المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 466 - بتاريخ: 08 - 06 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٦٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 466

- بتاريخ: 08 - 06 - 1942

ص: -1

‌الصفاء بين الأدباء أيضاً

للأستاذ توفيق الحكيم

كانت دعوتي إلى الصفاء بين الأدباء خالصة لوجه الأدب. فأدباء مصر البارزون الدائبون على الإنتاج لا يتجاوز عددهم العشرة مع التسامح الشديد، بينما نظراؤهم في بلد كفرنسا يبلغون أكثر من مائتين من المشهورين المنتجين، ومع ذلك نطلع على صحفهم الأدبية فلا نرى غير تكاتف وتساند على أداء رسالة الأدب والفكر. إن الفن الطويل والحياة قصيرة، وكان الأجدر بنا نحن العشرة أن نوجه صراعنا لا إلى بعضنا البعض، بل إلى الفن ومصاعبه وأسراره. إن (جوته) حتى وهو مستشار للدولة ما كان يستغني يوماً عن صديقه (شيلر) وهما يعملان في عين الفرع من الأدب التمثيلي، فكانت بينهما مراسلات لا تنقطع طول النهار على قرب الديار، جمعت في مجلدين يرى المطلع عليهما كيف أنهما كانا يتشاوران في تفاصيل القّصص الذي كانا ينشئان ويتحاوران في أمر بناء الوقائع ورسم الأشخاص، بل وفيما ينبغي أن يختار لذلك القصص من اسم وعنوان. . . كنت أحب لأنفسنا مثل هذا الصفاء الذي يخرج في جوه الفن الصافي. ولكن الأستاذ عباس محمود العقاد في مقاله (صداقات الأدباء) رد يقول إن صاحب الدعوة إلى الصفاء هو الذي بحث عن أسباب الكدر بملقاط ليخلقها خلقاً بين رجلين على أحسن ما يكون من الصفاء! فإذا صح هذا الزعم كان حقاً مما يدعو إلى الأسف بل إلى السخرية! وربما كان ظاهر الوقائع يدل على ذلك؛ ولكن هل كانت تلك حقيقة المقاصد والنوايا؟ ليس مَن واجب الأستاذ العقاد فيما أرى أن يبحث خلف أستار الظاهر، وليس من حقي أن أطالبه بالنفوذ إلى أعماق النفوس، فليكن الله وحده إذن شهيداً على ما أضمرت. وقد رأى الأستاذ العقاد أن يجزي واحدة بواحدة، فلم يفته في ختام مقاله أن يدس هو الآخر سبباً من أسباب الكدر بيني وبين الدكتور طه حسين بقوله:(إن الأستاذ الحكيم يقول بعد الإشارة إلى ثناء الدكتور طه عليه منذ سنوات: لم نسمع في غير مصر أن الناقد إذا أثنى على كتاب حسب أنه تفضل على مؤلفه ورفع شأنه من الحضيض الخ الخ). ومضي يصورني في هيئة الناكر للجميل، والأستاذ العقاد ولا شك قد فهم أني ما قصدت بإيراد هذه العبارة وأمثالها إلا مجرد إظهار الإساءة لطه حسين وهو في أوج نفوذه. فلقت ما نصه: (إن هذا الوقت هو أحب الأوقات

ص: 1

عندي لإساءته لا لإرضائه. . . وأما مشاعري الخاصة كإنسان نحو الدكتور طه فليس الظرف اليوم مواتياً للإطناب في وصفها؛ وسأختار الزمان والمكان الملائمين للإفاضة بها دون أن يحمل فعلي على غير محمله). لكن. . ما دام الأمر قد حمل على غير وجهه وسجل عليّ سبباً من أسباب الكدر المانعة من الصفاء، فهل أحجم عن العمل على إزالة الأكدار؟ وإذا كانت الظروف هي التي شاءت أن تختار الزمان والمكان الملائمين للإفاضة بما عندي، فماذا يجب أن أصنع أمام مشيئة الأقدار؟ فلأتكلم إذن ولأقص القصة كما رأيتها وعشتها. . .

الحقيقة أنها كانت قصة انتهت مع الأسف بانهيار صداقة من أعظم الصداقات التي عرفها أدبنا المعاصر. لقد كان مبدأ ظهوري في الجو الأدبي كما هو معلوم نشر (أهل الكهف) عام 1933، ولم تكن هذه الرواية بالطبع بدايتي الأولى في هذا اللون من التأليف، بل كانت ثمرة تجاريب عشرة أعوام أو يزيد سابقة على الشروع في وضعها؛ فلقد كنت قبل ذلك أكتب للمسرح المصري روايات مما يلائم جمهور تلك الأيام. فمثلت لي أربع قصص وعهد بالخامسة إلى المرحوم سيد درويش ليضع ألحانها ولكنه اختلف مع المسرح على الأجر المطلوب. وكانت هنالك فيما أذكر سادسة وسابعة لست أدري ما حدث لهما. وإني وإن كنت أوثر نسيان هذه الروايات الأولى إلا أني لا يجب أن أنكر فضلها على تكويني الفني الأول، فلقد كانت هي خير مران لي على ممارسة الحوار، ثم اتسعت آفاقي باتساع نطاق مطالعاتي في أصول هذا الفن في الآداب الأجنبية. وضاقت بي مصر فرحلت إلى فرنسا بعد أن كنت قد سجلت اسمي في جدول المحامين ومهدت أمري لحياة مجدية. ولكن أي شيطان في أعماق نفسي كان يدفعني إلى إضاعة حياتي وراء فن لم يكن له بمصر أي احترام؟ وهنالك في فرنسا قرأت كثيراً وكتبت بالفرنسية نحو أربع روايات تمثيلية مزقت الواحدة تلو الأخرى تمزيقاً عقب الفراغ منها واطلاع بعض أرباب ذلك الفن عليها. فلم أكن قد اهتديت بها إلى شيء يذكر. ولبثت في هذا الجهاد زمناً لا أجد في آدابنا العربية مرجعاً لهذا الفن ولا مصدراً محترماً يجعلني أبدأ منه أو أضيف إليه. إنما كان عليَّ أنا أن أخلق البداية خلقاً. وكتبت بعد ذلك عدة روايات من بينها (أهل الكهف) دون أن أدري أنها موفية بالغرض بعض الشيء أو قريبة من الهدف الذي أسعى إليه. وقد اشتغلت بالقضاء فأنساني

ص: 2

هذه (الخزعبلات) ودفنت مخطوطاتي في حقائبي طويلاً أتنقل بها من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية، حتى وقعت مخطوطة (أهل الكهف) ذات يوم في يد قاض مثقف من زملائي كان يذكر أيامي الماضية في مسارح القاهرة. وانتقل بالمخطوطة إلى العاصمة، ومن هناك أرسل إليَّ يقول إنه ساع في طبعها. فتملكني الدهش. ما معنى الطبع؟ ولماذا؟ وماذا يحدث إذا طبعت غير خسارة المصاريف؟ فلما أصر أصررت على ألا يتجاوز عدد المطبوع مائتين من النسخ. وهو أكبر عدد يمكن توزيعه على المعارف والإخوان. أما أكثر من هذا فلا أعرف ما أصنع به، وليس لدي مكان أخزن فيه هذه الأكداس من الورق.

ونشرت (أهل الكهف) وحدث ما يعرفه الناس. فقد قام الدكتور طه حسين يعلن في (الرسالة) بصراحة وقوة أن الأمر ليس فقط أمر كاتب وكتاب، إنما هو (باب أدبي جديد فتح في الأدب العربي. . . الخ الخ) وظلت تلك عقيدة طه حسين يناضل عنها حتى عندما عارضته بعدئذ بقولي إن الحوار الأدبي عرفه الجاحظ ووجد منه كثير في كتاب الأغاني، فقد أبى الاعتراف بذلك وأصر على اعتبار (أهل الكهف) مبدأ ظهور (الحوار الأدبي التمثيلي) باباً من أبواب الأدب العربي كما هو مقرر في الآداب الأجنبية باباً من أبوابه. ولقد كان طه حسين مخلصاً في مذهبه إلى حد اغضب الكثيرين وإلى حد استطاع معه أن يقنع صفوة من المفكرين، أذكر منهم (لطفي السيد) الذي استقبلني بعد نشر (شهرزاد) بقوله:(أنت شيخ طريقة. . . أقصد في الأدب. وطه حسين على حق. وطه بخيل وهو لا يصر هذا الإصرار إلا إذا اقنع)

تساءلت فيما مضى وأتساءل الآن مرة أخرى: هل كان في طاقتي أو طاقة إنسان فرد أن يشكر طه حسين على كل هذا؟! في الحق أن عمله كان أجل وأضخم من أن أتولى أنا وحدي شكره. لقد كان على الأدب العربي ممثلاً في رجاله وهيئاته أن يقوم بذلك. ولعل التاريخ يصنع هذا لو ثبت له أن طه مصيب

على أني في حقيقة الأمر لست أذكر ما اعتراني من شعور في ذلك الوقت، وأغلب الظن أني شغلت عن الأدب العربي وأبوابه ومذاهبه بشيء أجمل بكثير من كل هذا: هي صداقة طه حسين نفسها. فقد بعثت إليه ببرقية، وأنا لا أعرفه، غداة ظهور مقاله المشهور، أشكره فيها شكراً حاراً. ثم تركت إقليمي الذي كنت فيه وكيلاً للنائب العام وجئت مصر فلقيت طه

ص: 3

حسين ونشأت بيننا مودة كانت أرفع وأجمل من أن تعيش طويلاً. لقد لبثنا شهوراً وكأن أحدنا قد عثر على شيء ثمين بعثوره على الآخر. إن طه شخصية عظيمة باهرة. إنه من شخصيات التاريخ بلا جدال. والتاريخ فيما يخيل إليَّ فنان، يتخير أشخاصه بيده ويطبعهم بخاتمة حتى قبل أن يلبسهم أدوارهم ويدفعهم إلى مصائرهم العظمى! لقد كان حديث طه يسحرني، وشئونه تعنيني. . . لقد كان مجرد اسمه يذكر أمامي يجعل نفسي تتفتح مبتهجة كأنها زهرة مر عليها نسيم! وربما كنت أنا أيضاً أنزل من نفسه بعض هذه المنزلة. فقد كتب ذات مرة يقول:(إني أسمع اللوم لأني أحب توفيق الحكيم، وأقرأ الشتم لأني أكبر توفيق الحكيم، وأنا أبسم للوم اللائمين وأضحك لشتم الشاتمين. لأني لم أحب هذا الكاتب إلا لأنه ألهمني الحب، ولم أعجب بهذا الكاتب إلا لأنه ألهمني الإعجاب!)

