المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 459 - بتاريخ: 20 - 04 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٥٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 459

- بتاريخ: 20 - 04 - 1942

ص: -1

‌ومن هو ليوباردي؟

للأستاذ عباس محمود العقاد

نعم، ومن هو ليوباردي؟

سؤال كنت أنتظره من كثيرين بعد مقالي السابق عن الشعراء الذين (لهم عالم) من الأوربيين والعرب. وقد سألنيه أكثر من واحد وحق لهم أن يسألوا؛ لأن ليوباردي ضعيف الشهرة من البلاد الشرقية ويوشك أن ينساه القراء الأوربيون على ارتفاع شأنه بين النقاد والمعجبين بالأدب الفحل والأساليب الرصينة والنزعات (الإغريقية) الصادقة في غير اصطناع ولا محاكاة

قلت في مقالي السابق: (إن أبا تمام يجيد في هذا المعنى ويجيد في ذاك، ولكنه لا يعرض لك العالم كله في حالة من حالاته، ولا يخرج لك نسخة عالمية تقرنها إلى النسخ الأخرى التي تستمدها من أمثال ابن الرومي والمتنبي والمعري في الشعر العربي، وأمثال شكسبير وجيتي وليوباردي في الآداب الأوربية) فمن هو ليوباردي هذا؟

هو بالإيجاز ثالث الثالوث الأكبر الذي اشتهر بالتشاؤم في أوائل القرن التاسع عشر: وهم بيرون الشاعر الإنجليزي، وشوبنهور الفيلسوف الألماني، وليوباردي الشاعر الفيلسوف الإيطالي الذي كان أصدق الثلاثة تشاؤماً وأحقهم جميعاً بالتشاؤم، والذي شاء القدر - الرحيم - أن يفارق الدنيا كما فارقها زميله بيرون قبل الأربعين، ولم يشأ له أن يعمر فيها كما عمر الفيلسوف الألماني إلى ما بعد الثمانين

ولد في عصر التشاؤم لأنه عصر الانتزاع من الماضي والشك في الحاضر والتهيب من المستقبل، وابتلى بكل سبب من أسباب التشاؤم ينغص لذة العيش ويرنق صفو الحياة، فاجتمعت عليه عراقة النسب مع الفاقة، واصطلحت عليه الأسقام وضآلة البنية، ودقة الحس، وفرط الذكاء، وخيبة الحب في مقتبل الشباب، وسآمة البيئة الريفية التي نشأ بينها واضطر إلى البقاء فيها، وأدركه الموت وهو أصم ونصف أعمى ومريض حرض منذ سنين

ومع هذا أي فحولة في الذهن، وأي مضاء في البديهة، وأي أمانة للأدب، وأي صدق في التعبير؟

ص: 1

لكأنما كانت ملكاته الأدبية عوضاً معادلاً لمصائبه الجسدية، وكأنما خلق بنصيب عشرين في الذكاء وفي البلاء على حد سواء

تعلم في صباه ست لغات بغير معلم، وهي الإغريقية والعبرية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والأسبانية، فضلاً عن اللاتينية!

والتهم مأثورات الإغريق واللاتين جميعاً وأشربها إشراباً حتى أصبح وكأنه واحداً من أدباء يونان الأقدمين

ولما ضعف بصره طفق يشكو في رسائله إلى أصدقائه ويقول: لا أقرأ اليوم إلا ست ساعات في النهار!

وفجع المسكين حتى في هذا فنهى عن القراءة وعن الإصغاء!

ووجب عليه أن ينفق أيامه في قرية لا يشغله فيها شاغل غير التفكير الذي يحرق رأسه وجسده ويضنيه ولا يريحه. ثم ذهب إلى روما وهو مطبوع على الجد ومعاشرة العقول الكبيرة فضاق بها ذرعاً واحتواها أشد احتواء، وعاب على أهلها أنهم قوم هازلون لا يقرنهم بأهل قريته الذين يعرفون الجد وإن كانوا جهلاء لا يعرفون

صورته التي صور الدنيا عليها أشبه شيء بالرسم المظلل الذي لا لون فيه غير السواد، ولكنها مع سواد لونها صادقة في كل شيء ما عدا التلوين: صادقة في خطوطها ومسافاتها وأشباهها وكل لمحة من ملامحها، ولا خداع في نقل شيء منها على الإطلاق لتسويغ رأى أو لمجاراة عقيدة. فهي الأمانة التي لا أمانة بعدها في الشعور وفي الأداء، وهي الفحولة التي تعلو به فوق مصائبه وأشجانه وبلاياه، كأنه لا يتشاءم لأنه محروم من رجاء، بل لأنه يرثي للدنيا وما فيها من رجاء

لهذا العقل المتوهج عذره إذ رأى الحياة شراً ورأى أن الموت ختام لمأساة الحياة لا شر فيه. أو كما قال: (إن الموت ليس بشر لأنه ينجو بنا من جميع الشرور. وإذا أخذ من الإنسان شيئاً حسناً فهو كذلك يأخذ منه الرغبة فيه. إنما الشر الأكبر هو الشيخوخة التي تحرمه كل سرور وتبقي له اشتهاء ما حرمته، ووصب الداء العياء؛ ومع هذا يفرق الناس من الموت ويتوقون إلى الشيخوخة!)

ولهذا القلب البائس عذره إذ رأى كل حسن في الدنيا قريناً للموت زميلاً للفناء. وأي شيء

ص: 2

أبعد عن هذه المزاملة من (الموضة) أو (الجديلة) التي يلهج بها الحسان وغير الحسان؟ أي شيء فيه من مخالفة الموت ما في دكاكين الزينة التي تتجدد فصلاً بعد فصل وموسماً بعد موسم؟

لكن ليوباردي يعقد المحاورة بين المنية والجديلة فإذا هما شقيقتان وزميلتان. لأن الجديلة كالمنية موكلة بالقضاء على كل موجود وتقبيح كل حسن بعد استحسانه، وتغيير كل عادة ألفتها الأبصار والأسماع، وهي في سلطانها نافذة لا هوادة في أمرها، ولا مناقشة لأحكامها، ولا حيلة معها غير الخضوع والتسليم

تنادي الجديلة أختها: يا منية! يا منية! فلا تلتفت إليها المنية ثم تعيد النداء فتجيبها متبرمة معرضة: إليك عني. إني آتية إليك لا محاولة، ولكن حين لا تريدينني ولا تهتفين باسمي. فتفهمها الجديلة أنها أخت شقيقة وليست (بعميلة) أو داعية أو فريسة

وتتفاهم الأختان بعد حوار كأمتع ما يكون الحوار، ثم تتداعيان إلى السباق وكسب الجائزة في مضمار الهدم والتبديل. فتقول المنية لأختها: ساعديني!

وتقول الجديلة لأختها: لقد ساعدتك حتى الآن أكبر مساعدة في مقدوري، وتركت عادة الموت بغير تبديل، وقد غيرت فيما عداها جميع العادات!

وتشفق الأخت الكبيرة أن يجيء اليوم الذي تبطل فيه هذه العادة كما بطلت عادات

فلا تدعها أختها الصغيرة على إشفاقها وحذرها، بل تجلب الطمأنينة إلى ضلوعها التي لا قلب فيها، وتشرح لها كيف تساعدها في بإرهاق الأبدان وتسميم العقول وتعويد الجوارح ما يضني ويسقم ويسلب الغبطة بالحياة. بل تقول لها إنها جعلت من (الموضة) في العصر الحديث أن يعيش الناس لحاضرهم ولا يحفلوا بعد موتهم بالذكر الحسن والخلود المجيد، وقد كان كلاهما حظاً مسلوباً من المنية وقسما تستبقيه الحياة بعد الفناء. فإذا خسرت الحياة هذا القسم النفيس فذلك كسب عظيم للمنية، وتلك هي الهدية التي تبذلها الأخت الصغيرة البرة للأخت الكبيرة التي لا تحفظ الجميل. وعلى ذلك تتفق الأختان

وللشاعر المتشائم محاورات كثيرة على هذا النحو الطريف، يعجب القارئ للعبقرية التي صبغتها بصبغة الفن الجميل وهي غارقة في الحزن والألم والسآمة، وخلقت منها للعقول متعة باقية وهي تنعى على كل متعة وكل بقاء

ص: 3

ولقد كانت قراءة ليوباردي وزميليه في مقدمة القراءات المحبوبة عندي إلى ما قبل الثلاثين. ثم بقيت لها قيمتها الفنية الأدبية وبطل الولع بها والاشتياق إليها. فهي اليوم عندي في مقام التقدير والذكرى، وليست في مقام الاصطفاء والمفاجأة لم هذا؟

لسبب يخيل إلى بعض الناس أنه مناقض للمعقول والمنظور، وهو أن الشباب أميل إلى التشاؤم من الكهولة والشيخوخة، وأقرب إلى الطعن في محاسن الحياة والجهل بتلك المحاسن وهي بين يديه

ولا مناقضة للمعقول في هذا بل المناقض للمعقول أن يكون الأمر على خلاف هذا

فالشاب يخرج من بيته إلى معترك الحياة فيصطدم بالشدائد التي لم يعرفها بين الأب والأم والإخوان والأقربين، ويرى أخلاقاً غير ما عهد وألف وانتظر: يرى أناساً ينزعون ما في يده وقد كان يرى أناساً يعطونه ما في أيديهم، ويعلم أن نجاحه يغيظ قوماً يعاشرهم ويعاشرونه وقد كان يعلم أن نجاحه فرحة القلوب وقرة العيون، ويرجو كثيراً ولا يظفر بغير القليل. والمرء إذا انتظر مائة ووصل إلى عشرين ناقم ساخط متبرم، ولكنه إذا انتظر خمسة ووصل إلى عشرة يشكر ويرضى ويستريح

هذا سبب من أسباب الشكاية والتشاؤم في الشباب يزول أو يضعف كلما تقدمت به السن وجاوز أيام الدلال على الحياة

وسبب آخر أن الشباب يلتهم ما يتناوله فلا يفرق بين الطعام الفاخر والطعام المزهود فيه، كالمعدة القوية التي تستخرج الغذاء من كل الطعام، أو كالمعدة الجائعة يتساوى لديها الخبز القفار والمائدة المنتقاة

فهو يظفر بالمتعة ولا يدرى ما هي المتعة ولا يقيس الفارق بينها وبين غيرها بمقياس صحيح

وهذا سبب من أسباب الشكاية يضاف إلى ما تقدم فيغري بالتشاؤم في أوائل الحياة

وسبب غير هذا وذاك أن طول العشرة داع من دواعي الألفة والمودة وإن تباينت المشارب في أول اتصال. فإذا كانت الحياة قرينة ناشزة والشاب قريناً غضوباً في بداية الزواج فقد تطول العشرة فيقل النشوز ويقل الغضب، ويأخذ كل من الزوجين صاحبه على علاته، ويصل بالإرضاء والإغضاء إلى تسويغ الكريه وقبول المرفوض واستكثار القليل

ص: 4

وسبب غير أولئك جميعاً أن تقديرك الشيء وأنت تحس أنك فاقده عما قريب غير تقديرك إياه وهو في قبضة يديك غير مهدد بضياع.

