الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 461
- بتاريخ: 04 - 05 - 1942
تعليقات وتعقيبات
للأستاذ عباس محمود العقاد
من تعقيبات القراء الأدباء على مقالي في (ابن الرومي) كلمة كتبها الأديب (أبن درويش) في (الرسالة) يقول فيها موجها الخطاب إلى:
(نال مني الدهش لتعصبك لهذا الشاعر، ولعل هذا راجع إلى أن الأستاذ قد صاحب (ابن الرومي) أكثر مما كان ينبغي لمصاحبته. لهذا كان طبيعياً أن يخلع عليه أستاذنا الجليل لقب (شاعر العالم) غير منازع، أن يقول أن شعره ليس فيه مغمز لغامز، وأن إحساسه مرهف غاية الإرهاف، وتصويره آية في الإبداع. فما رأي سيدي الأستاذ بيتين مشهورين
(لابن الرومي) قالهما في روض سقته السحب أو أرضعته فأنبت ألفي رضيع من بني النضر حيث قال:
سقته ثُدِيُّ السحب من مرضعاتها
…
أفانين مما لم تقطره مرضع
كألفي رضيع من بني النضر ضُمنوا
…
محاسن هذا الكون، والكون أجمع
فأي تصوير هذا يا أستاذي العزيز؟ وأي استيعاب فني فيه. . . ألخ)
والأسئلة فيما نرى ضربان: سؤال يوجهه صاحبه وقد أجتهد في أن يعرف غرض الكتاب فهما سائران في طريق واحد. وسؤال يوجهه صاحبه وكأنه أجتهد في نقيض ذلك، ونقيض ذلك هو ألا يعرف غرض الكتاب وأن يتخذ له وجهة غير وجهته وطريقاً غير طريقته، فما مفترقان لا يتقاربان.
واحسب أن الأديب الذي وجه إلى ذلك السؤال لم يجتهد في معرفة غرضي بمقدار اجتهاده في الحيدة عنه، فقوّلني ما لم أقل، واعترض بعد ذلك في غير موجب للاعتراض.
فأنا لم أقل أن ابن الرومي شاعر العالم منازعاً أو غير منازع، وإنما قلت أنه شاعر (له عالم)، وفسرت ذلك بأنه قد نظر على طريقته إلى العالم كله فجاءت له في شعره صورة فنية كاملة. وذكرت له نظراء في تصوير العالم على طرق مختلفات كالمتنبي الذي نرى في شعره صورة للعالم من الوجهة العملية، والمعري الذي نرى في شعره صورة للعالم من الوجهة الفكرية، وغيرهما بين شعراء الشرق والغرب كثيرون.
وقد ينفرد ابن الرومي بمزية لم يسبقه فيها سابق من الشعراء الأقدمين والمحدثين فلا يكون
معنى ذلك أنه شاعر العالم غير منازع، لان المزية كما يعلم الأديب لا تقتضي الأفضلية، وربما عجز أناس أن يجاروه في مزيته ويسبقوه في مزية أخرى أو جملة مزايا لا تقل في شأنها عما تفرد به وتقدم فيه.
وإذا اعترض معترض على رجحان ابن الرومي في مزية التصوير الفني فسبيله إلى الاعتراض أن يذكر شاعراً آخر له حسنات في هذا الباب أفضل من حسنات ابن الرومي وأدل على الملكة الفنية، وليس سبيله أن يذكر الرديء أو المختلف عليه من كلام ابن الرومي المنسوب إليه.
كذلك لم أقل إن شعر ابن الرومي (ليس فيه مغمز لغامز) لأن العلو في الإجادة لن يمنع الإسفاف في الرداءة، وابن الرومي نفسه يعلم هذا ويعتذر لرديئه بأبياته المشهورة التي يقول فيها:
قولا لمن عاب شعر مادحه
…
أما ترى كيف رُكّب الشجر؟
ركب فيه اللحاء والخشب اليا
…
بس والشوك دونه الثمر
وكان أولى بان يهذب ما يخ
…
لق رب الأرباب لا البشر
وهي الأبيات التي افتتحت بها كلامي عن صناعة ابن الرومي في الكتاب المطول الذي كتبته عنه، لعلمي انه يقول الرديء كما يقول الحسن، وأن المغمز في كلامه لمن شاء غير قليل.
وبعد فمن هو الشاعر الذي يقال فيه أنه شاعر العالم أو أنه الشاعر العالمي إذا كان الإتيان ببيتين من شعر الرديء - على تسليم رداءته - حائلاً بينه وبين التفرد بمزية عالمية؟
من هو الشاعر الذي لا يؤتى له ببيتين بل قصيدتين يمغمزهما الغامز متى شاء؟
فليست الطريقة التي آثرها الأديب (ابن درويش) بطريقة الاعتراض المأثورة فيما أرى، وإنما الطريقة السوية أن نستنفد المحاسن حتى لا نبقي فيها بقية، وأن نقرن بينها وبين محاسن من قبيلها تفوقها وتربى عليها. . . أما ذكر بيتين أو قصيدتين لشاعر من كبار الشعراء فلا يغير الحكم عليه بالغاً ما بلغ الرأي في استهجان البيتين أو القصيدتين.
على أنني لا أذكر أنني قرأت البيتين في ديوان ابن الرومي، ولا أراهما مما يعاب سواء نسبا إليه أو إلى غيره، ولا أعدهما من أبيات الوصف لأنهما أشبه بأبيات التخلص التي
يأتي فيها الوصف عرضاً غير مقصود، وإنما عنيت أبيات الوصف فانتظرت (يذكرني من شاء بأبيات وصفه أبين له ما فيها من عناصر الاستيعاب)
ومع هذا اسأل الأديب: لماذا فهم أن إعجابي بابن الرومي راجع إلى أنني صاحبته أكثر مما كان ينبغي لمصاحبته؟
إن ابن الرومي لم يكن له ديوان مطبوع يوم كانت دواوين المتنبي وأبي تمام والبحتري وأبي نواس والشريف الرضي وغيرهم مطبوعة متداولة في أيدي القراء!
فإذا سعيت إلى قراءته مخطوطاً فإنما تكون المصاحبة الطويلة نتيجة الإعجاب وليست هي سبب الإعجاب
فلماذا يكون إعجابي به خطأ لا محالة فلا تفسير له إلا طول المصاحبة؟ ولماذا يكون رأي الأديب فيه هو الصواب لا محالة لأنه لم يطل مصاحبته، أو لأنه أطال مصاحبة الآخرين؟
وهل كان يجب أن أقول أن المتنبي أوصف من ابن الرومي لأكون قد صاحبت المتنبي كما ينبغي أن أصاحبه وأصاحب غيره؟
ولم يجوز التعصب على ابن الرومي بغير سند، ولا يجوز التعصب له بسند مفصل أو قابل للتفصيل؟
أن الرجل لكما قلت بين شعراء العالم أجمع، وأن الذي يمكن مزيته لمطالب بحسنات يثبتها لغيره تربى على الحسنات التي ثبتت له في دواوينه، فإن لم يستطع فما هو بغاض من قدره ولو جاء له بعشر قصائد رديئات، لا ببيتين أو عشرة أبيات.
وكتب إلينا الأديب (حسن محمد عبد الله شرارة) من نبت جبيل بلبنان يقول بعد مقدمة نشكره عليها: (. . . إلا ترون أن بين ابن الرومي وأبي نواس صلة من الصلات أو وجه شبه كبير أو قليل؟ فالدقة التي تتراءى في شعر ابن الرمي والشمول الذي يبين في معانيه يهينم على خمريات أبي نواس ويشيع فيها. وكذلك الناحية الوصفية والتصويرية التي امتاز بها ابن الرومي قد امتاز بها أبو نواس على ما بين النفسين من تقارب في هذا القلق والاضطراب والتعقيد. فخذوا أية خمرية من خمريات أبي نواس وغيرها أيضاً ترون ما أنا ذاهب إليه من هذه الدقة والسلاسة والعالمية والشمول ثم الإبداع الشعري العظيم. . .)
ورأيي أن أبا نواس وابن الرومي يتقابلان ولكنهما لا يتماثلان ولا يحسبان من (مدرسة)
واحدة إذا قسمنا الشعراء إلى مدارس كما يقسمهم النقاد الغربيون.
فابن الرومي حس متوفز، وأبو نواس لذة حسية. ومن هنا يتلاقيان، ومن هنا كذلك يفترقان
فابن الرومي يطلب اللذة الحسية لأنه يطلب كل ما يشغل الحس؛ فهو وأبو نواس في هذا متلاقيان
ولكن أبا نواس لم يطلب الحس لغير اللذة، ولم يشغل حسه بغير المتعة، فهو وابن الرومي في هذا مفترقان بل جد مفترقين.
ماذا يبقى من أبي نواس بعد المتعة الحسية؟. . . لا شيء! وماذا يبقى بعد المتعة الحسية في ابن الرومي؟ يبقى الحس كله، ويبقى ابن الرومي كله، وتبقى لنا نفس إنسانية تعرف والآلام والمتع، وتعرف المحاسن ولو لم تستخرج منها اللذات الممتعات؟
فلولا اللذات لما بالى أبو نواس بأن يحس الحياة. ولكن ابن الرومي يحس الحياة ولو لم تكن فيها لذات، لأن الإحساس عنده هو الأصل الأصيل، وليس هو الواسطة التي تنتهي إلى غايات.
أين القرابة بين أبي نواس وبين القلوب الإنسانية في عالم الألم؟ أين الدنيا وراء مجلس الأنس والشراب؟ أين الشمس؟ أين السماء؟ أين الربيع في غير معارض المنادمة وما إليها؟
لكنك تلغي مجالس المنادمة كلها ويبقى ابن الرومي في دنياه غير منقوص الأداة
فهو معك حيث تكون النفس الآدمية، وليس أبو نواس معك في غير مكانه الذي يهواه
وإذا تقابلا في الحان يوماً فهي مقابلة طريق لا تطول، ثم يفترقان!
وعندي بعدما تقدم تعليق على كلمة عجيبة سيق إلى كتابتها الأستاذ توفيق الحكيم وهو في قبضة الأديب (الفلاح) الدكتور زكي مبارك. فقال كلاماً لا يحسن السكوت عليه: فماذا قال؟
قال ما معناه أنه (صعب عليه) لأنه لم يجد في شكري للدكتور طه حسين تلك الرقة التي كان ينتظرها.