لكن. . . وا أسفاه! لقد تغلب أولئك الشاتمون واللائمون آخر الأمر، وفازوا بمأربهم وأشعلوا نار الوقيعة بيننا، واضعين أيديهم على مواطن الضعف فينا، وضعف الفنان هو عزته وكرامته وإن شئت فقل غروره. . . . وهكذا لم يستطع طه حسين أن يحتفظ طويلاً بابتسامه وضحكه أمام الساعين بالسوء؛ ولم أستطع أنا أن أحتفظ باتزاني، فأنقذ المودة الصادقة، وأضحي بالعزة الكاذبة. . . وبهذا حطمنا تلك الجوهرة التي منحتنا إياها السماء. . . من أجل. . . من أجل ماذا؟

لست أدري ما حدث بعد ذلك، فذاكرتي الآن لا تسعفني، كل ما أذكر أننا حاولنا أن نرم ما تحطم. . . ولقد أقمنا معاً بعض الصيف في جبال الألب. . . فضحكنا كثيراً، ولهونا طويلاً، بل لقد ألّفنا معاً هناك كتاباً. . . ولكن. . . ولكنها مع ذلك لم تكن الصداقة الأولى. . . لماذا؟ لعل شيئاً في نفسينا لم يكن صافياً كل الصفاء، أو في نفسي أنا على الأقل. . . إني أعترف، لقد كنت أمتنع عن كل ما يؤخذ على أنه ملق أو زلفى. . . لقد كان طه حسين وقتئذ كما هو الآن شخصية ذات نفوذ، وأنا أكره إرضاء أصحاب النفوذ

أنا الذي كان ينبغي له أن يهدي إلى طه حسين كثيراً من كتبه، أو على الأقل (أهل الكهف). . . كنت أتردد في كل طبعة تصدر لهذا الكتاب أو غيره، ولم أجد في نفسي الشجاعة أو القوة على القيام بهذا الواجب الضئيل. . . لماذا؟ لأن طه من أصحاب النفوذ! هذا أيضاً ما جعلني أصمت عن التنويه بآثاره وأنا أقدر الناس على فهم ملكاته وهباته. . .

ص: 4

ولكني الآن وقد وضعت بين تهمتين: الزلفى أو نكران الجميل. . . فإني أوثر التهمة الأولى: فلقد سبق أن اتهمت بها في مجال السياسة، فلم تلبث براءتي أن ظهرت، فمن السخف أن أقيم لمثل هذه الأشياء بعد اليوم وزناً. . . لقد كادت تضيع بسببها أيضاً صداقتي (بمحمد العشماوي)، فلقد تجنبته عن عمد بلا جريرة يوم عين وكيلاً لوزارة المعارف منذ أعوام، لكنه فطن إلى الأمر، فما زال يظهر لي من المودة أضعاف ما كان يظهر من قبل، حتى اطمأنت نفسي، وأيقنت أنها صداقة حقيقية بين عقلين وروحين، لا شأن فيها للنفوذ، ولا دخل للمناصب

إن الخلق العظيم حِمل لا يقوم به غير العظماء. . .! هم وحدهم الذين أُعطوا الشجاعة والقوة على أن يسيروا قدماً نحو الجميل النبيل من الأخلاق دون أن يلتفتوا يميناً أو يساراً، ودون أن يصغوا إلى همس الهامسين وتأويل المؤولين!!

والآن، لعلي قد رددت على كلمة الدكتور طه حسين التي نشرها في (الأهرام)، ولعله اقتنع بأن الأمر لم يكن جحوداً ولكنه تردد، وهذا لا يغير من الموقف كثيراً، ولكن هذا خلقي، فليساعدني على علاجه أصدقائي!!

أنا الذي لا ينام الليل إذا استدان قرشاً حتى يوفيه، هل كنت أستطيع أن أنام طويلاً على دين مثل هذا الدين؟!

وبعد. . . فليسمح لي الدكتور طه أن أداعبه قليلاً: إنك - أيها الدكتور العزيز - قد شهرت أمري للناس هذه الشهرة الواسعة. . . ولكن. . . هل ترى وقد مضى على ذلك نحو عشرة أعوام - أن الأدب العربي قد أفاد حقّاً من ذلك شيئاً يستحق هذا العناء؟ قد تجيبني بابتسامتك الساخرة: (وما لنا وللأدب العربي؟ حسبك أنك أنت قد انتفعت يا توفيق الحكيم!)

آه. . . أيها الدكتور العزيز. . . هنا تجدني أجيبك بابتسامة حزينة: إني لم أنتفع بقدر ما أضعت، فإن الشهرة قد جاءتني حقيقة ببعض المال. . . ولكن، هل كنت محتاجاً إلى ذلك المال؟ إني لم أكن معسراً ولا فقيراً. أجاءتني بالمركز الاجتماعي؟ كلا. . . قد كنت قبلها من رجال القضاء المحترمين، ولو أني بقيت كذلك، ولا شيء غير ذلك، لظفرت بالحياة الهانئة الهادئة النافعة - على الأقل - للعدالة والناس، ولتزوجت الزوجة الصالحة، وأنجبت الأولاد البررة المفلحين. . .

ص: 5

ولكن الشهرة وما يحيط بها من الإشاعات والأقاويل والأباطيل قد حالت بيني وبين ذلك الخير؛ فبعد أن كانت تسعى إلى طلبي الأسر وأنا في القضاء تحوطني الثقة والهيبة أصبحت تنفر مني اليوم ويحملني الجميع عبء الإثبات لأقنعهم بأني محل ثقة واطمئنان! لقد جاوزت الأربعين وما أبصر بعدُ في الأفق طيف واحة مورقة في صحراء حياتي المحرقة. ما قيمة الشهرة بغير سعادة؟ وفيم الأدب والفن بغير هناء؟ إن أردت الحقيقة أيها الصديق فإن خير ما أعطيتني كانت صداقتك الأولى التي دامت شهرين. . . ثم. . . ثم إذا كل شيء بعد ذلك يتحول إلى كلمات في كلمات وهباء في هباء. . . والسلام.

توفيق الحكيم

ص: 6

‌الدكتور طه حسين يتحدث عن:

الحب الضَائع

للدكتور زكي مبارك

حين تلطّف صاحب العزة الدكتور طه بك حسين فأهدى إليّ نسخة من (دعاة الكروان) لم يفته أن يقول إنه سيعدي إليّ بعد أسابيع نسخة من (الحب الضائع)

وقد التفت ذهني إلى مدلول هذا القول، فمن عادة الدكتور طه أن يتظاهر بالتواضع، وأن يعلن أنه لا يعني ما يقول، وأن الناس لا يقبلون على مؤلفاته إلا متفضلين، فكيف حرص هذه المرة على التبشير بكتابه الجديد؟

وزرته بعد ذلك في مكتبة بوزارة المعارف لشأن من الشؤون التعليمية فأدركت من سياق كلامه أنه سيرسل إليّ كتابه الجديد يوم الخميس، فما هذا الكتاب الذي يحدثني عنه الدكتور طه مرتين قبل أن يظهر في أسواق الورّاقين؟

ثم جدّت شواغل صرفته وصرفتني عن التلافي نحو أسبوعين، فلم يُهد إليّ كتاب (الحب الضائع) إلا يوم أهديت إليه كتاب (ملامح المجتمع العراقي)، والجروحُ قِصاص!

كان من همي أن أعرف ماهيّة الكتاب الذي بشرني به الدكتور طه مرتين قبل أن يظهر في الأسواق، فكانت النتيجة أن أقرأ منه خمسين صفحة في الطريق، وأن أستأنف قراءته في العصرية لأفرغ منه قبل أن ينتصف الليل

فما جزاء المؤلف الذي يفرض علينا أن نقرأ نحو 224 صفحة في يوم واحد؟

جزاؤه أن نسوق له الحمد والثناء بغير حساب، فما تسمح الظروف بأن نجد في كل يوم كتاباً يجذبنا إليه بهذا السحر الغريب.

وما (الحب الضائع)؟

هو كتابٌ يصوّر العواطف الطبيعية في الريف الفرنسي لعهد الحرب الماضية. والكتاب ليس بجديد، لا في الروح ولا في الأسلوب، فله أمثال تعدّ بالعشرات أو بالمئات، ومع هذا فلن يقول الفرنسيون حين يُترجَم إلى لغتهم (هذه بضاعتنا رُدّت إلينا) لأن طه حسين حين يقتبس لا يفوته أن يضفي ثوب الابتكار على الاقتباس.

والمهمّ هو تنبيه القراء إلى قيمة هذا الكتاب، فمن المؤكد أن فيهم من تغيب عنه مراميه

ص: 7

على وجهها الصحيح، وقد يكون فيهم من يتصور أنه كتابٌ في الحب، والحبُّ عند الغافلين عبثُ ومزاح!

هو كتابٌ في الحب، على نحو ما يتصور أديبنا العظيم طه حسين، والحبُّ عند من يكون في مثل حالته العقلية آصرةٌ معقّدة إلى أبعد الحدود، فهي تمسّ الآباء والأمهات قبل أن تمسّ البنين والبنات، وهي تقلقل المجتمع قلقة لا يعرف مداها غير المشغوفين بدراية أهواء العقول وأحلام القلوب

والمؤلف يُجري الحديث على لسان فتاة تؤرّخ حياتها من مساء إلى مساء، بعبارات فطرية قليلة التنميق والتهويل، وهو في أثناء ذلك يُنطق الفتاة بأقوال تفصّل من العُقد النفسية أشياء وأشياء

والمتأمل يرى في الكتاب دقائق يمسها المؤلف برفق، لأنه لا يريد أن يجعل فتاته كثيرة الأستقصاء، وإن زعمت لنفسها نية الاستقصاء، وهذه إحدى النواحي الطريفة في هذا الكتاب الطريف.

