المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 462 - بتاريخ: 11 - 05 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٦٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 462

- بتاريخ: 11 - 05 - 1942

ص: -1

‌وهذا كتاب.

. .

قال لي صديق منذ شهرين: أن العقاد يخرج كتاباً عن محمد. فقلت له: ذلك ما تتمناه الناس وتوقعناه نحن منذ أخذ العقاد يعالج بعض هذا الموضوع في (الرسالة). ولعل هذا الكتاب يكون الأول في بابه؛ لأن العقاد صاحب جد وصراحة؛ فهو لا يتكلف مالا يحسن، ولا يحسن ما لا يعتقد، ولا يعتقد ما لا يسوغ في المنطق. وإذا كان الذين كتبوا عن محمد إنما كتبوا للدين أو للدنيا أو للأدب أو للهوى، فإن العقاد لم يكتب إلا للعقل. وإذا استراب أكثر الناس بأكثر هذه الكتب لأن صاحب الدين موافق وصاحب الدنيا منافق وصاحب الأدب خدَّاع وصاحب الهوى متعصب، فإن القُراء على اختلاف ثقافاتهم ودياناتهم سيُخْلدون بثقتهم إلى العقاد لأنه سيكتب غير ما كتب هؤلاء جميعاً.

ثم قدرت في نفسي النواحي البكر التي سيطرقها العقاد من هذا العالم الأعظم فكأنما قدَّرت عن تلقين الغيب: قدَّرت أنه لن يكتب ترجمة ولا سيرة ولا قصة، لأن الناس في القديم والحديث، وفي الشرق وفي الغرب، لم يكتبوا غير ذلك؛ وذلك الذي كتبوه إنما كان مداره على الوحي والرسالة والمعجزة والدعوة، وإدراك العظمة أو العبقرية في هذه الأمور موقوف على الأيمان بها؛ فلو أن امرأً غير مسلم حاول أن يستشف من خلال ما ينكر من هذه الصور الإسلامية صورة محمد في نفسه، لما وجد فيما بقى على الهامش أو علِق بالإطار ما يقنعه بأن محمداً لو لم يكن أعظم الرسل بدينه، لكان أعظم الأبطال بخلقه.

فصورة محمد في نفسه هي الناحية التي طوّف حولها الرُّوَّاد ولم يدخلوا، وحوَّم فوقها الورَّاد ولم ينزلوا؛ وهي التي قدَّرتها على التخمين في خطة العقاد، ثم قرأتها على اليقين في (عبقرية محمد). وأشهد الله أني لو مضيت على المخيَّل فيما أكتب عن هذا الكتاب لما كذبني الضن، ولا أخطأني الصواب. ذلك لأن العقاد كاتب مؤمن بالعقل والرجولة؛ فإذا درسته أو قرأته على ضوء هذا الأيمان تكتشف لك عن منطق فحل لا يتناقض في الرأي ولا يتعثر في الأداء، ولا يتكثر باللغو، ولا ينزل عن طبقته حتى في المقاصد المبتذلة والمعاني المطروقة. وإيمانه بالعقل والرجولة هو الذي بعثه على أن يكتب كتابين في أدب ابن الرومي وفي سياسة سعد زغلول على كثرة الأدباء والساسة. فإذا كتب عن محمد فإنما يكتب بوحي هذا الإيمان عن عبقريته (بالمقدار الذي يدين به كل إنسان ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يثبِّت له الحب في قلب كل إنسان وليس في قلب المسلم وكفى)،

ص: 1

(وبالقياس الذي يفهمه المعاصرون، ويتساوى في إقراره المسلمون وغير المسلمين)(ليقيم البرهان على أن محمداً عظيم في كل ميزان: عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميدان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية)

والحق الذي لا تجوَّز فيه أن كتاب (عبقرية محمد) هو التفسير الملهَم المحكم لقول الله تعالى لنبيه الكريم: (وأنك لعلى خلق عظيم). ولا يدهشنك أن أقول أن شهادة الله لرسوله بعظمة الخلق ظلت مجهولة الغور والمدى والدلالة في التفسير والتاريخ حتى جاء العقاد فصورها بأبعادها وحدودها وألوانها وسماتها كأنطق ما يكون المثال وأصدق ما تكون الحجة. هل تجد معنى من معاني الأخلاق فني في شرحه وتشريحه من الريق والمداد على طول القرون ما فني في معنى الصَداقة والصديق؟ ومع ذلك تقرأه في فصل (محمد الصديق) من كتاب العقاد فتجده معنى من معاني العظمة لم يتمثل في ذهن كاتب من قبل على هذه الصورة. أقرأ قوله على سبيل المثال: (. . . وهنا أيضاً قد تمت لمحمد معجزته التي لم يضارعه فيها أحد من ذوي الصداقات النادرة. فأحدقت به نخبة من ذوي الأقدار تجمع بين عظمة الحسد وعظمة الثروة وعظمة الرأي وعظمة الهمة؛ وكل منهم ذو شأن في عظمته تقوم عليه دولة وتنهض به أمة - كما اثبت التاريخ من سيرة أبي بكر وعمر وخالد وأسامة وابن العاص والزبير وطلحة وسائر الصحابة الأولين - وربما عظم الرجل في مزية من المزايا فأحاط به الأصدقاء والمريدون من النابغين في تلك المزية، كما أحاك الحكماء بسقراط القادة بنابليون بل ربما أحاط الصالحون بالنبي العظيم كما أحاط الحواريون بالمسيح عليه السلام وكلهم من معدن واحد وبيئة متقاربة. أما عظمة العظمات فهي تلك التي تجلب إليها الأصحاب النابغين من كل معدن ومن كل طراز؛ وهي التي يتقابل في حبها رجال بينهم من التفاوت مثل ما بين أبي بكر وعلي، وبين عمر وعثمان، وبين خالد ومعاذ، وبين أسامة وأبن العاص: كلهم عظيم، وكلهم مع ذلك مخالف في وصف العظمة لسواه.

تلك هي العظمة التي اتسعت آفاقها وتعددت نواحيها حتى أصبحت فيها ناحية مقابلة لكل خلق، وأصبح فيها قطب جاذب لكل معدن، وأصبحت تجمع إليها البأس والحلم، والحيلة

ص: 2

والصراحة، والألمعية والاجتهاد، وحنكة السن وحمية الشباب.

تلك هي بلا ريب عظمة العظمات، ومعجزة الأعجاز في باب الصداقات)

ذلك سمو العقاد في المطروق المبتذل، فما ظنك به حين يعالج الأحرار الأبكار من معاني العبقرية المحمدية في السياسة والإدارة والرياسة والبلاغة؟ أما تحليله البراعات الخلقية والنفسية في محمد الزوج والأب والسيد والعابد، ودفعه الشبهات المريضة عن دعوة الرسول وعظمته في تحكيم السيف وتحليل الرق وتعدد الزوجات، فغاية الغايات في دقة الفهم وشدة الحِجاج وقوة الأسلوب. ولولا أن العقاد أدركه نسيان الإنسان فأراد غار ثور وكتب غار حراء، لقلت أن كتابه قبس من الوحي نزل عليه من السماء!

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌رفع عيسى.

. .

للأستاذ محمود شلتوت

ورد إلى مشيخة الأزهر الجليلة من حضرة عبد الكريم خان بالقيادة العامة لجيوش الشرق الأوسط سؤال جاء فيه: (هل (عيسى) حي أو ميت في نظر القران الكريم والسنة المطهرة؟ وما حكم المسلم الذي ينكر انه حي؟ وما حكم من لا يؤمن به إذا فرض انه عاد إلى الدنيا مرة أخرى؟). وقد حول هذا السؤال إلى فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء فكتب ما يأتي:

. . . أما بعد، فان القرآن الكريم قد عرض لعيسى عليه السلام فيما يتصل بنهاية شانه مع قومه في ثلاث سور:

1 -

في سورة آل عمران قوله تعالى: (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله آمنَّا بالله، واشهد بأنّا مسلمون: ربَّنا، آمنَّا بما أنزلت واتّبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين. ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين؛ إذ قال الله: يا عيسى، أنى متوفيك ورافعك إليَّ ومطهّرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إليَّ مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون): 52 - 55

2 -

وفي سورة النساء فوله تعالى: (وقولهم: إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شبه لهم، وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، ما لهم به من علم إلا اتباع الظن، وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه، وكان الله عزيزاً حكيما): 157 - 158

3 -

وفي سورة المائدة قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، أن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك، انك أنت علام الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد): 116 - 117

هذه هي الآيات التي عرض القرآن فيها لنهاية شأن عيسى مع قومه، والآية الأخيرة (آية

ص: 4

المائدة) تذكر لنا شأناً أخرويَّاً يتعلق بعبادة قومه له ولأمه في الدنيا وقد سأله الله عنها وهي تقرر على لسان عيسى عليه السلام أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به: (اعبدوا الله ربي وربكم)؛ وإنه كان شهيداً عليهم مدة إقامته بينهم، وإنه لا يعلم ما حدث منهم بعد أن (توفاه الله)! وكلمة (توفي) قد وردت في القرآن كثيراً بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المتبادر منها، ولم تستعمل في غير هذا المعنى إلا وبجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المتبادر:(قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم. إن الذين توافهم الملائكة ظالمي أنفسهم. ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة. توفته رسلنا. ومنكم من يتوفى. حتى يتوفاهن الموت. توفني مسلماً وألحقني بالصالحين)

ومن حق كلمة (توفيتني) في الآية أن تحمل على هذا المعنى المتبادر وهو الإماتة العادية التي يعرفها الناس ويدركها من اللفظ ومن السياق الناطقون بالضاد. وإذن فالآية لو لم يتصل بها غيرها في تقرير نهاية عيسى مع قومه لما كان هناك مبرر للقول بان عيسى حي لم يمت.

ولا سبيل إلى القول بان الوفاة هنا مراد بها وفاة عيسى بعد نزوله من السماء بناء على زعم من يرى انه حي في السماء، وإنه سينزل منها آخر الزمان، لان الآية ظاهرة في تحديد علاقته بقومه هو لا بالقوم الذين يكونون آخر الزمان وهم قوم محمد باتفاق لا قوم عيسى.

أما آية النساء فإنها تقول (بل رفعه الله إليه) وقد فسرها بعض المفسرين بل جمهورهم بالرفع إلى السماء، ويقولون: إن الله ألقى على غيره شبهه، ورفعه بجسده إلى السماء، فهو حي فيها وسينزل منها آخر الزمان، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب، ويعتمدون في ذلك:

أولا: على روايات تفيد نزول عيسى بعد الدجال، وهي روايات مضطربة مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافاً لا مجال معه للجمع بينها؛ وقد نص على ذلك علماء الحديث. وهي فوق ذلك من رواية وهي بن منبه وكعب الأحبار وهما من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام وقد عرفت درجتهما في الحديث عند علماء الجرح والتعديل.

