الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 463
- بتاريخ: 18 - 05 - 1942
احتكار الأدب
للأستاذ عباس محمود العقاد
نشرت (الرسالة) في عدد مضى كلمة موجهة إليّ نعيد نشرها هنا للتعقيب عليها وهي:
(كثير من الأدباء يتهمون إخوانهم بالأنانية وحب النفس، فأدباء الشيوخ الذين يحتكرون ميدان الأدب لا يبذلون أي جهد في تسديد خطى الشباب الناشئ، ولا أعرف السبب الذي يمنع أديباً مثل الأستاذ العقاد من تأليف كتاب عن الشعراء الناشئين الذين يدل شعرهم على نبوغ وعبقرية مثلما فعل الشاعر الإنجليزي المعروف و. ب يتس الذي كتب عن روبرت بردج، وولتر دي لمار، وهيلار بلوك، وليونيل جونسون، وأرنست دوسون، في مؤلفه كتاب أوكسفورد للشعر الحديث
فشيوخ الأدب في أوربا لثقتهم بأنفسهم وحبهم لفنهم وإخلاصهم له يسددون خطى الأدباء الناشئين ويشيدون بذكر الموهوب منهم. فما رأي الأستاذ العقاد في هذا الموضوع؟. . . الخ الخ)
كمال الدين نشأت
وفي هذه الكلمة الموجزة كثير من الخطأ الذي يشيع بين بعض المتأدبين الناشئين ولا ينفرد به صاحب السؤال وحده، كما لاح لي من بعض الرسائل والأحاديث، أو مما تكتب الصحف في هذا المعنى، وهو خطأ يحتاج إلى تصحيح؛ وتعتقد أن تصحيحه هو أنفع وجوه التسديد التي ينشدها صاحب الخطاب.
فمن الخطأ (أولاً) أن يشايعهم صاحب السؤال على دعواهم أن أدباء الشيوخ يحتكرون ميدان الأدب لأنهم يظهرون من حين إلى حين بمقال في صحيفة أو بكتاب جديد يؤلفونه أو يجمعون فيه ما سبق لهم نشره من المقالات
فلا معابة على الأدباء الشيوخ أن يصنعوا ذلك، بل المعابة ألا يصنعوه وهو واجبهم المفروض عليهم. وقد يعاب عليهم مع ذلك أنهم قليلو الإنتاج بالقياس إلى ما ينبغي لهم أو ينتظر منهم. وإنما يعذرهم أناس لأن جمهور قراء الأدب عندنا لا يقبلون على المؤلفات إقبالاً يملي للكاتب في أسباب المثابرة ومتابعة التأليف، ويلومهم أناس لأنهم يجهلون العقبات التي تحول دون الانقطاع للكتابة الأدبية في بلانا الشرقية.
فالمفروض على أدباء الشيوخ خاصة أن يزيدوا إنتاجهم لا أن ينقصوه؛ ولو أريد من الأديب أن يؤلف في سن المرانة والابتداء، ثم ينقطع عن التأليف بعد النضج والاكتمال، لكان هذا بدعة أخرى من بدع انقلاب الأحوال التي حقت على المتخلفين من شعوب الشرق أجمعين.
وإذا كان الغرض هو الكتابة في الصحف دون التأليف والتصنيف فليس بصحيح أن شيوخ الأدب يحتكرون الكتابة الصحفية أدبية كانت أو غير أدبية بأي معنى من معاني الاحتكار. بل ربما اقترنت بكل مقالة يكتبها أديب مشهور خمس مقالات أو ست أو سبع يكتبها أدباء ناشئون أو غير مشهورين، وتكفي مراجعة قليلة للصحافة اليومية والأسبوعية والشهرية لتصحيح الخطأ في هذا الباب.
أما أن أدباء الشيوخ لا يبذلون جهداً في تسديد خطى الكتاب الناشئين فما هو هذا الجهد المطلوب؟ وعلى من التبعة إن صح أنه دون الكفاية؟
أي جهد يسدد الخطى إن لم يسددها التدريس للطلاب أو الكتابة لمن يقرأ ويستفيد؟
أما التسديد بالمحادثة والمناقشة فما هو الجهد الذي يطلب فيه من أدباء الشيوخ؟ ولماذا نعرض هنا على الأديب الشيخ أن يجتهد ليبحث عمن يسدد خطاهم ولا يفرض على الناشئ أن يجتهد ليبحث عمن يسدد خطاه إذا اتسع له الوقت وساعفته شواغل الحياة؟
إن الكتاب الذي أشار إليه صاحب الخطاب لا يصلح للتمثيل به في هذا الصدد من أي ناحية من نواحيه. فهو كتاب يشمل الشعر منذ خمسين سنة ولا ينحصر في شعر هذه الأيام؛ وهو كتاب ندب الشاعر (يتس) لتأليفه ولم يفرغ لتأليفه ولا كان في وسعه أن يفرغ له لو لم يندب لهذه المهمة معفي من تكاليفها ونفقاتها التي يعجز عنها. وهو بعد هذا وذاك كتاب يشتمل على أسماء أناس لا يعدون من الناشئين سواء من ذكرهم صاحب الخطاب أو لم يذكرهم في خطابه. فروبرت بردج مات قبل تأليف الكتاب وعمره ست وثمانون سنة، وروبرت بروك - إن كان هو المقصود دون روبرت بردج - مات في الثامنة والعشرين وليست له في الكتاب غير قطعة واحدة. وولتر دي لمار كان يدلف إلى السبعين عند ظهور الكتاب، وقد بلغها هلير بلوك في ذلك الحين. وليونل جونسون قد توفي قبل ظهور الكتاب بنحو أربعين سنة وهو في الخامسة والثلاثين، وأرنست دوسون توفي في نهاية القرن
الماضي وهو في الثالثة والثلاثين
فليس بين هؤلاء شاعر واحد يعد بين الناشئين، ولم يكن يتس مسدداً لخطاهم لأنهم بين صامد على قدميه مستقل عن الأساتذة والمرشدين، ومفارق للحياة في ريعان الفتوة أو بعد مقاربة الشيخوخة
وليست المسألة هنا مسألة ثقة بنفس أو حب لفن كما اعتقد صاحب الخطاب، بل هي مسألة تاريخ محدود قد طلبت ملاحظته في الاختيار، وأعفى يتس فيه من أعباء المجازفة والانتظار
وفيما عدا هذه الحالة لا نذكر حالة أخرى فرغ فيها شاعر أوربي كبير للتأليف في الغرض الذي يقترحه صاحب الخطاب على أدباء الشيوخ المصريين
وللأدباء الشيوخ العذر كل العذر بين المصريين أو بين الأوربيين إذا اختاروا للتأليف أغراضاً غير هذا الغرض الذي تنعكس به أوضاع الأمور. فان الرجل الذي بلغ الخمسين وجاوزها يحق له أن يقصر مطالعته على المفيد المحقق الفائدة ليثابر على واجبه وعلى الانتفاع بمقروءأته. فليس في وسعه أن يقرأ ست ساعات أو سبع ساعات كل يوم
كما كان يفعل في بواكير الشباب. وليس في وسعه إذا اقتصر على ساعتين أو ثلاث أن ينفقها في البحث
عمن يجربون الكتابة أو يشرعون في تجربتها ليقرأ مائة مقال أو مائة كتاب عسى أن يظفر بينها بشيء يستحق التنويه، ويستغني عن التنويه لا محالة إذا كان له من القيمة والجودة ما يكفل له البقاء
إنما يتيسر التشجيع للأديب الشيخ في عمل واحد وهو عمل الصحافة الأدبية حين يتولى الإشراف عليها. فهو يقرأ ما يرد إليه من الشعر والنثر ويعني بتنقيحه وتقديمه ونشره ولفت الأنظار إليه، وهذا ما كنا نصنعه في الصحف التي أشرفنا على أبوابها الأدبية، ولو كلفنا الجهد المجهد في القراءة والتصحيح والتنقيح.
أما الرجل الذي تشغله الحياة بمطالبها ويشغله الأدب بمطالبه بين قراءة وكتابة، فتسديده مقصور على من يتصلون به وعلى ما هو مستطيعه. وليس مما يستطيع أن يترك كتاباً يؤلفه جهبذ من جهابذة الفن والحكمة ويضمن نفعه ومتعته ليقرأ خمسين كتاباً لا يضمن
نفعها عسى أن يعثر بينها على شيء مرجو النتيجة بعد تكرار التجربة مرات
هذا ضياع للوقت وضياع للجهد وضياع للأدب، وعبث تستغني عنه الكفاءة المرجوة ولا نفع فيه لمن خلا من الكفاءة، ويمنعه مع هذا كله أنه غير مستطاع
على أن الأمر خطير جد الخطر من إحدى نواحيه التي يدل عليها، وهي ناحية الروح التي ينم عليها شيوع هذه الأماني والتعلات بين طائفة ولو قليلة من الناشئين
فإنها روح تدل على إعفاء النفس من كل واجب، وإلقاء التبعة على كل كاهل، ونسيان كل حق غير حق الأنانية بغير عناء ولا مقابل
يبدأ الناشئ بالكتابة اليوم ويريد أن يشتهر غداً بمقال واحد أو قصيد واحد ولا نقول بكتاب واحد. فإن لم يشتهر فليس اللوم عليه وعلى طمعه فيما لا يكون ولا ينفع الأدب والناس لو كان. . . كلا، بل اللوم على المشهورين الذين كان ينبغي أن يستأصلوا شهرتهم وأن يكفوا عن الكتابة وأن يفرغوا جهودهم وجهود قرائهم لشهرته هو دون غيره من الشيوخ والكهول والناشئين، وإلا كانوا محتكرين للأدب الذي يحق له هو أن يحتكره ولا يحق ذلك لأحد من العالمين!
وهؤلاء الأدباء المشهورين (الشيوخ) ما لزومهم في هذه الدنيا؟ ما لزوم تجاربهم الماضية ودراساتهم الطويلة وجهودهم المضنية وحياتهم التي يعيشون فيها أبداً بين الأذى والإنكار والكنود؟
هل لهم لزوم في نفع أنفسهم ونفع قرائهم ونفع الأدب بالاطلاع على المفيد المضمون؟
كلا. ليس لهذا كله لزوم. . .! وإنما هم لازمون لشيء واحد وهو شهرة من يريد الشهرة العاجلة على شريطة أن يشتهر وحده ولا يشتهر واحد من أنداده في السن والقدرة!!
وهل لهؤلاء الأدباء الشيوخ حق؟ هل لهم فضل يجب الاعتراف به على أحد؟
معاذ الله. . . من أين لإنسان غضب الله عليه فنشأ في الدنيا أديباً شرقياً أن يطمع في حق أو في اعتراف؟
إنما عليه أن يقرأه القارئ الناشئ عشر سنين وعشرين سنة ولا يقول له مرة واحدة أحسنت واستحققت من الكرامة والثناء؛ ولكنه هو عليه أن يقف على باب كل مطبعة ليتلقف منها كل كتاب ألفه كل شاب في العشرين فلا ينام ليلته قبل أن ينفخ كل بوق ليقول
ما يحلو للمؤلف من ثناء وتنويه. فان لم يفعل فيا للاحتكار، ويا للأنانية، ويا للغدر والكفران بالحقوق!
