المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 464 - بتاريخ: 25 - 05 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٦٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 464

- بتاريخ: 25 - 05 - 1942

ص: -1

‌من صور الشريف

لحية بيضاء. . .

ليت شعري ماذا كان يمكن هذا المخلوق أن يكون لو انه تعلم؟ الغالب في الظن انه لو كان تعلم الحقوق لما برع إلا في ابتكار الحيل التي تحمي اللصوص، وتأليف الحجج التي تخدع القضاة، وتدبير الخطط التي تضلل الشرط. ولو كان تعلم الطب لما اشتغل إلا بتركيب السموم، وتزوير الشهادات، وتخدير المدمنين، وإجهاض الحوامل. ولو تعلم الأدب لما نبغ إلا في قصص التجسس والتلصص والائتمار والدعارة. ولو كان تعلم الزراعة لما برز إلا في زراعة التبغ والأفيون والحشيش. ولو كان تعلم الهندسة لما افتن إلا في اختراع المخابئ السرية والمزالق الجهنمية والمفاتيح التي تتحدى كل قفل

ذلك لان كل نزعة للشر أو نزعة للشيطان إنما وجدت أصلها فيه بحكم الطينة ومقتضى الفطرة، فهو قروي أمي فقير وضيع، ولكن غرائزه الشريرة العارمة تندلع من جوانب جسمه كألسنة اللهب أو أرجل الأخطبوط فتجعل له شخصية غريبة فيها لكل ضرر مصدر، ولكل خطر اتجاه!

نشأ بين لِداته من أطفال القرية كما ينشأ الزنبور بين النحل أو الثعبان بين الحمام؛ فكان لا ينفك ضارباً هذا بعصا، أو قاذفاً ذاك بحجر، أو خاطفاً لعبة من بنت، أو سارقاً شياً من بيت! فلما جاوز حد الطفولة دخل في خدمة الفجار والجان، فكان يخدم أولئك في تدبير الجرائم، ويخدم هؤلاء في إعداد الولائم. وهو في غضون هذا العهد (التحضيري) كان لا يفتأ يمرن ملكاته الإجرامية لحسابه الخاص، فكان يسرق من البيوت الآنية والثياب، ومن الحقول القطن والذرة، حتى صار في حد الرجال، فعد من ذؤبان القرى وغربان الأسواق؛ فكل جريمة له فيها يد، وكل سرقة له منها نصيب!

وكانت مزيته بين اللصوص التجسس والاحتيال والمفاوضة وإخفاء المسروق وتعمية الأثر، لأنه كان ضئيل الحلقة فلا يرهب بمنظره، ضعيف القوة فلا يغني بعضله. ثم تفاقم شره واستطار أداه، فكان لا يقع إلا على منكر، ولا يتقلب إلا في معصية. غير إن إجرامه ظل من النوع الحقير لضعف بنيته وضعة بيته، فلم يستطع أن يكون رئيس منسر يفرض الإتاوة بالسطوة، ويستغل اللصوص بالنفوذ؛ إنما كان أكبر همه أن يسطو في الليل على

ص: 1

أرزاق الأرامل، ويتدسس، في النهار إلى أموال العميان، حتى انقضت شبيبته وكهولته على حال متصلة من الإثم لم تسكن جوارحه في خلالها عن الشر إلا وهو مجروح في مستشفى، أو مطروح في سجن. كل ذلك ولم يدخل في ملكه عقار، ولم يجتمع في جيبه نقد، ولم يبت في داره قوت

فلما قيده الكبر وحطمه، وعممه المشيب ولثمه، أصبح بحكم السن عاجزاً عن نقب الجدران وتسلق الدار، فأرسل لحيته شبراً تحت ذقنه، ثم ضخم العمامة، وبيض الجلباب، وأمسك المسبحة، ومشى في الأزقة الوقار والتؤدة، يتمتم بالأدعية، ويجهر بالتحيات، ويواظب على الصلوات، ويجلس على المصاطب يتحسس الأخبار، ويتسقط الأسرار؛ فإذا وقف على خلاف أو خصومة بين والد وولده، أو بين أخ وأخيه، أو بين صديق وصديقه، أو بين زوج وزوجته، اندس إليهما بالإغراء، وسعى بينهما بالنميمة، وحمل هذا على ذاك، حتى تقع الفرقة أو تحل الكارثة. فإذا انتهى الخلاف إلى المحكمة، وسوس للمتخاصمين أو لأحدهما بالحيل التي تطمس الحق أو توسع الخصومة أو تعرقل القضية؛ لأنه يزعم لنفسه العلم بالقانون والمرافعات لطول ما وقف أمام القضاء وعاش بين البوليس. أما إذا خذله الشيطان وتغلب السلام استفز بالسباب حمية بعض الشباب فيضربه، ثم تكون الترضية أو تكون القضية. فإذا تعذر الدس وتحاماه الناس عمد إلى قطعة متروكة مما يملك الغير فاحتلها واستغلها، فتنشب بينه وبين المالك معركة قضائية لا يصبر فيها صاحب الحق على بطء القضاء وتعقد الأجراء وفحش التكاليف، فيطلب مصالحة الغاصب بالنزول له عن بعض من حقه أو جزء من ماله

ذلك عمله بالنهار؛ أما عمله بالليل فصلاة العشاء حاضرة، ثم إحراق الحشيش جماعة، ثم التهجد طويلاً، ثم الهجود قليلاً. فإذا طلع الفجر الكاذب خرج إلى المسجد يهدج تحت الجدران، وعيناه تبصان في حلك الظلام بصيص الحباب؛ فإذا لقي في بعض الطريق حماراً أو عجلاً أو خروفاً أفلت من الحظيرة، امتطاه أو قاده ثم انطلق به حثيثاً في هوادي الليل إلى أقرب (مركز) من مراكز اللصوص فيتركه هناك ليصرفوه ويضيفوه إلى حسابه. ثم يعود إلى القرية وقد هتك الصباح ستر الظلام، فيأوي إلى بيته ندمان على أن فاتته صلاة الفجر مع الأمام!

ص: 2

وفي ليلة نادية من ليالي المحاق خرج المتعبد القانت على عادته يريد المسجد. وكان الناس قد فطنوا إلى فقد الصغار من مواشيهم فأغلقوا الزرائب وأحكموا الإغلاق. فلما أرسل عينيه الثاقبتين في الخرائب والأجران فلم تقعا على حيوان مهمل أو متاع متروك، أخذ يهود في مشيه ثم وقف يفكر. وكانت نفسه الغوية قد استهواها الظلام والسكون فعض عليها وعصفت بها المغامرة، فرجع إلى داره وأخذ معولاً وعتلة ثم انحط من بعض السطوح على دار العمدة ثم شرع ينقب الجدار عن عجل السامري

دهم الشيخ في السحر وسيق في الصباح إلى مركز البوليس فحاول أن يدحض التهمة عن نفسه بانخراع متنه وابيضاض شعره وارتعاش يده فلم يوفق

ودخل المجرم السجن أشوق ما يكون إليه، وبدد الحلاق على أرضه الخشنة الغبراء، خصل لحيته الكثيفة البيضاء؛ ثم لبث فيه ما لبث، وخرج للناس يسلط عليهم النمائم، ويزرع بينهم الضغائن، ويدير فيهم المكايد، حتى سولت له نفسه بالأمس أن يخزن قمحه قبل أن تأخذ الحكومة نصيبها المفروض منه، فتجاهل السلطة، وتحدى العمدة، وضرب الحارس. ثم بات هو وأهله في سجن (المركز) ثم قدموا في الصباح جميعاً إلى المحكمة العسكرية!

تلك صورة من صور الريف الكريهة قدمناها مصغرة إلى المشتغلين بعلم النفس الجنائي لعلهم ينتهزون هذه الفرصة قبل أن تفوت، فيدرسون هذا الرجل العجيب قبل أن يموت!

(المنصورة)

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

ينبوع حلوان، وما أدراك ما ينبوع حلوان؟! - عناد بعض المؤلفين - النواب الجامعيون - مع الدكتور طه حسين - امتحان جديد - يقال ويقال وما أكثر ما يقال؟

ينبوع حلوان

منذ أكثر من عامين فوجئ سكان حلوان بينبوع يتفجر بقوة وعنف، وتسامع بذلك أهل العلم بخصائص الينابيع، فأسرعوا إلى تحليل ماء الينبوع الجديد، ثم عظمت دهشتهم وعظم فرحهم حين وجدوه يغني المصريين عن استيراد المياه المعدنية من الأمطار الأوربية. فأهلا وسهلاً بالنعمة التي يصغر بجانبها صادق الحمد وعاطر الثناء

ولكن هذا الينبوع السعيد هدد بقدومه جماعات المتجرين بالمياه المعدنية، فماذا يصنعون؟ وهل يجوز السكوت عن ثروة تعتز بها مصر على الزمان؟

هداهم الحس التجاري إلى طمر الينبوع قبل أن تلتفت الحكومة المصرية إلى منافعه الحقيقية، فتحرسه من مكايد أهل البغي والعدوان

وكيف يطمر الينبوع؟ وفي أي وقت؟ يطمر بأكياس الأسمنت، وفي غفوة الليل!!

وهنا ترسم صورة قليلة الأمثال، بين صور الخيال

كان الينبوع يغني نشيد الحرية، فقد طال سجنه في غيابات الصخور ألوفاً من السنين. وهل يعلم إلا لله مقدار الآماد التي قضاها ذلك الينبوع وهو سجين؟

لقد تلقته رمال حلوان بترحيب رنان، وكان في أشد الشوق إلى ذلك الترحيب. ألم يكف ما عاناه من الحبس الطويل في ظلمات الصخور الصماء؟

هو يغني، والمال تغني، وما أجمل الغناء حين يلتقي الحبيب والمحبوب!

كان الليل ليل حلوان، وليل حلوان موحش حين يغيب بدر السماء. . وكان الينبوع حديث العهد بالميلاد، ولا علم له بمتاعب الأحياء، فكان يغني ويغني بلا حذر ولا احتراس

وفي حومة تلك الفرحة الشعرية نظر فرأى جماعات لهم وجوه بشرية، ولهم قلوب حجرية، فأنزعج وارتاع

ماذا يريد هؤلاء؟

ص: 4

ماذا يريدون؟

كان الينبوع يعرف أنه فكرة نقية طاهرة، وأنه لن يسيل فوق الرمال إلا كما يسيل القلم النبيل فوق الأوراق، فما بلاؤه بهذه الوجوه السود في ليلة سوداء؟

أيكون هؤلاء مصريين؟

أيكونون أجانب؟

وما خوف أولئك وهؤلاء من ينبوع سيمحو عللهم الدفينة بلا تفريق بين هذه الديانة أو تلك، وبلا تميز بين هذا الجنس أو ذاك؟

طب. طب، طب!

ما هذا؟ ما هذا؟

تلك أكياس الأسمنت تلقى بغلظة وبوحشية في ثغر الينبوع لتصده عن الابتسام لجمال الوجود

وينظر الينبوع فيرى الرمال أضعف من أن تحميه، ويرى الأمة في غفلة عن قيمته الذاتية، ويرى الحكومة تنتظر آراء الخبراء، لتقرر حراسته من بغي الأعداء، وذلك لا يتم إلا بعد أسابيع طوال!

