الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 465
- بتاريخ: 01 - 06 - 1942
صداقات الأدباء
للأستاذ عباس محمود العقاد
لو تكلم القدر لأسمعنا العجب من ظلم الناس، وهم يحسبون أنهم المظلومون لأنهم يطلبون ولا يجابون، ولا يسألون أنفسهم مرة لماذا يحال بينهم وبين ما يطلبون!
فربما طلبوا ما لا يكون، وربما طلبوا شيئاً وهم يريدون غيره بل يريدون نقيضه، وربما طلبوا الشيء وتوسلوا إليه بغير وسيلته، ثم يعرفون خطأهم فلا يطلبونه بعد ذلك بوسيلته المثلى
والأستاذ توفيق الحكيم أراد الصفاء بين جميع الأدباء؛ فهل أراد شيئاً يكون في هذه الدنيا؟ وهل أراد حقاً؟ وهل توسل إليه بالوسيلة المثلى؟
إن ثلاث (لاءات) مفخمات غير أصدق جواب على هذه الأسئلة الثلاث
فالصفاء بين جميع الأدباء معناه الصفاء بين جميع الناس، وليس هذا بميسور ولا هو بلازم للأدب ولا للأدباء
فلماذا تصفو العلاقات بين جميع الأدباء وهي لا تصفو بين جميع الآدميين؟ إن الصفاء قد يتحقق بين طبيب ومهندس ولا يتحقق بين مهندسين أو طبيبين. وقد يتاح لرهط من الأدباء كما يتاح لرهط من أبناء الصناعات المختلفة، ولكنه لن يتاح لجميع الأدباء في وقت واحد، ولن يتاح لجميع الناس من صناعات شتى ولا صناعات متفقة. وليس تخصيص الأدباء هنا بالمطلب المفهوم إلا إذا عممنا الطلبة للأدباء وغير الأدباء، ورفعنا الكدر من جميع الأحياء. وهذا ما ليس بكائن، ولا نراه مما يكون
فالأستاذ توفيق الحكيم هنا يطلب شيئاً يجاب
ولكننا نعود فنسأل: هل طلبه حقاً؟ وهل اجتهد في تحقيقه فتوسل إليه بوسيلته المثلى؟
إن الذي يطلب الصفاء لا يبحث عن أسباب الكدر بملقاط ليخلقها خلقاً بين رجلين على أحسن ما يكون من الصفاء؛ بل هو يمحو منها ما وجد إن كان له أثر محسوس، ولا يوجد منها ما ليس له وجود ولم يحسه أحد ولا توهمه، ولا وقع في ظن من الظنون
فماذا صنع الأستاذ توفيق الحكيم؟
حمل ملقاطه ووضع مجهره على أنفه وراح ينبش ما بين السطور وأطال النبش بينهما
ليصيح بعد ذلك: وجدتها! وجدتها!. . . هنا سبب من أسباب الكدر كامن بين السطور لعله لا يظهر على وجه الكلام ولكنه مستور هنالك لمن يبحث عنه ويجري وراءه، وهو لهجة تعالٍ في الشكر، أو لهجة يخيل إلى من شاء التخيل أنها تشف عن التعالي ولا تبرئ الشكر من الجفاء
ثم يصيح برجلين يفهمان ما يقولان وما يقال لهما: أرأيتما؟ أليس خليقاً بكما ألا تصفوا؟ أيليق بكما أن تصفوا وبينكما هذا الذي أراه مانعاً للصفاء!
ذلك ما صنعه الأستاذ توفيق الحكيم
فهل في وصفه مبالغة؟ وهل صورناه بغير صورته القريبة التي تعرض نفسها لكل من ينظر إليها؟
أهدى إلي الدكتور طه حسين قصته (دعاء الكروان) فجعلت هذا الإهداء موضوع مقال من أعماق النفس في معنى الكروان ودعاء الكروان وذكريات الكروان، وقرأه كثيرون من الأدباء فحدثوني عنه حديث رضى وسرور، وفي مقدمتهم الدكتور طه مهدي دعاء الكروان
أما الأستاذ توفيق الحكيم فماذا صنع؟
لم يرضه ما أرضى الدكتور طه ولا ما أرضى الأدباء ولا ما أرضى كثرة القراء، وراح يتحدث ويكتب ليقول: هنا صفاء. . . فكيف بالله يليق هذا الصفاء؟
لو كان الأستاذ توفيق الحكيم يطلب الصفاء ويتوسل إليه بوسيلته المثلى لكانت له ندحه مما صنع ولو لم أكتب ذلك المقال عن دعاء الكروان.
نعم كان في وسعه أن يقول بينه وبين نفسه: لعل واجب الشكر قد أُدي في رسالة أو في مقابلة، أو سيؤدَّى في سانحة أدبية يأتي أوانها في حينها، أو لعلي أعرف الحقيقة إذا عنيت بالسؤال عنها عند أهلها.
هذا ما كان في وسع طالب الصفاء أن يصنعه ولو لم أكتب مقالي في (دعاء الكروان)
ولكن الأستاذ الحكيم لم يصنعه، ولم يزل يحمل ملقاطه ويضع مجهره على أنفه، ليخلق الكدر من شيء يبحث عنه بين السطور، ولا يراه على ظاهر السطور
أهذا هو طلب الصفاء والسعي إليه؟
فماذا يكون السعي إلى خلق الكدر والإشفاق من دوام الصفاء؟
كانت المناقشة بين الأستاذين زكي مبارك وتوفيق الحكيم قائمة يوم لقيت الأستاذ توفيقاً في إحدى المكتبات وفيها صديقنا الأستاذ على أدهم. فجرى ذكر تلك المناقشة وصارحت الحكيم فيما أراه فقلت له: إنك لم تبحث عن أسباب الإنصاف بعض بحثك عن أسباب الجفاء؛ لأنني لا أعرف ولا أذكر أنني قصرت في حق زميل إبان اشتغالي بالصحافة وتولِّي فيها صفحةً للأدب ودراسة المصنفات. فكل أديب أرسل إليَّ كتاباً في هذه الأثناء فقد نوهت به وكتبت عنه، ولكنني أنا أرسلت كتباً إلى زملاء يعرضون للمصنفات في المجلات فلم يذكروها ولم يشيروا إلى صدورها. فلماذا نسيت هذا وحاسبتني على ما تقول إنه شكر لم يبلغ ما تتخيله من الرقة والنعومة؟ لماذا تحاسب من يكتب ولا تحاسب من يهمل؟ ما الذي يعفي أولئك الزملاء من عرفان حقي، ويوجب عليّ أنا أن أبلغ الغاية التي يتخيلها كل متخيل من عرفان الحقوق؟
وتكلم الأستاذ الحكيم عن أولئك الزملاء فقلت له: إنني لا أفردهم بالملاحظة ولا أستثنيك أنت منها. فقد كتبت عنك مرتين أو ثلاثاً فكم كتبت عني؟ وما الذي يعفيك من هذا الواجب الذي لا أذكرك به إلا لمناقشة رأيك لا لأنني أطلبه أو أحتاج إليه؟
ثم بينت له موقفي من تقريظات العظماء الذين يثنون على كتبي فأشكر لهم ثناءهم ولا أنشره فيما أطبعه من كتبي، وإن كان في نشره فخر أعتز به كما يعتز به سائر المؤلفين
بينت له ذلك لكي لا يقع في روعه أنني أطالبه بواجب الكتابة أو أتقاضاه حقاً من الحقوق. فلو أردت ذلك لعمدت من قبل في عشرات السنين الماضية إلى نشر الكتابات التي وصلت إلى يدي وهي مما يسمح بنشره في جميع البلدان
ثم افترقنا ولم أسمع من الأستاذ الحكيم في تلك المقابلة ما يذهب بدهشتي من سعيه إلى الصفاء بذلك الأسلوب، ومن محاسبته إياي على الوهم بين السطور وهو يرى أناساً يسهون كل السهو عن حق الأدب وحق الزمالة، فيغضي عن الحقيقة الماثلة، وينسى السطور وما بين السطور
وفارقني تلك الليلة ولا أدري ما في نفسه، ولعله كما علمت بعد أيام قد تبين صواباً فيما قلت أو في بعض ما قلت فعدل إليه وكتب مقاله المشكور عن كتابي (عبقرية محمد) فقدمه بكلمات يقول فيها: (وقد سمحت لنفسي بالسبق إلى أداء هذه التحية، لأني فطنت إلى أني
المتخلف دون غيري عن أداء الواجبات، وليس لي من عذر إلا انصرافي عن باب النقد منذ أول الأمر). وهو موقف بار أحمده له كل الحمد وأعتقد أنه قد حُسب له عند القراء كما حسب له عندي في عداد الخلائق المرضية والفضائل الخلقية. ثم وجه إليّ بعد أيام أخرى خطاباً يقول فيه:
(إنك للمرة الأولى تخاطبني بهذه اللهجة التي كنت تخاطب بها الرافعي رحمه الله. أبهذه السرعة تضع الناس في صف أعدائك؟ لعلك لفرط ما قاسيت من شر الناس، ولقلة ما وجدت من خيرهم، أصبحت مثل (هملت) تستل سيفك لتضرب من خلف الأستار دون تبين الوجوه. فطعنت صديقاً وأنت لا تدري)
ولا أظن أنني أشبه (هملت) في كثير من خصاله وفعاله؛ ولكني إذا سئلت لم صنعت صنيع (هملت)؟ أفلا يجوز لي أن أسأل: ولم الوقوف وراء الأستار، وأولى من ذلك الخروج إلى وضح النهار؟ أليس هنالك بعض اللوم على من ينصت خلف الستر ليسمع ما لا يُسمع، أو ليقول ما لا يقال؟!
وبعد، فما العبرة من كل أولئك في تاريخ الأدب ونقده وسلوك الأدباء مشهورين كانوا أو غير مشهورين؟
العبرة من أولئك (أولاً) أن الأستاذ الحكيم يقول بعد الإشارة إلى ثناء الدكتور طه عليه منذّ سنوات: (. . . لم نسمع في غير مصر أن الناقد إذا أثنى على كتاب حسب أنه تفضل على مؤلفه ورفع شأنه من الحضيض، وأن على المؤلف واجباً مقدساً هو أن يشتري من فوره سبحة كيلا ينسى أن يسبح بحمد الناقد أناء الليل وأطراف النهار. . .)