تعس الشرق إن كانت هذه روح الجد في شباب يتولى قيادته الفكرية بعد جيل. ومن رحمة الله بالشرق ألا تسري هذه الروح في غير القليل من المتواكلين
وتجربتي أنا في هذا الميدان قد يعرفها المتعقب لتاريخ الكتابة الحديثة بغير بحث طويل
فما لجأت قط إلى أديب مشهور لأتكئ إلى شهرته وأستفيد من ثنائه، وما استبحت قط في كتاب من كتبي التي أطبعها أن أذيع كلمات التقريظ التي يخصني بها الكبراء ومنهم زعيم مصر (سعد زغلول)
هذه تجربتي مع من تقدموني وسبقوني إلى ميدان الكتابة والشهرة. أما الذين لحقوا بي فإذا استثنيت أفراداً جد قليلين من صحبي - وإن شئت فقل تلاميذي - فلا حق لي عندهم ولهم عندي جميع الحقوق.
قرأوني عشر سنين فما نبسوا بكلمة تقدير واحدة، وتعرضوا للكتابة أياماً فاعتقدوا أنني قصرت غاية التقصير لأنني لم أفرغ نهاري وليلي للثناء عليهم والتبشير بدعوتهم، ووجب إذن أن أفعل ما يريدون وإلا. . .
وهنا العثرة كما يقول شكسبير!
وإلا ماذا؟ إنني رجل لو جاءني أحد فقال لي عش ألف سنة سعيداً وإلا. . . لأوشكت أن أجيبه بالرفض بعد هذا الاشتراط قبل إتمامه
فإذا جاءتني شرذمة من خشاش الأرض لا يعرفون لي حقاً ويفرضون عليّ أن أنتحل لهم كل حق مصدوق أو مكذوب وإلا حطموني وهدموني وذروا ترابي في الهواء فماذا ينتظرون مني؟ ولماذا يغضبون إذا تركتهم يهدمونني؟ الأنهم لم يستطيعوا هدمي؟ أكان من الاحتكار أيضاً أنني لم أنهدم كما أرادوا فعرفوا أنهم عاجزون وأنهم هارلون؟
إن حق التشجيع في معاملة الناشئين مقرون بحق الأدب والتوقير في معاملة الشيوخ والكهول
بل حق الأدب والتوقير مقدم بحكم السبق في الزمان، لأن الشيوخ والكهول كتبوا قبل الناشئين، وبحكم الحق لأن الأديب الناشئ يستفيد حين يقرأ سابقيه وليس الأديب الكهل أو
الشيخ على ثقة من الفائدة إذا يقرأ للناشئين، وبحكم الاستطاعة لأن القارئ الناشئ قد استطاع أن يقرأ فعلاً ما هو مطالب بتقديره وليس لأحد أن يفرض استطاعة الكهل أو الشيخ أن يقرأ كل ما يكتبه الدارجون في طريق الكتابة
ولكنهم هنا يطلبون التشجيع ويعفون أنفسهم من واجب التوقير. . . ويهددون!
ومن طلب ذلك فما هو بأهل للتشجيع
ومن قبل ذلك فما هو بأهل للتوقير
أما الذين يعرفون الحقوق ثم لا يحتكرونها كلها لأنفسهم فليس عندهم من سبب لاتهام المشهورين أو غير المشهورين بالاحتكار، ولا يلومون أحداً على الاشتهار لأنهم هم يتعجلون الاشتهار
عباس محمود العقاد
مرسلات.
. .
ليت أشياخي!
ليت أشياخنا بالأزهر شهدوا الحفل العظيم الذي دعا إليه معالي وزير العدل في قاعة الجمعية الجغرافية ليسمعوا - كما سمع الوزراء والمستشارون والقضاة والمحامون وغيرهم - محاضرة الدكتور عبد الرزاق السنهوري بك عن (مشروع تنقيح القانون المدني)
ليتهم شهدوا هذا الحفل ليشهدوا منافع لهم، وليعلموا أن رجلين اثنين أخلصا لعملهما، وأخلص كل منهما لصاحبه، سهرا الليالي واستعذبا العذاب حتى أخرجا هذا المشروع الخطير!
ليتهم سمعوا هذا المحاضر اللبق يقول في عبارات واضحة قوية: (إن الفقه الإسلامي لجدير بأن يكون أهم مصدر من مصادر التشريع الحديث، وإن على أهله لواجباً أن يخلصوه مما علق به من آثار الجمود والركود، وأن يقربوا للناس سبل الانتفاع به. وإن المشروع المقترح بكل ما فيه من مبادئ وأحكام، إما مستمد من هذا الفقه فعلاً، وإما مستمد من غيره، ولكنه لا يتعارض مع روح الشريعة السمحة)
ليت الذين ملئوا الدنيا دعاء ونداء بالتشريع الإسلامي قد سمعوا هذا المحاضر، ثم سمعوا وزير العدل من بعده، وهما يوجهان الدعوة عالية إلى رجال الفقه والقانون لينظروا هذا المشروع، ويدرسوا ما فيه من مبادئ وأحكام قبل أن يعرض على (البرلمان)
ليت الأزهر، ليت كلية الشريعة، ليت (الجماعة)!
ليت. . .! وهل ينفع شيئاً ليت؟
أيها الأشياخ المكرّمون! واحدة من اثنين: إما أن تكونوا دُعيتم فلم تحضروا، وإما أن تكونوا نُسيتم فلم تُذروا! وأيتهما كانت فهل أنتم متداركون ما فات؟ هيهات! هيهات!
محمد محمد المدني
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
وإن عدتم عدنا - جوائز وزير المعارف - في سبيل الوحدة
العربية - بين القومية والإنسانية
وان عدتم عدنا
لعل القراء لاحظوا أني انصرفت عن مجادلة من يتعرضون لمقالاتي بالنقد والتجريح في بعض الجرائد والمجلات. ولعل فيهم من توهم أني تعبت من النضال فاعتصمت بالصمت البليغ! والواقع أني أسكت طائعاً عن بعض المجادلين، لأني أومن بأن من حقهم أن يثوروا على آراء دفعتهُم إلى مُحرجاتها برفق أو بعنف، وما يجوز لي أن أتعقب ناقداً بما لا يرضيه، مع أن قلمي هو السبب في إثارته إلى الجدال والصيال
ولهذا المعنى سكتُ عن كلمة جارحة نشرتها مجلة الثقافة (عملاً بحرية النشر) كما قالت، وهي كلمة (منسوبة) إلى إحدى أديبات فلسطين، وفيها شفاء لبعض الصدور المراض
ولهذا المعنى أيضاً سكتُ عن كلمة تطاولَ بها أحد محرري (الثقافة) الغراء، لأمنحه فرصة يقول فيها عني ما يريد
ولكن (الثقافة) فيها كاتبٌ اسمه (قاف) وقد أراد هذا الكاتب متفضلاً أن يشغل نفسه بالقصائد التي تنشرها (الرسالة) باسم (الشاعر المجهول). وما يؤذيني أن تُنقَد القصائد التي تنشر في (الرسالة)، لأن مجلة الرسالة لا تنشر من الشعر إلا ما يثير لنفاسته أقلام الناقدين
إن (قاف الثقافة) توهّم أن (الشاعر المجهول) هو (الكاتب المعروف) وساق عبارة دلّ بها قراءه على أنه يَعني الدكتور زكي مبارك
أهلاً وسهلاً!
ولكن هل يعرف (قاف الثقافة) أني سأسوق إليه كلاماً يزلزل (جبل قاف)؟
إن قاف الثقافة بعيد كل البعد عن الذوق الأدبي، وهو لم يتوار في أحد سفوح (قاف) إلا لينجو بنفسه من الرجفات التي تزلزل قمم الجبال
ومن ذلك القاف؟ وما صبرُ مجلة الثقافة عليه وقد زعمت أن عندها علماء من كل صنف؟
أيكون آخر ما عندها من الأصناف؟
إن درس اليوم هو الفَيْصل في معضلات النقد الأدبي، وسيعرف به قاف الثقافة ما لم يكن يِعرف، وسيذكرنا بالخير الجزيل إن كان من الصادقين
وإلى قراء الرسالة أحتكم، وفيهم ألوف من رجال الأدب والبيان. . . قال الشاعر المجهول:
أبحتُك من قلبي نفائس عطفه
…
وحِّررتُ فيك المال منِ ربقةِ الضَّن
وقلتُ مثالٌ من جمالٍ أصونهُ
…
فيسلم من إفك الزمان ويستغني
فلم تر صدري من سهامك في حمى
…
ولم تر جيبي من نصالك في أمن
وعشتُ يريني الحبُّ أنك حافظٌ
…
عهودي وأن الخُلد بعض الذي أَبني
فلما رأيتَ الوجدَ يغتال مهجتي
…
وأيقنتَ أني من غرامك في سجن
مضيتَ إلى غيري جهاراً وخنتني
…
فمن أيّ وحلٍ صيغ طبعُك خبّرني
تلك هي القطعة التي اعترض عليها قاف الثقافة، وقد اخترمها اختراماً ليخفي عن قرائه مقام البلاغة في الكلمة التي ثار عليها عقله الحصيف
فما تلك الكلمة؟ هي كلمة (وحل) فقد رآها كلمة قبيحة لا يجوز ورودها في قصيدة من قصائد التشبيب!