وما هي تلك الرقة التي كان ينتظرها؟ لا ادري، ولا اعتقد أن الدكتور طه اهتم بان يدري، أو احتاج إلى رقة الأستاذ توفيق الحكيم التي أوشكت أن تُسيل عبراته؛ لمَ، والله لا ادري. . . وقد ادري ويدري القارئ معي بعد قليل!
فعندي قصة صغيرة اهديها إلى الأستاذ توفيق الحكيم لأنه رجل قصاص يجب أن يخاطب
بأسلوبه
وهي قصة لا تتجاوز بضعة سطور، ولكنها تفيد
قيل أن الدكتور طه حسين خرج من وظيفته بالجامعة المصرية قبل سنوات؛ وقيل انه أثنى على الأستاذ توفيق الحكيم في بعض ما كتب وهو على جفوة مع رؤساء تلك الأيام؛ وقيل أن الأستاذ توفيق الحكيم أشفق من مغبة تلك الجفوة فكتب يقول إنه لا يريد مدحاً من أحد. وكان رقيقاً جداً فيما قال. . .!
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح
وقيل في قصة أخرى - لان القصة الأولى قد انتهت والحمد لله - أن الأستاذ توفيق الحكيم يسيل رقة حين ينكر أن الدكتور طه حسين رفع من شأنه بما كتب عنه، لأنه أطنب في وصف أديبة وفي وصف أديب، فلم يرفع من شأنهما على ما يزعم، وهما في الحق أرفع شاناً عند أناس كثيرين من صاحبنا الحكيم!
وأدرك شهرزاد الصباح أو المساء على قصة أخر تُمثَّل اليوم مع العقاد لأن خصومته قد تشبه خصومة الدكتور طه حسين قبل سنوات.
فما الرأي في تمثيلية تشتمل على فصول كهذه الفصول؟ أليس في التمثيل هوى لصاحبنا الحكيم؟
قد يدري القارئ الآن ما أدري وما يدريه الدكتور طه وما يدريه العارفون وأوشك أن يدريه غير العارفين. فلا (يصعب عليهم) كما صعب على مولانا الحكيم!
عباس محمود العقاد
محاكمة (آدم) و (حواء)
في جلسة سرية
للدكتور زكي مبارك
بين المحسوس والمعقول
سنجد في حديث اليوم أن الله ظهر (لآدم) و (حواء) بصورة حسية، وذلك يخالف العقيدة الإسلامية، فكيف نقبل تلك الصورة مع تنزيه الله عن أن تراه الأبصار؟
الحل سهل: فنحن نلخّص كتاب شيث بن عربانوس، وهو كتاب وُضعتْ أصوله في عهود فِطرية لا تُدرك المعقولات إلا عن طريق المحسوسات فهي لا تتمثل الله إلا بصورة حسية تراها العيون.
وما وقع في كتاب (شيث) وقع مثله في النسخة الموجودة بين أيدي الناس من (التوراة)، فعبارة التوراة صريحة في أن الله ظهر لآدم، وأن آدم وامرأته اختفيا بين أشجار الجنة حياءً من ملاقاة الله وجهاً لوجه بعد العصيان.
وعلى فرض أن التوراة الموجودة بين أيدي الناس هي التوراة الحقيقية وأنها لم تصب بتحريف ولا تبديل، فمن الممكن أن نرجع نصوصها إلى الاستعارة التمثيلية، كما صنع المفسرون حين وجدوا في القرآن ألفاظاً لا تساير الروح الإسلامي إلا بعد التأويل.
والواقع أن الإنسانية في عهودها الفِطرية جسَّمت جميع المعاني، فقد جعلت لله وجها ويدَيْن، وصورته بألوان لا نرضاها اليوم، بعد أن ارتقت العقول فصار من السهل أن تؤمن بأن الله ليس كمثله شيء، وأنه فوق ما تتصور الأوهام والظنون.
وما سُقنا هذا التمهيد لقراء (الرسالة) وهم من الخواص، وإنما أردنا أن نحرر الموقف تحريراً يرفع من طريقنا جميع العقبات لنصل إلى الغرض بسلام وأمان.
الجلسة السرية
أنزعج فريق من الذين حضروا الجلسة حين طلب آدم أن يحاكم في (جلسة سرية)، وأخذ منهم الغيظ كل مأخذ حين أجابه الله إلى ما طلب، فقد كانوا يشتهون أن يشبعوا ما انطوت عليه جوانحهم من شهوات الفُضول، وكانوا يتوقون إلى معرفة ما سيدافع به آدم عن نفسه
في ذلك المقام الرهيب، وربما كلن فيهم من تسوقه ثائرة الحقد إلى رغبة التشفي من آدم وهو مأخوذ بجريرة العصيان.
جزع آدم
كان الخوف من شماتة القرود هو الذي حمل آدم على طلب الجلسة السرية، وفاته أن يذكر أن لعلنية الجلسة حكمة عالية، فهي تدعو القاضي إلى التلطف في الاستجواب، ترفقاً بمن يحاسَب أمام جماهير لا تخلو من أعداء وأغبياء، وفاته أيضاً أن يذكر أنه سيقف وحده أمام قاضيه، وللوحدة رهبةٌ تزُيغ البصر وتعقل اللسان.
آدم يقف وحده أمام الله في جلسة سرية؟
وأين المحرّضون على المعصية وهم ثلاثة شُخُوص: إبليس والحية وحواء؟
فإن كان الله يريد إقامة العدل فليطلب حضور المحرضين ليلقوا جزائهم على التحريض
وما كاد هذا الخاطر يطوف بقلب آدم حتى صاح الهاتف:
- آدم لا تجمع بين المعصية والجهل
- أنا من العصاة ولست من الجاهلين
- أن اعتراضك على الله هو الغاية في الجهل
- أنا لا أعترض على الله، ولكني أطلب إقامة العدل
- وما العدل عندك؟
- هو أن يحاسَب المحرضون قبل أن أحاسَب
- ومن هؤلاء المحرضون؟
- الحية وإبليس وحواء. ومهما يكن فلا أقل من أن يحاكم إبليس اللعين
- أترك إبليس في غفوته، يا آدم، ولا توقظ الشر الوسنان
- لابد من محاكمة هذا اللعين على التحريض
- إبليس لعين؟
- بشهادة الله
- وكيف انخدعت بأحابيله وأنت تعرف أن الله شهد بأنه لعين؟
- تلك هفوة أوقعني فيها الجدُّ العاثر
- آدم، لا تجمع بين المعصية والجهل
- أراك تكرر هذه العبارة أيها الهاتف، فماذا تريد؟
- أريد القول بأن الله لم يعلن غضبه على إبليس إلا لحكمة سامية
- وما تلك الحكمة؟
- هي أن يرفع الغشاوة عن أصحاب الغرور والغفلة والانخداع
- أوضح، أيها الهاتف
- أن الله سخر إبليس لامتحانك، يا آدم، وشاءت رحمته بك أن يعلن أن إبليس شيطانٌ رجيم، لتنقطع حجتك في الانخداع أو لتأخذ الحيطة لنفسك فتحترس من ذلك الناصح الظنين. . . فإذا استطاع إبليس على سوء سمعته أن يجرّك إلى العصيان، فكيف يكون حالك لو كلف الله بامتحانك أحد الملائكة المقرَّبين؟
- آه، آه، آه، صَعَقْتني أيها الهاتف!
- ما صعقتك، ولكنني نصحتك، فاترك إبليس في غفوته، ولا توقظ الشر الوسنان
- وماذا يقول إبليس لو ألححتُ في محاكمته على تهمة التحريض؟
- سيصمت صمُت الأموات
- لماذا؟
- لأنه على رأس الشُّرطة السَّرية
- هو إذن جاسوس؟
- أن كانت هذه اللفظة تشفي غليلك فإملاء بها مسامع الأرض والسماء!
- أراك تعطف على إبليس مع أنه شاقَّ الله بعناد وكبرياء
- لا يستطيع مخلوق أن يشاق الله، ثم يترك له الله أي فرصة للتمتع بنعمة الوجود
- أيرضى الله عن نزغات إبليس؟
- لو أعلن رضاه لضاعت الفرصة في امتحانك
- أن رأسي يدور من هول هذا المنطق
- كنت أنتظر أن يدور رأسك من هول ما صنعتُ بنفسك
- وما صنعت بنفسي؟
- انخدعت بنصيحة مخلوق كتب الله عليه اللعنة إلى يوم الدَّين، فكيف يكون حالك لو خدعك مخلوق غير ملعون؟ أن إبليس فضح نفسه حين قَصَر دعوته على العصيان، وكان في ذلك ما يكفي لرفع الغشاوة عن عينيك
- آه، آه، آه، صعقتني أيها الهاتف!
- وسأصعقك مرة ثالثة فأقول: أنك شهدت على نفسك بالغفلة والحمق حين انخدعت لمخلوق مفضوح، فقد أعلن على رؤوس الأشهاد أنه سيزّين لك ولذريتك وأنه سيغويكم أجمعين، فما دفاعك عن نفسك وقد صلصل الناقوس بأن إبليس غريمك وأنه سيصرعك حين يستطيع؟ ما دفاعك وقد وضعت قدميك فوق أشواك سمعتْ أخبارها أذناك، ورأتها عيناك؟
- وترى أيها الهاتف أن اسكت فلا اطلب محاكمة إبليس على التحريض؟
- ذلك ما أراه، فأنا أخشى أن يظهر لسكان الفردوس أن إبليس أشرف منك
- اشرف مني؟ وكيف؟
- لأنه خادعٌ وأنت مخدوع، فان لم يكن اشر منك فهو أقوى منك، والقوة من علائم التشريف
- وألقي الله وحدي وجهاً لوجه في هذا المقام الرهيب؟
- كما لقيته وحدك وجهاً لوجه حين عصيته
- أكان الله يراني عند العصيان؟
- ألم تكن تعرف انه يراك؟ أن أوزارك بالجهل أوزارٌ ثقال!
- يظهر أنى سأخسر القضية في ساحة العدل
- لا خسران في ساحة العدل، فستفوز بأعظم ربح وهو التأديب
- أترك الحية واترك إبليس، واكتفي بحضور حواء
- لتحاسَب؟
- لتشهد محاسبتي، فقد يرى كرم الله أن يعفيني من الذل فما تكرم امرأة زوجها إلا إذا كان من الأعزّاء، وما أحسب الله يريد أن أهان.
