلتك لأعرف رأيك قبل أن أردّ عليك، فكان جوابك أن تلك الغمزة موجَّهة إلى (فلان)، وأن أدبك لا يسمح بأن تُعرَّض بكتابٍ له مثل مكانتي في نفسك وفي (الرسالة) الصديق
فهل أجد عندك من الشجاعة ما تَقْوى به على التصريح باسم ذلك (الفلان)؟
لا تَخف، يا صديقي العزيز، فإن (الفلان) الذي حدثتني انك تعنيه، لا يملك غير قلمه، والقلم في هذا الزمان يضر أكثر مما ينفع، وهل آذاني غير قلمي؟
أَوضِحْ، أَوضِح، فإن لم تفعل فسأنوب عنك في الإيضاح صَنَع الزمن ما صنع، واستطال الدهر ما استطال، فمن يعزِّيني وقد استباح بعض الناس أن يكتب كلمةً تُوهم أنه أكبر من أن يكون صديقي؟!
زكي مبارك
إنشاء مكتب للتعاون الثقافي بين مصر والعراق
تنوي وزارة المعارف إنشاء مكتب لتنظيم التعاون الثقافي بين مصر والعراق والإشراف على ما يقتضي هذا التعاون، على أن يضم هذا المكتب أعضاء يمثلون البلدان وتكون له اجتماعات منظمة في القاهرة وبغداد
ويجوز لمن شاء من البلاد العربية أن ينضم إلى هذا المكتب بموافقة الحكومتين المصرية والعراقية
إنشاء متحف الحضارة المصرية
كان صاحب الجلالة الملك قد أبدى رغبته السامية في أن ينشأ متحف للحضارة المصرية يضم إليه كل ما يتصل بالعصور المختلفة ابتداء من عصر ما قبل التاريخ إلى العصر الحديث فألفت لجنة من رجال الجمعية الزراعية الملكية ووكلاء بعض الوزارات ومديري المتاحف المصرية المختلفة
وكان أول ما بدأت به اللجنة أعمالها أن طلبت إلى الهيئات المختلفة موافاتها عن طريق الإهداء أو الإعارة بالنماذج التي تمثل العصور المختلفة للحضارة المصرية التي رؤى أن يضمها هذا المتحف، وهي تمثل العصر الحجري القديم والحديث، ومصر القديمة، وحياة المصريين في مختلف الهيئات والحياة الاجتماعية والفنية لمصر القديمة والعصور اليوناني والروماني والقبطي ومصر من الفتح العربي إلى الفتح العثماني والدول الطولونية والفاطمية والأيوبية، والمماليك وعصر الأمراء المماليك من الفتح العثماني إلى الحملة الفرنسية والنهضة المصرية الحديثة من عهد المغفور له محمد علي باشا إلى الآن والسودان المصري
وقد تعددت اجتماعات اللجنة للبحث في مختلف ما يتصل بإنشاء هذا المتحف، وكان ما قررته إقامة نموذج لحوض نهر النيل عن الجزء الذي يتفرع منه الفرعان عن ابتداء الدلتا على أن يكون طوله 14 متراً، لتكوين فكرة عامة عن التكوين الطبيعي لحوض النيل في العصور الجيولوجية ونوع النباتات التي عاشت في مصر في تلك العصور، وإقامة نموذج لإنسان ما قبل التاريخ، والتطورات المختلفة التي حدثت في تركيب جسمه في العصور المتطاولة وتناولت اللجنة بالبحث في اجتماعها طائفة من الشئون المتصلة بكل عصر فرأت أن تؤلف لجانا فرعية تضع كل منها مشروعاً عن كل عصر من العصور المختلفة ابتداء من عصر ما قبل التاريخ إلى العصر الحديث على أن تعرض جميع هذه المشروعات على اللجنة العامة لإقرارها والبدء في تنفيذها
في ديوان ولي الدين يكن