كذلك يقول الأستاذ الحكيم اليوم. فليذكر مقاله الأدباء الناشئون الذين يؤمنون بكفاءة تشبه كفاءته الفنية، ليذكروا أنهم يطلبون شيئاً ينكرونه جاهدين بعد بضع سنوات: يطلبون التشجيع ثم ينكرون التشجيع، وكان أحرى بهم ألا يطلبوه وألا ينكروه، فما سمعنا في غير مصر أن الأدباء المشهورين مسئولون عن شهرة كل أديب ينشأ بعدهم ولا يعرف لهم حقهم، وإلا كانوا هم الملومين المقصرين
وعبرة أخرى أن الأستاذ الحكيم يذكر التعالي في موقف الكاتب وينسى أنه اختار لأدبه عنوان (البرج العاجي) وهو عنوان الأدب المصطلح على وصفه بالتعالي بين نقاد الغرب
وشعرائه. فليترك برجه العاجي إذن أو فليتركنا نحن نتعالى ونتواضع كما نشاء
وعبرة ثالثة أن الأستاذ يحن إلى صداقات في الأدب المصري كالصداقات التي أثرت عن كبار الأدباء الغربيين
وأن أناساً لتأخذهم السمعة البعيدة في زمانها أو البعيدة في مكانها فليلحقونها بعالم الخيال وعالم المثال ويسهون عن الواقع الذي لا يقبل المحال
وأعيذ الأستاذ أن يكون من هؤلاء
فتاريخ الآداب الأوربية بين يديه يستطيع أن يرجع في كل ساعة إليه، ويستطيع أن يعلم بعد المراجعة أن في الأدب العربي حديثه وقديمه صداقات تضارع تلك الصداقات مع حسبان الفارق في البيئة والزمن والمناسبة
فهل يعني الأستاذ صداقة شعراء البحيرة في أنجلترا؟ هل يعني صداقة شلي وبيرون هناك؟ هل يعني صداقة جيتي وشلر بين شعراء الألمان؟ هل يعني صداقة تولستوي وتورجنيف وديستفسكي بين عظماء الأدب العالميين من الروسيين؟
إن كان يعني هؤلاء وأمثال هؤلاء فهو واجدٌ في الأدب العربي الحديث صداقات من طراز تلك الصداقات، وواجدٌ من هناتهم في الغرب نظائر لما يشكوه من هنات الزملاء المصريين والشرقيين
والطبيعة البشرية واحدة في كل مكان. . . تلك أصدق حكمة عن الناس قالها إنسان.
عباس محمود العقاد
الخطاب الذي احترق بسعير الأنفاس
(للكاتب المجهول)
هو خطاب تلقيته من (فلانة) في سنة 1919
فما صبرُ القلب على غرام مشبوب يدوم ثلاثة وعشرين عاماً هي كألف سنة مما تعدّون؟ ما صبر القلب على (فلانة) وفي مثلها قال المجنون:
وشاب بنو ليلى وشبّ بنو ابنها
…
وأعلاق ليلى باقياتٌ كما هيا
كان الدهر سمح في غفلة من غفلاته بأن ألقاها بعد طول الفراق، ثم استيقظ الدهر فعرفت ما لم أكن أعرف، عرفت أني لن ألقاها بعد ذلك ولو انتظرت إلى أن تشيب ناصية الزمان
فمن يبيعني مثقالاً من الصبر الجميل عساني أتناسى أحزاني وأشجاني؟
وهل يباع الصبر في هذه البلاد؟
وهل ترك الاتجار فيها بما تحدث عنه القرآن من عدس وبصل وفول مجالاً للاتجار بالصبر الجميل؟
خذوا أملاكي وخذوا حياتي في سبيل لحظة واحدة أقضيها في حضرة (فلانة) لأجدد التوبة من ذنوبي، ولأجدد العهد، إن كانت ترتاب فيما بيني وبينها من عهد
أكان ذلك اليوم آخر أيامي؟
أفي الحق أني لن ألقاها بعد الوشاية اللئيمة التي نفرتْها مني؟
دنيا من الأحلام تقوّضت في لحظة أو بعض لحظة بفضل كلمة نقلها أو اختلقها نمامٌ أثيم، فما ذنبي ولم أقل في (فلانة) غير الصدق؟
ما ذنبي ولم أقل إلا أنها كانت على تطاول الأيام أحب إلى قلبي من سائر عرائس الشعر والخيال؟
ما ذنبي ولم أوجه إليها في حياتي كلمة واحدة تجرح الذوق؟
إنما الذنب ذنب من ائتمنته فخان، وكنت أحسبه أهلاً لتلقي سرائر الروح الزين، وهل كنت أول عاشق خدعه الواشون والرقباء؟
الله يعلم كيف انخدعت، فقد حسبت أن طهارة القلب تُعدى، وظننتُ لجهلي أن في الدنيا ناساً يتذوقون أخبار الحب العفيف، ولم أكن أدري أني أكتب لنفسي صحيفة الاتهام وأنا
بريء، وكم في السجن من أبرياء!
لن أرى ذلك الوجه الأصبح بعد اليوم لأن صاحبته لا تريد أن تراني
وكيف أراها وهي تصدر أمرها المطاع بأن أرد إليها الخطاب الوحيد الذي طلَّت به قلبي سنة 1919؟
ومن يصدق يا فلانة أننا كنا رفيقين في ذلك التاريخ؟
هو خطاب أحرقته أنفاس الوجد ولم يبق منه غير أطياف، فما حرصك عليه وهو خيال في خيال؟
سأردّ ذلك الخطاب بلا تسويف
لا، لا، لن أرد ذلك الخطاب ولو قُطِّعت أوصالي، فهو الوثيقة الباقية على أنك كنت رفيقة صباي، يا مثال الشرف والطهر والعفاف
سيوضع ذلك الخطاب في كفني يوم أموت، فانبشي قبري وخذيه إن عرفت طعم الحياة بعد موتي، يا قريبة العذول الذي أفسد ما بينك وبيني، وهي أول مرة عرفت فيها عن تجربة أن الدخان القريب يُعمي العيون
ولو كنت فاجراً لعرفت ذنبي واسترحت
وهل يكون الفجور أشنع مما وقعت فيه؟
أنا أسلمت زمام أسراري لمخلوق توهمته يدرك شرف الحب، فكان منه ما كان، فمن يصلح ما بيننا وقد ضاق في وجهي صدرك الرحب، ونقلك الغضب إلى الوقوف في صف الزمان
أنا حزين، حزين، حزين
وما أحزن على نفسي، فقد شبعت من الزمان وشبع مني، ولم يبق لي ما أخاف عليه بعد أن عانيت في دهري ما عانيت، وإنما أحزن لارتيابك في أمانتي، وعنك تلقيت دروس الأمانة والصدق والوفاء
فإن فقدت عطفك فقداً أبدياً فقد خسرت بجانبه مودة ذلك العذول، وكنت أحسبه أشرف الناس، وهو لك قريب، وظلم ذوى القربى أشد من وقع الجراز المصقول كما قال بعض القدماء
الوداع، يا رفيقة صباي، وداع الزهر الظامئ لقطرات الغيث. . . أما الخطاب فقد أحرقته
أنفاسي، وأما العذول فسيحل عليه غضب الله ولعنة الحب، ولن يلقى في دهره غير الشتات، وسيكون هو وأهله ومن يحيط به طعاماً لنيران الوشايات والأباطيل
الوداع، يا رفيقة صباي، وداع الطفل لأمه الرءوم، وداع الموجة المتكسرة على شاطئ الأمين، وداع الوليد للحياة وقد أعجله الموت في يوم الميلاد!!
لقيتك بعد يأس، يا رفيقة صباي، فكاد يقتلني الجنون. . .
فما الذي سيجني الواشي وقد أفسد ما بينك وبيني بكلمة أقصر من ومضة البرق وأطول من كيد الزمان؟
ومن أعجب العجب أن يكون ذلك الواشي أنضر من طلعة الصباح في عين الشريد الذي طال شقاؤه بظلمات الليل
فما معنى ذلك؟
هو الحية الملساء التي تسربت إلى رياض الفردوس لفتنة أبينا (آدم) وأمنا (حواء)
هو السم المدُوف في طيات (البرشام) الملفوف
هو العذول الذي استعاذ من شره أقطاب الصبابة والوجد والحنين
لن أراك، يا رفيقة صباي، بعد اليوم، لأن قلبك أرق من أن يحتمل فظاظة الأراجيف، ولأن لك زوجاً يؤذيه أن يكون لزوجته في العشق تاريخ
الوداع، وداع القلب الخائف لأطّياف الأمان
الوداع، وداع الجسد للروح
الوداع، وداع الشاعر لديوان من أشعار الوجدان أكلته النار في يومٍ عاصف
الوداع، وداع المحب للمحبوب على غير أمل في اللقاء
الوداع، وداع المحكوم عليه بفراق الأهل إلى أن يموت في غيابات السجون
لن نلتقي بعد اليوم، يا رفيقة صباي، إلا في الفردوس
وأين أنا من الفردوس؟
وهل لمن باح بأسرار الحب أملٌ في الجنة والرضوان؟
زعم الإنسان أنه أعظم من سائر الحيوان بفضل النطق، وبالنطق هتكت أسرار الحب، فضاعت مني رفيقة صباي، فمتى أعرف فضل الصمت؟
الوداع، الوداع، وداع الكاتب لبياض الورق وسواد المداد
الوداع، الوداع، وداع الشاعر لعباب النيل في ليلة قمراء من ليالي الصيف، وإلى غير ميعاد. . .
(الكاتب المجهول)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
أغرب ما قرأت - نهاية فلان - بين الكفر والإيمان
أغرب ما قرأت
في بعض الأحيان نقرأ أشياء تلفت النظر لسبب أو أسباب، ثم نراها أهون وأصغر من أن يجري القلم فيما تنطوي عليه من غرض بعيد أو قريب
وآفة الأدب العربي لهذا العهد أنه لا يلتفت إلى الجزئيات، بحجة أنها في الغالب من توافه الشؤون، مع أن الحوادث الصغيرة قد تضمر في طياتها متاعب خطيرة، ومع أن العقل يوجب أن ندرس جميع الأشياء دراسة نقد وتشريح
وأنا اليوم أسوق خبراً تافهاً جداً، وإن كنت أعتقد أنه أغرب ما قرأت، فما ذلك الخبر التافه الغريب؟
للشركات الأجنبية في مصر أسلوب ظريف في اختيار اللغة التي تعامل بها الجماهير، فهي تكتب باللغة العربية في حال، وبإحدى اللغات الأوربية في أحوال، فإن كان ما تكتبه نوعاً من الإعلان جعلته باللغة العربية ليفهمه الجمهور بلا عناء، وإن كان ما تكتبه متصلاً بالعقود جعلته بلغةٍ أعجمية، لتخفي دقائقه على أكثر الناس!
هذا هو الخبر، فهل ترونه من التوافه؟ وهل ترون أنه على تفاهته يستحق الالتفات؟
نهاية فلان
هو كاتبٌ فصيح يعرفه قراء اللغة العربية من أعوام طوال، ثم تحوّل فجأةً إلى كاتبٍ عاميّ اللغة والمذهب، فما سببُ هذا التحول المزعج؟
كان في بداية حياته الأدبية يرتاب في قدرته على الإنشاء الفصيح، فكان يبحث عمن يقومون عباراته، ويرفعون عنها آصار العُجمة والتهافت، وبهذه الخطة كانت ثقته بنفسه تضعُف من يوم إلى يوم، ثم رأى أن يتحرر من سيطرة المراجعين والمصححين فأعلن أن اللغة العامية أحسن اللغات وأنه سيجعلها لغته المختارة إلى أن يقضي الله في أمره ما هو قاض.
كان فلان ولن يزال من أهل الرأي وأصحاب الخيال، وكذب من ادعوا أنهم قولوه ما لم يقُل وأنهم مصدر الوحي لأدبه الجميل
فهل نرجو أن ينظر فلان من هذه الكلمة الخالصة لوجه الأدب والحق، فيكتب اللغة الفصيحة على سجيته وفي حدود ما يطيق ليصبح بعد قليل وهو من أساطين البيان؟
فلان شخصية كريمة الجوهر، وضياعُها على الأدب الفصيح ضربٌ من الخُسران، فهل يرفق بنفسه فيروضها رياضةً جديدة على أساليب الفصحاء بلا تكلف ولا افتعال؟
القليل من وحي الطبع أجدى وأنفع من الكثير المصنوع، فارجع إلى طبعك يا فلان، وانتفع بما فيه من ثروة أصيلة، قبل أن يصعُب انتشالك من هُوّة مذهبك الجديد، صانك الله وحَماك!