يوم الحساب
- من أنت يا هذا؟
- عبدُك آدم
- وما تلك بيمينك؟
- أَمَتُك حواء
- وفيم حضرتما؟
- لنقول: (ربنا ظلمنا أنفسنا، وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين)
- من علمكما هذا الأسلوب من المتاب؟
- هو بعض ما تلقينا من فيض هدايتك الربانية
- وما الذي كان يمنع من إعلان هذا المتاب بحضور سكان الفردوس؟
- منع من ذلك الخوف من رفض هذه التوبة على مرأى ومسمع من القرود
- ولكن القرود خلقٌ من خلق، ومن حقهم أن يشمتوا بالآثمين
- هذه بداية مرعبة، وأنا أدعو الله أن يتفضل بإمهالي يوماً أو يومين لاستعد للدفاع
- أمهلتك أسبوعاً
وخرج آدم من الجلسة السرية وهو موقن بان الأمل في نجاته عزيز المنال!
فما الذي سيقع بعد أسبوع؟ وهل يفلح آدم وهو صاحب حواء؟ نسأل الله الصفح عن آدم، فما عرفناه إلا فتىَ وهّاج الروح والفؤاد.
(للحديث أشجان وشجون)
زكي مبارك
خسرو وشيرين
في التصوير الإسلامي
للدكتور محمد مصطفى
- 3 -
تنقل الحبيبان ومن معهما من أفراد الحاشية والجواري والخدم من مكان إلى آخر، فوق الهضاب المرتفعة وفي السهول وبين المراعي والحقول، وهما في رحلتهما إلى الريف ببلاد أرمينية، يلهوان بالصيد والقنص وأنواع التسلية والملاهي الأخرى، حتى وصلا إلى شاطئ نهر آراس، حيث تنبعث من الأرض رائحة المسك والطيب، ويجلب الهواء معه عطور الورود والرياحين وشذى الزهور والياسمين، فطاب لهما في هذا المكان المقام، وأمراً بضرب الخيام. وهناك أقام خسرو مأدبة ثانية لحبيبته شيرين، استمعا فيها لألحان (باربد) وموسيقى (نيكيسا) وهما يرددان أناشيد الغرام فينطقان بما ينبض به قلب كل من الحبيبين من عواطف ووجد وهيام.
وفي صبيحة اليوم التالي لهذه المأدبة، جلس خسرو إلى جانب شيرين أمام إحدى الخيام، وإذا بأسد جائع ينقضّ عليهما والشرر يتطاير من عينيه، يريد أن ينال من خسرو كأنه يحقد عليه الاستئثار بشيرين الحلوة الجميلة. فقام إليه خسرو وهو اعزل من السلاح، وتهيا ليقابله في معركة حياة أو موت، بينه - وهو ذلك الملك المتوج على شعب إيران العظيم - وبين هذا الأسد الجائع - وهو ملك الوحوش اجمع وسيد الصحارى والبراري - فتلقاه وقد شمَّر عن ذراعيه ليدافع عن حبيبته.
ووهبه الحب قوة على قوته، فامسك الأسد بيده اليسرى من لبدته، ثم هوى على أم رأسه بضربة شديدة من قبضة يده اليمنى كانت هي القاضية عليه. وقد حدث ذلك كله في طرفة عين دون أن يجد الحارس الواقف على مقربة من الخيمة الوقت الكافي ليهجم على الأسد ويشج رأسه بسيفه. وكانت شيرين قد هرعت إلى باب الخيمة ووقفت به، تنظر إلى (المعركة) واجمة خائفة أن يصيب الأسد خسرو بسوء، ولكنها عندما رأته ينتصر عليه، ازداد إعجابها بحبيبها واعتدادها به.
وفي (شكل1) نرى خسرو وهو واقف أمام خيمته بجوار مجرى ماء، وقد امسك بيده اليسرى لبدة الأسد، وتهيأ ليقضي عليه بضربة من قبضة يده اليمنى، والى اليمين أسرع حارس لمعاونته، وقد قبض بكلتا يديه على سيف امتشقه ليضرب به الأسد، ووقفت شيرين وعلى رأسها تاج في مدخل الخيمة تعض يدها وهي تنظر في لهفة إلى خسرو، وإلى جوارها ثلاث من صويحباتها يرقبن نتيجة (المعركة) ورجل من أفراد الحاشية تقدم لنجدة خسرو. ونلاحظ النقوش الجميلة الواضحة على قماش الخيمة من فروع نباتية وزهور وصور حيوانات وطيور. وهذه الصورة هي في مخطوط لأشعار إيرانية، كتب سنة 813 هجرية (1410م) للأمير إسكندر سلطان حاكم شيراز، وهذا المخطوط محفوظ في مجموعة جلبنكيان.
هكذا مرت الأيام ومضى الوقت والحبيبان يلهوان بالصيد والقنص، وإقامة الحفلات والمآدب، والاستماع إلى الغناء والموسيقى، ويشعران بالسرور والسعادة في قرب كل منهما للآخر إلى أن كان ذات ليلة وقد عصف الهوى بنفس خسرو واستبدّ به الغرام فلم يستطع كبح جماحه، فقرب منها يريد غوايتها، ولكنها صدته، وهي تذكر ذلك الوعد الذي قطعته على نفسها أمام عمتها (مهين بانو) الطيبة القلب، فاستمدت منه الجرأة لتقسو عليه، وتطلب منه أن يسعى لاسترداد عرش أجداده وأسلافه وينتصر على ذلك المغتصب، وهو ذلك الملك القوي، قبل أن يحاول غواية امرأة ضعيفة مثلها.
وكان لهذه الكلمات أثر شديد في نفس خسرو. ففي صبيحة اليوم التالي رحل قاصداً إلى بلاد الروم، وقلبه مليء بالحسرة المريرة لفراقه من حبيبته الجميلة. وفي الطريق مرّ على دير فيه راهب يتنسك، فقرب خسرو من الدير وقال:(أيها الراهب المتنسك، أني رجل من أهل إيران اقصد حضرة قيصر في رسالة، فأخبرني بما يصير إليه حالي، ويؤول إليه عاقبة أمري. فقال الراهب: أنت كسرى برويز وقد هربت من يد بعض عبيدك، وسيزوجك قيصر بعض بناته؛ ويمدّك برجاله وأمواله فتعود ويهرب عدوّك إلى بلاد بعيدة ثم يقتل بأمرك هناك. فقال: لا كان غير ما ذكرت أيها الراهب، ولكن متى يكون هذا؟ فقال: بعد سنة أخرى، إذا مضت خمسة عشر يوماً من السنة الثانية صرت ملك إيران، وتسنمت التخت ولبست التاج)
وكان قد ما تنبأ به هذا الراهب الصالح، وتوجه خسرو إلى الملك موريس إمبراطور الروم، فاستقبله استقبالاً حسناً، ودعاه إلى النزول في (هيروبوليس) فأقام بها. ثم زوجه من أبنته (مريم) وزوده بجيش قوي، تمكن خسرو بواسطته من أن ينتصر على القائد بهرام جوبين، ويلجئه إلى للفرار إلى خاقان الصين، حيث يقتل بأمر خسرو.
وفي (شكل2) نرى الموقعة بين الملك خسرو والقائد بهرام جوبين، وقد جلس خسرو في هودج على فيل كبير، وفي يده قوس يسدد منها سهماً. والى جانبه في وسط الصورة معلمه الوزير بُزرجميد الحكيم، وقد ركب على فرس وفي يده اسطرلاب يحدد به الوقت الملائم لهجوم خسرو على القائد بهرام جوبين ليضربه الضرة القاضية. ونرى المعركة حولهما قائمة على قدم وساق، والمحاربون يحملون الأعلام وهم على ظهور الجياد، يتطاعنون بالحراب والسيوف ويتراشقون بالسهام، وقد سقط البعض منهم صرعى على الأرض، وراحت جيادهم تعدوا هنا وهناك وهي حائرة. ويلاحظ ما هو واضح في هذه الصورة، من الحركة والحياة، وما يبدو على سحن الأشخاص فيها من الاهتمام. وهي تنسب للمصور (سلطان محمد) أحد مشاهير مصوري عصر الشاه طهماسب الأول الصفوي، لما فيها من ميزات أمتاز بها أسلوبه في التصوير وهي محفوظة في المتحف الملكي الاسكتلندي.
وللمرة الثانية توّج خسرو ملكاً على إيران بعد فرار القائد بهرام جوبين إلى خاقان الصين، فأرسل إليه خسرو من اغتاله هناك. ولما استتبت أمور برويز وانتظمت أسباب سلطانه، وأذعنت الملوك طوعاً وكرهاً لأوامره وأحكامه، وأظلت على العالمين سحائب عدله وإحسانه، قسّم الأرض أربعة أقسام، وأرسل إلى كل قسم منها أثنى عشر ألف فارس ممن مارسوا الأمور وكابدوا تصاريف الدهر حتى صاروا أفراد الزمان، وآساد الضرابْ والطعان، وأوصى الكل بالتيقظ والتحفظ وحفظ الممالك، وضبط المسالك. ثم رزق من زوجته مريم بنت موريس إمبراطور الروم أبناً دعاه بين الناس (شِيرويَه). ولما ممضى ثلاث ساعات من الليل على ولادته، حضر المنجمون عند الملك، فسألهم عن طالع المولود، فقالوا: أيها الملك، أن الأرض تمتلئ من هذا المولود شراً، ولا يحمد أحد سيرته، وهو يمرق عن الدين، ويخرج عن طاعة رب العالمين. وكان ما تنبأ به المنجمون، ولزم شيرويه نحس طالعه، حتى أمر بقتل أبيه خسرو، ثم مات هو بالطاعون كما سيأتي ذكر
ذلك فيما بعد.