فإذا اجتمعت هذه الأسباب لم يكن عجيباً أن يقل تشاؤم الشيخوخة ويكثر تشاؤم الشباب

ولهذا جنحت إلى ثالوث التشاؤم كله فيما دون الثلاثين، وأحببت ذكراهم الآن كما يحب الإنسان ذكرى شبابه الباكر، وإن يرى بعد غير ما كان يراه

تلك لمحة إلى ليوباردي

بل تلك إشارة إلى صورة العالم الحافل المرسوم بالظلال والظلمات بريشة ذلك العبقري المحروم، الذي لم يحرم الدنيا كما حرمته، متعة لب ونفثة سلوى ورحمة غراء

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الصوفية

للدكتور عبد الوهاب عزام

سألني الأديب إبراهيم العجلان رأي فيما يثور من الجدال حول الصوفية وعن فتوى الطرطوشي التي نشرت في الرسالة وفيها (مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلال، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه السامري كما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حوله ويتواجدون) الخ

وهذا جوابي للسائل الفاضل:

- 1 -

كان في المسلمين منذ شاعت هداية الإسلام عبّاد زهاد لا يتميزون بلباس أو شارة، ولا يفارقون الجماعة في قول أو فعل؛ ثم امتاز منذ أواخر القرن الثاني جماعة من الزهاد باسم الصوفية وحدثت لهم سنن وآداب ميزتهم عن جمهور الأمة، ونشأت بينهم أقوال وأفعال لم تكن معروفة بين المسلمين. ثم نبغ لهم إمام بعد آخر كان لأقوالهم وأفعالهم آثار واضحة في اتجاه الطريقة وحدودها

كان التصوف أول الأمر زهداً، ثم صار معرفة وحباً، ثم صار فناء وخطت سبل لتربية السالكين فصار التصوف طريقة، ونشأت فيه أساليب من النظر واختلط به آراء من الفلسفة فصار له فلسفة أو ما يشبه الفلسفة

وإذا أردت أن تتبع تطور التصوف في تاريخ الرجال فانظر في سير أمثال الحسن البصري وسفيان الثوري ثم أمثال شفيق البخلي وإبراهيم بن أدهم والسري السقطي ومعروف الكرخي، ثم أمثال الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي ثم الحلاج والسهروردي المقتول وابن العربي

وليس التصوف مذهباً واضح الحدود بيّن المعالم يجمع كل من دخل فيه على آراء متفقة، وأعمال متشابهة، بل فيه آراء مختلفة وأقوال متباينة، وسير شتى. فيه تصوف الخاصة والعامة وطريقة المقتصدين والغلاة وأقوال الصالحين والسكارى

- 2 -

ص: 6

وقد ظهر في التصوف منذ امتازت معالمه ووضحت رسومه أهل الصحو وأهل السكر؛ الأولون يضبطون أنفسهم ويؤلفون بين أقوالهم وأعمالهم وبين الشريعة، والآخرون يرمون حين يغلبهم الوجد بالكلام المغلق المبهم أو القول لا يوافق الحدود التي حدتها الشريعة للعقائد والأعمال

وأرى أن أوضح مثل لهذين الضربين: الجنيد البغدادي وأبو يزيد البسطامي. كان جنيد وقوراً رزيناً لا يغلبه الوجد على نفسه؛ وأبو يزيد - كالشبلي البغدادي - يرمي بالكلمة بعد الكلمة ينكرها الناس ويضجون منها أو يعجبون لها ويتحيرون، فيجتهد الجنيد في تفسيرها وتأويلها. وفي كتاب اللمع لأبي نصر السراج أمثلة من هذا

وممن التزموا المحجة الواضحة كالجنيد جماعة ألّفوا في التصوف وبينوا حدوده وملاءمته للشرع، مثل أبي القسم القشيري صاحب الرسالة، والسراج صاحب اللمع، وأبي طالب المكي صاحب قوت القلوب، والغزالي

- 3 -

والخلاف بين العلماء أهل الظاهر، والصوفية أهل الباطن، قديم مديد نشأ منذ صار التصوف طريقة واستمر إلى يومنا

وحسبك أن تقرأ ما كتب ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس): (العلماء يرمون الصوفية بالخروج على الدين، والصوفية يرمون العلماء بالوقوف على الصور والأشكال، ويرون أن علمهم لا يغني في سبيل الله فتيلاً). وكم سخر الصوفية من أهل الظاهر ووصفوهم بالغلظة والجفاء والقصور عن إدراك البواطن وتذوق المواجد. وليس يتسع المقام لبيان هذا

وقد وجد العلماء في سير بعض الصوفية ما يقوّي حجتهم ويصدق دعواهم. وقد تسمى باسم الصوفية أفراد وطوائف جعلوا التصوف وسيلة إلى مآربهم وشهواتهم؛ كما قال المعري:

لو كنتم أهل صفو قال ناسبكم

صفويةٌ فأتى باللفظ ما قلُبا

جند لإبليس في بدليس آونة

وتارة يحلبون العيش في حلبا

والشكوى من الصوفية قديمة نجدها في الرسالة القشيري المتوفى سنة 465. ويقول في مقدمة الرسالة: (ثم اعلموا حكم الله أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق

ص: 7

في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم، كما قيل:

أما الخيام فإنها كخيامهم

وأرى نساء الحي غير نسائها

وحصلت الفترة في هذه الطريقة، لا بل اندرست الطريقة بالحقيقة. مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقلّ الشبان الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء. وزال الورع وطوى بساطه، واشتد الطمع وقوى رباطه، وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان

ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحدروا عن رق الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم قائمون بالحق تجري عليهم أحكامه وهم مُحْو، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يؤدونه عتب ولا لوم، وأنهم كوشِفوا بأسرار الأحدية، واختُطِفوا عنهم بالكليّة، وزالت عنهم أحكام البشرية، وبقوا بعد غنائهم عنهم بأنوار الصمدية. الخ)

وقد حدثت بعد القشيري أحداث. ونجمت مذاهب ضج الناس منها، وضيع كثير من حقائق الطريقة وحفظت صورها، وخف على العامة وأشباههم أن يراءوا بأقوالهم الغريبة وأفعالهم العجيبة، إذ قصروا عن إدراك الدقائق؛ وعجزوا عن معرفة الحقائق

وفي الصوفية اليوم أهل الورع الصادقون الدائبون في رياضة النفس وتهذيبها وكبحها، وهداية الناس وتهذيبهم في غير عجب ورياء ولا جلبة وضوضاء. ومنهم الجاهلون الذين لا يعرفون من التصوف إلا الأصوات والحركات، والملابس والشارات. ليس لهذا الأمر إلا تحكيم الشرع، والاتفاق على فروضه وسننه وآدابه، وكلهم مسلمون راضون بحكم الشريعة جديرون أن يجتمعوا عليها، ويتآخوا فيها

وسأبين في المقال التالي التصوف الذي يلائم الإسلام والذي ندعو إليه في هذا العصر أن شاء الله

عبد الوهاب عزام

ص: 8

‌قبل اليوم المشهود

للدكتور زكي مبارك

قضى آدم في صحبة حواء ساعات وهو ينتظر اليوم المشهود في ساحة العدل، وهي ساعات كانت أطول من الدهر وأثقل من الجبال

وزاد في كروب تلك الساعات أن آدم لم يكن في حقيقته إلا خلقة فطريةُ يعوزها الصقل والتهذيب، فكان يبدي ويعيد في حكاية شجرة التين، بعبارات محمَّلة بُعنجهية الملامة وقظاظة التريث؛ وكانت حوّاء تصبر على أذاه في حين وتثور في أحايين، وكذلك كانت تلك الساعات أعنف وأفظع من الحساب المرتقَب في ساحة العدل

- آدم، هل وصلت إليك الأنباء الأخيرة؟

- أيّ أنباء؟

- لقد اختصم الأسود والقرود

- ثم؟

- ثم اختصم الملائكة المقرَّبون

- وفيم يختصم أولئك وهؤلاء؟

- في أمرنا بعد العصيان

- وما قيمة ذلك؟

- لقد فهمت مما سمعت أن الرأي العام يعطف على قضيتنا كل العطف

- الرأي العام كله؟ كل سكان الجنة ينظرون إلى قضيتنا برفق؟

- ليسوا جميعاً سواءً، وإنما عطف علينا الأكابر من أولئك السكان

- والأصاغر؟

- هم دائماً أصاغر، ولا قيمة لضجيجهم الصخّاب

- ليس في هذا ما يزيل مخاوفي، يا حواء، فما خشيت يوماً أن يصيبني أذىً من أكابر الخلائق، ولا جاز في وهمي أن تَصدُر كلمة الإفك عن مخلوق جمّله الله بالقوة أو بالعقل، وإنما الخوف كل الخوف من الأصاغر، فهم الذين يذيعون الصحيح والعليل من أخبار السوء، وهم الذين يطمسون محاسن الأكابر بالإفك والإرجاف، ليقال إن الوجود ليس فيه

ص: 10

فاضل ومفضول

- لا عليك من هؤلاء، فلن يسمع أحدٌ ما يأفكون. . . وهل ضعُفت العقول حتى تُسيغ أقاويل المرجفين؟

- لو كانت العقول تَنقُد كل ما تسمع، وفي كل وقت، لرجوتُ أن تسقط أراجيف الكاذبين، ولكن العقول لا تَنقُد كل ما تسمع، ولا تنصب ميزاناً لكل ما يقال، وسترين يا حواء أن أصحاب العقول أقلية ضئيلة، وهم مع ذلك لا يشغلون أنفسهم بإنصاف المظلومين، وليس فيهم من يترك أعماله ليرفع الشبهات المفترات من طريق المروَّعين بالبهتان

- ألم تسمع أن الأسود غضبت من تطاول القرود؟

- سمعتّ، ولكني أعتقد أنها غضبة وقتية، فستجد للأسود شواغل تصرفهم عن تأديب أولئك الأنذال

- وقد غضبت البلابل أيضاً

- أعرف ذلك، فقد سمعتها تقول إن آدم هو المخلوق الوحيد الذي يطرب لصوتها الرخيم، وأنه إن خرج من الجنة فلن تهشّ للتغريد. . . ولكن من يضمن أن يدوم هذا العطف؟ نحن شجّعنا البلابل والعنادل على الغناء، وأقمنا لهم دولة، ونبهّنا الخلائق إلى ما يملكون من جواهر السجع والرنين. فهل يذكرون هذا الفضل بعد أن نخرج من الفردوس؟ أنا أخشى أن تصفق لهم الضفادع فيرون النقيق من صور الثناء!