وأقول إن كلمة (وحل) هي أبلغ كلمة في هذا المقام، ولا يستطيع (قاف) أن يأتي بكلمة أقوى منها
وكلمة (وحل) وردت في قول مسلم بن الوليد:
مشينا بها مَشيَ المقيَّد في الوحلِ
فعدَّها القدماء أبلغ كلمة في هذا السياق
وقبل ذلك وردت في قول الأعشى
تدِبَّ كمْشي القطاة القطو
…
ف في وَحلَ الَّنهى تخشى رقيبا
وأقبح من كلمة (وحل) كلمة (مستنقع) وقد عُدَّت أبلغ كلمة في قول شوقي وهو يذكر ما أنعم به السلطان على الضفادع:
وزاد أن جاد لمستنقَعٍ
وقبل ذلك وردت في قول أبي تمام
فأثبت في مستنقَع الموتِ رِجلهُ
فماذا نصنع في تثقيف قاف الثقافة، وهو لا يعرف الأبجدية من البلاغة العربية؟
لو كان هذا القاف يعرف أسرار البلاغة لأدرك أن الكلمات تأخذ قوّتها وبلاغتها من السياق، وأن الكلمة القبيحة قد تصبح وهي نهاية في الجمال إذا أوجبها مقتضَى الحال
ولكن هذا المتأدب حديث العهد بالدراسات الأدبية، فهو محجوب عن سرائر الألفاظ والمعاني
هو رجل رقيق تؤذيه الأخيلة الجافية، لأنه من أبناء القرن العشرين، فإن لم يكن كذلك فهل يستطيع أن يناقش هذه الأحكام القاسية؟
يا قاف (الثقافة) الغراء:
إذا لم تستطيع شيئاً فدَعهُ
…
وجاوزْهُ إلى ما تستطيعُ
وإلا فهل تملك من القدرة ما تجاريني به في ميدان النقد الأدبي؟
ارجع إلى كلمتك في مجلة الثقافة ثم اسأل نفسك، فإن فعلت فسترى أنك وقعت في غلطة ذوقية لا يقع فيها إلا من كان في مثل حالك
ولي أن أًُوجه إليك هذا السؤال:
كانت مجلة الثقافة تتقي شرّي فتسكت عما أُصوّب إليها من مؤاخذات فكيف استباحت في الأشهر الأخيرة أن تناوشني أربع مرات بلا موجب يفرضه الحرص على خدمة الأدب أو الحق؟
كانت مجلة الثقافة أعلنت على لسان أحد مراسليها أنني كنت البادئ بالعدوان في جميع الأحيان فما عذرها وقد هاجمتني أربع مرات بعد أن رُفع بيني وبينها غصن الزيتون؟
جوائز وزير المعارف
منذ أيام أقيمت حفلة في مكتب وزير المعارف لتوزيع الجوائز على الفائزين في مسابقة الأدب العربي، وهي جوائز تفضَّل بها معالي الأستاذ نجيب الهلالي بك، أما الجوائز الرسمية، فسيظفر بها أولئك الطلبة بعد الفوز في امتحانات القسم الخاص
والظاهر أن بعض المسؤولين في وزارة المعارف قد نظر فيما سيُلقَي أمام الوزير من خُطب وقصائد، فكانت النتيجة أنْ سلمت الحفلة من جميع العيوب، وأن جاءت شاهداً جديداً
على أن الإيجاز من فنون البيان
وقد رأيت أن تكون لي كلمة في تلك الحفلة بعد أن لاحظت أن كبير مفتشي اللغة العربية ومراقب الامتحانات سكتا في خطبتيهما عمن أعان الفائزين إعانة حقيقية حين شرح لهم موضوعات المسابقة في (بعض) المجلات
وعند ذلك قال معالي الهلالي بك: (الحِدِق يفهم)؛ وهي كلمة لم يسمعها جيداً مندوب جريدة (الدستور)، فصاغها من عندياته بأسلوب غير مقبول
والمطالبة بجائزة لمن شرح موضوعات المسابقة الأدبية على صفحات (الرسالة) ليست جديدة، فقد طالبتُ بها الوزير السابق، فوعَد ثم صُرفَ عن الوفاء
أفلا يكون من حق ذلك الباحث أن ينتظر من الوزير الجديد جائزة سنية تشجعه على شرح الموضوعات الآتية لمسابقة العام المقبل؟
لمعالي الوزير أن يختار أحد أمرين: الأمر الأول أن يعدّ معاونة الطلبة على الفوز في المسابقات واجباً على جميع المفتشين؛ والأمر الثاني أن يرى تلك المعاونة تطوعاً يؤديه أهل الحرص الشريف على فوز التلاميذ
وفي كلا الحالين يكون الباحث الذي تفردَّ بشرح موضوعات المسابقة الأدبية في عامين متواليين أََهلاً للتفرد بالثناء
فما رأى معاليه في هذا الكلام؟
ومتى تفكر وزارة المعارف في تقدير أتعاب الباحثين؟
في سبيل الوحدة العربية
كنت أتأهب للرد على كلمة نشرت في إحدى المجلات تعريضاً بالدكتور عبد الوهاب عزام، وكان ألقى خطبة في كلية الآداب دعا فيها إلى الاعتزاز بالقومية العربية. وللدكتور عزام حقوق: لأنه من أفاضل الباحثين المصريين، ولأنه على جانبٍ عظيم من الأمانة والصدق، ولأن اتهامه بالغرض إثمٌ دميم
ثم فوجئت بخبر يشرح الصدر وهو اعتزام (الرسالة) إصدار أعداد خاصة بالأقطار العربية، للتنويه بتلك البلاد، وللتعريف بما عند أهلها من فضائل وآداب
وإذا استطاع أخونا الزيات أن يفي بما وعد، وعلى الوجه الذي يريد، فلن يكون عمله
الصالح إلا أداءً لديون طُوَّق بها جيد مصر في مناسبات مختلفات، فقد أشرت في مقالاتي غير مرة إلى الأعداد الخاصة بمصر في مجلات العراق وسورية ولبنان، ودعوتُ إلى أن نجزي أولئك الإخوان وفاءً بوفاء
ولكن هناك صعوبات تعترض هذا المشروع الجليل، وأخطر الصعوبات هو ضعف الإحاطة بخصائص تلك البلاد. ولتوضيح هذا المعنى أقول:
سيبدأ الأستاذ الزيات بإصدار عدد خاص بالعراق، لأنه أقام فيه ثلاث سنين، ولن يجد صعوبة في تمثُّل ما فيه من مواهب ومطامح وآمال، ولأنه سيجد من إخوانه في القاهرة وبغداد من يساعده على إصدار ذلك العدد الخاص
فما الذي سيصنع حين يتأهب لإصدار أعداد خاصة بالأقطار المغربية واليمنية والحجازية والسورية واللبنانية؟
أنا بمشيئة الله حاضر لمساعدته على العدد الخاص بلبنان. فسأزوره في فرصة سعيدة عند اجتماع المؤتمر الطبي العربي في بيروت، فمن أنصار الزيات في غير العراق ولبنان؟
الخطب أسهل مما نتوهم، ولكن. . . ولكن على شرط أن يهاجر الزيات من المنصورة إلى القاهرة ليستوحي من فيها من العارفين بخصائص الحياة الأدبية والاجتماعية في تونس والجزائر ومراكش واليمن والحجاز وسورية وفلسطين
إن استطاعت (الرسالة) أن تصدر عدداً خاصاً بكل قطر من أقطار العروبة فستؤدي للأدب الحديث خدمة معدومة النظير والمثيل
ولكن متى تصدر (الرسالة) عدداً خاصاً بالسودان؟
السودان جزء من مصر، ولكن محاسنه محجوبة عن جماهير المصريين. . . فهل أستطيع أن أقول لأخواني في السودان إن الرسالة ستصدر عدداً خاصاً بالسودان بمناسبة المهرجان الأدبي المقبل؟
بين القومية والإنسانية
وأرجع إلى تفنيد التهمة التي سيقت ظُلماً إلى الدكتور عبد الوهاب عزام فأقول:
إن الذين كَبر عليهم أن ندعو إلى القومية العربية لم يجدوا حجةً تستر غرضهم المعروف غير القول بأن القومية تنافي الإنسانية، لأنهم فيما يزعمون لأنفسهم دعاة التحرر من
الرجعية، والرجعيةُ في أنظارهم هي الوقوف عند حدود الوطن واللغة والدين
ونقول إن حجتنا هي الصحيحة، وإن الأساس لكل إصلاح هو أن تبدأ بنفسك، والذي يعجز عن إقامة بيت في القاهرة لا يستطيع إقامة عش في فيافي اليابان
وقد حدثناكم ألف مرة أن لمصر قومية عربية توجب عليها أن تنظر بعين الأخوة إلى من يفهم عنها وتفهم عنه ولو كان مسكنه فوق أسوار الصين
وحدثناكم أيضاً أن مصر لن تصمّ آذانها عمن يدعوها باسم الأخوّة الإسلامية، ولو كان من سكان المريخ
فيا فلانُ الذي قضى رُبع قرن في تنفير مصر من العواطف العربية والإسلامية باسم الغيرة على الإنسانية، يا فلان مكانك مكانك، فلن يَقبل الله لك عملاً، ولن تُحشر في زمرة المهتدين
وعند الله الجزاء لدعاة البر والخير والإصلاح السليم.
زكي مبارك
السيلو هو السيرة والسير
للأب أنستاس ماري الكرملي
1 -
تصدير
زارني ولدي بالروح كوركيس حنَّا عوّاد في 1531942 وقال
لي: (يا أبتِ بينما أنا أتصفّح المجلد الـ 87 من المقتطف
(ديسنبر 1935) ص 630 وقع نظري على هذه العبارة وهي:
(وقد اصطلح العلماء على تسمية هذه المخازن (مخازن
الطعام) باسم سيلو وأصل هذه الكلمة بحسب أقوال الغربيين،
ويظهر أنها استعملت أولاً في أسبانيا والمغرب الأقصى.
فحبذا لو عُني أحد اللغويين بالبحث عن أصل اشتقاقها. وقد
اصطلح على تسميتها في القطر المصري بالصوامع، لأن
الفلاح اعتاد أن يطلق اسم صومعة على المخزن المبني
بالطين الذي يحفظ فيه غلاله، وكان الكاتب جلال حسين أول
من أطلق عليها هذا الاسم في مقالات له نشرت في المقطم)
انتهى.
ثم زاد ولدي على ما تقدم نقله ما هذا إيراده: (ثم تصفحت ما جاء من أجزاء المقتطف في مجلدته التالية إلى هذا اليوم فلم أجد من تعرض لهذا البحث ولم أوفق في عثوري على معرفة الأصل العربي، فهل لك أن تذكر لنا اللفظة المأخوذة منها الكلمة الغربية؟).
فقلت له: إني قد بحثت عنها في معجمي الكبير (المساعد) ولكن البحث عنها في هذا البحرِ
الغِطمّ يحتاج إلى وقتٍ، فمتى ما سنحت لي الفرصة أُحقق الأمنيَّة، وأنقل ما قيدته في دفاتري. واليوم قد ظفرت بهذا الموضوع، فآتي به وأطلع الأدباء عليه بنشره في هذه المجلة.
2 -
أقسام مخازن الطعام
تقسم مخازن الطعام إلى قسمين كبيرين: قسم يتخذ فوق الأرض وقسم يتخذ في السراديب أي تحت الأرض وليس للغربيين إلا اسم واحد لهذين القسمين وهو (سيلو أما العرب، فقد سمو باسمين مختلفين هذين المخزنين: فالذي يبنونه أو يتخذونه فوق الأرض يسمونه السيرة أو السير، وهو الذي نقل إلى (سيلو الغربية كما سترى) وقسم تحت الأرض وهو المسمى عندهم مطمورة.