وفي (شكل3) نرى خسرو في يوم تتويجه ملكاً على إيران وقد جلس على عرش في منظرة بحديقة غنية بأشجار السرو والفاكهة والزهور والورود. ويحيط به بعض كبار المملكة وهم يتحدثون ويتناقشون، ويقدم لهم الخدم والسقاة الطعام والشراب، ووقف حولهم رجال الحرس ومعهم أسلحتهم، وغلمان (البازْدارِيّة) وهم يحملون صقور الصيد. ووقف على سطح المنظرة ستة من أفراد الحاشية يتجادلون ويشيرون إلى أسفل، ويبدو كل منهم أنه يود أن يسبق زملاءه في التعرف على كبار الدولة الواقفين حول خسرو. وهذه الصورة عليها إمضاء المصور (آقاميرك)، ولكن بعض مؤرخي الفن الإسلامي، يقولون أنه لا يمكن التثبت بوجه قاطع من صحة هذه الإمضاء، بالرغم مما هو واضح في هذه الصورة من الدقة في رسم الزخارف والزركشة على الملابس وغير ذلك مما أمتاز به أسلوب آقاميرك في التصوير. ونشأ هذا المصور من أسرة كريمة المحتد في أصفهان، تنتسب إلى آل البيت، ثم رحل إلى تبريز حيث تعلم التصوير على المصور (بهزاد) وكان آقاميرك من الأصدقاء المقربين للشاه طهماسب الأول، ويقال أنه ما زال يشتغل بالتصوير في بلاط هذا الشاه حتى سنة 957 هجرية (1550م). ويظهر أن المصور قصد في هذه الصورة أن يبّين ما كان عليه بلاط الشاه طهماسب من الأناقة والبذخ والروعة والجلال، وأنه صوّر الشاه نفسه في شخص خسرو الجالس على العرش، كما يتضح ذلك من سطر الكتابة في أعلى بناء المنظرة. وهذه الكتابة تقرأ (اللهم خلد دولة السلطان الأعظم والخاقان الأعدل الأكرم السلطان ابن السلطان بن السلطان أبو المظفر السلطان شاه طهماسب الحسيني الصفوي بهادرخان خلد الله تعالى ملكه وسلطانه والى (كذا!) يوم الدين). وهذه الصورة في مخطوط نظامي السابق الذكر المكتوب للشاه طهماسب بين سنتي 946 و950 هـ (1539 - 43 م) وهو محفوظ في المتحف البريطاني.
(له بقية)
محمد مصطفى
أمين مساعد في دار الآثار العربية
قصة رمزية في فصل واحد
صدى الأجيال
للأستاذ فؤاد البهي السيد
المسرح: خيال الإنسان
الزمن: قبيل النوم في الفترة التي يهوم فيها الإنسان بين اليقظة والحلم
الأشخاص: العقل الواعي. الرقيب. العقل الباطن
النظارة: الإنسان
النفس وعاء ترسب في قاعه مغامرات ونوازع إنسان الغابة الأول، وغياهب المشرئبة إلى الإشباع، وتطفو على سطحه النوازع المهذبة التي تتماشى وروح العصر. وبين العالمين يقوم الرقيب، ليمنع فيض ما رسب في القاع من عناصر العقل الباطن على المنطقة التي خلصت من الشوائب، وسمت صعدا إلى القمة، حيث العقل الواعي. وبين اليقظة والنوم يغفو الرقيب أحياناً فينسل عقل الغابة والفطرة الأولى إلى القمة راقصاً رقصة الدغل، مصوراً أحلام البراري، بينما العقل الواعي يغط في نوم عميق.
صدى الأجيال
الظلام يلف الوجود في شملة كثيفة داكنة، والإنسان قد اغمض عينيه وهجع في فراشه، وصمت في كل شيء من حوله، وسكن الوجود وهدأ.
يقبل النوم عليه خفيفاً لطيفاً كالنسيم، ويتركه ليقظة نائمة، وبين تلك اليقظة وهذا النوم يرتفع حوار العناصر من أعماق النفس.
الرقيب: صه، انك لن تخطو!
العقل الباطن: إنما هي ذكرى الغاب. . . ما أراني أرقص صُعداً نحو القمة، مجتازاً حدودك محطماً أغلالك. إنما أدور حول نفسي. . . تلك سنتي وأنت بها عليم خبير
الرقيب: ما أراك خادعي هذه المرة أيضاً؟
العقل الباطن: وهل تراني خدعتك أبداً؟
الرقيب: لطالما غافلتني وتسللت إلى قمة النفس، وهناك رحت ترعد وتبرق؛ رحت تستعيد
لنفسك ذكرى قد اندثرت وماتت: ذكرى الغاب والدَّغل، ذكرى البراري والفطرة
العقل الباطن: أي هراءٍ هذا؟ أتراني أقوى على مغالطتك. . . لقد كنت تغفوا فأنسل صعداً، وتستيقظ فأنسل هابطاً. أتذكر مرة واحدة خطوت فيها أمامك وأنت يقظ متسنماً قمة النفس - إني لأحترمك ولا أقوى على فعل ما تأباه وأنت يقظ
الرقيب: أنت تخشاني وترهبني فقط. ما اغرب منطقك، انك دائماً تغالط!
العقل الواعي: أرى عراكاً وأسمع صخباً. . . لقد أختلط الوجود حيالي، فلا أكاد أميز شيئاً، من يدري؟ لعله حلم بعيد لم يستكمل نموه بعد
الرقيب: (وقد أقترب صوته واستبان) صه!
العقل الباطن:. . . . . . . . . . . .
العقل الواعي: ما ورائك يا رقيب؟
الرقيب: لاشيء. . . لاشيء. . . إنما كنت أشهد عراك العناصر، عراك الأجيال السجينة
العقل الواعي: ما أراني أفهم عنك
الرقيب: (وقد أخذ صوته يخفت ويبعد شيئاً فشيئاً). . . أحقاب وعصور وأجيال سجينة هناك في الأعماق، تجاهد وتكافح لتصخب وتضج على مسح وجودك لكنها لا تفلح في عبور القناة التي بناها الزمن وأقامتها الحضارة، فتعود لترقص وتدور حول ما يصوره لها وهما أنه الحاضر
العقل الواعي: ما أراني أفهم عنك أيضاً، بل ما أراني أكاد أسمعك
الرقيب: أنه عراك. . . سمه كيف شئت. . . سمه يقظة الماضي، أو سمه حلم الزمن، أو سمه. . .
العقل الواعي: (وقد أخذ يغط في نوم تقطعه يقظة يتلوها إغفاء)
ماذا. . عراك. . . ماضي. . . زمن
العقل الباطن: (مخاطباً الرقيب) ترى ماذا بيني وبينك؟
الرقيب: لاشيء
العقل الباطن: ما كنه هذا العداء الذي تضمره لي؟
الرقيب: من قال إني أعاديك، إني أمنعك فقط
العقل الباطن: ولماذا تحرمني الحرية. . . لماذا تحرمني النور؟
الرقيب: بل قل لماذا أحرمك الظلام، أتراك تحيا في النور أنت ابن الماضي الذاهب في القدم. . . ابن الظلام. . . ابن الكهف والغار. . . أنت ابن. . .
العقل الباطن: ليكن من أمري ما يكون، فلماذا تقف بيني وبين التصعيد؟
الرقيب: لماذا؟ ما أعجب أمرك! طبيعة الحياة الحاضرة. . . الوجود كله يقف الآن بينك وبين ما تريد. . . لقد تبدل العالم وتغير. لقد دار الفلك دورته، وتغيرت الأرض غير الأرض و. . .
العقل الواعي: فلك. . . أرض. . . ما لك تهذي اليوم هكذا؟
العقل الباطن:. . . . . .
الرقيب: دع الفلك والأرض والهذيان. . . هاأنت أوشكت أن تنام. . .
العقل الواعي: أ. . . نا. . . م. . .
الرقيب (لنفسه): ما أقسى الحراسة وكل ما حولي يغري بالنوم والإغفاء والراحة!
العقل الباطن (مخاطباً الرقيب): لقد نام الطفل
الرقيب: بل قل قد نام الجبار
العقل الباطن: جبار (يقهقه ضاحكاً بخشونة) أنه طفل، إنه صنع يدي هاتين. . . أنا الذي منحته الوجود والحياة. . . في البدء تآلفت ذراته وتجمعت ثم خفت فطفت وكانت قشرة، وتركزت فهبطت فكنت القاع واللب
الرقيب قل، صفا وتنقى فطفا: وحملت الشوائب وحدك فرسبت
العقل الباطن: ليكن من أمر خلقه وخلقي وتكوينه وتكويني ما يكون فهو ما فتئ طفلاً وأنا ما زلت جباراً
الرقيب: إذا فما أغربه طفلاً يهيمن على جبار!
العقل الباطن: (يهبط متكثفاً متركزاً نحو القاع)
الرقيب: يرى أين ذهب الجبار، أعني الطفل الذي تمخض عن الجبار
(يهفو من بعد صوت مضطرب فيه حدة وفيه لين. . . تستبين النغمات وتنسجم فإذا دوى طبل وأنة ناي. . .)
(الرقيب لنفسه): لقد راح العقل الباطن يرقص في الأدغال، لعله عاد إلى عالمه وماضيه الذي فيه يحيا ويتنفس. . . بل لعله سئم الحوار ويئس من الإقناع
العقل الباطن: (يدور مبتعداً فإذا النغمات صدى يتردد في جوانب النفس من بعيد، وينأى فإذا نغماته وإذا صداه وهدوء وموات. . . يدور ويقترب فتعلو ألحانه ويصخب ضجيجه)
الرقيب (وقد خدرت هذه الألحان أعصابه): أف! ما أقسى الحراسة، وكل ما حولي يغري بالنوم والإغفاء والراحة
(يهوم نائماً، ثم يستيقظ فزعا، ثم يعود ليهوم ويغفو على ألحان الناي والطبل)
العقل الباطن: (تنسل عناصره في خفة ولين وحذر، تخطو متدثرة مستترة في صبغات وألوان وأشكال وخيالات لتموه على العقل الواعي حتى لا توقظه فيطردها. . . تخطو وتطفو صعداً. . . . . .)
وكانت إغفاءة. . . وكان حلم!؟
فؤاد البهي السيد
ذكرى ميلاد الرسول
للأستاذ محمد يوسف موسى
(بقية ما نشر في العدد 458)
يقول ابن إسحاق فيما يرويه ابن هشام في سيرته: أن عبد المطلب جد الرسول قد نذر - فيما يزعمون - لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا مبلغ الرجولة لينحرن أحدهم لله عند الكعبة. فلما توافى بنوه عشرة وصاروا رجالاً، جمعهم وأخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء به، فأطاعوا وقالوا: كيف تصنع؟ فذهب بهم إلى هبل - أعظم أصنامهم وكان مقاماً داخل الكعبة - وأقرع بينهم بالقداح - فخرج القدح على عبد الله أحب بنيه إليه، فأخذ والده إلى إسافٍ ونائلة - وكانا كذلك صنمين - وأخذ الشفرة وهم بذبحه، فقامت إليه قريش وبنوه ومنعوه ما أراد من الأمر الجلل، وانتهى الأمر باستشارة عرافة لعلها تأمر بما يكون فيه من هذه الكارثة مخرج، فأشارت عليهم بأن يقرعوا بين عبد الله وعشر من الإبل - وهي مقدار الدية - فإن خرجت القرعة على الإبل نحروها ونجا عبد الله، وإلا زادوها عشراً ثم عشراً حتى يرضى الله. وأخيراً رجعوا وظلوا بقوامهم يستوحونها وفي كل مرة يخرج القدح على عبد الله، حتى بلغت الإبل مائة، فخرج القدح عليها ثلاث مرات متواليات، فنحروها فداءً عنه، وكان فرح عظيم.