وثانياً: على حديث مروي عن أبى هريرة اقتصر فيه على الإخبار بنزول عيسى؛ وإذا صح هذا الحديث فهو حديث آحاد. وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة

ص: 5

ولا يصح الاعتماد في شأن المغيبات.

وثالثاً: على ما جاء في حديث المعراج من أن محمداً صلى الله عليه وسلم حينما صعد إلى السماء وأخذ يستفتحها واحدة بعد واحدة فتفتح له ويدخل، رأى عيسى عليه السلام هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية. ويكفينا في توهين هذا المستند ما قرره كثير من شراح الحديث في شأن المعراج وفي شأن اجتماع محمد صلى الله عليه وسلم بالأنبياء وأنه كان اجتماعياً روحياً لا جسمانياً (انظر فتح وزاد المعاد وغيرها)

ومن الطريف أنهم يستدلون على أن معنى الرفع في الآية هو رفع عيسى بجسده إلى السماء بحديث المعراج بينما ترى فريقاً منهم يستدل على أن اجتماع محمد بعيسى في المعراج كان اجتماعاً جسدياً بقوله تعالى: (بل رفعه الله إليه) هكذا يتخذون الآية دليلاً على ما يفهمونه من الحديث حين يكونون في تفسير الحديث، ويتخذون الحديث على ما يفهمونه من الآية حين يكونون في تفسير الآية!

ونحن إذا رجعنا إلى قوله تعالى: (إني متوفيك ورافعك إلي) في آيات آل عمران مع قوله: (بل رفعه الله إليه) في آيات النساء وجدنا الثانية إخباراً عن تحقيق الوعد الذي تضمنته الأولى، وقد كان هذا الوعد بالتوفية والرفع والتطهير من الذين كفروا، فإذا كانت الآية الثانية قد جاءت خالية من التوفية والتطهير، واقتصرت على ذكر الرفع إلى الله فإنه يجب أن يلاحظ فيها ما ذكر في الأولى جمعاً بين الآيتين.

والمعنى أن الله توفى عيسى ورفعه إليه وطهره من الذين كفروا. وقد فسر الآلوسي قوله تعالى: (إني متوفيك) بوجوه منها وهو أظهرها (إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك؛ وهو كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام لأنه يلزم من استيفاء الله أجله وموته حتف أنفه ذلك) وظاهر أن الرفع الذي يكون بعد التوفية هو رفع المكانة لا رفع الجسد خصوصاً وقد جاء بجانبه قوله: (ومطهرك من الذي كفروا) مما يدل على أن الأمر أمر تشريف وتكريم. وقد جاء الرفع في القرآن كثيراً بهذا المعنى: (في بيوت أذن الله أن ترفع. نرفع درجات من نشاء. ورفعنا لك ذكرك. ورفعنا مكاناً علياً. يرفع الله الذين آمنوا) الخ. . . وإذن فالتعبير بقوله (ورافعك إلي) وقوله: (بل رفعه الله إليه) كالتعبير في قولهم: (لحق فلان بالرفيق الأعلى) وفي (إن الله

ص: 6

معنا) وفي (عند مليك مقتدر) وكلها لا يفهم منها سوى معنى الرعاية والحفظ والدخول في الكنف المقدس. فمن أين تؤخذ كلمة السماء من كلمة (إليه)؟ اللهم أن هذا لظلم للتعبير القرآني الواضح خضوعاً لقصص وروايات لم يقم على الظن بها فضلاً عن اليقين برهان ولا شبه برهان!

وبعد فما عيسى إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، ناصبه قومه العداء، وظهرت على وجوههم بوادر الشر بالنسبة إليه، فالتجأ إلى الله شان الأنبياء والمرسلين فأنقذه الله بعزته وحكمته وخيب مكر أعدائه. وهذا هو ما تضمنته الآيات (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله) إلى آخرها، بَّين الله فيها دقة مكره بالنسبة إلى مكرهم، وأن مكرهم في اغتيال عيسى قد ضاع أمام مكر الله في حفظه وعصمته (إذ قال الله يا عيسى أني متوفيك ورافعك ومطهرك من الذين كفروا) فهو يبشره بإنجائه من مكرهم ورد كيدهم في نحورهم، وأنه سيستوفى أجله حتى يموت حتف أنه من غير قتل ولا صلب، ثم يرفعه الله إليه. وهذا هو ما يفهمه القارئ للآيات الواردة في شأن نهاية عيسى مع قومه متى وقف على سنة الله مع أنبيائه حين يتألب عليهم خصومهم، ومتى خلا ذهنه من تلك الروايات التي لا ينبغي أن تحكم بالقرآن، ولست أدري كيف يكون إنقاذ عيسى بطريق انتزاعه من بينهم ورفعه بجسده إلى السماء مكراً؟ وكيف يوصف بأنه خير من مكرهم مع أنه شيء ليس في استطاعتهم أن يقاوموه، شيء ليس في قدرة البشر! ألا أنه لا يتحقق مكر في مقابلة مكر إلا إذا كان جارياً على أسلوبه غير خارج عن مقتضى العادة فيه. وقد جاء مثل هذا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم (وأذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلونك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)

والخلاصة من هذا المبحث:

1 -

أنه ليس في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء وأنه حي إلى الآن فيها وأنه سينزل منها آخر الزمان إلى الأرض.

2 -

أن كل ما تفيد الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعد الله عيسى بأنه متوفيه أجله ورافعه إليه وعاصمة من الذين كفروا، وأن هذا الوعد قد تحقق فلم يقتله أعداؤه ولم

ص: 7

يصلبوه، ولكن وفاه الله اجله ورفعه إليه.

3 -

أن من أنكر أن عيسى قد رفع بجسمه إلى السماء وانه فيها حي إلى الآن وانه سينزل منها آخر الزمان فنها لا يكون بذلك منكرا لما ثبت بدليل قطعي فلا يخرج عن إسلامه وإيمانه، ولا ينبغي أن يحكم عليه بالردة، بل هو مسلم مؤمن، إذا مات فهو من المؤمنين يصلي عليه كما يصلى على المؤمنين ويدفن في مقابر المؤمنين ولا شية في إيمانه عند الله والله بعباده خبير بصير.

أما السؤال الأخير في الاستفتاء وهو (ما حكم من لا يؤمن به إذا فرض انه عاد مرة أخرى إلى الدنيا) فلا محل له بعد الذي قررناه ولا يتجه السؤال عنه والله أعلم.

محمود شلتوت

ص: 8

‌خصومات أدبية!

للأستاذ توفيق الحكيم

من كان يتصور أن دعوتي إلى الصفاء بين الأدباء تثير خصومات أو ذكريات عن خصومات! فلقد كتب الأستاذ (عباس محمود العقاد) في العدد الماضي من (الرسالة) قصة طريفة أهداها إليَّ. هي الآتية:

(قيل أن الدكتور طه حسين خرج من وظيفته بالجامعة المصرية قبل سنوات. وقيل أنه أثنى على الأستاذ توفيق الحكيم في بعض ما كتب وهو على جفوة مع رؤساء تلك الأيام. وقيل أن الأستاذ توفيق أشفق من مغبة تلك الجفوة فكتب يقول أنه لا يريد مدحاً من أحد. . . وأدرك شهرزاد الصباح أو المساء على قصة أخرى تمثل اليوم مع العقاد لأن خصومته قد تشبه خصومة الدكتور طه حسين قبل سنوات. . .)

والتعليق على هذه القصة الطريفة لا يحتاج إلى عناء. لأن الأساس الذي بنيت عليه وهو شبهة الخصومة بيني وبين العقاد قد أنهار في اليوم ذاته الذي ظهر فيه مقاله. فقد طلع لحسن الحظ عدد مجلة الثقافة في مساء ذلك النهار وفيه تحية مني للعقاد وثناء على كتابه (عبقرية محمد) بما هو أهله.

يضاف إلى ما تقدم أن (ما يدريه العارفون وأوشك أن يدريه غير العارفين) هو أن موقفي اليوم يشبه في كثير من الوجوه موقف العقاد. وأن من بين المجلات والصحف والأقلام ما يعلن تجريحي وخصومتي بمختلف الأسباب لعين الأغراض. بقى بعد ذلك عنصر واحد من عناصر القصة سكت طويلاً عن تجليته ظناً مني أنه لن يؤخذ على سبيل الجد. أما وقد أخذه الأستاذ العقاد على أنه حقيقة، فمن الواجب إذا أن أوضح ولو كان في الإيضاح إساءة للدكتور طه. فإن هذا الوقت هو أحب الأوقات عندي لإساءته لا لإرضائه.

أن حقيقة الخصومة بيني وبين طه حسين في تلك الأيام من عام 1934 كانت خصومة أدبية صرف، ولكن الدكتور طه أراد أن يقحم فيها عنصر السياسة ليظهرني في صورة (يهوذا) ويظهر نفسه في صورة (المسيح). فأخترع تلك القصة اختراعاً ولكن الحقيقة ما لبثت أن ظهرت في اليوم التالي واضحة مبينة.

إلى هنا ينتهي التعليق على هذه القصة. ولكن هنالك قصة أخرى للأستاذ العقاد مهداة إليّ

ص: 9

أيضاً، وربما احتاجت إلى تعليق طويل لأنها تمس قضية أدبية تحدث في جميع الآداب في كل زمان. تلك هي قضية الناقد والكاتب. فقد ذكر الأستاذ العقاد أني أنكر أن الدكتور طه حسين رفع من شأني بما كتب عني. وأنا حقاً أنكر ذلك كل الإنكار ومن يحرص على كرامة الفن لا يسعه أن يقول غير هذا القول. فما من مخلوق على الأرض يرفع أو يخفض من شأني غير فني ولما ترجم هذا الفن أو بعضه إلى لغات أجنبية وجد من أعلام نقادها من يرفع شانه كما وجد في اللغة العربية طه وأمثاله. فألفن هو الذكي يكرم نفسه أو يمتهنها في كل مكان أو زمان يحل فيهما. حقاً أن طه حسين أستقبل كتاب أهل الكهف استقبالاً رائعاً، لكن لا ينبغي أن ننسى غيره. فبمراجعة تاريخ الحوادث يتضح أن أول من نوه بالكتاب تنويهاً جميلاً كان الشيخ مصطفى عبد الرزاق ثم الأستاذ المازني ثم الأستاذ العقاد على هذا الترتيب. ولعل العقاد قد أشار في نقده إلى انتفاع بعض المؤلفين الأوربيين بجوهر الأسطورة (أهل الكهف) تهمة الاقتباس أو النقل عن الأجانب وأظنه فضلها من حيث طريقة التصرف على ما قرأ في بعض اللغات عن فكرة القصة. فلما أطمئن طه حسين إلى آراء هؤلاء أقبل فصاح صيحته المشهورة كأنها صيحة (يوحنا المعمدان) وهو يبشر بالمسيح. فقد قال بهذا النص:(أما قصة الكهف) فحادث ذو خطر، لا قول في الأدب العصري وحده. بل أقول في الأدب العربي كله. وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط. ولا أقول هذا مغتبطاً به مبتهجاً له. وأي محب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول أن فناً جديداً قد نشأ فيه وأضيف إليه. وأن باباً جديداً قد فتح للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن. نعم هذه القصة حادث ذو خطر يؤرخ في الأدب العربي عصراً جديداً. . . ويمكن أن يقال أنها أغنت الأدب العربي وأضافت إليه ثروة لم تكن له. ويمكن أن يقال أنها قد رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة. . . بل يمكن أن يقال أن الذين يحبون الأدب الخالص من نقاد أجانب يستطيعون أن يقرءوها أن ترجمت لهم، فسيجدون فيها لذة قوية، ويجدون فيها متاعاً خصباً وسيثنون عليها ثناءً عذباً كهذا الذي يخصون به القصص التمثيلية البارعة التي ينشئها كبار الكتاب الأوربيين) وكان لتلك الكلمة أثر قوي ذو دوي لأن طه حسين وضع الأمر كما