بين الكفر والإيمان
قِيل وقيل: إن الأدب سيجوز فيه ما يجوز في جميع الصناعات، فيحترفه من يشاء حين يشاء، ولو كان صغير الرأس أو نحيل الوجدان
وأقول: إن الأدب شريعة ربانية لا يصلُح لها غير المصطفَين من أرباب القلوب، فمن العسير أن يضاف إلى أهل الأدب من لا يخطُ حرفاً إلا وهو مَسُوقٌ بإرادة خارجية، على نحو ما يصنع الفارس الذي رسمتْه يد البهلوان في أحد الأشرطة السينمائية
الأدب إيمانٌ وثيق لا يعرف الأشخاص ولا الأزمان ولا الظروف، فليس بأديب من يفرح لأن صدراً يحتضنه بلؤم أو بشوق، ليجعل من أنامله أداةً يلتقط بها الأشواك، وليس بأديب من تخدعه الخوادع الوقتية، فيتوهم أن الخلود نعمةٌ يجود بها أهل الفناء
الأدب فوق ما يتوهم الأصاغر من طلاب المنح الذواهب، الأدب قوةٌ ذاتية يتوحّد بها صاحبها توحد الليث، فليس منا من يرى الحياة أو الجاه في التشرف بخدمة هذا المخلوق أو ذاك، وليس منا من يعقّ إخوانه ليظفر بالزاد المأدوم بالزور والبهتان. . . الأدب الحق منحة ربانية يجود بها الله على أرباب القلوب
زكي مبارك
رسالة الطالب
(مهداة إلى طلاب العرب في جميع الأقطار)
للأستاذ سعيد الأفغاني
(سلمني طالب في طريقي كتاباً باسمي ففضضته فإذا هم يطلبون مني أن أجيب كتابة على هذا السؤال: ما هي السبل التي ترونها ناجعة فيتجه إليها الطلاب ليكونوا الجيل الجديد: عماد البلاد الحقيقي؟ وقد آثرت نشره هنا في مجلة العرب تعميما للفائدة، وسلكت في الإجابة طريق التبسيط والمثل، متجافياً عن القواعد والنظريات، وكل ما يحول دون فهم الطلاب لها الفهم الجيد)
أراد أحد كبار المحدثين أن يختصر الطريق على طالب يتخرّج عليه في الحديث، فحفَّظه مدة عشر سنين أربعمائة ألف حديث بأسانيدها. فلما أتقن الطالب الحفظ وودع أستاذه قبل سفره إلى أهله، لم ينس هذا الأستاذ أن يخبره: أن هذه الأحاديث أربعمائة الألف كلها موضوعة لا تصح. فأسقط في يد الطالب وقال: (أضعتَ يا سيدي عمري في حفظ ما لا يصح. أساغ في ذمتك إهدار عشر سنين هن أنضر العمر؟). فابتسم الأستاذ، وهدَّأ من حزن تلميذه قائلاً:(لم يضع شيء، الآن يا بني أبصرت الطريق، وصرت آمناً عليك كل تدليس، مطمئناً إلى دخولك غمار هذا المجتمع الزاخر بالوضع والكذب والتلفيق، ولن تعجزك بعد هذا معرفة الصحيح)
أعجبتني طريقة هذا المحدث، ووضحت لي حكمة الأصوليين القائلين:(درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة). والخير في أن نحكم الوسائل السلبية لكل أمر قبل العناية بوسائله الإيجابية، وأن نعني بدفع الضار أضعاف ما نعني بجلب النافع. فهل من حرج علي إذاً، إن أنا عدلت عن بيان ما يجب لبناء الجيل الجديد إلى بيان أسباب إخفاقنا نحن أبناء الجيل الحاضر فلعل أول النجاح لأبناء المستقبل أن يتوُّقوا ما ارتطم فيه مَن قبلهم
تسألون - أيها الطلاب - عن السبل الناجعة في تكوين الجيل الجديد؛ ألا فاعلموا أنها سبيل واحدة فقط، خطوتها الأولى أن تتجنبوا ما تورطنا فيه نحن أبناء الجيل الحاضر، من عبودية لكل تقليد ضار في أخلاقنا وعاداتنا ونظمنا وتعليمنا. ولقد كان من أعظم الأسباب في إخفاقنا أمور ثلاثة: خلق منحل تستره دعاوٍ عريضة من الكمال والفضيلة والوطنية؛
وعلم مزيف كاذب خير منه الجهل الصريح؛ وفقر في وسائل كسب العيش من طرقه الشريفة، هو أحد المظاهر في فقدان الرجولة. لم يثبت لنا - ولا حكم للنادر - أثر نافع في باب من أبواب الجد، ولم نستطع أن نحرر مما غرسوا في أفكارنا فأكثرنا مقلدون ببغاوات.
فإن رأيتمونا بعد هذا - والعالم من حولنا يجدّ - أحلاس الملاهي والمقامر والحانات، مبددين فيها دم الشعب وثروته، نصف نهارنا ومعظم ليلنا، حاملين لأنظاركم أخنث الهيئات و (أميع الموضات) من تلميع وجوهنا وأحذيتنا وتصفيف شعورنا حتى إطالة أظافرنا. . . إن رأيتمونا كذلك فاغفروا لنا هذه الإضاعة وهذا الانتحار، فلعلنا ضحايا خطط خفية محكمة
لا تمقتونا على إهانة الخلق وتبديد الثروة وقتل الوقت ووأد الكرامة والرجولة، فما ينتظرنا من مقت الله والوطن أكبر من مقتكم.
لا تقلدونا، فإنكم مخلوقون لزمان غير زماننا، لزمان صعب كله جد، لا مكان فيه لغير المجدين العاملين. . . وما كان زماننا لعباً، ولكنا طبعنا على غرار واحد: أن نكون أطفالاً كباراً عالة في كل شيء، لا نهتف إلا بما يوحي إلينا، معطلين عقولنا وضمائرنا، أبواق دعايات نموهها بالعلم أحياناً، وبالنهوض بالوطن والدين أحياناً، ثم نروغ إلى حيث نؤدي الحساب ونأخذ الأجر ونتلقى التعليمات لنعيد تمثيل الدور كرة أخرى
منا الذين ورثوا الثروات الطائلة، ولم يكن آباؤهم قد أخذوهم بتثقيف ولا تهذيب اعتماداً على غناهم، فلما آلت إليهم الثروة كانوا على جهل تام بطرق تنميتها وحفظها فوكلوا أمر تدبيرها إلى مرتزقين خانوهم، وانصرفوا إلى حاناتهم ومقامرهم ومحال رذائلهم فما زالوا بها حتى خرجوا عن آخر قرش منها؛ وألحت الرذيلة، ولم يكن بدٌ من كسبٍ ما بعد أن ركبتهم الديون، وكان هناك من يحتاج إلى أسماء أسرهم الفخمة فباعوه ضمائرهم ومصالح وطنهم وكانوا شر قدوة لمن دونهم
ومنا الذين آلت إليهم الضياع الواسعة والقرى الغنية، فأنفوا المكوث فيها ومباشرة الأعمال الزراعية، والزراعة لا تدر خيرها إلا على من يمنحها جهوده كلها، وهؤلاء استكبروا أن يكونوا (فلاحين) كآبائهم وأرادوا أن يعيشوا (بكوات) فما زالت زراعتهم تخسر حتى رهنوا القرى والضياع في مصارف أجنبية، تخلق بيدها الرهن، ثم صاروا إلى مآل أرباب
الثروات
ومنا الذين أرسلتهم أممهم ليأتوها بعلم الغرب وثقافة الغرب ومحاسن الغرب؛ وأنفقت عليهم من أموال فقرائها ومساكينها، ولم يمنعها فقرها من السخاء بالإنفاق، رجاء أن يعوضوا عليها بعلمهم وخبرتهم أضعاف ما خسرت. . . ثم رجعوا. . . فإذا بعضهم عمى عن ذلك كله، وأتانا بمفاسد الغرب وانحلال الغرب وأزياء الغرب وخموره ورقصه. . . وأنا أقسم غير متحرج، أنك لو طفت الغرب كله لما رأيت من يعكف على الملاهي والقمار والخمور عشر الوقت الذي يعكفونه. . . وهؤلاء - كما تعلم - أرباب أعمال لو قاموا بواجباتهم لما فرغ أحدهم لغير طعامه يلتهمه التهاماً، ونومه يقطعه تقطيعاً
ومنا الذين أخفقوا في أن يعرف لهم أثرٌ ما في علم أو أدب، وأصر عليهم من منحهم الوظائف والشهادات أن يذكروا بشيء من الأشياء، فراموا شهرة من أخصر طريق. وهل أخصر من أن ينكر امرؤ الوحي حتى يسمى بيننا مفكراً، ولو جهل أين ولد الرسول، وأين تقع مكة من الشام؛ أو أن ينتقص من النبي والخلفاء فيكون مؤرخاً، ولو اعتقد أن فاتح بغداد هو عمر ابن الخطاب؛ أو يشتم الدين فيكون حر الأفكار. . . فيشتغل بعض الطلبة بالرد عليه في الصحف، فيشغل الناس بأمره ولو ساعة من نهار
ومنا الذين إذا كانوا في وظيفة لم يفهموا ما يفهمه كل موظف في العالم المتمدن من أن الموظف أجير لأرباب المعاملات، إذا قصر في الواجب عليه كان خائناً كالأجير الذي يسرق الوقت المأجور عليه. . . فهم لا يفهمون الوظيفة إلا كرسياً ينتفخون عليه مصعرين خدودهم، بأيديهم لفائفهم يدخنون ويتماجنون، وأرباب المصالح وقوف يتألمون!
ومنا المتبطلون المأجورون لكل دعاية أجنبية: يروجون لها ويؤلفون لها الجمعيات والأحزاب. . . فمنا بحمد الله دعاة الفاشية والشيوعية والديمقراطية والدكتاتورية والإباحية، وما شئت من مذاهب ونحل ودول. . . كل ذلك يجد من يخدمه ويتعصب له وينافح عنه؛ فإذا رحت تبحث عمن يخدم قضية بلاده خالصة، رجعت خجلاً من ضآلة عددهم في هذا الخضم الزاخر!