فماذا يصنع؟

أيخضع ويستكين إلى أن يظفر بتقرير المصير؟

وكيف وفيه قوة عارمة تذيب الألوف من أكياس الأسمنت؟ الرأي أن يدفع الينبوع تلك الأكياس، وأن يهدد بالغرق من ينزلون لتثبيت تلك الأكياس، فكان الينبوع ما أراد

فإذا سمعتم أن خلائق ماتت بلا علة فاعرفوا أنها تعرضت لطمر ذلك الينبوع النفيس في تلك الليلة الظلماء

وإن سمعتم أن ذلك الينبوع لم ينقطع عن الغناء، فاعلموا أنه موصول الأواصر بوحي السماء

ولكن ما الموجب للحديث عن ينبوع حلوان في هذا الوقت؟

ليتني أعرف!

عناد بعض المؤلفين

ص: 5

قرأت كلمة الأستاذ محمود عزت عرفة في التعقيب على الكلمة التي نشرتها (الرسالة) لسعادة الأستاذ طه الراوي، الكلمة التي بين فيها أن موشحة (أيها الساقي) ليست لابن المعتز، وإنما هي لابن زهر أحد شعراء الأندلس

وأقول إن هذه الموشحة لها عندي تاريخ، فقد نسبتها إلى ابن المعتز في الطبعة الأولى من كتاب (مدامع العشاق)، ثم ارتبت بعد ذلك في نسبها فأضفتها في الطبعة الثانية إلى (أحد الشعراء) وقد صح عندي أن نسبها إلى ابن المعتز نسب مدخول

وفي سنة 1927 كتبت عن ناظمها الأصيل كلمة في الصفحة الأدبية بجريدة البلاغ تحت عنوان (عرفناه! عرفناه!)

وكان الظن أن تستفيد اللجنة التي ألفت كتاب الأدب للسنة التوجيهية من ذلك التحقيق الأدبي، لكنها خشيت أن يقال إنها استفادت من جهود أحد (أصدقائها) في هذه البلاد!

والآن وقد وصل التحقيق من أحد فضلاء العراق لم يبق ما يمنع من تصحيح تلك الغلطة في مطبوعات وزارة المعارف المصرية!

النواب الجامعيون

كثرت الحفلات في هذه الأيام لتكريم الشبان الذين نجحوا في انتخابات مجلس النواب من أبناء الجامعة المصرية، وهم الأساتذة محمد فريد زعلوك وأحمد قاسم جودة وجلال الدين الحمامصي وحسين شعير وعلي كريم ومحمد مصطفى خليفة ومحمد زكي علام.

فما معنى ذلك؟

أيكون معناه أن الفكرة الجامعية ستسيطر على الحياة النيابية؟

أيكون معناه أن التفكير الحر ستكون له أسندة من أولئك الفتيان؟

ليت ثم ليت؟!

أيكون معناه أن الحرية الفكرية ستظفر برعاية جديدة تصد عنها عوادي الجهل؟

ليت ثم ليت!

كنت أنظر إلى ما يصنعه النواب والشيوخ الوفديون في عهد الوزارة الماضية فأعجب وأطرب، فقد كانوا يقهرون تلك الوزارة على السماح بنشر ما يمنعه الرقيب، وكان سبيلهم

ص: 6

إلى ذلك أن يثيروا المشكلة في مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، فيصبح من حق الجرائد أن تنشر ما تعرض لمنعه الرقيب

فهل ننتظر من النواب الجامعيين مواقف تشبه تلك المواقف في الانتصار لحرية الرأي والفكر والبيان؟

وهل نرجو أن يكون لجهادهم النيابي لون يتسم بالغيرة على الحرية الفكرية؟

كل ما أخشاه أن ينساقوا مع التيارات السياسية لتقام لهم حفلات جديدة باسم الوزراء الجامعيين!

عذركم مقبول، أيها الفتيان، فالأدب الصرف لا يسوق لأصحابه غير المتاعب، ولا يؤهلهم لغير التمرس بمعضلات الوجود

مع الدكتور طه حسين

المعروف أن بيني وبين الدكتور طه (ما صنع الحداد) وإن كنت أجهل المراد من هذه العبارة المصرية، ولكن ما صنع الحداد لا يمنع من لقاء الدكتور طه حسين، لأنه جاري بوزارة المعارف، والجيران يتلاقون كارهين أو طائعين، وفي ذلك التلاقي يجري الحديث حول محصول الحركة الأدبية في هذه الأيام، وهو يقرأ جميع ما تنشر المجلات ليعرف إلى أي مدى ينتهي جموح بعض الكاتبين!

- أنت يا دكتور زكي تتجاهل أن الدنيا في حرب

- وماذا يصنع الكاتب في أيام الحرب، يا سيدي الدكتور؟

- يكتب ثم يطوي ما يكتب إلى أن تجئ أيام السلام

- وإذا نشر ما كتب؟

- يعاقب بالصمت

- ولكن الكتابات الأدبية كالود الصحيح وهو يطلب في جميع الأوقات

- هنالك أوقات تكون منها الصحة ضرباً من الاعتدال، ويكون الفوز لأهل الأمراض

- وهل وصلنا إلى هذه الغاية يا سيدي الدكتور؟

- لم نصل إلى هذه الغاية، ولكني أخشى عواقب هذه الحال

- وما هذه الحال؟

ص: 7

- هي ضعف الأعصاب عند جميع الناس، بحيث يجوز الضجر من أجمل الأشياء وأشرف المعاني

- ولكن المفكر مسؤول أمام قرائه في كل وقت، وفيهم من يجهل أن الدنيا في حرب

- من واجب المفكر أن يعلم قراءة ما يجهلون

- وهذا ما أصنع يا سيدي الدكتور

- هل علمتهم أن الدنيا في حرب؟

- قصصت عليهم قصة الطائر الغريب

- وما قصة الطائر الغريب؟

- هو طائر يساير الأنوار المبثوثة فوق الشواطئ

- لأي غرض؟

- ليعرف مسابح الأسماك فيهديها سواء السبيل

- الناس يقولون غير ذلك!

- وماذا يقولون؟

- يقولون: إن الطائر يضع المصابيح ليجتذب الأسماك إليه

- وماذا أصنع إذا كانت الطبيعة ترى النور سر الجاذبية؟

- ومن أجل هذا تطالب بحرية الفكر والرأي؟

- هو ذلك!

- اكتم هذا الحديث يا دكتور زكي، ولا تخبر أحداً بأنك حاورتني في الأنوار والظلمات

- سمعاً وطاعة، يا سيدي الدكتور، فلن أنشر هذا الحديث إلا بعد انتهاء الحرب

امتحان جديد

تقوم الشواهد في كل يوم على أن الحكم للسيف والمدفع، وأن المعاني الروحية في سبيل الزوال، فكيف نلقي القراء في حدود ما عودناهم لعهد السلام؟ وكيف نناضل لحفظ سلطان الرأي في زمن تضعضعت سلطنة الرغيف؟

هل نترك معالجة المشكلات اليومية وننصرف إلى معالجة المشكلات التاريخية؟

هل نتحدث عن جبل واق الواق في أساطير الأولين؟ لا هذا ولا ذاك، فسترون كيف نخرج

ص: 8

من امتحان هذا الزمان بأمان

يقال ويقال

يقال: إن المؤلفات الأدبية ظفرت في هذه الأيام برواج لم تعرفه من قبل؛ ويقال: إن السبب في هذا الرواج هو نفرة العقول من سخف الدعايات الأجنبية

ويقال: إن الحرب علمت المصريين أشياء وأشياء، ولكنها غفلت عن تعليمهم معنى التضامن الوطني، فجهلوا التعاون في توفير الأقوات

ويقال: إن وزارة الشؤون الاجتماعية قضت أعواماً في تعريف الصناع والزراع بأنهم تعساء، ولم تعلمهم كيف يدفعون التعاسة بشرف النضال في المطالب الحيوية

ويقال: إن في النية فرض ضريبة على النساء اللائى يتباهين بنشر صورهن في بعض المجلات

ويقال أيضاً: إن أزواجاً سيعاقبون على السماح لزوجاتهم بالاشتراك في (المراقص الخيرية)!!

وسمعت ثم سمعت أن الدولة ستحرم الرّياء الاجتماعي تحريماً قاطعاً، وأنها لن تبيح شرف النيابة عن الأمة لمن يسمح لزوجته بإقامة حفلات الاستقبال

وحدثني من أثق بصدق روايته أن الميسر سيكون من المحرمات، وأن السهر في المنازل سيمنع بعد صلاة العشاء

صلاة العشاء؟. . . صلاة العشاء؟

يظهر أنني انتقلت إلى الحديث عن أهواء التاريخ!

زكي مبارك

ص: 9

‌خسرو وشرين

في التصوير الإسلامي

للدكتور محمد مصطفى

(تتمة)

بعد أن رفع شابور الستار عن مخبأ شيرين، تقدم خسرو إليها، فحرت أمامه ساجدة تقبل الأرض تحت قدميه، وطفقت تشكو إليه بثها وحزنها، وتذري دمعها، وتمري جفنها، فأحضر خسرو موبذ الموبذان وأمره أن يزوجه شرين ففعل. وشاء أن يعم الفرح والسرور قلوب المقربين إليه، فأمر موبذ الموبذان فزوج مطربه باربد، نيكيسيا، مطربة شيرين، وصديقه شابور، همايون، صديقتها، وأجلس شابور على عرش مملكة أرمينيا مكافأة له على مساعيه التي كللت بهذا النجاح. وبعد أن قضى الزوجان الحبيبان في قصر شيرين وقتاً هنيئاً سعيداً، رجعا إلى المدائن حيث أقاما حفلات الزواج الرسمية وتوجت شيرين إلى جانب خسرو ملكة على عرش إيران.

وفي (شكل1) يجلس خسرو وشيرين في إحدى الليالي على عرش فاخر، بمنظرة جميلة، في وسط حديقة غناء. وأمام العرش شموع موقدة تحيط بفسقية تسبح فيها ثلاث أوزات. وإلى اليمين رجال الحاشية ومعهم الخدم والسقاة يحملون الطعام والشراب؛ والى اليسار يجلس فريق من وصيفات شيرين، وهن يروين القصص لتسلية الزوجين الحبيبين. وإحداهن - وهي الجالسة إلى الخلف بجانب المنظرة - لها سحنة أوربية، ويظهر من ملامحها أنها رومية الأصل. وهذه الصورة من تصوير آقا ميرك أحد مشاهير مصوري عصر الشاه طهماسب الأول الصفوي، وهي في مخطوط نظامي السابق الذكر المكتوب لهذا الشاه.

