المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 460 - بتاريخ: 27 - 04 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٦٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 460

- بتاريخ: 27 - 04 - 1942

ص: -1

‌الرجل المنتظَر.

. .

بهذه الرجفة العظمى تبدد النظام العالمي كله؛ فكأنما اجتمع اللاعبون بأقدار الأفراد ومصاير الأمم وقالوا لهتلر أجرأ العابثين: (بَوِّظ)!!

وهاهم أولاء يتحكمون في قطع اللعب، فيجمعون ثم يفرقون، ويبددون ثم ينسقون، وكل ما ورث الناس أو كسبوا من أديانْ ودساتير وقوانين وأنظمة وسنن قد أصابه الإلغاء أو التعليق. والواقع أن العالم العربي بأجمعه ليس منه في هذه اللعبة العالمية لاعب؛ إنما هو تلك القطع الجامدة التي تُقسّم وتُقدَّم وتُصك ثم تذهب وتجيء بين اللاعبين دواليك حاملة على وجوهها المُلس قِيَمها الكسبية المختلفة من (الدش) إلى (البيضة). فإذا طلبنا أن يكون لنا في الدَّست حساب وليس فينا حاسب، أو يعود علينا من ورائه اكتساب وليس منا كاسب، كان ذلك من خداع النفس بالمجال وتعليلها بالباطل. والمتوقع الذي لا حيله فيه أن نظل كما نحن لعبة تلعب أو نُهبة تُنهب حتى يبعث الله فينا الرجل الذي ننتظر

ولست اعني بالرجل الذي تنتظره الأمة العربية: (المهديَّ) أو (الإمام) أو (المسيح)، فإن ظهور أولئك أحدِهم أو كلهم شرط من أشراط الساعة؛ فانتظار الناس إياهم كانتظار الطامع الممطول راحة الفوت، أو المريض المشفى سكينة الموت؛ وإنما أعني الرجل الذي ينتظره الناس انتظارهم طلعة الشمس، وتنتظره الأرض انتظارها رجعة الربيع! هو كالشمس لأنه يرسل النور والحرارة؛ وهو كالربيع لأنه يبعث الحياة والنضارة. وظهوره كطلوع الشمس ورجوع الربيع سنة من سنن الله في الكون، يجرى بها حكمه كلما شاء للعقول الحائرة أن تهتدي، وللقلوب الشتيتة أن تتحد، وللنفوس العليلة أن تصح

كان هذا الرجل فيما خلا من الدهر يسمى رسولاً؛ فلما خُتمت الرسالة وانقطع الوحي، كان يظهر فترة بعد فترة في صورة ملك أو فاتح أو حاكم أو عالم مفكر، فيبين ما التبس من معاني الحق، ويجدد ما انطمس من معالم الطريق. وكان نجاحه في أو فشله في التجديد والإصلاح أثراً من آثار قوته أو ضعفه؛ فهو بين أصحاب السلطان يكون أسرع نجاحاً وأوسع إصلاحاً منه بين أصحاب الفكر. وقلَّما يأبه الناس لدعاة التجديد بالكلام ما لم ينتشر صداه في الأرض ويتسع مداه في الزمن: لأن أصحاب الكلام إذا ملكوا الرأي لا يملكون التنفيذ، وإذا استطاعوا التشريح فلا يستطيعون الحكم. وقطرة القلم قد يفطن لها الفؤاد اليقظ، ولكن وخزة السيف يثور بها الجسد الغليظ. وما كانت الوثبات الاجتماعية التي

ص: 1

خلقت ناساً غير ناس، وأبدلت نظاماً من نظام، وفصلت تاريخاً من تاريخ، إلا نتيجة لدفع المصلحين المسلطين الذين وضعوا الكتاب في يد والسيف في يد، ثم كتبوا دستور الإصلاح بالمداد والدم

ولهذا الرجل الذي تنتظره الأمة العربية آيات تمهد له وتدل عليه: فمن الآيات المهيأة لظهوره انحلال الأخلاق فلا تتماسك في قول ولا فعل، وتتقاطع القلوب ولا تتواصل في وطن ولا دين، واستئثار النفوس فلا تتعفف في صداقة ولا نسب، وجموح الشهوات فلا تنقدع بلين ولا شدة، واستبهام المذاهب فلا تستبين بنجم ولا شمس، وانقطاع الأمة عن ركب الحياة فلا تتحرك قِبلة ولا دِبْرة

ومن آياته المنبئة بوجوده أن يكون لغيره لا لنفسه، ولأمته قبل أسرته، ولإنسانيته بعد وطنيته. وبهذه الصفة الأخيرة يختلف المصلح القومي عن الرسول. ومصداق تلك الآيات أن تموت (أنا) في لسانه وتحيا في ضميره، ويتحد في ذهنه وجود ذاته بوجود شعبه؛ فهو يحس ألمه لأنه مجتمَع شعوره، ويدرك نقصه لأنه مجتلى عقله، ويملك القيادة لأنه مظهر إرادته. وهو في سمو نفسه ونزاهة هواه قد ارتفع عن أوزار الناس وأقذار الأرض؛ فلا يطمع لأن غرضه أبعد من الدنيا، ولا يحقد لأن همه ارفع من العداوة، ولا يحابي لأن فضله أوسع من العصبية، ولا يقول قولاً أو يعمل عملاً إلا إذا وافق الدين الذي يعتقده، والمبدأ الذي يؤيده، والشعب الذي يقوده

ثم هو في ألمعية ذهبه ورصانة لبه وصلابة عوده وبعد همته يعظم على الأحداث، ويعلو على الحوائل، فلا ينضح رأياً إلا أمضاه، ولا يرمي غرضاً إلا أصابه، ولا يروم أمداً إلا أدركه

هذا الرجل الملهم الموهوب هو الذي ترقب ظهوره كل فرقة، وترصد نجمه كل أمة. ولقد ظهر أمثاله في بعض الأمم وهي على شفا الهاوية فأعادوها إلى الحياة وردوها إلى الجادّة. ولا تزال الأمة العربية تحدق النظر العبران في الأفق الغائم ترجو أن تتشقق الحجب عن نوره. فهل آن يا أرحم الراحمين أوانُ ظهوره؟

أن القطعان المهملة تدخل في عهدة الذئب؛ وإن القوى المتفرقة تُجمع في حساب العدو؛ وإن اللآلئ المبددة إذا لم يضمها سلك لا ينتظم منها عِقد؛ وأن الأمة التي لا تملك يوم الجِد

ص: 2

والفخار إلا أن تقول: كنت وكنت، لا يزيد قدرها على قدر الرماد البارد الذي يقول: كنت فيما مضى جمرَةً متقدة!

رباه لقد امتد بنا التيه في مجاهل الأرض إلى قرون، وفسد في نفوسنا الإيمان بالحياة حتى تحول إلى ظنون. فمتى نخرج من التيه يا رباه خروج موسى، ونتبوأ من صدر الحياة العاملة مكان محمد؟ اللهم إنا نسألك الراعي الذي يطرد الذئب، والنظام الذي يجمع الحب، والدليل الذي يحمل المصباح، والقائد الذي يرفع العَلم، والأستاذ الذي يعلمنا أن نصنع الإبرة والمدفع، ونشق المنجم والحقل، ونوفق بين الدين والدنيا، ونوحد بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة. وكل أولئك يا رباه يجمعهم رجل واحد هو أشبه الناس بالمهدي المنتظَر والإمام المرتَقب والمسيح الموعود!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌في ساحة العدل

للدكتور زكي مبارك

قبل أن امضي في الكلام عما وقع في (ساحة العدل) أذكر أن فرصةً جميلة أتاحت لي مقابلة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ (محمد مصطفى المراغي) فتلطف - حفظه الله - وقدَّم إليَّ ملاحظات سديدة على بعض ما مرّ من الآراء في هذه الأحاديث؛ وكان كلامه ما نصُّه بالحرف:

(أنت متجه إلى إلقاء تبعة المعصية على حواء، وفاتك أن تذكر أن عدم تماسك آدم هو السبب في تمّرُد حواء)

والواقع أنى طفت بهذا المعنى في (حديث السِّدرة). ولكن عبارة الأستاذ الأكبر دقيقة جداّ، وهي من الإيجاز النفيس. ولعل فيها رداً على من غضبوا جاهلين يوم دعوناهم إلى الحزم في معاملة النساء

سريرة آدم

ضاق صدر آدم بما وقع من قرب الشجرة المحرَّمة، وفاض كرُبه حين تذكَّر أن حديث الله مع الملائكة كان مقصوراً عليه فقد قال:(إني جاعلٌ في الأرض خليفة) ولم يذكر حواء، وكذلك سكتت الملائكة عن حواء، فكيف يفوته أن يلتفت إلى هذا التفرد بالتكليف وهو غاية في التشريف؟

ثم تذكَّر أن الله عرَض الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها؛ وتشجَّع آدم فحملها وهو لا يدري أن شجاعته لم تكن إلا ضرباً من الظلم والجهل

لو كان آدم يعلم الغيب لأعلن عجزه عن حمل الأمانة بعد نكوص السماوات والأرض والجبال، ولكن شبابه فَتَنه وأغواه فتوهم أنه يقدر على جميع الأثقال

سيقف آدم في ساحة العدل وهو نادم خَزْيان. . . ألم يضيِّع الثقة بمواهبه السامية؟ ألم ينهزم أمام امرأة أعظم أسلحتها البكاء؟

في ساحة العدل ستحتشد الخلائق من الملائكة والجن والطير والحيوان، وذلك أول معرض يعرفه التاريخ. ولن يكون آدم متفرِّجاً في هذا المعرض؛ ولكنه مع الأسف الموجع سيكون مَسلاة المتفرجين. والويل كل الويل لمن يصبح فُرجةً لأهل

ص: 4

الفضول، ولو كانوا من الأشراف، إن جاز لأهل الشرف أن يشهدوا موقفاً يتأذّى به رجلٌ شريف

سيقف آدم متهماً، آدم الذي اصطفاه الله، ولم يسمع فيه أقوال الملائكة المقربين؛ فبأي وجهٍ يقف في قفص الاتهام، وأمام القاضي الذي منَّ عليه بنعمة الوجود؟

جهنم أروح من الوقوف في ساحة العدل بالفردوس

كان آدم يتمثل من لمحة إلى لمحة شماتة الشامتين؛ ثم يخفّ كربه كثيراً أو قليلاً حين يتذكر أن الذين اعترضوا على خلقه هم الملائكة، والشماتة لا تجوز من أصحاب الأرواح النورانية

ولكن الجنة فيها سكان لا يمتّون إلى النور بِعرق، ومن حقهم أن يشمتوا في المخلوق الذي يفوتهم بمراحل ابعد مما بين الأرض والسماء

أتستطيع المعصية وهي حقيرة وخسيسة ودميمة أن تمنح الأنذال فرصة التعالي على الأبطال؟

لو كان آدم يعرف أن المعصية ستجعل من حق الحشرات أن تتسابق في الزحف على البطون لتشهد موقفه في ساحة العدل. . . لو كان آدم يعرف أن إبليس المطرود سيتبجَّح بأنه أغواه بلا عناء. . . لو كان آدم يعرف أن الله يحبه، وأن استهانة المحبوب بأوامر الحبيب من علائم الخذلان. . . لو كان آدم يعرف أن الموت في الطاعة أشرف من الحياة في العصيان. . . لو كان آدم يعرف، لو كان آدم يعرف!!