ومنا الذين خرجوا من حيث يدرسون، تحلقوا حلقاً في حانات موبوءة، وخيمة الهواء، منتنة الريح، إلى جانب مدارسهم، على مرأى من طلبتهم، يلقنونهم بذلك أقبح المثل وأحط
الأخلاق وأبذأ الوقاحات. . . حتى إذا كان للمعارف يوماً من الأيام وزير قوي الخلق غيور ذو نخوة، وأذاع على موظفيه بلاغاً يحظر فيه رجال التعليم ارتياد مباءات السقوط، أمضى هؤلاء البلاغ، وهرعوا من فورهم سراعاً إلى حاناتهم تلك، فشربوا نخب البلاغ معربدين معطعطين، وأصابت فيهم الوقاحة المتسفلة أحط دركاتها
أجل. . . أيها الأعزاء. . . منا كل ذلك، ومنا شر من ذلك مما لا أستطيع التصريح به. . . فإن كنتم لا تتوقعون من هذه الجراثيم الطفيلية خيراً، لا لأنفسهم ولا لبلادهم ولا لأمتهم، فهذا هو الذي وقع، وإن قدّرتم أنهم يأتون على أمتن القواعد من أساسها، فهذا ما أريد منهم، وهذا ما عصف ببنائنا من قواعده. وإن عزوتم ما في البلاد من كرامة وفضيلة إلى غمار الشعب وطلبته المعصومين وبعض خاصته المهذبين فأنتم على صواب
وإياكم أن تظنوا أن هذه السموم التي حملناها - شاعرين أو غافلين - هي محصول وطنكم، أو أن بلدكم مما ينبت هذه الرذائل، وفي فطنتكم غنىً عن التصريح، وصدق الله العظيم
وبعد، فاحسبني عددت - بأوجز لفظ - بعض الأسباب في إخفاق جيلنا، مما تسمح به الظروف، وعسى أن ينفّس الله الخناق فأعود ببعض التفصيل لما أجملت؛ فإن وقاكم الله - أيها الطلاب - هذه الشرور، وحمى جيلكم من هذه الآفات وتوابعها، كونتم بأيسر سبيل عماد البلاد الحقيقي قوياً سليماً
وإن كان لا بد من نصيحة إيجابية بعد ما تقدم، فهي في أن تأخذوا من مدينة الغرب أسباب القوة المادية كلها: في العلم والتنظيم والصناعات. . . أما غذاء أرواحكم وقانون أخلاقكم، فانشدوهما في تراثكم المجيد. . . وحذار حذار أن تخدعوا عما مدت لصرفكم عنه الأحابيل، وتنوعت المكائد، ولطفت الحيل، ودقت الأساليب، وخفيت الحظوات. . . ألا وهو: دينكم وثقافتكم؛ عُضُّوا عليها بالنواجذ، ففيهما - أيها الناشئون - كل قوتكم وعماد سلامتكم، أفراداً وجماعات. . .
لا تحيدوا عن سماحة القرآن وسمّو الإسلام وتعاليمه قيد شعرة، وكونوا في ذلك رجالاً كل الرجال
وتضلعوا جهد طاقتكم من تاريخكم المجيد ولغتكم الكريمة، ساميين عظيمين كما خلقهما الله،
لا كما ينشرهما أبواق الدس من الجاهلين الأدنياء. . . وإن آنستم من بعض مرشديكم انتقاصاً لأبطالكم، أو تزهيداً في تاريخكم، أو تحقيراً لكريم تقاليدكم، أو تهويناً للغتكم، فانبذوا إليه على سواء، واعلموا أنه مأجور جاهل، فلا تهتموا به، فإنه يزاد أجره، ويعلى مقامه على قدر ما يحدث من فتنة أو ضجة. . . دعوه يمت بدائه، واعكفوا أنتم على دراسة تاريخكم ولغتكم ودينكم في دور الكتب منقبين ممعنين فلكم على ذلك أجر المجاهدين الصابرين
ثم لا تسمحوا لأيٍ كان، مهما عظمت مكانته أو طغت سطوته، أن ينال من هذه الثلاث: كرامتكم ورجولتكم وعروبتكم. . . فإنه لا خير لنا ولا لبلادنا في شاب: لا كريم ولا عربي ولا رجل!!
وكل ما أسأل الله: أن يعزكم ويعز وطنكم بكم، وأن يجعلكم ممن قال فيهم:(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين)
(دمشق)
سعيد الأفغاني
في الفلسفة الإسلامية
ابن باجَّه
للأستاذ عمر الدسوقي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
الفصل الثاني من تدبير المتوحد
تكلم ابن باجَّه في هذا الفصل عن أعمال الإنسان، والفرق بينها وبين أعمال الحيوان. أمّا الأعمال البشرية المحضة الخاصة بالإنسان فهي الصادرة عن الإرادة المطلقة: أي الإرادة المصحوبة بالاختيار والروية والتفكير الحر، لا عن غريزة ثابتة في الإنسان ثبوتها في الحيوان. وقد يشارك الإنسان الحيوان في بعض أفعاله كأن يهرب من مفزع أو يكسر عوداً خدشه، لأنه خدشه فقط، فهذا عمل حيواني، أمّا أن يكسره لئلاّ يخدش غيره أو عن روية توجب كسره فذلك عمل إنساني.
فالعمل الحيواني إذاً هو الذي يصدر عن انفعال نفساني وغريزة ثابتة كالغضب والخوف، أمّا العمل الإنساني فهو الذي يوحيه الفكر سواءٌ تقدم الفكر انفعالٌ نفساني أو مؤثر غريزي أم أتى بعده، وسواء كانت الفكرة يقينية أو مظنونة. ويندر أن تكون أعمال الإنسان حيوانيةً على الإطلاق - لأنها على الأقل يصحبها التفكير في تنفيذها - أمّا الأعمال الإنسانية البحتة فقد توحد، وإذا تعاونت الغريزة والفكر كان النهوض للعقل أقوى.
وأمّا من يفعل الفعل لأجل الرأي والصواب، ولا يلتفت إلى ما يحدث في النفس البهيمية ففعله أولى أن يسمى إلهياً لا إنسانياً
ولهذا وجب على المتوحِّد أن يكون فاضلاً حتى إذا قضت النفس الناطقة بأمرٍ لم تعاند فيه النفس البهيمية، لأنها إذا عاندت وضعت العراقيل والصعاب، وكان حدوث العمل بكرهٍ وعسر. والرجل الذي تتغلب فيه النفس الحيوانية على الناطقة أقل من الحيوان لأن الحيوان يسير على طبيعته وسجيته، أمّا هذا النوع من الرجال الذي يملك الفكر الإنساني، ويمكنه أن يتقن العمل ويتقاعد عن ذلك فهو أقل من الحيوان؛ لأنه مع ذكائه ووقوفه على الخير والشر تراه يتبع الحيوان، ومثل الذكاء في هذه الحال مثل الغذاء الشهي يعطي لبدن
سقيم.
إن الجماد يتحرك إلى أسفل بالطبيعة، وليس له قصد في حركته، والعمل الحيواني في النفس كالغذاء والتولد والنمو يتم بدون قصد أي يتم بالطبيعة والغريزة. أمّا العمل الإنساني فهو يصد دائماً عن تفكير وإرادة منَّا ولذلك كان في قدرتنا التحكم فيه، وعلى هذا فالغايات والعلل النهائية لا تعين ولا تحدّد إلا بالأعمال الإنسانية التي هي مدار البحث.
الفصل الثالث
بعد أن تكلم على الأعمال الإنسانية التي تحدد الغاية، وأن الغاية التي يجب أن يتوخاها المتوحد هي النفاذ إلى المعقولات أخذ يفرق بين الروح والنفس، وليس للمؤلف رأي خاص، وإنما يردد ما ارتآه الفلاسفة ثم يتطرق إلى العالم الروحاني ويرى ابن باجة أنه أربعة: العقول الفلكية، والعقل الفعّال، والعقل الهيولاني، والجزء المفكر من النفس الإنسانية بما يشتمل عليه من قوى كالغنطاسيا والخيال، والذاكرة والمفكرة. . . الخ.
أما العقول الفلكية فلا علاقة لها بالمادة، وأما العقل الفعال فهو الذي يشكل المادة ويظهرها في صور مختلفة، وأما العقل الهيولاني فهو الذي يشمل الأشياء المادية المعقولة
الفصل الرابع
في غايات أعمال الإنسان، فأعمال تخدم البدن، كالأكل والشرب واللبس، وغايتها التمتع المادي، وإتمام الشكل الجسماني ولا ينبغي إهمالها، وأعمال غايتها خدمة الروح وتشكيلها (الروح بما فيه الجزء الحيواني والمفكر) وتلك الأعمال تختلف باختلاف طبيعة الأشياء التي نقصد إليها نبلاً وخسة:(أ) فمنها ما يلذ للحس الباطني كغرور بعض الناس بارتداء الثياب الجميلة في الظاهر وهم يهملون الملابس الداخلية (ب) ومنها ما يلذ الخيال كأن يتسلح الإنسان في غير أوقات الحرب (ح) ومنها ما يقصد به التسلية والسرور كاجتماع الأحباب والألعاب، والعلاقات الشريفة بالمرأة والترفه والسكن الجميل، واقتناء الأثاث والبلاغة والشعر (د) الأعمال التي غايتها كمال العقل والفكر كأن يدرس رجل علماً لذاته كي يكمل عقله لا ليعود عليه بنفع مادي، أو كأن يقدم على الأعمال الشريفة الكريمة بدون ترقب نتيجة معينة
الفصل الخامس
إن من يقتصر على الأعمال الجسمانية يضع نفسه في صفوف الحيوان، ومن يهمل الوجود الجسماني ألبته يعمل ضد القانون الطبيعي، هذا لا يجوز إلا في حالات استثنائية حيث يكون احتقار الحياة فرضاً على الإنسان كأن يموت في سبيل الدفاع عن الوطن أو الدين، ولا يمكن أن يصل الرجل المادي إلى السعادة
وعلى المتوحد ألا يتناول من الأعمال الجسمانية إلا ما كان وسيلة في مدِّ أجله، وعليه ألا يقدم العمل الجسماني على الروحاني أبداً؛ ثم لا يأخذ من أرقى أنواع الأعمال الروحانية إلا ما كان ضرورياً للمعقول؛ ثم يتعلق في النهاية بالمعقول المطلق؛ لأنه بالعمل الجسماني يكون مخلوقاً إنسانياً، وبالروحاني يكون مخلوقاً أرفع، وبالمعقول يصير معقولاً سامياً إلهياً.