نشر الأستاذ كامل يوسف (بالعدد 457 من الرسالة) أربع مقطوعات شعرية للمرحوم ولي
الدين يكن، مهد لها بقوله إنها مخطوطات للفقيد آلت إليه، ولم تنشر في ديوانه. ولكني أنبه هنا إلى أن هذه المقطوعات نُشرت جميعها بديوان ولي الدين الذي أصدرته مطبعة المقتطف عام 924م؛ ولا أعرف للشاعر ديواناً آخر غير هذا
فحَّبذا لو اقتنى الأستاذ نسخة من ديوان الشاعر الكبير الذي تربطه بأسرته (أواصر المودة والصداقة) كما يقول؛ ثم عرض عليها ما لديه من مخطوط؛ حتى تستبين له حقيقة القطع التي لم تنشر فيتفضل بنشرها. وأن كنا نشكَّ في إمكان حصوله على ما يستوجب النشر؛ لأن جامع الديوان هو أخو الشاعر - ولعله شقيقه - الأديب يوسف حمدي يكن. وهو قد استفرغ جهدَه في إثبات كل ما أمكنه العثور عليه من شعر أخيه، بين مخطوط ومطبوع ومحفوظ، كما يشير إلى هذا في مقدمته، التي أعقبها تحليلٌ دقيق وعرض شامل لحياة الشاعر وخصائص شعره بقلم الأستاذ الكبير أنطوان الجمِّيل بك؛ وكان الأخير من أصفياء ولي الدين وصفوة أصدقائه وخُلْصانه.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
حول (ابن الرومي)
سيدي الأستاذ العقاد
قرأت معجباً ما خطه يراعك الكريم عن شعر ابن الرومي، فنال مني الدهشُ لتعصّيك لهذا الشاعر، ولعل هذا راجع إلى أن الأستاذ قد صاحب (ابن الرومي) أكثر مما كان ينبغي لمصاحبته. لهذا كان طبيعّياً أن يخلع عليه أستاذنا الجليل لقب (شاعر العالم) غير منازع؛ وأن يقول: إن شعره ليس فيه مغمز لغامز، وإن إحساسه مرهفٌ غاية الإحساس، وتصويره آية في الإبداع
فما رأي سيدي الأستاذ في بيتين مشهورين لابن الرومي قالهما في روض سقته السُّحب أو أرضعته فأنبتت ألفي رضيع من بني النضر حيث قال:
سقتْه ثُديّ السُّحْب من مُرْضعاتها
…
أفانينَ مما لم تُقَطِّرْهُ مُرْضعُ!
كألْفَيْ رضيعٍ من (بني النَّضْرِ) ضُمِّنُوا
…
مَحَاسن هذا الكون، والكونُ أجمعُ. . .
فأي تصوير هذا يا أستاذنا العزيز؟ وأي استيعاب فني فيه قد أحس به الشاعر عندما خالجه هذا المعنى؟
إلا ترى معي أن من شعراء العبقرية المخَّلدين في بطون الكتب وسجلّ الأزمان من أسفَّ أحياناً وسجل له تاريخ الأدب ذلك؟. . . هذا ما أردت أن أذكر به الأستاذ واضعاً بين يديه هذين البيتين إجابتاً لرغبته التي رغب فيها إلى القراء أن يذكروه بما شاءوا من شعره ليدلهم على موضع الحسن فيه؛ فرجاوتي أن ينجز الأستاذ ما وعد، وأن يبين لنا موضع التصوير الفني في هذين البيتين، مشكوراً من الشعر والأدب
ابن درويش
اكتشاف مصل لإطالة الحياة ومعالجة الجروح
من أبناء موسكو الأخيرة أن العالم الروسي بوجود مولتز، الذي يقول بأن مدى عمر الإنسان العادي يجب أن يكون 150 سنة، اخترع مصلاً يتصل بنظريته في إطالة الحياة، وهو الآن يستخدم في معالجة الجرحى الذين ينقلون من الميدان الروسي، وقد أسفر استخدامه عن نجاح