- هل بلغك ما قالت الببغاوات؟

- نعم سمعت أنها قالت (إن مخارج الحروف عند آدم سهلةٌ لينة، وأنها تحاكيه في النطق بلا عناء، فهو بذلك أجمل مخلوق) وأنا من هذا أخاف يا حواء

- وكيف؟

- ستستطيع الببغاوات أن تزعم أنها خلائف

- خلائفُ مَنْ؟

- خلائف الحيوان الناطق

- خلائف آدم؟

- إي، إي، أليست تنطق كما ينطق؟

ص: 11

- ولكنها لا تفقه شيئاً مما ننطق؟

- من حق الببغاوات أن تدّعي لأنفسها ما تشاء، حين يغيب أهل العقل والبيان

- ولكن أهل الجنة سيذكرون دائماً أنك وحدك الشاعر والخطيب

- أهل الجنة لن يذكروا شيئاً، وسوف تعلمين

- خبلتني، خبلتني!

- إن كنتِ في حاجة إلى تزيد من الخبال، أيتها المخبولة الحسناء. . . اسمعي

- إنك تُرعبني حين تقول اسمعي

- اسمعي يا حواء، ثم اسمعي، المجد يحتاج إلى حراسة، والأصدقاء يحتاجون إلى حراسة، وقد تكون رعاية الغنم أسهل من رعاية الأصدقاء، ولن يحفظ عهدنَا أحدٌ حين نغيب

- ولا الظبي الذي ربيناه منذ أسابيع؟

- سيجد ذئباً يرعاه، وسيأنس بالأنياب الحِداد، أضعافَ ما أنِس بالأنامل اللطاف

- هي أناملي، لا أنامِلُك

- حتى في أوقات الكرب الماحق لا تنسى المرأة أنها مخلوق لطيف!

- ترتاب في جمالي؟

- أستغفر الله!

- ولا تستغفر الحب؟

- وأستغفر الحب وأتوب إليه!

- صِدق، صِدق؟

- وهل كذبتُ عليك يوماً يا حواء؟

- أنا إذاً جميلة وأنت تحبني؟

- ما أحببُتك يوماً، ولا رأيتك جديرة بالحب، لأن عقلك أصغر من عقلي، والحب تفاهم بين عقلين، قبل أن يكون تلامساً بين جسمين، ولكن صوتاً يزعجني يا حواء

- وما ذلك الصوت المزعج؟

- هو الصوت الذي يصرخ بأن لابد لآدم من حواء

- تقول هذا وأنت الذي يُشغل عني بما في الفردوس من شجر ونبات وطير وحيوان؟

ص: 12

- أنا شُغلِتُ عنك بتلك الخلائق؟ هيهات ثم هيهات! كنت أتأمل الأشجار لأعانق الغصن الذي يشبه قدك النشوان، وكنت أداعب الأزهار لأرى فيها شمائل من خدك الوهاج، وكنت ألاعب الأطيار لأسمع سجعاً يذكّر بصوتك المقتول، وكنت أناغي فصائل الحيوان لأعرف أن لك صوراً في عيون الجآذر وأجياد الظباء. حبك يا حواء أذواني وأضناني وأبلاني، وستسمعون من أخباري ما تكرهين

- عَدَتْك العوادي، أيها الفارس الجميل!

- سأصبح فارساً بلا فَرَس

- أنت؟

- نعم، أنا، فقد حدثني أحد الملائكة أن الله لا يقيم وزناً لهفوات النساء، فإن القضاء الذي سيقام في ساحة العدل سيجعلني المدين

- وحدك؟

- وحدي!

- وإذن؟

- وإذن أهبط الأرض وتَبْقَيْنَ في الفردوس

- مع من؟

- مع جميع هذه الخلائق من شجر ونبات وطير وحيوان ومع نهر الكوثر، ومع الملائكة المقرَّبين

- أهذه خلائق؟

- بالتأكيد، وفيها الكفاية لمن يحتاج إلى أنيس

- وأصير كالدَّجاجة الحائرة عند غياب الديك؟

- كيف تحارين وأنت بين المهتدين؟

- هداية حواء في غيبة آدم هي أقبح صورة من صور الضلال

- سيقضي الله في أمرنا بما يشاء

- الله سيقضي بأن تعيش المرأة بلا رجل؟

- سيقضي الله بالعدل، فالرجل أذنب والمرأة لم تذنب، والعقاب لا يحق على غير المذنبين

ص: 13

- تخرج من الجنة وأبقى وحدي بحجة أنك المذنب؟

- بالطبع!

- وهذا عدل؟

- هذا هو العدل.

- والله يريد ذلك؟

- يقال!

- آدم، سترى أنني أشجع منك، وأوفى منك!

- من السهل أن تكوني أشجع مني، ولكن من الصعب أن تكوني أوفى مني

- المرأة لا تعتصم بالدلال إلا في أوقات الصفاء، وهي عند الخطر فداء الرجل من جميع الأسواء. ألم تسمع حديث الصائد؟

- وما حديث الصائد؟

- إذا ساور الصائد أسداً ولَبُؤَة، كان عليه أن يقتل اللبؤة قبل أن يقتل الأسد

- ولماذا؟

- لأن الأسد ينسحب بعد إانصراع اللبؤة، أما اللبؤة فتقاتل بعد انصراع الأسد إلى أن تموت

- وأنا سأجادل الله يا آدم

- وتجادلينه يا حواء؟

- أنا أفصح من جميع المحامين، والمرأة تحارب بالدمع حين تعجز عن المحاربة باللسان

- ولكن الله أكبر من أن ينخدع بدمع المرأة ولسانها

- أنا أعرف الله أكثر مما تعرف

- كل شيء جائز إلا أن تصل المرأة إلى معرفة الله على الوجه الحق

- أنت لا تعرف خطر المرأة حين تصرخ وتولول

- أو ينزعج الله عزّ شأنه بالولولة والصراخ؟

- سترى كيف أصنع، سترى، سترى، سأقيم مناحة في ساحة العدل، وسيبكي معي جميع الإناث من الطير والحيوان

ص: 14

- والنتيجة؟

- النتيجة معروفة منذ هذا الوقت، فسيصفح الله عنك، ليريح أهل الجنة من الولولة والصراخ

- ويقول التاريخ إن آدم نجا من العقاب لأن امرأته بكت في ساحة العدل؟

- ما قيمة التاريخ، وهو لفظٌ بلا مدلول، ولا يعتزُّ به غير الضعفاء؟

- وتقولين كلما اختصمنا إنك سبب نجاتي!

- هل يؤذيك أن تعترف بفضلي عليك؟

- تمنّين علي قبل أن يقع الفضل المزعوم؟ أنت السبب فيما أعاني من البلاء ومع هذا تطالبين بالثمن لدفع نكبةٍ جناها عقًلك المنخوب!

- أنا أعقل منك!

- لأنك أغريتني بالأكل من شجرة التين؟

- وهل في الجنة شيء اسمه شجرة التين؟

- تكذّبين الواقع الملموس؟

- واقع ملموس؟ ما هذا الكلام الأجوف؟

- شجرة التين، يا حواء، شجرة التين

- قلت لك إن الجنة ليس فيها شيء بهذا الاسم الغريب

- ولم نقع في العصيان؟

- أي عصيان؟

- العصيان الذي أوجب أن نفتضح، يا حواء

- وكيف افتضحنا، يا آدم؟

- بظهور السوءتين

- الطير والحيوان لا تعرف ستر السوأتين، فأرح نفسك من هذا العناء

- أترين أن أواجه الله بهذا القول؟

- واجِه اللهَ بما تشاء، ولا تخف غضبه عليك!

- وكيف؟

ص: 15

- لأنه لن يصنع بك اشد مما صنع

- ماذا؟ ماذا؟

- لقد خلق لك ضميراً، ثم خلق لك ضميراً، لتقضي حياتك في عذاب!

- وإذن؟

- وإذن تكفر بالله وتثور عليه

- لأصير. . .

- لتصير حيواناً سعيداً كسائر أصناف الحيوان

- الفضيحة الأبدية، ولا هذا المصير، يا حواء

- ماذا تريد بنفسك يا آدم؟

- أريد أن أكون أول مسئول أمام الله في هذا الوجود

- وما غنيمتُك من هذه المسئولية؟

- هي أن أتشرف بالثواب والعقاب

- الله قد يعاِقب ولا يُثيب

- يهمني أن أَعاقَب ولا يهمني أن أُثاب

- لأنك. . .

- لأني رجل، وسعادةُ الرجولة في احتمال التبعات

- وبهذه العقيدة ستلقَى الله في ساحة العدل؟

- نعم، نعم

- وإذن يكون من حقي أن أقول إني في صحبة رجل هو أشجع الرجال وأشرف الرجال!

(للحديث أفانين)

زكي مبارك

ص: 16

‌برنامج الإصلاح في جماعة كبار العلماء

أحلام. . .

للأستاذ محمد محمد المدني

كنت يوماً من الأيام راضي النفس، ساكن الجأش، هادئ العاطفة؛ ونظرت فإذا بارقة من أمل تبرق في جو الأزهر فينبثق منها نور وهَّاج تضوء به أرجاؤه، وتصفو له سماؤه، ويشرأب إليه الناس بأبصارهم وأعناقهم متطلعين

كتبت يومئذ في (الرسالة) مقالاً: أما موضوعه، فهو موضوع اليوم (برنامج الإصلاح في جماعة كبار العلماء)؛ وأما عنوانه الذي أوحت به النفس يومئذ، فقد كان كلمة جميلة خفيفة على الأسماع، أعتقد أنها ترجمة واضحة لما كان يدور بالنفوس المستبشرة قبل أن تكون عنواناً لمقال يتحدث عن أعمال (جماعة كبار العلماء)، تلك الكلمة هي (آمال. . .)

ولكنني أعترف الآن أنني كنت مغالياً ومسرفاً في الخيال إلى حد بعيد حين اخترت هذه الكلمة عنواناً لمقالي، وأنه كان عليَّ يومئذ أن أذكر تاريخ الإصلاح في مصر بوجه عام، وتاريخ الإصلاح في الأزهر بوجه خاص، لأختار كلمة أخرى غير كلمة (الآمال). ولست أدري: أمن تقاليد (الرسالة) أن تسمح أحياناً لكتابها بتصحيح ما سلف من العناوين؟ ولكن أنَّى ذلك وقد سارت بذكرها الركبان، وانقضى عليها أزمان وأزمان؟

عفا الله عما سلف! وليكن حديث اليوم تصحيحاً لحديث ألامس، ولنجعل عليه عنواناً غير ذلك العنوان، هو (أحلام. . .)