3 -
السيرة والسير
قال صاحب كتاب الرزدقة في ص 143 - 13 وما يليه:
اعلم أن (السيرة) بالكسر و (السَيْر) بالفتح، أن يكدّس الطعام أو الميرة أكداساً وصُبَرا، ثم يجمع بينها وتصومع، ثم تَسيّغ فتصمد دفعاً لعادية الأمطار والثلوج عنها وحفظاً لها من كل ضرر، فان وضع هذا الطعام أو هذه الميرة في حفرة فهي المطمورة) انتهى بنصابه
وقد نقَّرنا عن السيرة والسير في كتب متون اللغة، وهي عندنا كثيرة لا يرى أمثالها عند كثيرين من أصحاب خزائن كتب أبناء يعرب ولا في دور أبناء الغرب فلم نظفر بما يفيدنا هذه الفائدة المطلوبة هنا؛ ولكن لها وجه وجيه في اللغة، فقد جاء في كتبنا عن أحد معانيها: السيرة: الميرة. فيكون مجيئها بمعنى مخزن السيرة من باب حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه، ومنه الآية: واسأل القرية. ومعناه: أهل القرية. وفي الحديث: (وإن مجلس بني عوف ينظرون إليه أي أهل المجلس على حذف المضاف. وفي الأساس: رأيتهم مجلساً أي جالسين. وعندنا من الشواهد ما يقع في جزء من أجزاء هذه المجلة لكثرتها وسماعها عن الأئمة الأعلام الإثبات الذين لا يشك في فصاحتهم ولا في بلاغتهم، ولا في عروبتهم المحضة
وأما (السَيْر) بمعنى السيرة والميرة التي وردت في (الزردقة) فلم نجدها في كتاب لغة؛ لكنا
وجدنا في اللسان والتاج وغيرهما (المَيْر) بالفتح بهذا المعنى عينه. وقد رأينا أن (السيرة) بمعنى (الميرة) وردت في كلام الأقدمين ودواوين اللغة، فتكون (السَيْر) للمَيْر من هذا القبيل أي لغة فيها. فتكون (السيلو) من (السير) عن طريق اليونانية، فقد حكى اللغوي العظيم بوازاق في معجمه أصول الألفاظ اليونانية، أن الأغارقة يقولون للسيلو (مخزن الطعام في ص 866 من تصنيفه البديع (بكسر السين) قابلها (بفتح السين) بمعناها فلم يبق شك في أنهما مثل (سِيرةِِ) و (سَير) بكسر السين في الأول وبفتحها في الثاني والمعنى واحد، ثم نقلها عنهم أهل الغرب جميعاً فقال اللاتيين ونقلها عنهم باللام والإنكليز والفرنسيون والإسبانيون فقالوا سيلو أي (باللام)
ولماذا جعلوا اللام في مكان الراء فلأحد سببين: إما لمقاربة مخرج الراء من اللام فأبدلوا إحداهما بالأخرى، وإما لأنهم سمعوها من بعض العرب من قديم الزمان باللام. فالذين نطقوا بها منذ القديم بالراء جاوروا عرباً يلفظون راءها على أصلها. والذين نطقوا بها باللام كالفرنسيين والإسبانيين والإنكليز جاوروا عرباً يجعلون الراء لاماً. وهذا ما ورد نظائره في كلام السلف الصالح القديم فقالوا: هدر الحمام هديراً وهدل هديلاً، واعرنكس الشَّعر واعلنكس أي تراكم وكثر أصله. والعرجوم والعلجوم، وأربَّ في المكان إرباباً وألب فيه إلباباً: إذا قام به. والشواهد لا تحصى لكثرتها.
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية
خسرو وشيرين
في التصوير الإسلامي
للدكتور محمد مصطفى
- 5 -
ودّعت شيرين فرهاد بعد أن استرد شعوره، وتركته ونزلت بجوادها الجبل قاصدة قصر شيرين، وإذا بالجواد يكبو وتكاد شيرين أن تسقط من فوقه. فأسرع فرهاد إليها، وقد أراد أن يقوم أمامها بعمل من أعمال الرجولة والبطولة، وحملها هي وجوادها على كتفيه، ونزل بها ذلك المنحدر الشاق، فأعجبت شيرين بقوته الهائلة
وفي (شكل 1) تقدم فرهاد لنجدة شيرين، عندما تعثَّر جوادها الأصيل وكادت تزلّ قدمه، فحملها هي وجوادها على كتفيه ونزل بهما ذلك المنحدر الشاق، وقد ظهرت على وجهه دلائل السعادة لهذا العمل الذي جلب إلى قلبه الغبطة والسرور. ونرى خلفه اللوحة التي نحتها لتمثيل خسرو وهو واقف بين شيرين وموبذَ الموبَذان. وهذه الصورة كانت مع عدة صور أخرى ضمن مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر نظامي مؤرخ سنة 868 هـ (1463م). ويمكن تأريخ هذه الصور حوالي سنة 854 هـ (1450م). هذه الصورة محفوظة في مجموعة شستر بيتي بلندن
بلغت مسامع خسرو أخبار تطور العلاقات بين شيرين وفرهاد، من عطفها وإشفاقها عليه، إلى إعجابها به، فخاف أن تبلغ هذه العلاقات بينهما مدى أبعد من ذلك. أضف إلى ذلك أنه علم أن فرهاد قد قرب من إتمام مشروعه الهائل، وإنه على وشك والوصول إلى نهاية الطريق الذي يشقه في صخور جبل بيستون. فجمع خسرو وزراءه وسألهم عن حيلة تعفيه من وعده لفرهاد، فأشاروا بما أملته عليهم قلوبهم الجامدة القاسية، التي لا يعرف الحب إليها طريقاً، والتي ماتت فيها العواطف وتحجرت دماء الشباب. إذ أرسل خسرو إلى فرهاد الشاب المفعم بالحماسة للحياة، امرأة عجوزا قد فرغت من تجارب الزمان، أخبرته في رفق قاتل، وتؤدة خانقة، أن شيرين قد اختارها الله تعالى إلى جواره. . . يا لله!. . . ماتت شيرين!. . . فيالها من حياة تعسة يائسة!. . . ولكن. . . لا!. . . فإن قلوب المحبين خالدة
لا تموت!. . . وشعر فرهاد كأن روح شيرين ترفرف عليه، وتدعوه ليصعد إلى جوارها، إلى حياة أخرى خالدة هادئة. . . وصعد فرهاد إلى صخرة شاهقة تشرف على ذلك الطريق الذي شقه في سبيل القرب من حبيبته. . . فصار آخر طريق يسلكه ليصل من هذه الدنيا. . . دنيا الخبث والشقاء والبؤس. . . إلى دنيا الصفاء والأحلام والخلود. . . وعلى سطح هذه الصخرة الشاهقة، سجد فرهاد أمام روح شيرين الطاهرة البريئة. . . وقد مثلت أمامه، فرآها بعيني بصيرته، وقبَّل لها الأرض في خشوع وخضوع. . .
ثم قام وقد افترت شفتاه عن ابتسامة الواثق من مآله، ولاحت على وجهه دلائل الغبطة والسعادة، وألقى بذلك الجسد الفاني إلى الطريق، فصعدت روحه الخالدة إلى السماء، وهي تنظر وراءها، إلى تلك الابتسامة الباقية على شفتيه، فترى فيها ما للموت من جمال. . . وكيف لا يكون للموت جمال. . .؟!
وفي (شكل 2) يرقد فرهاد رقدته الأخيرة، بعد أن ألقى بنفسه من أعلى الصخرة، فسقط إلى جوار أدواته التي كان يعمل بها في نحت الطريق بجبل بيسُتون. وإلى اليمين أسرع رجل إليه، وقد عقلت الدهشة لسانه، فوضع يده على فمه. وانطلقت الغزلان والطيور مبتعدة عن مكان هذه المأساة الموحشة، كأنها تفر من هول القضاء المحتوم. وهذه الصورة في مخطوط (2) للمنظومات الخمس للشاعر خسرو الدهلوي، كتب في مرات سنة 890 هجرية (1485م) ومحفوظ في مجموعة شستر بيتي بلندن
أفلحت مكيدة وزراء خسرو، ومات فرهاد وهو يعتقد أن شيرين قد ماتت، فأراد أن يلحق بها. وحزنت شيرين على فرهاد حزناً شديداً، فأمرت ببناء قبة فوق المكان الذي مات فيه، لتكون رمزاً للحب الطاهر البريء، وكعبة يحج إليها كل محب صادق في حبه
لم يكن حزن شيرين لموت فرهاد إلا لإشفاقها عليه وإعجابها به، فقد كان صادقاً في حبه، عفيفاً أبيّ النفس، وفياً كامل الرجولة. وماتت مريم ابنة إمبراطور الروم، وزوجة خسرو وأم ابنه شيرويه. فأرسل خسرو الرسل إلى شيرين يطلب ودّها، ولكنها رفضت أن تقابلهم، وأصمت أذنيها دونهم. وحاول شابور، صديق الطرفين، أن يوفق بينهما، فبذل في هذا السبيل كل ما أوتي من ذكاء وسعة حيلة، ولكنه لم يفلح. فقد كانت شيرين غضبى لزواج خسرو من مريم، ولقسوته الشديدة على فرهاد. وأراد خسرو أن يسري عن نفسه، فاختار لذ
لك سيدة جميلة من سيدات البلاط، اسمها (سكر) ولكنه سرعان ما سئم صحبتها
وتاقت نفسه إلى حبيبته شيرين، فرحل إلى الهضاب المرتفعة في طلب الصيد، وضرب خيامه على مقربة من قصر شيرين. وكانت هي - على مر الأيام - قد بدأت تشعر بالأسف، لمعاملتها رسله بهذا الجفاء، فرضيت أن تستقبله في قصرها. وما كادا يتقابلان في أول لقاء بعد هذه الحوادث، حتى ثارت ثائرتها، وأخذت تعنفه لخيانته وقسوته، ثم صرفته من بين يديها، فرجع كسير القلب حزيناً. وعادت شيرين ثانية تشعر بالأسف لجفائها معه، وأرادت أن تصلح ما أفسدت، فتسللت من قصرها، وتوجهت إلى مضرب خيامه في زي أحد غلمان الملك. وهناك قابلها شابور، فتوسلت إليه أن يخبئها في منظرة، ففعل ذلك. وأغري خسرو حتى أدب مأدبة في هذه المنظرة. وكان شابور قد أخبر نيكيسا بوجود شيرين، فغّنتْ أثناء المأدبة بصوت رخيم تحركت له أوتار قلب خسرو، ورد عليها باريد بأغنية أثارت عواطف الجميع، فلم تتمالك شيرين نفسها دون أن تتنهد، وتفصح بذلك عن وجودها. وهنا رفع شابور الستار عن مخبئها، ورآها خسرو أمامه، وهي ترنو إليه، ولسانها حالها يقول
لا رأى السوء من يراك يد الده
…
ر وأحيا الإله من حياكا
أي نور لناظريْ إذا ما
…
مرّ يوم وناظري لا يراكا
(له بقية)
محمد مصطفى
أمين مساعد دار الآثار العربية
محاكمة قصاص
للأستاذ عبد الوهاب الأمين
هذا حديث كنت شاهده عرضاً، وكان قد جرى بين صديق لي من القصاصين وبين إحدى الإنجليزيات، لم أشترك فيه إلا بالسمع فقط وإلا بإشارة عارضة أو نظرة تأييد وموافقة عندما كان يفزع إليَّ أحد المتحادثين في غضون الحديث، فكنت اعتصم بالصمت طوال سيره
وقد بدأ هذا الحديث أول ما بدأ تغلب عليه مسحه من التزمت الذي يقتضيه مثل هذا الموقف، ثم أخذ يتحدر شيئاً فشيئاً إلى الكثير من اللجاجة وقليل من قسوة اللفظ كنت أرى أنهما غير مصطفين
وقد سجلت هذا الحديث لأنه يمثل متهماً يدافع عن نفسه في اتهام لا يمكن أن يبرز في غير هذا السياق من الأخذ والرد، ولأنه يمثل مفهوماً للأدب الحديث بين عصرين وحضارتين وجنسين
قالت الجليسة لرفيقي بعد تطور الكلام - وكان في حفلة من الحفلات العامة - الذي بدأ كما يبدأ كل كلام بين غريبين ببعض المجاملات المعروفة:
- علمت أنك تكتب القصص الصغيرة، فهل كان ذلك منك اختياراً، أم أنك كنت تقتفي أثر أحد من الأدباء الذين أعجبت بهم؟
فأجاب صاحبي:
- من المؤكد أنه اختياري الخاص؛ وإن كان قصدك بالاقتفاء (التقليد)، فان القليل عندنا من أدباء العربية من يكتبون القصص الصغيرة والأقل منهم من يجيدها. وإن كان قصدك اقتفاء سير الأدب الغربي، فأنت تعلمين أن مثل هذا لا يمكن أن يسمى اقتفاء أو تقليداً، لأن جميع الأدباء الغربيين تقريباً يكتبون القصص، بل لعلهم لا يكتبون سواها، فلا يمكن أن يكون كل واحد مقلداً لكل واحد
- أنا لا أفرق بين الاقتفاء والتقليد، وإن كنت في الحقيقة لا أرى في التقليد العيب الذي ترونه فيه أنتم معشر الشرقيين، فالحقيقة أن الابتكار نفسه هو تقليد مضاعف
- قد يكون ذلك حقاً، ولكن رغبة الأديب في القالب الذي يفضله لأداء رسالته الأدبية لا
يمكن أن يبت فيه غيره هو. ولا أضن أن هناك من الأدباء الناجحين من سار على طريق مفترح. والحال في هذا كالحال في جميع الأشغال والأعمال، فلا يفرض النجاح لعمل ما إذا كان ذلك العمل غير مرغوب فيه، وإذا لم يكن الإلهام من المجهول هو السائق الأول له
- لماذا فرضت أن يكون العمل غير مرغوب فيه تقليداً؟ قد تجيد عملاً ما ولا تدري أنك تجيده حتى يتضح ذلك بمناسبة ما!