طافت هذه الخواطر بآدم وهو في الطريق إلى ساحة العدل فكاد يصعق من هول الموقف. وكاد يتمنى لو تحول إلى حيوان أعجم لا يفقه كنه التكاليف. وهل يستطيع مع المعصية أن يقول إنه أشرف من أي حيوان؟

لقد عصى ربَّه فغوى، فما استعلاؤه وقد هوت به المعصية إلى الحضيض؟

المعصية إثمٌ موبق، ولو جازت على الجبل لحوَّلته إلي هباء. عصى آدم ربه فغوى، فليستعد آدم لحمل جريرة العصيان. وكيف يعصى الله من يعرف أنه خالق الأنوار والظلمات؟ كيف يعصى الله من يعرف انه واهب القدرة على العصيان؟ وهل تكون الشهوة الأثيمة أعذب مذاقاً من العلقم الذي يجترعه من يصد نفسه عن الآثام؟ إن حرمان النفس من

ص: 5

أهوائها في سبيل الطاعة له طعم شهيٌّ جداً، فكيف غابت هذه الحقيقة عن آدم؟ وكيف رضى أن يضام بسبب هواه في مسايرة حواء؟ لو كان يملك محو هذه الخطيئة بأي ثمن لكانت روحه أول مبذول ولكنه لا يملك محو ما وقع، وسيؤدي ثمناُ أعظم من الروح، هو سمعته بين سكان الفردوس، فسيشهدون جميعاً أنه مَدين، وأن عقله لم يعصمه من الانحراف عن جادّة الرشاد. وسيرى بعينيه وجوهاً لا تعيش إلا من اغتياب الأحرار، وهو الذي قدّم الزاد لتلك الوجوه الشوهاء

جَلجَلتْ هذه المعاني في صدر آدم فجلس يستريح تحت إحدى الشجيرات وهو يتمنى لو ضَّل الطريق إلى ساحة العدل، وخطرت له فكرة الهرب ولكن إلى أين؟ وهل من عدالة الله مهرَب؟

ثم تشجع فجأة لخاطر جميل طاف بنهاه، فما ذلك الخاطر الجميل؟ تذكر آدم أن الله يعاقب مرة واحدة ثم يصفح لأنه عظيم، أما الذين يعاقبون على الهفوة الواحدة مرات كثيرة فهم صغار الخلائق. وما على آدم بأس من عقوبة تمر وتمضي ثم يواجه أعماله من جديد وقد تطهّر بالعقاب

وقاضي اليوم هو الله، والعدل مضمون مضمون، ولا خوف من التزيد والإسراف، فليمض آدم إلى المحكمة وهو ثابت القدم رابط الجأش، فما في كل وقت تكون المحاكم إلى ذلك الجبار الرءوف. . . وفي أثناء الطريق ثارت نفسه فدمدم:

(إن الله لا يحكم على آثم إلا بعد أن يتيح له اللوف من فرص المتاب. فكيف يعاقبني لأول هفوة تبدُر مني؟)

فهتف هتاف: تأدب يا آدم، واذكر نعمة الله عليك، فما عاجَلك بالعقوبة إن كان سيعاقبك إلا ليؤكد كرامتك الذاتية بين الخلائق

- التعجيل بالعقوبة مزية؟

- مزية عظيمة، لو كنت تعرف

- أحب أن أعرف

- العقوبة حكمٌ لك لا عليك

- لم أفهم شيئاً، أيها الهاتف

ص: 6

- ستفهم بعد لُحَيْظات، وستندم على أن لم تأكل شجرة التين بفروعها وجذورها

- أرجعُ فآكلها أكلاً لَمَّا؟

- أحترس ثم احترس، فأنت نبيّ، والأنبياء يراعون ظواهر الشرائع قبل أن يراعوا بواطن الحقائق، ترفقاً بمن يغيب عنهم إدراك اللباب من أسرار الوجود

- إذن كان من حقي. . .

- لا حق لك في شيء، فامض خاشعا إلى ساحة العدل

- بدون خوف؟

- بأعنف صورة من صور الخوف، لأن الله يبغض الآمنين أشد البغض

- وكيف؟ كيف أيها الهاتف؟

- لأن الشعور بالأمان بداية الخذلان، والله لا يرضى لك أن تسير إلى الانحلال

سريرة حواء

رأيت حواء بجزع وارتياع أنها لم تُدع لحضور (ساحة العدل) إلا مع الشهود، فما معنى ذلك؟ معناه أنها ترتق إلى منزلة العقاب، ومعناه أن منزلتها في هذه القضية منزلة ثانوية، ومعناه أنها لم تجترح غير الإغواء، وهو ذنبٌ مقسَّم على ثلاثة شخوص: الحية وإبليس وحواء. . . ثم صرختْ:

- أنا الجانية، أنا الجانية، وآدم لم يأكل ثمرة التين إلا من يدي

فهتف هاتف: لن يُنصَب للمرأة ميزان، وهي التي تفرّق بين الابن وأبيه والأخ وأخيه، ولن يغفر الله للمرأة أنها لا تدخل بيتاً إلا شطرتْه إلى شِيَع وأحزاب، وقد كانت وستكون أول مصدر للنزع والشقاق

- لعلك تريد حواء الأولى، أيها الهاتف؟

- حواء الأولى لم تعرف التبرّج

- وأنا متبرّجة. . . أنا؟؟

- نعم فقد شهدُتك تَنْظِمين من حُبوب الِبِسَّلة عِقداً تزيّنين به جيِدك الأغيد، ورأيتك تعصرين الزهر بين كفَّيْك ثم تمسحين بعصيره أجزاء من جسمك البديع لتظهر عليه خطوط وردية أو عسْجَدِية

ص: 7

- وما العيبُ في ذلك؟

- العيب انك لا ترضَين بما قسَم الله لك من الحظوظ

- وماذا أعطاني الله؟ ماذا أعطاني؟

- كل امرأة تقول هذا القول، وما رضيت امرأةٌ عن نصيبها أبداً

- وما نصيبي؟ وهل كان لي من النعيم نصيب؟

- لك آدم يا حواء

- آدم الذي يريد أن يتمتع وحده بجريرة العصيان؟

- تريدين أن تقاسميه أعباء هذه الجريرة؟

- هي جريرتي وحدي، وأنا صاحبة الحق الأول في الوقوف جانيةً (بساحة العدل)

- وترين موقف الجناية من مواقف التشريف؟

- هو فرصة لأن يصبح الجاني على ألسنة جميع الخلائق

- إن كان هذا ما تريدين فاطمئني، فلن تقع جريمة في شرق أو غرب إلا قيل (فتّش عن المرأة). ولن يتنسّك عابد، أو يترهب زاهد، إلا طلباً للسلامة من كيد المرأة. ولن تخلو شريعة من التحذير المخيف، التحذير من حبائل النساء. ولن يرتفع مرتفع أو ينخفض منخفض إلا وفي خياله أن امرأةً نصحتْه فارتفع، أو خدعتْه فانخفض. ولن يبرع أديبٌ أو فنّان إلا وهو مَدين لمخلوقة سفيهة أو حليمة من بناتك يا حواء. ولن ينبع كاتب أو شاعر إلا بوحي يُوحي إليه من إنسانة عليلة الطرف أو صحيحة الفؤاد. ولن يخلو كتابٌ من اسم المرأة، ولو كان شريعة تتلقاها الأرض عن السماء

- أَرحْتَني، أرحتني، أيها الهاتف

- إنما نريح مصدر التعب لنستريح!

جلسة علنية

صدر القرار بان يحاكم آدم في جلسة علنية يشهدها جميع سكان الفردوس، فكان على الملائكة أن يهيئوا ساحة العدل تهيئة تسمح بان يشهدها أولئك الخلائق بلا عناء

وكيف تحضُر جميع الخلائق؟

في الطيور طوائف من الحواضن، والطيور الحواضن لا تترك البيض المحضون ولو

ص: 8

تعرّضت للموت من الظمأ والجوع، فمن المستحيل أن تترك أعشاشها لتشهد محاكمة آدم صاحب حواء

وفي الأنعام بهائم تأكل الطعام وهي مطعونة بسهم الموت، فلا أمل في أن تتحرك لشهود القضاء في ساحة العدل

وهنالك الحمير، وهي لا تعلن عن سرورها بغير النهيق، فمن الخير إلا تحضر مجلس القضاء وصوتُها أنكر الأصوات.

وفي الوجود خلائق لها أبصار، وليس لها بصائر، فمن الحزم أن تُراح من شهود جلسة لا يستفيد منها غير أرباب القلوب

ثم اتفقت آراء الملائكة على أن المراد بعلنية الجلسة إعطاء الفرصة لمن يستطيع الحضور، وليس المراد أن تحضر الخلائق جمعاء، وهل يتيسر لأسماك الكوثر أن تشهد محاكمة آدم وهي تُعرَّض للموت أن طال ثواؤها بالعَرَاء؟

والحق أن الملائكة لم يشهدوا في ماضيهم القديم اصعب من ذلك الموقف، فقد كان عليهم أن يراعوا في تهيئة ساحة العدل طبائع الطير والحيوان والحشرات، فمن الطير أنواع تستريح إلى الأرض، أمثال الحَجَل والكروان والهداهد والطيور المائية، ومن الطير أنواع لا تستريح بغير الوقوف فوق أعواد، فكيف تُعَدُّ الساحة لأولئك وهؤلاء؟ أن ذلك لا يتم بغير متاعب، والجلسة مستعجلة، ولا يمكن طلب التأجيل

وعرضتْ للملائكة مشكلتان في غاية من الخطورة: المشكلة الأولى مشكلة النزاع الذي ثار بين الأسود والقرود بعد فضيحة آدم وحواء، وهو نزاع قد يثور من جديد أن قضى الله على آدم بما يشرح صدور القرود

أما المشكلة الثانية فهي الخوف على الطيور المغردة من عدوان الطيور الجوارح، فالصقر يشتهي الطير المغرد شهوة عارمة، ويكاد يتوهم أن لحم الطير المغرد أطيب من خدود الملاح، وتلك الطيور لن تسكت عن التغريد، لأنها مفطورة على حب الغناء، ولو في حضور الشواهين، والجمال قد يَجنِي على الجميل

قال أحد الملائكة: ولكن نحن في الجنة ولا خوف من بطش الأقوياء بالضعفاء

فقال له صاحبه وهو يحاوره: كنا في الجنة!