هل نرى سخرية أكبر من هذه؟ كبار العقول والأحلام يحكمون ما صنعوا وأقاموا من أصنام في أنفسهم وبنيهم ودمائهم! (ولقد كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فتخذ وربَّا، وجعل الثلاث الباقيات أثافيّ لقدره، وإذا أرتحل تركه، فإذا نزل منزلاً آخر فعل مثل ذلك)
وإذا كان العرب - كغيرهم من الأمم - من الناحية الدينية والناحية الاجتماعية في حاجة إلى دين جديد يخرجهم من الضلال للهدى ومن الظالمات للنور، وينقذهم مما تردوا فيه من جهالة جعلتهم عبيداً لما يصنعون من أصنام وأوثان. هذا الدين الجديد كان الإسلام الذي يتفق والإنسانية التي بلغت النضج الكامل. جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فاضطرب لمولده رجال اليهود والنصرانية، إذ رأوا فيه قضاء على ما كان لهم من حول وسلطان.
هذا الدين كان حرياً بنا أن نعثر به ونهتدي بهديه، وقد رأينا كيف جعل من العرب
المتعادين المتقاطعين أمة متماسكة متحدة ملكت في سنوات معدودات بلاد فارس والروم، وكيف قدم للعالم مبادئ وتشريعات فيها الصلاح كل الصلاح والخير كل الخير، وكيف أسس حضارة لا تزال مضرب الأمثال.
نحن - وسائر المسلمين في العالم من أدناه إلى أقصاه - نحتفل كل عام بميلاد محمد صلى الله عليه وسلم، ويلقي في كل ما نقيم من حفلات ما يأخذ بالأسماع والألباب من النثر والشعر، فنظن أننا بهذا قضينا واجب الذكرى بخاتم النبيين الذي كان بعثه بشير رحمة للعالمين. لا، والله، لن نقضي حق هذه الذكرى المجيدة إلا كنا أهلاً لهذا الدين الذي نشرف بالانتساب إليه، وإلا إذا أخذنا بتشاريعه وآدابه وتقاليده. وإن أمة لا تعمل إلا الكلام تنمقِّه، والمآثر تعدِّدها، والتاريخ ينقِّر عنه في حسرة وألم، لهي أمة مقضي عليها بالانحلال. لقد صرنا في زمن يعتبر فيه طلب التشريع الإسلامي ضرباً من العبث، والمناداة بتقاليد الإسلام عودة للرجعة. وهؤلاء الذين يرموننا بالعبث والرجعية يرون الخير في أن يأخذوا من تقاليد أوربا وحضارة أوربا التي نشاهد مبلغ ما صارت إليه وما فعلت بأصحابها! وهم مع هذا كله يحتفلون بميلاد الرسول وبهجرته وبكل ذكرياته وأيامه المجيدة، ظانين أنهم بما يلقون أو يسمعون من الخطب قد قضوا ما عليهم من واجب!
لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي نتذكر هذه الأيام من كل عام مولده هدْىٌ وسنن في كل نواحي الحياة، وللدين الذي أرسل به تشاريع تناول جميع الشئون، ونجاحنا في هذه الحياة وسعادتنا فيها في الدار الآخرة رهن بإتباع هذا الدين في الجليل من الأمر والحقير، وكرامتنا كأمة لها مقوماتها وخصائصها في أن نلجأ إلى هذا الدين وحده، نأخذ منه ما نحتاج من تشريعات وقوانين وتقاليد هي مجلبة للعز والفخر.
يبدأ الاحتفال وينتهي في القليل من الزمن، ويعود كل المحتفلين إلى داره. فليتذكر كل منا إذن إذا ما خلا بنفسه بعد أن أنفض الحفل: أنه مسلم، وأنه منذ ساعات كان الاحتفال بذكرى ميلاد نبي الإسلام ورسوله، وأن هذا الإسلام - فيما يوصي به - بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن كان في ذلك غضب الرؤساء وأولي الأمر، وبالرفق بالفقير وإعطائه حقه وبالإخلاص لله في السر والعلن، وبعدم خشية أحد إلا الله مالك الأمر كله، وبعدم استخذاء الإنسان فلا يذل لغيره من المخلوقين مثله، وبالغضب لله كلما أمتهن شيء
من دينه أو ديست شرائعه، وباعتبار الناس جميعاً أخوة لا فرق بين جنس وجنس ما داموا جميعاً تحت راية الإسلام. فإذا تذكر هذا كله، فليسأل نفسه: أين هو من هذا الذي يأمر به الإسلام؟ وهل هو مؤمن حقاً يفهم الدين ويعمل به؟ أم مسلم لأنه ولد في أسرة مسلمة ونشأ في بلد إسلامي؟ بعد هذا إن عرف من نفسه أنه مؤمن حقاً بقلبه وعمله، فليحمد الله وليعلم أنه يحتفل بقلبه وعمله في كل حال بالإسلام ورسوله وبمولد هذا الرسول وبعثته، ما دام يعرف الدين ويعمل به، ويحترم الرسول ويعمل بسنته وهديه. وإن عرف من نفسه غير ما تقدم، فليعلم أنه مراء يظهر الاحتفال يصاحب الإسلام ويمتهن الإسلام ورسوله بالإعراض عما جاء به من هدى وشرائع وسنن وآداب، وليندم وهو في سعة من أمره وليعزم على أن يكون في غده خيراً منه في يومه. هدانا الله سواء السبيل، ووفقنا إلى الصراط المستقيم.
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين
مرسَلات.
. .
اختلاف الأزهريين
يختلف الأزهريون في آرائهم كما يختلف سائر الناس. واختلاف الرأي أمر لابد منه في قضايا العلم والبحث ولكن الظاهرة الغريبة التي أصبحت شأنا من شئون الأزهر الخاصة، وعلامة من علاماته المميزة، هي التفاوت البعيد في النظر إلى الأشياء والحكم عليها، مع أن القوم يشربون من معين واحد، ويصدرون عن ثقافة ما ترى في أصولها من تفاوت: يرى الرجل منهم أو من غيرهم رأياً فيعلنه للناس فإذا أهل الأزهر فيه فريقا يختصمون: هذا يرفعه إلى السماء، ويصفه بأنه رأى عظيم يرجى منه الصلاح ويرتقب فيه الخير، وذاك يخفضه إلى الأرض ويراه شراً مستطيراً وفساداً يجب أن يوقي الناس خطره ويجنبوا ما فيه من وبال! ولم يغب عن القراء ما كان من أمر جماعة كبار العلماء في (فتوى الأربعاء) ثم في (برنامج الإصلاح). وقد نشر عالم فاضل في (الرسالة) بحثا جيداً عن (شخصيات الرسول) فوقف الأزهريون منه موقفين متناقضين: قالت طائفة منهم: لم يأت بجديد؛ وقالت طائفة: إنه قال بما لم يقله أحد من قبله! ولو اقتصروا على هذا الخلاف في الشكل لهان الأمر، ولكنهم اختلفوا أيضاً في الموضوع اختلافاً بعيداً، فمنهم من رآه فتحاً في الدين عظيما، ومنهم من رآه شراً مستطيراً، وناراً توشك أن تلتهم الأخضر واليابس!
والأزهريون قوم مؤمنون، والمؤمن سريع الغضب، سريع الر ضا، ولذلك غضبوا على الأستاذ الإمام محمد عبده فرموه بالكفر والإلحاد، ثم رضوا عنه فهو الآن من الأئمة المصلحين. والأستاذ الأكبر المراغي كان خارجاً على الدين وهو رئيس للمحكمة الشرعية العليا، ثم عاد إلى الدين فجأة بعد توليه مشيخة الأزهر! والزيات، وطه حسين، والعقاد، وشلتوت، والزنكلوني، ومبارك، وهيكل، وغيرهم قد ذاقوا من ذلك ما ذاقوا. ولست أدري: أفي الأزهر الآن مشَّرحون لهذا الغضب؟
اللهم حوالينا ولا علينا!
محمد محمد المدني
نحو المحور الإسلامي
للأستاذ صالح جودت
وعبقريٍّ مُبْدعٍ فنَّهُ
…
من عالَمٍ فوق نُهَى الآخرهْ
ما علّموه الشَّعرَ لكنه
…
لأْلأَهُ من روحه الشاعرهْ
حديثُهُ السِّحرُ سوى أنه
…
من غير وَحْيِ الْجِنَّة الكافره
من العبير القُدُسِ افْتَنَّهُ
…
من رُبَى إلهامه العاطره
قام إلى قومٍ عُفاةٍ نيامْ
…
بشِرعة الحق ودين السماحْ
ينشر في الأرض لواَء السلام
…
ويمحق الظُّلْم بحق السلاحْ
عقيدةُ الأحرار تمحو الظلام
…
وتُرسل الروحَ طليقَ السراح
أَلَا لوجهِ المجد هذا القيام
…
وفي سبيل الله هذا الكفاح؟
في زُمَرٍ مُختلفات القبيلْ
…
قلوبها شَتَّى فلا تلتقي
لم يَكُ للمجد إليها سبيلْ
…
ينهض في تاريخها الْمُمْلَقِ
طافت بها مُعجزةٌ للرسول
…
تعقد تاجَ الأرض لِلْمَشْرق
وتنزع الحقَّ من المستحيل
…
بالوحدةِ الزاهرةِ الرونقِ
مَنْ ذلك الأُمِيُّ من (يَعْرُبِ)
…
يحلم في الأرض بمجد السماءْ
ويبعث الصيحةَ في (يَثْرِبِ)
…
فيحشد الأُمةَ حول اللواء
يا عَجباَ من سِحْر هذا النبي
…
العبقريِّ الْفَرْدِ في الأنبياء
كيف مَضَى بالبلد المجدبِ
…
لملكوتٍ بين قَرْنيْ زُكاء؟
يا سيرةً من غابر الأَعْصُرِ
…
خفَّاقةً خلف حجاب السنينْ
لم تَخْفَ عن كسرَى ولا قيصرِ
…
وإن طوتْهَا غَفلةُ الحاضرينْ
عُودي إلى أقوامنا وانظري
…
ما تفعل الفُرْقةُ بالهاجرين
لم يبقَ إلا أَمَلٌ ينبري
…
ضياؤُه اللماح من (عابدين)
في ناظِرَيْهِ موعدٌ للوفاقْ
…
ومن خلال العُرْبِ صدقُ الوعودْ
يُهيب بالشام ويدعو العراقْ
…
ويبسط الْكَفيِن لابن السَّعود
سِيرُوا إلى ميعاده يا رفاقْ
…
وحققوا وحدتكم في الوجود
قد ساد أعداءٌ لنا في الفراق
…
وآنَ في وحدتنا أن نسود
لُوذُوا بحبل الله واستعصموا
…
بالعُروِة الوُثَقى ولِمُّوا الشتاتْ
وَلْيَنْتَظِمْكُمْ مِحْوَرٌ مُسلمُ
…
تسمو أمانيه بأُم اللغاتْ
لا يَثْنِكُمْ يأسٌ فتستسلموا
…
له فإِن اليأسَ صِنْوُ الممات
إن لم تَفُزْ بالمجد أيديكُمُو
…
فلن تنالوا المجدَ بالمعجزات!