فالفيلسوف إذاً إنسان سام إلهي على شرط أن يختار من كل نوع من الأعمال صفة، وأن يختلط بأهل كل طبقة من الناس لأجل أسمى ما في كل واحد منهم من الصفات، وأن يميز نفسه عن الجميع بأعماله المتناهية في الرفعة والمجد، فإذا ما وصل الإنسان إلى الغرض النهائي، أي عند ما يفقه العقول البسيطة والعقول المفارقة يصير واحداً منها (يظهر أن هذا في الحياة الدنيا وفيه مخالفة للفارابي، ويمكن أن يسمى مخلوقاً إلهياً بحق وجدارة
الفصل السادس والسابع والثامن
على الرغم من أن الفكرة التي يرمي إليها ابن باجه في هذه الفصول غامضة كما صرح بذلك ابن رشد، وعلى الرغم من أن الفصل الثامن والأخير وجد في النسخ ناقصاً فإنا نستطيع أن نوجز ما يريده ابن باجه فيما يأتي:
إن الهيولي لا يمكن أن توجد مجرد عن صورة ما، أما الصورة فقد توجد مجردة عن الهيولي، وإلا لما استطعنا أن نتصور إمكان أي تغير، لأن التغير إنما يكون ممكناً بتعاقب الصور الجوهرية، وهذه الصور من أدناها وهي الصورة الهيولانية إلى أعلاها وهي العقل المفارق - العقل الفعال - تؤلف سلسلة والعقل الإنساني يجتاز في تكامله مراحل تقابل تلك السلسلة حتى يصير عقلاً كاملاً
وفي النفس الإنسانية قوى مختلفة فمنها ما يدرك المحسوسات ومقره (الغنطاسيا) أو الحس
المشترك، ومنها القوة المتخيلة التي تظهر في الميل الطبيعي ' والشهوة، وهذان مشتركان في الإنسان والحيوان، ومنها القوة الفكرية. وهناك نوعٌ موهوب من الناس عنده قوة أخرى لا تحتاج في إدراك الأشياء إلى برهان أو دليل، وإنما يكون ذلك بطريق الوحي والإلهام والرؤيا الصادقة، وهذان النوعان الأخيران خاصان بالإنسان
ولأجل أن يدرك الإنسان كماله يدرك أولاً الصور المعقولة للجسمانيات، ثم تصورات النفس المترددة بين الحس (القوة القوة المتخيلة)، ثم العقل الإنساني في ذاته، ثم العقل الفعال، الذي فوقه، وينتهي إلى إدراك عقول الأفلاك المفارقة، ويترقى الإنسان في هذا السلم ويصل إلى ما هو فوق طور العقل وإلى ما هو إلهي
ويقول المؤلف: (إن العقل الفعال لا ينقسم أي لا يتجزأ، وكل نوع من الكليات يوحد في العقل الفعال كوحدة، وعلى هذا فعلم هذا العقل المفارق واحد وإن كانت موضوعاته مختلفة بتعدد الأنواع، وإنما كانت متعددة لأنها تظهر في مواد مختلفة. وفي إمكان العقل بالفعل أن يقرب هذه الكليات منه ويدركها ولأجل هذا كان الإنسان أقرب المخلوقات إلى العقل الفعال. فالعقل الإنساني يصل إلى معرفة الكلي بشروق نور العقل الفعال، وكل إحساس أو تخيل غير معرفة الكلي فهو معرفة خادعة. إن العقل الإنساني يصل إلى كماله بالمعرفة العقلية لا بالخيالات الصوفية الدينية التي لا تبرأ من شوائب الحس. والنظر العقلي هو السعادة العظمى لأن غايته المعقولات كلها. وإذا كان الكلي بهذه المثابة فلا يمكن القول ببقاء العقول الإنسانية بعد هذه الحياة)
أما النفس التي تدرك الجزئيات بتخيلها لها على نحو يجمع بين الإحساس والتعقل والتي يتجلى وجودها في شهوات متعددة وأفعال متنوعة كما مر فقد تستطيع البقاء بعد الموت وتلقى الثواب والعقاب. إن العقل أو الجزء المفكر في النفس واحد في كل عاقل، وعقل الإنسانية في جملتها هو وحده الأزلي وذلك باتحاده بالعقل الفعال. وقد تأثرت الأفكار المسيحية بنظرية وحدة النفوس هذه إبان القرون الوسطى وعرفت بنظرية ابن رشد
ويقول مونك: (إن ابن باجه لا يوضح بجلاء الطريق التي تتم بها تلك الحركة السامية، وكيف يتصل العقل الإنساني والعقل الفعال العام، وقد رأينا في رسالة الوداع أنه مضطر إلى إدخال قوة فوق الطبيعية لإتمام هذا الاتصال) هي إشراق نور العقل الفعال على العقل
الإنساني.
المتوحد
والواضح عند ابن باجه هو ذلك الطريق الخلقي الذي رسمه للمتوحد والذي ينصحه فيه ألا يرتبط بالرجل المادي ولا بالرجل الذي ليس له إلا غاية روحانية نفسانية (التي تتردد بين الحس والعقل)، ولو في أرقى أنواعها، وواجبه أن يرتبط بالفلاسفة والحكماء، ولما كان هؤلاء يوجدون بقلة في بعض الأمكنة وتخلو منهم أمكنة أخرى، وجب على المتوحد أن يبتعد عن الناس قدر الإمكان، ولا يختلط بهم إلا لأجل الضروريات بمقدار ضروري، كما يجب عليه أن يعطي نفسه بأكمله لتعليمه الإلهي، وأن يضيء لمن حوله كالنور، ويهب نفسه سراً لإدراك علم الخالق كما لو كان ذلك أمراً معيباً، وعليه أن يرتاد الأماكن التي بها العلماء والحكماء إن وجدهم، وأن يجتنب الشبان القليلي الخبرة. ولا يرى ابن باجه في هذا التوحد مناقضةً لعلوم السياسة التي تقول: إن مجانبة الناس خطأ؛ ولا العلوم الطبيعية التي تقول: بأن الإنسان مدني بالطبع؛ لأن هذين المبدأين صحيحان نظرياً إذا تملك الرجال كمالاتهم الطبيعية، ولما كان هذا بادراً وجب على المتوحد الابتعاد عن المجتمع.
(بيروت)
عمر الدسوقي
بمناسبة مرور أربعين عاما على وفاة
السيدة عائشة عصمت تيمور
للأستاذ اسحق شموش
في مثل هذا الشهر (مايو) من عام 1902، فجع الأدب العربي بوفاة الأديبة الكبيرة عائشة عصمت تيمور، التي جدّدت في العصر الحديث عهد ربات الخدور بالأدب، وساهمت في النهضة النسائية العصرية بنصيب وافر وقسط عظيم
وهي تم إلى الدوحة التيمورية الكريمة التي منحت العربية ما لم تمنحه أية أسرة مصرية أخرى، لغويين وشعراء، وكتاب، وقصصيين، نهضوا بلغة الضاد وآدابها نهضة جبارة، وسعوا لرفعهما إلى مصاف سائر اللغات والآداب الراقية سعياً يبعث على التقدير والإعجاب
فالسيدة عائشة هي كريمة رب السيف والقلم إسماعيل باشا تيمور، وشقيقه اللغوي القدير أحمد باشا تيمور، وعمه القصصي الأستاذ محمود تيمور الذي يعد بحق خير خلف لخير سلف
وقد ولدت في مدينة القاهرة سنة 1256 هجرية الموافقة لسنة 1840 ميلادية، وأبدت منذ نعومة أظفارها ميلاً قوياً للدراسة، وشغفاً عظيما بالمطالعة، فتعلمت العربية، والتركية، والفارسية، وأجادت الكتابة والنظم في كل منها إجادة غير يسيرة؛ إلا أن والدتها حاولت صرفها عن الأدب إلى التطريز والنسج، ولكن بدون جدوى، فنشأ عن ذلك نزاع بينهما، وصفته عائشة في مواضع مختلفة من مؤلفاتها:
(لما تهيأ العقل للترقي، وبلغ الفهم درجة التلقي، تقدمت إليَّ ربة الحنان والعفاف، وذخيرة المعرفة والإتحاف، والدتي تغمدها الله بالرحمة والغفران، بأدوات التّطريز والنسيج، وصارت تجد في تعليمي، وتجتهد في تفطيني وتفهيمي، وأنا لا أستطيع التلقي، ولا أقبل في حرفة النساء الترقي، وكنت أفر منها فرار الصيد من الشباك، وأتهافت على حضور محافل الكتاب بدون ارتباك، فأجد صرير القلم في القرطاس أشهى نفحة، وأتحقق أن اللحاق بهذه الطائفة أوفى نعمة، وكنت ألتمس من شوقي قطع القراطيس، وصغار الأقلام، وأعتكف منفردة عن الأنام، وأقلد الكتاب في التحرير، لأبتهج بسماع هذا الصرير، فتأتي والدتي
وتعنفني بالتكدير والتهديد؛ فلم أزد إلا نفوراً، وعن صنعة التطريز قصوراً)
وعلى نقيض ذلك كان والدها يشجعها على دراسة الأدب وممارسته: (فبادر والدي تغمَّد الله بالغفران ثراه وقال لها: دعي هذه الطفيلة للقرطاس والقلم)
وقد كررت الإشارة إلى تشجيع والدها بصورة أوضح في مقدمة ديوانها التركي الفارسي، فوضعت على لسانه وهو يخاطب والدتها العبارات التالية:
(ما دامت ابنتنا ميّالة بطبعها إلى المحابر والأوراق، فلا تقفي في سبيل ميلها ورغبتها، وتعالي نتقاسم بنتينا: فخذي (عفت) وأعطني (عصمت)؛ وإذا كان لي من (عصمت) كاتبة وشاعرة، فسيكون ذلك مجلبة الرحمة لي بعد مماتي).
وقد تحقق رجاء إسماعيل باشا تيمور، فكانت (عصمت) مجلبة رحمة له، بل ومجلبة شهرة وفخر كذلك
وتزوجت (عائشة) باكراً جداً في الرابعة عشرة (1854 - 1271) من محمد بك توفيق الاسلامبولي، ورزقت منه بـ (محمود) و (توحيدة)، غير أنها رزئت بفقد هذه الأخيرة قبل أن تتجاوز الربيع الثامن عشر، فبكتها أحر بكاء، إلى أن كلَّ بصرها، وأصيبت برمد شديد لبث يختلف عليها إلى آخر حياتها
وقد رثت (توحيدة) بقصيدة رائعة، مطلعها:
إن سال من غرب العيون بحور
…
فالدهر باغ والزمان غدور
وربما كان أجود ما فيها البيت التالي:
لو بث حزني في الورى لم يلتفت
…
لمصاب قيس، والمصاب كثير
وقد جمع شعرها العربي في ديوان (حلية الطراز) كما جمع شعرها التركي والفارسي في ديوان (شكوفه). ومن آثارها النثرية مجموعة قصص على نمط (ألف ليلة وليلة) دعتها (نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال)، وأبحاث اجتماعية معروفة ب (مرآة التأمل في الأمور)
ويتسم شعرها بالنزوع إلى القديم نزوعاً قوياً، ولا سيما في تشبيهاته واستعاراته وكناياته، فاللحاظ سيوف، والخدود ورود، والقدود غصون، والأسنان درر، وباب الممدوح كعبة أولى السجود، وليس الممدوح سوى كوكب يتألق في سماء العز والمجد، أو بدر يلمع في ليالي
الشقاء والبؤس. . . الخ
والميزة البارزة في شعرها التي تجعل له قيمة أدبية، هي الصدق في التعبير عن عواطفها، وهذا الصدق أكثر ما يتجلى في مراثيها التي تبكي فيها أعز الناس لديها، وأحبهم إليها
وقد قصرت شعرها، أو كادت تقصره على أغراض ثلاثة:
1 -
(المدح): ويشكل قسماً كبيراً من شعرها، ويكاد ينحصر في خديو مصر الذي يمثل لديها الزعيم السياسي والديني معاً، الجدير بالطاعة العمياء والإعظام الذي لا يقف عند حد
ومما لا ريب فيه أنها كانت صادقة الولاء في مدحها، ولم تتخذه أداة للكسب كما كان يفعل كثير من شعراء عهدها
غير أنها أسرفت كثيراً في مدح الخديو حتى أنها لم تتورع عن رفعه إلى مصاف الملائكة، ونسب أكبر مقدار من أكرم الصفات والمزايا إليه:
لو قيل للشرف اختر قال خدمته
…
أو قيل للدهر سابق عزمه افتضحا
فالنصر عونك، والزمان مطاوع
…
والسعد عبد، والكمال صديق
ولا فرق عندها بين خديو وآخر، إذ أن مدحها للخديوية نفسها لا لشخص الخديو، وهذا هو السر في كونها مدحت الخديو سعيد والخديو إسماعيل، كما مدحت الخديو توفيق والخديو عباس؛ كأنما كل من يتسنم أريكة الخديوية يصبح أهلاً للمدح، وأي مدح!
2 -
الرثاء: وقد توفرت على الرثاء بقدر ما توفرت على المدح، وكما قصرت مدحها أو كادت تقصره على الخديو، قصرت رثاءها أو كادت تقصره على أفراد أسرتها والمقرّبين إليها، فرثت ابنتها، ورثت شقيقتها ورثت والدها ووالدتها وأستاذها الشيخ إبراهيم السقا الخ. . .
وفي رثائها أيضاً لم تتحرّج من الغلو والإسراف
عزّ العزاء على بني الغبراء
…
لما توارى البدر في الظلماء
أو:
إني ألفت الحزن حتى إنني
…
لو غاب عني ساَءني التأخير
وقد برعت في هذا الضرب من الشعر براعة فائقة، ووفقت إلى تصوير لوعتها وحزنها عندما كانت تحد بها المصائب توفيقاً عظيماً مما يدل على أنها كانت ترثي عن حرقة
حقيقية لا أثر للتكلف والتصنع فيها.