ص: 10

رأينا في صيغة التقرير بمذهب جديد. كأنه (سانت بوف) يعلن أمر المذهب الرومانتيكي عند ظهور تمثيليات (هوجو)!! ولنسلم بأن طه حسين هو المشيد الأول بشأن أهل الكهف ومؤلفها. فهل هذا حدث جديد في تاريخ الآداب؟ ألم يصح مثل هذه الصيحة (تورجنيف) عندما استقبل أول أعمال (تولستوي) قائلاً (ظهر كاتب روسيا الأعظم!) أو لم يفعل مثل ذلك (ارنولد بنيت) عندما أشاد بقصة (الدس هاكسلي) بقوله: (هذا كاتب يلحق مباشرة بقصاصي روسيا العظام!) أو لم يصنع هذا (أناتول فرانس) بمذكرات ماري باسكرشيف) عندما أعلن أنها أثر خالد للإنسانية! فإذا هذه الأعمال قد ظهرت ومؤلفوها قد برزوا للعالم بين يوم وليلة. هل أستلزم ذلك التحميل بأثقال الديون والتكبيل بحبال الجميل نحو أشخاص النقاد؟ أو أن الأمر لا يعدو في تلك البلاد أن ناقداً أدى واجبه بأمانة وإخلاص، لا نحو شخص من الأشخاص ولكن نحو آداب وطنه وفن بلاده؟ لم نسمع في غير مصر أن الناقد إذا أثنى على كتاب حسب أنه تفضل على مؤلفه ورفع شأنه من الحضيض. وأن على المؤلف واجباً مقدساً هو أن يشتري من فوره سبحة كيلا ينسى أن يسبح محمداً الناقد أناء الليل وأطراف النهار. شأنه شأن القاضي الذي يصدر حكماً ينقل أحد المتقاضين من الفقر إلى الغنى. فيظل طول يقول في مجالسه. . . أنا الذي أغنيت فلاناً ونقلته من حال إلى حال وخلقته هذا الخلق الجديد. وينسى أنه كان مظهراً لحق هذا الفلان لا أكثر ولا أقل. اللهم أن في هذا لإهداراً لكرامة العدالة وكرامة الفن!

ولكن من الأنصاف أن أقول: أني لا اشك في أن طه حسين كان يصدر حقاً عن عقيدة الناقد الذي يؤدي واجب النقد والفن وحدهما، فلم يكن قد رآني وما كنت قد رأيته، وما كان تصادم الطباع والخصال قد لعب دوراً في تقدير الأمور، وسواء كان طه مخطئاً أو مصيباً في رأيه الذي أبداه، فهذا ليس من شأني ولا من شأن الأشخاص، إنما هو من شئن النقاد ورجال الجامعة والباحثين من هذا العصر ما بعده ممن يعنون بتمحيص مذهب أستاذ من أساتذة النقد والأدب.

على أني إذا تفرغت للنقد يوماً، فإني أرجو أن أؤدي واجبي بمثل هذه الحرارة والأمانة والقوة نحو آثار طه وغيره من الأدباء؛ وإذا تحقق أملي وأقمت في أوربا بعد الحرب، فسوف يكون من شأني القيام بهذا العمل نحو هذه الآثار في تلك البلاد.

ص: 11

إلى هنا ينتهي ما بيني وبين طه حسين، إذا كانت شؤون الآداب والفن هي حقاً ملك البحث والدرس والزمن والوطن لا ملك الأشخاص.

أما مشاعري الخاصة كإنسان نحو الدكتور طه، فليس الظرف اليوم مواتياً للإطناب في وصفها، وسأختار الزمان والمكان الملائمين للإفاضة بها دون أن يحمل فعلي على غير محمله وأخيراً، أوجه خطابي إلى الأستاذ العقاد قائلاً:(أنك للمرة الأولى تخاطبني بهذه اللهجة التي كنت تخاطب بها (الرافعي) رحمه الله!)

أبهذه السرعة تضع الناس في صف أعدائك؟ لعلك لفرط ما قاسيت من شر الناس، ولقلة ما وجدت من خيرهم، أصبحت مثل (هملت): تستل سيفك لتضرب من خلف الأستار دون الوجوه. فطعنت صديقاً وأنت لا يدري.

توفيق الحكيم

ص: 12

‌خسرو وشيرين

في التصوير الإسلامي

للدكتور محمد مصطفى

- 4 -

لما رحل خسرو إلى بلاد الروم، ليطلب مساعدة الإمبراطور موريس على بهرام جوبين، ضاق في عيني شيرين ريف أرمينية على اتساع أرجائه، وكثرة ملاهيه، وتنوع ضروب التسلية فيه؛ فرجعت إلى عمتها مهين بانو، حزينة على فراق حبيبها، آسفة لقسوتها عليه، فنشطت عمتها في جلب السرور إلى قلبها، والترويح عن نفسها، وإحاطتها بما ينسيها أحزانها.

وكان خسرو قد نجح - بفضل مساعدة إمبراطور الروم - في استرداد عرش أجداده، وتوّج للمرة الثانية ملكا على إيران، وحكم بالعدل بين رعيته، فصار محبباً إليها. ولكنه لم يجد فيها يحيط بجلال الملك من مباهج الحياة، ما يخفف عنه لوعة الحزن والأسى، التي يشعر بها في قرارة نفسه لغياب شيرين.

وماتت مهين بانو، تلك العمة الطيبة القلب، فصارت شيرين ملكة أرمينية، ولكنها لم تستطع نسيان أحزانها، بل زادت كآبة لما علمت بزواج خسرو من مريم. وأرادت أن تجد العزاء والسلوى في الشعور بقرب حبيبها منها، فرحلت من أرمينية إلى (قصر شيرين) بين الهضاب المرتفعة في إيران، ومعها جمع كبير من صويحباتها وأتباعها، كان بينهم شابور الذي بقى في خدمتها بأمر من صديقه خسرو، يرعاها في وفاء وإخلاص. ولما وصلت إلى قصر شيرين أرسلت شابور إلى المدائن، بعد أن أوصته ألا يخبر خسرو عن وجودها في قصرها، مخافة أن تعكر عليه صفو حياته الزوجية. ولكن شابور لم يكترث لتحذيرها، وجاء إلى المدائن حيث وجد خسرو فرحاً مسروراً، لتلقيه أنباء مقتل القائد بهرام جوبين، فأخبره بوجود شيرين على مقربة، وزاده بذلك طرباً وحبوراً، ثم رجع إلى قصر شيرين.

وكان لقصر شيرين - بالرغم من كل ما فيه من الاستعدادات العظيمة ملكة أرمينية - نقيصة واحدة، وهي وجود المراعي والأغنام بعيداً عنه، في ناحية الجبل الأخرى، ولهذا

ص: 13

السبب لم يكن في استطاعة شيرين أن تحصل على أي مقدار من اللبن. واشتكت من ذلك يوماً ما أثناء وجود شابور، فأخبرها عن مثّال ماهر، واسع الحيلة، كان زميلاً له في أيام الدراسة، اسمه فرهاد، يظن أن في استطاعته أن يذلل هذه العقبة وأن يعمل شيئاً في سبيل إرضاء رغبتها. وذهب شابور فأحضر فرهاد. وما كاد هذا يقف بين يدي شيرين ويتطلع إليها، حتى غمره حبها وتولاه الذهول، فلم يفقه من كلامها شيئاً، واضطر أصدقاؤه بعد ذلك أن يفسروا له رغبتها، وأخذ فرهاد في تنفيذ ذلك بجد واجتهاد، حتى أمكنه بعد شهر واحد أن ينحت في الصخر قناة تخترق الجبل، وتصل بين القصر من ناحية وبين المراعي من الناحية الأخرى. وأخذ رعاة الأغنام يحلبون اللبن ويسكبونه في القناة فيجري فيها إلى القصر، وبذلك صار في إمكان شيرين أن تحصل في صباح كل يوم على ما تحتاج إليه من اللبن الطازج. وأعجبت بهذا العمل الهائل الذي يفوق مقدرة البشر، فأطنبت في مديح فرهاد، وأرادت أن تكافئه بما يريد من الذهب والأحجار الكريمة، ولكنه أبى أن يأخذ شيئاً، وفر هارباً إلى الصحراء، حيث هام على وجهه كالمجنون.

سمع خسرو بهذا الحب فأرسل من أحضر فرهاد من الصحراء، ولما مثل بين يديه، حاول أن يثنيه عن حبه لشيرين، ولكنه لم يفلح بالوعد ولا بالوعيد أن يزحزحه قيد أنملة بعيداً عن ذلك. وأخيراً عمد خسرو إلى الحيلة، فوعده أن يزوجه شيرين، إذا استطاع أن يشق طريقاً في صخر جبل بيسُتون ظناً منه أن ذلك سيصعب عليه. ولكن فرهاد وافق في الحال، وقبل هذا الشرط، ورحل إلى جبل بيستون، حيث بدأ بنحت لوحة عليها صورة شيرين وخسرو وشبديز، وجعل من صورة شيرين رمزاً لحبيبته، لكي يراها في كل لحظة تطل عليه لترى بنفسها مقدار كده وتعبه وما يبذله من العناء في سبيل الزواج بها، ولكي يلجأ غليها في ساعات فراغه ليبثها غرامه وشقاء قلبه في حبها. وبلغ شيرين ذلك، فجاءت إلى جبل بيسُتون لتسري عن فرهاد، ولكنه عندما فوجئ برؤيتها، كاد أن يفقد صوابه، لفرط ما طغي عليه من سرور، فأشفقت عليه شيرين وأعطته جرعة من شراب، تمكن بها من استعادة صوابه الفاقد، فحدثها عن مبلغ هيامه بها وعن حالته التعيسة.