صالح جودت
الحرب في البحر
للأستاذ محمود البشبيشي
(لا يمنعني إخفاق هذه القصيدة في مسابقة الشعر العربي من إهدائها إلى جمهرة أهل الأدب، وبخاصة الأستاذان الفاضلان: صاحب (الرسالة) والدكتور زكي مبارك):
يكاد اليم ينتثر انتثاراً
…
إذا ما عاصفٌ منها أغارا!
جبالٌ في المحيط تسير هوناً
…
وفي الهيجا سهامٌ لا تجارى
وفوق اليم تحسبها قصوراً
…
تميس إذا عصوف الريح ثارا
تخب عرائساً، وتخف أُسداً
…
وتفتك جِنة وتشب نارا!
تدك مدائناً عزت وطالت
…
فتنسفها وتذروها غبارا
إذا انطلقت تدفعت الدواهي
…
وإن دارت رأيت الموت دارا
وإن شامت بوارق من عدو
…
مضت للهول ترتقب انتصارا
يحوّم فوقها طيرٌ مريد
…
عنيد لا يرد ولا يبارى!
إِذا احتدم القتال رأيت جنًّا
…
توثب للردى ومضى وطارا!
وفي جوف الخضم لها وليد
…
يروع البحر فتكاً واقتدارا
تسرب في المحيط أذى وشراًّ
…
وعاث بموجه وبه توارى
مع الحيتان يسبح مطمئناًّ
…
ومن فتكاته الكون استجارا
ويرنو للسفين بعين غدر
…
خؤون في الخديعة لا يجارى
وإن يرم السفينة خلت طوداً
…
ترنّح ثمت انفجر انفجارا
وكم ليل ببحر الروم كادت
…
له الأفلاك تنتثر انتثارا
تقاذفت البوارج فيه ناراً
…
فريع النجم وانكدر انكدارا
فلو أبصرتها والليل ساج
…
لخلت الشهب تنحدر انحدارا
تراها خرداً عقدت عليها
…
قباب الماء تنهمر انهمارا
وآونة ترى أتون نار
…
تنفجر صاعقاً ورمى دمارا
يجن الموج من فوق إذا ما
…
رأى الأطواد قد طوت البحارا
تقحم لا تهاب كأن بحراً
…
من الآساد فوق البحر مارا
تزاور في العباب تروم فتكاً
…
كخيل في الوغى شقت غبارا
فطوراً للردى تمضي يميناً
…
وطوراً للردى تمضي يسارا
ترى طوداً يغير على سواه
…
تأمل ترى طوداً أغارا؟
على جنباتها أسدٌ كبار
…
تصاولَ مثلها أسداً كبارا
تحف بها ولائد ضاريات
…
كما هيجت أشبالاً صغارا
قذائف تملأ الأعماق رعباً
…
وتنسج من شظاياها ستارا
تكر على العدو مدمرات
…
وتبعث من جوانحها الدمارا
تمزق ستر حالكة الدياجي
…
وتكسو صفحة الإصباح قارا
فرب قذيفة عصفت بليل
…
فهب الليلُ يلتمس الفرارا
وتقرْى اليم أكباداً رطابا
…
وتودعه النفائس والنضارا
ربيب العلم ويحك بعض هذا
…
طويت شرائع الدنيا احتقارا
ألا نفس ترد الحرب سلماً
…
وتجعل ظلمة الدنيا نهارا!
محمود البشبيشي
البَريدُ الأدبيّ
من الدكتور عزام
يا أخي صاحب الرسالة
السلام عليكم
كتبت مقالي الأول عن الصوفية آملاً أن أتابع الكتابة في هذا الموضوع الجليل، ثم قضت أمور أستأنف سفري إلى بغداد الذي أزمعته منذ شهرين. فإن انفسح الوقت أرسلت مقالاتي من دار السلام، وإلا فموعدنا العودة القريبة إن شاء الله. وفي مأثور كلام الصوفية:(الصوفي ابن الوقت). وفي هذا يقول جلال الدين:
صوفي ابن الوقت باشد أي رفيق
…
نسيت فرد اكفته أزشرط طريق
(يا رفيقي، الصوفي ابن الوقت،
…
وليس من شرط الطريق أن تقول غدا)
فنسأل الله أن ييسر لنا الأوقات ويهيئ لنا خيرها والسلام. . .
عبد الوهاب عزام
آفة أدبية فأين أطباؤها؟
أحسن الأستاذ الفاضل طه الراوي في إزالة ذلك الوهم الشائع من نسبة موشَّحة مشهورة إلى ابن المعتز؛ في حين أنها من آثار أحد شعراء الأندلسيين. . . ومثل هذا الوهم كثير الورود في الأدب العربي، ولقد تغاضى عنه الرواة، واستساغه الأدباء على مختلف العصور، حتى اصبح آفة لا مخلص للأدب منها؛ وهي آفة تفرّد بها أدبنا العربي دون آداب الأمم جميعاً؛ ولم تمنعها شهرة بعض شعرائنا وجريان قولهم على الألسنة من أن تحرمهم ثمار بعض هذه الآثار التي كفلت لأسمائهم الخلود.
فهذا أبو تمام يصف الخمر في إحدى مدائحه بقوله:
يخفي الزجاجةَ لونُها فكأنها
…
في الكف قائمة بغير إناء
ولها نسيم كالرياض تنفستْ
…
في أوجُه الأرواح بالأنداء
. . . ثم نجد البيتين بنصهما في قصيدة للبحتري؛ فما ندري أنلوم الشاعر على تجرِّيه أم نلوم جامع ديوانه قَّلة تحرِّية. . . والأبيات المشهورة التي أولها:
قالوا: هجرتَ الشعر قلت: ضرورة
…
باب البواعث والدواعي مغْلقُ
. . . ينسبها أدبائنا الأفاضل جامعو (المنتخب) إلى أبى المظفر محمد بن أحمد الأبيوردي؛ في حين يُوردها البستاني في دائرة معارفه منسوبةً إلى أبى اسحق الغّزي الأشهبي. وقد مات أول الرجلين عام 557هـ والثاني عام 524؛ وكلاهما عاش في خراسان، مما قد يشير إلى مصدر هذا الالتباس في آثارهما.
وأعجب من هذا أن قصيدة واحدة يدعيها أكثر من أربعين شاعراً، وهي النونية التي مطلعها:
صاح في العاشقين يا (لكنانهْ)
…
رشأٌ في الجفون منه كنانه
هذه أمثلة لدينا عشرات منها، وقد يتجمع لدى بعض الأدباء منها مئات ومئات؛ أفليس من الواجب تطهير الأدب من كل هذا، حتى تستقيم طرائفه، وتتضح معالمه، وتزول عنه آخر سمة من سمات الفوضى والاضطراب؟
نحن أحوج ما نكون إلى هيئة أدبية تشرف على هذا العمل، لأنه مما لا يجتزأ فيه بجهود الأفراد، أو يكتفي في مثله بإشارات الأدباء وتلميحات المتأدبين.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
في (دعاء الكروان)
رأيت في قصة (دعاء الكروان) للدكتور طه حسين بك غلطة نحوية أحببتُ نشر تصويبها في (الرسالة) وهاهي ذي: في (ص112س17) قال الدكتور طه: ردتْ عليهم آمنة التي رأت الشر بشعاً والإثم (عريان) والجرم منكراً. اهـ والصواب أنه يقول: والإثم (عرياناً)؛ وانه ليخيل إلى أن كلمة (عريان) التبستْ عليه فظنها غير منصرفة؛ والصواب هو أن (عرياناً) منصرفة لأنها صفة على وزن فعلان وتؤنث بالتاء نحو (ندمان) ومؤنثة (ندمانة)؛ و (عريان) ومؤنثة (عريانة). أما الصفات التي على وزن فعلان ومؤنثها على وزن فعلى فهي التي لا تنصرف نحو عطشان ومؤنثة (عطشى). فهل نسى الدكتور بيت الألفية:
وزائدا فَعلانَ في وصف سلمْ
…
من أن يُرى بتاء تأنيث خُتم؟
(بغداد)
ضياء شيت
تناقض
تحدث الدكتور زكي مبارك عن مجلة (الرسالة) الغراء، فقال فيما قال:(الرسالة الصديق)؛ فخطَّأه بعض الأدباء، فرد هو وغيره بأن معاجم اللغة تصوِّب هذا التعبير؛ وكان الأديب الذي أعترض على الدكتور يستطيع أن يجعل نقده في الصميم؛ فيقول: الدكتور زكي مبارك بتعبيره السابق قد ناقض نفسه إذ يذكر القراء أن الدكتور قام منذ حين بحملة لغوية جال فيها وصال على صفحات هذه المجلة لكي نسير باللغة العربية إلى (التقعيد). . . وكان مما قاله أنه لا يرى معني لاتحاد وصف المذكر والمؤنث بصيغة (فعيل)؛ وذهب إلى أن الواجب أن نفرق بينهما فنقول: خادم وخادمة، وعجوز وعجوزة، وصديق وصديقة، وجريح وجريحة، وقريب وقريبة. . . الخ. مخالفاً في ذلك ما يكاد يكون مجمعاً عليه في هذه المسائل؛ فكيف يأتي اليوم ليحتج بأقوال المعاجم؟ وكيف يناقض اليوم ما قاله بالأمس؟
كلية اللغة العربية
(أ. س)
كتابان جديدان
أصدرت حديثاً مطبعة (فتى العرب) في دمشق كتابين للقصاص البارع الأستاذ معروف الأرناؤط، أولها (طارق ابن زياد)، والثاني (فاطمة البتول)؛ وهما بأسلوبه القصصي الفذ المعروف لدى قرائه، في كتابه (سيد قريش)؛ ولعلي أتحدث إلى القارئ الكريم عن أولهما، أنه يتسع لذلك صدر (الرسالة)، وأغلب ظني أنه سيتسع، فهي مجلة العرب كافة توغل في ديارهم وتحدثه بما يقولون.