- إن ميلي إلى كتابة القصص الصغيرة ليس من هذا النوع، فإني لم أكتشفه في نفسي اكتشافاً، بل رأيتني مدفوعاً إليه
- وكيف كنت تشعر عندما كتبت أول قصة؟
- لا أذكر أول قصة كتبتها، ولكني أذكر أول قصة لي نشرت، وقد كانت سخيفة!
- لم أكن لأستغرب هذا القول منك، ولن أستغربه إذا سمعتك بعد عشر سنوات تقول عن قصتك التي نشرت أمس سخيفة! أن في كتابة القصص لمجالاً كثيراً للسخف، والغريب أن أول من ينبه إليه بعد فوات الوقت هم كتابه!
رأيت صاحبي يتقبل هذا التهجم بصبر وأناة، ويحاول أن يدور بالحديث غير مداره، ولعلها هي الأخرى أدركت أنها كانت قاسية بعض القسوة في قولها ذاك فأردفته قائلة:
- كنت أقصد أن أقول هذا على سبيل المدح لكتاب القصة لا على سبيل القدح فيهم، فالحق أن الاعتراف لا يكون أكثر تجلياً مما هو عليه لدى أرباب القصة
فقال صاحبي:
- لعلك صادقة في قولك هذا إن (دستوفسكي) مثلاً لم يكن يتسنى له أن يبلغ من الفن تلك الذروة التي بلغها لو لم يكن كما وصفت. وكذلك (ل. هـ. لورنس) - من كتابكم - فهو من عباد الواقع ومن أربابه الذين خدموه
فسألته وتقدمت إلى الأمام قليلاً، وكأنها تريد أن تدعوه إلى معركة:
- هل تحب (لورنس)؟
- كثيراً جداً
- وماذا يعجبك في فنه؟
- إذا طرحنا بيانه الرائع وقدرته الفنية على الأداء جانباً، فإني أعجب، بالإضافة إلى ذلك،
باتجاهه الأدبي، ولعلي من الزمرة الذينَ يسمونه بالنبوة بين كتاب جيله!
- لعلك مغرق في تحمسك. . . إن (لورنس) أديب ولاشك، ولكنه ليس كما وصفته. إنه أديب منافق! ولكني لا أريد أن أجادلك في موضوع (لورنس) بل أود أن تشرح لي كيف تكتب قصصك
- إن كان قصدك وصف الكتابة ونوع المؤثر الذي يحدو بي إليها، فإني في الحقيقة لا أقدم على كتابة قصة قبل أن ينزع بي نازع إلى الكتابة. ولا أظن أن وضعي في ذلك يختلف كثيراً عن وضع الشاعر عندما تتكون فيه الرغبة إلى نظم القصيد. وفي أكثر الأحيان أراني أكتب قبل أن يتكون في مخيلتي كيان القصة أو عمودها الفقري كما يصطلحون!
فسألته المحدثة بابتسامة غامزة:
- ألا ترى أنك تخلق من أبطال قصصك مخلوقات مبتسرة! أليس هذا الإنشاء اعتباطاً؟
فأجاب صاحبي القصص وكان قد رفع قدح الشاي إلى فمه فأنزله مسرعاً:
- إني لا أعدو في ذلك ما تصنعه الطبيعة في خلق أبنائها! وأضن أن مهمة الفنان في هذه الحياة هي أن ينوب عن الطبيعة الأم فكأن هذا الجواب أرضاها، فقالت وهي تهز رأسها هزة الموافق:
- ذلك صحيح. . . وماذا عن العقدة
- هنا موضع الخلاف كما يقولون، فأنتم في الغرب تقيمون لها الوزن كل الوزن؛ أما نحن هنا فقليلاً ما نعني بها عنايتكم هذه، وأضن أنك تلاحظين أن آداب الأمم الغربية القريبة إلى الشرق أقل نزوعاً إلى (القعدة) في قصصها منها في الأمم الضاربة إلى الغرب. وأقرب مثال إلى ذلك في نظري هو الأدب الروسي الذي نستطيع أن نقول: لا عقدة فيه
- ولكن أدبكم على ما أسمع ليس فيه ذلك العمق الموجود في الأدب الروسي
- ذلك لأن أدبنا لا يزال في طور التكوين
- وقد كان الأدب الروسي كذلك في بداية أمره، ولكنه لم يكن كأدبكم هذا الذي نسمع به ولا نستطيع أن نراه. إن نقدة الأدب عندنا يرون أن أدبكم العربي المعاصر لا يمكن نقله على صورته إلى اللغات الأخرى، وعلى الأخص منه الشعر، وليس كذلك الأدب الروسي أو غيره
- قد يكون هناك سبب أساسي وهو أن اللغة العربية عميقة الأداء وأن بعض تعابيرها قد تجمدت كما يقولون، ولكن المهم في نظري هو سير لغتنا بقوة الاستمرار فقط مدة طويلة من الزمن لا بقوة الحياة كما كان ينبغي لها أن تسير، ولذلك فإنها تخلفت عما سواها من اللغات في الأداء، وعليها أن تجتاز كثيراً من العقبات قبل أن تستعيد ماضيها الحافل
وهنا حدثت فترة في الحديث واتصل نظر المتحاورين بما يجري في القاعة من أخذ ورد ثم عطفت المتحدثة مرة أخرى إلى صاحبي وساءلته:
- هل تفضل طريقة غير طرية القصص في الأداء والخلق كأديب، أم أنك قانع بفنك؟
فأجابها صاحبي بعد فترة وجيزة بتؤدة:
- كنت أتمنى أن أكون شاعراً ولكن ذلك ليس بيدي، وأظنني لا أعدو الشاعر في وضعي الآن كقصاص، ولكني كما قلت لك لا أفضل على كتابة القصة شيئاً
- ذلك ما ظننت
وبعد برهة وجيزة أخرى رأيت صاحبي ينحاز إليها سائلاً:
هل لي أن أستوضح السيدة أمراً؟
- نعم
- ماذا تفضلين من أنواع الأدب؟
- القصة
- وهل أنت قصاصة؟
فابتسمت المحدثة ابتسامة رطيبة وأومأت إليه برأسها:
- لا أكذبك يا صديقي! إنني أنا أيضاً قصاصة؟
- ففتحت عيني مستغرباً، وكذلك كان صاحبي، فقد جاء جوابها هذا أغرب ما في الحديث!
عبد الوهاب الأمين
-
33 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل العاشر - (الخرافات)
لا تكاد القرية المصرية تخلو من ضريح ولي يزوره الكثيرون ولا سيما النساء في يوم خاص من الأسبوع. ويحمل بعض النساء إلى هنالك خبزاً للعابرين الفقراء وغيرهم. ويضع بعضهم أيضاً قطعاً نقدية صغيرة فوق القبر تقدمه للشيخ أو صدقة لأجله. وقد اعتاد الفلاحون كذلك أن ينذروا لأوليائهم ذبائح. مثال ذلك أن ينذر الرجل للشيخ فلان (المتوفى) ماعزاً أو ضاناً إذا أبل من مرض أو أنجب ولداً أو بلغ مراماً، فيضحي بالذبيحة عند قبر الشيخ إذا قضى حاجته حالته، ويولم بلحم النذر للفقراء. وثواب ذلك يبقى للولي. وكثيراً ما ينذر الجداء الصغيرة لتذبح في المستقبل فيشرم أذنها اليمنى أو يعلمها بعلامة ما. وليس من النادر أن ينذر الفلاح نذراً لا يبتغي منه شيئاً غير البركة. وقد ينذر أحياناً عجلاً يذبحه حين يكبر ويسمن، فيترك العجل طليقاً يرعى برضاء الجيران في كل مكان حتى حقول القمح. ثم يذبح العجل ويؤدب بلحمه مأدبة عامة. وكثيراً ما ذُبحت ثيران كبيرة بهذه الطريقة
يكرم كل ولي مشهور تقريباً بالاحتفال بمولده فيزور الناس قبره في ذلك اليوم تبركاً، ويستأجرون الفقهاء لتلاوة القرآن على روح الولي. ويقوم الدراويش بالذكر. ويعلق من يسكن بجوار الضريح مصابيح أمام أبوابهم، ويقضون نصف ليلهم في التدخين واحتساء القهوة والاستماع إلى رواة القصص في المقاهي أو تلاوة القرآن والأذكار. وأمام بابي الآن عدة مصابيح علقت احتفالاً بمولد شيخ يجاور ضريحه المنزل الذي أسكنه. وكثيراً ما يعلق المسيحيون المصريون كذلك المصابيح في مثل تلك الأحوال. وتستمر هذه الأعياد بضعة
أيام غالباً. وأشهر موالد القاهرة بعد المولد النبوي مولدا الحسين والسيدة زينب، وقد وصفتهما في فصل لاحق من الأعياد الدورية العامة في مصر. ولا يواصل أكثر المصريين زيارة قبور الأولياء المشهورين للتبرك فحسب، وإنما يواصلونها خشية نزول المصائب بهم إذا قصروا في ذلك. وهكذا يقاسى الآن أحد معارفي مرضاً يعزوه إلى إهماله حضور مولد السيد احمد البدوي في العامين الأخيرين، وقد جاء أوان الاحتفال بأحد موالده. ويكاد ضريح هذا الولي يجتذب زائرين من العاصمة وأنحاء مصر السفلى أثناء الموالد السنوية الكبيرة بقدر ما تجتذب مكة حجاجاً من أنحاء العالم. ويقام للسيد البدوي ثلاثة موالد سنوية إكراماً له. ويقام أحدها حوالي اليوم العاشر من شهر طوبه (17 أو 18 يناير) والثاني في الاعتدال الربيعي أو نحو ذلك، والثالث وهو المولد الكبير يقام بعد الانقلاب الصيفي بشهر تقريباً (أو حوالي منتصف شهر أبيب) عندما يزيد ارتفاع النيل ولم تقطع السدود بعد. ويستمر كل مولد ثمانية أيام، فيبدأ يوم جمعة وينتهي بعد ظهر الجمعة التالية. وتقام في كل ليلة ألعاب نارية. ويحتفل بمولد السيد إبراهيم الدسوقي بعد كل من الموالد السابقة بأسبوع في دسوق على الضفة الشرقية من فرع النيل الغربي. وكان السيد إبراهيم ولياً ذائع الصيت يلي السيد البدوي في الشهرة.