فالآنسة مادلين لم تلتفت إلى دفتر اليوميات إلا بعد عصرية قضتها مع صواحب ألِفن كتابة اليوميات، ومن هذا نعرف أن المؤلف يريد النص على أن النساء ينقلن عن النساء أكثر مما ينقلن عن الرجال

ثم نمضي مع صاحبة اليوميات فنعرف أنها تعيش بين أهل جعلت فواجعُ الحرب أيامهم بؤساً في بؤس، ومع هذا يحتال المؤلف فينطق الفتاة بكلمات نعرف منها أن للشباب أحلاماً تُنسي أصحابها فواجع الحرب، فقد رأينا مادلين تداعب خيال العيش المقبل من وقت إلى وقت، برغم ما يعاني أهِلها من متاعب وكروب

وكلام المؤلف في تصوير عواطف الأبوّة والأمومة عند الفرنسيين غاية في الصدق، وهو يسوق كلامه على قلم الفتاة بأسلوب حزين، يلائم الحياة في ذلك البيت الحزين.

والواقع أن (عاطفة السَّكن) قوية عند الدكتور طه إلى أبعد الحدود. والسكن هو الكلمة العربية التي تماثل الـ في اللغة الفرنسية، فهو حين يدور حول هذا المعنى يفصِّله أجمل تفصيل، وبلا تكلف ولا افتعال

ولم يكن يدٌّ من الحديث عن الوطنية الفرنسية لعهد الحرب الماضية، فهل ينشئ المؤلف

ص: 8

خطبة على لسان تلك الفتاة؟

يكفي أن يشير إلى أن تلك الأسرة ظهرت فيها ظاهرة من جنون، وهي تطوُّع الأخ الأصغر للخدمة العسكرية قبل أن يبلغ سن الحرب، فقد كان يقول:

(صُرع أحد أخويَّ وجُرِح الآخر، وما ينبغي أن تخلو ميادين الحرب من أحدنا). وهي عبارة في غاية من القوة، وقد ساقها المؤلف في بساطة توهم أنه لا يعني ما تنطوي عليه من مقاصد وأغراض.

وهنالك نظرية أخلاقية تعرض لها المؤلف في عدة مواقف، وهي النظرية الخاصة بمواجهة الحياة، ومن رأى المؤلف أنه لابدَّ للأحياء من أن يعيشوا، وأن اجترار الأحزان مرض يجب دفعه بلا إمهال

ولا يفوت المؤلف أن ينص على ما يقع من المضارّة بين الأخ والأخت، ولا يفوته أن يجسِّم النفاق الذي يقع في البيوت عند تبادل الاستغفال بين الجيل القديم والجيل الجديد

وأقول مرة ثانية إني أريد تنبيه القراء إلى قيمة هذا الكتاب لأنه كُتِب بطريقة يغلب عليها الرمز والإيماء، وإن كان غاية في الصراحة والوضوح، عند من يساير المؤلف في أشواطه الطوال

وهل فيمن قرءوا هذا الكتاب من تنبَّه إلى نظرية دقيقة ساقها المؤلف في أسطر معدودات بالصفحة الثامنة والستين؟

في تلك الأسطر يشير المؤلف إلى أن الحيوان المتوحش يحتلّ صدر الإنسان المتحضر، ولم يفته إلا النص على أن الحضارة سلاح جديد يزيد التوحش ضراوة إلى ضراوة واستذآباً إلى استذآب

وهنالك صفحة عجيبة غريبة تذكِّر بأدب أبي حيّان التوحيدي في تشريح العواطف، وهي الصفحة الخاصة بالشوائب التي تفسد الوداد، ومن تلك الصفحة تعرف كيف جاز أن يتعرض الدكتور طه لتقلبات في المودَّات والصداقات يستفظعها منْ لا يعرف ما فُطِر عليه من توهج الإحساس

تلك الصفحة تفسر ما يقع فيه الدكتور طه من وقت إلى وقت، فهو يقطع ما بينه وبين أصدقاء لا يجود بأمثالهم الزمان، وهو قد يصل أقواماً لا يمتُّون إلى روحه بسبب قريب أو

ص: 9

بعيد، ولعله أكثر الناس ابتلاءً بالمخادعين والمرائين، لأنهم أحرص على مراعاة الظواهر من المصافين والموافين، والكاذب يسبق الصادق إلى امتلاك القلوب الخواضع لخوادع الوداد

وتلك الصفحة غاية في القوة من الوجهة الأخلاقية، فالجهل يصدنا عن مراعاة الواجب في معاملة الأصدقاء، فتنوهمهم يقبلون منا كل شيء، ويغفرون لنا جميع الذنوب، ولو عقلنا لأدركنا أن الصديق ينتظر أن يسمع منا ما يحب في كل وقت، ويرجو أن نرى سيئاته أشرف من الحسنات، وأن نعدَّه أعظم مخلوق جادت به على الأرض السماء

ومن يُسمع الصديق كلمة اللطف إذا بخلنا بها عليه؟

وما حاجة الصديق إلينا إذا صارحناه بعيوبه كما نصارح الأعداء؟

آفة الصداقة أن نعاملها كما نعامل العداوة، باسم الحرص على الشجاعة الأدبية، مع أن للصداقة حقوقاً أيسرها التغاضي عن هفوات الصديق

ونحن في الغالب نلاطف الأعداء ليصيروا أصدقاء، ونتناسى حقوق الأصدقاء، لأن ودهم مضمون، ثم تكون النتيجة أن يعدّنا الأعداء من أهل الرياء، وأن يعدنا الأصدقاء من أهل العقوق

والدكتور طه لا يلتفت إلى ما يفسد الصداقة عن عمد وإصرار، لأنه أوضح من أن يحتاج إلى التفات، وإنما يلتفت إلى الشوائب التي تصدر عن نبرات الصوت، وحركات الجسم، ولحظات الطرف، وهي (أشياء يسيرة تحسُّ وتُلحظ، ولكنها لا تكاد تثبُت للتصوير والتعبير. هي أيسر من ذلك وأدق. هي تنفذ من أعماق النفوس إلى أعماق النفوس، لا تكاد تمر على الألسنة، ولا تكاد تستقر في العقول، ولا في مظاهر الحس والشعور، وهي من أجل ذلك مؤذية مهلكة شديدة الخطر على الحب والود، وعلى ما بين الناس من صلات، هي أشبه بهذه الجراثيم التي كانت تفتك بحياة الناس وتذيع فيهم ألوان الوباء والموت دون أن يحس لها الناس وجوداً، أو يستطيعوا منها احتياطاً. ولكن العلم قد كشف هذه الجراثيم، وأخذ يعلّم الناس كيف يعرفونها وكيف يدرسونها وكيف يتقونها. . . فمتى يستكشف العلم هذه الجراثيم المعنوية التي تفسد الود وتفتك بالحب وتقطع أمتن ما يكون بين الناس من صلات؟)

ص: 10

وهذا كلامٌ نفيس جداًّ، وهو غرة هذا الكتاب النفيس

ثم تكون المشكلة الأساسية، وهي زعزعة الحب في قلوب الأزواج، وفي هذه المشكلة يتحدث الدكتور على لسان مادلين حديث الخبير بدقائق هذه الشئون، فيرينا أن عاطفة الحب تحتاج إلى رعاية موصولة، وأن المرأة قد تفقد قلب زوجها حين تُشغل عنه بشاغل شريف مثل تربيب الأبناء

وأقول: إن لهذه المشكلة جوانب مختلفة، فالذرية قد تقوّي الحب بين الزوجين، وربما جاز القول بأنها تخلِّد ذلك الحب، ولكن على شرط أن يَسلم الزوج من الفتن الخارجية، وهي فتن لم ينج منها زوج مادلين

والحق كل الحق أن المرأة لا تُشغل عن زوجها بشيء، وهي لا تحب أطفالها إلا لأنهم مظهر الصلة بالزوج، فإذا استطاعوا أن يصدوها عنه بسببٍ قريب أو بعيد، فهم لها أعداء

أما بعد، فلقصة (الحب الضائع) ذيول يضيق عنها هذا الحديث، وسيلّم بها القارئ في أناة وهدوء، فيدرك مقاصدها الصحاح، ومن المؤكد أنه سيعترف بقيمة هذه القصة من الناحية الأساسية، وهي تجسيم العُقد النفسية، وقد تكون هذه القصة فاتحة لفن جديد في أدب الدكتور طه حسين

فإن لم يكن بدٌّ من توجيه بعض المؤاخذات إلى المؤلف، فأنا أوجه إليه مؤاخذتين اثنتين: الأولى لفظية والثانية معنوية:

أما المؤاخذة الأولى، فأمرها هيّن، وهي الخطأ في بعض الأفعال، والتكلف في بعض التعابير؛ فهو قد استعمل الفعل (آويت إلى. . .) مرات كثيرة بهذه الصورة، وذلك يشهد بأنه ليس غلطة مطبعية، وإنما هو خطأ وقع فيه المؤلف؛ والصواب (أويت)، لأنه مجرد لا مزيد. . . وهو قد أكثر من عبارة (هاأنا هذه)، وهي عبارة ثقيلة لا تستحق غير الموت

أما المؤاخذة الثانية، فهي خطيرة، ولكن كيف؟

قصة (الحب الضائع) تسير في الطريق الذي يسميه الفرنسيون فهي قصة تشرح نظرية أو نظريات، والمؤلف نفسه حدثنا أن راوية الحديث ديكارتية العقل، فهل كان الأمر كذلك؟

الدكتور طه هو المنشئ الأول، فهو المسئول عن خطأ مادلين في التشريح والتعليل، ومادلين تنظر إلى المشكلات من جانب واحد، مع أن لكل مشكلة جوانب

ص: 11

قد يجيب بأنه يسوق الحديث على لسان امرأة، والمرأة ترتكز عواطفها في ناحية واحدة، فلا ترى ما عداها من النواحي، ولو بلغت الغاية في التدقيق والاستقصاء

إن أجاب بهذا فسنقول: إنه أضاع فرصة النص على أن مادلين ضلّت سواء السبيل وهي تشرح ما تعرّضت له القصة من علل وأسباب، وكان هذا النص سهلاً على المؤلف لو التفت إليه، فهل يلتفت حين ينشئ قصة ثانية على هذا النحو من الإنشاء؟

بقيت ملاحظة أخيرة، وهي ملاحظة أراها على جانب من الأهمية، وإن تمثلت في صورة جنسية، ولا حياء في الأدب ولا في الدين:

في (دعاء الكروان) جرى الحديث على لسان امرأة، وفي (الحب الضائع) جرى الحديث على لسان امرأة، فما هذا البِدع في حياة رجل من أكابر الرجال؟

وهل يمضي الدكتور طه في إيثار هذا الوضع المقلوب؟

الرأي عندي أن يسير على السُّنة الطبيعية، فيشرح في أقاصيصه أهواء الرجال، ومتاعب الرجال، وأن يترك أهواء النساء ومتاعب النساء لإحدى بنات حواء

ثم أما بعد، فقد شغلت نفسي بالدكتور طه وكتابه سهرتين كاملتين، فمن حقي عليه أن يراعى ما نبهته إليه، وله مني خالص التحية وصادق الثناء

زكي مبارك

ص: 12

(أرواح وأشباح)

تحفة فنية

للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك

خلقها صاحبها الأستاذ علي محمود طه الشاعر الملهم، فسواها صنيعاً شائقاً يمتع الأدباء أفئدتهم وألبابهم بجماله، ويكبرونه لطرافته وما فيه من أسرار الفن والشعر. . . فما هي هذه الأسرار؟

إن هذا الصنيع منظومة أنافت على أربعمائة بيت في شأن يعني الإنسانية بأسرها، لأنه يتعلق بالفطرة البشرية؛ استوحى الشاعر فيها أساطير الإغريق الشعرية، وسيرة (آدم) و (حواء)، ومعنى هبوطهما من الملأ الأعلى، وخبرة الفنان في حياة الإنسان؛ وفاض شعره من نفس جياشة ومخيلة قادرة أرته أبطاله كأنهم أحياء يسمع أصواتهم؛ وجادت قريحته في تصويرهم، حتى كان من سحر فنه أن جعل قراءه يرونهم ويسمعون حديثهم، كما رآهم في خياله

بهذه المميزات مجتمعة استحق الصنيع اسم ملحمة، وعظم شأنه في الأدب العربي

ليست ملحمة حماسية، بل هي قصة الروح والجسد في محاورة موضوعها تجاذب الرجل والمرأة وأثر الغريزة في الفن بينهما؛ وهذا موضوع جدّي بعيد الغور، أحسنَ معالجته شاعر مثقف

فما هي عناصر الشعر في هذه الملحمة؟ إنها أثمار المخيّلة والشعور وهِزَّة الإلهام. . .

إن الشاعر تخيّل الروح في عالم الأرواح، مجرّدةً يقظي لفضيلتها الملائكية؛ وَتخيّلها - على الأرض - ناعسة في طيفها منذ أمَّها وتضمَّنها ضعيفاً تصوّنها في الإنسان. . .

وتصوّر أرواحاً نزيهة تتحادث في الفن الرفيع بين الرجل والمرأة، وفي الجمال والشهوات والأهواء، وفي الخطيئة وتبعتها على الرجل هي أم على المرأة؟

واختار لهذه المحادثة روح فنان شاعر حان بعثه في الأرض، وأرواح شخصيات من عهد الآلهة والفنانين الذين تصفهم أساطير الأولين، ليدور الحديث بينها في الموضوع على المتبيِّن من سيرة الإنسانية منذ نشأتها حتى اليوم؛ وجعل رمزاً إلى القدرة سمَّاه:(صوتَ السماء)، ليهديها إلى حقيقة المقدور؛ وفرض أن حرم النزاهة والطهر في السماء مسرح

ص: 13

فسيح الأرجاء، يقع فيه ما تصوّر من انطلاق تلك الأرواح في سحرها، ومن حركاتها وإشاراتها ودلالات ملامحها في محاورتها، ومن مرور الفنَّان بها وهو في صحبة ملّك يجوب به أجواز السماء، ومن اشتراك الثاني في المحاورة، ثم الأول إلى لحظة بعثه. . .

ذلك هو الخيال الأصلي في الملحمة؛ أما فروعه وحواشيه، فهي الخيالات البلاغية في الأسلوب، وقد زان الأصل والفرع من هذا الخيال، وزاد مزيته أعلاق فكرية تتعلَّق بالغريزة والنفس والجمال وبالحياة الاجتماعية، ولطائف أدبية كالإشارة إلى مانا وفنون هاواي، وإلى خروج موسى ببني إسرائيل من مصر، وقصته في أرض مدْين

فهذه مخيِّلة قادرة اقتطفت من معارف لشاعر، وغيّرت ما كان بين المقتطف وغيره من أوضاع العلاقة والمناسبة، وأنشأت بذلك معاني وصوراً ومشاهد مثالية، أي لم توجد مجتمعة في الحقيقة وإن عُرفت أقسامها متفرقةً؛ وأحيت أبطالاً خياليين فكأنك تراهم في مُتحدّثهم، وتداخلك حساسات وخوالج من مَحضرهم؛ وأودعت الملحمة أثمار فروعها من الألمعيّة والبديهة وغيرهما. . . فمن الألمعية في تشبيهات جديدة قوله:

على مذبح الحب من قلبها

سراج يسبّح مَن لألأه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وتمشى الحياة علي نوره

وما نوره غير عين امرأة

أهلّ بقلب كفرخ القطا

يرفرف تحت جناح القدر

هو المرح الشارد المستهام

شرود الفراشة عند المساء

ومن الألمعية في إدراك ما لا يُرى في الشيء أول وهلة وهو على الحقيقة فيه:

هو الحب؟. . . لا. . . بل نداء الحياة

تلبيه أجسادنا الظامئة

ومن الألمعيّة في توحيد المتضادين:

هنالك (في الأرض) حيث تشبّ الحياة

وحيث الوجود جنين العدم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وحيث السعادة بنت الخيال

ولذتها من معاني الألم

سلا مجده الضخم في قبلة

تذل وتسعد مَن ذاقها

ومن البديهة كلمة تاييس، حين وصل الشاعر في وصفه حواء إلى هذا البيت:

ص: 14

فيا لَكِ من طفلة فذّة

ورحماك سيّدة العالَم!

وقالت بليتيس: يحاول بالشعر إغراءنا:

هو الموقف الضنك ما يتّقيه

كما يتَّقي باشق صائده

فجاءت بأبلغ ما يخطر للموافق ويناسب المقام.

أما الشعور فأثماره ما خامر الملحمة من الوجدانيات؛ وهي عنصر أساسي في كنه الشعر كالخيال: لأن الحب والبغض، واللذة والألم، أمور توجد في صميم الشهوات والأهواء والخوالج الإنسانية جميعاً، أيّا كان باعثها وكان الاسم الذي تسمى به؛ والأصل أن خاصَّة التلذذ والتألم والحب والبغض، وطلبِ كل جميل ونفع وخير، وتجنّبِ كل قبيح وضر وشر، هي خاصة في البشر أجمعين. ولذا فإن كل حسَّة تعرو نفس إنسان ويصفها وصفاً صادقاً تجدلها صدى في القلوب. وشاعرنا الملهم صادق الوصف في ملحمته. وحسبنا شاهداً وقع هذه الأبيات من وصفه حواء:

وكم ذكريات لها عذبة

أعيش عليها وأحيا بها

. . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . .

يسائلني القلب عن أمرها

وأسأله أنا عن سرها

ويعطفني في الهوى ضعفها

وأنسى بأني في أسرها

. . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . .

أحاول أفهمها مرة

فأعيا بها وبتفكيرها

ومن وصفه استنكار بليتيس في غضبتها على الفنان:

تأثَّم بالفن حتى غوى

وما الفن بالمرأة الخاطئة

. . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . .

ألم ينسم الخلد من عطرها

ألم يعبد الحسن في زهرها؟

ومن وصفه هوى الانتقام في بليتيس إذ تقول:

أدلِّه هذا الفتى

. . . . . . . . . . . .

وأغرس في قلبه زهرة

من الشر راوية نامية

. . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . .

ص: 15

إذا استافها الرجل العبقري

تحول كالحيوان الوخِم

تضج البلاهة من حوله

وينظر كالصنم المبتسم

وإذا ما تضاعفت نشاط الذهن والمخيلة، وزادت يقظة الشعور حتى تناهى نشاطهما ويقظته معاً، فذلك فوران النفس الشحوذ في الشاعر الموهوب فوراناً يضطره إلى الإفضاء بما يخامرها، فيتبعّث منها الشعر؛ وذلك هو شيطان الشاعر في حسَّة تجليه؛ وتلك هي الملكة أعظم ما تكون حرية وانطلاقاً، وأرفع ما تكون سمواً، وهي بعينها هِزَّة الإلهام الذي ابتدع هذا الصنيع الباهر

ولقد كملت صفاته الشعرية بما عليه من مسحة عقلية، لا من العقل الفلسفي الهادئ، بل من العقل الذي جعل الملحمة مشابهة للحقيقة، إذ خلت من التناقض في مواقف أبطالها وفي نفوسهم الظاهرة أحوالها من كلامهم على ما شاءت لهم الفطرة والأقدار واستقام في خيال الشاعر.

ومما زاد الملحمة مشابهةً للحقيقة إتقان المحاورة بين أبطالها، إتقاناً جعلها حية، طبيعية، شائقة، فقد أبدى كل منهم رأياً وعرض حججه، وفي كل من آرائهم شيء مقبول، أو على ظاهر من الحق؛ وكان كلامهم سؤالاً يستدعي جواباً، أو قولاً يجلب اعتراضاً أو تحذيراً؛ واستيقافاً يسلِّم صاحبه جدلاً، أو يبدي تحفظاً؛ وبياناً يحوز موافقة، أو يثير دهشة أو إعجاباً

ثم إن هذا الموضوع خرج في وحدة سالمة من الاضطراب ومن النظام الرتيب، إذ له مدخل شعري لطيف الإشارة إلى الغرض منه، ووسط يشرحَه، وخاتمة يحسن السكوت عليها؛ وأجزاؤه مرتبة ترتيباً يوثق العلاقة بينها، ويشد فيه بعضها بعضاً، ويجمع بينها ارتباط قويّ.

ومن صفات هذه الملحمة وضوح موضوعها لأن وقائعه مختارة بذوق سليم، مسلسلة سلسلة طبيعية معقولة، خاصة من كل تفصيل لا طائل وراءه، ومن كل حادث أو موقف ليس يوافق شرح هذا الموضوع أو ليس بسبيله.