3 -
الغزل: وأكثره من الغزل الصوفي الذي يكاد يكون مقصوراً على النبي العربي محمد بن عبد الله، وقد مهدت له ب (قالت مستغيثة) أو (قالت توسلاً) وما أشبه
ومن أروع قصائدها في هذا الغزل الديني ميميتها التي مطلعها:
أعن وميض سرى في حندس الظلم
…
أم نسمة هاجت الأشواق من أضم
حيث تقول:
روحي الفداء ومن لي أن أكون له
…
هذا الفداء وموجودي كمنعدم
وما هي الروح حتى أفتديه بها
…
وهي البغاث بغاء الظلم والظلم
وتتخلل بعض قصائدها أبيات قليلة، فيها عن نفسها حديث لا يخلو من فخر وتحدٍ:
ولقد نظمت الشعر شيمة معشر
…
قبلي ذوات الخدر والأحساب
وخصصت بالدر الثمين وحامت ال
…
خنساء في صخر وجوب صعاب
كما لا يخلو من إشارة مزهوة إلى فضلها على سائر النساء اللواتي إن نظرن في المرآة فللتجمل والتزين، وأما هي:
فجعلت مرآتي جبين دفاتري
…
وجعلت من نقش المداد خضابي
كم زخرفت وجنات طرسى أنملي
…
بعذار خط أو إهاب شباب
ومع أنها شاعرة لا ناثرة فقد لجأت إلى النثر أحياناً لمعالجة بعض القضايا النسائية كقضية السفور والحجاب مثلاً التي أثارها في عهدها المصلح الاجتماعي الكبير قاسم بك أمين، إلا أنها لم تبد في هذه القضية رأياً صريحاً كما أنها لم تثبت على رأي واحد بصددها، فقد يفهم أنها حجابية من الأبيات التالية:
بيد العفاف أصون عز حجابي
…
وبعصمتي أسمو على أترابي
ما ساءني خدري وعق عصابتي
…
وطراز ثوبي واعتزاز رحابي
ما عاقني خجلي عن العليا ولا
…
سدل الخمار بلمتي ونقابي
عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت
…
صعب السباق مطامح الركاب
كما يفهم أنها سفورية من الجملة التالية:
(وأنا بين جدران الخدر كقطاط سجنها المطر، وعاقها عن الانسياب برق يخطف البصر)
وأما موقفها من قضية المرأة المسلمة، فهو موقف المحافظات المسرفات في المحافظة، ولا أدل على ذلك من بحثها (مرآة التأمل في الوجود) حيث تصطنع لسان فقهاء الإسلام لمعالجة مواضيع على جانب كبير من الخطورة:
(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم. فالرجل يقوم بأمر الزوجة مجتهداً في حفظها وصيانتها وأداء كل ما تحتاج إليه؛ ثم إن الحق لم يكتف بالحكم حتى بين السبب بقوله بما فضل الله يعني بأمور لها وفرة في العقل والدين، ولذا جعل لهم الولاية والإمامة، وجعل فيهم الخلفاء والأئمة، وميزهم في الشهادة بين الأمة، فقال في آية أخرى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)
إن الرجال أسود عزت رفعة
…
تسطو على روض العلا وتصول
لهم النضير بكل غصن مثمر
…
وسواعد للساميات تطول
حازوا المكارم تحت عزة فضلهم
…
وشهودهم بين الأنام عقول
وهي تخلص من ذلك إلى استنكار بحث الشبان حين الزواج (عن الحلي والحلل والضياع والعقار، لا عن النسب والتدين والعفة والوقار وتصب جام غضبها على الرجال الذين يتركون سلطتهم تنتقل إلى زوجاتهم، وتضرب لهم المثل التالي:
وهو أن أسداً تكاسل عن الصيد، وغله الجبن بالقيد، فأمر لبوته أن تنوب عنه، وتأتي بالفريسة بدلاً منه، فانقادت لأمره، وسارت على ما عهدته من سيره، واستمرت مدة على هذا الحال. فلما طال الشرح عليها صارت تصطاد وتأكل ما اشتهت من أطايب اللحوم ولذائد الأكباد، وتلقي إليه من فضلات ما بقي. فاستشاط الأسد غيظاً ورأى أن ذلك إهانة لوقاره، ومجلبة لعاره، فقال لها خزيت يا لكاع، كيف تأتيني بسقط المتاع، وتجسرين على أكل المطايب قبلي، وتخفضين رفعتي وتنسين فضلي؟ إن كان غلب الشره عليك، واستحيت أن تأكلي بحضرتي، فأعدي لي أطايب الطعام، وقدميها إليّ أولاً كما جرت به العادة في سالف الأيام. فضحكت اللبوة منه، وقالت قد أخطأ وهمك، وغلظ فهمك، إني لم أنس فضلك، ولم أجهل قدرك، ولكن كان ذلك مذ كنت أنت أنت وأنا أنا؛ وأما الآن فقد انعكس الحال وصرت أنا أنت، وأنت أنا، فلك علي ما كان لي عليك. فأفحم الأسد، ورجع
على نفسه باللوم رجوعاً، وآل على نفسه ألا يستعين بها على الصيد ولو مات جوعاً
وهذا المثل كالأمثلة النثرية التي تقدمته - يدل دلالة واضحة على أن صلة نثرها بالقديم وثيقة، كصلة شعرها، إن لم تكن أقوى وأشد، إذ جرت فيه على نسق المقامات وكليلة ودمنة، فأغرقته في فيض من المحسنات البديعية، اللفظية منها والمعنوية، وأفعمته بالأمثلة على ألسنة الطيور والحيوانات
وعلى كل فمما لا ريب فيه أن تأثيرها فيمن تتلمذ عليها من ذوات الحجال كان عظيما، ولا سيما في الأدبيتين النابهتين أمينة نجيب وباحثة البادية (ملك حفني ناصف) اللتين برّزتا على أقرانهما، ونعمتا بشهرة أدبية واسعة
ونحن إذ نذكر اليوم السيدة عائشة تيمور، فإننا نذكر أول من رفعت لواء الأدب من ربات الخدور في النهضة الحديثة، وأول من لجأت في العصر الأخير لبيان بنات أفكارها إلى روائع النظيم والنثير.
ايزاك شموش
أستاذ الأدب العربي الحديث بالجامعة العبرية
34 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الحادي عشر - (الخرافات)
هناك شعائر درويشية كأشكال الدعاء، وطرق الذكر لا يراعيها غير طوائف خاصة، كما توجد شعائر أخرى تقوم بها الطوائف المختلفة. ونذكر من هذه طقوس (الخلوتية) و (الشاذلية) وهما فرقتان كبيرتان لكل منهما شيخ. والفارق الرئيسي بينهما أن لكل منهما أسلوبه الخاص في الأدعية التي يرددونها صباح كل يوم، وأن السابقين يتميزون عن الآخرين بالخلوة أحياناً، ومن ثم سموا خلوتية. وهؤلاء يتلون دعاءهم قبل الفجر ويسمى (وِرْد السحر) أما دعاء الشاذلية فيقرءونه بعد الفجر ويسمى (حزب الشاذلي). وقد يعتكف الخلوتي أربعين يوماً وليلة في خلوته صائماً، من بزوغ الفجر إلى غروب الشمس طول هذه المدة. ويعتكف جماعة منهم أحياناً في خلوات مسجد الشيخ الدمرداش شمال القاهرة ثلاثة أيام وليال بمناسبة مولد هذا الولي، ولا يتناولون أثناء ذلك غير قليل من الأرز وكوبة من الشراب عند المساء. ويشغلون أنفسهم بقراءة أدعية لا يعرفها غيرهم؛ ولا يخرجون من الخلوة إلا للصلاة جماعة في المسجد، ولا يجيبون أبداً من يكلمهم إلا بقولهم:(لا إله إلا الله). ويتبع هذا النظام تقريباً أولئك الذين يعتكفون مدة الأربعين يوماً فيقضون الوقت مرددين الشهادة سائلين العفو حامدين الله.
يكاد دراويش مصر جميعهم أن يكونوا تجاراً أو صناعاً أو مزارعين. وهم لا يحضرون طقوس بعضهم إلا مصادفة؛ غير أن بعضهم لا عمل له غير الذكر في الموالد والحفلات الخاصة والإنشاد في الجنازات. ويطلق على هؤلاء لفظ (فقير)؛ ومعنى ذلك المعوز عامة، إلا أنه يطلق على الأتقياء المساكين خاصة. ويعتاش البعض من تقديم الماء إلى المارة في
شوارع القاهرة وزوار الأعياد الدينية. فيحملون الماء على ظهورهم في أباريق من الفخار أو من جلد الماعز. والقليل منهم يسلكون حياة التجول ويعيشون على الصدقات بلجاجة ووقاحة شديدتين. وبعض هؤلاء يميزون أنفسهم على طريقة الأولياء المشهورين بلبس (الدلق) أي السترة المرقعة، وحمل العصا المعلق في أعلاها قطع النسج المختلفة الألوان، ويلبس البعض الآخر ملابس غريبة مختلفة الألوان
ويتخذ بعض الرفاعية ممن لا يحترفون إخراج الثعابين من المنازل، حياة التجول في بلاد القطر مستفيدين من خرافة مضحكة أذكرها الآن: كان سي داود العزب وهو ولي مبجل من بلدة تفاهنه في الوجه البحري يملك عجلاً يقوم على خدمته. فتعود بعض الرفاعية منذ وفاته تربية العجول في بلدة هذا الولي أو مدفنه وتمرينها على صعود السلم والاضطجاع عندما تؤمر بذلك، ثم يذهب كل منهم وعجله متجولاً في البلاد لجمع الصدقات. ويسمى العجل (عجل العزب). وقد دعوت مرة أحد هؤلاء الدراويش إلى منزلي. وكان العجل - وهو الوحيد الذي رأيته - جاموساً يتدلى منه جرسان، أحدهما في طوق حول عنقه، والآخر في حزام حول جسمه. وقد صعد السلم جيداً، إلا أنه أظهر ضعف مرانه من كل الوجوه. ويعتقد العامة أن عجل العزب يجلب إلى المنزل لبركة الولي الذي سمى هذا الحيوان باسمه
وفي مصر دراويش جوالة من الترك والفرس، والى هؤلاء الدراويش تنسب صفة اللجاجة والوقاحة أكثر مما تنسب إلى القلائل من المصريين الذين يعيشون معيشتهم. ويحدث كثيراً في شهر رمضان خاصة أن يذهب درويش أجنبي إلى مسجد الحسين الذي يتردد إليه كثير من الترك والفرس، وقت صلاة الجمعة فيمر بين المصلين عندما يخطب الخطيب ويضع أمام كل امرئ قصاصة من الورق كتب عليها بعض كلمات تحث على الصدقة. وبهذه الطريقة يتناول من المصلين كلهم أو غالبهم قطعاً من ذوات الخمسة فضة أو العشرة فضة أو أكثر. ويحمل الكثير من دراويش الفرس في مصر ملعقة خشبية وطاسة مستطيلة من جوز الهند أو من الخشب أو المعدن حيث يتناولون الصدقات ويضعون الطعام. ويلبس أغلب الدراويش الأجانب ملابس خاصة تبعاً لطوائفهم. وأهم ما يميزهم لباس الرأس، وأكثر أنواعه شيوعاً ما صنع من اللبد على شكل قالب السكر المخروطي. وتتكون ملابسهم الأخرى من صدرية وسروال واسع أو آخر ضيق، أو قميص وحزام، وعباءة غليظة.