ص: 9

- كنا؟

- نعم، كنا، وما فات مات

- أوضِحْ، يا رفيقي، أوضحْ

- كانت الجنة جنة

- فصارت؟

- فصارت كما ترى، ألا تعرف أن آدم عصى ربه فغوى؟

- وما خَطَرُ ذلك؟

- هو خطرٌ فظيع فظيع، وأنا أخشى أن تكون معصيته قدوة سيئة لجميع سكان الفردوس، فسيقول قائلهم: أن ما جاز صدوره عن الكبار يجب صدوره عن الصغار

- وأدم كبير؟

- هو كبير الكُبَراء، وستعرف صدق ما أقول بعد حين

- وإذن تكون معصيته شراًّ مستطيراً، واغلب الظن أن الله سيطرده من الجنة بلا إمهال

- برغم منزلته العالية؟

- خفضته المعصية، فلينزل إلى الحضيض، إلى الأرض التي لا يعرف فيها السعادة غير الديدان، فهي وحدها التي تُرزَق في الأرض بغير حساب

- والنتيجة؟

- والنتيجة أن جلسة اليوم تحتاج إلى حزم، وهي تجربة قاسية، فلنحاول تقسيم الحاضرين إلى طوائف تَفْصِل بينها حواجز، لنأمن الثورة المرتقبة من هياج الغرائز الغافية في

صدور الطير والحيوان. ولهذا اليوم ما بعده يا رفيفي، فان نجحنا في تنظيم هذه الجلسة إلى أن تمر بسلام، فسنكون أهلاً للثقة التي تمنحنا الحق في أن نكون على جميع الخلائق رقباء

اليوم المشهود

كان سكان الجنة تسامعوا بأخبار حواء، ولم يرها منهم إلا الأقُّليون، بسبب احتجازها بين البواسق، وبسبب نفرتها من أهل اللغو والفُضول، وبفضل ما فُطِرت عليه من الدلائل المَدُوف بالكبرياء

والفرصة الوحيدة لأن يروها أجمعون هي حضور محاكمة آدم في ساحة العدل، فمن المؤكد

ص: 10

أنها ستحضر لمواساة فارسها الجميل

خفّ سكان الفردوس لمشاهدة حواء، ولم يتخلف إلا من صدَّته الرعاية الواجبة للأفراخ أو الأشبال

من كان يظن أن الأسماك رحَّبت بالموت لتقضي ساعة أو ساعتين في مشاهدة حواء؟

وتقدم غضنفلوث لتمتطي حواء ظهره المنيع، فدخلت الساحة في عزة لا يظفر بمثلها الملوك

فكيف كانت حواء في ذلك اليوم؟

كانت وكانت وكانت:

كان طرفها الكحيل يَعد ويُخلف في اللمحة الواحدة ألوف المرات، وكأنه جذوات تقتتل في هدوء وسكون

وكان أنفها في ملاحته يتموج تموّجاً نورانيًّا في حدود يوحي بها لحنُها الرنان

وكان صوتها - صوت حواء الجميلة - يشهد بأن حناجر البلابل والعنادل أٌودعتْ حَلقها الرخيم

وكان نحرُها - نحر حواء - مرمراً ينطق. وما أخطرَ المرمر الذي ينطق!

وكان لثناياها بريق يفوق بريق الَحَبب عند فورة الرحيق

وكان لذراعيها استدارة فنية تهتف بأن الله يزيد في الخلق ما يشاء

أما جسم حواء في جملته بلا تفصيل، فهو الوجود في جملته بلا تفصيل

كانت ارقّ من الأزهار في آذار وأعذب من الأعناب في آب

كانت أحلى من وسوسة الأماني في الصدر المكروب، وأشهى من جلجلة المعاني في القلب الموهوب

وكان تثنّيها يوهم بأن قوامها أُلَّف من خطرات تفوق العدَّ والإحصاء

في المكان المحدود من جسمها البديع ألوان وألوان، فكأن كل جزء من أجزاء ذلك الجسم قصيدة تحترب فيها القوافي والأوزان، والألفاظ في الشعر الرائع تشبه الأوصال في الجسم الفينان

كانت حواء في ذلك اليوم. . . كانت وكانت وكانت

ص: 11

فكيف كانت؟ كيف لا كيف، ألم يكف أنها كانت حواء؟

قال الصقر: لو كانت هذه أنثاي لنذرت الصوم عن لحوم الكنار شكراً لله على هذه المنحة الغالية

وقال الأسد: لو كانت هذه أنثايَ لشكرتُ الله بالصفح عن القرود

وقال البلبل: لو كانت هذه أليفتي لابتدعت لحناً يسكر سكان الفردوس

فهتف هاتف: حواء لآدم، وآدم لحواء، وليس في الإمكان أبدع مما كان. فغضُّوا أبصاركم عن حسنٍ هو عزاء آدم في بلواه، وهو حجته في استباحة العصيان

محكمة، محكمة!!

ونظر آدم فرأى جلال الله يسيطر على الموقف، ورأى أنه سيحاسَبُ أمام جميع الخلائق

- رباه، أجِرنِي!

وكيف أُجيرك وأنت مذنب؟

أحب أن يكون الحساب في جلسة سِرية

- لماذا؟

- لأدافع عن نفسي بحرية، فعندي كلام لا أحب أن يسمعه القرود، ولأني أخاف أن تنصعق حواء من شماتة الشامتين، وهي أرقُّ من الوهم الذي يساور القلب الأوّاب

- لك يا مخلوقي الأثير ما تريد على شرط أن تكتم ما سيدور في الجلسة السرية، فأنا أعلم أنك ستفوه بأقوال تزلزل عزائم الآساد في رعاية الأشبال.

زكي مبارك

ص: 12

‌خسرو وشيرين

في التصوير الإسلامي

للدكتور محمد مصطفى

- 2 -

استطاع القائد بهرام جوبين أن يوقع بين الملك هرمزد وولده الأمير خسرو برويز ويغّير رأيه عليه، فاستحضر هرمزد صاحب سره وسأله أن يدبر الاحتيال لاغتيال خسرو، فخدعوا بعض خواصه بمال وواضعوه على أن يسقيه سّماً يقتله. ولمَّا علم خسرو بذلك أشار عليه معلمه بزرجميد الحكيم، فركب تحت جناح الليل وخرج من المدائن يسوق طرداً وركضاً في طريق أذربيجان - أو كما يقول الشاعر نظامي الكنجوي - في الطريق إلى أرمينية. وكان أن التقى بحبيبته شيرين وهي تستحم في بركة الماء دون أن يعرف أحدهما الآخر، وافترقا وقلب كل منهما يحدثه أنه رأى حبيبه، فواصل هو طريقه إلى أرمينية ليحظى برؤيتها، وتابعت هي طريقها إلى المدائن لتبحث عنه. . . وكان خسرو - قبل أن يغادر قصره في المدائن حيث كان في انتظار نتيجة مساعي سفيره شابور - قد أخبر رؤساء خدمه وجواريه باحتمال مجيء سيدة جميلة، ذات مقام رفيع، ونزولها ضيفاً عليه، وأمرهم بحسن استقبالها بما يليق بمقامها من الاحترام والإجلال، وشدد عليهم في إجابة جميع رغباتها

وصلت شيرين المدائن، وتوجهت إلى قصر خسرو، كما أوصاها شابور، حيث أظهرت الخاتم الذي أرسله خسرو إليها، فقوبلت بالترحاب، ونزلت هنالك معززة مكرمة مطاعة من الجميع؛ ولكنها لما علمت بغياب خسرو عن القصر، شعرت بالسأم يدب حولها فيه، ورغبت في السكنى بعيداً عنه، فأجيبت إلى هذه الرغبة، وبني لها قصر عظيم بين الهضاب المرتفعة، لعلها تجد فيه من ضروب اللهو والتسلية ما يجلب السرور إلى قلبها، وعرف القصر باسمها، فقيل (قصر شيرين)

وفي (شكل 1) تخطيط لقصر شيرين فيه محاولة لإرجاعه إلى حالته الأصلية نرى فيه ما كان عليه القصر من العظمة واتساع الأرجاء. وتوجد آثار هذا القصر بين الهضاب في

ص: 13

إيران على بعد حوالي عشرين ميلاً من الحدود العراقية في الطريق إلى كرمانشاه. ويقول ابن الفقيه إن (السبب في بناء قصر شيرين أن الملك أمر أن يبني له باغ يكون فرسخين في فرسخين وأن يصّير فيه من كل صيد حتى يتناسل، ووكل به ألف رجل، وأجرى على كل رجل منهم خمسة أرغفة ورطلين لحماً ودورق خمر، فأقاموا فيه سبع سنين حتى فرغوا منه. . . وسماه باغ نخجيران أي باغ الصيد) ويروي ابن الفقيه عن قصر شيرين أبياتاً منها:

يا ذا الذي غره الدنيا وبهجتها

وحسن زهرة أنوار البساتين

والدور تخربها طوراً وتعمرها

باللبن والجص والآجر والطين

أما رأيت صر وف الدهر ما صنعت

بالقصر قصر أبَرْويزٍ وشيرين

قد صار قفراً خلاء ما به أحد

إلا النعام مع الوحشية العين

سبحان من خلق الدنيا ودبرها

وأنشأ الخلق من ماء ومن طين

وصل خسرو إلى أرمينية ونزل ضيفاً على ملكتها مهين بانو، فأخبرته عن اختفاء ابنة أخيها شيرين، ودَعَتْه لأن يمكث في أرمينيا طول مدة الشتاء، فقبل الدعوة. وجاءه شابور بعد ذلك بأيام قلائل، وأخبره بكل ما فعل. فأبلغ خسرو الملكة بوصوله وبما جاء به من الأخبار عن شيرين، واتفقا أن يرجع إلى المدائن ليعود بها إلى أرمينية. وهكذا أمرت الملكة مهين بانو أن يركب شابور على الفرس (جُلْجون) وهو فرس آخر في حوزتها، كان يضارع الفرس (شَبْديز) في شهرته. ووصل شابور إلى المدائن حيث وجد شيرين قد تركتها إلى قصرها بين الهضاب، فتبعها إلى هناك وأبلغها رغبة عمتها، وأقنعها بالعودة إلى أرمينية حيث ينتظرها خسرو، فركبت شيرين الفرس (جُلْجون) - إذ كانت قد تركت شَبْديز في المدائن - ورحلت إلى أرمينية في صحبة شابور

وفي ذات الوقت جاء رسول من المدائن وأخبر خسرو بثورة القائد بهرام جوبين، وأن الثوار قد قبضوا على أبيه الملك هرمزد وسملوا عينيه أرغموه أن ينزل له عن العرش، بعد أن أعلن بهرام جوبين طاعته لخسرو إذا هو تولى الملك. فأسرع خسرو إلى المدائن، حيث توج ملكاً على إيران. وهناك علم أن شيرين قد رحلت مع شابور إلى أرمينية، وأنها قد تركت له الفرس شبديز هدية منها. ولكن سرعان ما ظهرت نيات القائد بهرام جوبين

ص: 14

الحقيقية، وأنه قصد بهذه الثورة أن يغتصب عرش إيران لنفسه. وهكذا اضطر خسرو - وقد تبين قوة خصمه - أن يعمل بنصيحة معلمه بزرمجيد الحكيم، ويغادر البلاد بعض الوقت، إلى أن يبدأ نجمه في الارتفاع، فتحين الفرصة لاسترداد حقوقه.