وفي (شكل1) جاءت شيرين لزيارة فرهاد، وهي راكبة على جواد أصيل، عند ما علمت بما يكنِّه لها من الحب المبرح، ونراه هنا - ومعه أدوات النحت - حيث يعمل في الطريق

ص: 14

الذي يشقه بجبل بيسُتون وهو راكع أمامها يرتشف من قَعْب خزفي جرعة من شراب أعطته إياه شيرين لتهدئة ما طغى عليه من الوجدان بتأثير هذه الزيارة المفاجئة. وإلى جوار فرهاد لوحة نحتها في الصخر لتخليد ذكرى فتح هذا الطريق العظيم، وقد نحت في أعلى هذا اللوحة صورة خسرو وهو واقف بين حبيبته شيرين وبين موبذ الموبذان، وفي اسفلها صورته وهو راكب على فرس شبديز. وقد أراد المصور أن يمثل هنا الصورة الشهيرة التي نحتها المثَّال فرهاد في صخور (طَاق بُستان) والتي خلدت لهذا المثال شهرة واسعة.

(أنظر الشكل2 القادم). ونلاحظ في هذه الصورة الغبار الذي يتطاير خلف جواد خسرو على هيئة السحب الصينية (تشي)، وهذا يدل على مقدار ما بلغه تأثير التصوير الصيني في أسلوب مدرسة شيراز التيمورية في إيران. ومن ميزات أسلوب هذه مدرسة ما نراه في هذه الصورة من الحركة والحياة في رسم المنظر في الهواء الطلق، بخلاف ما كان متبعاً في المدارس السابقة لهذه، من رسم المناظر في داخل المباني وما يقتضيه ضيق المكان من الجمود الذي يظهر في رسم الصور. كما أن رسم الأشجار المورقة المحيطة بالمنظر صار منذ هذا العصر من التقاليد المتبعة في تصوير المناظر الخارجية وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي يمكن تأريخه بين سنتي 813 و823 هجرية (1410 - 1420م)، وهو محفوظ في مجموعة كارتيير بباريس.

وفي (شكل2) النقوش الخالدة التي يقال إن المثّال فرهاد نحتها بداخل كهف الملك خسرو برويز في طاق بستان. ويقع طاق بستان في ناحية الشمال الشرقي من كرمانشاه، في سفح جبل بيستون في مكان ملئ بالخضرة الناضرة والمياه الجارية. ويتألف من عدة كهوف أمر بنحتها بعض ملوك الأكاسرة في صخر الجبل. وينسب أكبر هذه الكهوف للملك خسرو برويز، وفي الحائط لهذا الكهف نحت فرهاد هذه النقوش، فنرى في أعلى الصورة خسرو بين شيرين وموبذ الموبذان، أو كما يقول رأى آخر بين الإلهين هرمز وأناهيب هما يبايعانه بالملك. وفي أَسفل الصورة خسرو على جوادهِ شبديز ويذكر أبو عمران الكسروي طاق بستان في الأبيات الآتية

وهم نقروا شبديز في الصخر عبرةً

وراكبه برويزُ كالبدر طالع

ص: 15

عليه بهاءُ الملك والوافدُ عكّفٌ

يخال به فجر من الأفق ساطع

تلاحظه شيرينُ واللحظ فاتنٌ

وتعطو بكف حسَّنتها الأشاجع

يدوم على كر الجديدْين شخصه

ويلقى قويم الجسم واللون ناصع

ويروي ابن الفقيه أن بعض الملوك اجتاز هناك ونزل وشرب؛ وأعجبه الموضع فاستدعى خلوقا وزعفرانا فخلق وجه شبديز وشيرين والملك فقال بعض الشعراء:

كاد شبديز أن يحمحم لما

خُلّق الوجه منه بالزعفران

وكان الهمام كسرى وشيري

ن مع الشيخ موبَذ الموبذان

من خَلُوق قد ضمخوهم جميعاً

أصبحوا في مطارف الأرجوان

(له صلة)

محمد مصطفى

أمين مساعد دار الآثار العربية

ص: 16

‌في سبيل إصلاح الأزهر

للأستاذ محمد يوسف موسى

ليس كثيراً على (الرسالة) الغراء وصاحبها الجليل أن يُشغلا بالأزهر وإصلاحه، وليس معنى إفراده بالكتابة ولفته لواجبه أن دون الجامعة فهماً لتبعاته وقياماً بها. ولكن معنى هذا أن الأزهر لمصر وللعالم الإسلامي عامة، كالقلب به صلاحه وقوامه، وكالمنارة تهدي الضال وترشد السفْر بما تبعث من ضوء وهدى. انه الذي يقوم على ثقافة ناشئة الإسلام العالية من الصين في الشرق إلى المغرب الأقصى بأفريقية.

لهذا كان حريَّا بنا إتمام النظر والدرس، والتعمق في التفكير والفحص، لهذه الجامعة التي هي رابطة بلاد الإسلام، لعلنا نقف على الداء ونصيب الدواء، فينهض الأزهر بعد أن طال عليه الأمد وهو وسنان، ويمضي لغايته قُدُماً بعد طوال عثار، ويعود كما كان مصدر العلم النافع والعرفان الذي به ملاك الدين والدنيا.

لا ريب في أن الأزهر تخلف عما يراد عنه، يعرف هذا من اتصل به تلميذاً أو مدرساً، ويشكو منه أبناؤنا وبخاصة غير المصريين الذين تركوا بلادهم خماصاً ليعودوا إليها بطاناً مليئين بالعلوم المجدية، فإذا قلوبهم واجفة خشية أن يرجعوا إلى أوطانهم كما جاءوا إلينا أن أضاعوا زهرة العمر! هذا حق، ولكن ما علة هذا وما أسبابه؟ وهل إذا تبيّنا العلة كان من السهل أن نطبَّ لها ونقتلعها من جذورها؟

اعتقد أنه من الجرأة والمجازفة أن يزعم أحد منا أنه وقف على الداء كله، وعرف له العلاج الشامل الكامل. ومع هذا كان من الواجب أن يدلي كل من تهيأت له الأسباب برأيه، على أن يكون لنا من مجموع هذه الآراء ما يعين على تقويم المعوج ويهيئ السبيل للخير المرجى.

1 -

أول ما يلفت النظر فيما نحن بصدده أن طائفة منا تعيش في هذه الأيام بعقلية رجال القرون الوسطى. المدرس لا يعنيه إلا أن يفهم الكتاب المقرر وأن يُفهمه لطلابه؛ فان يسر الله والطلاب له هذا، حمد الله ورأى انه قام بواجبه. ليكن هذا الكتاب مليئاً بالمسائل والمشاكل اللفظية، ومحشواً بغير قليل من الأخطاء العلمية، فذلك لا يغير من وضع المسألة لدى الطلاب وعامة المدرسين، ولا يلفتهم إلى محاولة فهم العلم نفسه والوصول إلى الحق،

ص: 17

سواء أكان في هذا الكتاب أم في غيره!

2 -

ثم لا يكاد الكثير منا يحس أن للأزهر رسالة يجب أن يضطلع بها، ودوراً عليه أن ينهض بأعبائه. ولو أننا نفقه رسالتنا ونؤمن بها لما كان في أمورنا هذا الوهن، وفي سُبلنا هذا العوج، ولكُنا اعرف بالإصلاح وأهدى لسبيله، ولأصبنا من النجاح - على الأقل - ما أصاب رجال الجزويت المنبثين في شرق العالم وغربه.

هؤلاء يفهمون رسالتهم التي وهبوها أموالهم وأنفسهم، وهي غرس الدين المسيحي في قلوب من يلون أمر تربيتهم وتثقيفهم، ونشر هذا الدين في جنبات الأرض جميعاً. لهذا يدرسون دينهم دراسة وافية، كما يدرسون الدين الإسلامي كذلك، لعلهم يجدون فيه ثغرة ينفذون منها للدعاية لدينهم. ومع هذه الدراسات الدينية العالية تراهم يشاركون مشاركة طيبة في العلوم الاجتماعية والعمرانية وفي الفلسفة والآداب، ويتوسلون بهذه العلوم كلها ليصلوا إلى ما جعلوه لأنفسهم غرضاً وغاية. وهم في أمورهم عامة مخلصون متفانون، لا يتهيبون عملاً، ولا ينكصون عن تضحية، يأتمرون ويتباحثون ويكيفون أنفسهم ومناهجهم حسب ما توحي به الأيام والمناسبات.

أما نحن معشر الأزهريين فقد جهلنا العالم فأنكرناه ونكرنا، وتجهمنا للعناصر الأخرى التي تتألف منها الأمة فتجهمت لنا، وصرنا نعيش على هامش الحياة لا نحس بالغير ولا يحس بنا، منا من يفهم الدين على إنه شعائر جافة جدية لا وسائل للفلاح والخير! ومن يحذق قواعد النحو وأصول البلاغة، ثم يعسر عليه أن يقيم لسانه بين الناس بأسلوب فصيح نفاذ للقلوب! ومن يرى الحق فيما قال الغزالي مثلاً وان كان الخطأ فيه بيناً، والإلحاد والكفر فيما ذهب إليه الفلاسفة وإن كان الصواب فيه واضحاً! ومن يعلم الأخلاق ولا يتخلق، والفلسفة ولا يتفلسف، والأصول والفقه ولا يجتهد، وعلم الكلام ولا يستطيع أن يجادل عن الدين خصومه الحاضرين لا من عفت آثارهم الأيام!

وكان من هذا كله، ومن تخلفنا في الطريق، أن تجاهلتنا وزارة المعارف في أمور كان لا يصح فيها التجاهل، وإن أغضينا العين على القذى. اذكر من هذه الأمور ما كان من الوزارة حين الفت لجنة رسمية لتاريخ إعلام الإسلام، في التشريع واللغة والأدب وسائر نواحي النشاط العلمي، فلم يكن فيها أحد من الأزهر! وما يجري هذه الأيام بين سمعنا

ص: 18

وبصرنا من السفارات العلمية بين رجال الجامعة والعراق، دون أن نخطر على البال فيستعان بنا في هذا السبيل! وهكذا صرنا كما قال الشاعر:

ويقضى الأمر حين تغيب تيم

ولا يستأمرون وهم شهود

أو كما قال الآخر:

مُخلَّفون ويقضي الناس أمرهم

وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا

3 -

وثالثة الأثافي توسيد الأمر أحياناً إلى غير أهله، والثقة بمن لا يستحق، ورعاية جانب الطلاب على حساب العلم. وتفصيل هذا في الكلمة التالية أن شاء الله تعالى.