وفي (شكل2) يجلس خسرو في روضة على سجادة جميلة، وقد وضع سبابة يده اليمني في فمه، وهو يتحدث إلى شاب راكع إلى يمينه، بينما يعتمد بمرفقه الأيسر على ركبة زوجته شيرين مولياً ظهره إليها. وإلى اليمين تجلس نيكيسا مطربة شيرين وهي تعزف على (الرباب). ويظللهم جميعاً فرع من شجرة زاهرة، وقف عليه عصفور رشيق له ذنب

ص: 10

طويل، وقد انحنى إلى الأمام كأنه يتأهب لالتقاط قطعة الحلوى التي في يد شيرين. وهذه الصورة مرسومة على (لوحة) من نسج الحرير، كتب عليها من الخلف (عمل أستاْدان خطاي) فظهرت الكتابة مقلوبة في أعلى الصورة إلى اليمين. وهذه الكتابة تدل على أن مصور هذه الصورة فنان من التركستان الصينية، كما يظهر التأثير الصيني بوضوح في طريقة تصوير فرع الشجرة والزهور، وفي رسم العصفور الواقف عليه. ويعتقد الدكتور كينل أنها من تصوير فنان صيني أراد أن يمارس التصوير في إيران فرسم موضوع (خسرو وشيرين)، ويظهر أنه رأى صوراً كثيرة لخسرو وهو يضع سبابته اليمنى في فمه علامة لدهشته إذا فوجئ برؤية شيرين الجميلة، فرسمه هنا أيضاً في هذا الوضع، مع عدم وجود ما يبرر الدهشة، إذ تجلس شيرين إلى جواره، ولا يفاجأ برؤيتها. ويؤرخ الدكتور كينل هذه الصورة من الثلث الأول للقرن التاسع الهجري (15م) - وهو الأرجح - بينما يؤرخها الأستاذ (كوماراسوامي) في القرن العاشر الهجري (16م) وهذه الصورة محفوظة في متحف الفنون الجميلة بمدينة بوسطون.

هكذا مضت الأيام وتوالت السنون وخسرو ينعم بالحياة السعيدة مع زوجته الحبيبة، وقد خلبته الدنيا فاسترسل إليها. إلى أن كان ذات يوم وقد جلس في إيوان المدائن، وحوله الحراس الأشداء الأقوياء، وبين يديه رجال حاشيته وبلاطه، تحيط به من كل ناحية مظاهر القوة والأبهة والجلال، وكانت بيده مرآة صقيلة جميلة، هي تحفة نادرة تليق بمقامه السامي الرفيع، يتطلع فيها إلى وجهه في زهو وخيلاء وغرور. وعلى حين بغتة انتفض هذا الملك الجبار، إذ رأى بين شعور لحيته السوداء المرسلة بعناية فائقة، شعرة بيضاء تتألق بينها، كأنها نجمة بعيدة في ليل دامس الظلام. وبهت خسرو لهذه الظاهرة العجيبة، وأرسل يدعو معلمه بزر حميد الحكيم، ليسأله رأيه في هذا الأمر الغريب. ولما حضر ذلك الرجل الخبير بدواخل الأمور، ابتسم وحاول أن يسري عن الملك، ثم أخذ يشرح له نظام الكون، ومصير الخلق، وأفهمه أن دوام الحال من المحال، وأن مآل كل شئ إلى الزوال

وشب شيرويه بن خسرو من زوجته مريم بنت إمبراطور الروم، وقد تحقق فيه ما تنبأ به المنجمون عند ولادته، ومرق عن الدين، وخرج عن طاعة رب العالمين، فلم يحمد أحد سيرته إذ كان مطبوعاً على الشر والإثم. وصادف أن رأى يوماً زوجة أبيه شيرين، فراقت

ص: 11

في عينيه الآثمتين، واشتهاها لنفسه. وهيأت له نفسه الشريرة أن يقتل أباه، فيحصل على العرش، ويستأثر بالملكة الجالسة عليه

وذات ليلة أرسل شيرويه رجلاً من صنائعه، تسلل إلى مخدع الملك، وطعنه طعنة نجلاء أصابته في مقتل، ثم فر هارباً. وصحا خسرو والدماء تنزف من جرحه بغزارة وتبين أنه لا أمل له في النجاة من جرحه القاتل، واشتهى جرعة من الماء يخفف بها آلامه وأوجاعه. ولكنه أبى على نفسه أن يوقظ زوجته الحبيبة شيرين. وبعد أن ملأ من وجه شيرين، أغمض جفنيه، واستسلم للموت، فجاء برداً وسلاماً عليه، وأسلم الروح

وشيئاً فشيئاً صحت شيرين ورأت خسرو يرقد إلى جوارها وقد فارقته الحياة، فبكت وتوجعت، ولكنها تمالكت نفسها، إذ علمت أن أمامها واجباً نحو زوجها الراحل يجب عليها أن تؤديه وقامت إلى جثمانه، فغسلته وضمخته بالعطور والزيوت، وأعدته لموكبه الأخير

وفي (شكل 3) تقف شيرين مع إحدى وصيفاتها، وهي تبكي وتندب زوجها الراقد جثمانه على السرير، وفي صدره جرح غائر تتدفق منه الدماء. وإلى اليمين يفر القاتل هارباً من الباب وفي يده سيف مسلول يقطر منه الدم. ونلاحظ الزخرفة النباتية الجميلة في بلاط أرضية الغرفة، وما يظهر على الحائط من نقوش دقيقة من صور آدمية ورسوم حيوانات وطيور. وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر خسرو الدهلوي، كتبه الخطاط سلطان علي في سنة 900 هجرية (1496م) وهو محفوظ في مكتبة الدولة ببرلين

بعد أن هيأت شيرين جثمان خسرو لموكب الجنازة، جاءها رسول من قبل شيرويه، يبلغها هيام سيده بها وتظاهرت شيرين بالقبول، ولبست أبهى ملابسها، وتزينت بأجمل زينة لديها، فابتهج شيرويه وظن أنها رضيت به. ولما وصل الموكب إلى القبر، أدخل النعش إليه، وبقيت شيرين بمفردها في القبر إلى جانب جثمان زوجها تحرسه. ولما أقفل الباب رفعت الغطاء عن صدر خسرو وقبلت مكان الجرح، ووضعت خده واستلت خنجراً أغمدته في قلبها، ثم بقيت تحتضن حبيبها بين ذراعيها

خاتمة

يقول صاحب الشاهنامه: ينبغي لمن يطالع أحوال خسرو برويز ويقرأ أخباره أن ينفض ذيله من الدنيا الغرارة الغدارة، فلا يسترسل إليها، فإن سمها يغلب ترياقها، وآمال بنيها تنتج

ص: 12

إخفاقها. وقبيح بالعاقل أن ينوي الإقامة في المراحل، ولو أمكن دفع طارق الحدثان، بالملك والسلطان، والتمكين والإمكان، والأنصار والأعوان، لكان خلقاً بذلك خسرو برويز الذي عم أمره طلاع الأرض، وأطاعته ملوك الشرق والغرب، وكان يحمل إليه خراج الهند والروم والترك والصين؛ وقد جاء خبر موته إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية مع أهل مكة

وفي وفاة خسرو يقول الشاعر:

هي الدنيا تقول بملء فيها:

حذار حذار من بطشي وفتكي

ولا يغرركم حسن ابتسامي

فقولي مضحك والفعل مبكي

بكسرى بروز اعتبروا فإني

أخذت الملك منه بسيف هلك

وكان قد استطال على البرايا

ونظم جمعهم في سلك ملك

فلو شمس الضحى جاءته يوماً

لقال لها عتواً: أُف منك

ولو زُهر النجوم بغت رضاه

تأبَّى أن يقول: رضيت عنك

فأمسى بعد ما ملك البرايا

أسير الموت في ضيق وضنك!

(تم)

محمد مصطفى

أمين مساعد دار الآثار العربية

ص: 13

‌في الفلسفة الإسلامية

ابن باجه

للأستاذ عمر الدسوقي

لمحة تاريخية

فتح العرب الأندلس في أواخر القرن الأول الهجري على يد طارق بن زياد وموسى بن نصير، وظلت ولاية تابعة للبيت الأموي في دمشق، ولما سقطت دولة بني أمية وأسس بنو العباس ملكهم في بغداد، وأخذوا يضطهدون الأمويين، فر الأمير عبد الرحمن بن معاوية الملقب بالداخل إلى الأندلس في سنة 133هـ، 750م. وقد أفلح في تجديد ملك بني أمية بالأندلس، ولكنه لم يتسم هو أو خلفه بلقب أمير المؤمنين أو خليفة المسلمين، وإنما كان ذلك في عهد عبد الرحمن الثالث الأموي 300 - 350هـ و912 - 960م، وظلت الخلافة قائمة حتى سنة 403 هـ، 1013م حين غُلب الأمويون على أمرهم وانتشرت الفتن في البلاد، وضرب البريرقرطبة، ومن ثمَّ استقل كثير من الأمراء بمقاطعات صغيرة ودعوا بملوك الطوائف: كبني عباد بإشبيلية، وبني الأفطس ببطليوس، وبني ذى النون بطليطلة، وبني هود بسرقسطة، وبني عامر ببلنسية، ومجاهد العامري بجزر البليار

وفي ذلك الوقت قامت في المغرب ثورة تدعو إلى استقلاله عن الأندلس، وانفرد بالحكم فيه المرابطون. وقد حدث أن دعا ملوك إشبيلية المرابطين لنجدتهم في بعض حروبهم ضد الفرنجة، فأعانوهم ثم تغلبوا على بقية الأندلس وظلوا يحكمونها أكثر من نصف قرن حيث ذهب ملكهم في بلاد المغرب على يد الموحدين الذين ورثوا عنهم الأندلس وحكموها مدة قرن من الزمان 1149م - 1232م، وبعد سقوط هذه الدولة عادت الأندلس إلى التفرقة والانقسام، ثم أخذ ملك حكامها يتقلص تدريجياً إلى أن أجلى العرب عن غرناطة آخر حصونهم سنة 1492 م

أما الحالة الفكرية فكان المغرب في أثناء حكمهم الأمويين يعتمد على المشرق في كل شئ تقريباً من الناحية العلمية، وكان يستعد للنضوج الفكري، وقد اجتهد الأمويون ولاسيما في خلافة الحكم بن عبد الرحمن 350 - 366هـ في جلب كثير من الكتب الثمينة التي ألفت

ص: 14

في الشرق، كما كان علماء المشرق الذين ضاقت بهم الحال في بلادهم يجدون في الأندلس سوقاً رائجة لأفكارهم ومعلوماتهم، وكذلك كان كثيرون من محبي العلم في الأندلس يقصدون الشرق واردين العلم من منابعة الأصلية، فيمرون بمصر والشام وبغداد والحجاز وقد يذهبون إلى فارس. على أن الحياة الفكرية لم تبلغ أشدها في المغرب إلا في عهد المرابطين، ثم بلغت أوجها الذهبي في زمن الموحدين حيث ظهر ابن طفيل وابن رشد وابن زهر وغيرهم. ويجدر بنا قبل الكلام عن ابن باجة أن نبدي الملحوظات الآتية:

1 -

كان المغرب بعيداً عن المنازعات الدينية العنيفة التي ظهرت في الشرق، فلم يسد فيه إلا مذهب مالك، ولم يكن فيه لا مجوس ولا زنادقة، ولم يظفر فيه كثير من علماء الكلام والجدل. وكان أهم ما يعتني به أهله ولا سيما عصر الأمويين الطب والرياضيات والتنجيم. وكان الناس مشغوفين بالشعر والتاريخ والجغرافيا، ولم تكن موجه التفلسف قد غمرتهم وأفسدت عقولهم كما هو الحال في المشرق. هذه كانت حال الأندلس أول الأمر