، أخيراً تقابل الحبيبان، إذ جاء خسرو إلى أرمينية بعد وصول شيرين وشابور بوقت قصير. وصادف مجيئه خروج شيرين وصويحباتها للصيد، فقابلته في الطريق وعرف كل منهما الآخر، وكاد يطير سروراً بهذا اللقاء، وصحبته إلى عمتها مهين بانو، فاستقبلتهما بما جبلت عليه من لطف وطيبة قلب. وانتهزت هذه العمة الطيبة فرصة انفرادها مرة بابنة أخيها شيرين، وتوسلت إليها أن تحتفظ بوقارها في جميع المناسبات، وأن تناضل في سبيل الدفاع عن شرفها، والمحافظة على طهرها وعفتها، فوعدتها شيرين بذلك. فسمحت لها العمة بالخروج مع خسرو في رحلة إلى الريف، حيث قضيا شهراً وهما يستمتعان بالصيد وضروب التسلية الأخرى.

وفي (شكل 2) خسرو وشيرين وهما يدخلان أحد القصور في أرمينية عند رجوعهما من الصيد، وقد وقف في استقبالهما بعض أكابر الدولة من أفراد الحاشية ومعهم الخدم والجواري. وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر خسرو الدهلوي، كتبه محمد ابن الأزهر في هرات سنة 890 هجرية (1485م). وكان مؤرخو الفن الإسلامي ينسبون الصور التوضيحية التي في هذا المخطوط للمصور بهزاد، وذلك لما امتازت به من الدقة في رسم المباني والأشخاص. والظاهر أن بهزاد كان له في ذلك الوقت بمدينة هرات تلاميذ صوروا هذه الصور، وأسبغوا عليها الكثير من روح أستاذهم. وهذا المخطوط محفوظ في مجموعة شستر بيتي بلندن

قضى الحبيبان شهراً وهما يتسليان بالصيد ولعب الكرة وغير ذلك من أنواع التسلية، إلى أن دعا خسرو شيرين لمأدبة أقامها لها في مضرب خيامه. وكانت مأدبة فاخرة استمعا فيها إلى لأغاني (باربُد) مطرب خسرو و (نيكيسا) مطربة شيرين، ومن بين شفاه هذين المطربين كان فيض الهوى يتردد، وكانا يتجاوبان بما يكنه قلب كل من العاشقين للآخر

وفي (شكل 3) جلس خسرو على سجادة في منظرة بحديقة غناء، يستمع لموسيقى مطربه باربد الجالس أمامه إلى جوار الفسقية وبين يديه

ص: 15

(عود) كبير يحرك أوتاره، بينما جلس بعض أكابر الدولة يستمعون لباربد ويتسامرون وهم يتناولون الطعام والشراب ووقف في خدمتهم الغلمان والسقاة والخدم، وقد ظهر على وجه كل منهم مبلغ اهتمامه بما يعمل. ونلاحظ في هذه الصورة الدقة في تصوير المباني والأشجار والزهور، وفي رسم الحيوانات على الحائط خلف خسرو، وكذا صورة التنينين في أعلى القبة إلى جانبيها. وهذه الصورة من تصوير (ميرزا على). وترى إمضاؤه في اسفل الصورة إلى اليسار. وهي في مخطوط نظامي المؤرخ بين سنتي 946 و 950 هجرية (1539 - 43م) المكتوب للشاه طهماسب

واشتهر بَارُبد بجمال الصوت وحسن التوقيع والمقدرة على وضع القطع الموسيقية وتأليف الألحان، وصارت ألحانه حجة أساتذة الموسيقى، وكان بارعاً في الضرب على العود. ويروي أبو الفرج الأصفهاني أنه (ضرب يوماً بين يدي كسرى فأحسن فحسده رجل من حذّاق أهل صنعته، فترقبه حتى قام لبعض شأنه ثم خالفه إلى عوده فشوّش بعض أوتاره، فرجع وضرب وهو لا يدري، والملوك لا تصلح في مجالسها العيدان، فلم يزل يضرب بذلك العود الفاسد إلى أن فرغ، ثم قام على رجله فأخبره الملك بالقصة، فامتحن العود فعرف ما فيه)

وكان بَاربُد محبباً لخسرو برويز ومقرباً إليه، فكان يقصده أصحاب الأمور لعرضها على خسرو إذا خافوا أن يبطش بهم. ويروي ياقوت الحموي انه لنا عرف خسرو برويز بمرض الفرس شَبديز - وكان عزيزاً عليه - قال:(لئن أخبرني أحد بموته لأقتلنه. فلما مات شبديز خاف صاحب خيله أن يسأل عنه فلا يجد بداً من أخباره بموته فيقتله. فجاء إلى البَهلَبَذ مغنيه، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان ولا تأخر أحذق منه بالضرب على العود والغناء. قالوا كان لأبرويز ثلاث خصائص لم تكن لأحد من قبله: فرسه شبديز قد نفق ومات وقد عرفت ما أوعد به الملك من أخبره بموته فاحتل لي حيلة. فلما حضر بين يدي الملك غناه غناء روي فيه القصة إلى أن فطن الملك وقال له: ويحك! مات شبديز. فقال: الملك يقوله. فقال زه! ما أحسن ما تخلّصت وخلصت غيرك!. . .) وقد ذكر هذه القصة خالد الفياض في شعره قاله وهو:

والملك كسرى شهنشاه تقنَّصه

سهم بريش جناح الموت مقطوب

ص: 16

إذ كان لذّته شبديز يركبه

وغُنج شيرين والديباج والطيب

بالنار آلى يميناً شدَّ ما غلظَتْ

أن من بدا فنعى الشبديز مصلوب

حتى إذا أصبح الشبديز منجدلاً

وكان ما مثله في الناس مركوب

ناحت عليه من الأوتار أربعة

بالفارسية نوحاً فيه تطريب

ورنم البَهلبَذُ الأوتار فالتهبت

من سحر راحته اليسرى شآيب

فقال مات فقالوا أنت فُهْت به

فأصبح الحنث عنه وهو مجذوب

لولا البَهلبَذ والأوتار تندبه

لم يستطع نعي شبديز المرازيب

(له بقية)

محمد مصطفى

أمين مساعد دار الآثار العربي

ص: 17

‌مرسلات.

. .

(هذا عنوان نرجو أن نكتب تحته في الحين بعد الحين كلمات

موجزة في معان شتى، وإن في الإيجاز لبلاغاً لقوم يعقلون!)

الضمير

سر غريب، وروح عجيب، أودعه الله الإنسان فجعل منه قوة مسيطرة عليه، متصرفة فيه، لا يملك لها دفعاً، ولا يستطيع منها تخلصاً، ولا يجد من دونها موئلاً!

آمنت بك يا رب! خلقت الإنسان ضعيفاً، وركبت فيه نوازع الشر والخير، ثم قلت له بلسان قدرتك: اعمل ما شئت فقد جعلت عليك رقيباً لن تغيب عنه ولن يغيب عنك، وليس إلى مصانعته أو مخادعته من سبيل!

آمنت بك يا رب! هم ينكرون حسابك في الآخرة وأنت تحاسبهم في الدنيا، وهم يتساءلون: كيف يكون لابن آدم معقبات من بين يديه ومن خلفه؟ وأنت جعلت له معقباً في قرارة نفسه

ولكن يا رب سؤال غير معترض عليك، ولا معقبٍ على حكمك: هل جعلت هذا الضمير أداة عذاب، وكتبت به على فريق من الناس أن يظلوا منه في حرب عوان مع هذه الدنيا الملتوية؟ إن الباطل، يا رب، قد استعلى على الحق، وطغى على الخلق؛ وإن الرجل ليصدع بكلمة الصدق فَيُتخذ سِخريا، ويكون أُضحوكة الضاحكين، وأٌ ندورة المتندِّرين، وإن الكاذب الخادع ليلتوي ويتخابث فيشق طريقه بين الناس في أمن وطمأنينة وسلام!

لقد أصبح الباطل معمّاً في الناس مُخوِلا، وأصبح الحق يتيما لطيما! فماذا يفعل امرؤ ذو ضمير يدعوه إلى الإخلاص في عمله والفناء فيه، وهو يرى البيئة الفاسدة عدوّاً له، وحرباً عليه؟ ماذا يفعل إذا استحثه ضميره على السير في طريق الخير قدما وهو يرى القافلة كلها تسير في غير الطريق؟ أيبطل مع المبطلين، ويفسد مع المفسدين؟ وأنَّى له ذلك وهو امرؤ ذو ضمير؟ أم يصادم ويقاوم ويثور ويغضب ويجادل ويناضل؟ وكيف يأمن مع ذلك على نفسه وخلقه؟ ومتى يذوق طعم الراحة؟

(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب!)

محمد محمد المدني

ص: 18

‌معارج الأحداث

للأستاذ سعيد الأفغاني

ولست أعني بالأحداث من صغرت أسنانهم فقط، وإنما عنيت مع ذلك، أشباههم: ممن صغرت أقدارهم، وضؤلت معارفهم، ورقث عقولهم، وانحطت هممهم وتخلفت أعمالهم. . . ولو جللهم الله المشيب وعلت رؤوسهم النسائج البيض.