وإني لأرجو مخلصاً غاية الإخلاص لفضيلة الأستاذ الأكبر الأمام المراغي، وموقناً بأنه خير من يفهم الأزهر ورسالته ويقدر على إصلاحه، والسير به حتى يبلغ الهدف المنشود - أن تكون هذه الكلمة فاتحة لأخريات من إخواني الذين يحسون ما أحس من نقص يجب علاجه وتلافيه وتبعات جسام يجب القيام بها. . . والله الهادي إلى الصراط المستقيم.

محمد يوسف موسى

مدرس بكلية أصول الدين

ص: 19

‌المدنية والإنسان

(أن المدينة التي لا تصون نفسها من الدمار، لا يمكن أن

تصون الإنسان)

للأستاذ حسين الظريفي

كثر الكلام عن عناصر المدنية ومظاهرها، وما لها من فعل وانفعال في كل أبناء الحياة، وكان من البداهة أن يزيد تأمل الإنسان فيما دخل عليه في وسائل معاشه وطرق تفكيره، وفيما وراء ذلك من مظاهر النفس والشعور؛ فالمدنية الحديثة لم تدع شيئاً لم تأخذه بنصيب، من بعيد أو من قريب، فلم تقف عند حد الوسط الذي نشأت فيه، وإنما فاضت عنه إلى خارج الحدود، وإلى ما وراء البحار والجبال وكل حاجز أقامته الطبيعة في قرونها الطوال، ولم تتناول مظهراً واحداً من مظاهر الحياة، وإنما جمعت كل هذه المظاهر ووضعتها في موضع المحو والإثبات، فأخرجت للناس مظاهر جديدة عليها طابع من التفكير الحديث وما يلي التفكير من إرادة ومن عمل، ومن نتائج خطيرة تبطل دونها كل محاولة مقابلة.

على أن صراعاً قام ولم يزل قائماً بين ما وصل إليه العلم الحديث من فهم للحقائق وقيام بالعمل، وبين ما يجر هذا العصر وراءه من تراث عقول خلت منذ أن رأت الأرض أول هلال في الأفق. وما زال الصراع قائماً في حرب تستحرّ هنا وتخف هناك، فتتغير الحقائق وتتبلور ثم تنصب في شكل جديد تؤثر على الناس فيما لديهم من وسائل الحياة، وفيما عندهم من أساليب الفكر والبيان.

لقد كانت تبشرنا المدنية الحديثة بإحلال الرخاء في كافة الأرجاء، وكانت أبلغ كلمة تخرج من أفواهها تلك التي تصور الشعوب في وحدة كاملة شاملة غير متنافرة الأجزاء، تفاهمها دائم، وسعيها وراء الصالح العام.

تلك أمنية تملأ خيال كل مفكر، وتسيل على لسان كل ذي بيان؛ إلا أن مدنيتنا الحديثة كانت تحاول إلهامنا اليقين في قرب حلول الساعة التي يكون فيها الناس أمة واحدة، فشحذت العزائم وانطلقت الجوارح تعمل في هذا الحفل، والجميع يأملون ويعملون.

كان في الإمكان أن يتعارف الناس على غير ما تعارفوا عليه طيلة القرون التي خلت.

ص: 20

فتخرج الشعوب عما رزحت تحت أعبائه من ضيق في ناحية الحقائق وسعة في ناحية الخيال، وتسخر الطبيعة بما فيها من قوى كامنة وساكنة لانتفاع الناس بها بعد أن كانت مصادر الهيلم في وادي الظنون والأوهام.

غير أن المدنية وقد نفذت من المادة إلى داخل النواة فأخرجتها بمظاهر مختلفة فيها منافع للناس، قد وقفت دون المشاعر فلم تأخذهما إلا بطرف يسير، لا تفتأ فيه أن تنقلب إلى ما كانت عليه متى أثيرت في النفوس تلك الغرائز التي تحيا في قاعها، وتعمل على إحياء السيرة التي كان عليها الإنسان في أول عهده بالحياة، فكانت هناك بقية مما يتصل بالروح بعيدة عما هي لصيقة بالمادة، وفي هذه الشقة يضيع التوازن ويحل الاضطراب.

واليوم، وبعد أن قامت الحرب على قدم وساق ولما تزل قائمة تتردد في أسماعنا أصوات الذين أشعلوها وما زالوا يمدونها بالوقود؛ وهي تحمل نغمات الوعد بإحلال السلام بعد إنهاء الحرب وإحراز النصر؛ ولكن فاتهم أن السلام شيء غير مجرد الكلام وأن نزع السلاح لا يضع خيراً ولا يرفع شراً، وأن أصل الداء فيما نحن عليه من عقائد وأفكار وأخلاق تحدث خروقاً كثيرة في مدنيتنا الحديثة.

لقد أردنا من المدنية أن تقينا شرور الطبيعة وأن نجد على راحتها الشفاء من كل داء، ولكن فاتنا أن المدنية التي لا تقدر على حماية نفسها من الدمار لا يمكن أن تصون غيرها مما يخشى الوقوع فيه. وما دامت المدنية لم تكن في تقوى فيه على رد كل يد، تخرج عليها مما حولها ومما عندها، فإن الإنسان ولا ريب غير بالغ ما يريد الوصول إليه من إملاء الحياة بالحياة وطبع الأيام على حد السلام.

إن للمدنية يداً دخلت المواد كلها، ولكنها صنعت فيما صنعت تلك القلاع الطائرة التي تحمل الموت الزؤام، وتلك البروج المتحركة التي ترمي بشرر كالقصر، ومن وراءها ضروب من الوسائل التي تنشر الموت والخراب، ونحن بعد ذلك أولو مدنية وفي تطور إلى الأمام!

أنا لا أنكر أن للمدنية فضلا سابغاً على بعض المرافق وفي بعض الجهات، ولكنه فضل غير جامع وغير مانع لما يظهر من نقص وافتقار. لقد أعطتنا المدنية الحديثة متعة بما ابتكرته من وسائل الترفيه وفنون المسرات، ولكنها لم تنقص من أطراف ما يدخل الناس من هموم وأحزان، وإنما زادتها أضعافاً مضاعفة، وكانت الحياة سلوة أبنائها، لا يشترون

ص: 21

لذائذها إلا بأزهد الأثمان، فعادت وقطوفها مرفوعة وممنوعة إلا أعطى المال غير صاغر وكان من أهل الثراء.

يمكن أن يقال: أن المدنية لم تبلغ بعد شأوها، وإنها ما زالت دون المدى الذي تسعى إليه، ولكنها ولا ريب قد بلغت في مختلف مراحلها حداً لم يعد جديراً بها ألا تحسب لأرواح الملايين من الناس أي حساب، وأن تقيم قوة الحديد والنار في موضع التفاهم وتبادل الآراء، دون أن يمنع التقاتل ما أعدته الطبيعة من حواجز أقامتها بفعل الأجيال، ثم انطلقت قوى الخراب واليباب تفعل فعلها في البر والبحر وعلى متون الهواء، واستحر القتل فاخترقت خطوط الدفاع وتناول الدمار كل مرفق من المرافق. تلك ظاهرة ولا كالظواهر: تبعث في نفسي فكرة الانتقاض على هذه المدنية التي لم تستخدم في شيء بأكثر مما استخدمت في إهلاك النسل والحرث. ولست أشك في أن المدنية الحديثة ذات جروح دامية، وأن داءها في نفسها، وأنها الآن يعز عليها الأساة.

(بغداد)

حسين الظريفي المحامي

ص: 22

‌من مذكرات قاضي شرعي

1 -

من التعليم إلى القضاء

للأستاذ على الطنطاوي

يسألني كثير من الإخوان، كيف وجدت القضاء؟ إني وجدت القضاء راحة الجسم وتعب بال، وعلو منزلة وقلة مال، واكتساب علم وازدياد أعداء، وحملاً كبيراً نسأل الله السلامة من سوء عاقبته:

أما أنه (راحة جسم) فذلك أني كنت في التعليم أتكلم ولا أسمع، فصرت الآن اسمع أكثر مما أتكلم. وكنت لا أقدر على السكوت لأني إن سكت تكلم العفاريت (أعني التلاميذ)، حتى أنه ربما أصابني أحياناً أذى في حلقي فجعلني أغص بالماء الزلال، وأشرق بالريق، وأجد للكلمة الواحدة انطق بها مثل حزة السكين ثم لا أستطيع الصمت دقيقة لئلا يفلت من يدي طرف السلكة فينفرط العقد ويبطل النظام. وكنت أدخلْ الصف (الفصل) وأخرج منه خمس مرات أو ستاً في اليوم ولا أقعد على كرسي لئلا يرى الشيطان مني غفلة فيعطس في مناخر التلاميذ فيحدثوا في الفصل حدثاً، وياما أكثر أحداثهم! وأيسرها ضجة كضجة حمام انقطع ماؤه كما يقول الشاميون في أمثالهم العلمية. ثم إذا خرج من الصف لأستريح راحة ما بين الدرسين (الحصتين) لحقني طائفة من الطلاب يسألونني فأقف لهم حتى ينفخ إسرافيل المدرسة في صوره فيحشر الطلاب والمدرسون إلى نار العمل. فأضل آخر النهار بأوله وأنا قائم على أمشاط رجليّ ولساني لا يكف عن الدوران في فمي. . . فغدوت الآن ولا عمل لي إلا القعود على كرسي القضاء أقول الكلمة بعد الكلمة وأسمع سيلاً من الكلام مما له موضع أو ليس له مكان، وإلا كتابة القرارات (أي السجلات في عرف الفقهاء)، وقد كفاني الكتاب (أَحْمَدَ) الله فَعالَه كل ما سوى ذلك من الأعمال، وما ينغص على هذه الراحة إلا خشية ثقل اللسان من كثرة الصمت فلا ينطق بعد كما كان ينطلق، وإن كان ذلك نعمة ترجى، وإن كان لساني هو مصدر أذاي ومن الخير لي أن يثقل أو يكلّ.