والمعروف أن لهذا المصل أثراً في الخلايا الحية وكان قد صنع في الأصل لمعالجة الشيخوخة الباكرة والاضمحلال الذي يعاجل الأجسام البشرية، ولكن ظهر أنه يدمل الجروح ويرأب الكسور في العظام، وهو الآن لا يستخدم إلا في المستشفيات العسكرية حيث ظهر أثره البالغ في معالجة الجروح والكسور التي تحدثها شظايا القنابل والقذائف
الاستخلاص بمعنى الاستخراج
يقول الأستاذ داغر في كتابه (تذكرة الكاتب): يقولون (الكتب التي اعتمد عليها المؤلف في
(استخلاص) تاريخ ذلك العهد) والصوابْ تخليص أو تلخيص
وجاء في (أساس البلاغة) للعلامة الزمخشري: (والزبد خلاص اللبن، أي منه يستخلص بمعنى يستخرج). فهو إذن استعمال صحيح لا غبار عليه
أنتم أعلم بأمر دنياكم
ساق الأستاذ القباني (في العدد 452 من الرسالة) هذا الحديث بصيغة (أنتم أعلم بأمور
دنياكم) وعزاه إلى الصحيح مسلم، ولهذا الحديث ثلاث صيغ في صحيح مسلم، ليس منها هذه الصيغة، بل منها صيغة (أنتم أعلم بأمر دنياكم) وهذه الإضافة للعهد، يعني أن هذا الأمر الذي هو تأبل النخل أنتم أعلم به، وليس هناك صيغة تفيد النهي عن التأبير، فلا يخل هذا الخبر بعموم قوله تعالى:(فليحذر الذين يخالفون عن أمر. . .) والأمر هنا مصدر مضاف يفيد العموم بخلافه في الحديث فإنه بمعنى الشأن، والمراد بالشأن، الشأن المعهود وهو تأبير النخل. وقوله تعالى:(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، نص على أن قوله صلى الله عليه وسلم:(البات وحي منزل) على أن الأحاديث التي رواها مسلم تختلف بمن في أسانيدها من الرجال اختلافاً يوجب النظر الدقيق في درجاتها.
محمد أبو البهاء
الطلبة الغرباء في مصر
أيها المصريون!
في مصر - ومصر في إكرام الضيف البلد الكريم - طائفة من طلاب العلم وفدوا من جاوة وسومطرة وجارات لهما إلى كعبة الشرق الأزهر الشريف، فمنعت الحرب في الشرق الأقصى عنهم رفد أهلهم وهم أبناء الأسر الكريمة ولهم بين الطلاب وعند أساتذتهم مقام محمود، فأصبحوا من الفقراء الذين احصروا في سبيل الله، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً
وإنا نهيب بذوي الغير أن يتفضلوا بمنع ذُلِّ السؤال عنهم ويسارعوا إلى خير هؤلاء. وعند الله أجر المحسنين
وقسم الوعظ والإرشاد بالأزهر الشريف - وهو على بينة من ندى أهل وطنه وحميتهم - لا يطيل القول إيماناً منه بدافع الغيرة في نفوس المصريين، وثقة في أن للبر والمعروف بمصر نفوساً تتنافس في الخير فلا يحس النزيل بينهم إلا أنه بين أهله وعشيرته. ولا غرو فالإسلام رحم بين أهله. وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله
وإنا لنذكر بوافر الحمد لسعادة صالح عنان باشا همته التي افتتح بها هذا الاكتتاب الخير
ونشكر للمقطم الغراء أن أذاعت دعوته وأيدته وحولت مبلغ تبرعه في هذا السبيل، وقدره
عشرة جنيهات إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، والدال على الخير كفاعله
فإلى الخير الذي أنتم أهله، ومن أحق الناس به، نوجه إليكم هذا النداء وما تفعلوا من خيرٍ فلن تكفروه.