وزد أن الملحمة كلها شائقة جد شائقة بما بين أجزائها من تناسب موفَّق، وبما فيها من إشارة - عن بصيرة وفي قصد - إلى الأسباب في أقوال أبطالها وفي حركاتهم، ومن تشويق إلى الوقوف على الحكم في آرائهم الشائقة في ذاتها، وإن كانت لا تحول حيلولة

ص: 16

دون تمكين البصير من حَزَره قبل الأوان؛ وأيضاً أن عنصر الوحدانيات داخل في المواضع الملائمة من الكلام المزدان - على اعتدال - بخواطر نيّرة، وعبارات أنيقة وإشارات بارعة. ومن إشارات:

دعي الوهم سافو ولا تحقري

بليتيس معجزة الشاعر

فما نتّقيه بحيّاتنا

إذا هو ألقى عصا الساحر

ومنها:

رأى جسم (حواء) فاشتاقه

فهاجت به النزوة المسكرة

. . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . .

سما جسمها وتأبّى عليه

فجرَّد في وجهها خنجره

هذه ملحمة شائقة أيضاً بأسلوب من الفصاحة والبلاغة لاءم موضوعها، وتلوَّنت لهجته تبعاً لطبيعة ما تضمن من خواطر وجدانيات؛ وهو أسلوب محكم الصياغة دقيق، إن أضيف إليه شيء - بغض النظر عن ميزان الشعر - أضعف المعنى فيه، وإن حذف شيء منه أحدث الحذف غموضاً؛ سليم من التصنع لخلوّه من مخالفة طبائع الأشياء بالغلو والإغراق في المعنى، أو بالمجازات والاستعارات البعيدة، أو بفرط المحسنات، أو بكل أولئك؛ أسلوب واضح من ذلك الوضوح الذي يكون في طبيعة ذهن المنشئ قبل أن يكون في معانيه، ويكون في معانيه قبل أن يكون في كلماته وكلمه، منسجم في ائتلاف شامل وجرس مطرب

ذلك هو الشعر المتدفق من ملكات طليقة حرّة، ومن عقلية مثقفة، في أسلوب عربي مبين، عليه طابع من الوضوح والأناقة، معتاد من صاحبه؛ وليس كشعر يتقطّر من ملكات طغت عليها الحافظة، ويقال في موضوعات لم يؤثر شيء منها في نفس الناظم، وإن كثرت في النظم كلمات ومعان يغلب وجودها في الشعر

وتلك أسرار الشعر والجمال والفن الرفيع في كتاب: (أرواح وأشباح): الذي جمع من المميزات ما جعله تحفة فنية بديعة ضُمَّت إلى كنز الأدب العربي الخالد، وبرهاناً على فضل المجدد والتجديد.

محمد توحيد السلحدار

ص: 17

‌الزكاة

هي التأمين الاجتماعي من الفقر والجوع

للأستاذ عبد العليم رزق الدهشان

(إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم قدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يصنع أغنياؤهم. ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليماً)(حديث)

(1)

ما هو (التأمين الاجتماعي)؟ (2) أساسه (3) الفرق بينه وبين الإعانة (4) تطور فكرته واتساعها (5) التأمين ضد البطالة (6) الفكرة قديماً وحديثاً (7) المشرع الإسلامي أول من حقق الفكرة بفرضه (الزكاة)(8) مقارنة سريعة بين الزكاة وبين التأمينات الاجتماعية عامة (9) حاجتنا اليوم لضريبة خاصة تفرض لصالح الفقير.

1 -

(التأمين الاجتماعي) تعبير حديث يطلقه المتشرعون على نظام من التأمين يقصد به حماية (الجماعة) ضد أخطار الطبيعة والاقتصاد التي لا يد لها فيها ولا حيلة لها لدفعها: كالموت والشيخوخة والبطالة. . . الخ. ويقصدون (بالجماعة) هنا مجموعة الأشخاص الذين اضطرتهم ظروفهم المادية إلى تكوين طبقة اجتماعية خاصة؛ ويخصصونها عادة لطبقة (العمال) لأنها الطبقة التي لا تستطيع - لفقرها - أن تدرأ عن نفسها وطأة هذه الأخطار

2 -

وفكرة التأمين الاجتماعي هي فكرة التأمين العادي، فأساس كليهما الأقساط الدورية التي تدفع لضمان التعويض عن خطر متوقع. غير أن التأمين الاجتماعي يمتاز عن التأمين العادي بأنه ليس تأمين فرد لمصلحته الخاصة، ولكنه تأمين جماعة لصالح أفرادها. فهو مبني على فكرة التضامن بين أفراد الأمة، فيساهمون جميعاً - كل على قدر سعته - في دفع أقساط هذا التأمين، وتتولى الدولة جمعها منهم على شكل ضريبة أو رسم. فيصير التأمين بذلك التزاماً اجتماعياً عاماً كالخدمة العسكرية، والتعليم الإلزامي، والالتزامات الصحية وغيرها. وبهذا لا يتحمل المؤمن لمصلحته تكاليف التأمين الاجتماعي، بل يتحملها أفراد الجماعة القادرون، برغم عدم انتفاعهم بهذا التأمين

3 -

ويختلف التأمين الاجتماعي عن (الإعانة) في أنه حق للعامل، له أن يطالب به

ص: 18

بمقتضى نصوص القانون، دون أن يكون في هذا مساس بكرامته أو امتهان لآدميته، في حين أن الإعانة ليست إلا هبة لا حق له فيها؛ فهي صدقة تمنح أو تمنع بحسب رغبة المحسن، ولو كان هذا المحسن هو الدولة

4 -

لهذا. . . أخذت التشريعات الحديثة بفكرة التأمين الاجتماعي، وطبقتها على كثير من أخطار النشاط الاقتصادي. وكان أول هذه المخاطر عناية منها (مخاطر الحرفة)، فأوجبت نوعاً من التأمين يقوم بدفع أقساطه أرباب الأعمال والدولة لصالح العمال ضد (حوادث العمل)

ثم اتسعت فكرة التأمين الاجتماعي، وشملت نواحي أخرى كثيرة، فظهر تامين ضد (المرض) يعطي العامل الحق في نفقات العلاج وتعويضه عما يخسره مدة مرضه؛ وتأمين ضد (العجز) يعطيه الحق في التعويض عما يفقده من قوته أثناء العمل، وتأمين لمصلحة (الأرامل والأيتام) ضد وفاة عائلهم، وتأمين ضد (الشيخوخة) يعطي لمن بلغ سناً معينة إيراداً سنوياً

5 -

ولم تقف فكرة التأمين الاجتماعي عند هذا الحد، بل اتسعت غايتها واتجهت حديثاً نحو نوع هام من التأمين، هو التأمين ضد (البطالة) ذلك الخطر الاقتصادي الذي يلحق بالعامل فيحرمه عمله، مصدر قوته، وعماد حياته، رغماً عنه، وبدون خطأ منه. . . فليس من العدل ولا من المنطق أن يوجد نظام للتأمين ضد أخطار وقتية، كالإصابة والمرض، دون أن يفرض نظام للتأمين ضد هذا الخطر الفادح. وخاصة بعد ظهور النظريات الإدارية الحديثة التي جهرت بأن وظيفة الحكومات لم تعد قاصرة على الدفاع عن البلاد وضبط الأمن في داخلها، وإنما عليها - إلى جانب هذا - واجب هامٌّ هو:(الإسعاف الاجتماعي) لحماية الشعب من التفكك والانهيار. و (البطالة) من أهم عوامل الاضطراب الاجتماعي، لأنها تخلق في نفوس العمال وفي الأمة بأسرها روح عدم استقرار، كما أنها تعطل قوى الدولة المنتجة وتزيد فيها نسبة الجرائم

لهذا - وبرغم الاعتراضات الكثيرة التي ووجه بها هذا النوع الجديد من التأمين - اضطر بعض الدول - أخيراً - إلى الأخذ به حماية للعامل المتعطل من مفاسد الفقر والجوع، وحماية لكيانها من انتشار الأفكار المتطرفة الهدامة. وكانت إنجلترا أسبقها جميعاً في هذا

ص: 19

المضمار، ففرضته بقانون 16 ديسمبر 1911 بينما لم تأخذ به ألمانيا إلا عام 1927. وقد قدر ما دفعته إنجلترا على هذا النوع من التأمين وحده في مدة عشر سنوات من 1920 إلى 1930 بمبلغ 640 مليوناً من الجنَيهات.

والتأمين ضد (البطالة) هو أسمى ما وصلت إليه فكرة التأمينات الاجتماعية من الرقي؛ وتحمل مزاياه - التي يجنيها العامل والدولة معاً - على الاعتقاد بوجوب تعميمه بين كافة أفراد الأمة ممن هم في حاجة إليه. على أن هذا الاعتقاد لا يعدو - حتى الوقت لحاضر - طور الفكر والخيال عند الدول التي أخذت بهذا النوع من التأمين، فما زالت هذه الدول تقصره على بعض طوائف العمال في بعض الصناعات، ولم تجرؤ أكثر الحكومات مشايعة للعمال على تعميمه لأن الحكومات تراه عبئاً على الميزانية، وإثقالاً لكاهل دافعي الضرائب من الأغنياء. . .

6 -

دع ذلك. . . ففكرة تعميم هذا النظام التي تشغل الآن عقول الدول، كانت قد شغلت قبلهم منذ أقدم العصور، عقول الاقتصاديين والفلاسفة.