ولعمر الله ما أدري لِمَ يُعْرض الكتاب عن طبقة هي إحدى عوائق النهضة الصحيحة لعصرنا، فلا يصفون منها ما يصف الطبيب من الجراثيم وأعراضها وفتكها، ثم ما يكون من سبل الوقاية، وطرق العلاج. وهي طبقة تراها منبثة في الشوارع والأندية والمجامع والمعاهد والدواوين. . . لم يرزقها الله من المواهب ما تستطيع أن تنفع به، وحز في نفسها شعورها بالضعة وسقوط المنزلة، فاندفعت في صفاقة وقحة تدّعي ما ليس فيها، ثم ترامت في الطعن على الناس ذوي الأقدار ليعتقد لهم الجاهل بذلك فضلاً.

فإن كنت تنسب أمر الأطفال الذين يبغون أن يكونوا زبيباً قبل (التخصرم) إلى غرة الحداثة، فماذا أنت ناسب إلي ما أعرض عليك:

هذا أديب حباه الله كل المواهب اللازمة للأدب، وأخذ نفسه بدرسٍ طويل وصبر أطول حتى أخرج للناس أدباً نافعاً وأصبح مشاراً إليه؛ فيطمح فريق من أحداثنا، هؤلاء إلى مثل مكانته، فلا يكلف الأمر أكثر من محاولته جلب الأنظار إليه بالصراخ والغثاثة والدعوى العريضة، فإذا شكا إليك إعراض الناس، ونبهته إلى ما ينقصه من وسائل ومواهب، وأنه يحسن به أن يأخذ للأمر أهبته، رماك - في غيبتك - بالتثبيط، وحمل عنه هذه الفرية من كنت تظن بعقله البعد عن الانخداع.

وهذا يريد أن يكون كاتباً ولما يُحسنْ سبك جملة صحيحة بعد، ولما يستوعب فهم صفحة يقرؤها فيها صحيحاً، يعرض عليك مقاله فتنصحه بالتعليم، فيزورّ عنك محتجاً بتحقير شهاداته العالية ويطوف إدارات الصحف أو المجلات هو ووسطاؤه، فيروعك أن ترى سخطه منشورا، ويروعك أكثر أن تراه أحياناً قصد من لا تشك في إطلاعه وبصره، فيغشه في فترة سأم وإعياء.

وذاك لم يدّع أدباً ولا كتابة، ولكن حلاله أن ينتسب في الباحثين، فسطا على بحث نشر في

ص: 20

بلد بعيد، وفقرات من مواضيع في كتابين قديمين، فقطّع ذلك خمسين قطعة، ثم عاد فوصل بين ما قطّع بجمل من عنده، وقدم فيها وأخر، ثم رقَّم هذه الجمل وجعل لكل رقم حاشية تدل على صفحة مصدره - تشبهاً بما فهم من الأسلوب الحديث - فاستوى له بإذن الله ما سماه بحثاً علمياً، فإذا بك تجد كلاماً لا انسجام بين أجزائه ولا تساوق بين أفكاره يلعن بعضه بعضاً، فإذا قلت له: إنه غير مفهوم، أجابك: هذا هو الأسلوب العلمي

وذلك - عافاك الله - لا أديب ولا كاتب ولا باحث، لكنه لغوي يا سيدي، يعني إنه يسود صفحات بالركاكة والابتذال والمط والتطويل والسخف، حتى إذا واتاك صبرك وانتهيت منها قراءة، وقذفت بالمجلة أرضاً، وأغمضت عينيك تستعيد ما مرّ بك. . . إذا كل ذلك: كلام في أن (وابور الزلط) من عامية مصر، أو أن (الجسر) في عامية الشام هو (الكبري) في عامية مصر

وإن كان محاضراً لبث أسبوعين (يبشر) بمحاضرته ويدعو لها ويلقاك في الطريق، أو حافلة الترام، أو عند الوراق، أو حاملاً حاجة، أو منطلقاً عجلان، أو منقلباً إلى دارك. . . فاستوقفك ساعة وحدثك بمحاضرته وما حوت من نكات، وأكثر عليك من حركاته و (تهريجه)، حتى يقتلك قتلاً، فلا يتركك إلا وقد أخذ عليك عهداً: لتحضرنها أنت واهلك وأصحابك وجميع معارفك، فإذا وفيت بعهدك، فويل لك من نفسك، وويل لأصحابك: لقد شبعتم خجلاً من أنفسكم وتهكماً، وأوسعكم المحاضر الكريم غثاثة وثقلاً

وهذا نمط آخر خير مما تقدم: لا أديب ولا كاتب ولا باحث ولا لغوي ولا محاضر ولا شيء من الأشياء مما يبرر أثره إلى الوجود، ولعله يحسن أن يسلخ أهاجي الأموات يهجو بها الأحياء، ولعله يتمدح إلى الموسيقى باطلاعه على التاريخ، والى الكيميائي بباعة في الدين، والى الرياضي بحذقه النحو، والى التاجر بأنه شاعر. . . تطمح نفسه إلى أن يسند دعاواه بالانتساب إلي أي جماعة ذات شأن - ولو رسمًّيا - في العلم أو الأدب أو الصحافة، فلا ترى الجماعات فيه شيئاً يسيغ أن يسلكه في زمرها، فيشتد على أفرادها بالشتم والهجاء حتى تتحقق رغبته، وما كانت لتتحقق لولا خراب الضمير الأدبي في بعض الأفراد

وآخرون من غير هذه الأنماط: منهم في الشام، ومنهم في العراق، ومنهم في مصر، أهمل

ص: 21

الكتابة في شأنهم الأدباء غفلةً أو تهاوناً، على أن أمرهم سيئ العواقب على المستقبل: تراهم مبثوثين في كل طبقة كما انبثت الطفيليات في المواد الحيوية، تبقث هي الجراثيم، وعلى ضحاياها تحمل النتائج:

هنا نادٍ ذو غاية نبيلة يعمل بعيداً عن الدسائس، فيندس فيه من لا يظهرون إلا على خراب غيرهم، فلا يزالون به حتى تسودّ بين الناس صحيفته. وهناك صحيفة كانت راقية أخذت تشجع هذه الطفيليات بدل أن تنصحها أو تبعدها، حتى انحط مستواها وكسدت سوقها بين العارفين

فإن رحت تبحث عن بواعث الداء وجدته في فقدان الكرامة وضعف الضمير المسلكي عند القيمين على بعض دور الصحف والمجلات وأندية العلم، ولو أنهم أقاموا لموازين الحق بعض الاعتبار، لحفظوا أقدارهم من السقوط

أفليس من واجب الأدباء أن نرى مثل هذه الألوان في أدبهم، وأن نجد فيه صفة هذه الطبقة والتحذير منها ومن ضررها على الناشئين وعلى سمعة البلاد الأدبية. ومعالجة هذا الداء واجبة، إذ لا يخلو من مرضاه مصر من الأمصار. فهل لي أن أقرأ في هذه المجلة الكريمة لكتابنا الاجتماعيين كلمات شافيات؟

وبعد، فلست متشائماً، ولا أمنع أن يكون فيمن ينتسبون إلى العلم والأدب أناس علماء حقَّا أدباء حقَّا، لهم كرامة وبهم شجاعة؛ لكنني موقن أنهم مشتتون، جهودهم ضائعة غير متضافرة، مع إيثار منهم للراحة والسلامة، فلهؤلاء أقول:

إنكم حقاً في سبيل صون ميادين العلم والأدب عن الأدعياء الأدنياء ستلقون أذىً كثيراُ ولكن العاقبة لكم، والغثاء أبدا إلى الاضمحلال. وما بلينا به بلي به من كان قبلنا، ولم يخل عصر من مثل هذه الطبقة التي لا تحسن شيئاً وتستطيل على المحسنين، وما جمع الله لذي كرامة: الصدع بالحق، والسلامة من الناس.

(دمشق)

سعيد الأفغاني

ص: 22

‌سيلان

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

سيلان أو سرنديب اسم تردد على شفاه معظم المصريين منذ ستين عاماً. في ذلك الوقت كانت الثورة العربية تجتاز آخر مراحلها، فقد كان زعماؤها يحاكمون وحكم عليهم بالإعدام في 3 ديسمبر سنة 1882 وأبدله الخديوي توفيق في الحال بالنفي المؤبد خارج القطر إلى جزيرة سيلان وصودرت أملاكهم وجردوا من ألقابهم. عرف المصريين إذن جزيرة سيلان؛ ولقد خلد اسم هذه الجزيرة في الأدب بما كتبه فيها محمود سامي البارودي باشا من شعر مؤثر في الحنين إلى الوطن والحزن لفراقه.

قال يصف الرحيل عن أرض الوطن:

محا البين ما أبقت عيون المها مني

فشبت ولم أقض اللبانة من سني

عناء ويأس واشتاق وغربة

الأشد ما ألقاه في الدهر من غبن

فإن أك فارقت فلي بها

فؤاد أضلته عيون المها عني

وقد أسبغ النفي والحرمان عليه شارة التضحية والبطولة فكتب شعراً يفيض عظمة وجلالاً قال من قصيدة في منفاه:

علام يعيش المرء في الدهر خاملاً

أيفرح في الدنيا بيوم يَعُدُّه

عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش

بها بطلاً يحمي الحقيقة شدُّه

ومن قصيدة أخرى:

لم أقترف زلة تقضي عليَّ بما

أصبحت فيه فماذا الويل والحرب

فهل دفاعي عن ديني وعن وطني

ذنب أدان به ظلماً وأغترب

فلا يضن بي الحساد مندمة

فإنني صابر في الله محتسب

أثريت مجداً فلم أعبأ بما سلبت

أيدي الحوادث مني فهو مكتسب

لا يخفض البؤس نفساً وهي عالية

ولا يشيد بذكر الخامل النشب

وقد قضى بها سبعة عشر عاماً، ثم عاد إلى مصر في شهر سبتمبر 1900 بعد أن فقد نور عينيه. أما عرابي باشا فقد عاد في أول أكتوبر 1901. وقد مات بهذه الجزيرة من الزعماء السبعة عبد العال باشا حلمي (في 19 مارس 1891) ودفن بكولمبو، ومحمود فهمي باشا

ص: 23

في (17 يوليو 1894) ودفن بكندي ويعقوب سامي باشا (أكتوبر 1900) ودفن بكندي أيضاً

هذا ما كان منذ ستين عاماً. أما اليوم فإن العالم يذكر هذه الجزيرة بمناسبة اقتراب الخطر الياباني منها؛ فقد كان من أثار تطور الحرب في الشرق الأقصى أن استهدفت هذه الجزيرة للغزو الياباني. وقد كانت وقعت أول غارة جوية على عاصمتها كولمبو في 5 أبريل سنة 1942، وحاول بعض جنود المظلات اليابانية الهبوط بها مما دعا القائد العام إلى أن ينبه السكان إلى وجوب مقابلة هؤلاء الجنود وإلقاء القبض عليهم أولاً بأول. ومنذ ذلك التاريخ بدأت هذه الجزيرة تحتل مكاناً ممتازاً في أنباء العالم