2 -

ولكن نجد أن المذهب الظاهري الذي يمثله ابن حزم - وهو من أشد المذاهب ضيقاً - يسيطر على الأندلس، حتى نرى كل من يفكر في الفلسفة يضطهد. فلما قدم عبد الله بن مرة القرطبي إلى بلاد الأندلس يحمل الفلسفة الطبيعية (التي يمثلها الكندي) في عهد عبد الرحمن الثالث أُحرقت كتبه أمام ناظريه ولهذا لم يجد الفلاسفة جواً من الحرية حتى ينشروا آراءهم. ولقد اضطهد ابن باجة وابن رشد من العامة والخاصة على السواء؛ ولهذا أيضاً اتخذ فلاسفة الأندلس النظرية القائلة بأن الفلسفة لا تصلح للعامة وإنما هي وقف على الموهوبين من الخاصة، وسنجد كذلك محاولتهم في التوفيق بين الفلسفة والدين

3 -

لم يوجد في الأندلس جماعة يقومون بالنقل والترجمة ويتقدمون بعرض الآراء الفلسفية كاليعاقبة والنساطرة في الشام والعراق؛ أما اليهود الذين ادعى كثير من المستشرقين بأنهم كانوا الواسطة في نشر الفلسفة بين مسلمي الأندلس فأثرهم ضئيل، وهؤلاء كانوا تلامذة للمشارقة فتأثر باخيا بن باقودا بإخوان الصفاء وتأثر ابن جبرول وغيره بفلاسفة المشرق الإسلاميين

وعلى العموم فقد كانت الحياة بالأندلس غير ملائمة لجو الفلسفة، وكان الفيلسوف يشعر بوحشة نوعاً ما لشدة التعصب وضيق العقل

ص: 15

من هو ابن باجة

هو أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ المعروف بابن باجَّه ولد في مدينة سرقسطة في أواخر القرن الخامس الهجري في ذلك الوقت الذي عصفت فيه ريح الانحلال بدولة بني أُمية بالأندلس، وشب أبو بكر والمرابطون يحكمون في البلاد، فاتخذه حاكم سرقسطة أبو بكر بن إبراهيم صهر أمير المرابطين جليساً له ووزيراً مما أوغر صدر العساكر والفقهاء ولكن الأحوال في سرقسطة اضطربت وهاجمها الفونس الأول ملك أرجونة فسقطة في يده عام 512هـ و 1118. فرحل عنها ابن باجه، وذهب إلى أشبيلية، واستقر بها وألف فيها بعض رسائله في المنطق كما يقول مونك وقد فرغ من إحداها في شوال سنة 512هـ، وتوجد في مكتبة الأوسكوريال تحت رقم 609. ثم قصد ابن باجَّه مدينة غرناطة وأقام بها مدة، ومن ثم ذهب إلى بلاد المغرب. ولما مر بشاطبة اعتقله الأمير أبو اسحق بن يوسف بن تاشفين كما روى الفتح ابن خاقان بسبب لم يذكر ولعله الزندقة، ولكن ما لبث أن أطلق سراحه بشفاعة والد الفيلسوف - ابن رشد

وروى أن أبا بكر بن يحيى بن تاشفين استوزر ابن باجَّه عشرين سنة، ولكن (مونك) يشك في ذلك لأن الحوادث التاريخية لا توافق هذه الوزارة؛ إذ أن أبا بكر بن تاشفين كان قد فر من فاس سنة 501هـ - 1107م؛ وذلك قبل نزوح ابنه إلى بلاد المغرب فيظهر أن مسألة الوزارة هذه غير صحيحة

مات ابن باجه ولم يعدُ طور الشباب، وقيل إنه مات مسموماً إذ كاد أطباء بلده حسداً منهم وحقداً. وكان ابن باجه قد منى بأعداء كثيرين، وكانت وفاته في رمضان سنة 523هـ - 1138م بمدينة فاس، وكان قبره بجوار قبر القاضي ابن العربي

ومن أشهر أعدائه الذين حاربوه ورموه بالزندقة والكفر والخروج عن جادة الدين الفتحُ بن خاقان الفرناطي صاحب (قلائد العقيان)؛ ومما قاله قادحاً فيه: (إن ابن باجه رمد جفن الدين. وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفاً وجنوناً، وهجر مفروضاً ومسنوناً، ناهيك من رجل ما تطهر من جنابة ولا استنجي من حدث، ولا أقر بباريه ومصوره. . . نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم، واقتصر على الهيئة: (الفلك)، وحكم للكواكب بالتدبير، واجترأ عند سماع النهي والإيعاد، واستهزأ

ص: 16

بقوله تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادُّكَ إلى معاد)؛ فهو يعتقد أن الزمان دور، وأن الإنسان نبات له نَوْر، جمامه تمامه، واختطافه قطافه. وانتمت نفسه إلى الضلال وانتسبت، ونفت يوم تجزى كل نفس بما كسبت، فقصر عمره على طرب ولهو، وأقام سوق الموسيقى، فهو يعكف على سماع التلحين، ويعلن بذلك الاعتقاد ولا يؤمن بشيء قادنا إلى الله في أسلس قياد، مع منشأ وخيم ولؤم أصل وصورة شوهها الله وقبحها)

ولاشك عندي وعند كل ذي لب أن هذا كلام متحامل فيه كثير من لغو القول وسخف العقل وتحريض للعامة ضد الفلاسفة

منزلته

يقول ابن أبي أصيبعة عن ابن باجه: (كان في العلوم الحكمية علامة وقته وأوحد زمانه. وكان متميزاً في صناعة الطب، وكان متقناً لصناعة الموسيقى، جيد اللعب بالعود)؛ وعده ابن خلدون من أكابر فلاسفة الإسلام بالأندلس، وشهد له ابن طفيل في حي بن يقظان بالتقدم والفضل، كما أن ابن رشد أعجب به كثيراً وحاول شرح بعض كتبه؛ وعندنا أن لابن باجه ميزتين:

1 -

إنه أول المشتغلين بالفلسفة في الأندلس بعد أن ظلت كتب الفلسفة زمناً طويلاً مطمورة في مكاتب المغرب، ولهذا كانت خطوته جريئة؛ إذ الغلبة الفكرية كانت لرجال الدين، وهذا يعلل لنا ما لاقاه من اضطهاد وعداوة ظاهرة، ويفسر لنا ما قاله الفتح بن خاقان آنفاً

2 -

إنه أول فلاسفة الإسلام الذين حاولوا أن يبحثوا الفلسفة مستقلة عن الدين، وأن في إمكان العقل الإنساني أن يصل إلى المعرفة الحقيقية وكشف أسرار الوجود دون ما حاجة إلى التصوف والإجهاد بالعبادة

ومع ذلك لم يستطيع ابن باجه أن يتم مؤلفاته لانشغاله بأمور الدنيا، ولأن المنية اخترمته وهو في ريعان الشباب. واستمع لابن طفيل يقول فيه:(ثم خلف من بعدهم خلف آخر أحذق منهم نظراً وأقرب إلى الحقيقة، ولم يكن فيهم أثقب ذهناً ولا أصح نظراً ولا أصدق روية من أبي بكر بن الصائغ، غير أنه شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه وبث خفايا حكمته. وأكثر ما يوجد له من التأليف إنما هي كاملة ومجزومة)؛ وقد تأثر

ص: 17

به ابن طفيل في حي بن يقظان تأثراً عظيماً، وما حياة حي بن يقظان نفسه ووصوله إلى المعرفة الحقيقية في جزيرته الخالية من السكان إلا محاولة من ابن طفيل للبرهنة على رأي ابن باجه في تمكن العقل الإنساني من كشف أسرار الوجود وحده

مؤلفاته

ذكر ابن أبي أصيبعة عدداً كبيراً من كتب ابن باجه وأهمها: شرح كتاب السماعى الطبيعي، قول على بعض كتاب الآثار العلوية لأرسطو، قول على بعض كتاب الكون والفساد لأرسطو، ثم كتابيَ الحيوان والنبات لأرسطو، وله تعاليق على بعض المسائل الهندسية؛ أما مؤلفاته فكثيرة منها: كتاب في الاسطقسات: (النار والماء والهواء والتراب) وكلام في البرهان، وكتاب النفس، وكتاب اتصال العقل بالإنسان، ورسالة الوداع وكلام في الغاية الإنسانية، وفصول قليلة في السياسة المدنية، ورسالة تدبير المتوحد. . . إلى غير ذلك من الكتب

وليس لدينا وللأسف من كتب ابن باجه، ولقد أشار (مونك) إشارة موجزة إلى ما تحتويه رسالة الوداع سنذكرها فيما بعد؛ ولخص أيضاً رسالة تدبير المتوحد، أو نقلها عن العبرية رواية عن موسى الأربوني أحد فلاسفة اليهود في القرن الرابع عشر الميلادي، وشارح رسالة حي بن يقظان. وقد ذكر بروكلمن رسالة مخطوطة في مكتبة برلين حاول نشرها الدكتور فروخ، ولم ينشر منها إلا صفحتين هما عبارة عن جمل مقتضبة غير متماسكة. ويظهر إن موضوع هذه الرسالة هو الغاية الإنسانية، كما أن هناك رسالة في المنطق لابن باجة في مكتبة الأسكوريال سبقت الإشارة إليها في أول المقال، وقد كشف أبو ريدة مترجم دي بور جزءاً من رسالة تدبير المتوحد في المكتبة التيمورية بمصر (رقم 290)

1 -

رسالة الوداع

كتب ابن باجه هذه الرسالة لأحد تلاميذه وأصدقائه قبيل اعتزامه رحلة طويلة حتى يكون على بينة من آرائه إذا قدر لهما ألا يلتقيا. وأول ما يظهر لقارئ رسالة الوداع رغبة المؤلف في إحياء معالم الفلسفة والعلم. لأنهما في رأيه جديران بإرشاد الإنسان إلى الإحاطة بالطبيعة، وبهدايته بعون الله إلى معرفة ذاته، وبالاتصال بالعقل الفعال الذي يفيض من الله.