ففكر (أرسطو) في وجوب التعاون بين أفراد الشعب أغنياء وفقراء في نظريته: (النقود لا تلد النقود). وتكلم (سان توما داكان) على وجوب التعاون بين الطرفين على إيجاد معيشة هادئة، في نظريته (الثمن العادل) وأخرج (لا سال) نظريته عن (الأجر الحديدي) قاصداً بها هذا المعنى. وتعتبر أفكار (سيسموندي) أساساً لفكرة التأمين الاجتماعي عندما تكلم عن وجوب تدخل الدولة لحماية العمال من المرض والبطالة. كما يعتبر (لبلاي) صاحب مذهب الإصلاح الاجتماعي، لأنه فكر تفكيراً جدياً في وجوب بناء الجماعة على أساس من الأخلاق والدين، لا على المادة وحدها، وقال بأن وظيفة الدولة بالنسبة لأفرادها، ووظيفة رب العمل بالنسبة لعماله، يجب أن تكون هي وظيفة رئيس العائلة بالنسبة لأفراد أسرته. كذلك نادى (البرت دي من) بوجوب الاحتفاظ بكرامة الإنسان، فلا يصح اعتباره آلة يركن إليها وقت الحاجة فقط. وقال (ليون بورجوا) بوجوب التضامن بين أفراد الدولة بناء على نظريته (شبه العقد)؛ فالإنسان يولد مديناً للمجتمع بعمل الأجيال السابقة، ووفاء دينه لا يكون إلا بمساعدته بقية أفراد الأمة. وظهرت حديثاً نظرية (الفائض الاجتماعي) لـ (أفتاليون) وفيها يقول بوجوب تدخل الدولة لتفرض على الأغنياء القيام بالتضحية لصالح

ص: 20

الفقراء، لا على سبيل الصدقة أو الإعانة، ولكن لأن الملكية الخاصة نوع من الامتياز تمنحه الهيئة الاجتماعية للأفراد بناء على فكرة المصلحة العامة. وعند (برناردشو) في كتابه (رأس المال) أن الذهب المودع في المصارف إنما هو قيمة معادلة لما زاد على حاجة الغنى من أرغفة الخبز وقطع الجبن واللحم، وعليه إعادة بعضها لأخيه الفقير ليستعين بها على القيام بالعمل المنتج.

7 -

هذه هي فكرة التأمين الاجتماعي وما بلغته من رقي، وتلك هي أحلام الفلاسفة والاقتصاديين عنها؛ فهل جحدها المشرع الإسلامي أو وقف منها موقف العاجز؟!. . .

الحق الذي لا مراء فيه أن المشرع عندما فرض الزكاة ركناً من أركان الإسلام الخمسة، منذ ألف وثلاثمائة وستين عاماً قد حقق بها أحلام هؤلاء الفلاسفة، وأوجد في حيز الإمكان والعمل ما عجزت عنه - حتى اليوم - أحدث الحكومات. بل إنه قد سما بالفكرة إلى درجة التقديس، وأنزلها منزل العقيدة والإيمان، وذكرها مقرونة بالصلاة في اثنتين وثمانين آية من القرآن، فجعل إعطاء الفقير والبائس والمحروم، ما يحتاجون إليه من غذاء وكساء ومأوى. . . عبادة لله. . .

8 -

ولا شك أن (الزكاة) تأمين اجتماعي عام إجباري ضد الفقر والجوع:

(1)

فهي (تأمين): لأنها مبنية على فكرة دفع أقساط حولية، لضمان التعويض عن خطر متوقع، أو واقع هو الفقر.

(ب) وهي تأمين (اجتماعي): لأنها مبنية على فكرة التضامن بين أفراد الأمة، فيساهم الأغنياء - كل بحسب ثروته - في دفع أقساطها لصالح الفقراء

وقد حدد الشرع فيصلاً بين الغنى والفقر بأشياء خمسة: منزل للسكنى، وملابس عادية ضرورية، وغذاء يوم كامل؛ وقال البعض شهراً: ودابة للركوب، وسلاح للجهاد. . . فمن زاد ماله على هذه الخمسة فهو غني تجب عليه الزكاة فيما زاد، ومن نقص ماله عنها، فهو فقير تجب له الزكاة

(ج) وهي تأمين (عام): لأنها لم تفرض لصالح فئة معينة أو طبقة معينة، ولكنها فرضت لصالح كل شخص اضطرته الظروف فأحوجته، سواء أكان عاملاً أم غير عامل.

(د) وهي تأمين (إجباري): لأنها واجب محتم على الأغنياء لصالح الفقراء، وعلى الحكومة

ص: 21

أن تتقاضاها طوعاً أو كرهاً، حتى قال عنها الخليفة الأول (أبو بكر):(والله لو منعوني غفال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه)؛ وقد قاتلهم فعلاً. . .

وبهذا تمتاز عن التأمينات الاجتماعية الحديثة التي بقيت اختيارية في كثير من الدول فرنسا. . .!!

(هـ) وهي - أخيراً - تأمين ضد (الفقر والجوع): فهي لا تقتصر على نوع معين: كالإصابة، أو المرض، أو العجز، أو الشيخوخة؛ ولكنها تشمل هذا جميعاً، كما تشمل (البطالة) كسبب أساسي للفقر والجوع، بل وتمتد إلى الأخطار الطارئة، حتى تشمل من خانته الظروف، فأصبحت ثروته مثقلة بالديوان!!

ومن انقطعت به الطريق أثناء السفر فلم يجد ما يعينه على بلوغ الغاية أو الرجوع. . .

9 -

هذه هي (الزكاة): تأمين الإسلام ضد الفقر والجوع، وركن من أركانه الخمسة، فهل فكر فيها ولاة الأمور - في دولة دينها الرسمي هو الإسلام - كحل حاسم لما يعانيه الشعب الآن من عنت وضيق وحرمان؟ أو هل فكر فيها ولاة الأمور، لا على أنها زكاة، فليست العبرة بالأسماء، ولكن بالمسميات، بل على أنها قانون يجب أن يُفرض لصالح الفقير، كما فرض في بلاد العالم المتمدينة التي تعمل حكوماتها لصالح الشعب، لا لصالح طبقة المترفين؟!

نذكر أنه في أواخر شهر مارس من العام الماضي، وجه أحد النواب سؤالاً إلى رئيس الوزراء عن (إلزام الأغنياء بدفع زكاة أموالهم. . .)؛ فأجابه دولة سري باشا بأن:(الحكومة ترى أن نظام الضرائب المتبع في مصر لا يخرج عن أن يكون صورة من صور الزكاة. . .)!! وقد قابل النواب هذه السؤال بضجة، اختلط فيها الضحك بالاحتجاج!! (هكذا): الصفحة الأولى من (أهرام) أول أبريل سنة 1941

أما ضحك نواب الأمة على هذا السؤال فإنما يذكرنا بقول المتنبي:

وكم ذا بمصر من المضحكات

ولكنه ضحك كالبكا

وأما نظام الضرائب المتبع فليس صورة من صور الزكاة في شيء. فهذه التي تجبى، لا حق للفقير فيها، ولكنه حق الدولة تتقاضاه لتصرف منه على شئونها. . . ولا يوجد لصالح الفقير، في مصر، قانون ينظم له إعانة أو يفرض له حقاً. . بل على العكس يعتبر القانون

ص: 22

طالب الإعانة متسولاً، والمتعطل ومن لا مأوى له متشرداً ومشبوهاً، ولا جزاء ولا صلاح لهؤلاء إلا السجن! وإعانة الحكومة - إن وجدت - فهي اختيارية، ويقتصر أكثرها على مكافحة الأمراض بإنشاء المستشفيات. فليس للفقير - في هذه الدولة أيضاً - أن يرغم الدولة على أن تبنى له مستشفى!

هذا. . . في حين أن (الزكاة) هي (تمليك مال معلوم لشخص معلوم) ذلك لأنها (تأمين) لا يصرف إلا للمؤمن له فحسب، أي للفقير. وقد قال أبو حنيفة:(لا يجوز أن تصرف الزكاة في بناء مسجد أو مدرسة أو في حج أو جهاد أو في إصلاح طرق أو سقاية أو قنطرة، أو نحو ذلك من تكفين ميت. . . الخ وكل ما ليس فيه تمليك لمستحق الزكاة). ذلك لأن التمليك ركن من أركانها. . .

فما أوسع الفرق إذن بين (الزكاة) وبين الضرائب الحالية في مصر!!

وبعد. . لقد سمعنا، أخيراً، رئيس الحكومة يتحدث عن (العدل الاجتماعي) ويقول:(إن مصر ملك مشاع لجميع المصريين) و (أن هناك حداً أدنى لمطالب الحياة يجب على المضطلعين بتبعات الحكم أن يوفروه للفقراء. . .)

وسمعنا من مدير الجمعية الزراعية - في الاجتماع الزراعي - أنه يعمل شخصيَّاً في مزارعه الخاصة على أساس من الإصلاح الاشتراكي مستلهماً في ذلك أحكام القرآن الكريم؛ كما سمعنا مدير التفتيش الزراعي يتساءل قائلاً: (لماذا لا نسن قانوناً يحمي العامل عند الضعف أو الشيخوخة، كما يحمي من يتركهم بعده من ذرية ضعاف. . . .؟!)

سمعنا هذا إلى جانب ما سمعناه من صيحات دعاة الإصلاح، ومنهم الدكتور الهراوي الذي اقترح لعلاج مشكلة الفقر في مصر فرض نظام التأمين الاجتماعي (!!) الذي فرض في أوروبا منذ سنة 1880

هل معنى هذا الاتجاه الحديث أن النور بدأ يتسرب إلى قلوبنا وأن الإيمان سيصل حتماً إلى ضمائرنا. . . وإننا سنؤمن. . . قريباً بما آمن به الأوائل منا، والمحدثون في أوروبا وأمريكا، من أن الله قد فرض على الأغنياء في أموالهم قدر الذي يسع الفقراء. . . وأنه لن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يصنع الأغنياء؟!!

عبد العليم رزق الدهشان المحامي

ص: 23

‌على هامش كتاب عبقرية محمد

في مجلس الأستاذ

(أبي الوفاء الشرقاوي)

(مهداة إلى الأستاذ الكبير (عباس محمود العقاد))

للأستاذ محمد حسنين مخلوف

آذنت الشمس بالمغيب ونحن في حضرة الأستاذ أبي الوفاء الشرقاوي يحدثنا فننعم بسحر البيان، وعذوبة النغم الموسيقي ينبعث من قلبه المطمئن، ويتنقل في أبراج الفكر كما تجري الشمس في مسارها المقدر منذ الأزل وإلى الأبد، رتيبة الحركة، رصينة الخطوة، فيبعث في القلوب حرارة الإيمان، ويهبها نفحة من سر الوجود، ويضفي عليها من نعيم الأمل أشعة مضيئة قوية. وأشرقت نفسه العالية، وانطلق لسانه الفصيح، وضاء جبينه الأسمر العريض، بنور العقل القوي النادر، وراح يترسل ويتبسط وهو يمد يده للِصَّفِّي الحبيب يتناول الكتاب الجديد. ودار الحديث حول المؤلف الموهوب صاحب القلم الجبار، عدة العقل الشرقي وذخره في ميدان المنطق والبيان.