كتب الأستاذ الكبير صاحب (الرسالة) مقالاً خطيراً بالعدد (456) عنوانه (لابد للإسلام من مؤتمر)؛ وقد استعرض فيه حالة الشرق والعرب، وذكر تودد الغرب إلى المسلمين في ظروفهم الحاضرة، ثم عرج بالحديث إلى (العلماء) فقال:

(ولئن سألتني بعد ذلك: هل بلَّغ العلماء رسالة الله؟ لأقولن لك (لا) مغلظة مكبرة مكررة! وأكبر الظن أنهم لا يؤمنون بأن لهم رسالة، وأن عليهم تبعة: رجال السياسة يعملون بحق أو بباطل، ورجال الحكم يتصرفون بعدل أو بظلم؛ أما رجال الدين في ممالك الوطن الإسلامي كله، فقد قنعوا باللقب والزي، واكتفوا بالشبع والري، ورضوا أن يكونوا متوناً لذوي الطمع، وحواشي لأولي النعمة، وهوامش على صفحة الحياة!)

ص: 17

قال الأستاذ الزيات ذلك. ومضى في مقاله البليغ يؤيده بالحجج، ويضرب له الأمثال، ويهز به النفوس، ويثير به كوامن الشجون؛ ثم قال:(لقد عقدنا الآمال بالأزهر في كل ذلك، فهل عقدناها بلعاب الشمس؟ كانت جماعة كبار العلماء معقد الرجاء ومناط الثقة. . . ولكن برنامج الإصلاح الذي اقترحه شبابها المصلحون، وأقره أقطابها المخلصون، قد أدركته أزمة رجعية توشك أن تخنقه في درج المشيخة؛ فإن عضواً من الجماعة يوجس منه شراً: فهو ينسج حوله الشكوك، ويؤلب عليه القوى وقد نجح في ذلك. فهل يجوز في ظن امرئ أن يكون في كبار العلماء من يشتبه عليه الحق والباطل والخير والشر والصلاح والفساد؟ ذلك ما لا نصدقه، ولا نود أن تجري الأمور بما يحققه)

قرأت هذا المقال مثنى وثلاث ورباع، واشتد عليَّ وقعه، وساءني هذا النبأ الهائل الرهيب الذي تضمنه، وقلت لنفسي: هذا يوم له ما بعده! سوف يتكلم الأزهر، وسوف يدفع العلماء عن أنفسهم، وسوف تتحرك الجماعة الموقرة لتثبت للناس أنها سامعة لكل ما يدور حولها، واعية لكل ما يقال عنها، ولكني تلبثت لذلك أسبوعاً، واستظهرت من بعده بأسبوع آخر فلم أجد أحداً من الأزهريين، رسميين أو غير رسميين، يعرض لذلك بتصحيح أو تكذيب، ولم ألمح في جو الجماعة ما يدل على أنها موشكة أن تجتمع لترى في برنامج الإصلاح رأيها. وقد عنيت في أثناء ذلك أن أستمع إلى أحاديث الناس في الأزهر وغير الأزهر عن هذا الشأن الخطير، فسمعت أحاديث عجباً!

هذه رواية تقول: أن أشخاصاً معينين قد ألفوا التعويق عن الخير، والتخزيل عن الإصلاح، قد وقفوا من هذا البرنامج موقف المحارب في السر والعلن، وجعلوا يصرحون في مجالسهم بان هذه المقترحات لن تتم أبدا، لون تأخذ طريقها إلى التنفيذ!

وهذه رواية أخرى تنقل عن أحد أعضاء الجماعة عبارة يدأب على ترديدها ويرمي بها في وجوه الناس إذا سألوه فيقول: إن هؤلاء الشبان من أعضاء الجماعة يريدون أن يقلبوا الدنيا وأن يغيروا أوضاع العلم في الأزهر. وأن يفسدوا الدين!

وهذه رواية ثالثة تقول: إن مديراً من مديري إدارات الأزهر قد ساءه أن تفكر الجماعة في انتزاع إدارته من يده. فأقسم برأس جدوده من الشراكسة: لن يتم هذا البرنامج ولو كان بينه وبين التمام خطوة واحدة

ص: 18

على أن أثراً آخر من آثار التفكير في هذه المقترحات قد حدت فعلاُ، وبرز بروزاً رسمياً. ذلك أن لجنة معروفة في إدارة المعاهد الدينية قد رأى بعض أعضائها في هذه المقترحات مساساً بهم، وتعريضاً بكفايتهم. فاتفقوا على أن يستقيلوا من هذه اللجنة ورفعوا استقالتهم فعلاً إلى فضيلة الأستاذ الأكبر، ولكنه لم يقبلها وأمرهم بالبقاء في أعمالهم!

وتقول جريدة (البلاغ) الغراء في عددها الصادر مساء التاسع من شهر أبريل الحاضر ما نصه:

(قد رددت إشاعات نرجو ألا تكون صحيحة، خلاصتها: أن بعض أعضاء جماعة كبار العلماء مع قبولهم هذا المبدأ وسائر المبادئ التي تحقق الإصلاح وتنظم جهود الجماعة والأزهر والتي انتهت إلى قبولها لجنة بحث المقترحات، لا يرون أن تنفذ تلك الآراء لأن في قبولها وتنفيذها اعترافاً ضمنياً بتقصير الجماعة عن التفكير في ذلك فيما سبق، وهذا موقف لا يرضاه أعضاء الجماعة لأنفسهم)

وهكذا تختلف الروايات تبعاً لتعدد مصادرها. ولكنها كلها تجمع على شيء واحد هو: أن عقبات تقف في طريق هذه المقترحات وتحول بينها وبين النور أن تراه، فهي لذلك حبيسة في (درج المشيخة) وستظل حبيسة في هذا الدرج حتى يأذن الله

يا ويلتا! أيموت هذا المشروع أيضاً كما ماتت من قبله مشروعات؟ وماذا يقول الأزهر بعد ذلك للأمة وقد نادى في أرجائها البشير: أن قد استيقظ العلماء، وهبوا للعمل، وشمروا عن ساعد الجد في خدمة الدين ونصرة الشريعة؟

أهكذا يا مصر تنفرج فيك إلى هذا الحد (مسافة الخلف بين القول والعمل؟). أحين تكون الأعمال فكَراً تجول في النفوس، أو مشروعات تكتب على الأوراق، يسمع الناس لها ضجيجاً عالياً، ودوياً صاخباً، ويرون من حولها هيئات تجمع، وجلسات تعقد، وأقلاماً تكتب، وصحفاً تنشر، وبشارات تتوالى، وبخيل بها على الناس أن الأمر جد، وأن الوعد حق، وأن ساعة التنفيذ آتية لا ريب فيها؛ ثم تمضي الأيام، وتتلاحق الشهور والأعوام وهذه المشروعات ساكنة لا حراك بها، يعلوها غبار، ويرهقها قُتار، وتوحشها ظلمات الإهمال أو النسيان

أجل! أجل! و (أيٌّ هكذا خلقت!)

ص: 19

ارجع، أيها القارئ، إلى مجموعات الصحف والمجلات والسجلات الحكومية تر العجب العجاب: برامج للتعليم بعضها في أثر بعض، وبرنامج لإنقاذ الفلاح وتحسين حالة الفلاح، وبرامج للشئون الاجتماعية، يطنطن بها الدعاة، وتمتلئ بها المسامع والأفواه، وبرامج حتى للطرق، وتنظيم المدن، وتخطيط الشوارع تتداولها أوامر الإقرار تارة، والإلغاء تارة، والتعديل تارات؛ وهكذا تفيض مصر بالبرامج إلى البرامج حتى لو عنينا بجمعها وترتيبها والتبويب لها لأخرجنا من ذلك كتاباً ضخماً ذا مجلدات! ولكنها برامج لم توضع لتنفذ وتطبق، ولكن لتكون آية يستدل بها الناس على عبقرية واضعيها، ولتكتب عنها الصحف أياماً أو شهوراً فتفيض في تعديد مزاياها، وتطنب في بيان فوائدها وما يرجى من آثرها. وما بي من حاجة إلى دليل أؤيد به ما أقول، فهذا هو التعليم يتعثر في خطاه، وهذا هو الفلاح ما يزال كما كان يشرب الطين المذاب، ويذوق من فقره ودَيْنه ومرضه ألوان العذاب. وهذه هي برامج مصلحة التنظيم يحسب الناس لكثرة ما اعتورها، وشدة الإبطاء في تنفيذها، قد وضعت لتنفذ وينعم بمزاياها سكان البلاد في القرن الثلاثين، لا في هذا القرن العشرين!

فلماذا لا يكون الأزهر أيضاً كهذه المصالح الحكومية؟ إننا معاشر الأزهريين مصريون، ولا أحسب أن المصرية تتمثل بجميع خصائصها في بيئة من البيئات كما تتمثل في الأزهر، فإذا أراد امرؤ أن يطبق على هذا الخلق الذي سجله أمير الشعراء على مصر حين قال:

(كل شيء فيه ينسى بعد حين)

وجد الأمثال بين يديه حاضرة في الأزهر قبل سواه، فله أن يمثل (بمشروع ترجمة القرآن) لو إن شئت فسمه (مشروع ترجمة تفسير القرآن) وله أن يمثل (بلجان العيد الألفي للأزهر) التي ألفت على الورق، ورصدت في السجلات، ولم تعمل شيئاً، بل لم تجتمع فيما أظن حتى اليوم! وله أن يمثل (بمشروع تنظيم المكتبة الأزهرية العظيمة) الذي اجتلب له خبير فني من المتخصصين في برلين. وله أن يمثل (بمشروع إصلاح مجلة الأزهر) الذي ألفت له لجنة وقد كان الأستاذ الزيات أحد أعضائها، ثم اختنق تقريرها وليداً وما زالت المجلة كما كانت بل أسوأ مما كانت كما يعترف بذلك رجال الأزهر المسئولون. وله أن يمثل (بالبعوث الأزهرية) التي اهتممنا بها مرة في الدهر واحدة ثم لم تعد كأنها بيضة الديك التي

ص: 20

يذكرها في بعض شعره بشار!

له أن يمثل بهذا كله مما ذكرنا، وله أن يمثل بغيره مما لم نذكر، فليس الأمر إذن أمر برنامج الإصلاح في جماعة كبار العلماء وحده، وإنما هو أمر الأزهر جميعاً. هو أمر برامج كثيرة حاولها الأزهر، وعنى بها فضيلة الأستاذ الأكبر؛ بل إننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن هذه المشروعات جميعها إما بتفكير مباشر من فضيلته، وإما بتفكير يستمد من روحه وإلهامه، ويراد به تحقيق غايته في الإصلاح، وتنفيذ رغباته في النهوض بالأزهر، وإعلاء كلمة الله، وقد حظيت هذه المشروعات كلها بكفالته فاحتضنها وأيدها وأبدى رغبته في تنفيذها، فما هو السر إذن في أن هذه المشروعات النافعة تموت في طفولتها، بل تختنق في مهدها؟ ألا إن السر في ذلك لمعروف: إنه يرجع إلى الذين ألفوا أن يعوقوا الإصلاح، ويشككوا في الخير. يرجع إلى المخزلين المثبطين الذين يغشى النور أبصارهم فلا يحبون أن يروا إلا الظلام، ويدوخ الجو النقي الصافي رءوسهم فلا يحبون أن يعيشوا إلا في الفساد. إنه يرجع، يا سيدي الأستاذ الأكبر، إلى الذين مردوا على النفاق، ورضعوا أفاويقه، وتلونوا في كل عهد بلون، ولبسوا لكل حالة لبوسها؛ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم!