هذه الجزيرة

تقع في جنوب الهند؛ وليس هناك شك في أنها كانت متصلة بها يوماً ما إذ هي تشبهها من عدة وجوه. وشكلها كالكمثري وهي أصغر قليلاً من أيرلندا ومساحتها 25000 ميل مربع، وطولها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب 270 ميلاً

أما من حيث التضاريس فإن وسط هذه الجزيرة تحتله كتلة جبلية يصل ارتفاعها في بعض الجهات إلى أكثر من 8000 قدم وتحيط بهذه المرتفعات سهول ساحلية واسعة. والسهل الساحلي في الشمال منبسط وتوجد به كثير من أشباه الجزر الرملية، وتبعد شبه جزيرة مانر 22 ميلاً فقط عن أقصى جنوب الهند، وترتبط سيلان بالهند بسلسلة من الشطوط الرملية والصخور تسمى بقنطرة آدم

ونظراً لقرب هذه الجزيرة من خط الاستواء فإنها دائمة الحرارة، ويخفف من حرارتها إحاطة الماء بها. وتسقط بها الأمطار صيفاً على الساحل الغربي نتيجة لهبوب الرياح الموسمية الجنوبية الغربية عليه أما شرقها فتسقط أمطاره شتاء لهبوب الرياح الموسمية الشمالية الشرقية عليه

الغلات والنبات

تغطي سطوح المرتفعات الدنيا غابات كثيفة وقد قطعت وزرع مكانها أشجار المطاط والشاي والكاكاو؛ وفي الوديان يزرع الأرز وأشجار جوز الهند. وتقوم عدة صناعات

ص: 24

متصلة بجوز الهند فتجفف حباته وتصدر، وتقوم المصانع بأعداد زيت جوز الهند وتصديره. ومن أهم التوابل التي تصدرها القرفة. وعلى الشواطئ يشتغل الأهالي بصيد السمك

السكان

يسكن هذه الجزيرة أربعة ملايين ونصف مليون من الأنفس، وقد قدموا إليها من الهند في عصور متفاوتة ومعظمهم بوذيون ديناً. وفي كاندي معبد يسمى معبد السنة وهو من اعظم المعابد حرمة وقدسية لدى البوذيين. أما الباقون فيدينون بالهندوكية وقد جاءوا سيلان من الهند قديما كغزات؛ أما اليوم فإنهم يهاجرون إليها كعمال يعملون في مزارع البن والشاي والمطاط. وفي الجهات الجبلية ما تزال بعض القبائل تعيش على الفطرة

وقد كانت هذه الجزيرة تابعة لحكومة الهند، ولكن منذ سنة 1802 فصلت عنها وأصبحت مستعمرة تابعة للتاج البريطاني

كولمبو

عاصمة الجزيرة وتقع على شاطئها الغربي وقد كانت محط أنظار اليابانيين واليها وجهوا أول جهودهم وذلك بالنسبة لما لموقعها من أهمية: فهي محطة للفحم، منها تتزود السفن المحيطية القادمة من أوربا إلى أستراليا والشرق الأقصى، وبها تمر السفن القادمة من شرق الهند إلى غربها تفادياً لمرور من مضيق (بلك) الضحل، فمعنى الاستيلاء عليها تعذر المواصلات بين شرق الهند وغربها وبين بريطانيا وأستراليا، وأضعاف مركز بريطانيا الحربي أضعافاً كبيراً وقد علقت الديلي تلغراف على هجوم اليابانيين على كولمبو وسيلان فأشادت بالنصر العظيم الذي أحرزته القوات البريطانية في دفع العدوان الياباني على الجزيرة ونبهت إلى أهمية موقع الجزيرة قائلة:(ولسنا نرى في جزيرة سيلان حصناً لحراسة الهند ومواصلات الهند مع الشرق الأوسط وأوربا فحسب، ولكننا نرى فيها أيضاً مركزاً قوياً لتركيز الكرات وتوجيهها إلى خطوط الهجوم اليابانية البعيدة الانتشار)

أبو الفتوح عطيفة

ص: 25

‌32 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادوارد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع للفصل العاشر - (الخرافات)

ولما تولى الولي السابق ذكره أعماله أخذ يتجول في قسمه فرأى بائع فول يبيع لحرفائه كالعادة. فتناول حجراً وكسر بها قدر الفول، فقفز البائع إليه وتناول جريدة بالقرب منه وضرب الولي بها ضرباً مبرحاً. ولم يشك الولي ولم يصرخ وانصرف حين أذن له. وحاول بائع الفول بعد انصراف الرجل أن يلتقط بعض ما تناثر من القدر، وكان قد بقى منها قطعة في مكانها؛ فلما نظر البائع فيها رأى ثعباناً ساماً ميتاً. فصاح مرتاع مما فعل:(لا حول ولا قوة إلا بالله! أستغفر الله العظيم. ماذا فعلت؟ هذا الرجل ولى وقد أتلف الفول الذي كاد يسمم حرفائي). وجعل ينضر إلى كل مار طول هذا اليوم عسى أن يرى مرة أخرى الولي الذي أساء إليه ليستغفره. ولكنه لم يره لأن الولي كان مرضوض الجسم لا يستطيع أن يمشي. وفي اليوم التالي نهض الولي بالرغم من ورم أعضائه وأخذ يعرج خلال قسمه فكسر جرة لبن كبيرة في دكان لا يبعد عن دكان بائع الفول كثيراً، فعامله اللبان معاملة الفوال. وبينما كان يضربه أسرع بعض الناس إليه وأخبروه أن هذا الرجل الذي يضربه ولي ثم سردوا عليه قصة الحية التي كانت في قدر الفول وقالوا اذهب وانظر جرتك فسترى فيها شيئاً ساماً أو نجساً. ونظر الرجل فوجد في بقية الجرة كلباً نافقاً. وفي اليوم الثالث سار الولي في الدرب الأحمر يعرج على عصا متألماً، فرأى خادماً يحمل على رأسه صينية عليها أطباق من اللحم والخضر والفاكهة أعدت لجماعة كانوا ذاهبين إلى النزهة في الريف فوضع الولي عصاه إذ ذاك بين رجلي الخادم فقلبه، وتناثرت محتويات الأطباق في الشارع، فأخذ الخادم يصب على الولي اللعنات ويضربه ضرباً عنيفاً، وتجمع

ص: 26

الناس ولاحظ أحدهم كلباً يأكل ثم لم يلبث أن نفق. فسارع إلى منع الخادم من ضرب الرجل وأخبره بالحادث الذي أثبت ولايته. فجعل الخدم يتعذر للولي ويرجوه أن يصفح عنه. غير أن الرجل سئم وضيفته الجديدة فابتهل إلى الله والى القطب أن يعفى منها، وأجيب إلى توسلاته واستردت قدرته الخارقة للعادة. فعاد إلى دكانه وهو أسعد من قبل

هذه القصة يتقبلها القاهريون كأنها حقيقة ومن ثم أدرجتها هنا. لأننا عند الكلام على الخرافات نواجه الآراء أكثر مما نواجه الأفعال. ولست متأكداً أن القصة جميعها كاذبة؛ فقد يكون هذا الولي المزعوم قد أستخدم من يدخل الثعبان أو الكلب في الوعاءين الذين كسرهما. وقد قيل لي أنى أكثر من واحد قد أشتهر بالولاية بمثل هذه الحيل

وفي مصر أولياء كثيرون يتقشفون تقشف النسّاك الهنود. وفي القاهرة الآن وليّ طوق عنقه بالحديد، وشد نفسه إلى أحد جدران غرفته وظل على ذلك ثلاثين عاماً، كما يقال، ويزعم البعض أن هذا الولي كثيراً ما شوهد متدثراُ كالنائم بملاءة، ثم بعد ذلك مباشرة تزاح الملاءة عنه فلا يجدونه تحتها. ويذكر هذه القصص ويؤمن بها قوم يتمتعون بالعقل الرشيد. والضحك من هذه القصص أو عدم تصديقا يثير السخط الشديد. وقد حكى لي أخيراً أن ولياً قطع رأسه لجرم لم يرتكبه، فتكلم بعد فصل رأسه عن جسده، وأن آخر حز عنقه في أحول مشابهة فخط دمه على الأرض إعلان براءته: أنا ولي من أولياء الله وقد مت شهيداً.

وهناك ظاهرة غريبة في خلق المصريين وغيرهم من الشرقيين وهي أن المسلمين والمسيحيين واليهود يتخذون خرافات بعضهم بعضاً بينما يمقتون العقائد الأصلية. وقد يستخدم المسلمون عند المرض قسس النصارى واليهود للدعاء لهم، وكذلك النصارى واليهود يدعون الأولياء المسلمين للغرض نفسه. ومن المألوف أن ترى المسيحيين يترددون على الأولياء فيقبلون أياديهم ويسألونهم الدعاء والنصح. ويجزلون لهم المال والعطايا.

وينسب المسلمون إلى الرسول معجزات كثيرة لا يقرها الإسلام. وهم يقولون أن هناك معجزات كثيرة لا تزال تتم إكراماً للنبي وشاهداً على رعاية الله له. ويروي الحجاج الذين زاروا المدينة أنهم يرون كل ليلة شعاعاً من النور الكامد يشع من قبة القبر النبوي إلى ارتفاع هائل إلا أن الشعاع يختفي عن الناظر عندما يقترب من القبر. وهذه معجزة من أكثر المعجزات اعتباراً ويروون أنها تشاهد للآن. وقد سألت أحد أصدقائي الحصفاء عن