قلت: لقد كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) وإن لهذا الكتاب في النفس فرحة، كفرح المسلمين بعمر بن الخطاب. . .

قال الإمام: - بعض هذا. ولنجعل كتابه فيصلاً - أرأيتم قصة شيخ جليل كان يرشد ويعلم، وكان له تلاميذ ومريدون، وكان من أحبهم إليه شاب صاحب علم وقلم، وفلسفة وبلاغة، كتب في قصة آدم عليه السلام رسالة لطيفة، حتى إذا أتمها مضى بها إلى الشيخ يستأذنه في قراءتها، فأذن له. . . وجلس الشيخ يسمع والمؤلف يقرأ. . . وكانت العبارة عالية، والأسلوب خلاباً. ومضت آيات الإعجاب الشديد تتدفق من فم الشيخ عند كل مقطع. فهو لا يخفي سروره ولا يكتم طربه من قوة السبك وإشراق الديباجة، ويهز رأسه ويدق كفاً بأخرى وهو يقول:(الله الله يا شيخ علي) وكان هذا اسم المؤلف (إن من البيان لسحراً يا شيخ علي)(هكذا العلم يا شيخ علي) واتصلت حلقة الإعجاب وتدفق الشيخ علي يتابع فصول الرسالة تلاوة حتى جاء ذكر الشجرة والثمرة. . . فوصف الأمر بأنه معصية من آدم عليه

ص: 25

السلام - وكان هذا يخالف ما يراه الشيخ الجليل - فإذا به يستمر في هز رأسه هكذا وفي دق كفيه هكذا ويصيح: (كفرت يا علي)

وطوى الشاب رسالته وعاد بها إلى حيث لا يعرف الرواة مصيرها. . .

وقام الإمام من المجلس وبقينا نحن لنقضي السهرة، وكتاب العقاد سميرنا المؤنس، نستروح نسمات الروح الأمين من ثنايا السطور والكلمات. وقد تحلقنا حول الشعلة الوهاجة المنبعثة من (عبقرية محمد) عليه السلام.

وأيم الحق لقد كانت براعة العقاد بما صورت من عظمة العبقرية المحمدية في بلاغة معجزة، ومنطق قوي، وعلم غزير. تأخذ بمجامع القلوب وتتكشف عن شخصيته الفذة

ولما كنا من غدنا لقينا الإمام في مجلسه وقد عاد يحنو على (عبقرية محمد) عليه السلام وتبددت في وجهه الوسيم تباشير الرضا. وعدنا نصل حديث الأمس فقلنا: وكيف حال صاحبنا؟! قال الإمام: لقد جاوز الشجرة والثمرة. . . وإذا كان للقصة أن تعود (فالله الله يا عقاد!)

قلنا: لقد جعل المؤلف فساد المجتمع. والبيئة والخلق وطغيان الشهوات واستشراء الضلال وانحلال الوشائج، كل أولئك إلى لهفة العقول على مخرج من ظلام الجاهلية وانحطاط الوثنية وشعوذة الكهان. . . مدعاة لتوقع رسالة نبي، أو هي إرهاص بمقدمه. . .

قال الإمام: إنه لحق. وإنه لنظر سديد ومنطق سليم. كان التوفيق رائد العقاد في تصويره وعرضه. وإنه ليحاصر شرود العقل بقوة الحجة. ويأخذ عليه المسالك ببراعة خلابة، كمهندس عبقري يوافيه السيل بالماء العمم فلا يزال به يجمعه ويركزه ويشق له المجرى العميق المستقيم، فيسيطر عليه ويحقق آية الله في إرساله. لقد بلغ المؤلف هنا غاية الروعة العقلية، وذروة القوة المنطقية

قلنا: أو نقيس فساد الماضي بفساد الحاضر؟ وضلال العقل الوثني الذي كلن يعبد الحجر والحيوان ويهيم في فيافي الظلام بين شهوة وقوة وفتنة. . بضلال العقل الوثني اليوم الذي يقدس الشهوة، ويتعبد بالرذيلة، ويهيم في فيافي الظلام بين مادية وقسوة وفتنة؟!

قال الإمام: إذا أغفلنا الفارق الجوهري بين الحالين جاز لنا أن نعقد القياس بينهما. . . ولكن إذا كانت البصيرة مشرقة والمحاجة بريئة والفهم مستقيما لم يقع هذا. . . فهم في

ص: 26

الماضي كانوا في حيرة مرهقة. . . مرضى ينقصهم طبيب ودواء؛ ولكنهم اليوم مرضى لديهم الطبيب والدواء. وإنما ينقصهم عقل رشيد وإدراك سليم

قلنا: وهل لنا أن نسأل: (وأين النبي المنتظر؟!)

قال الإمام: كيف السؤال؟! عندما كان النهر يجري دافقاً سيالاً يحمل الخصب والنماء، تركوه ينحدر إلى البحر ويتلاشى بين أمواجه. فلما تكشفت عنهم غاشية الجهل، واستيقظت فطرة الإدراك، عرفوا نظام الري والزراعة؛ ولما تدرجت فطرة الإدراك في مراقي الكمال عرفوا كيف يستغلون مساقط المياه في توليد قوة الكهرباء؛ فاتسعت آفاق النفع وتعددت صوره وأشكاله. فإذا جئنا اليوم لنهرنا هذا - وأشار إلى النيل - وأردنا أن نفيد منه كما أفاد المتحضرون من أنهارهم، ترانا نبحث عن المخترع الذي يجري التجارب، ويفني العمر ليبتكر لنا نظام توليد الكهرباء من الماء؟! أم ترانا نعمد إلى ما وصلوا إليه هناك في الغرب من نتائج في هذا السبيل؟!

قلنا: إذا كتب لنا التوفيق فنحن نطبق ما علمناه منهم

قال الإمام: كذلك أمر الرسالة المحمدية. . . كانت البشرية في فساد يتطلب علاجاً. . . فجاءت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم علاجاً، وجاءت رسالته دواء، فشرعت نظاماً وحققت نفعاً، وقررت للعمران دستوراً مكيناً، وأضاءت الشعلة المقدسة الباقية على الزمان، وتركتها في أمة الإسلام سراجاُ منيراً، ونظاماً قويماً، تسعد ما استضاءت بنورها، وتمسكت بعروتها؛ وتشقى ما بعدت عنها وجاوزت حدودها. وظلت هي على الدهر وهاجة النور خالدة الضياء. . . فإذا فسد أمر البشرية اليوم واختل نظامها وعادت إلى وثنية منحطة، وضلت في ظلام الرذيلة والشهوة والقسوة. . . لم تكن في حاجة إلى نبي جديد. . . بل في حاجة إلى عقل كهذا - ولوح بالكتاب - يعود بالناس إلى حيث يجدون الطبيب والدواء. وإلى ذهن خصيب موهوب يحسن مخاطبة العقول، وإلى رأس يحسن الفهم والتقدير ويملك البيان بمثل هذه الروعة في (عبقرية محمد). . . نبي جديد؟! لعمر الحق أتسألون جادين أم هازلين؟!

قلنا: معاذ الجلال في مجلس الإمام! إنما هي قولة أرسلها قلم في إحدى المجلات. . .

قال الإمام: خلوا عنكم هذا. . . وخذوا فيما أنتم بسبيله من هذا الجد الرصين. فإنما أنتم

ص: 27

بصدد (عبقرية محمد) صلى الله عليه وسلم يصورها لكم (عباس محمود العقاد)

ونهض الإمام من مجلسه فقد آذنت صلاة العشاء

(نجع حمادي)

(لها بقية)

محمد حسنين مخلوف

ص: 28

‌بعض ما نحب وما نكره

للأستاذ حسين الظريفي

لكل منا ما يحب وما يكره من الأشياء والأشخاص لغير علة ظاهرة لديه. وقد تمتلئ النفس بهذا الشعور إلى حد يبعث فيها الرغبة بالبحث عن العلة، فلا يكاد يجد لها وجهاً تحمل عليه، ويظل يحمل في طيات نفسه ما تنفعل به من الحب أو الكره لهذا أو ذاك، وهو في حيرة من أمر ما يملك عليه وعيه وما رواء وعيه من دفائن الشعور.

ولا يقف الشعور عند حد امتلاء النفس به، وإنما قد يفيض على اللسان ويظهر بأعمال الجوارح، فتندفع بقواه المجهولة، إلى استحسان أو استهجان ما لولاه لما بدا لنا رأي فيه. وقد نصدع أو ندع لمجرد إشباع تلك العاطفة العمياء، فتحدث لنا من المشاكل ما نحن في غنى عنه

ويظل أحدنا طول الحياة، وهو رهين حبه لهذا أو كرهه لذاك، وما حبه وكرهه إلا وليد نظرة عابرة، هي أجدر بأن تولد وتموت ولا تعقب. وقد يحاول الخلاص من هذا الشعور الخاص ولا يجد السبيل إليه

وقد يكون لهذا الشعور من الأثر في سلوكنا ما نظل رازحين تحت أعبائه مدى الحياة، فتسوء علائقنا بهذا، لا لشيء إلا لأن أول نظرة ألقيت عليه كانت وحياً بالنفرة منه. وقد يكون من الخير لنا أن نصل به ما انقطع، ولكن ذلك الشعور الغامض يأبى إلا أن يرى الشر فيه، وقد تكثر مظاهر هذا الشعور في ناحيتيه الإيجابية والسلبية، فتزداد به متاعبنا في الحياة، ونريد الخلاص ولات حين خلاص. ذلك لأن فيما وراء هذا الشعور باعثاً تطاول عليه الزمن ومحاه من الذاكرة، ولكنه بقي حياً فيما وراء الوعي، ولا يكاد يجد فرصة الظهور حتى ينساب إلى مجرى الشعور وبوقع أثره الخاص.