هنا فقط موضع العلة ومكان الداء، وهنا فقط مفصل الدواء، ومقطع العلاج، لمن أراد العلاج!

رباه! ماذا قلت؟ وأي سر كشفت؟ ولكن. . . لا! إن الأمر لم يعد سراً. وهل سرٌّ ما تفيض به المجالس والأندية، وتخوض فيه الصحف والمجلات؟

إنني أتخيل أبناءنا وأحفادنا القادمين وقد أرادوا أن يحصوا لنا أعمالنا ويدركوا مبلغ برنا بوعودنا: أتخيلهم وقد وجدوا في صحفنا، في جرائدنا ومجلاتنا، مشروعات أعمالنا، فجعلوا يتابعون البحث في هذه الصحف عدداً بعد عدد، ومجلداً بعد مجلد، لعلهم يعثرون فيها على خبر التنفيذ كما رأوا أخبار التفكير، لعلهم يرون آثار الأعمال كما رأوا آثار الأقوال، ولكنهم - وا خجلتاه - سيبحثون جاهدين، ثم يوالون البحث صابرين، فلا يجدون لهذه الأعمال أثراً، ولا يحسون منها شيئاً، ولا يسمعون لها ركزاً. فلعل أحدهم يومئذ يضطجع كما يفعل امرؤ أعياه البحث وأضناه التعب ثم يقول:

رحمة الله عليهم أيها الآباء! لقد كنتم تعرفون حقاً كيف تكون الـ (أحلام. . .!)

ص: 21

محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة

ص: 22

‌وهم شائع

موشحة ابن زهر لا موشحة ابن المعتز

للأستاذ طه الراوي

ابن زُهر

آل زهر أسرة إيادّية أندلسّية، برّز كثير من رجالها في العلوم والآداب، وتفرّد منهم جماعة في الطب والفلسفة. وكان إمام جماعتهم وواسطة قلادتهم أبو بكر محمد بن أبي مروان ابن أبي العلاء بن زهر المتوفى سنة 596 هجرية. وقد تميز أبو بكر هذا في علوم كثيرة وآداب وفيرة. وبرع في علم الطب والفلسفة والآداب العربية. وكان حافظاً للقرآن راوياً للحديث، وعانى قرض الشعر، وله موشحات مشهورة يغني بها، وهي من أجود ما قيل في ذلك. قال بعض من ترجموا له: (لم يكن في زمانه أعلم منه بصناعة الطب. وكان معتدل القامة، صحيح البنية، قوي الأعضاء، صار في سن الشيخوخة ونضارة لونه وقوة حركاته لم يتبين فيها تغير. وكان ملازماً للأمور الشرعية، متين الدين، قوي النفس، محباً للخير، مهيباً؛ وله جرأة في الكلام؛ وكان صائب الرأي، حسن المعالجة، جيّد التدبير. وكان كثير الإبداع في الشعر مع سلامة ذوق وسجاحة طبع، وانسجام أسلوب، وجمال ديباجة. فمن ذلك قوله يتشوق إلى ولده:

ولي واحد مثل فرخ القطا

صغير تخلّف قلبي لديه

نأت عنه داري فيا وحشتا

لذاك الشخَيص وذاك الوجَيه

تشوقني وتشوّقته

فيبكي عليّ وأبكي عليه

وقد تعب الشوق ما بيننا

فمنه إليَّ ومنّي إليه

ومن ذلك قوله:

إني نظرت إلى المرآة إذ جُليت

فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا

رأيت فيها شييخاً لست أعرفه

وكنت أعرف فيها قبل ذاك فتى

فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا

متى ترحّل عن هذا المكان متى

فاستجهلتني وقالت لي وما نطقت

قد كان ذاك وهذا بعد ذاك أتي

ص: 23

هوّن عليك فهذا لا بقاء له

أما ترى العشب يفنى بعد ما نبتا

موشحة ابن زهر

قال جماعة ممن ترجموا له: من موشحاته قوله:

أيها الساقي إليك المشتكي

قد دعوناك وإن لم تسمع

ومن أشهر المؤرخين الذين نسبوا هذا الموشح إلى محمد ابن زهر هو المحقق ياقوت بن عبد الله البغدادي الحموي المتوفى سنة 626 هجرية. قال في ترجمة ابن زهر من كتابه (معجم الأدباء صفحة 216 من الجزء الثامن عشر) ما نصه: (وانفرد ابن زهر بالإجادة في نظم الموشحات التي فاق بها أهل المغرب على أهل المشرق. . . ومن موشحاته قوله:

أيها الشاكي إليك المشتكي. . . الخ

وسرد الموشحة إلى آخرها. ومنهم موفق الدين أبو العباس أحمد ابن القاسم السعدي الخزرجي في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) فقد أثبت له هذه الموشحة في جملة موشحات أخرى عندما ترجم له في الباب الثالث عشر من الجزء الثاني من كتابه المذكور

ولا أدري أي شيطان سول لبعض المتأخرين أن ينسب هذه الموشحة إلى عبد الله بن المعتز فتهافت على هذا الخطأ جماعة من المعاصرين الذين أخرجوا للناس مجاميع أدبية فجزموا بنسبة هذه الموشحة إلى ابن المعتز مع أن ابن المعتز نفسه لا يعرف شيئاً عن الموشحات ولا عهد لأهل زمانه بشيء منها، لأن المعروف بين مؤرخي الآداب العربية أن هذا الضرب من الشعر إنما هو من مبدعات متأخري الأندلسيين وعنهم اقتبسه متأخرو المشارقة. قال العلامة ابن خلدون في مقدمته (أما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق منه الغاية استحدث المتأخرون منهم فناً منه سموه بالموشح. . . ينسبون فيها (الموشحات) ويمدحون كما يفعل في القصائد، وتجاروا في ذلك إلى الغاية. . . وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معافر الفربري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد. . .) أهـ

ثم ألمع ابن خلدون إلى نبذة من تأريخ الموشحات عند الأندلسيين وأهل المغرب. وذكر أن المشارقة قلّدوهم في ذلك فلم يدركوا لهم شأوا. ومنه يعلم أن هذا الضرب من الصناعة

ص: 24

الشعرية من مخترعات المغاربة، وأن المشارقة أخذوه عنهم بالمحاكاة ليس غير

وقد ذكر المقّري في كتابه (نفح الطيب) نحواً مما ذكره العلامة ابن خلدون وعدّ الموشحات من خصائص الأندلسيين ومن مزاياهم التي بذّوا المشارقة

ولا أدري كيف يسوغ لمتأدب أن ينسب إبداع تلك الموشحة إلى ابن المعتز، وابن المعتز نفسه لم يشر ولم يومئ إلى هذا الضرب من ضروب الشعر في كتابه الذي ألّفه في البديع! ولو كان لهذا النوع من أثر في زمانه لفسّح له الصدر من كتابه ولأوسع فيه الشرح والإيضاح والتنويع والتفريع، ولكان من المتعذّر أن يخفى على أساطين المؤرخين من إضراب ابن خلدون والمقّري وغيرهما

ولا أدري كيف التبست هذه الحقيقة على ناشري بعض المجاميع الأدبية من المعاصرين فجزموا بنسبة تلك الموشحة إلى ابن المعتز مع ما اشتهر، بل استفاض من أنها من نظم ابن زهر الأيادي الأندلسي، ومع علمهم بأن الموشحات من مبدعات المتأخرين من الأندلسيين كما رأيت

ولعمري إن ابن زهر الأيادي ليس بخفي الشأن بحيث يسوغ لمتأدب أن يختلس ثمار أفكاره فيلصقها بغيره، كما أن ابن المعتز أشهر وأظهر من أن تخفى بدائع لبّه على ياقوت وابن أبي أصيبعة وابن خلدون والمقري وإضرابهم من محّققي المؤرخين، ولكن ما الحيلة والتحقيق في الناس قليل لأن مركبه صعب، والتساهل كثير لأن مركبه وطئ

وأنا لم أكتب ما كتبت في دفع هذا الوهم إلا لما رأيته فاشياً بين الشداة من المتأدبين الذين يعتمدون على ما تخطه أقلام المعاصرين من غثٍ أو سمين، ولا يكلّفون أنفسهم مؤونة الرجوع إلى الأصول للتثبت من صحة تلك النقول. وهذا داء وبيل تطاير شرره وعم ضرره. وأكبر الظن أن هذا الوهم تسرب إلى المتأخرين من طريق (ديوان ابن المعتز) المطبوع في بيروت المتداول بين الأيدي. ولا جدال في أن الكثيرين من جمعة الدواوين حاطبو ليل، يحشرون شعر هذا في ديوان ذاك، وشعر ذاك في ديوان هذا. والشاهد على ذلك كثيرة مستفيضة، وقد وقفت في هذا الديوان على شعر كثير لا علم لابن المعتز به وإنما هو من نظم من تقدمه أو تأخر عنه

وكان الأقدمون يتلقون نتاج الأفكار وثمار الأقلام من طريق الرواية ويتبارون بتوثيق

ص: 25

حلقات الأسانيد وحبك أطرافها بالتحقيق والتروي إلى أن يستوي بيدهم الحق ويستقيم الصدق، فلما ذهب عهد الرواية وأخذ الناس يعتمدون في الجمع على أيديهم دون عقولهم وراح الوراقون يستنّون في ميدان الحشد والتكثير والتحويل والتغيير وضعفاء المتعلمين من ورائهم يلقفون ما يأفكون من غير ما تبصر ولا تدبر - أصبح الحق يتيما والتحقيق غريباً. فعلى من يترفعون عن التقليد الأعمى من أبناء هذا الجيل أن يعتمدوا في تحقيق الحق وتمحيصه على الأصول الأصيلة من دواوين العلم ومجاميع الأدب ولا يصح لهم الاعتماد على غيرها إذا أرادوا أن يكونوا للحق إخواناً ولأهله أعواناً

(بغداد)

طه الراوي

ص: 26

‌31 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل العاشر - (الخرافات)

لا يجوز عقلاً أن تثير هذه الأوهام التي توجد في أذهان شعب جاهل دهشتنا؛ ولكن المصريين لا يظهرون احتراماً خرافياً للكائنات الوهمية فحسب، وإنما يجاوزون ذلك إلى بعض أفراد من البشر مثلهم. وكثيراً ما يكون ذلك التقديس إلى أقل الناس استحقاقاً له. فيعتبرون الأبله أو المجنون مخلوقاً عقله في السماء وجسده يختلط بالبشر. ويعدونه لذلك ولياً. ومهما ارتكب الولي المشهور من الخطايا - وكثير منهم يحالفون الدين - فهي لا تؤثر على قداسته إذا لم تعتبر نتيجة تجرد عقله من الأشياء الدنيوية، فروحه أو قواه العقلية كلها مستغرقة في التقوى؛ ولذلك تُترك شهواته بلا رقيب. ويحبس المجانين الخطرون؛ أما هؤلاء الذين لا خطر منهم فيعتبرون أولياء. وأكثر أولياء مصر المشهورين معتوهين أو بله أو خداعون. ويسير بعضهم عراة تقريباً ويتمتعون باحترام زائد بحيث أن النساء بدلاً من تجنبهم يتكبدن أحياناً الكثير من تصرفاتهم الشاذة في الطريق العام، ولا يشعر العامة بأي عار من هذه الأعمال التي يندر مع ذلك حدوثها. ويُرى آخرون لابسين مرقَّعة مختلفة الألوان تسمى (دلق) وهو مزين بالخراف، ومعممين بعمة بالية وحاملين عصا شبك في أعلاها سبائب نسج مختلفة الألوان، ويأكل بعضهم التبن أو خليطاً من التبن والزجاج المكسر ويلفتون النظر بأعمال غريبة مختلفة.