وتعتبر موالد السيد البدوي والسيد إبراهيم الدسوقي أسواقاً عامة فضلاً عن كونها أعياداً دينية، ويقيم أكثر زائري مولد السيد إبراهيم في مراكبهم. ويعرض بعض دراويش السعدية من أهل رشيد ألعابهم بالثعابين، ويحمل بعض هؤلاء ثعابين شد فمها بحلقة فضية وقاية من لدغها؛ ويأكل آخرون بعض هذه الثعابين حية. ولا يزيد الاحتفال الديني في الموالد جميعاً على إقامة الذكر وتلاوة القرآن. وقد جرت العادة أن يقوم المسلمون - كما كان يفعل اليهود - بتجديد بناء قبور أوليائهم وتبيضها وزخرفتها وتغطية التركيبة أو التابوت أحياناً بغطاء جديد؛ وأكثر هؤلاء يفعلون ذلك رياءً كما كان يفعل اليهود
يكثر الدراويش في مصر كثرة عظيمة، ويحترم المصريون - وخاصة الطبقات السفلى - هؤلاء الذين يعكفون على الرياضة الدينية ويعيشون على الصدقة احتراماً كبيراً؛ ويستخدم بعض الدراويش الحيل المختلفة الاشتهار بقداسة فائقة وقدرة القيام بالكرامات، ويعتبر الكثير منهم أولياء
ويحمل من ينحدر مباشرة من ذرية أبى بكر أول الخلفاء لقب (الشيخ البكري)، ويعتبر ممثل ذلك الخليفة، ويسيطر على جميع طوائف الدراويش بمصر؛ ويعتبر (الشيخ البكري) الحالي، وهو أيضاً من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم نقيب الأشراف. ولعمر أيضاً ممثل هو (شيخ العنانية) أو (أولاد عنان)، وهم طائفة من الدراويش سموا هكذا باسم (ابن عنان) أحد شيوخهم المشهورين. وليس لعثمان ممثل، إذا أنه لم يترك خلفاً. ويسمى خليفة على (شيخ السادات)، وهو لقب دون لقب (نقيب الأشراف). ويدعى كل شيخ من هؤلاء الثلاثة (صاحب سجادة) سلفه العظيم. وكذلك (شيخ الطائفة) من طوائف الدراويش يسمى (صاحب سجادة) مؤسس الطائفة. وتعتبر السجادة العرش الروحي. وفي مصر أربع سجاجيد كبيرة وهي لتلك الطوائف الكبيرة التي سأذكرها الآن
أشهر طوائف الدراويش في مصر ما يأتي:
أولاً: طائفة (الرفاعية) أسسها السيد أحمد الرفاعي الكبير. وأعلام الرفاعية وعمائمهم سوداء، وقد تكون العمائم من الصوف الحالك الزرقة أو الموصلي القاتم الخضرة. ويشتهر دراويش الرفاعية بأعمالهم العجيبة. ودعَّي (العلوانية) أو (أولاد علوان) وهم فرقة من الرفاعية أنهم يغرزون المسامير الحديدية في أعينهم وأجسامهم دون أن يقاسوا ألماً. والظاهر أنهم يفعلون ذلك بطريقة تخدع من يصدق مثل هذه الأعمال. وهم يحطمون أيضاً على صدورهم كتلاً من الحجارة ويبتلعون الحجر والزجاج. ويقال إنهم يخترقون أجسامهم بالسيوف وخديهم بالمسلات دون ألم أو جرح. غير أنه قلما تشاهد هذه الألعاب الآن. وكانت العادة كما أُخبرت أن يقوم الدرويش بتجويف قطعة من جذع النخل ويحشوها بخرق غمست في الزيت والقطران ويشعلها. ثم يحمل هذا الجسم الملتهب تحت ذراعه في موكب ديني وليس على جسده غير سروال فينبعث اللهب على صدره وظهره ورأسه ولا يبدي ألماً. و (السعدية) فرقة أخرى من الرفاعية أشهر من الأولى أسسها الشيخ سعد الدين الجباوي، وأعلامها وعمائم أعضائها خضراء وقد تكون العمائم قاتمة. ويوجد في هذه الطائفة دراويش يمسكون الثعابين السامة والعقارب بلا خوف، ويلتهمون بعضها. إلا أنهم ينزعون أنياب الثعابين حتى يأمنوا شرها. ولاشك أنهم يعدمون العقارب سمها أيضاً. ويركب شيخ السعدية في بعض المناسبات كمولد النبي (صلعم) حصاناً ويسير به على
أجسام بعض دراويشه وغيرهم وهم راقدون على الأرض. ويقرر جميعهم أن وطء الحصان لم يؤذهم ويسمى هذا الموكب (الدوسة). ويعيش الكثير من دراويش الرفاعية والسعدية على إخراج الثعابين من البيوت. وسأتكلم عن براعة هؤلاء المشعوذين في فصل آخر.
ثانياً: (القادرية) أسسها السيد عبد القادر الجيلاني النبيه الذكر. وبيارق القادرية وعمائمهم بيضاء. وأغلبهم صيادون فيحملون في المواكب الدينية شباكاً مختلفة الألوان يرفعونها على دعائم تمييزاً لطائفتهم.
ثالثاً: (الأحمدية) وهم طائفة السيد أحمد البدوي. وهذه الطائفة كثيرة العدد ومحل الاحترام. وراياتهم وعمائمهم حمراء.
وتعتبر (البيومية) ومؤسسها السيد على البيومي، و (الشعراوية) ومؤسسها الشيخ الشعراوي و (الشناوية) ومؤسسها السيد على الشناوي فرقاً من الأحمدية. ويشترك الشناوية في اليوم الأخير من مولد شفيعهم الكبير السيد احمد البدوي في طنطا بنصيب غريب، إذ يجرون حماراً في ذلك اليوم ويتركونه يدخل المسجد من تلقاء نفسه. فإذا دنا من الضريح حيث يحتشد الجماهير نتف كل من استطاع بعضاً من شعره كتعويذة حتى يصبح جلد الحيوان المسكين عارياً كراحة اليد. وهناك فرقة أحمدية أخرى تسمى (أولاد نوح) كلها شبان يلبسون (طراطير) تعلوها شرابة من قطع الجوخ المختلف الألوان. ويحملون سيوفاً خشبية وسياطاً من الحبال السميكة المجدولة المسماة (فرقلة) ويلبسون عدة عقود من الخرز.
رابعاً: (البراهمة) أو (البرهامية) وهم طائفة السيد إبراهيم الدسوقي الذي سبق الكلام عن مولده. وأعلامهم وعمائمهم خضراء. وهناك فرق أخرى ينتمي بعضها إلى الطوائف السابقة، ومن أشهرها (الحفناوية) و (العفيفية) و (الدمرداشية) و (النقشبندية) و (البكرية) و (الليثية)
والإلمام بكل عقائد الدراويش وقوانينهم وشعائرهم مستحيل؛ إذ أن أكثرها مثل عقائد الماسونية لا تذاع على غير المطلعين على أسرارها. وقد وصف لي درويش أعرفه كيف أخذ (العهد) أي ميثاق التعريف بالسر وهو يكاد يكون واحداً عند الطوائف جميعها. استقبل شيخ الدمرداشية صاحبي هذا فتوضأ وجلس أمامه على الأرض. ثم ضم كل من الشيخ
والمريد يده اليمنى إلى يد الآخر بالطريقة السابق وصفها عند عقد الزواج. وبهذه الحالة واليدان مغطاتان بكم الشيخ أخذ المريد العهد مردداً وراء الشيخ هذا الكلام التالي بادئاً بالتوبة: (أستغفر الله العظيم (ثلاث مرات) الذي لا إله إلا هو الحي القيوم. أتوب إليه وأسأل عفوه وغفرانه وإعتاقه من النار) ثم يسأله الشيخ هل يتوب إلى الله؟ فيجيب المريد أنه يتوب إلى الله ويرجع إلى الله. وإنه نادم على ما ارتكب من المعاصي ويقرر أنه لا يعود إلى غيه. ثم يردد بعد الشيخ أنه يستخير الله العظيم والرسول الكريم. وإنه يولي عليه السيد عبد الرحيم الدمرداش الخلوتي الرفاعي النبوي محتذياً مثال شيخه ومرشده إلى الله تبارك اسمه وتعالى. وإنه لا يحيد عن تعاليم الطريقة ولا ينفصل عنها، ويشهد الله على ذلك مقسماً بالله العظيم ثلاث مرات. ثم يقرأ الشيخ ومريده الفاتحة معاً. ويختم المريد الحفل بتقبيل يد الشيخ. وتقوم أعمال الدراويش الدينية على الذكر خاصة، فيصيحون أو ينشدون واقفين في حلقة مستديرة أو مستطيلة أو في صفين متقابلين أو جالسين:(لا إله إلا الله) أو (الله الله الله) أو يرددون أدعية أخرى، ويكررونها حتى تخور قواهم وهم أثناء ذلك يحركون الرأس أو الجسم جميعه أو الذراعين. ويستطيعون لدأبهم على ذلك أن يواصلوا هذه الحركة بلا انقطاع مدة تثير الدهشة. وكثيراً ما يصحبهم من وقت لآخر عازف أو أكثر على (الناي) أو على (الأرغول) وآخرون ينشدون القصائد الدينية. ويستخدم بعض الدراويش أثناء الذكر طبلاً صغيراً يسمى (بازا) أو دفاً. ويقوم البعض الآخر برقص غريب سأصفه مع أشكال مختلفة للذكر في فصول قادمة.