أما (تَعب البال) فلأني أحمل على عاتقي حقوق الناس، وأحكم في الأعراض وهي (لعمر أهل المروءة) أثمن من المال وأغلي، فإذا قمت أو قعدت لم أزل مفكراً في هذه القضية وتلك الدعوى، لا لصعوبة فيها أو تعقيد، فطريق القانون واضح لمن كان أكبر همه ظاهر

ص: 23

القانون، وكان دينه عبادة حروفه، بل لأنقذ من خلال الفكر إلى مقصد القوانين وهو إقامة العدل. فأنا أفكر لأعرف المحق من الباطل، وأنضو عن المتقاضيين ثياب التصنع والرياء لتبدو حقائقهم عارية، وما ذلك بالأمر اليسير ولا المطلب الهيّن، وإذا كنت قد وصلت مرة بالفراسة في لحظة خاطفة إلى ما لا يوصل إليه بمرافعة شهود فذلك من فضل الله، بيد أنه لا يدوم، ولابد من الرجوع إلى الحكم بالشهادات التي قد يعلم القاضي أنها شهادات الزور، وأن الشهود فساق لا عدالة لهم ولا تقبل من مثلهم شهادة، وكانت القرائن تقطع بكذبها - والقرائن والإمارات من أسباب الحكم - كما بيّن ذلك ابن قيم المدرسة الجوزية في كتابه الجليل أعلام الموقعين، ولكن لا سبيل لنا إلى الأخذ بها إلا أن تنظر وزارة العدل في دمشق في الاقتراح الذي رفعته إليها في هذا الموضوع وتتخذه أساسا لإصلاح شامل يخلص الناس من شهود الزور الذين صارت لهم جماعات ومراتب وأجور مسعّرة ودخل فيهم من يعتقد الناظر إليه أنه من الأولياء، ويجده مباحثه من العلماء، وهذا شر استطار شروره، وعم الأنام خبره، وشملهم ضرره - فكيف يهدأ بال من يغلب على ظنه أو هو يعلم فساد البيّنة ثم يضطر إلى الحكم بها؟

هذا وقد نجاني الله بما ركب في طبعي من الحدة في الخلق والشدة في الحق من منغصات القضاء، من الوساطات والالتماسات والهدايا والرشوات والولائم والدعوات، وسلمني من ذلك كله أني لا أعرف في الحق لطفاً ولا مجاملة ولا خجلاً ولا فرقاً وأرجو دوام ذلك.

أما (علو المنزّلة) فلأن لاسم القاضي دون الحاكم المدني وإن علت رتبته وزادت وظيفته، له في الأسماع رنة إكبار، وفي القلوب صورة إعظام، وله هيبة وله جلال، خلع ذلك المجد عليه أولئك الأبطال نجوم فلك العدل، ودراريه الهاديات، أفذاذ الدهر وأبكار الزمان، الذين يحق لنا أن نفاخر بهم أمم الإنس والجن، وأن نجعل قضاءنا بهم أول ما نعقد عليه الخناصر إذا عددنا المفاخر، وما زال قضاء كل أمة أول مفاخرها، قضاتنا الأولون شريح وإياس وشريك وأبو يوسف والعز بن عبد السلام ومنذر بن سعيد ومن أذكر الآن ومن لا أذكر ممن يقصر عنه العد، ويضيق الحصر.

ولولا أني عامل على تأليف محاضرة وافية بهذا الغرض ولا يجمل بي إذاعتها بالنشر قبل نشرها بالتلاوة لأفضت في هذا الموضوع إفاضة من وجد مجال القول واسعاً، والمقْول

ص: 24

جديداً مسعفاً، والسامع مصغياً متشوقاً متلهفاً - لذلك يعظم الناس اسم القاضي، لأنهم يذكرون به هؤلاء وأمثالهم، وعهداً رحم الله ذلك العهد، كان فيه القاضي قاضياً في كل خصومة بشرع الله، حاكماً بما أنزل. لم يكن المسلمون يهجرون فيه جواهرهم ولآلئهم لخزيفات يستجدونها من أيدٍ أشحة بها لأنها لا تملك غيرها، ولا يدعون شرع أحكم الحاكمين لشرع بشر من ماء وطين، وكان من مشاغل علمائهم البحث في الحسن والقبح هل هما شرعيان أو عقليان وكثر في ذلك الكلام، فلما صرنا إلى هذه الأيام ذهب ذلك الخصام وحل مكانه الوئام. واصطلح أهل عصرنا من الناشئة والشبان على أن الحسن ما حسن (أولئك. . .) والقبح ما قبحوه، وارتضينا كلنا هذه النتيجة التي انتهينا إليها، وصممنا الوقوف عليها، وسكن الجدال فلا قيل ولا قال، وكفى الله (المؤمنين) القتال، والحمد لله على (كل) حال.

وأما (قلة المال) فلأن أجر القاضي الشرعي في بلادنا أي مرتبه قليل قليل، وهو أدنى من سائر الحكام المدنيين؛ مع أنه يشترط فيه إجازة (ليسانس) الحقوق، والفوز في الامتحان الملكي، وسبق الاشتغال مدة في المحاماة. . . وهذا حديث له مكان آخر.

وأما (اكتساب العلم) فهو النعمة المفردة بين نقم القضاء المتعددة، اللهم بعد نعمة الثواب إذا كان الله يكتبه لمقصر مثلي لا يستحقه بعمله ولم تصف له نيته ولم يتجرد بعد عن حب الشهرة والجاه، وإن ضِعفت رغبته فيهما وهانا عليه - أن المطالعة هي نعمة هذه المحنة في المهنة، لقد كنت أُطالع دائماً وأنا معلم، بل أني لا أعرف أنه مرّ عليّ يوم واحد منذ عقلت إلى اليوم لم أقرأ فيه شيئاً، غير أني استفدت من القضاء الأنس بكتب الفقه والاستمتاع بها مثل استمتاعي بكتب الأدب أو قريباً منه. وعندي مجموعة منها صالحة إذا أنا استمررت على النظر فيها رجوت أن أكون يوماً من الأيام من أوعية هذا العلم. ذلك لأني أدأب على القراءة ولا يمنعني من السؤال عما لا أعرف حياء ولا كبر؛ ولأن لي بحمد الله ذاكرة لا تمسك النصوص بحروفها ولا الأرقام ولا الأبيات، غير أنها في حفظ المسائل ومواطن وجودها من العجائب. وما أعهد أنى نسيت مسألة قرأتها أو سمعتها، وما أعهد أنى تعرفت بإنسان وحفظت اسمه إلا بعد المخالطة الشديدة الزمن الأطول، ثم إني أنسى اسمه إذا فارقته مع أنى لا أنسى والوجه ولو رأيته مرة واحدة، ولا أعرف تعليل هذا

ص: 25

الأمر.

وأما (ازدياد أعداء) القاضي العدل القائم بإحقاق الحق، والموظف النزيه المستقيم، فشيء مشاهد مسلم به لا يحتاج إلى بيان. وإذا كان قد روى عن أبى ذر أنه قال (كلمة الحق ما تركت لي صاحباً) وذلك على عهد الصحابة وفي أفضل القرون، فما بالك بعصرنا؟ وماذا يقول القاضي وما قضية يعرض عليه إلا وفيها اثنان يقضي لأحدهما على الآخر، فمن قضي عليه جعله عدواً له ما عدا النادر الأندر من الناس الذي يرضى بالحق ولو كان على نفسه. وأكبر المصيبة أنه قد يكون المبطل المقضي عليه، أو الشفيع المردودة شفاعته كبيراً في قومه، وجيهاً في بلده، فإذا ألزمته ما يلزمه شرعاً أثار عليك الشعب والحكومة، وافترى عليك الفِرَى، وأساء فيك رأي رؤسائك فآذوك وضروك وأخروا ترفيعك. والمعروف عند أولي الأمر أن الموظف الصالح هو الذي لا يسخط عليه أحداً ولا يثير مشكلة، ولا يكون ذلك لقاض عادل وموظف نزيه، وإنما يكون لمنافق في جيبه ألف وجه في كل وجه مائة لسان، يقابل كلا بالوجه الذي يحبه، ويخاطبه بالسان الذي يرضيه

وخلاصة القول أن القضاء (حمل ثقيل) وهم طويل، ولو أن الله أغناني عنه وكتب لي أن أعيش بقلمي ومؤلفاتي، أو لو أني رزقت مرتبة أهل الورع لما أقدمت عليه ولآثرت التعليم فهو أسلم، ولكني وقعت والله لا يكلف نفساً إلا وسعها. وإن وسعى وغاية جهدي العزم الصحيح وبالله التوفيق على أن لا أحكم في قضية ما لم أعرف حكم الشرع فيها على مقدار طاقتي فأسير عليه، وأن لا أتعمد الزيغ والظلم تعمداً، ولا أنوي الميل مع أحد الخصمين، وأن لا تأخذني في الحق رغبة صديق ولا رهبة ذي سلطان. أما الخطاء فلا املك دفعه إلا بالانتباه، أما الجهل فلا أقدر معه إلا على التعلم والسؤال.

هذا وقد فسروا حديث القاضي والقاضيين أن القاضيين الذين في النار هما قاض يقضي بالجور وقاض يقضي بالجهل. ونحن نسأل الله لنا ولكل محب بالحق أن يوفقنا إلى أتباع الحق، وأن يعلمنا ما ينفعنا ويرزقنا العمل بما علمنا ويزيدنا علماً.

(النبك - سوية)

علي الطنطاوي

ص: 26

‌نظام الصداقات في الإسلام

للسيد علي حسين الوردي

إن علم المالية العامة علم حديث، ولم يعر الناس التفاتهم إليه إلا في هذه العصور الأخيرة وذلك بعد أن تطورت الحكومات الحديثة وتشعبت وظائفها وانتشرت في الناس مبادئ الديمقراطية.

لقد كانت الشعوب - فيما مضى - لا يعنون بالمالية الحكومة من حيث وارداتها أو مصروفاتها إذ كانوا يعتبرونها مما يخص الملك ومن يلوذ به من الوزراء والعمال. . . وكانت الحكومات القديمة بدورها لا تهتم إلا بتوفير المال لخزينة الملك مستعملة في ذلك كل ما تستطيع من وسائل مشروعة أو غير مشروعة. فلم يكن - كالحكومات الحديثة - توجه قسطاً كبيراً من عنايتها إلى العدل في فرض الضريبة، وفي توزيع عبئها توزيعاً مناسباً بين طبقات الأمة، وإلى إنفاق الواردات العامة فيما ينفع الناس ويزيد الرفاه في المجتمع.

وقد كان الملك - الذي كانت الحكومة القديمة ممثّلة في شخصه - يتبع في إدارة ماليته العامة النظام الفردي إذ كان يعتبر المال المجموع ملكاً خاصاً له يتصرف به ولذا كان يسعى جهده لجباية أكبر كمية ممكنة من المال، وصرف أقل ما يمكن منها، ثم توفير المقادير المتبقّية استعداداً للطوارئ أو إشباعاً لرغباته الشخصية التي لها إذ ذاك المقام الأكبر في إعداد الميزانية العامة. ولقد كان بعض الملوك يصرفون جزءاً مما يجمعون في الأعمال والمشروعات العامة، ولكنهم ما كانوا يعتبرون ذلك حقاً واجباً عليهم إنما هو فضل على الناس ومنه يتفضلون بها عليهم.

ولم تكن الضرائب المباشرة معروفة حينذاك، فكانت الحكومة تعتمد غالباً على الجزية من القبائل المغلوبة أو على أملاك الدولة ومناجمها أو على ضرائب المكس والغرامات والمصادرة. . .