وكثيراُ ما قابلت أثناء زيارتي الأولى في شوارع القاهرة رجلاً زَري الشكل عاري الجسم تقريباً مضفر الشعر طويله، راكباً حماراً يقوده رجل آخر. فيقف دائماً حماره أمامي مباشرة بحيث يقطع عليّ الطريق ويقرأ الفاتحة، ثم يمد يده للسؤال. وقد حاولت أن أتجنبه في أول

ص: 27

مرة؛ إلا أن أحد المارين حذرني ملاحظاً أن الرجل وليّ، وأن عليّ أن أحترمه وأن أمنحه ما يريد حتى لا تصيبني مصيبة. ويتعيش رجال هذه الطبقة على الصدقات التي كثيراً ما يتناولونها دون سؤال. ويسمى القديس المشهور (شيخ) أو (مرابط) أو (ولي)، ويسمى أيضاً على الأصح إذا كان به بله أو جنون أو خَبل (مجذوب) أو (مسلوب). وتطلق عبارة (ولي) بدقة على القديس التقي السامي فقط ومعناها المختار. إلا أنها تطلق عامة على البُله أو المتبالهين، حتى أن بعض الأذكياء جعلوا لفظ الولي معادلاً للفظ (بليد)، ملاحظين أن تينك العبارتين متساويتا المعنى والقيمة العددية للحروف المكونة لكل منها. إذ أن (ولي) مكونة من الواو واللام والياء، وقيمة كل على التوالي 6، 30، 10 أي 46 و (بليد) مكونة من الباء واللام والياء والدال وهي على التوالي 2، 30، 10، 4، وجموعها 46، وكثيراً ما يسمى الغبي ولياً للدعابة.

ويعتقد مسلمو مصر وغيرها من البلدان اعتقادات باطلة عجيبة بالأولياء. وقد حاولت أن أستفهم عن أكثر هذه الاعتقادات غموضاً فكان الرد علي: (إنك تتدخل في أمور (الطريقة)) أي منهج الدراويش الديني. إلا أنني وقفت على كثير من الآراء العامة في هذه الموضوعات. وأظن أن ذلك هو كل ما يطلب تقريره في كتاب مثل هذا. وسأسرد مع ذلك أقوال بعض المتعلمين والدراويش فيما يتعلق ببيان إيمان العامة

وكل من يرتاب في وجود الأولياء يُرمى بالمروق ويتلى للحكم عليه نص القرآن: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). ويعتبر هذا النص كافياً للدلالة على أن هناك طبقة من الأفراد متميزة على البشر العاديين. وقد نتساءل من هم هؤلاء الأشخاص أو ما حالهم؟ والرد على ذلك أنهم أشخاص قصروا أنفسهم على عبادة الله واحتفظوا بإيمان صادق، ومن الله عليهم بالقدرة على فعل الكرمات تبعاً لقوة إيمانهم

يسمى أقدس الأولياء (قطباً)، ويحمل هذا اللقب - على رأى بعضهم - رجلان، ويقول البعض الآخر أربعة. وتعني عبارة (قطب) محوراً، ومن ثم أطلقت هذه الكلمة على الولي الذي يثق به الناس ويتبعونه، ويطلق هذا اللفظ للسبب نفسه على الحكام الزمنيين أو السادة الإجلاء. وقد أخبرت أن الرأي القائل بأربعة أقطاب خطأ شائع، أصله توالي ذكر عبارة (الأقطاب الأربعة) التي تشير إلى أشهر مؤسسي الطرق الصوفية الرفاعية والقادرية

ص: 28

والأحمدية والإبراهيمية؛ ويُعتقد أن كلاًَّ من هؤلاء كان قطب زمانه؛ وقيل لي أيضاً أن الرأي القائل بقطبين خطأ عام أساسه اسمان: (قطب الحقيقة) و (قطب الغوث)، لا يختص بهما على الأصوب غير شخص واحد فقط. ويطلق الذين يعتقدون بوجود قطب واحد عليه عبارة (القطب المتولي) وهو الحاكم الآن، والذين يعتقدون بوجود قطبين على القطب العامل. ويحكم القطب الذي يراقب الأولياء جميعهم، سواء أكان هناك قطب آخر أم لم يكن لأنه إذا وجد يكون دون الأول، أولياء متفاوتي الرتب يقومون بأعمال مختلفة مثل النقباء والإنجاب والإبدال الخ؛ وهم يعرفون وظائف بعضهم بعضاً، وقد يعرف ذلك الأولياء الآخرون

ويقال أن القطب كثيراً ما يظهر ولكنه لا يعرف. وكذلك أتباعه ذوو السلطة.

ومع أن القطب يختفي دائماً فإن أماكن وجوده معروفة، ولكنه قليلاً ما يظهر فيها. والمعتقد أن القطب يكون فوق الكعبة. وهو يصيح مرتين في جوف الليل قائلا:(يا أرحم الراحمين)، فيردد المؤذنون حينئذ ذلك الدعاء من مآذن الكعبة. وقد سألت حاجاً فاضلاً في هذا الموضوع فأقر لي أنه رأى بعينيه إماماً مرتباً ليصيح هذه الصيحة. ولا يعرف ذلك غير القليل من الحجاج. ويعتقد مع ذلك أن سطح الكعبة مركز القطب الرئيسي. ويفضل هذا المجهول الموقع مركزاً آخر بباب القاهرة المسمى باب زويلة، وهو في الطرف الجنوبي من ذلك القسم الذي يكوّن المدينة القديمة وإن كان في قلب البلد الآن؛ فقد امتدت العاصمة كثيراً نحو الجنوب والغرب. ويسمي العامة باب زويلة (باب المتولي) لاعتقادهم أنه مركز هذا الكائن المجهول. ومن وراء أحد مصراعي الباب العظيم الذي لا يقفل أبدا فضاء صغير يقال إنه مكان القطب. ويقرأ الكثير من المارين الفاتحة، ويتصدق البعض على سائل يجلس هناك، ويعتبره الرعاع أحد خدام القطب. ويدق المصابون مسماراً في الباب لفك السحر، كما أن المصابين بوجع الأسنان يخلعون سناً ويولجونها في أحد شقوق الباب أو يلصقونها به بأي حال آخر حتى يضمنوا عدم إصابتهم بالمرض نفسه. وكثيراً ما يحاول بعض الفضوليين الاختباء وراء الباب آملين عبثاً اختلاس النظر إلى القطب لعله يظهر هناك. وللقطب في مصر مراكز أخرى أقل شهرة. أحدها في قبر السيد أحمد البدوي بطنطا، والآخر في مدينة المحلة وغيرها. ويعتقد أن القطب ينتقل من مكة إلى القاهرة أو

ص: 29

من مكان إلى آخر في لحظة. ولا يقتصر القطب على سكنى أماكنه العديدة المفضلة وإنما يتنقل في أنحاء العالم بين جميع البشر من مختلفي الأديان متخذا شكلهم وملبسهم ولغتهم ويوزع عليهم بواسطة أتباعه الأولياء أحكام القدر نعما ونقما. وحينما يموت قطب يتولى غيره مكانه في الحال

ويروي الكثير من المسلمين أن إلياس، ويخلطه العامة بالخضر، كان قطب زمانه، وأنه يوليّ الأقطاب المتعاقبين إذ يقررون أنه لم يمت ويزعمون أنه شرب من عين الحياة. ويبدو أن اعتقادهم في القطب مأخوذ مما قص علينا في التوراة عن إلياس ورفعه إلى السماء، وانطلاقه من مكان إلى لآخر تحمله روح الله، ومنحه أليسع سلطته الخارقة للعادة وتقليده إياه وظائفه، وخضوع الرسل الآخرين له ولوليه المباشر. وينبذ بعض الأولياء لذات الدنيا وصحبة الإنسان ويعكفون على التأمل في السماء وينقطعون للصلاة متوكلين على العناية الإلهية لسد حاجاتهم، إلا أن خلوتهم تعرف فيحضر العرب لهم الطعام يومياً. وهذا يذكرنا مرة أخرى بقصة إلياس إذا وضعنا كما يرى بعض الناقدين، كلمة (عرب) بدلاً من لفظ (غربان) في الآيتين الرابعة والسادسة من الإصحاح السابع عشر من سفر الملوك الثاني:(وقد أمرت (العرب) أن تعولك)، (وكانت (العرب) تأتي إليه بخبز)

ويقال إن القطب يكلف بعض الأولياء القيام ببعض الأعمال الشاقة حسب قول محدثي، ويقال لهؤلاء الأولياء (أصحاب الدرك)، وقد فسرت لي هذه العبارة، ولا أعلم على أي أساس، بمعنى المراقبين. وقد حكى لي الحكاية التالية لبيان وظائف هؤلاء قال: اشتدت رغبة أحد تجار هذه المدينة الأتقياء في أن يصير ولياً، فتوجه إلى آخر ينتمي لهذه الطبقة المقدسة فتوسل إليه أن يساعده على التشرف بمقابلة القطب. وبعد أن احتمل الطالب امتحاناً صارماً لمعرفة بواعثه طلب منه أن يتوضأ مبكراً في الصباح التالي ثم يقصد مسجد المؤيد حيث يوجد بإحدى زواياه باب زويلة أو المتولي السابق ذكره، فيقبض على أول من يراه خارجاً من الباب الكبير لهذا المسجد. وفعل الرجل ما قيل له، وكان أول من خرج رجل شيخ مهيب المنظر ولكنه رث الثياب يلبس زعبوطاً من الصوف أسمر اللون، وقد دل ذلك على أنه القطب. فقبل الطالب يده وتضرع إليه أن يقبله بين أصحاب الدرك. فقبل القطب التماسه بعد تردد طويل ثم قال: (التزم القسم الذي يشمل الدرب الأحمر وما