ص: 18

ويتكلم فيها عن خلود النفس البشرية، وعن العوامل التي تؤثر في الإنسان وتدفع العقل في سبيل الفكر، وشرح غاية الوجود الإنساني وغاية العلم وهما التقرب من الله عز وجل، وكلامه في خلود النفس مبهم، ويقول باتحاد النفوس، وقد أخذ بهذا الرأي ابن رشد وكان لرأيه أثر كبير عند الفرق المسيحية حتى اضطر القديس توماس وألبرت الكبير للرد عليه في مؤلفات خاصة. هذا وقد عاب ابن باجة الغزالي وقال: إنه خدع نفسه وخدع الناس حين قال في المنقذ من الضلال: إنه يستطيع أن يكشف العالم الحقيقي والعقلي ويرى الأمور الإلهية بالخلوة ويلتذ التذاذاً كبيراً

ومن هذا نرى أن ابن باجه يهاجم الغزالي بعد أن كان تأثيره عظيماً في بلاد المغرب، وبعد أن أسكت صوت الفلسفة في المشرق، ونراه لا يؤمن إلا بطريق العقل سبيلاً للوصول إلى المعرفة الإلهية

2 -

رسالة تدبير المتوحد

ذكر هذه الرسالة ابن رشد في آخر كتابه على العقل الهيولاني حيث قال: (أراد أبو بكر بن الصائغ أن يختط خطة للمتوحد في هذه الأمة، ولكنه لم ينجزها وكثير منها غامض، وسنحاول في غير هذا المكان شرح غاية المؤلف من هذه الرسالة لأنه أول من سار في هذا المضمار ولم يسبقه فيه أحد). بيد أن ابن رشد لم ينجز وعده ولم يبق لنا إلا ما نقله مونك عن موسى الأربوني، وهذا المخطوط الموجود بالمكتبة التيمورية وهو غير كامل

وقد قسم الأربوني هذه الرسالة ثمانية فصول، ويظهر أن غاية ابن باجة فيها هي إثبات قدرة الإنسان المتوحد المنتفع بحسنات الحياة البعيد عن مفاسدها، على الاتصال بالعقل الفعال بقواه الفكرية وحدها. ولا يوصي ابن باجة بالخلوة - كما يفهم من لفظ المتوحد - إنما يرشد الإنسان المشتغل بشئون الحياة إلى سبل الوصول إلى الكمال، وهو يشير إلى إمكان ذلك سواء كان هناك رجل واحد أو عدة رجال في درجة واحدة من الفكر، وقد يستطيع هذا أهل بلد بأسره إذا كان تام النظام. ولم تخف على ابن باجة صعوبة هذا الأمر فأوصى المتوحد بالعيش في أغزر المدن علماً، أي في أقربها إلى الكمال، وأجمعها لأهل الفضل والحكمة. وسنعرض فيما يلي أهم ما جاء بهذه الرسالة نقلاً عن (مونك) مختصرين ما أمكن

ص: 19

الفصل الأول

تكلم ابن باجة أولاً عن لفظ (تدبير) وأنه يدل في أوسع معانيه على مجموعة من الأعمال ترمي إلى غرض معلوم، فلا يمكن أن يستدل به على عمل واحد، بل على جملة أعمال تنجز تبعاً لخطة معينة كالتدبير السياسي والحربي. وينبغي أن يكون تدبير المتوحد على مثال تدبير الحكومة الكاملة، ومن علامات الحكومة الكاملة ألا يكون بها أطباء أو قضاة؛ لأن أهل هذه المدينة لا يتناولون من الغذاء إلا ما يوافقهم، وبذا تختفي الأمراض الناجمة من الغذاء، وأما الأمراض التي تصيبهم بسبب عوارض خارجية فتزول بنفسها. ولما كانت العلاقة بين أهل المدينة بعضهم مع بعض أساسها المحبة امتنع الخلاف فاستغنى عن القضاة. والحكومة الكاملة تكفل للفرد أن يبلغ فيها أرقى منزلة من الكمال؛ لأن الكل يفكرون بأعدل تفكير، وينظرون أدق نظر، ويطيع كل فرد ما تأمر به القوانين، لأنه يكون عالماً بها، وبذلك تخلص أعمال الإنسان من الخطأ والهذر والختل فلا يكون الناس بحاجة إلى الطب الأخلاقي وهو ما لا غنى للجمهوريات الناقصة عنه

(البقية في العدد القادم)

(بيروت)

عمر الدسوقي

ص: 20

‌مرسلات.

. .

الغيرة

إني لتدركني الشفقة أحياناً على هذه الكلمة المفردة، كما يشفق امرؤ ذو قلب على عزيز قوم ذلّ، وغني قوم افتقر. إن أحداث الزمان قد جارت عليها، وإن الدهر القلب الذي يتنكر لكل شئ قد تنكر لها. إنها كالموظف المعزول الذي لم يعد يظهر في ديوان عمله، أو كالعقد الثمين المتألق الذي لا يجد صدراً يزينه. إنها كالقلادة الرفيعة التي مات صاحبها وبقيت في (مخلفاته) تندبه في صمت، وتذكر به كلما رمقتها العيون!

لقد كانت (الغيرة) معنى مشرقاً في صدور الرجال، فأصبحت رسماً

باهتاً في بطون الكتب؛ وكانت (مادة) ملموسة بارزة الأثر في حياة

الناس، فأصبحت (مادة) قابعة في قواميس اللغة!

لقد فتشت عنها في نواح كثيرة من نواحي الحياة، فلم أجدها

كنت أحب أن أجدها: لم أجدها في البيت لأني وجدت (المرأة) تحكم (الرجل)، فلا يغار على حقه المغصوب، ولا يألم لسلطانه المسلوب؛ ولم أجدها في الطريق، لأني وجدت المخازي تعرض على قارعته في صور مألوفة، وأشكال معروفة، فلا يغضب عليها غضب ولا يحمي بها صدر مغيار! ولم أفتقدها بين سمار الليل في النوادي الآثمة والمجتمعات المتهتكة، لأني أعلم كيف تصرع هناك الفضيلة ويصفع الحياء! ولم أحدها في (مكاتب الموظفين)، لأني وجدت الأعمال فيها مهملة، والأوراق مكدسة والناس على أبوابها يستصرخون ولا من يجيب الصريخ!

وأخيراً، فتشت عنها عند الذين يتنادون (بالإصلاح)، ويتحلون (بالفضيلة) فلم أجدها: لم أجد من يغار على البرامج المعطلة، والأمانة المضيعة، والوعود المهملة، والفساد الذي استشرى، والنار التي تومض من حلال الرماد!

فأين - يا رب - أجدها؟ أين (الغيرة)؟!.

محمد محمد المدني

ص: 21

‌السيلو هو السيرة والسير

للأب أنستاس ماري الكرملي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

4 -

السيرة أو السير لمخزن الميرة في بعض لغات الشرق

الأولى

ذكرنا بعض الألفاظ المقابلة لهذه الكلمة في اليونانية، واللاتينية والإنكليزية والفرنسية والإسبانية، فيحسن بنا الآن أن نذكر لها مقابلات في بعض اللغات المبثوثة في الشرق الأدنى. ففي التركية يسمى هذا المخزن (كندوج) بالفتح وقد نقلوها من الفارسية (كندو) بالفتح. (شئ يبني كهيئة الدن، فيجعل فيه الدقيق وغيره، وهي في التركية الكنجاكية. وأما الترك الصميم فيقولون: كَنْدُك، بفتح الكاف وإسكان النون وضم الدال المهملة وفي الأخر كاف. وقد توسعوا في معناها حتى أطلقوها على كل صبرة عظيمة من الطعام يصومع ويصمد حتى يظهر للناظر إليه كأنه دن كبير موضوع على وجه الأرض، فسبب التسمية واضح، فما الكندوج أو الكندك الآدن كبير أو كما يسميه الغربيون (سيلو).

وقد قال صاحب محيط بهذا الصدد ما هذا نصه بأصله: (الكندوج (وقد ضبطها ضبط قلم بالضم) شبه محزن من تراب أو خشب توضع فيه الحنطة ونحوها. معرب كندو بالفارسية) انتهى.

وهو ترجمة نص فريتغ ترجمة غير مضبوطة وهذه عباراته بحروفها اللاتينية:

) (كندو ، ، ، كندوج

ومعناها على ما يبدو لي: الكَندوج بناية على هيئة مخزن فيها (الآنية وسائر الأشياء) انتهى. فالظاهر من هذا الكلام أن فريتغ لم يفهم كلام صاحب القاموس، فأساء فهماً وأساء نقلاً ثم أخطأ كل من جاء بعده نقلاً عنه. وعلى أثره أخطأ جميع اللغويين المحدثين من العرب وجماعات المستشرقين النقلة، وليس لنا متسع لإظهار شوائبهم ومعايبهم فهي أكثر من أن تحصى. فتكتفي بما نقله الشرثوني في أقرب الموارد.

قال: الكُندوج (وضبطها) بالضم جرياً على القياس اللغوي لا على السماع والنقل على حد

ص: 22

ما فعل صاحب المصباح وهو ليس حجة يعتمد على لغته الفصحى لأن لغته عربية فقهية وهي عثرة في طريق المحققين: شبه محزن من تراب أو خشب توضع فيه الحنطة ونحوها (معرَّب) وفي المصباح: (ويطلق على الخزانة الصغيرة)

وقال صاحب البستان: الكندوج (وضم الأول أيضاً): شبه مخزن من تراب أو خشب تحتكر فيه الحنطة دخيل (5 - قلنا وقوله: نحتكر تغيير لقول الشرثوني (توضع فيه) وهذا هو الصواب لأن الغاية من وضعه في الكندوج حفظه من الآفات الجوية لا الاحتكار وهذا وهم منه، فأراد أن يغير عبارة الشرثوني في نصها ويحسنها ليبين تفوقه عليه أو اختلافه عنه فاضر نفسه إذ لم يخف على أحد نقله وفساد معناه.

وورد في معنى مخزن الطعام في الكردية: جال وجالو وجاله. ونكتفي بهذا القدر.

5 -

المطمورة بمعنى مخزن الطعام

نظن أننا وفينا موضوع (السيرة) و (والسير) حقه من البحث. بقى علينا أن نعالج موضوع (المطمورة) وقبل أن نعرفها، نقول للواقفين على مقالنا هذا: إن المطمورة وردت بمعنيين: معنى ذكرته كتب اللغة ومعنى أهملته، فنبدأ بذكر الأول فنقول:

المطمورة على ما ورد في القاموس: (الحفيرة تحت الأرض) وزاد في التاج: يوسع أسافلها، تخبأ فيها الحبوب. والجمع المطامير: وطمرتها أنا: (ملأتها) - والكلمة قديمة في لغتنا الشريفة وهي في العراق من أقدم الألفاظ على ما نعهد. وقد ذكرها الليث في عينه فقال: (المطمورة: حفرة يطمر فيها الطعام أي يخبأ (ج) مطامير. وكل من جاء بعد الليث وألف كتاباً في اللغة نقل هذه العبارة ولم يعزها إلى قائلها الأول وهي نفس العبارة التي أخذها عنه الزمخشري في كتابه (مقدمة الأدب) في ص23 من نسخته المطبوعة وهذا نصها: (المطمورة: جاء. غلًّه وفي النسخة المحفوظة في الخزانة البدليانية في مدينة اكسونية زيادة هي: المطمورة حفرة يطمر فيها الطعام أي يخبأ. ج: مطامير) 51

وأهل العراقُ يُسمون بالمطمورة كل ما يتخذ لحفظ الطعام فيه، إن كان في بطن الأرض، وإن كان على وجهها، فهي كاللفظة الإفرنجية تتخذ للدلالة على المعنيين أي بمعنى السرداب في بطن الأرض والمخزن الذي يبنى على ظهرها. وهي عامة الاستعمال في شمال العراق إلى جنوبيه، ولا ينطقون بغيره، فإذا كان لحفظ الغلة في بطن الأرض كان

ص: 23

الموطن مهيأ دائماً. أما إذا كان فوق الصعيد فإن أصحابه يجعلونه جرة عظيمة، ثم يسنمونها على هيئة مخروط ثم يسيّعونها ويصمدونها، حتى إذا نزلت بها نوائب الجو من مطر وثلج وبرد ورياح قاومتها أحسن مقاومة ودفعت أضرارها على أتقن وجه وأسدِّه