(شرق الأردن)
محمد سليم رشوان
القَصْصُ
الآخر. . .
للكاتب القصصي أرثور شنيتزلر
وحدي!. . . وحدي!. . .
أنا جالس إلى منضدتي، والمصابيح تتقد. . . والباب المؤدي إلى غرفتها مفتوح، ونضري يسبح في ظلام الغرفة. . . الأضواء المشعشعة المنبعثة من الدور المقابلة تنعكس على زجاج نافذتي. . . يا الله!. . . كل شيء قد تبدل، وأي تبدل!. . . كانت تسبل بعناية ستائر مكتبي، وتدني بعضها من بعض لتمنع عن تقاربنا، في غيرة لا توصف ضوضاء الشارع والأنوار المجاورة. . .
الساعات تمر، طفت في غرفتي، ثم طفقت أطوف في غرفتها فتمددت على كرسيها الطويل بدون حراك، وأخذت أصوب نظري إلى النافذة، التي تكشف لي عن عالم أصبح بعدها عديم الأهمية. . . ثم وقفت إلى منضدتها، وتناولت بيدي أقلامها الحبرية والرصاصية التي لما تزل تعبق بأريج أناملها. . . انحنيت بعد ذلك على الموقد المطفأ وشرعت أحرك الأوراق والفحم، فكان كل ذلك، وقد استحال إلى رماد، يصر صريراً محزناً، عندما يلامسه المحرك الغليظ الفظ. . .
أذهب كل صباح إلى المقبرة! الخريف المتأخر تنيره شمس باردة، وقحة. . . لا أكاد أبصر الجدار الأبيض عن بعد، حتى أشعر بحرقة في عيني. . . أطوف بين صفوف الأضرحة أراقب الذين يصلون ويبكون، أصبحت أعرف بعضهم، وما يدهشني هذه الطريقة المتشابهة التي تكاد تكون هي هي عند الجميع وتلك الحركات التي يكررها كل منهم كل مرة بدقة فائقة. . . أصبحت أعرف تلك الغادة التي تتهالك عند أقدام ضريح يعلوه صليب، فتجهش في البكاء، وتذرف ذات الدموع، تضع ذات أزاهير البنفسج على الأرض المبللة، ثم تنهض وقد راق لون محياها بعض الشيء، وتنطلق تعدو، حتى تبتعد عن المقبرة بخطوات سريعة، ثابتة. . . أنها تبكي شاباً قضى في الرابعة والعشرين. . . خطيبها بدون شك. . .
ولكن؟. . . كيف تقوى على النهوض؟. . . ومن أي ينبوع تستقي ذلك العزاء الذي يلمع في نظراتها كلما همت بالذهاب؟. . . لشد ما أريد أن أتبعها، وأن أصرخ في وجهها:(لا عزاء أيتها المجنونة البائسة!) ولكن. . . وأنا. . . أنا وقد اعتدت أن أحج كل يوم إلى هنا. . . عم أبحث إذن؟. . .
أولئك النساء ذوات البراقع الحريرية، والقفازات السود، يضايقنني كثيراً. . . لا ريب أني مثلهن، شاحب اللون، منتفخ الأجفان، ولكني وأنا ثمل بشيء سام، منقطع النظير، لا أتحمل هذا التأثر الذي يرتسم على وجود الآخرين، فأنظر بشيء من الحسد إلى كل من تهزه الرعشة التي تهزني. . .
والآن، فإن ثائرتي لتثور لمجرد الافتكار بأن جميع هؤلاء الذين يتيهون بين الأضرحة يفترسهم نفس الألم الذي يفترسني، ذلك الألم الخالد الذي نعجز عن التعبير عنه! أوه! يا للرحمة!. . . جميعهم يتألمون كما أتألم، والأيام تمر، فتجلب أفكاراً جديدة. . . وتبعث آمالاً جديدة. . . وتعيد بصورة أكيدة، ربيعاً ينشر خضرته الصفيقة أمام أبصارنا. . . فيعود الهواء فاتراً، وتعود الأزهار تعطر الجو بأريجها. . . وتعود النساء تبتسم كما كانت تبتسم من قبل. . . فنخدع عن أنفسنا مرة ثانية. . . نخدع عن أنفسنا، وننسى حزننا!!
أقف دائما على بعد بضع خطوات من النجف الذي يواريها. . . عندما يوضع الحجر أستطيع أن أتكئ على درجات الضريح الباردة، وأستطيع أن أنحني على قبرها، وأن أجثو أمامه. . . أما الآن فلا أجرؤ على الاقتراب خشية أن ينهال الحصى على نعشها. . . ورغم ذلك، تنتابني بعض الأحيان رغبة شديدة، لا تقاوم، للارتماء على ذلك النجف، ونبشه بأصابعي. . . إن ألمي لا يعرف الصبر، ولا يجد إلى العزاء سبيلاً. . . إنه ألم وحشي تصطك له أسناني. . . أصبحت أبغض كل شيء. وجميع الناس وعلى الأخص أولئك الذين يتألمون مثلي!!!
هؤلاء الرجال والنساء، والأطفال، الذين أصادفهم كل يوم يثيرون حفيظتي. . . ليتني أستطيع أن اطردهم. . . إن الحزن ليضيّق علي الخناق وبصورة خاصة، عندما يخطر لي أن أحدهم ربما كان قد زار المقبرة للمرة الأخيرة البارحة إذ أحست بسكون ألمه، ولاحظ أنه يخف من يوم لآخر، وهو يعود من مدينة الأموات فعاد منها لا يتألم. . . واستيقظ مع
الصباح باسماً!. . . آه!. . .
كم أبغض أولئك الذين يستعيدون ابتسامهم!!!
هل يأتي يوم استعيد فيه أنا أيضاً ابتسامي؟. . . وأنسى؟. . . أن ذكرى شبابي لا تكاد تفارقني: إني لأرى نفسي وقد اجتزت الغابة إلى جانبها. . . كان لابد لي أن أكون سعيداً جداً، وقد كنت بالفعل سعيداً جداً. . . ولكن هنالك لحظات تلتهم في أحشائها كل شيء، تلتهم المستقبل والماضي لأنهما الخلود نفسه!
لم اكن قط من أولئك المتنزهين الهادئين الذين يعبرون الطريق، ويتوغلون في الحقول، ويتمددون بلطف في ظلال الدوح، ليستروحوا النسمات البليلة التي ينعشهم بها صباح منوّر كلا! لم أكن من هؤلاء، وإنما كنت أتسلّق الأشجار، لاستكشف آفاقاً أوسع، وكنت أشاهد الطريق إذ ذلك تتوارى في السهول البعيدة، حيث يحتضر الربيع. . .
في هذه الغرفة، وإزاء هذه النافذة ذاتها، التصقت بي ذات يوم، أخذت تعانقني وتقبلني. . . رعشة باردة هزتني. . . الدقائق، الساعات، الأيام، السنون، كل ذلك طفق يهرب مسرعاً، مسرعاً. . . انتهى عهدنا، دب إلينا الهرم. . . أدركتنا النهاية. . . مثل هذه الأفكار كنت ادنِّس حبنا، باعترافي بقابليته للزوال والفناء، وهكذا كنت ادنِّس ألمي الآن، بتفكيري بأنه قد يأتي يوم استعيد فيه ابتسامي!
ولكن من هو هذا الرجل، ذو الشعور والنظرات الكئيبة؟ ومن يبكي؟. . . انه ليزور كل يوم ضريحاً بجوار ضريح امرأتي. . . وانه ليلفت أنظاري إليه، لأني لم استطع أن أبغضه كالآخرين. . . إنه يأتي كل يوم قبلي، ولا يفارق موقفه حتى بعد ذهابي. . . وقد اكن من الممكن إلا اشعر بوجوده لو لم ألمحه ذات يوم يرمقني بحنان زائد، اربكني وأزعجني. . . فتفرست في وجهه، ولكنه حوله عني شيئاً فشيئاً، ثم راح يبتعد وهو محاذ للجدار. . . من المرجح أنني عرفته قبل اليوم. . . إن وجهه ليس غريباً عني. . .
أين رايته إذن؟. . . في سفر؟. . . في مسرح من المسارح أو شارع من الشوارع؟. . . يخيل إلي انه يشعر بحزني بصورة غريزية. ولعل حزناً كحزني يمضه. . . هذا الافتراض يفسر نظراته التي لا أجد إلى نسيانها من سبيل. . . انه شاب وجميل!
ها قد جلست مرة أخرى إلى منضدتي، أزهار ذابلة تكتنف رسم المرأة التي كانت قرينتي،
بل سعادتي، بل دنياي!. . . بدأت افهم الأشياء وأقدرها. . . الأيام التي عشتها أخيراً غشّت على عقلي. . . ولكني انتهيت بأن وجدت نفسي. .
للمرة الأولى منذ شهر، عزمت على أن اشغل نفسي بشيء، أن التمس مكتبتي، أن أنظر في بعض الأوراق، أن أفكر. . . ولكني لم افعل شيئاً من ذلك. . . بل عدت إلى المقبرة. . . كان الليل قد شرع ينشر أجنحة السوء، ولم يكن في المقبرة أحد. . . للمرة الأولى جثوت على ضريحها، وطفقت اقبل الأرض التي حنت عليها فوارتها بين تضاعيفها. . . أخذت أبكي: نعم بكيت لا صوت. . . لا نأمة. . . صمت رهيب. . . هواء ساكن، بارد. . . ثم نهضت التمس الخروج بين صفوف الأضرحة من جهة الكنيسة. . . لا أحد. . . كان القمر يسكب ضوئه على الصلبان والأحجار بصورة لا يمكن أن يفوتني معها وجود شخص ما. . . فلما هممت بالذهاب، صادفت امرأة في نقاب الحزن، وفي يدها منديل. . . إني أعرف النساء. . . كانت الطريق العريضة المؤدية إلى المدينة بيضاء تحت أشعة القمر، وكنت اسمع وقع خطواتي، لم يكن هنالك من يتبعني، وهكذا بلغت منفرداً أطراف المدينة حيث استقبلتني منازل الضواحي، والفنادق، وتردّدت في أذني أصداء الجلبة والضوضاء. . .