ص: 30

يجاوره). وفي الحال وجد الطالب نفسه ولياً، ولاحظ أنه يعرف أشياء تخفى على البشر العاديين، إذ يقال إن الله يعلم الولي جميع الأسرار اللازم معرفتها. ويقال عادة إن الولي يعلم الغيب ويبدو هذا مناقضاً لما نقرأه في عدة مواضيع من القرآن إنه لا يعلم الغيب غير الله. إلا أن المسلمين وهم قلما يرتبكون في مناقشة ما، يبينون أن عبارات القرآن يقصد بها معرفة الأسرار بمعناها المطلق وأن الله يطلع الأولياء على مثل هذه الأسرار كلما شاء ذلك

استدراك:

وردت المقالة السابقة تابعة للفصل التاسع، والصواب أنها ابتداء الفصل العاشر:(الخرافات)

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 31

‌شباب الجيل

للأستاذ حسين الظريفي

إن للموطن من شبانه

كل ساعٍ رافعٍ من شانه

طائرٍ آناً على طائرٍ

أصبحت في الجوِّ من عُقبانه

وعلى دبابة آونةً

يتحدى الموت في ميدانه

ومن المدفع في قبضته

يُرسل الحاصد من نيرانه

في يديه قوة من قلبه

جازت الممكن من إمكانه

يتلقى الخطب في صدرٍ له

عامرٍ بالمحض من إيمانه

لم يبت في قلبه من موضعٍ

لسوى السعي إلى أوطانه

وهو في شرخ شباب ناضرٍ

يسحب الأذيال من ريعانه

كتب الله لنا النصرَ به

وجميل الفضل من إحسانه

(بغداد)

حسين الظريفي

ص: 32

‌الحرب في البحر

للأستاذ عبد الرحمن البناء

رِكبوا الهولَ خيفةً أن يُضاموا

وَمِن الصعب أن تُضامَ الكرام

أعلنوا الحربَ والمدافعُ ثارت

بِبَراكِينِهَا وأودى السَّلام

ومشوا تحتَ وابلٍ من حريقٍ

فوقَ بحرٍ أمواجُهُ ألغام

ثَبتوا كالِجبالِ فوق جِبالٍ

ماخِراتٍ بهم وُهم أعلام

الأساطيلُ والقنابلُ أفنَتْ

ما بنَتْهُ السيوفُ والأقلام

إن تَرامَتْ ما بينَها بالمنايا

ضاقَ ذَرعاً بمن تُصيبُ الْحِمام

أو أرادت إفناء مُلْكٍ عَتِيدٍ

لم يَحل دون قصدها استحكام

غير أنَ القَضاَء قادَ إليها

طائراتٍ قضاؤها إبرام

فرَمى مَخْزِنَ العِتادِ شُواظٌ

من لَهيب فَشَبَّ فيها ضَرام

غَرِقَت ما نجا من الناسِ إلا

بعض ركاّبها وفي الماءِ عاموا

ومتى تَغْرَقُ النفوسُ ببحرٍ

من نجِيعٍ ترسو به الأجسام

وَسَفِينٍ تَنُوءُ باُلْجْندِ مَرَّتْ

وعلى الجندِ هيبةٌ واحترام

كُلُّ فرْدٍ شاكي السلاح قَوِيٍّ

مِلْءُ فيهِ على العدوِّ انتقام

حَرَسَتْها لدى الوغَى طائِراتٌ

غير أن الوغى لها أحكام

باغتتها غوَّاصةٌ بشظايا

لا يفل الحسامَ إلا الحسام

جَنَحَتْ للمغيبِ حيرَى فغابت

وتدلَّى على الضياء الظلام

نَزَلَتْ كالستائرِ بعد فُصولٍ

مَثَّلَتْهَا لمن وعي الأيام

خطَرُ الغوَّاصات قد زادَ لَّما

غَرِقَتْ في دُموعِها الأيتام

كلما أبحرَت وغاصت لفتكٍ

غاص منها في البحر جيشٌ لُهام

إن للغواصاتِ في البحر حرباً

وقفَت عند حدِّها الأفهام

غرقٌ عاجلٌ وفتكٌ ذريعٌ

وصِرَاعٌ دامٍ وَمَوْتٌ زُؤام

هي حوتُ الوغى وفي طرَفيها

للأساطِيلِ مِعْوَلٌ هدَّام

تلبَسُ الماَء أن رأتْ رَمْيَ رامٍ

مثلما يلبسُ الدروعَ الهمام

ص: 33

سُجِّرَ البَحْرُ فهو ميدانُ حربٍ

فيه للنارِ والحديدِ ازدحام

ملأتْ جوفَهُ البوارجُ ناراً

وَشَوَتْ لَحْمَ حُوِتِه الألغام

(الطرابيدُ) حيثُ تُلقى بلاءً

ما لنفسٍ من البلاءِ اعتصام

وَدَوِيُّ المدمِّرَاتِ كأن ال

أرضَ مادت وللجبال اصطدام

وأباة تَذبُّ عن شرفِ النف

سِ وَيحُلو لنفسِها الإقدام

أسكتوا الِمدفعَ الثقيل بحزمٍ

من حديدٍ وهمْ دَمٌ وعِظام

أينما ولَّوُوا الوجوه رمتْهُم

قاذفاْتٌ من الجحيم ضِخام

شهدَ الله والتواريخُ أن الحربَ في البحرِ كلُّها إيلام

(بغداد)

عبد الرحمن البناء

ص: 34

‌البَريدُ الأدبيّ

الصفاء بين الأدباء

كنت قد نشرت في (الرسالة) كلمة أقول فيها: (مما يسترعي الالتفات أحياناً تلك اللغة التي يخاطب بها بعض الأدباء زملائهم. فتراهم يقولون: (زميلنا أو صديقنا فلان يطلب إلينا كذا، ونحن نقول له كذا، والأجدر به أن يسألنا كذا) إلى آخر هذا الكبر والتكبر في التعبير)

وظاهر من الروح هذه الكلمة أنى أحض على توثيق صلات المودة الصافية بين الأدباء بدعوتهم إلى نبذ الألفاظ التي قد تحدث في نفوس زملائهم شيئاً من الامتعاض

ولكن الدكتور زكي مبارك فهم الأمر على وجه آخر فإذا هو يتفضل بزيارتي ليسألني: (أحقاً أنا أنكر أن يشرف الناس أنفسهم بالانتساب إليّ؟) يا للعجب! أهكذا يمكن أن تؤول المقاصد أحياناً بضدها؟!. . . ثم سألني أيضاً فيما سألني عن المقصود بهذه الكلمة. فقلت له: ما من أديب واحد قد عنيته بالذات؛ إنما هي كلمة عامة للنفع العام. ولئن كان لابد من مناسبة أوحت بهذه الكلمة فربما كانت مقالة الأستاذ عباس العقاد التي يشكر فيها للدكتور طه حسين إهداءه إليه

(دعاء الكروان). في الحق أنني لم أجد بالمقال الرقة التي كنت أنتظرها، واستأت في نفسي من الأستاذ العقاد بعض الاستياء، وأنا الذي يعتقد دائماً أنه يخفي وراء قناع الكبر والتكبر نفساً طيبة تتفجر إذا اطمأنت بأجمل عاطفة وأنبل إحساس. فالذي يستطيع التأثير في نفوسنا بكتاباته الإنسانية عن الكلب (بيجو) لابد أن يحمل نفساُ خليقة أن تفيض بالمودة نحو إنسان!

تلك هي المناسبة يا دكتور زكي. ولكنك شئت أن تحمل الكلمة على أنها غمزة مني لك. وأنا أبعد الناس عن الغمزات خصوصاً إذا تعلق الأمر بشخصي. . . فأنا لم أنشر قط يوماً كلمة تعمدت بها إيذاء أديب في شعوره. أنا الذي يجرؤ مهاجمة المبادئ والنظم إلى حد التعرض للخطر. . . لا أجد من اللائق بأديب أن يهاجم أديباً ليخدشه في كرامته. . . لأن الأدب قبل كل شيء مودة ورحمة وصفاء. . . على هذا الوجه فهمت دائماً الأدب. فالأدب هو صنع الجمال. وعلى من يصنعون الجمال أن ينطووا على نفوس جميلة. وأنا الذي لا يختلط بالناس والأدباء إلا قليلاً لما في طبيعتي من وحشة وكآبة أشكو منهما، تجدني مع

ص: 35

ذلك أحب الأدباء وأقدرهم ولا أقول فيهم قولة سوء. . . ولعلك لم تسمع مني غير ذلك. على أنك أيها الصديق العزيز، وأنت تأخذ كلمتي على أنها موجهة إليك قد ذكرت لي أسباب ظنك، فتحريتها بعد انصرافك، فاتضح لي أنك على حق، وأن الكلمة ينبغي أيضاً أن تنصرف إليك، فقد تستعمل أداة التعظيم في مخاطبة الزملاء من الأدباء. فماذا يضيرك أن أشكو منك ومن كل أديب يسهو عن واجبات التواضع والمودة والمحبة التي تؤلف بين نفوس الأدباء جميعاً وتجعل منهم (دولة متحدة مقرها حديقة الصفاء الغناء)

وبعد فليسمح لي الدكتور زكي أن أوجه إليه كلاماً وجهته إلى الأستاذ أحمد أمين منذ ستة أعوام، فقد تثمر بهمته ما فيه من فكرة خيرة. لقد قلت وقتئذ: (لا شيء في الوجود أقوى من الابتسامة؛ ولكن. . . من ذا الذي أعطى القدرة على الابتسام الصافي الجميل في كل موقف وفي كل حين؟ أهو الجبار وحده؟ ألا ترى معي أن الجبروت إنما هو الصفاء؟

(إذا أردت أن تسلك طريق السلام الدائم، فابسم للقدر إذا بطش بك، ولا تبطش بأحد). . . تلك كلمة لعمر الخيام. أن كنت من رأيي في كل هذا، فإن لي عندك حاجة: أن تنثر معي تلك الابتسامة بين الأدباء، فإن الأدب شيء جميل، هو جنة لا صخب فيها، وهو معبد لا تدخله الأحقاد. إن أعجب ظاهرة في أدبنا أنه لا توجد فيه صداقات عظيمة جديرة أن يتحدث عنها تاريخ الأدب، تلك الصداقات التي نراها في آداب الحضارات الكبرى قد أنتجت من الرسائل والأخبار والآثار ما لا يقوم بمال. ما الذي يعوزنا نحن؟ أهو شيء في الخلق؟ أم هو ضعف في النفس؟ أم هو نقص في الصحافة؟ لست أعلم؛ إنما الذي أعلمه: أن الصداقة الخالصة بين رجال الأدب والفكر، هي أظهر دليل على نضوج هذا الأدب وهذا الفكر

توفيق الحكيم

نقص الصفحات في الجرائد والمجلات

تنفيذاً للأمر العسكري القاضي بنقص الصفحات في الجرائد اليومية إلى أربع، وفي المجلات الأسبوعية إلى أربع وعشرين، تصدر الرسالة ابتداء من هذا العدد على الشكل الذي أوجبه هذا الأمر مراعاة لظروف الحرب وما صارت إليه وسائل النقل وإنا لنرجو

ص: 36

كتاب الرسالة أن يقتصروا فيما يبحثون على المهم، وفيما يكتبون على المفيد، حتى تنجلي عن العالم هذه الكروب التي غشيت الناس في كل سبيل من سبل العيش، وفي كل مرفق من مرافق الحياة

من غزل الملوك

طلعت علينا رسالة (أحمد) كعادتها زاخرة بالأبحاث العلمية والطرائف الأدبية، والومضات اللغوية. فكان من بين تلك المباحث مبحث جليل للأستاذ (عبد الله مخلص) جمع فيه نتفاً من سلطان الحب، وحب السلاطين، ترويحاً لنفوس القراء المكدودة في هذه المحن. ونحن مع تقديرنا لهذا اللون من ألوان البحث لا نحب أن يتواضع صاحبه فيلده طفيلياً يعبث به الزمن ولا تستمرئه العقول!