فتسمية أبناء الرافدين هذين الضربين من مخزن الطعام لا غبار عليه وإن اختلفت هيئتهما لأن أصل التسمية صار يقع على معنى (المخزن) الحافظ للغلة، أياً كان شكله. ولهذا فالعراقيون يحتفظون بهذا الاسم لقدمه عندهم، ولصحة عربيته، ولبقاء الأسماء على مسمياتها وإن اختلفت صورها وأشكالها وكيفية اتخاذها

وأهالي شمالي العراق يسمون مخزن الطعام على وجه الأرض اللوث، وتلفظ بالفتح أي ويجمع على ألواث على ما أفادني ولدي بالروح (ميخائيل حنا عواد) وهو من نوابغ الشبان، ويصنع بأن تحفر دائرة في الأرض عمقها بين 10 و 15 سنتمتراً تسع الكمية الموجودة عند صاحب الطعام، ثم تكدس الغلات شيئاً على شيء من تبن أو شعير أو حنطة وتجمع على هيئة مخروط ويُسيع خارجها ويصمد، حتى إذا جاءت الأمطار وانحدرت عليها ولت في وجهها بسرعة من غير أن تبقى فيها أثراً. والذين يكدسون الأطعمة على وجه الأرض من حنطة أو شعير يكونون أرباب حول وطول، ولهم نواطير أقوياء يذوبون عنها اللصوص والسراق. وأما الذين لا نواطير لهم فيجعلونها في جالأت (جمع جال) يحفرونها في الأرض ويقيدونها بالقار الحسن منعاً لتسرب الماء والرطوبة إليها وجال (ويقال جاله وجالو) كردية معناها هذه الحفيرة واللوث من أصل عربي فصيح معناه في أصل وضعه: القوة والشدة لأن جمعك الشيء على الشيء الأخر تعصبه وتشده، ومن هذا أيضاً قولهم: هذه ناقة ذات لوثة إذا كانت كبيرة الشحم واللحم معصوبة مشدودة ولا يمنعها ذلك من السرعة فهي صفة حسنة لها وقد ذكر لي ولدي ميخائيل أن بعض المزارعين في أنحاء بغداد يسمون (المطمورة) التي تقام على سطح الأرض (جبراية) والجمع جباري. وأما أهل ديار المنتفق في جنوبي العراق فينطقون بها على أصلها الفصيح بالميم، أي أنهم يقولون (جمرية) وهي من مادة جمر أي جمع شيئاً على شيء، ورفع رأس المجموع. وهذا التحقيق من وحي المؤرخ المحقق الأستاذ يعقوب نعوم سركيس حفظه الله ورعاه

ومما ذكره لي ولدي بالروح ميخائيل عواد أن لأهالي تكريت ومن في أنحائها لفظاً آخر

ص: 24

لهذه المطمورة هي (اللود) وتلفظ وتجمع على ألواد، والهمزة لا تكاد تلفظ وكأنك تلفظ وكأنك بإسكان اللام وهي عندهم غرفة مستطيلة أو مربعة يخزن فيها التبن وأحياناً الحنطة والشعير ولا تكون مسقوفة في أغلب الأحيان، وتكاد تكون أرضها بمستوى سطح ما يجاورها من الأرضين أو ما أنخفض عنه بقليل. و (اللود) يعرفها بهذا اللفظ وهذا المعنى أعراب شمر من عشائر العراق وتشبه كل الشبة (اللوث) المار ذكرها والمستعملة في الموصل وأرجائها. ولعلها لغة فيها، وقد ورد مثل هذه اللغة عند كثيرين من الأقدمين فقد قالوا: مدد الخبز ومرثه. وقالوا: الشيث تعريب الفارسية شود وقد قلبت الواو ياء والدال المهملة الفارسية ثاء مثلثة

6 -

المطمورة بمعنى السجن والمطبق

وأشرنا إلى أن للمطمورة معنى آخر، لم يرد في معاجم اللغة وكان معروفاً في القرون الوسطى أي في عهد العباسيين، بموجب التعبير العربي. وهذا المعنى هو السجن المظلم يسجن فيه المحكومون عليهم بالحبس الأبدي وورد أيضاً بمعنى جب عميق مغطى بغطاء ينقلب للحال بمن يطأه تخلصاً منه بسقوطه فيه وموته فيه حياً

جاء في تاريخ الرسل والملوك للطبري في 2207: 3 في طبعة الإفرنج ما هذا نقلة: (وفي يوم الثلاثاء لثمان خلون من جماد الأولى، دخل المكتفي إلى داره بالحسنى، فلما صار إلى منزله أمر بهدم المطامير التي كان أبوه اتخذها لأهل الجرائم). انتهى

وفي مروج الذهب (8: 215 من طبعة الإفرنج): (وأمر بهدم المطامير التي كان المعتضد اتخذها لعذاب الناس وإطلاق من كان محبوساً فيها، وأمر برد المنازل التي كان المعتضد اتخذها لموضع المطامير إلى أهلها وفرق فيهم أموالاً)

ويخيل ألي أنه كان في العراق وديار الشام ووادي النيل وسائر البلاد الشرقية مطامير مختلفة العدد وقد اتخذت في قرى عديدة حتى أن بعض القرى بقى أسم المطامير عليها لاشتهارها بها وإن زالت عنها. وقد جاء في معجم البلدان لياقوت: (مطامير جمع مطمورة، وهي حفرة أو مكان تحت الأرض وقد هيئ خفياً يطمر فيه الطعام أو المال، اسم قرية بحلوان العراق، وذات المطامير بلد للثغور الشامية له ذكر في كتاب الفتوح. . . ويقال له: المطامير أيضاً غير مضاف)

ص: 25

وفي كتاب الأنساب للبلاذري بعد أن ذكر إلى أي ضيعة نسب أبو محمد المطاميري قال: (وتوفي في جمادي الآخرة سنة 163 هـ، وكان فتوحها على ما قال الطبري (2 - 1667) سنة 121هـ على يد مسلمة بن هشام بن عبد الملك) فيظهر من هذا أن العرب كانوا يعرفون المطامير واتخاذها للطعام وللسجن قبل الإسلام، على ما يرى في استعمالها لتلك الأسماء

ولما مر ابن بطوطة في المائة الثامنة للهجرة=14 للميلاد بنذربار من ديار الهند رأى أن كل مسلم يشرب الخمرة يحد ثمانين جلدة ويسجن في مطمورة ثلاثة أشهر لا تفتح عليه إلا حين طعامه) (راجع رحلة ابن بطوطة طبع الإفرنج 4: 52)

من يطالع في معجم دوزي ما جاء علي المطامير منقولاً عن المسافرين والكتبة بتحقيق أن المطامير كانت في جميع ديار الشرق الأدنى لغايات مختلفة فلتراجع فيه إذ قد ضاق بنا الموطن عن هذا البحث الجليل

أما من يحب أن يتابع في تصانيف الإفرنج هذا الموضوع فعليه بمطالعة ما جاء باسم الإنكليزية وبعنوان بالفرنسية فيقع على حكايات وتفاصيل في غاية الغرابة والعجب والاستفادة. ثم كتب عديدة تبحث في هذا الموضوع

7 -

مترادفات المطمورة وما يقابلها في لغات الأمم الشرقية

رأينا العراقيين لا يستعملون إلى لليوم إلا لفظة واحدة هي (المطمورة) والآن أخذ بعضهم ينبذون استعمال هذه اللفظة ظناً منهم أنها عامية وأخذوا يستعملون في مكانها (الهُرْى) ويحمعونها على (أهراء قلنا: أنهم في ضلال مبين، لأن المطمورة وردت في جميع كتب الفصحاء التي تكلمت على أمثال هذه المخازن ولم تهملها. وثانياً لأنها صحيحة الاشتقاق من لغتنا المحضة وثالثاً لأن المطمورة استعملت لمخزن الطعام الذي تحت الأرض، ولما فوق الأرض. قال في النهاية في مادة (ط م ر) (وفي حديث مطرف: من نام تحت صدف مائل وهو ينوي التوكل فليرم نفسه من طمار وهو ينوي التوكل: طمار بوزن قطام: الموضع المرتفع العالي. وقيل: هو اسم جبل، أي لا ينبغي أن يعرض نفسه للمهالك ويقول: قد توكلت. انتهى كلام أبن الأثير فهنا نص واضح على أن مادة طمر تفيد الدفن والحبس وتفيد أيضاً العلو والارتفاع، فصحت إذن المطمورة للاستعمالين.

ص: 26

ورابعاً أن الهرى يقابل الإفرنجية والإنكليزية فهو إذن غير المطمورة.

خامساً أن الهرى ليست عربية بل لاتينية ومعناها كما هو في العربية أي البيت الكبير يجمع فيه طعام السلطان فليست أذن في المطمورة وهل نبدل الصحيح الفصيح بالدخيل القبيح؟ وقد ذكرنا سابقاً ما يقابل مخزن الطعام في الأرض في الفارسية والتركية والكردية. وأما في الإرمية (السريانية والكلدانية) فالمطمورة تسمى (مطمورتا) وتجمع على (مطمورياتا) كما هو مدون في معاجمهم المعتمدة ومعناها المخبأة أيضاً

8 -

خلاصة هذه المقالة وزبدتها

خلاصة هذه المقالة وزبدتها: أن اللفظ الغربية (سيلو من أصل عربي هو (سير) بالفتح، أو (سير) بالكسر، ثم نقل إلى الأوربية باللام، على لغة كانت لبعض قدماء العرب ينطقون بالراء لاماً في كثير من الألفاظ. ولا نزال نسمع مثل هذا الإبدال إلى عهدنا هذا، ولاسيما في ديار العراق

ولقد وجدنا أحسن لفضة تستعمل اليوم بمعناها هي (المطمورة) لأنها خالية من معنى ثان يشوهها، ولأنها عربية صميم لا غبار عليها ولأنها مستعملة في العراق منذ عهد العباسيين، بل قبل وجودهم فيه، ولان كل كلمة سواها كثيرة المعاني تفسد المعنى الرئيسي الأصيل، ولأن (الصومعه) وجمعها (صوامع) لا ينجلي لأبصار الأدباء إلا بمعنى مسكن الراهب أو ما يشبهه. فما بقي علينا إلا أن نتبع الفصيح الممتنع الذي قاوم الأدهار، وصبر على فساد الأشرار، وبلغ إلينا سالماً من كل الأخطار!