محمد أحمد العدوي
المفتش العام للوعظ والإرشاد
القَصَصُ
النحلة وعروس النيل
قصة من القصص الشعبي لسكان جزيرة (بورنيو)
نقلها عن الإنكليزية
الأستاذ إبراهيم عبد الحميد زكي
أحست مرة نحلة صغيرة جميلة أنها قد جاوزت سن الطفولة وبلغت من القوة حدّاً يسمح لها بالطيران وحدها لتجمع رحيق الأزهار وتصنع منه الشهد. فلما حلقت بالجو حمل إليها الريح أريج زهرة حمراء من عرائس النيل كانت نامية على جوانب الغدير، فاتجهت إليها وكادت تسقط عليها لتمتص ما فيها من حلو الرحيق، ولكن (عروس النيل) أبت عليها ذلك وصاحت بها تقول:(لا! أيتها النحلة، لقد أتيت هنا تريدين أن تشقي لك طريقاً بين أوراقي في عنف وقوة كما هو شأن أبناء جلدتك، وإنك لترغبين أن تمتصي رحيقي بغير مقابل. . . ولكن، لا. . . اعلمي إن كنت لا تعلمين أن عليك قبل ذلك أن تدفعي ثمن ما تطلبين). . . فصعدت النحلة في الهواء قليلاً، وحامت حول الزهرة مرات كثيرة، وعلى أزيز جناحيها علواً كبيراً ثم قالت: وما هذا الذي تطلبين (يا عروس النيل)؟ ألا يكفيك ما أنت فيه من نعيم: فها هو الماء العذب يجري حواليك، وهاهو النسيم العاطر يهب منك واليك. . .؟)؛ فجابت الزهرة:(ما أشد غباءك، وما أضيق ذهنك، أيتها النحلة الحمقاء؟ إن هناك شيئاً ينقصني ولا جدال، فارحلي عني وابحثي عنه، فإذا اهتديت إليه وعثرت عليه، فعودي إليّ. . .)؛ فتملك النحلة الغضب، وعلا أزيز جناحيها مرة أخرى، ثم انصرفت تبحث عما تريد منها (عروس النيل)
وبينما هي تطير حائرة مشغولة الفكر لمحت حشرة واقفة إلى جذع شجرة تقرضه، فأسرعت إليها وقالت لها:(أواه أيتها الحشرة! ألا نبأتني بما تريد مني عروس النيل؟)؛ ولكن الحشرة كانت لاهية في نفسها معنية بأمرها فأجابتها: (اذهبي عني. . . ماذا يعنيني من أمرك وأمر عروس النيل؟ ليس لديَّ من الوقت متسع لكما. . . ابحثي عن غيري!)؛ فصعدت النحلة ثانية إلى الجو، وعلا أزيز جناحيها من جديد، ولكنها رأت عنكبوتاً ينسج
خيوط بيته في ركن تضيئه الشمس بنورها الساطع، فوقفت النحلة إلى جانبه وألقت عليه سؤالها؛ فقال لها العنكبوت:(إنها تريد ذبابة)؛ فأدركت النحلة أنه من أولئك القوم الذين يحسبون أمنياتهم صورة من أمنيات الآخرين، فولت وجهها شطر ناحية أخرى، وراحت تبحث عما تريد منها عروس النيل. . .
ورأيت فوقها سحابة فهرعت إليها وصاحت بها: (أتوسل إليك أيتها السحابة أن تخبريني ماذا اقدم لها؟) فأجابت السحابة (قطرات المطر) فسرت النحلة سروراً عظيما وعادت إلى عروس النيل على جناح الريح وقدمت إليها قطرة من الماء تفوق في حسنها حبة اللؤلؤ، ولكن الزهرة تمايلت على غصنها وقالت:(لا، إن الماء عندي كثير وقطرات الندى تساقط عليّ كل صباح) فنشرت النحلة مرة أخرى جناحيها وعادت للبحث والتنقيب. ورأت أشعة الشمس تداعب أوراق العشب فسألتها فقالت: (إنها تريد الدفء) فالتقطت النحلة إحدى الحباحب ثم عادت إلى الزهرة وقدمتها إليها ولكنها أبت أن تأخذها وقالت: (إن لي في ضوء الشمس الدفء كله. عودي ثانية للبحث)
وشاهدت النحلة بومة فسألتها فقالت لها (إنها تريد النوم فاذهبي إليها وروحي لها بجناحيك حتى تنام). ولكن الزهرة قالت: (وماذا أفعل بالنوم. إن النوم يأتيني كل ليلة فلا حاجة لي به منك) عندئذ كاد اليأس يتملك فواد النحلة فصاحت بصوت عال: (ترى ماذا تريد مني هذه الزهرة المتقلبة الأهواء؟)
وشاء القدر أن يسمع هذه النصيحة العالية راهب عجوز يقطن كوخاً في الغاب فنادى النحلة وقال لها: (ما اشد غباءك أيتها النحلة! أتريدين أن تعلمي ماذا تريد منك عروس النيل؟ إنه هذا) ثم طبع على جناحيها قبلة من أعذب القبلات
فاغتبطت النحلة لذلك كل الاغتباط وطارت بأقصها سرعتها نحو الزهرة وقبلتها في خفة ودلال. وعندئذ أحست الزهرة بالسعادة والهناء، وتفتحت أوراقها واستسلمت للنحلة لتمتص منها ما تشاء من الرحيق
هذه هي قصة النحلة وعروس النيل. . . والقبلة
(الإسكندرية)
إبراهيم عبد الحميد زكي