عدلي طاهر نور
-
من التاج
(فاُروقُ أْنتَ هُداها كُلَّماَ عَشِيتَْ)
(إلى عزيز مصر (فاروق)، تحية لعيد جلوسه الملكي السعيد)
الأستاذ محمود حسن إسماعيل
نُورٌ مِنَ اللهِ تَرْعَاهُ العِناَياَتُ
…
هاَتُوا أََغَانِيَكُمْ فِي حُبَّه هاَتُوا!
وَجَلجِلُوا فيِ فَمِ الدُّنْياَ بِعِزَّتِهِ
…
فَنَحْن مِنْ دُونِهاَ فِي الأَْرْضِ أَمْواتُ
وَرَدَّدُوا فيِ ضُحَى الْوادِي بَشَائَرَهُ
…
فَماَ لَناَ غَيْرُهاَ لِلمْجَدْ آياَتُ
وَامْشُوا كَماَ خَطَرَتْ مِصْرٌ بِساَحَتِهِ
…
نَشْوَى تُرَنَّحُ جَنْبَيْهاَ الصَّباَباَتُ
غَدَا هَواهاَ دَمًا يَجْرِي بِمُهْجَتِهِ
…
كَماَ جَرَتْ بِحَياَةِ الْبَحْرِ مَوْجَاتُ
حَناَ عَلَيْهاَ كَماَ تَحنْوُ الظَّلَالُ عَلَى
…
ساَرِي هَجِير لَهُ في الدَّوِّ آهاَتُ
حَناَ عَلَيْها كَمَا يَحْنوُ الشُّعاَعُ عَلَى
…
مُحَيَّر الَّليْلِ تُشْقِيِه المَفَازَاتُ
حَناَ عَلَيْهاَ كَماَ تَحْنُو الْمُنَى فَجَأَتْ
…
قَلْبًا تُراوِغُ جَنْبَيْهِ الْعُلَالاتُ
حَناَ عَلَيْهاَ وَسَقَّاهاَ الْعُلا فَمَضَتْ
…
وَمَا لَهاَ غَيْرُ مَهْدِ النَّجْمِ غَاياَتُ
مُمَلَّكٌ في شَباَبِ الْعُمْرِ تَحْسَبُهُ
…
لِحِكْمَةِ الرَّأْيُ تَحْدُوهُ الْقَدَاساَتُ
أساس مُلْكِ الْوَرَى سَيْفٌ وَصَوْلَجةٌ
…
وَمُلْكُهُ الضَّخْمُ تعْلِيهِ اُلْحشَاشَاتُ
أَحَبَّهُ النَّاسُ حَتَّى لَوْ سَجاَ حُلُمٌ
…
بِغَيرِ رُؤْياَهُ تُبْلِيهِ النُّفاَثاَتُ
أَحَبَّهُ النِّيلُ. . . سَلْ أَمْوَاجَهُ تَرَهاَ
…
وَمِلءُ أَقْدَاحِهاَ مِنْهُ بَشاَشاَتُ
أَحَبَّهُ الطَّيْرُ. . . حَتَّى قَالَ أَعْجَمُهاَ
…
مِنْ نَشْوَةٍ بالْهَوى: أَيْنَ الرَّباَباَتُ؟
أَحَبَّهُ الشَّرْقُ. . . حَتَّى صاَرَ قِبْلَتَهُ
…
أَنَّى مَشَى خَلْفَهُ تَمْشي السِّياَساَتُ!!
أَحَبَّهُ اللهُ. . . إذ أَوْحَى لِكُلِّ هَوًى
…
بُشْرَى هَواهُ فَحَفَّتْهُ الضَّراعَاتُ. . .
كأَنَّماَ حُبُّهُ للِكَوْنِ هاَدِيَةٌ
…
مِنَ الشَّرَائعِ ساَقتْهاَ الدِّياَناَتُ
مُتَوَّجٌ فَوْقَ عَرْشٍ مُنْذُ مَا بَزَغَتْ
…
شَمْسُ الْوُجُودِ تُحَيِّيهِ الْبَرِيَّاتُ
شَعَّتْ عَلَى مَفْرِقِ التَّارِيخِ صَفْحَتُهُ
…
كأَنَّهاَ لِظَلامِ الدَّهْرِ مِشْكاَةُ
مِنْ عَهْدِ فرِْعَوْنَ مَا زَاَلَتْ عَظاَئمُهُ
…
تُتْلَى بِهاَ لِبنَي الدُّنْياَ رِوَاياَتُ
أَهْرَامُ خُوفُو تَهاَبُ الِجنُّ ساَحَتَهاَ
…
كأَنَّماَ هيَ لِلأَقْدَارِ خَيمْاَتُ. . .
مُخَيَمَاَتٌ وَأَسْرارُ السَّماَءِ بِهاَ
…
كأَنَّماَ هِيَ لِلأَفْلَاكِ جَارَاتُ. . .
وَخَيْلُ (رَمْسِيسَ). . مَازاَلَتْ سَناَبِكُهاَ
…
تُلْقي حَديثَ الْوغَى عَنهْاَ الْفتُوُحَاتُ
وَالَّسيْفُ فيِ يَدِ (إبراهيم) مَا فَتِئَتْ
…
لِلنَّصْرِ تُرْعِشُ حَدَّيْهِ اَلْخياَلَاتُ!
وَادٍ أَشَمُّ الْعُلَي مَرَّتْ بِهِ حِقَبٌ
…
أيامهُنَّ بِكَفَّ الدَّهرِ رَاياَتُ
ضِفاَفُهُ مَنْزَهُ الدُّنْياَ وَمَعْبَدُهاَ
…
وَنِيلُهُ لِعَذَارَى السِّحْرِ مِرْآةُ
وَللطُّيورِ بِهِ شَدْوٌ كأَنَّ عَلَى
…
إِيقاَعِهِ مِنْ أَغَانيِ الخُلْدِْ رَنَّاتُ
شِعْرٌ مِنَ النغَمِ الْعاَليِ يُساَجِلُهُ
…
مِنْ أَفُرعِ الدَّوْح تَسبيِحٌ وَإِنْصاَتُ. . .
وَللرَّياَحِ أَباَريقٌ مُخَتَّمةٌ
…
بِمِثْلِ صَهْباَئِهاَ لَمْ تَسْقِ حَاناَتُ
تَجِري بأَسْرارهاَ لَمْ يَدْرِ شاَربِهُاَ
…
أَسْرٌ هُنَالِكَ أم للرُّوحِ إِفْلَاتُ. . .؟!
دُنْياَ مِنَ السِّحْرِ لَمْ تُكْشَفْ سَرَائرُهَا
…
لسَاحِرٍ لَمْ تُكاَشِفهُ السَّمواتُ. . .
سَجَتْ رُباَهَا. . . وَقَلْبُ الأَرٍَْضِ مُضْطَرِمٌ
…
تُفَزَّعُ الجِنَّ مِنْ شَكْوَاهُ أَناَّتُ
فَارُوقُ. . . أَنْتَ لَها فَجْرٌ عَلَى يَدِهِ
…
تَرقَرقَتْ مِنْ ضِياََءِ اللهِ هَالَاتُ
فَارُوقُ. . . أَنْتَ مَلَاذٌ عِنْدَ حَيَرتِهَا
…
عَلىَ يَدَيْكَ لَها تُرْجَى المَناَرَاتُ
فَارُوقُ. . . أَنْتَ هُدَاهَا كلمّا عَشِيَتْ
…
وَعَصَّبتَهَا عَنِ النُّورِ الضَّلَالَاتُ. .
فَارُوقُ. . . كَمْ رُحْتَ في الْبَلْوَى تُهَدْهِدُهَا
…
وَمَنْ سِوَاكَ إذا تَطْغَى الْبَلِيَّاتُ؟!
كَمْ بَائِسٍ كُنْتَ سُلْوَاناً لِكُرْبِتَهِ
…
لَوْلَاكَ مِنْ دَمْعِهِ يَرْوَي وَيَقْتَاتُ
وَكَمْ شَقِيَّ الثَّرَى، عارِي الأَدِيم، مَضَتْ
…
رَفرَافَةً مِنْكَ تُحيِيهِ السَّعَادَاتُ!
وَكَمْ خَرِيفٍ عَلىَ الأَكْوَاخِ أَهْلَكَهُ
…
نَدَاكَ فَهْوَ رَيَاحِينٌ وَأَيْكاَتُ
في كُلَّ يَوْمٍ شُعاًعٌ آلِقٌ ذَهَبَتْ
…
تَطُوفُ مِنْكَ بِهِ للنِّيلِ دَاراَتُ
عَطْفٌ وَبِرٌ وَإحسان وَمرَحْمَةٌ
…
يا قَوْمُ مِنْ ههنُاَ تَزكُو الْعِباَدَاتُ
قَالَ المُصَلُّونَ: مَنْ هَذَا فَقُلْتُ لَهُمْ:
…
في كُلَّ بَيْت هُدًى مِنهُ عَلَامَاتُ
هَذَا الّذي يُرْهبُ الأيام صَوْلَجُهُ
…
للهِ مِنْ نُسْكِهِ تَمْتَدُّ رَاحَاتُ
يَقْظَانُ للِوحَدْةِ الْكُبْرى لَدىَ وَطَنٍ
…
كادَتْ تُمَزَّقُ جَنْبَيْهِ الخِلافَاتُ!!
مَا فَاتَهُ مَثَلٌ أعلى لمِصْرَ، وَلَا
…
لَغْير عِزَّتِهَا مِنْهُ صَبَاباَتُ. . .