(بغداد)

الأب انستاس ماري الكرملي

ص: 27

‌البريد الأدبي

حول غزل السلطان سليم

قرأت في عدد (الرسالة) الأخير قصيدة غزلية للسلطان سليم الأول فاتح مصر نشرها الأستاذ عبد الله مخلص، وقد سبق أن رأيت هذه الأبيات في مصادر أخرى غير التي استقى منها الأستاذ، وهي مباينة لما نشره الأستاذ منها، أما المصدر الذي تحت يدي فهو (عثمانلي تاريخ وأدبيات مجموعة س) بتاريخ 30 نيسان سنة 1334

وقد اطلعت على القصيدة أيضاً في (خلاصة الأثر في أعيان. القرن الحادي عشر). وهناك خلاف في نسبة هذه القصيدة فقد جاء في (دائرة المعارف) أنها للسلطان أحمد خان الأول، وجئ مكان البيت السادس يبيت آخر لطلائع ابن رزيك الوزير الشاعر العربي المتوفى سنة 556، وقيل إن البيتين الأخيرين مع بيت المقطع لأبن رزيك

وغزل ابن رزيك موجود في وفيات ابن خلكان وهو عبارة عن سبعة أبيات، وهو خلاف غزل السلطان سليم المنشور في عدد (الرسالة) 462، وهو برمته للسلطان نفسه

أما سبب الأخطاء التي وقع فيها صاحب خلاصة الأثر ودائرة المعارف، وبعض المجاميع الأدبية لتي تقول إنه للسلطان أحمد أو إن بعض أبياته لأبن رزيك فيرجع إلى أن غزل السلطان فيه تشابه مع أبيات ابن رزيك في الوزن والقافية.

ثم إن القصيدة التي بين سبعة يدي سبعة أبيات لا غير، أما التي جاء بها الأستاذ مخلص فأحد عشر بيتاً. هذا إلى أن الشطرات والمصاريع الموجودة بين الأبيات الكاملة غير موجودة فيما قرأت من المصادر. فما رأى الأستاذ في هذا؟

ثم هناك تباين بين نصي القصيدتين، فقد جاء في البيت الأول في القصيدة المنشورة بالرسالة (قمر يصول. . .) وعندي (ظبي يصول) ثم في البيت الثاني:(ما قام معتدلاً يهز قوامه) وعندي (وهز) إلى غير ذلك

والأبيات 6، 7، 9، 10 المذكورة في (الرسالة) غير موجودة أصلاً في المصادر التي أشرت إليها.

فإلي الأستاذ مخلص، والى جمهور قراء الرسالة من الباحثين أقدم هذه المشكلة لعل أحدهم يستطيع أن يلقي ضوء نستنير به

ص: 28

إبراهيم أحمد أدهم

السلطان (سليم) والشعر

قرأت الشعر الذي أورده الأستاذ الفاضل عبد الله مخلص منسوباً إلى السلطان سليم العثماني؛ وأنا لا أجزم بتزوير هذا الشعر على السلطان؛ ولكني أقول: إنه (تخميس) لقصيدة في الغزل، من تلك (التخميسات) التي لهج بها شعراء العصر التركي. ويستطيع القارئ أن يستخرج القصيدة الأصلية من ثنايا الشعر، وأولها:

قمرٌ يصول ولا وصول إليه

جرحَ الفؤاد بصارمي لحظَيه

فيجدها ملتئمة اللفظ، متسقة المعنى، بعد حذف هذه الإضافات الظاهرة بها، والتي استوجبها فن (التخميس)

فهل ينسب للسلطان أصل القصيدة أم تخميسها؟ أم هو صاحب الأصل والتخميس معاً؟ ذلك ما نسأل عنه الأستاذ المخلص على أن السلطان سليم لم يشهر بإجادته اللغة العربية، فضلاً عن نظمه الشعر فيها؛ وإن كان بعض المصادر يشير في معرض الحديث عنه إلى كثرة مطالعته للتواريخ وتفرسه في اللغتين: الفارسية والرومي (أخبار الأول للاسحاقي)

فإذا أضفنا إلى ذلك شهرة هذا السلطان التي قد تغري بعض الشعراء بنظم أشعار ينسبونها إليه، ويذكرون فيها (الملك والسلطان) تمويهاً على الرواة والناقلين - جاز لنا أن نشك في نسبة هذه القصيدة إليه، كما نشك فيما يذكرونه من أنه خط بيده على مقياس الروضة - حيث كان ينزل أثناء مقامه بمصر - هذين البيتين، وهما:

الملك لله، من يظفر بنيل مني

يُردّ فقراً وينزلْ بعده الدركا

لو كان لي أو لغيري قدر أنملةٍ

فوق التراب لصار الأمر مشتركا!

ولا يبعد أن يكون هذا من قبيل ما ينسب من الشعر إلى (آدم) أبي البشر، والى إبليس وبعض (الهواتف) من الجان. . . مما كان يتخطفه الرواة والناسخون، لطرفة مصدره، وغرابة مخبره

(جرجا)

محمود عزت عرفة

ص: 29

لمن رسالة الحج

طلبت إلى الأستاذ حافظ عامر بك أن يكشف الغموض الذي ضربه بعضهم حول بعضهم حول تأليفه (رسالة الحج) فقال:

أتيح لي أن أؤدي فريضة الحج أيام كنت سفير مصر في جدة

عام 19311935 فجمعتني المناسبات بالفيلسوف الهندي الشيخ

عبيد الله السندي ومريده الدكتور سيد فيروز زيدي فتحدثت

إليهما عن أسرار الحج وفلسفته حديثاً حرصاً على حفظه لما

له من الأهمية

ولقد نعيت فيه على قادة الرأي الإسلامي إهمالهم قاعدة إسلامية أساسية ألا وهي حج بيت الله الحرام. ثم انفض موسم الحج وأخذت طريقي إلى جدة مقر عملي الرسمي في القنصلية المصرية. وما كاد يستقر بي المقام حتى لحق بي الدكتور فيروز زيدي موفداً من قبل أستاذه الشيخ السندي لأخذ مذكرات لشتى أحاديثي عن الشئون الإسلامية عامة ورسالة الحج خاصة، ولم يكن لدي من الأحاديث المدونة غير نقاط دونتها في مذكرتي، فاستبقيت الدكتور فيروز حتى أتممت له رسالة في أسرار الحج وفلسفته، وطلبت من الدكتور أن يكتب ما أمليته عليه من صورتين بالآلة الكاتبة، وأخذ الدكتور صورة للأستاذ الفيلسوف الهندي واحتفظ بالصورة الأصلية. ثم سافر الدكتور فيروز وهو يقول:(لقد أهديت إلى يا سيدي كنزاً ثميناً من التعاليم السامية التي لا تشترى بالذهب وهديتني بتوفيق الله ووجهتني توجيهاً صحيحاً نحو الإسلام الخالد الصالح لكل زمان ومكان)

وحدث أن زار حافظ بك مصر وطنه فانتهز هذه الفرصة لطبع الرسالة ونشرها في العالم الإسلامي وكذلك فعل فكانت الطبعة الأولى من رسالة الحج، ولقد كان نصيب الشيخ عبد الوهاب الدهلوي من رسالة الحج لحافظ بك أن أهديت إليه نسخة من الطبعة الأولى في أثناء تجواله ببغداد، فهل ترد الهدية بعد بضع سنين بالتجني على مهديها؟

ص: 30

سيد عثمان المراغي

كم ذا من جديد

طلبت إلى حضرات القراء - في شئ من الرجاء - أن يدلوني على شاهد من الصحيح الفصيح وردت فيه (كم) مقترنة بـ (ذا) حتى يكون ذلك هو الفيصل بيني وبين إخواني الذين اختلفت معهم في بيت (حافظ) - كم ذا يكابد عاشق ويلاقي - فإني لم أعثر على بيت (المتنبي) - وكم ذا بمصر من المضحكات - وهو مما لا يصح الاستشهاد به من ناحيتين:

الأول: أن (أبا الطيب) لا يعتبر فيمن يؤخذ عنهم الفصيح الصحيح. . .

الثاني: أن الرواية متضاربة، فتارة:(كم ذا) وأخرى: (ماذا). . .

ولكن الأستاذ البشبيشي أبي إلا أن يشرفني بالرد، فراح يعرب ويخرج ويؤول. . . فهل يتفضل (من جديد) بإعادة النظر، لعله يأتي بما يقنع؟. . . فإني أرجو أن يكون (أبا حسن) هذه القضية. . .

إبراهيم علي أبو الخشب

في الفن الإسلامي

كتب إلى قارئ فاضل يسألني أن أكتب في ناحية معينة من (الفن الإسلامي)، وشاء أن أجيبه على صفحات (الرسالة الصديق) وإني إذ أشكر لحضرته ما غمرني به في خطابه من كلمات طيبة، أرجو أن تتيح لي الظروف قريباً إجابته إلى سؤله

محمد مصطفى

جريدة الوفاق في عامها الخامس عشر

استقبلت جريدة الوفاق عامها الخامس عشر من عمرها المديد؛ وهي تعالج الأدب والسياسة والاجتماع، ولم يفتها - وهي التي تصدر في غير العاصمة - أن تعني بالناحية الإخبارية فضربت في هذا المجال بنصيب

ص: 31

‌القصص

قصة مصرية

واصلون ومنبتّون

للأديب لبيب السعيد

لم يكن يرى شيئاً من هذه المناظر الجميلة المتنوعة التي يمّر بها القطار، ولم يكن يسمع شيئاً مما يدور حوله من أحاديث الناس. كان في دنيا الماضي يجوس خلالها، ويقف على بعض مشاهدها وقفات طويلة مفكرة. هو ماضي أليم، ولقد كان نجح بعد جهود مرّة في إسدال الستار عليه، وفي نسيان ما فقد فيه من آمال عزيزة قرّح فقدها قلبه قبل جفنه، ولكن هذا الماضي انبعث الساعة أقوى وأوجع ما يكون!

كان يرتقب قطار الإسكندرية الذاهب إلى مصر، فما راعه إلا ضابط كبير من رتبة (قائمقام) يربت على كتفه في بعض العنف قائلا:(مجاهد! من أين وإلى أين). ولقد ذعر مجاهد أول الأمر إذ وجد صاحب اليد التي تربت على كتفه ضابطاً كبيراً لا يعرفه ولا يذكره، ولكنه ما لبث أن ملك نفسه حين تبسم الضابط ضاحكاً وهو يقول:(ألا تعرفني؟ ألا تذكر محمد رأفت زميلك في مدرسة القربية الابتدائية في مصر؟ ما أضعف ذاكرتك وأقل وفاءك! ألست تذكرني حقيقة؟ وهل نسيت ثالثنا إبراهيم عثمان؟ إني أذكر بيتكم في القربية، كم لعبنا فيه أنا وأنت وإبراهيم! وأين إبراهيم يا مجاهد؟ وأين مستقرك أنت الآن؟) وأجاب مجاهد في انكسار واختصار: (إبراهيم لا أعرف عنه شيئاً. إن خمسة وعشرين عاماً ليست قليلة يا بك. فأما أنا - وألقى بطرفه إلى الأرض خجلاً - فمدرس هنا في طنطا في شمس المعارف الأهلية. . .)

وجاء القطار، فتصافحا وافترقا: الضابط إلى عربات الدرجة الأولى، ومجاهد إلى عربات المؤخرة. . .

كان هذا اللقاء الشّرر الذي سعّر الوجد في صدر مجاهد، ليس من حقد على زميله الذي ابتسم له الزمان فسار إلى غايته، ولكن حقداً على الزمن الذي كاد له فرده خلف الصفوف. . .