وقد لجاء الأثينيون والرومان أخيراً إلى الضرائب المباشرة وقت الحرب فقط. وأن عبقرية الرومان الإدارية قد أدت بهم إلى ابتكار نظام بديع في جباية الضرائب، ولكن هذا النظام لم يكن يعني بشيء من التوزيع العادل في فرض الضرائب إنما كان موجهاً نحو الكفاءة في

ص: 28

جبايتها فقط.

هذه صورة مختصرة وددنا أن نظهر بها للقارئ حالة الأمم قبيل ظهور الإسلام، من ناحية المالية العامة لكي تتضح له الخطوة الجبارة التي خطتها الدولة الإسلامية في هذا السبيل، ولكي يدرك أيضاً أهمية تلك الخطوة في إرشاد الناس إلى جلالة هذا الموضوع في توجيه العالم نحو هذا الوضع الذي تتمتع بع الأمم الحديثة اليوم في تنظيم ميزانياتها على أساس العدل والمنفعة العامة.

أننا نجد - للمرة الأولى في التاريخ - وذلك على عهد الإسلام تلك العناية الكبرى التي توجه نحو أموال الأمة في جبايتها

وصرفها وفي اعتبارها أنها لا تخص فرداً معيناً، إنما هي أموال الأمة جميعاً ويجب أن تنفق على مصالحها الحيوية بكل دقة.

ولا حاجة بنا أن نذكر هنا ما كان الخلفاء يلزمون أنفسهم به - في العناية بأموال الأمة - من شدة وتقشف. وإن ما يرويه التاريخ عن عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب أو غيرهما لدليل كاف على عظم تلك الخطوة التي خطاها المجتمع على عهد الإسلام في سبيل التمدن الحقيقي.

لسنا نود التوسع في هذه الناحية فهي أوضح من أن تحتاج إلى توسع، ولكننا نريد أن نبحث في ناحية أخرى من هذا الموضوع، وهي ناحية العدل في توزيع عبء الضريبة على الأفراد إذ هي في الحقيقة من أعظم النواحي شأناً في علم المالية العامة.

إن من الهيّن - نسبة - أن تعُد للضرائب إدارة كفؤة تستطيع بها أن تجهز للأمة ما تحتاج إليه من مال في سبيل مصالحها العامة، ولكن الصعوبة كل الصعوبة هي في فرض الضريبة العادلة التي تنتج خير ما يمكن من الآثار الاجتماعية والاقتصادية. حقاً لقد شغلت هذه النقطة أقلام الباحثين في هذا الزمن أكثر مما شغلتهم أية ناحية أخرى من هذا العلم الواسع.

لقد كان الرأي السائد منذ آدم سميث أن الفرد يجب أن يؤدي إلى الحكومة مبلغاً يتناسب مع جسامة موارده الخاصة.

يظهر أن في هذا الرأي شيئاً من الحق، إذ من العدل أن يساهم الفرد في مالية الدولة

ص: 29

بالنسبة إلى أرباحه أو ثروته التي يتمتع بها في ظل تلك الدولة.

ولكن قد يعترضنا في ذلك رأي له وجاهته: فهل يجوز أن يؤخذ من أولى المكاسب الضئيلة عشر ما يكسبون مثلاً، ويؤخذ العشر كذلك من أولئك الأغنياء والموسرين الذين تأتيهم الأموال سيولاً كل حين. . . أفي هذا عدل؟

وهل إن وطأة الضريبة التي يشعر بها أولئك الكاسبون الضعفاء تساوي أو تقارب ذلك الأثر الذي يكاد لا يحس به الأغنياء عند إعطاء عشر ما يحصلون عليه سنوياً من الأموال الطائلة. . .

اختلف الكتاب حول هذه النقطة الحساسة، ولا يزال حتى الآن ناشباً بعض النشوب، بيد أن معظم الكتاب المحدثين قد أجمعوا أخيراً على أن العدل ألا تكون نسبة الضريبة متساوية على جميع الأفراد، وهي ينبغي أن ترتفع شيئاً فشيئاً كلما زادت أرباح الفرد أو ثروته مائة بعد مائة، وهذا هو ما نجده اليوم مطبقاً في أغلب الأمم الراقية. وقد وصلت النسبة في بعض الدول إلى 8 %.

وإذا رجعنا إلى النظام الذي كان متبعاً على عهد الإسلام، نرى أن المشرع الإسلامي قد فطن إلى هذه النقطة، ونجد أن الدولة الإسلامية قد سارت حسب تلك الطريقة:

يحدثنا أبو يوسف عن الزهري عن سالم عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً في الصدقة فقرنه بوصيته ولم يخرجه حتى مات، فعمل به أبو بكر ثم عمر من بعده، فكان فيه: في كل أربعين شاة شاة واحدة حتى تصل إلى مائة وعشرين، فإذا زادت فشاتان عن كل أربعين حتى تصل إلى مائتين، فإذا زادت فثلاث شياة حتى ثلاثمائة، فإذا زادت ففي كل مائة شاة شاة. . .)

هذا مثل واحد نورده للقارئ يتضح له فيه أن هذا النوع من الضرائب قد طبَّق في الإسلام قبل ما يناهز الثلاثة عشر قرنا من تطبيقه أخيراً في الأمم الحديثة.

ويجدر بنا انم نذكر أن النسبة المتصاعدة هذه في فرض الضريبة لم تستعمل إلا حديثاً جداً، وذلك تحت ضغط المبادئ الديمقراطية والاشتراكية التي تغلغلت أخيراً في صميم المجتمع.

ولا تعجب - أيها القارئ - إذا علمت أن من كان يقول بها قبل جيل أو جيلين كان يعتبر من الشيوعيين أو الفوضويين وكان يتهم بأشنع التهم وأبشعها

ص: 30

أجل، ولا يزال بعض الكتاب المشهورين حتى اليوم يؤمنون بوجوب تشجيع الإنتاج والجهود المربحة حيث ينبغي ألا يصادر قسم كبير من الأرباح بهذا النوع من الضرائب. هذا ولكن الرأي الغالب اليوم والذي يحتمل أن يسود العالم غداً يؤيد تلك الضريبة ذات النسبة المتصاعدة، ويرى من الإنصاف أن تكون الوطأة التي يشعر بها دافعوا الضريبة، متساوية في الثقل لدى الجميع، أغنياء وفقراء، فكلما كان المشرع حريصاً على العدل في توزيع الضريبة، كانت النسبة ذات تصاعد أعظم. ولا يعزب عن البال أن من أهم الضرائب الحديثة هو التقليل من ذلك الفرق الشاسع في توزيع الثروة بين الناس، حيث يموت البعض جوعاً بينما يلعب الآخرون بالمال لعباً.

قد لا نخطئ الحق إذا قلنا إن الشرع الإسلامي كان يرمي إلى نفس الأهداف التي يرمي إليها اليوم المشرعون في هذا الموضوع. ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إنه فاقهم في بعض النواحي.

حقاً إن الدولة الإسلامية كانت أول دولة في التاريخ سنت نظاماً في الضرائب ابتغت فيه العدل وتوزيع الثروة العامة على أساس المساواة.

ثم ينبغي إلا ننسى بأن معظم الضرائب كانت - في ذلك العهد - ضرائب مباشرة حيث لا يخفى ما لهذا من الأهمية في تاريخ الضرائب. لقد كانت الضرائب المباشرة لم تفض في الأمم القديمة - كما قلنا آنفاً - إلا نادراً وذلك عند الحرب إذ لم يكن الإدراك السياسي قد وصل إلى تلك الدرجة التي يستسيغون بها فرض الضرائب مباشرة.

والضرائب المباشرة بلا ريب هي المرحة التي توصل إليها المجتمع في تطوره السياسي والاجتماعي

وهناك نواح أخرى في ضرائب الإسلام تتجه في مراميها إلى نفس الهدف الذي ذكرناه آنفاً ألا وهو العدل، وذلك مثل عدم استثناء النبلاء والطبقات الأرستقراطية من الضريبة، وهو ما كان شائعاً في العالم حتى القرون الأخيرة، ومثل التفريق في نسبة الضريبة على إنتاج المكابدة وإنتاج اليسر. . . الخ. وعسانا نستطيع أن نوفي ذلك حقه في فرصة أخرى.

(بيروت - الجامعة الأمريكية)

علي حسين الوردي

ص: 31

‌من غزل الملوك

قصيدة للسلطان سليم فاتح مصر

للأستاذ عبد الله مخلص

وقع في الكلمة التي نشرتموها في (العدد 458) من (الرسالة) بعنوان (من عزل الملوك) بعض أغلاط مطبعية مثل (أن الرشيد أغار على أبيات ابن الحكم الأموي)؛ وصوابها (أن ابن الحكم الأموي أغار على أبيات الرشيد). كما أن عجز البيت الأول من أبيات المعز لدين الله الفاطمي: (تلك المحاجر (بالمحاجر)) صوابه: (تلك المحاجر (بالمعاجر))

ورأيت بهذه المناسبة أن أبعث إليكم بقصيدة السلطان (سليم) التي اقتصرت على ذكر بيت واحد منها في تلك الصفحة، وهو ما كنت أطلعت عليه في المصادر التركية في ترجمة السلطان المشار إليه. أما القصيدة كلها، فقد عثرت عليها في مخطوط اقتنيته أخيراً اسمه (بستان العارفين ونزهة الناظرين) جمع الحاج احمد بن حسن الشامي، ويقول: انه شرع فيه وأتمه في جامع السفاحية بحلب المحمية في سنة 1041هـ:

البدر اشرق بالجمال عليهِ

والسلسبيل يسيل من شفتيه

الغصن نال اللين من عطفيه

قمر يصول ولا وصول إليه

جرح الفؤاد بصارميْ لحظيْهِ

واحلَّ في وسط الفؤاد مقامهُ

نشق المحبّ من الوشام خزامه

وافى بوصلٍ والجمال أمامه

ما قام معتدلاً يهزّ قوامه

إلا تهتَّكتِ الستور عليهِ

يمشي بعجبٍ في غلائل سندس

ألوانها كبنفسجٍ في نرجس

كأسى نديمي والمدامة مؤنسي

يا طيب ليلتنا ونحن بمجلس

نهض الحبيب لنا على قدميهِ

شقَّ القلوب بورده وشقيقهِ

ص: 33

ونما على عشاقه بعقيقه

وهما على كأساته برحيقه

يسقي المدامة من سلافة ريقه

ويخصَّنا بالسحر من عينيهِ

نلنا المسرَّة ساعة بجوارهِ

وقد ارتقينا للهنا في داره

وأعّمنا من خمرة بعقاره

عيناه نرجسنا وآس عذاره

ريحاننا والورد من خدّيهِ

الخال من مسكٍ يفوح بندّهِ

يسطو عليَّ بجزره وبمدّهِ

سعد السعود وفى إليَّ بسعده

كتب المهيمن في صحيفة خدّهِ

لاماً وعقرب فوقها صدغيهِ

جن الظلام على الضيا فتبسّمَا

والمسك في زهر الرياض تنسّمَا

نمّ العذار بخدّه فتحكّما

ما الْشَعر نمّ بعارضيه وإنما

أصداغه جارت على خدّيهِ

لمّا أتى بجحافلٍ من جندهِ

فأردت رشف رحيقه من شهدهِ

دبّ العذار على صحيفة خدّهِ

يا شَعر في بصري ولا في خدّهِ

إني أغار من النسيم عليهِ

ملك يجور على الملوك بظلمهِ

لم يخشَ من جور الزمان وجرمه

ناديتُ من فرط الهيام وغمّهِ

عجبي لسلطان يعمّ بحكمه

ويجور سلطان الغرام عليهِ

إني بأوصاف المحبّة عائِدٌ

وبباب من أهواه شخصي لائِذٌ

ص: 34

جيش المحبّة في فؤادي واقذٌ

والناس تحت يدي وحكمي نافذٌ

وأنا وكلّ الناس طوع يديهِ

الطرف منّي في محبّته عَمِي

والدمع يجري في خدودي عندمِ

وعروس مكةَ والحطيم وزمزمِ

لولا الإلهُ وحرّ نار جهنَّمِ

لعبدته وسجدت بين يديهِ!