ص: 27

صحة هذا الزعم فأيده وجزم أنه كان يرى الشعاع كل ليلة مدة إقامته بالمدينة. وقال: أن ذلك دليل على رضى الله وإكرامه لسيدنا محمد (ص)، ولم أجرؤ أن أستفهم عن حقيقة ما يزعم رؤيته بعينه ولا الإشارة إلى أن أكثر النوار التي تضاء في المسجد كل ليلة قد تحدث ذلك الأثر. غير أنى سألت صديقي أن يصف لي بناء القبر وقبته الخ؛ فأجاب أنه لم يدخل الضريح ولا الكعبة لاضطراب أعصابه نتيجة لإعظامه هذه الأماكن المقدسة وخاصة قبر الرسول الذي يؤثر فيه تأثيراً شديداً؛ ولأنه حنفي المذهب لا يليق به أن يسير فوق هذه الأرض المقدسة ويتعرض كل حين لمكاره المشي حافياً، ومن ثم كان عليه في هذه الحالة أن يلبس خفاً داخل الحذاء الخارجي، وهذا مالا يقدر عليه. ويزعم الحجاج أيضاً انهم يرون دائماً على مسير ثلاثة أيام من المدينة نوراً في اتجاه المدينة المقدسة ويعتقدون أنه ينبعث من قبر الرسول. ويقولون أنهم حيثما يتجهون يشاهدون هذا النور تجاه المدينة. ولهذه الروايات جمال يؤثر في النفوس ويحمل المسلمون، وبخاصة المصريون على اختلاف مذاهبهم، ما خلا الوهابيين، للأولياء المتوفين احتراماً وتقديساً لا سند لهما في القرآن أو الأحاديث، أكثر مما يحملون للأحياء منهم. ويشيدون فوق أغلب قبور الأولياء المشهورين مساجد كبيرة جميلة. وينصبون فوق قبور من هم أقل منهم شهرة بناء صغيراً مربعاً مبيضاً بالكلس ومتوجاً بقبة. ويقام فوق القبر مباشرة نصب مستطيل من الحجر أو القراميد يسمى (تركيبة)، أو من الخشب ويسمى (تابوتاً)، ويغطى النصب عادة بالحرير أو الكتان المطرز ببعض الآيات القرآنية، ويحيط به قضبان أو ستر من الخشب يسمى (مقصورة). وأكثر أضرحة الأولياء في مصر مدافن إلا أن أكثرها يحتوي على آثار قليلة لهم. وبعضها ليست إلا قبوراً فارغة أقيمت تذكاراً للميت. وأكثر هذه المقامات قدسية مقام الحسين إذ يقال أن رأس الحسين الشهيد مدفون به. ومنها أيضاً مسجد السيدة زينب وهو دون الأول قدسية. ومسجد السيدة نفيسة، ومسجد الأمام الشافعي الذي ينتمي إلى مذهبه أكثر القاهريين. وتوجد هذه الأبنية السابقة ما خلى الآخَريْن داخل العاصمة. أما مسجد السيدة نفيسة فهو في إحدى الضواحي الجنوبية، ومسجد الأمام الشافعي في المقبرة الجنوبية الكبيرة

ويزور المصريون هذه الأضرحة وغيرها أحياناً أما إجلالاً للميت أو قياماً بأعمال تستحق الثواب لأجل هؤلاء المكرّمين معتقدين أنهم سينزلون عليهم البركات، وأما بقصد التماس

ص: 28

البرء من مرض أو طلب النسل، مقتنعين أن فضائل الميت تكفل قبول دعواتهم قبولاً مرضياً. ويعتبر المسلمون أولياءهم المتوفين شفعاء لهم عند الله ويقدمون لهم النذور. ويحيي الزائر عند وصوله الضريح بالسلام ويسلم عليه أيضاً عند دخوله المدفن. ولكني أعتقد أنه قلما تراعى هذه العادة الأخيرة. ويواجه الزائر رأس الميت، ومن ثم يولي القبة ظهره. ويطوف حول المقصورة من اليسار إلى اليمن ثم يقرأ الفاتحة بصوت لا يسمع أمام باب المقصورة أو أمام جوانبها الأربعة. وقد يتلو بعد ذلك سورة أطول من الفاتحة، كما قد يتلو في هذه الحالة (خاتمة). وتقرأ هذه الأدعية لأجل الولي وان كان يعتقد أيضاً أن الأجر ينعكس على الزائر الذي يتلو الصلاة. ويختم الزائر ذلك عادة بقوله:(أنى وهبت ما قرأت من القرآن الكريم إلى من نذر له هذا المكان) أو (إلى روح هذا المولى). ويبقى ثواب ما قرىء للقارئ وحده إذا لم يبين ما سبق أو لم يقصده. ويبتهل الزائر بعد تلاوة هذا إلى الله لاستدرار النعم فيقول عادة: (اللهم أتوسل إليك بالرسول وبمن وقف له هذا المكان أن تهبني هذه النعمة وتلك الأخرى) أو (حملي على الله وعليك يا من كُرّس لك هذا المكان). ويواجه البعض وهو يفعل ذلك جانباً من جوانب المقصورة. ويقال أن اللائق أن يواجه الإنسان المقصورة والقبلة، ولكني أعتقد أن القاعدة نفسها تراعى في هذه الحالة كما تراعى في السلام؛ وتوضع اليدان أثناء ذلك وضع الابتهال الخاص عقب الصلاة العادية ثم تسحبان بعد ذلك على الوجه. ويقبّل الكثير من الزائرين عتبة باب المقام وجدرانه ونوافذه ومقصورته الخ. . . إلا أن الشديد المحافظة يستقبح هذا لاعتباره تقليداً لعادة مسيحية. ويوزع الأغنياء والميسورون عند زيارتهم قبور الأولياء المال أو الخبز على الفقراء. وكثيراً ما يمنحون السقاءين نقوداً ليفرقوا الماء على الفقير والظمآن إكراماً للولي. وهناك أيام خاصة في الأسبوع لزيارة بعض الأضرحة. فيزور الرجال مسجد الحسين على الأكثر يوم الثلاثاء، والنساء يوم السبت. ويزورون مسجد السيدة زينب يوم الأربعاء، ومسجد الأمام الشافعي يوم الجمعة. والعادة في هذه الحالات أن يحمل الرجال معهم آساً يضعون بعضه على النصب أو فوق الأرضية داخل المقصورة، ويأخذون الباقي ثانية لتوزيعه على الأصدقاء. ويضع الفقير أحياناً خوصاً، كما يفعل أغلب الناس على قبور الأصدقاء والأقارب، وتضع نساء القاهرة بدل الآس والخوص وروداً وزهوراً وياسميناً.

ص: 29

(يتبع)

عدلي طاهر نور

ص: 30

‌تحية فلسطين

للأستاذ بشارة الخوري

(ألقاها بالقدس في زيارته الأخيرة)

(فلسطين) لست سوى دمعة

تهادت على بسم حائرة

تعانقتا فاستحال العناق

لهيباً على شفة ثائَرة

(فلسطين) يا حُلم الأنبياء

ويا خمرة الأنفس الشاعرة

حملنا لك المهج الظامئات

وأصدية القبل الطاهرة

(فلسطين) يا هيكل الذكريات

على جبهة الأعصر الغابرة

مضمخةً بغبار الحروب

مخضبةً بالمنى الزاخرة

(فلسطين) يا جمحات الخيال

مجنحةً بالرؤى الساحرة

هناك على شرفات النجوم

أرى مكة تلثم الناصرة

ألا قطرةً، عرس قانا الجليل

ولو بين جدرانك الدائرة

ترد إلى الشعر وحي السماء

فتلهمه الأنفس الكافرة

بشارة الخوري

ص: 31

‌إلى.

. .؟

(للشاعر المجهول)

أبحتُكَ من قلبي نفائسَ عَطْفِهِ

وحرَّرتُ فيكَ المال من رِبْقَةِ الضَّنِّ

وقلتُ مِثَالٌ من جمالٍ أَصُونُهُ

فيَسْلَمُ من إفْكِ الزمانِ ويستغني

فلم تَرَ صدري من سهامِكَ في حِمًى

ولم تَرَ جَيَبْي من نِصاَلِكَ في أَمْنِ

وعِشْتُ يُرينِي اُلْحبُّ أنكَ حَافِظٌ

عهودي وأن الُخلْدَ بعضُ الذي أَبنِي

فَلمَّا رأيتَ الوجدَ يَغتالُ مُهجتي

وأيقنتَ أنى من غرامِكَ في سِجْنِ

مَضَيْتَ إلى غيري جهاراً وَخُنْتَنِي

فمن أي وَحْلٍ صِيغَ طَبْعُكَ خَبِّرنِي

(للشاعر المجهول)

ص: 32

‌إلى روح شقيقي (إبراهيم)

ما كان إلا دنيا محببة!

للآنسة فدوى طوقان

لَا كَانَ عَامٌ ظَلِلْتَ يَا سَكَنِي

فيهِ وَراَء الْحيَاةِ وَالزَّمَنِ

مُسْتَوْحِشاً في الضريح مُنْفَرِداً

مُرْتَهَناً بالتّرابِ والكفنِ

وَا حَرَّ صَدْري عَليكَ وا أسَفي

أَنْ لَمْ تُمِتْنِي لواعِجُ اْلَحزَنِ

لوَ أنَّني قمتُ بالوفاءِ، أَخِي

ما ظلَّ روحي يجولُ في بدنِي

أَنَّى تطيبُ الحياةُ بعدَكَ يا

أَحْسَنَ ما في الحياةِ مِنْ حَسَنِ

قَطَعْتُ عنِّي أَسْبَابَ بَهجتِهَا

وَصِرْتُ والَّلأعجاتِ في قرَنِ

تَهْجِسُ في خاطري، أَخِي، ذِكَرٌ

تَظَلُّ مِنهَا الأشجانُ تَطْرُقنُي

كنتَ لعَمَرْي زيناً لمجلِسِنَا

وفتنةً مِنْ مُحبَّبِ الِفتن

تدفعُ عنَّا الهُمومَ إَنْ نزلَتْ

بالدّارِ يوماً طوارِقُ المِحَنِ

فكيفَ بالله صرْتَ أكبرهَا

وكيفَ أَصْبَحْتَ مَصْدَرَ الشَّجَنِ؟

أَوْلَيتَنِي مِنْ لَدُنْكَ عَارِفةً

آبَتْ بحِفْظِ الجميلِ مِنْ لدُنِي

وَاهاً لها مِنْ يدٍ مُباَرَكةٍ

فيَّاضةِ البِرِّ ثَرَّةِ المِنَنِ

ما كنْتُ إَّلا مِنْ غَرْسِهَا فَنناً

لو لم تُحِطْهُ بالْحِفْظِ لم يكُن

قدْ صُنْتَهُ فاسْتَقَامَ من أَوَدِ

لولاكَ لم يستقمْ ولم يُصَن

واليومَ يُودي لَفْحُ السَّمُوم بِهِ

بعدَكَ مَنْذَا يَقيِه مِنْ وَهَن

لا خفَّفَ الُله ما أُكابدُهُ

إِنَّ سُلُوِّى عنهُ مِنَ ألأفَنِ

وإنَّ قَلْباً قدْ كَانَ مَأْمَلَهُ

غيرُ حقيقٍ بالصَّبر أو قَمِن

أيام عُمْرِي تَجَهَّمَتْ كَمَداً

وكان فيها بشاشةَ الزَّمَن

واهاً لنفسي مِنْ طولٍ وَحْشَتِهَا

ما أَنِسَتْ بعدَهُ إلى سَكَن

أَوْدَعْتَ في القبر سيرةً كَرُمَتْ

يا لِيَ أَمَّنْتُ غيرَ مُؤْتَمَن

أَمَا وَحُبّيهِ مثلَ سِيرَتِهِ

ما شامَ طرْفي وََلا وَعَتْ أُذُنِي

خُلْقٌ كقطْرِ النَّدى صَفَا وَزَكا

في السّرِ مُسْتَأْمَنٌ وفي العلَنِ

ص: 33

نفسٌ كصافي النَّميرِ مَوْردُهُ

ليسَ بذي كُدْرَةٍ وََلا أَسَنِ

مَنْذَا لصِدْقِ الوَلاءِ إنْ طُوِيَتْ

نفسُ وَليٍ يوماً عَلى دَخَنِ

مَنْذَا لِجَزْلِ القَريضِ وَاحَزَنِي

مَنْذَا لِحُلْوِ الحديثِ والَّلسَنِ

مَنْ للنُّهي إنْ كَبَا الْعَثَارُ بهَا

والأَمْرُ أَعْيَا عَلَى ذوي الْفِطَنِ

(ما كان إلاَّ دُنْيَا مُحَبَّبَةً)