ص: 32

ما أمض أن يتطلع إنسان فيرى رفاقه تقدموه على حين يرى نفسه منبتّاً فاقد الأمل! لقد كان مجاهد أذكى لداته لبّا وأقواهم للتعلم استعداداً. . . ومحمد بك رأفت هذا الضابط العظيم الذي تنبئ شاراته النحاسية عن رتبته. كان أحد التلاميذ الكثيرين الذين كانوا يرنون دائماً إلى مجاهد معجبين، وادّين من كل قلوبهم لو يكون لهم بعض تفوقه وبعض رضاء المعلمين عنه. وآباء التلاميذ وأمهاتهم في حي القربية لم يكونوا يعرفون أنموذجاً ينبهون أبناءهم إلى احتذائه غير مجاهد. نعم، مجاهد! الذي يعمل ألان مدرساً أهلياً في مدرسة فقيرة، والعطل من حلية الدبلوم! والذي يتقاضى راتبه منجما من نصف جنيه ومن ريال!

كان مجاهد قد أحرز البكالوريا والتحق بمدرسة الحقوق، وكان جده وذكاؤه يسوقان له البشرى ويضيئان بين يديه مناهج الأمل، ولكن ظروفا ألمت بآله، فوجد نفسه يوماً مضطراً إلى العمل كيفما اتفق ليعول أسرة فيها بنات وبنون كالفراخ الزغب. . .

ولم يبح لأحد من لداته بأمره، ولم يفعل سوى أن مرّ بردهات المدرسة وأفنيتها جميعاً كأنما يأخذ لعينه الزّاد من منظرها وانطلق وراء أسرته في موطنها الأصلي، وهو ممسك بقلبه خشية أن يتصدع. . .

وحين بصر برفاقه الطنطاويين في إجازة العيد توارى منهم خجلا، وإشفاقاً من أسئلتهم المحرجة عن أسباب انقطاعه عن الدراسة، ولكن الحظ السيئ مع ذلك أوقعه فيهم غير مرّة، فعانى أسئلتهم، وأجاب والحزن يمزّقه والكلمات تحتضر على شفتيه، أنه يعمل مدرساً في مدرسة شمس المعارف. وتلقى من سخريتهم وضحكاتهم ما شاءوا وشاءت له الظروف. . .

وحين كانوا يقبلون على البلد صيفا، كان يلتقي ببعضهم أحياناً، فكانوا - وهم لم يتجاوزوا بعد عهد الطالب - يتكلمون إليه تكلم من تعلم لمن لم يعرف من العلم شيئاً. . . يتحدثون فيسرفون في الإساءة إليه من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، قال أحدهم مرة وهو ضاحك: مجاهد هذا يصلح وكيلاً لمكتبي حين أكون محامياً، فهو خير من يجمع لي عناصر الدفاع؛ وأردف آخر: ولكني لن أدعه لك فإني سآخذه في بطانتي حين أكون وزيراً. لقد كانوا يتحدثون منذ شبابهم الباكر حديث الحكام، فكانت لهجتهم الشامخة العابثة تدمي قلبه لم يكن وطّن للمصائب. ولقد كان يملأ نفسه الرقيقة العزيزة أنهم كانوا يفيضون أحياناً في

ص: 33

الحديث عن موضوعات في القانون كان هو قد اطلع عليها قبل فراقه المدرسة وبدأ يشغف بها

كانت أياماً سودا. . كان يعرف أنه في عمله الضئيل يعيش بلا أمل. وكان يتنبأ بأنه لن يبتسم لنفسه البتة؛ فإن فعل فستكون بسمة غير بسمته المعهودة: بسمة أخرى هي بنت الكآبة وأخت الدمعة الحارة. لقد استبعد يومها أن يكون هو مجاهد صاحب الآمال المرسلة بالأمس، وود الموت صادقاً، وما منعه أن يقبل عليه غير خوف على أعزاء له صارت إليه أزمة أمورهم، وفي رقبته باتت مسؤولية رعايتهم

وهاهي السنون لم تنصف السبّاق المنبت، وتركته مردود الجماح مكفوف الطّماح، يريد التقدم فلا يستطيع. إنه منذ عمل مدرساً وهو يلوك منهج السنة الثالثة الابتدائية في الحساب والجغرافية والتاريخ. . . يشقى بتلاميذ لا يبدو فيهم النابغ إلا نادراً: مظهرهم لا يشرح صدراً، وعيونهم تنّم عن أنهم جياع، وملابسهم تنم عن أن أهليهم يعانون في معاشهم مصاعب شداداً. . .! وأبناء الميسورين منهم يذيقونه بعبثهم واستهتارهم عذاباً شديداً، فإن نهر واحداً منهم جاءه الناظر يقول حانقاً: تصرفاتك تنفّر التلاميذ وآباءهم من المدرسة وتحيلهم إلى مدرسة التاج التي تنافسنا!! ويتيه الناظر فيحتمل مجاهد، ويقول فيسمع، ويأمر فيطيع. . .

وهاهم بعض تلاميذه قد سبقوه أيضاً: نالوا حظ التعليم العالي، ثم تخرجوا إلى الحياة شباناً ناجحين. . . وبقى هو وحده خلف هؤلاء، وهؤلاء جميعاً، لا يصل أن يكون مرؤوساً للكثير منهم!

ما برح مجاهد في عمله الشاق يصحح أكداس الكراسات ويغدو على الصبيان الشياطين نحو ثلاثين حصة في الأسبوع، فيخلع من شبابه وصحته برداً بعد برد. . . وهو مع ما يبذل من جهود لا يتقدم ولا يزيد إلا ضنى كذبالة تضيء للناس وهي تحترق!

لقد كان يوشك أن يموت كمداً وألماً كلما ذكر أنه لا يحمل إلا شهادة يحملها الصبيان ويتقدم لها في العام أكثر من خمسة آلاف طالب. إن المفتش والناظر والمعلمين والطلاب لا يقيسون كفاية المعلم إلا بمقياس واحد: (الشهادة). . . وهو، سطا به الدهر سطوة حرمته هذه (الشهادة). . . فسلام على الحياة الرغدة، وعلى التقدم، وعلى الأمل. . .! وويل لابنه

ص: 34

من الخجل الشديد حين يسأله زملاؤه عما يحمل أبوه من شهادات. . .!

هذه الآلام التي ظلت تعبث به سنين طويلة استطاع اليأس ولا شيء غير اليأس أن يواريها انكشفت اليوم حين التقى مجاهد برأفت بك. . . فهي تلذعه لذعاً أليماً، وتعيد له مأساته جديدة

أين أيام مدرسة القربية حين رأفت وإبراهيم عثمان لا يتركانه إلا لماماً، حين كانت الحياة لينة الأعطاف عليهم جميعاً، وكان هو أذكاهم وأقواهم! خفض الزمان الثقيل ورفع الخفيف!! هذا رأفت وصل يقيناً، فكيف بإبراهيم وهو كان أنشط من رأفت وأذكى وألمع؟. . . كيف وهو منذ طفولته أبعد مطمحا وأكبر لبانة؟ هو لا بد الآن يتسور المجد. . . حكم الله! اثنان يركضان دراكا وثالثهم يزحف زحف الكسيح! واضطراب كيان نفسه. . . وفاضت عيناه بالدمع الغزير. . . كأنما كان معه في القطار ميت عزيز! والتفت فرأى أناساً يرقبونه في تعجب، فاستحى أن يبدو أمامهم فيّاض الشؤون، وأحب أن يكذب ظنهم، فوقف في نافذة القطار ليدع للهواء تجفيف الدمع بدل المنديل. . .

أّنى لمجاهد بالعزاء وهو من بين أترابه الحي الميت؟ ما أشوق مجاهد إلى الانفراد بنفسه ليتعاطى البكاء دواء يشفى دائه الثائر!؟ ولكنه لا يستطيع حتى هذه اللذة، لأن السافرة كثيرون، والفضال كثير!

وحملق في السماء ضارعاً يشكو بثه وحزنه إلى الله، ولكنه ذكر أن الله عليه غضبان، فهو منذ خاطت له الأيام محنته يغسل أشجانه في الكأس المحرّمة، فأرجع بصره إلى الأرض خاسئاً ذليلاً حيران. . .

وخفف القطار الجاهد من سيره وهو داخل محطة بنها، وأقبل الباعة على السفر يصيحون: التين! الكازوزة! خبز وبيض! سجاير! كانت نداءاتهم عالية مسرعة ملحة كأنما يستنجزون بها المسافرين صدقة! وفي زحمة العربات وغمار اللغط، كان صوت عال مسرع ملح كسائر أصوات الباعة يرن أسود خاشعاً: الكتب! النتائج! القصص! طوالع الملوك. . . ونظر مجاهد إلى صاحب الصوت مأخوذاً. . . إنه رجل ترهقه ذلة ناطقة ويحوطه انكسار يروع. . . إنه رجل مشتعل الرأس شيباً وعلى صفحته خطوط تتكلم بما يؤوده من أوقار الدهر وبما يظلم عليه من شعاب الحياة. كل ما بين ذراعيه عدد من الكتب الرخيصة التي

ص: 35

لا تروج إلا عند العوام وأشباههم وليس ثمنها يبالغ مهما بلغ عشرين قرشاً. هذا البائع المسكين يهيج موضع الإشفاق والحب والرحمة في مجاهد. ما أشبهه بإبراهيم عثمان في جملة سمته، ولكن هذا البائع بادي البؤس، وإبراهيم وهو ابن الأسرة الغنية يتفيأ ظلال النعمة. . . ولكن هذا البائع مكتئب وكأن الدموع في عينيه تضطرب، والعهد والظن في إبراهيم أنه مملوء الوجه بنضارة الحياة، منفرج الثغر دائماً عن بسمة لا تغيض. . . ولكن هذا البائع يزحف إلى الستين، وإبراهيم وهو في سن مجاهد لما يقتحم الأربعين

إن قلب مجاهد لينازعه إلى إبراهيم صديق الطفولة والصبا. يا رب يوم أمضياه في مرح لا تشوبه شائبة، ويا رب أقاصيص تبادلاها على صفاء ومحبة!

ليت مجاهداً يرى إبراهيم ليحيى وإياه ذكريات صباهما السعيد. ليته يراه فلقد يجد فيه متنفساً لصدره الضيق وروحاً لقلبه المحرور كما كان يجد فيه عوناً على مشاكله الصغيرة أيام الحداثة. . . بل ليته لا يراه مد العمر حتى لا يزداد قلبه احتراقاً حين يرى نفسه خلف الزحام وتربه في مقدمة الموكب. . .

يا ويلتا! أشرب أحد من لداته كأس البؤس مريرة كما شرب؟ لقد حادت عن قصدها أحلامه وصدعه وحده ريب الزمان!

ودنا البائع من مكان مجاهد يتخطى أمتعة المسافرين في عناء، ويرفع من نداءاته كأنما يسترحم بها وبنظرات عينيه سفاراً سيتركونه في جزيرة مهجورة. . . دنا من مجاهد، وما التقت عينيه بعينيه حتى هرع إليه: مجاهد؟ مجاهد أفندي. . . أإنك لأنت مجاهد!!

- نعم، هو أنا؛ وأنت؟ أتكون إبراهيم عثمان؟

وتعانق الصديقان القديمان. . . ولكن صفير القطار لم يمهلهما حتى يعرف كل منهما شيئاً عما كان في حياة صاحبه. . .

هبط إبراهيم. . . وانطلق القطار بمجاهد. . .

(المنصورة)

لبيب السعيد

ص: 36