ويتظاهر الفرس هنا بأنهم سنيون. ويعتبر الأتراك أكثر الطائفتين إزعاجاً ولجاجة. وأذكر هنا خرافة أخرى هي اعتقاد المصريين والعرب عامة بأن للطيور والحيوانات لغة تتفاهم بها وتسبح بحمد الله
ومن أهم المميزات في خرافات المصريين المحدثين اعتقادهم بالتمائم والاحجبة التي يستند أكثرها على السحر، ويشتغل بكتابة هذه التعاويذ أحياناً جميع مدرسي الكتاتيب القروية تقريباً. على أنه قلما يدرس من يقوم بهذا العمل شيئاً من السحر أكثر من الحصول على بعض صيغ من الاحجبة يتألف معظمها عادة من آيات قرآنية وأسماء الله مع أسماء الملائكة والجن والرسل، أو الأولياء المشهورين يختلط بها تركيبات عددية وأشكال هندسية ويتوهم الناس أن ذلك كله خاصية خفية عظيمة
وأكثر الاحجبة اعتباراً مصاحف القرآن، وقد جرت العادة أن يحمل أتراك الطبقتين الوسطى والعليا وغيرهم من المسلمين مصحفاً صغيراً في غلاف من الجلد المزركش أو المخمل يعلقونه على الجانب الأيمن بخيط من الحرير يمر فوق الكتف الأيسر. غير أن هذه العادة لم تعد شائعة كثيراً. وقد لاحظت أثناء زيارتي الأولى أنه قلما يرى تركي فاضل من السلك الحربي لا يحمل الغلاف السابق ذكره، مع أنه كثيراً ما لا يحوي حجاباً؛ ولا يزال النساء يحملن المصحف وغيره من الاحجبة، فيضعنها في أغلفة من الذهب أو من الفضة المذهبة أو الساذجة. ويعزو المسلمون إلى المصحف وأكثر الاحجبة قوة كبيرة، ويعتبرونها حافظة من المرض والسحر والحسد وغير ذلك من البلايا
وهناك كتاب أو دَرج يجيء بعد المصحف مكانةً به سور قرآنية تكون في العادة سبعاً كسور: الأنعام والكهف ويس والدخان والرحمن والملك والنبأ أو غيرها. ويوجد حجاب آخر يوضع عادة داخل غطاء الرأس، ويعتقد أنه يقي حامله من الشيطان ومن كل جن شرير. وهذا الحجاب قطعة ورق كتبت عليها الآيات التالية:(ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم): (سورة البقرة آية 255)؛ (فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين): (سورة يوسف آية 64)؛ (يحفظونه من أمر الله): (سورة الرعد آية 11)؛ (وحفظناها من كل شيطان رجيم): (سورة الحجر آية 17)؛ (وحفظاً من كل شيطان مارد): (سورة الصافات آية 7)؛ (وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم): (سورة يس)؛ (والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد
في لوح محفوظ): (سورة البروج الآيات 20، 21، 22). وكثيراً ما تكتب أسماء الله التسعة والتسعون، في ورقة يحملها الشخص، فتجعله كما يعتقد محلاً خاصاً لرعاية هذه الصفات الكريمة جميعها. ويعتقد كذلك أن كتابة أسماء الرسول التسعة والتسعين على أي شيء تكون حجاباً كما روى الإمام علي عن النبي (ص) يبعد كل مصيبة ووباء ويحفظ من الضعف والحسد والسحر والحريق والدمار والقلق والحزن والضيق. ويضيف المسلم بعد ذكر كل من هذه الأسماء قوله: اللهم صل وسلم عليه. وتنسب مثل هذه الخصائص إلى حجاب يتضمن أصحاب الكهف واسم كلبهم. وتنقش هذه الأسماء أحياناً في قاع طاسات الشراب، وغالبا على صينية الطعام المستديرة من النحاس المبيض. وهناك حجاب آخر يظن أن له تأثيراً مماثلاً. ويتألف هذا الحجاب من أسماء مخلفات النبي وهي تتألف من سبحتين ومصحف في أجزاء غير مرتبة، ومكحلة وسجادتين ورحا وعصا وسواك وحلة والإبريق الذي كان يستعمله النبي صلعم للوضوء، ونعل وبردة وثلاث حصر ودرع ورداء طويل من الصوف، وبغله الأبيض (الدلدل) وناقته (العضباء). وتكتب أيضاً بعض الآيات القرآنية على قصاصات من الورق يحملها الناس وقاية من الشرور، واستشفاء أو اكتساباً للحب والصداقة الخ. ويحمل الكثير من المصريين المحدثين رجالاً ونساء وأطفالاً هذه الاحجبة وغيرها من أغلفة من الذهب أو الفضة أو القصدير أو الجلد أو الحرير الخ.
ومن الشائع أن ترى الأطفال المصريين يحملون احجبة ضد الحسد داخل غلاف مثلث الشكل يعلق في أعلى غطاء الرأس. وكثيراً ما يعلق على الجياد معلقات مماثلة. ويتقي المصريون الحسد بشتى الاحتياطات ويسعون قلقين لدفع نتائجه الوهمية عنهم. وقد يعبر البعض عن إعجابه بشيء إعجاباً يعتبر غير لائق فيعنفه من أزعجه هذا بقوله: (صلي على النبي) فإذا امتثل الحاسد وقال: (اللهم صلي عليه) لا يخشى شر. ومن غير اللائق أيضاً أن يعبر الشخص عن إعجابه بآخر أو بأي شيء لا يملكه بقوله: (يا سلام)(ما أجمله) ويستحسن في مثل هذه الأحوال أن يقول: (ما شاء الله) التي تشير إلى الإعجاب والخضوع لإرادة الله أو الرضا بها. فكثيراً ما يكون الأجدر بالمبدي إعجابه أن يقول ما شاء الله ويصلي على الرسول.
وقد بينت في الفصل الثاني من هذا الكتاب خوف نساء مصر من أثر الحسد على أولادهن.
والعادة في هذا البلد أن يقول من يحمل ولد غيره بين ذراعيه: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلي على سيدنا محمد، ثم يقول ما شاء الله. والشائع أيضاً أن يقول المصري عندما يبدي إعجابه بصبي:(أعوذ برب الفلق لأجلك) مشيراً إلى سورة الفلق التي تنتهي بالتعوذ من شر الحسد. وقد ينظر بعض الناس إلى طفل أو يلوح أنه يحسده فيعمد الوالدان أحياناً إلى قطعة من أطراف ملابسه فيحرقانها مع قليل من الملح. ويضيف البعض إلى ذلك الكزبرة وحجر الشب الخ ويبخران الطفل بالدخان ويذران عليه الرماد، ويجب عمل هذا على ما يقال قبيل الغروب عندما يحمر قرص الشمس
ويستعمل المصريون الشب كثيراً لمنع أثر الحسد، فيضعون على الجمر قبيل الغروب قطعة منه بحجم الجوزة تقريباً حتى تنقطع عن الفوران، ويتلو من يقوم بهذا العمل أثناء احتراق الشب الفاتحة والسور الثلاثة الأخيرة ثلاث مرات. ويبدو كما قيل أن الشب عندما ترفع من النار تتخذ شكل الحاسد، ثم يسحقها ويمزجها بقليل من الطعام يرميه إلى كلب أسود ليأكله. وقد شاهدت هذه العملية يقوم بها رجل ظن أن امرأته نظرت إليه نظرة حاسدة. وقد اتخذت قطعة الشب وقتئذ شكلا يشبه شكل النساء كثيراً فقرر الرجل أنه وضعٌ خاص تعودت عليه امرأته. إلا أن الشكل الذي يتشكل به الشب يكاد يتوقف على ترتيب الجمر ومن الصعب أن يكون هذا الشكل بحيث لا يرى فيه الخيال بعض الشبه بالإنسان - وهناك طريقة أخرى يتوهم الناس أنها تدفع تأثير الحسد وهي أن توخز قطعة من الورق بإبرة ويقول المواخز هذه عين فلان الحاسد. ويعتبر الشب حجاباً ناجعاً ضد الحسد. وقد يعلق الناس أحياناً قطعة من حجر الشب مسطوحة ومزينة بشراريب في أعلى غطاء رأس الطفل. وتستعمل الأصداف والخرز بالطريقة نفسها وللغرض نفسه. وهناك أصداف صغيرة تعتبر واقية من الحسد خاصة تعلق في عدد الجمال والجياد وغيرها من الحيوان وعلى غطاء رأس الأطفال أحياناً. ولاشك أن هذه المعلقات يقصد بها جذب العين فتمنعها من رؤية الشيء المراد حفظه من الحسد
عدلي طاهر نور
نعمة السلم
للأستاذ عبد اللطيف النشار
أكان خداع النفس للنفس أن أرى
…
جميع عباد الله أهلاً وإخوانا
أنعمة سلم تلك أم تلك نقمة
…
تَطَامُنُ إنسان يصاحب ذؤبانا
فإن تبؤ الحرب الضروس بشرها
…
فيا رب خير جره الشر أحيانا
عرفنا العدى لا بارك الله في العدى
…
وحسبك أن تتعاض بالجهل عرفانا
فيا نعمة للحرب باركت أنعماً
…
لسلم جدير أن يعمر دنيانا
ودون الرضى أن يسلم الجسم وحده
…
إذا المرء لم يسلم ضميراً ووجدانا
نعيم لعمري قد فقدناه إذ غدت
…
بقاع الثرى والماء والجو ميدانا
ودونك فلتغرس سياجاً يحوطه
…
من الشر إن أنشأت للخير بستانا
نعيم لعمري جلستي بين صبيتي
…
أحادث أزهاراً وأنشق ريحانا
وأدني إلى النعمى يقينيَ أنني
…
سألقي غداً هذا الجميع كما كانا
فلا سلم حتى يعرف المرء أنه
…
يرد إذا ما شاء ختلاً وعدوانا
أيا خضرة الزرع النديَّ تألقي
…
لهيباً وكوني يا شجيرات نيرانا
إذا ما عدا عادٍ عليك فإنما
…
تعود القوى حسناً عليك وإحسانا
كذلك نعمى السلم يُحمد غهَّا
…
تذكُرُها شوقاً إليها وتحنانا
إذا صوح الروض النضير ذممته
…
فهلا حمدت الروض إذ كان ريانا
ولولا انصراف النفس عن خُدَع المنى
…
لكان نعيماً أن نصادق أعدانا
فتوسيع آفاق المحبة مطلق
…
من النفس أحقاداً تسوء وأضغانا
أسفت على الإنسان ليس بقادر
…
على الحب إلا أن يعاديَ إنسانا
فقدنا نعيم السلم من طول حرصنا
…
عليه وحبَّا أن نوسع دنيانا
متى نستعده نستعده وحكمة
…
فنعطيَ كلاً مثلما كان أعطانا
وفي القصد إبقاء على كل نعمة
…
فلست بمعطي الود غير الذي صانا
أمِنَّا فساوينا الأحباء بالعدى
…
فيا ليتنا ننسى العدو وينسانا
حليفتنا، مدى اليمين وجددّي
…
مواثق قد ضمتك أمس وإيانا
صوالحنا في الحرب والسلم قاربت
…
عقولاً وأدنى حافز الحب وجدانا
ألست التي أخلاقها جُلُّ مجدها
…
وما أجمل الأخلاق للملك بنيانا