فهات من هذه الناحية بالعجب العجيب. . . فان البحث عنها شاق، والسير فيها مخيف. فهي مبثوثة في بطون الكتب الممزقة الأوصال، مشوهة المراجع، محفوفة الجوانب. . . وليست من أدب المعدة. وإنما هي من أدب الروح.

(السكرية - دار القاياتي)

حسن القاياني

عضو مجلس النواب

لابد للإسلام من مؤتمر

قرأت المقال القيم الذي به افتتحتم العدد رقم (456)، وفيه وصفتم حال المسلمين ودعوتم إلى عقد مؤتمر إسلامي. فقلت: مرحى لهذا الشعور السامي، ومرحباً بهذه الدعوة المباركة!

ولست أكتمكم أن تكراركم القول فيه: أن مسلمي الحاضر هم (أعقاب) مسلمي الماضي، ذكرني أشياء ترددت طويلاً في أمر التحدث بها. لقد ذكرني كيف يحلو للمدخن أن يداعب لفافة التبغ حين تتناولها أنامله أو تطبق عليها شفتاه؛ وكيف يلذ له أن يشاهد عمود الدخان يصّاعد منها رقيقاً أو كثيفاً، قائماً أو لولبياً ويلهو بالنفخ عليه، ليغير وجهته أو يقطع أوصاله أو يشتته كالهباء، وكيف يستسيغ عبوره الفم إلى الحلق أو الخيشوم، ويكاد يتولاه

ص: 37

بالمضغ واللوك ليمتع به حاسة الذوق، فوق ما يسدي به إلى حاسة الشم من فضل ومتعة، ثم ذكرني كيف يعامل لفافته، بعد أن يقضي منها وطره، فتجفوها أنامله إذ تدنو نارها ويلين طرفها، وتنفر منها شفتاه إذ تترطب وتصطبغ، ويمجها ذوقه إذ ترشح منها عصارة، ويمقت خيشومه رائحتها القوية النتنة؛ وكيف يقضي عليها بالخنق في إناء أو بالطرح في الطريق، ويحول عنها بصره مشمئزاً، ثم ينساها كأن لم تكن. ذكرت هذا وذاك حين خطرت ببالي (السبارس) أعقاب اللفافات، وما كنت لأورد هذا التشبيه، لولا أنه جاء عفواً وفرض نفسه عليّ؛ وما كنت لأستبيح لنفسي توجيه هذا النقد، لولا أنه يشملني كمسلم

أما فيما يتصل بعقد مؤتمر إسلامي، فأذكر أنه عقد واحد في القدس قبل عشر سنوات اشترك فيه ممثلون للمسلمين في جميع أقطار المعمور؛ وأنه اتخذ مقررات ذات بال، وأنشأ مكتباً دائماً ظل يعمل بضع سنوات، ومن الضرورة القصوى أن تستمر الدعوة إلى مؤتمر إسلامي دوري، يعقد مرة في كل بضع سنوات في إحدى العواصم الإسلامية. ولست أرى الحرب منعاً لذلك، إذ كل ما فيها أنها تقلل عدد الأقطار الممثلة فيه بعض التقليل. ثم هب أنها تجعل الاشتراك فيه مقصوراً على بلدان الشرقيين الأدنى والأوسط - بل هب أنها تضيق الحلقة أكثر من هذا فتحصره في الأقطار العربية - أليس فيما يبقى من خيراته الشيء الكثير؟ هل من المبالغة أن نقول إن الأقطار العربية قلب العالم الإسلامي ونواته؟ وهل من الخطل أن نحسب الجمع بين رجالات الدين والعلم فيها أمراً قريب المنال، وأن نعد اتفاق كلمتهم على الإصلاح خطوة واسعة نحو العمل الموحد المجدي في سائر أنحاء ذلك العلم؟ كلا، بل هو من واقع الأمور

إنه لمن دواعي الأسف الشديد أن ينجح عضو من جماعة كبار العلماء في (نسج الشكوك حول برنامج الإصلاح الذي اقترحه شبابها المصلحون وأقره أقطابها المخلصون!) - على حد قولكم - ولكن ماذا في هذا البرنامج؟ ألا ينطوي على استعراض لمواطن الضعف، ويوصى بطرق معقولة عملية للعلاج؟ ألا يستنير بهدى الدين، ويبصر بعين العلم؟ فإذا كان كذلك، فمن تكون جماعة (كبار العلماء) تلك التي ترضى لبرنامجها ذاك أن يعطله أحد - صغر - الجهلاء؟!

نحن قوم لم نُرض نفوسنا على التعاون، وعملنا المنفرد أدعى إلى الأمل في النجاح من

ص: 38

عملنا المشترك. فما لنا لا نعمل أفراداً، ريثما نألف العمل جماعات؟ إن المؤتمر الإسلامي الذي سبق أن أشرت إليه لم تدع إليه جماعة أو هيئة. فلم لا يدعو إلى مؤتمر آخر رجل واحد أيضاً؟ من يكون هذا الرجل، وأنَّى لنا به؟ أين أنت يا ديوجينس وأين مصباحك؟ هاته وتعال نبحث معاً!

(القدس)

عصام الشريف

التميع في خضم الجماهير

إذا كان طريق إصلاح هذا الدين الحنيف أن نأتي على أسسه القومية وأركانه المشيدة، ونترك الرغبة في إرضاء الجماهير تتحكم فيه وتصرفه كيف تشاء وكما تهوى، فلا كان إصلاح

ولخير للإنسانية أن يظل الناجي على الشاطئ يشهد الغرقى تحوم فوق رؤوسهم طيور الموتى، وتمتد إليهم يد الفناء من أن يمد إليهم يده لينقذهم فيجذبوه هم نحو الفناء، ويمضوا به صوب الأعماق

ولخير للأزهريين ولرجال الدين أن يظلوا في جمودهم وخمودهم من أن يتحركوا حركة المذبوح، وينتفضوا انتفاضة اليائس الذي يحطم كل شيء، ولا يبقى على شيء

وإذا كان سبيل الإصلاح أن ندع التيار يجرفنا في منحدره إلى القرار فلن يكون إصلاح، ولن يكون فلاح، وإنما هي الفوضى وخيبة الأمل

كتب أحد العلماء الإجلاء في أوائل إبريل بمجلة أسبوعية يقر الناس على الكذب، ويحبب إليهم اختلاق الأكاذيب، ويرغبهم في افتراء القصص الوقائع بحجة المرح والسرور، ومن أجل التفكه والدعابة. وكان من اثر هذه الدعوة السيئة أن استجابت لها إحدى صحفنا الصباحية فنشرت عن مناظرة تقام ببناء كلية الشريعة؛ يشترك فيها بعض أعلام الفكر الحديث. وما كاد الوقت يحين حتى توافد الناس إلى الكلية من كل صوب لسماع هذه المناظرة. وإذا بالواقع يروعهم، وبالحقيقة تواجههم، وإذا بها (كذبة إبريل)

فليهنأ الشيخ بنجاح دعوته ونفاذ رغبته!

ص: 39

وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل جاءت ثالثة الأثافي - كما يقولون - إذ نشرت الأهرام تكذيباً للخبر وأردفته بكلمة لأديب أزهري، كان أكثر استجابة لنداء شيخه الوقور وفيه يقول:(وشكراً للأهرام على مداعبتها اللطيفة، وكل (إبريل) والأمة جميعها بخير وسلام)

أيها الذين آمنوا بالله ورسوله الكريم، لن يكون إصلاحاً تميعنا ونسياننا لتعاليم من كان يمزح ولا يقول إلا حقاً، ولن تكون نهضة فقداننا لمقوماتنا وشخصياتنا، فننسى أنفسنا أمام هذه الفتنة القاسية

رويدكم يا دعاة الإصلاح ما دام مركبه سيحملكم إلى شاطئ غير الذي نروم، وسيجعلكم تنحدرون من القمة إلى الهاوية، بدل أن ترفوا الناس إلى المعتصم.

السيد جمعة

من عثرات الأقلام

1 -

جاء في مقال (أثر الآداب الأجنبية)(في العدد 457): وتكلم ما راق له الكلام، والصواب: ما راقه الكلام، على ما في مختار الصحاح والمصباح وغيرهما

2 -

في بحث (كتاب سحر العيون) في (العدد 456) نسب (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) في موضعين إلى علم الدين السخاوي، والصواب شمس الدين السخاوي المتوفى سنة 902، وأما علم الدين السخاوي فمقرئ مشهور توفى سنة 643

3 -

في مبحث (كتاب سحر العيون)(في العدد 457) ثم قدم إليها مستقلاً. والصواب: ثم قدمها مستقلاً. على ما في الأساس والمصباح المنير وغيرهما

4 -

في ترجمة (ابن خرداذبة)(في العدد 457): (بحوثاً طلية) والصواب: بحوثاً لها طلاوة

5 -

في مقالة (كتاب سحر العيون) - في العدد 458 - واتصل بعلم الدين السخاوى. الصواب: واتصل بشمس الدين السخاوي، وهو المؤرخ الناقد المشهور مفخرة مصر بل الشرق في القرن التاسع الهجري.

أحمد صفوان

الرسالة الصديق

ص: 40

يقول الدكتور زكي مبارك: (. . . وإن أدبك لا يسمح بأن تعرَّض بكتاب له مثل مكانتي في نفسك وفي الرسالة الصديق. . .) فالكاتب قد أخطأ في وصفه (الرسالة) بصفة (الصديق) وأظنه جرى في أسلوبه هذا على قياس (رجل قتيل. وامرأة قتيل) بتذكير فعيل في المثالين. نعم هذا صحيح إذا كان (فعيل بمعنى مفعول) أما إذا كان (فعيل بمعنى فاعل) فيجب إلحاق هاء التأنيث بفعيل في حالة التأنيث. ولفظ (صديق) هنا بمعنى فاعل. إذن كان من الصواب أن يقول: (الرسالة الصديقة) كما نقول: الرسالة العظيمة، والكتابة البديعة، ولا يصح خلاف ذلك. . .

(القاهرة)

حسين الحوفي

ص: 41