خالصةً مِنْ شَوائِبِ الدَرَنِ

أَسْعَى إلى قبرِه يُساَوِرِني

شَوْقٌ إليه والدَّمْعُ يَسْبِقُنِي

أَحْنُو عليه أبكيهِ مِنْ أَسَفٍ

أَسْقِي ثَراهُ بأَدْمُعِي الْهُتُنِ

أَمْسِحُ مِنْ لَوْعَتي بتُربَتِهِ

مَسْحَ أكُفِّ الحجيج بالرُّكْنِ

لولا عظامٌ لنا مُطَهَّرَةٌ

في التَّرب لم نحترِصْ عَلَى وَطَنِ

(نابلس)

فدوى عبد الفتاح طوقان

ص: 34

‌البَريدُ الأدبيّ

الرسالة هي الصديق

كتب الأديب حسين الصوفي كلمة نصّ فيها على أني أخطأت حين قلت (الرسالة الصديق) وساق كلاماً لا ينفع في (فَعيل) بمعنى فاعل و (فعيل) بمعنى مفعول، وسأصحح له هذا الخطأ حين أجد فرصة لا تدعونا فيها (الرسالة) إلى مراعاة الأمر العسكري بتحديد عدد الصفحات!

وأجيب بأن (الرسالة) هي (بُثينة) في قول جميل:

كأن لم نحارب يا بُثيَن لو أنها

تكشَّف غمَّاها وأنتِ صديقُ

وما وصفتُ (الرسالة) بالصديق إلا وفي خاطري هذا البيت. فهي إلى قلبي حبيب.

زكي مبارك

لمن (رسالة الحج)؟

قبل ثلاثة أعوام قصدت مكة لزيارة قصيرة وكان لابد لي من زيارة الصديق الشيخ عبد الوهاب الدهلوي وكانت في يدي نسخة من رسالة الحج، فسألني الصديق وما تلك بيدك يا حسين؟ قلت هي (رسالة الحج): لدبلوماسي، وإنها لرسالة جميلة في أسلوبها وموضوعها. فقال: الأستاذ الدهلوي: هذه الرسالة لي وضعتها باللغة الأردية وطبعتها في سنة 1352 هـ باسم (أسرار حج) وأهديتها فيمن أهديت إلى أستاذنا الشيخ عبد الله السندي، وأنت تعرف هذا الأستاذ، فله تلامذة نجباء، وقد أعجبته الرسالة فدفعها إلى أحدهم فترجمها إلى الإنكليزية، وبقيت في حوزته. وفي اجتماع ضم الأستاذ عبيد الله والأستاذ حافض عامر قنصل مصر في جدة يومئذ جرى الحديث إلى تلك الرسالة، فأخذ الأستاذ حافظ الترجمة الإنكليزية وعربها وطبعها ووضع عليها أسم (دبلوماسي)

ثم توالت السنون وأطلعتنا الصحف المصرية أخيراً على تقاريظ لطبعة ثانية من رسالة الحج تقول أنها للأستاذ حافظ عامر وفيها ثناء عليه أهمه كلمة لفضيلة الأستاذ المراغي في أحد أعداد الهلال

فرأيت أن أقول كلمة ترد الحق إلى نصابه: أن رسالة الحج ليست من تأليف الأستاذ حافظ

ص: 35

عامر ولا من ترجمته. هي من تأليف الأستاذ الشيخ عبد الوهاب الدهلوي بالأردية ولا تزال تطلب منه في مكة. وأما الترجمة فقد قرأنا في كتاب حياة الرافعي للأستاذ العريان ما معناه ونصه: الرافعي وحافظ صديقان بلغ من صداقتها أن الرافعي كان يكتب لحافظ أسلوب المرافعة في الحكم حينما كان الأستاذ حافظ محامياً في طنطا. وقد ظل هذا التعاون الأدبي متصلاً بين الرافعي وحافظ إلى ما قبل موت الرافعي. . . ثم قال: كان ذلك في صيف 1935، وكان الرافعي يقضي أجازته الإسكندرية ليعاون صديقه السياسي حافظ في إنشاء رسالة دينية. فما رأي الأستاذ حافظ عامر؟

(جدة)

حسين محمد نصيف

تذكير

كان الأستاذ عمر الدسوقي قد وعد قراء (الرسالة) الزاهرة في معرض مقال له أنه سيتولى كتابة يحث في الأدب اللبناني الحديث معتمداً على تعرفه بالأدب السوري اللبناني أثناء الحقبة التي سلخها في لبنان

ولقد تنظّرنا أن يفي الأستاذ بما وعد، ولمّا يفعل

والأدب السوري اللبناني مفتقرٌ الآن إلى مثل هذا البحث لاسيما أنه لم يُوفَّ من التقدير حقه؛ فمن الناس من أشاد به وأطراه بالغ الإطراء، سواءً في الصحف أو في الإذاعة، ومنهم من بخسَه حقه وأنتقص من قدره

والى الآن لم يظهر الرجل الذي يتخذ مذهباً وسطاً، فلا يتبنى الأول وهو مبالغٌ فيه، ولا يتبنى الآخر وهو مبالغٌ فيه كذلك.

فلم يبق إلا أن نرجو الأستاذ الدسوقي أن يعتزم الأمر ثانيةً أن كان تقاعَدَه عنه شغل. ويكون هذا الناقد النزيه، وهذا الباحث العادل البعيد عن التعرُّض، وعساه يوافينا عما قريب.

(بيروت)

سهيل إدريس

ص: 36

(الرسالة الصديق)

جاء في العدد 459 تحت هذا العنوان تخطئة لوصف (الرسالة)(بالصديق)، وأن الصواب وصفها (بالصديقة)؛ وقد ذكرت معاجم اللغة صحة وصف المؤنث (بالصديق)

فجاء بالقاموس في مادة (صدق): (وكأمير الحبيب للواحد والجمع والمؤنث وهي بهاء أيضاً)؛ وجاء بالمصباح: (وامرأة (صديق) و (صديقة) أيضاً)

وجاء بالمختار: (والرجل (الصديق) والأنثى (صديقة)، وقد قال للجمع والمؤنث (صديق))

إذا، يصح أن نقول:(الرسالة)(الصديق) و (الرسالة)(الصديقة). . . ولعل صحة وصف المؤنث (بصديق) بناء على ورود هذه المادة متعدية، فقد ورد:(صدق فلاناً الحديث والقتال)؛ ومنه المثل: (صدقني سن بكره)؛ فهي حينئذ (فعيل) بمعنى (مفعول)

فعلى هذا يكون ما ذكره الأديب الفاضل من القياس على (الرسالة العظيمة) و (الكاتبة البديعة) بعيداً. إذ الأولى صفة مشبهة: (كشريف) و (ظريف)؛ والثانية وصف لاسم الفاعل الذي على وزن (مُفْعِلْ): (كنذير) و (سميع) وكلا هاتين الصيغتين يذكر مع المذكر ويؤنث مع المؤنث.

كلية اللغة العربية

على محمود الشيخ

إلى الدكتور حسني ولاية

لك يا حضرة الدكتور الفاضل أبحاث قيمة تتحف بها قراء الرسالة بين الفينة والفينة، فضلاً عما تخرجه المطابع لك بين الحين والآخر من ثمرات بعضها مؤلف وبعضها مترجم. . . وكلها تدور حول (علم النفس) وعلاقته بالمجموع العصبي للإنسان، فهل يتكرم سيدي الدكتور بالإجابة عما يلي: وله الشكر أولا وأخراً

1 -

ما هو الفرق بين الأمراض النفسية، والأمراض العصيبة، وهل من الضروري أن يكون المريض بأعصابه عليلاً بنفسه؟!

2 -

ما هو القلق العصبي، وما علاقته بنفس المريض؟

ص: 37

3 -

هل نعتبر المجرم مريضاً بأعصابه أم بنفسه. . .

4 -

ما تعليل قولهم أن لكل شاعر شيطاناً من الوجهة النفسانية؟

5 -

نرى أن بعض مختلي الأعصاب وبعض، المجرمين ينتجون ذرية صالحة جسمانياً وعقلياً والعكس بالعكس. . . فأين قانون الوراثة هنا؟!

وفي انتظار الإجابة أقدم للدكتور العالم جزيل احتراماتي.

(النخيلي)

محمد محمد مالك

إلى الأستاذ العقاد

كثير من الأدباء يتهمون إخوانهم بالأنانية وحب النفس، فأدباء الشيوخ الذين يحتكرون ميدان الأدب لا يبذلون أي جهد في تسديد خطى الشباب الناشئ

ولا أعرف السبب الذي يمنع أديبا مثل الأستاذ العقاد من تأليف كتاب عن الشعراء الناشئين الذين يدل شعرهم على نبوغ وعبقرية ومثلما فعل الشاعر الإنجليزي المعروف (و. ب. يتس) الذي كتب عن (روبرت بودج)، (ولتردى لمار)،

(هيلار بيلوك)، (ليونيل جونسون)، (أرنست دوسون) في مؤلفه (كتاب اكسفورد للشعر الحديث).

فشيوخ الأدب في أوربا لثقتهم بأنفسهم، وحبهم لفنهم، وإخلاصهم له يسددون خطى الأدباء الناشئين، ويشيدون بذكر المواهب منهم. فما رأي الأستاذ العقاد في هذا الموضوع؟ وهل يعمل الأستاذ على إخراج مثل هذا المؤلف؟ أنه أن أخرج هذه الفكرة إلى حيز الوجود فسيكون قد أسدى خدمة جليلة للأدب العربي المستحدث بجانب خدماته العديدة التي سبق أن أسداها إليه

كمال الدين نشأت

ص: 38