ونحن بني البرديِّ أقلامنا جرت
…
وما كان في دنيا الكتابة إَّلانا
سننا العهود والمواثيق سنة
…
وما كان أولانا بذاك وأحرانا
فنحن بني الشرق المضيء بنوره
…
طلعنا على الدنيا يقيناً وإيمانا
ولن يخفر الشرقيَّ عهداً وذمة
…
وقد خلق الشرقي للناس أديانا
عبد اللطيف النشار
سلميون محاربون
للأستاذ حسين الظريفي
رعا الله فتيان البلاد فإنهم
…
نسور هبوبٍ، أو ليوث وثوب
وأنهمو لا ينثنون عن المدى
…
وليسوا بهيّا ًبين كل هيوب
إذا دخلوا الهيجاء يوم كريهة
…
فهم بين طعَّان وبين ضَروب
وقاذف نار من حديد كأنها
…
رجامُ سماءٍ من بنات شَعوب
يطير بجنح الطائرات إلى المدى
…
بكل طلوع، أو بكل غروب
ويركب متن السائرات، وما له
…
بها من ونى في جَيْئَةٍ وذُهوب
مصفحة الأطراف مضبورة القَرا
…
تمج لهيباً موصلاً بلهيب
وليس بهم إن أوجب السِلم نفسَه
…
سوى كل داعٍ بينهم ومجيب
يحيّون بالريحان كل مسالمٍ
…
يخالص ودٍّ لم يكن بمشوب
وما فيهُم إلا أخو كل برَّةٍ
…
وكل طليق الراحتين وهوب
لقد كتبوا تاريخهم بدمائهم
…
على كل يومٍ بالجهاد عصيب
صحائف نصرٍ بالدماء خضيبةٌ
…
وراء حروبٍ أوصلت بحروب
وساروا على أشلائهم لرجائهم
…
ففازوا بنصر من لدنه قريب
هم النبع لطفاً والحجارة شدةً
…
ونعجز أن تأتي لهم بضريب
حسين الظريفي
البريد الأدبي
مذهب الشك قبل ديكارت
وردت كلمة للأستاذ (السيد يعقوب بكر) في العدد (463) من الرسالة يقارن فيها بين ديكارت في قوله: (أنا أشك فأنا أفكر فأنا موجود) وابن يعيش في كلمة له: (إنك إذا قلتُ: عدمتني، فمعناه علمتني غير موجود، لأنك إذا علمت كنت موجوداً وصحته على الاستعارة)
وقد أورد ابن يعيش هذه الكلمة في شرحه على مفصل الزمخشري في قواعد اللغة العربية - أوردها عرضاً وهو يناقش تركيباً من حيث معناه، ثم تركه ومضى فيما يعنيه من شرح القضايا الأخرى
فابن يعيش لم يكشف مذهباً فلسفياً، بل لم يجل بفكره أن يقف عند هذه القضية قليلاً ولا كثيراً، فكيف ينتظر منه أن يسايرها إلى غايتها ويتخذها أساساً لمنهج فلسفي؟
فليس الفرق أن هذا لم يصغ مع أنه السابق وذاك صاغ مع أنه اللاحق؛ ولكن الفرق هو أن ابن يعيش يناقش تركيباً عربياً من حيث معناه ثم يتركه إلى غيره، وديكارت درس طويلاً مختلف المذاهب الفلسفية التي تقدمته فرأى الفلاسفة عاجزين عن حل ما تصدوا لحله من المشاكل العقلية فتركهم يائساً (ألا يطفئ غلته من جداولهم). ولجأ إلى الشك بعد أن لج به اليأس، فشك في كل رأي وعقيدة في طريقي المعرفة: العقل والحواس، حتى لشك في وجوده فإذا هو مضطر أن يعترف بحقيقة لا شك فيها وهي أنه يشك أي يفكر فهو لابد أن يكون موجوداً، فوضع قاعدته:(أنا أفكر فأنا موجود) وهو لم يثبت بذلك وجود جسمه ولا نفسه بل ذاته المفكرة
ثم مضى في تفكيره على هذا الأسلوب حتى شاد فلسفة رفيعة تضيء الطريق لأصدقائها وأعدائها على السواء.
إن كان أحد قد سبق ديكارت بشيء من فلسفته - فيما أعلم - فليس ابن يعيش الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي متقدماً نحو أربعة قرون على ديكارت الذي عاش في النصف الأول من القرن السابع عشر (1596 - 1650) بل فيلسوف آخر عاش في القرون الوسطى الأوربية في عصرها الأول الذي يسمى في تاريخ الفلسفة (عصر آباء
الكنيسة وقد سبق ديكارت بأكثر من أثني عشر قرناً، وهو القديس (أورليوس أوغسطين فيلسوف المسيحية. وقد ولد عام 353م في (تجستي في شمالي أفريقية لأب وثني وأم مسيحية ملؤها الإخلاص والحماسة لدينها فنشأ وثنياً على ملة أبيه، ثم اعتنق المسيحية في الرابعة والثلاثين من عمره، فصار فارسها الأوحد الذي يناضل عنها بكل ما أوتي من قوة وبراعة؛ ورأى فيه المسيحيون إمامهم الذي إليه يرجعون في مشاكلهم فلا يذكر اسمه في مجال خلافي حتى ينحسم الخلاف في رضا واستسلام فهو الفيصل الذي لا معقب له.
قرر أوغسطين - وهو يفصل رأيه في المعرفة - أنه إذا جاز للإنسان أن يرتاب فيما تمده به الحواس من معلومات فلا يجوز له الريب فيما يزوده به العقل؛ لأنه حق ثابت، إذ الشك لا يمتد إلى شعور الإنسان باحساساته الباطنة، كما أن الشك في الاحساسات الخارجية يتضمن الاعتراف بوجود ذات تشك، لأني إذا كنت أشك، فإني أعلم بشكي أني موجود؛ فالشك إذن يتضمن الاعتراف بوجود المفكر من غير شك ولا خطاء، فإذا تشككت في كل شيء، فلن أخطئ إذ لا بد أن يكون المخطئ موجوداً.
وهكذا يمضي الفيلسوف في فلسفته فيثبت وجود الله وقدرة العقل على تحصيل المعرفة التي مصدرها الله ويبين الكيفية التي خلق الله بها العالم، ويفصّل رأيه في الروح والمادة والأخلاق وطريق الاتحاد بالله والسعادة الأخروية. وقد توفي عام 430م.
ومن مفكرينا المسلمين اثنان شكا كديكارت في كل شيء وإن ينتهيا إلى ما انتهى إليه من خلق فلسفة شاملة تفيض باليقين والإيمان من طريق العقل: أحدهما فيلسوف المعرة أبو العلاء الذي انتهت به قسوة الحياة وآلامها الملحة إلى الشك بالتشاؤم فلم يبق له إلا الإيمان بالألم كما يرى ذلك من قرأ له لرومياته ورسائله إلى داعي الدعاة ورسالة الغفران. وثانيهما حجة الإسلام الإمام الغزالي الذي انتهى الشك إلى الإغراق في التصوف كما يرى ذلك من قرأ كتابه (المنقذ من الضلال). ومما هو جدير بالالتفات هنا تشابه القديس أوغسطين والإمام الغزالي في كثير من آرائهما وحياتهما ومنزلتهما في الدين، فأوغسطين في المسيحية هو الغزالي في الإسلام، وكل منهما اضطرته ظروفه المحيطة به، والتي كانت تهدد دينه أن ينبري ليدافع عنه أعداءه فوفق في دفاعه كل التوفيق
(سمالوط)
محمد خليفة التونسي
من محام شرعي إلى قاض شرعي
حضرة الأستاذ علي الطنطاوي المحترم
السلام عليكم ورحمة الله. . . جاء في مذكراتكم المنشورة في العدد (462) من (الرسالة) المجيدة ما نصه:
(ولا بد من الرجوع إلى الحكم بالشهادات التي قد يعلم القاضي أنها شهادات زور، وأن الشهود فساق لا عدالة لهم، ولا تقبل من مثلهم شهادة، وكانت القرائن تقطع بكذبهما - والقرائن والإمارات من أسباب الحكم - كما بين ذلك ابن قيم المدرسة الجوزية في كتابه الجليل (أعلام الموقعين)؛ ولكن لا سبيل إلى الأخذ بها إلا أن تنظر (وزارة العدل) في (دمشق) في الاقتراح الذي رفعته إليها في هذا الموضوع، وتتخذه أساساً لإصلاح شامل يخلص الناس من شهود الزور. . . فكيف يهدأ بال من يغلب على ظنه؛ أو يعلم فساد البيئة، ثم يضطرون إلى الحكم بها)
ألا فليهدأ الأستاذ بالاً، وليطمئن قلباً، وليقر عيناً. . . فليس في الأرض - أو على الأقل - ليس في بلاد من بلاد الإسلام قانون شرعي أو وضعي يجبر القاضي على الحكم ببينة يعلم أنها زور، لاسيما إذا كانت القرائن تقطع بكذبها، بل حتى إذا كانت القرائن توجب الشك فيها، أو تجبره على قبول شهادات الفساق الذين لا يقبل من مثلهم شهادة. ويكفي في تعليل إبطال هذه الشهادات وعدم العمل بها أن يقال:(لم تطمئن المحكمة لهذه الشهادات فردتها)؛ وإن استؤنف هذا الحكم فسيصدق (مائة في المائة)، إذ لا تملك محكمة الاستئناف القوة على جبر القاضي بالعمل بما يراه باطلاً
وانظر - رحمك الله - كم بالغ الفقهاء في وجوب تحري القاضي وبحثه عن أحوال الشهود، حتى لو ظهر كذبهم بعد التزكية لم يعمل بشهاداتهم. فهذا من جهة الشرع؛ وأما القوانين الوضعية، فقد جعلت تقدير الشهادات عائداً لضمير القاضي وألغت التزكية - وهي بحالها الحاضرة جديرة بالإلغاء -
إذن، لا يتوقف التخلص من شهادات الزور على نظر وزارة العدل في الاقتراح الذي
رفعتموه إليها للأخذ بالقرائن والإمارات في هذا الموضوع
إنما الأخذ بالقرينة والأمارة موضعه فيما تنعدم فيه الشهادة فيكون الحق عرضة للضياع إذا لم يؤخذ بالقرينة والأمارة
ولو أن الأمر على ما ذكر الأستاذ من أن القاضي مضطر للحكم بشهادات يعلم أنها زور، لكان هذا هو الظلم الذي ليس بعده ظلم، ولما جاز للمسلمين أن يسكتوا عنه لحظة واحدة، حتى تبدل الأرض غير الأرض. . . وكيف يكون كذلك وهم - في محاكمهم الشرعية - يعملون بشريعة الإسلام. وهي وهذا ضدان مفترقان؟
نعم، بعض قوانيننا التي يجري العمل بها في المحاكم الشرعية - فيما سوى مصر - تحتاج إلى نظر وتعديل، ولكن ليس فيها هذا الظلم
وتعقيب آخر: قلتم في آخر مقالكم: (وقد فسروا حديث القاضي والقاضيين أن القاضيين اللذين في النار هما. . . الخ)؛ وهذا ليس تفسيراً للحديث، وإنما هو من صلب الحديث بلفظ آخر؛ ولفظة (في الجامع الصغير):(قاضيان في النار، وقاض في الجنة: قاض عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة؛ وقاض عرف الحق فجار متعمداً، أو قضى بغير علم، فهما في النار)
(اللد - فلسطين)
(داود حمدان)