أشعر بشيء من التحسن في حالتي. . . الآن وقد عدت، أحس برغبة ملحة ذهبت عن خاطري منذ عهد طويل، أحس برغبة قوية لفتح نافذتي، لأسمع جلبة الشارع، بل لأسمع أصواتاً بشرية، ولكن الليل شاخ وصمت. . . وأناملي تكاد تجمد وأنا أخط هذه السطور. . . والضوء يضطرب رغم سكون الهواء. . .
كنت مستنداً إلى جدار المقبرة وكانت تحجبني عنه صفصافة ضخمة، وقد بكّرت كثيراً لأكون الأول، فأدركت المقبرة وفي غرفة الحضار مصباح. . . توافد بعدي كثيرون، نساء على الأخص. . . وفجأة. . . هو!. . .
اقترب بهدوء من المكان المعتاد، بعينيه الواسعتين، الحزينتين، ثم جثا على قدميه، فبذلت قصارى جهودي لأراه جيداً. . . وإذا به يجثو على ضريح امرأته!!!
انقطعت عن كل حركة. . . وشعرت بأنفاسي تتردد لاهفة، متقطعة!. . . وأحسست بأصابعي تتشنج على أغصان الصفصافة. . . مرت دقائق لم يكن يصلي. . . ولم يكن يبكي. . . وأخيراً نهض وراح يطوف بين الأضرحة بدون وجهة معينة كما كان من عادته
أن يفعل. . . فاقتربت من الضريح، ووقفت على مقربة منه مستنداً إلى حاجز حديدي يكتنف ضريحاً آخر، وإذا به يعود من ناحيتي وينظر إليّ بهدوء. . . ثم يستأنف سيره. . . ويمر. . . أردت أن أتقدم منه وان أسأله، ولكني لم افعل بل ظللت أُشيّعه بأنظاري زمناً طويلاً إلى أن اختفي وراء الكنيسة. . .
لا أعرف بماذا كنت اشعر، ولا أعرف بماذا اشعر الآن! ولكن سيأتي يوم، ربما كان غداً أراه فيه، وأستفسره وأعرف كل شيء!
آه يا لها من ليلة! لا أجد إلى الرقاد فيها من سبيل! أن الساعة لما تزل دون الواحدة بعد. . . فلماذا لا أعود إلى المقبرة؟ ولكن ماذا أستطيع أن افعل هناك. . . إلا بضع ساعات صبر! بضع ساعات فقط، وجنوني يعرف له حداً. . . ويتضح كل شيء اجل على ضريح امرأتي! هنالك رايته مرة ثانية!
كنت على خطوات ممدودة منه، فلماذا لم انقضّ عليه؟ ولماذا لم اقطع عليه الطريق عندما شاهدته يبتعد؟
أليس من حقي أن أسأله عن اسمَه؟ وممن أستطيع أن استفهم إذا لم استفهم منه؟
حين حاول تخطي الباب تبعته، ولكن يظهر انه أحس بي اجل لست مخطئاً. لابدّ أن أحسَ بي، إذ حث خطاه مسرعاً، فحثثت خطاي أنا كذلك. ولكني عندما أدركت الباب كان قد غاب عن ناظري، ثم لم ألبث أن أبصرته ثانية يستقل سيارة، حتى إذا صعد إليها انطلقت تعدو به مسرعة. . . ولم تكن هنالك سيارة أخرى، فطاردته راجلاً، ولكنه لم يلبث أن بعد عني كثيراً، فوقفت أشيعه بنظراتي مدة غير قصيرة. كانت الطريق مستقيمة، فما زلت أراقبه عن بعد حتى اختفت السيارة، وتوارت عن الأبصار.
من هذا الرجل الذي يجثو على ضريح امرأتي؟ ومن يكون لها؟ كيف أعرف ذلك؟ وكيف أراه ثانية؟ آه. . . إن ماضيّ بأسره ليتفكك ويتحدد. . . إن ماضيّ بأسره لتعبث به يد المسخ والتشويه!
هل أنا مجنون؟ أم من الممكن أن لا تكون قد أحبتني؟. . . ألم تكن تقف وراء هذا الكرسي؟. . . وتضع شفاهها على جبيني؟ وتلف ذراعيها حول عنقي؟. . . ألم نكن سعيدين معاً؟ ولكن من يكون هذا الشاب الأشقر الجميل، إذن؟. . . ولماذا بدأ لي أن محياه
ليس غريباً عني؟. . . أنه ليخيل إلي الآن أني شاهدته مراراً في المسارح والمغاني، جالساً تجاهنا، ونظره عالق بامرأتي لا يكاد يحيد عنها!. . . ألم يكن هو الذي وقف ذات يوم عند مرور سيارتنا، وتبعنا زمناً طويلاً بنظراته؟ من هو إذن؟ من هو؟ من؟ من؟. . . أيكون عاشقاً (أفلاطونياً) لم تعرفه هي؟ ولن تمل إليه قط؟. . . لو كان الأمر كذلك لعرفته أنا أيضاً، إذ كان لابد له أن يبحث عن وسائل يرانا بها في المجتمعات، ويتحدث إلينا. . . ولكن كلا. . . لعّله كان يحذرني. فتعرّف على امرأتي ولم يتعرف على، وتبعها في الشوارع وتجرأ على توقيفها. . . كلا!. . . لو جرى شيء من ذلك لكانت أعلمتني به. . . ولكن هل كانت تعلمني به؟. . . أليس من الممكن أن تكون أحبته؟. ولكنها كانت تحبني!. كانت تحبني؟. من أين لي هذه الثقة؟ إلا إنها كانت تقول لي ذلك؟. جميع النساء يقلن ذلك! والخبيثات يسرفن فيه أكثر من الطاهرات أوه! لابد لي من إيجاده والاستفسار منه. ولكن إذا كانت قد أحبته، فبماذا يجيبني؟ أني أزور ضريحها لأني كنت أحبها، ولكنها لم تعرف ذلك قط! وهل أستطيع أن أضطره إلى الاعتراف بالحقيقة؟ فما العمل إذن؟
وهل أستطيع أن أستأنف الحياة على هذه الصورة؟ لم أشاهده طيلة ثلاثة أيام. كنت أذهب كل يوم ولكنه لم يكن يأتي. . . الحفَّارون يجهلون أسمه، لا يعرفه أحد. . . لعله سافر. ولكنه لابد له أن. . . لابد له أن. . . وإذا كان قد توفي وإذا كان قد توفي؟ لأنه لا يستطيع أن يحيى بدونها! أه. إن هذا الافتراض ليبعث على الضحك، أيكون هنالك رجل أخر لا يستطيع أن يحيا بدونها؟
ليس لي سوى رغبة واحدة، وهي أن أقول له: سيدي المحترم، لا تذهب في تفجعك عليها إلى هذا الحد، إذ من المحقق أنها أحبتني أنا أيضاً!) أريد أن أجعله غيوراً. . .
قذفت برسمها تحت منضدتي. . . هو ذا في وسط الغرفة، على الأرض بين رسائلها المبعثرة، بين تلك الرسائل التي كانت تحفظها في خزائنها وأدراجها. . . فتحتها كلها، ونبشت فيها. . . ماذا وجدت؟. . . رسائل كنت بعثت بها إليها. . . وأزهاراً كنت قدمتها إليها. . . وأشرطة حريرية. . . وتذكارات. . .
لعل بين تلك الأزهار زهرة مقدمة من قبله. . . كيف الوصول إلى معرفة ذلك؟. . . وماذا كنت أبغي العثور عليه؟. . . وهل تحتفظ المرأة بشيء يمكن أن يخونها ذات يوم؟
أفرغت جيوبها. . . قلبت أثوابها. . . باحثاً. . . منقباً. . . عن ورقة رقيقة تكون قد نسيتها سهواً. . . ولكنها لم تكن قد نسيت شيئاً!
لم أعد بعد ذلك إلى المقبرة وأصبحت أرتجف لمجرد التفكير بمشاهدة ذلك الضريح مرة أخرى!
أحيا الآن ساعات أخف وطأة من قبل، لأن الأيام الأولى قد عبرت دون أن يصاب عقلي بخلل، فعليّ أن أمتنع بعدم إمكان معرفة الحقيقة أبداً.
كم أحسد الرجال الذين يعرفون أن نساءهم تخونهم، إذ أنهم متأكدون من مصيبتهم على الأقل! وكم أحسد أولئك الذين إذا أمضهم الشك، استطاعوا أن يراقبوا نساءهم، على رجاء أن تخونهن كلمة، أو نظرة، أو حركة، أو إشارة!
أما أنا فقد قضي علي ألا أستطيع شيئاً من ذلك قط، لأن الضريح أبكم لا يبدي ولا يعيد!
ويتفق لي أحياناً أن أهبّ في الليل من نومي، مذعوراً، يرهقني كابوس هائل لعلني دنست ذكرى امرأة طاهرة، وزوج مخلصة! أه!. . لو أستطيع أن أحب ذكرى تلك المرأة التي منحتني ذلك المقدار العظيم من السعادة!
وأه! لو أستطيع أن أبغض ذكرى تلك المرأة التي خانتني، وعبثت بشرفي وكرامتي!
أعدت رسمها إلى منضدتي. رفعته من الأرض ووضعته في مكانه المعتاد. ولكن لماذا لا أستطيع أن أعبدها و. . . أن أجثو أمام رسمها كما أجثو أمام رسم قديسة، وأجهش في البكاء؟
ولماذا لا أستطيع أن أحتقرها؟ وأن أمزّق هذا الرسم؟ وأن أدوسه بنعالي؟
طيلة ليال عديدة لبثت أحدق النظر في هاتين العينين الصامتتين، الباسمتين، المحاطتين بالرموز والألغاز!
ايزاك شموس