ص: 35

‌البَريدُ الأدبيّ

أجوبة عن أسئلة

وجّه إليّ الأديب محمد محمد مالك في العدد 460 من الرسالة أسئلة تتعلق بالأمراض النفسية نجيب عنها فيما يلي:

1 -

الأمراض العصبية

أمراض ناتجة عن التهاب أو انحلال الأعصاب أو النخاع الشوكي أو مركز المخ الحركية والإحساسية والحاسة والتوازنية ويتمخض عنها أنواع مختلفة من الشلل أو إحساسات غريبة أو حركات اختلاجية أو اهتزازية أو تشنجات في العضلات أو اضطراب في الحواس أو اختلاف في التحكم في قضاء الحاجة أو فقدان التوازن، أو تشكيلة من بعض هذه الأعراض.

2 -

الأمراض النفسية أو

أمراض تتمخض عن أعراض متولدة من عقد دفينة في العقل الباطن. وكثيراً ما يقلد المريض بها أعراض الأمراض العصبية من غير قصد.

واهم الأمراض النفسية القلق العصبي (أو بالأحرى القلق النفساني) والهستريا والوسواس والخور النفساني (النورستانيا)

والهجس بالمرض

3 -

الأمراض العقلية

أمراض تتولد من انحلال خلايا القشرة المخية والألياف المرتبطة بها خصوصاً في مناطق المخ الصامتة

وليس من الضروري أن يكون المريض بأعصابه عليل النفسية ولكن قد تنجم من الأمراض العصبية عقد نفسية مثل عقدة الضعة

وهناك أمراض تحدث أعراضاً عصبية وعقلية معاً كالشلل الجنوني العام الناتج من الزهري فقد يصاب المريض به بهواجس العظمة أو سواها مصحوبة أو متبوعة بشلل في عضلات الجسم واهتزازات في الأعضاء واللسان الخ. . .

ص: 36

4 -

القلق النفساني:

هو الخوف من شيء مجهول للمريض ويعرفه فرويد بكونه خوفاً من خطر غريزي، وقد ينتج مثلاً من وجود عقدة الخصي في العقل الباطن. وهذه العقدة وليدة تهديد الأم لطفلها باستئصال أعضائه الجنسية بسبب عبثه بها.

على أن حادث مخيف يعرض للإنسان قد يتسبب عنه القلق في المستقبل باختفاء ذكرى الحادث في العقل الباطن وبقاء القلق متسلطاً على العقل الواعي. ويعزو المريض قلقه عادة إلى أسباب لا تمت إلى السبب الأصلي بصلة.

5 -

الأجرام:

يعتبر المجرم مريض النفس أو مريض العقل. وقد سبق أن أرسلت إلى مجلة الرسالة الغراء بحثاً في هذا الشأن.

6 -

شيطان الشاعر:

يرى يونج أن العقل الباطن سجل لاختبارات البشر الأزلية؛ فالسحر والشياطين والجن والأصنام والأديان والآلهة والمرأة والرجل إلى غير ذلك ممثلة جميعها في العقل الباطن فيما يسميه النماذج القديمة وعندما تزود هذه النماذج بطاقات عقلية كبيرة يعبر الشاعر عنها تعبيراً تتفاوت درجة غموضه أو وضوحه حسب قوة الرقيب وحين يتناولها العقل الواعي بالصقل والتهذيب تصبح منسجمة ومنطقية في الظاهر.

وتمثل الرموز التي يلجأ إليها الشعراء للتعبير عن أغراضهم لغة الرجل البدائي الكائن في سريرتنا.

وليس شيطان الشاعر سوى عقله الباطن، أو بالأحرى ما يسميه يونج (اللاوعي الشامل) وتبدو قوة هذا الشيطان الهائلة عندما يستحوذ على عقل الشاعر الواعي شيء من الذهول. وهنا تكون المقطوعات الشعرية الشبيهة بالأحلام.

7 -

الوارثة:

يرث الإنسان بعض صفات والديه وأجداده العقلية والجسمانية في شكل ظاهر والبعض الأخر في شكل كامن، وهذا هو السبب في كون بعض مختلي الأعصاب والمجرمين

ص: 37

ينجبون ذرية صالحة جسمانياً وعقلياً، ولكن هذه الذرية ورثت اختلال الأعصاب والإجرام في شكل كامن بدليل أن الصفات الكامنة قد تصبح ظاهرة في أبنائهم وأحفادهم.

محمد حسني ولاية

جواب

اشكر للأستاذ (عبد الفتاح إسماعيل - بفرشوط) تحيته وحسن استقباله للمرسلات وأجيبه عما اسأل فأقول:

(أعم الرجال وأخول) يرويان بالبناء للفاعل والمفعول فهو مُعِمَ مخول بالكسر والفتح أي كثير الأعمام أو كريمهم، وقد روى بالكسر قول حسان (قبر ابن مارية المعِم المخول) وروى بالفتح قول امرئ القيس (بجيد معَم في العشيرة مخوَل) وفي بعض ما يروى عن اللغويين هنا اضطراب، والمعتمد ما ذكرنا.

المدني

قد يحتاج المرسل إلى قيد

أرسل الزميل الفاضل الأستاذ الشيخ محمد محمد المدني كلمة عن اختلاف الأزهريين وبواعثه التي ليست للحق والله

- دائماً - وقد كان موفقاً فيما عرض له في إيجاز وتهكم، إلا إنه أستكثر من ضرب المثُل للذين أوذوا بسبب تفرق رأي الأزهر فيهم فجانبه للصواب في بعضها. لقد قال:(والزيات، وطه حسين، والعقاد، وشلتوت، والزنكلوني، ومبارك وهيكل، وغيرهم قد ذاقوا من ذلك ما ذاقوا)

اعتقد أن من هؤلاء السادة - الذين أجلّهم جميعاً - من سمت به عظمته ونبل مقصده وجميل توجيهه، عن أن يكون في أمره خلاف بين الأزهريين أو غيرهم. ومنهم من اجمعوا على جلالة منزلته في العلم والبحث، وعرفان حظه من الإخلاص والعاطفة الدينية. ومنهم أخيرا من قعدت به منزلته المحدودة عن أن يكون موضع حديث الأزهريين عامة، بله اختلافهم. والأمر أوضح من أن يكون في حاجة إلى تمثيل أو تعليل!

محمد يوسف موسى

ص: 38

حول العقاد وابن الرومي

تكشّفَ تعقيبُ الأستاذ عباس محمود العقاد على اعتراضي الذي وجهته إلى حضرته على صفحات (الرسالة) الغراء عن ثغرةٍ نفذت منها إلى حاجتي التي قضيتُها بردِّه الكريم عليَّ. . .

أما ما يستأهل التعقيب ويدعو إليه، فهو ما تفتح عنه ردَّه من ظاهرتين خطيرتين: الأولى ما اقتضته الأمانة الأدبية التي في عنقي من أن أصحح نسبة البيتين اللذين قلت عنهما: إنهما لابن الرومي؛ وقال عنهما أدب العقاد: لا أراهما مما يعاب سواء نسبا إليه أو إلى غيره. فأقول: أن هذين البيتين من نظم كاتب هذه السطور، وقد أردت أن اختبر بهما ذكاء العقاد.

والظاهرة الثانية هي ما نضحت عنه معاني هذين البيتين من جنون الفكرة، وطلاء التعبير اللذين عزَب فهمهما على فطنة أديبنا الكبير. فمن هم بنو النضر؟ ومن أولئك الألفان الرضَّع على التحديد؟

(ابن درويش)

(الرسالة):

ذلك عبث كنا نحب للكاتب وهو من رجال التعليم فيما نظن أن يتكرم عنه احتراماً للرجل الذي يكتب إليه، وللقارئ الذي يكتب له، وللمجلة التي يكتب فيها، وللأدب الذي يعلّمه.

كم ذا؟

. . . ضمني وبعض الأصدقاء مجلس، وتناشدنا أطراف الحديث، فجرى على اللسان قول حافظ:

كم ذا يكابد عاشق ويلاقي

في حب مصر كثيرة العشاق

وهنالك تضاربت الأقوال في (كم ذا)، وهل يجوز ذلك في لغة العربية؟ فقال قوم كما جاز في ما ومن الاستفهاميتين. كأنما يقيسون، وقد قال الآمدي وغيره - من علماء الأصول - أن اللغة لا تثبت بالقياس. . . وقال آخرون: أن ذلك غير معهود في الفصيح الصحيح من

ص: 39

كلام العرب. . . وهكذا أخذنا نقيمها إلى جهة، أو نتلمس لها شاهداً، فلم نجد إلا ما قال المتنبي:(وكم ذا بمصر من المضحكات) على أنها في كثير من طبعات ديوانه وماذا. . . وخيراً آثرنا أن نطرح هذه الأشكال - إن صح أن يكون - على قراء (الرسالة) الغراء علّنا نجد عندهم شفاء الغليل.

إبراهيم علي أبو الخشب

جريدة الإصلاح في عامها السادس

دخلت زميلتنا الإصلاح الأسبوعية في عاما السادس مسددة الخطى مؤيدة العزيمة، وستصدر في خلال هذا الشهر بهذه المناسبة عدداً خاصاً محلى بصور أبناء الدقهلية البارزين من الأدباء والشعراء والفنانين لتكون أداة التعريف بينهم. وقد انظم إلى تحرير هذه الجريدة الرشيدة بعض كبار الأدباء ليساعدوها على تأدية رسالتها في الأدب والإصلاح.

ص: 40