فَارُوقُ. . قُدْنَا إلى الأَفْلَاكِ وَامْضِ بِناَ
…
شَعْبَاً إلى الْمَجْدِ تَحْدُوهُ الْبُطُولَاتُ
وَاسمَعْ نَشِيدَ الحِمَى. . . مَا فيِ مَقَاطِعِهِ
…
إِلاَّ قُلُوبٌ إلى (عَبْدِينَ) مُزْجَاةُ
شِعْرٌ ضِيَاؤُكَ يَجْرِي فيِ مَسَابحهِ
…
كَمَا جَرَتْ بِضِيَاءِ الطًّورِ (تَوْرَاةُ)
محمود حسن إسماعيل
البريد الأدبي
حول ابن الرومي وصداقات الأدباء
كتب (ابن درويش) في العدد السابق من الرسالة كلمة يقول فيها ما معناه أنه كشف ثغرة نفذ منها إلى ذكائي، وأنه نسب إلى ابن الرومي بيتين ليسا له وإنما هما من نظمه وفيهما من جنون الفكرة وطلاء التعبير - كما قال - ما عزب فهمهما على فطنة أديبنا الكبير، فمن هم بنو النضر؟ ومن أولئك الألفان الرضع على التحديد. . .؟
ويتفق هذا في الوقت الذي يسألني فيه بعضهم: لم لا يسدد الأدباء الشيوخ خطى الأدباء الشبان. . . فهل من حاجة إلى هذا السؤال أو جواب عليه وهذا واحد من الناشئين يستهدي الأدباء الشيوخ على هذا المنوال؟
ونعود فنقول إن الثغرة التي كشفها صاحب السؤال إنما دلت على شيء لا يريده هو؛ وذاك أن العقاد رجل تلهمه البصيرة ما يكشف النيات قبل أن يكشفها أصحابها، فعرف أن صاحب السؤال عابث لا يجد في طلب الفهم وقال:(إن الأسئلة ضربان: سؤال يوجهه صاحبه وقد اجتهد في أن يعرف غرض الكاتب فهما سائران في طريق واحد، وسؤال يوجهه صاحبه وكأنه اجتهد في نقيض ذلك. ونقيض ذلك هو ألا يعرف غرض الكاتب وأن يتخذ له وجهه غير وجهته وطريقاً غير طريقه، فهما مفترقان لا يتقاربان. وأحسب أن الأديب الذي وجه إلي ذلك السؤال لم يجتهد في معرفة غرضي بمقدار اجتهاده في الحيدة عنه. . .)، فهل أراد صاحب السؤال هذا أو هو لا يعرف ما يريد؟
أما الواقع فهو أنه لا يعرف ما يريد؛ لأنني على فرض تصديقي نسبة البيتين إلى ابن الرومي لم يكن في ذلك شيء يستحق الدلالة عليه أو يستحق عناء التلفيق. فليس مطلوباً مني أن أذكر كل بيت في ديوان ابن الرومي المخطوط الذي لا تتداوله الأيدي؛ وليس مطلوباً من ابن الرومي أن يعتصم شعره من بيتين بالغين أدنى الحضيض من مراتب الرداءة والغثاثة؛ وليس من البعيد أن يكونا منسوبين إليه في بعض كتب الأدب ولا من المستحيل أن يكون راويهما شريفاً مستحقاً للتصديق
فلو صدقت أنا نسبة البيتين إلى ابن الرومي لما كان في ذلك عجب، إنما العجب أن أجزم بالنفي فأتعدى أمانة العلم إلى شعوذة المجون. . . فكيف وقد ألممت بالحقيقة وقلت إنني لا
أذكر أنني قرأت البيتين في الديوان؟
أما كلمة (النضر) التي ظن صاحب السؤال أنها كانت خليقة أن تهديني إلى تأليفه للبيتين فسبب ذلك جهله بمعنى الكلمة لا جهلي أنا بمعناها ومدلولها. وهذان هما البيتان اللتان وردت فيهما الكلمة
سقته ثدي السحب من مرضعاتها
…
أفانين مما لم تقطره مرضع
كألفي رضيع من بني النضر ضمنوا
…
محاسن هذا الكون، والكون أجمع
فلو كانت كلمة النضر بغير معنى كما توهم صاحب السؤال لجاز أن يعاب معنى البيتين
ولكن (النضر) هو جد بني هاشم، وبنوه هم بنو هاشم من قريش. وعلى هذا يصح أن يكون معنى البيتين أن بستاناً حافلاً بالأزهار التي رضعت ثدي السحب جمع متفرق الجمال كما يجمع بنو هاشم محاسن الكون وهم رضعاء. . . وهذا معنى كما قلت لا يعاب.
نعم هو معنى لا يمكنني أن أعيبه إلا إذا كنت في جهل صاحب السؤال بمعنى كلمة النضر ولست كذلك بحمد الله
وبعد، فإنني أدع لحضرات القراء أن يصفوا هذا السائل بما يستحقه، وأكتفي بأن أستخرج من سؤاله دليلاً آخر لم يرده حين استباح عبثه المعيب. . . ذلك أننا على حق في معاملة أمثاله بما يشكونه وهم عابثون
ولنا عودة إلى صداقات الأدباء، وما كتبه الأستاذ توفيق الحكيم بصددها في مقال تال.
عباس محمود العقاد
مأساة فرنسا للأستاذ الصاوي
الأستاذ أحمد الصاوي كاتب طريف أنيق: ظريف في اختيار موضوعه، وأنيق في ابتكار عرضه. وطرافته في الأداء والوضع، لا يماثلها إلا طرافته في الإخراج والطبع. والصفة الغالبة أو المزية الفارقة فيما ينتجه الأستاذ الصاوي هي الذوق. والذوق ملكة الفنان ومِلاك الفن. وأجمل ما في أسلوبه من صفات البلاغة الإيجاز والحياة والتنوع، وذلك سر ما يشعر به قارئه من الجاذبية واللذة. ولعل صاحب (إبر النحل) قد وصف نفسه أصدق الوصف بهذا العنوان؛ فهو في رياض الأدب والفن تلك النحلة التي لا تنفك طائفة على الزهر، أو
عاكفة على الرحيق، تلسع أحياناً وتغسل دائماً؛ وهي في لسعها وعَسلها تدافع عن الخير وتنتج الخير
(مأساة فرنسا) هي كما قال الأستاذ الصاوي وثائق (يمكن مع التسامح أن تعد شبه دائرة معارف شائقة لهذه الحرب، تشمل الحوادث الطريفة والأسرار الخفية التي لا تنشرها الصحف من حربية وسياسية واقتصادية ونفسية - إلى أعمال الجاسوسية والدسائس والمنافع والفتن التي تهدم البلدان من الداخل - معروضة بطريقة نزيهة واقعية. وهي ملخصات كتب شهود عدول من أعظم كتاب العالم)
وذلك هو الوضع الصحيح لموضوع هذا الكتاب؛ أما أسلوبه ومعرضه وشكله فتمثيل وتفصيل لما ذكرناه وأجملناه في صدر هذه الكلمة.
الزيات
بين ديكارت وابن يعيش
نعلم كيف أثبت ديكارت وجود نفسه، فقد قال: أنا أشك فأنا أفكر، فأنا إذن موجود.
وبالأمس كنت أقرأ في شرح ابن يعيش على مفصّل الزمخشري فوقفت فيه على قوله: (. . . ألا ترى أنك إذا قلت: عدمتُني، فمعناه علمتُني غيَر موجود. ومحال أن تعلم شيئاً وأنت غير موجود، لأنك إذا علمت كنت موجوداً، وصحته على الاستعارة) ص88 ج 7 ط المنيرية (ولا طبعة مصرية غيرها فيما أعلم).
فأنت ترى أن ابن يعيش المتوفى سنة 643 هـ سبق ديكارت الذي عاش في النصف الأول من القرن السابع عشر (1596 - 1650) إلى الشعور بالفكرة التي قام عليها عمود من أعمدة فلسفة أبي الفلسفة الحديثة.
سبق أبنُ يعيش ديكارت إلى الشعور بهذه الفكرة، ولكن ديكارت جاء بعد ذلك فصاغها في منهج فلسفي متين، فكان هذا الفرق بينهما.
أفلا يوحي هذا بالا نتهم الشرق بقصور عقله وألا نغالي في تمجيد عقل الغرب؟
المنهج وحده هو الذي ينقص الشرق.
السيد يعقوب بكر
رفع عيسى
قرأت في العدد (462) من مجلة الرسالة الغراء فتوى فضيلة الأستاذ الجليل محمود شلتوت في رفع عيسى عليه السلآم، فوجته يذهب فيها إلى ما رآه بعض المفسرين من أن الرفع كان بعد الوفاة، لقوله تعالى (إني متوفيك ورافعك إلي) وقد رأى فيها أن المراد رفع المكانة لا رفع الجسد، ولو حمله على رفع روحه إلى الملأ الأعلى لكان أولى وأقرب
ولكني أرى مع هذا أنه إذا كان لهذا الرأي ما يرجحه مما جاء في تلك الفتوى، فإن للرأي الآخر المشهور وجوهاً ترجحه أيضاً، لأن الثابت من التاريخ أن أمر عيسى عليه السلام قد انتهى في اليوم الذي وقع فيه الصلب على من شبه به، فإذا كان عيسى عليه السلام قد توفي في ذلك اليوم ولم يرفع جسده إلى السماء، فإن إلقاء شبهه على غيره وصلبه بدله لا يكون مفهوماً من الناحية التاريخية، لأن وفاته تحقق الغاية التي يطلبها خصومه من صلبه، فلا يكون هناك داع إلى ما حصل من ذلك الصلب، بل إن إلقاء الشبه على غيره في هذه الحالة لا يمكن قبوله، لأن موته لا يجعل سبيلاً إلى اشتباه غيره به، وكل هذا على الرأي المشهور ظاهر كل الظهور، وقد أجابوا عن الآية السابقة بأن واو العطف فيها لا تقضي ترتيباً، فمن الجائز أن يكون توفي بعد الرفع، ومن الجائز أن تحمل الوفاة على النوم، كما قال الله تعالى:(الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها)
وإني أرى بعد هذا أن الأجدر بنا ترك الاشتغال بمثل هذه المسائل، لأنه لا يضرنا في ديننا أن يكون عيسى قد توفى ولم يرفع جسده، ولا أن يكون جسده قد رفع حياً، فذلك أقرب إلى أن يكون من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، لأنه حصل بدون أن يراه أحد، فكان سراً لا يعلمه إلا الله تعالى ومن وقع له.
عبد المتعال الصعيدي
كم ذا يكابد عاشق
قرأت كلمة الأستاذ المفضال (إبراهيم أبو الخشب) بالرسالة يسأل فيها عن حكم (ذا) في مثل هذا التعبير
وأعتقد أنها زائدة على رأى من يجيز زيادة الأسماء وكما قرر الخضري في حاشيته على
ابن عقيل عند الكلام على (ذا) في باب (الموصول) وعليه خُرّج قول الشاعر:
دعي ماذا علمت سأتقيه
…
ولكن بالمغيّب خبريني
في أحد قولين
ويجوز أن تكون اسماًَ موصولاً (على رأى الكوفيين فإنهم لا يشترطون في موصوليتها أن يسبقها (ما) أو (من) كما ورد في الخضري والصبان)
وعلى الوجه الثاني تكون (كم) استفهامية مراداً بها التهويل ويكون الكلام على حذف مضاف والتقدير (كم مقدار ما يكابد. . .) أو لا حاجة إلى التقدير فإن الاسم الموصول (ذا) مدلوله متعدد بقرينة المقام
وعليه يُخرّج قول أبي الطيب:
وكم ذا بمصر من المضحكات
…
ولكنه ضحك كالبكا
ولعل في هذا مقنعاً الأستاذ (أبي الخشب)
(المنصورة)
محمود البشبيشي