ويخطئ أولئك الذين يعللون هذا الانفعال بفعل الغريزة، فليس في الأمر شيء مما يتصل بالفطرة، وإنما هو من فعل التجارب الماضية. تلك التي حدثت لنا في فجر الحياة فأحدثت في نفوسنا هذا الانبساط أو الانقباض. ثم جللها الزمن برداء الصفاء من ساحة العقل الشاعر فانحدرت إلى ما وراءه واستقرت في قاع العقل الباطن حية فتية ولكنها لا تهز النفس إلا بيد ذات قفاز، ولا تظهر إلا بوجه مستعار. وذلك هو موضع الخطأ الذي وقع فيه

ص: 29

أولئك الذين قالوا بأن هذا الحب أو الكره وليد الفطرة أو الغريزة وأنه لا يمكن أن يعلل بشيء آخر

ولا ريب في أن تجارب الماضي من الكثرة بحيث لا يمكن أن تعد أو تحد، وهي بالقياس إلى هذه الكثرة تحدث في نفوسنا مظاهر الانفعال بالسرور أو خلافه، ما قد يكون له الأثر البالغ في أسلوب تفكيرنا وفي اتجاه إرادتنا في الحياة. غير أننا مما لا ريب فيه أيضاً لا نقتصر في نفوسنا على جذوة هذا الحب أو الكره الذي يبعثه ما جوزينا به على تجاربنا الماضية من خير أو شر، فإن لنا من الحب ما هو ربيب رفقة وتصاف، وما هو وليد تصافح في المصالح، وإن من الكره ما تنشئه تجربة غير ذات علاقة بتجربة بعيدة

هنالك أمر له خطره في تحليل هذه الظاهرة النفسية، هو أن عامل انبعاث هذه الظاهرة، وأعني به الحدث الماضي الذي ارتبطت به وانبعثت عنه، قد يظل كامناً وراء حاجز من الزمن فلا تمتد يد الذاكرة إليه، ولكنه لا يندر أن يبعثَ أحدنا في عامل هذا الشعور الغامض فيقع على مصدره في تجربة ماضية شبيهة بهذه التجربة الجديدة، ويرجع وملؤه الاقتناع بأن رابطة التناظر كانت علة هذا الشعور الذي امتلأت به النفس بعد أول نظرة ألقتها العين. فإذا كان في المنفعل بهذا الشعور الجديد المفاجئ من قوة التذكر وبعد النفوذ إلى ما وراء الشعور، ما يمكن به الوصول إلى موضع التجربة الماضية من قاع النفس، وأخرجها إلى عقله الواعي، فقد أمكن له التغلب على عاطفة حبه أو كرهه الهوجاء، واستطاع أن ينظر إلى الشيء بنظرة حرة مستقلة، وأن يوليه ما يستحقه من رغبة فيه أو ميل عنه. وبتحديد موقفنا الجديد من الأشياء والأشخاص نريح أنفسنا من كثير من المتاعب

هنالك أمثلة كثيرة مما نحب متأثرين بالماضي الذي أحييناه وبالتجارب السارة التي خلت فيه. فنحن نحب الربع الذي وهبناه طفولتنا ومنحناه أيام صبانا، ونحب المنزل الذي عرفناه وألفناه، وقد تتطور بنا الحياة فننتقل إلى ربوع جديدة وديار جديدة هي أمثل وأكمل من تلك التي تركنا عليها أيام الشباب، ولكنا نظل حَمَلةً لأرقى عواطف الحب والولاء لذلك الوطن الأول. لأنا نرى فيه ظل ذلك الصبا الذي خلعناه، ولأنه يذكرنا بما كان لنا فيه من تجارب سارة. فكأنما نحن وإياه مزيج واحد

كذلك نحن نحب رفيق صبانا، لأن لصحبته ارتباطاً بكثير من تجاربنا السارة الماضية؛ فإذا

ص: 30

نحن لازمناه بعد دور الشباب، كانت ملازمتنا إياه عاملاً في بعث كثير من صور الماضي الذي خلا. . . تلك الصور التي أحييناها بغفلات الشباب وملأناها بمسراته. . . فإذا هي انبعثت - ولو في الذاكرة - من جديد، كان في انبعاثها إعادة لذلك الشعور الذي رافقها أول مرة. . . وفي ذلك رجوع بالنفس إلى زمن الصبا عن طريق إثارة ما وعاه.

ونحن نحب أيضاً قراءة الكتب التي سبق أن قرأناها في فجر حياتنا وفي أيام دراستنا، لا لأنها من المعنى والمبنى ما تستحق عليه الإعادة، ولكن لأنها ترتبط في الذاكرة بسلسلة ما حدث لنا في شبابنا من الحوادث السارة، بحيث يصح الادعاء بأنا قد ننسى لحظتنا الحاضرة لنعود إلى الماضي ونحيا فيه، فنستمتع بذات اللذة التي تمتعنا بها لأول مرة، ونحيي نفس الشعور الذي أحييناه في ذلك الماضي البعيد

إن هذه الظاهرة النفسية - ولا ريب - تثبت لنا بقاء ما يحدث لنا في أيام الحياة؛ فالتجربة لا تفنى وإن تكن قد تنسى مهما ثقلت عليها وطأة الزمن في روحاته وغدواته، وإنما تنزوي في ركن قصي من أركان باطن العقل، حتى إذا حدث ما يرتبط وإياها برباط من التناظر، تحركت وهي في قاع النفس، ومدت يدها إلى رفيقها الجديد، فأوحت له بما عندها من معنى، وأحدثت في نفس صاحبه ما تفرضه عليه من شعور خاص

تلك هي العلة في أنا قد أحببنا هذا لأول لقاء، وأنا قد كرهنا ذلك بعد أول نظرة؛ فما ذلك الحب وهذا الكره إلا وليد تجربة سارة وأخرى غير سارة. فقد يكون وجه من أوليناه الحب شبيهاً بوجه رفيق لنا سبق أن أجبناه، وكان هذا علة في هذا الحب الجديد. وقد يكون صوت من كرهناه مضارعاً لصوت مربية لنا غير محبوبة، وكانت هذه المضارعة في الصوت باعثاً على نشوء كرهنا الحادث

إن في نفس كل منا كثيراً من التجارب السارة والمؤلمة، وهي تحدث في نفوسنا من المشاعر ما يتفق وإياها في جليل أو قليل، فنحب ونكره لعوامل دفينة في طيات النفس، وقد تبقى في أكثر الأحيان غير معروفة، ولكن ليس كل ما نحب وما نكره من هذا القبيل

(بغداد)

حسين الظريفي المحامي

ص: 31

‌قبل الرحيل

نشيد الأغلال!!

(إلى ذات الرداء الجازع. . .!!)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

سَئِمْتُ عَذَابَ الْحبِّ! فَلْيَمْضِ عِطْرُهُ

وَسِحْرُ أَغَانِيهِ إلى غَيْرِ رَجْعَةِ!

سَقَانِي بِمَا لَمْ يُسْقَ مِنْهُ مُحَيَّرُ

عَلَى اْلأَرْضِ. . . يُسْقَى الْمَوْتَ في كُلِّ خُطْوَةٍ

وَقَيِّدَ أيَّامي بِنَارٍ حَمَلْتُهَا

مُقَيَّدَةَ اْلأَنْفَاسِ حَوْلَ سَريرَتي!

وَأَلْقَى شَبَابِي فِي هَشِيمٍ مُفَزَّعٍ

يُبَاغِتُهُ الإِعْصَاُر مِنْ كُلِّ وِجْهَةِ. . .

فَيَا مَنْ أُنَادِيهَا. . . فَيَأَتِي جَوَابُهَا

أَنَاشِيدَ أَحْزَانٍ تُفَتِّتُ مُهْجَتِي

وَيَا مَنْ أُوَافِيهَا وَقَلْبِي مُرَفْرِفٌ

فَيَرْتَدٌّ مَخْنُوقَ اْلأَسَى كالذَّبِيحَةِ

وَيَا مَنْ أُغَنِّيهَا فَيَنْسَابُ دَمْعُهَا

كأَنَّ أَغَارِيدِي مَعِينُ الْبَلِيَّةِ

وَيَا مَنْ يُحِبُّ الْقَلْبُ. . . دُنْيَاكِ طَلْقَةٌ

فَخَلِّى بَقَايَا الْحُبِّ تُبْلِى بَقِيَّتِي!

هَبِينِي انْطِلَاقَ الرُّوحِ. . . إِنَّ صَبَابَةً

مِنَ اْلأُفُقِ اًلأعْلَى تُنَادِي حُشَاشَتِي

عَبَدْتُكِ حَتَّى لَمْ أَدَعْ لِمُتَّيمٍ

عَلَى هذِهِ الدُّنْيَا خَيَالاً لِنَشْوَةِ. . .

سَلَي الْعُشْبَ. . . هَلْ خَمْرُ اْلأَصِيلِ تَدَفَّقَتْ

لِغَيْرِ خُطَانَا فَوْقَهُ كُلَّ زَوْرَةِ؟

سَلِي الرِّيحَ. . . كَمْ مَرَّتْ بنَا وَهْيَ زَامِرٌ

يُرَنِّحُ باْلأَنْفَاسِ نَايَ (الْجَزِيرَةِ)؟

لَهَا زَجَلٌ دَامِي الرَّنِينِ كأَنَّمَا

تُذِيعُ شِكاَيَاتِ الزَّمَانِ الْخَفيَّةِ

أَدَارَتْ كُؤَوساً أَتْرَعتْهَا بِحُبِّنَا

غَرَاماً، وَطَارَتْ لِلضِّفَافِ الْبَعِيدَةِ. . .

هَبِينَا رِيَاحاً يَا رِيَاحُ! وَسَافِري

سِرَاعاً بِنَا نَحْوَ الْمَغَانِي السَّعِيدَةِ

شَقِينَا عَلَى الدُّنْيَا فَلَمْ نَرَ فَوْقَهَا

سِوىَ خُطُواتٍ حَائرَاتِ التَّلَفُّتَ

أَلَا لَيْتَ هذَا الْعُمْرَ كأْساً، وَحُبَّنَا

رَحِيقاً، فَنَحْسُو الْحُبَّ حَتَّى الثُّمَالَةِ!!

هَبِينِي انْطِلَاقَ الرُّوحِ. . . إِنِّي مُصَفَّدٌ

يُجَرَّعُ مِنْ وَهْمِ الْهَوَى وَهْمَ خَمْرَةِ. . .

أَدُورُ بِعَيْنَيْ تَائهٍ فَأَرَى الصِّبَا

ظَلَاماً شَقِيَّا فِي لَيَالٍ شَقِيَّةِ

وَأَسْكَرُ. . . لَا مِنْ أَيِّ خَمْرٍ! وَإِنَّمَا

غَرَامُكِ وَاْلأَشْعَارُ أَذْهَلْنَ يَقْظَتِي!!

ص: 33

أَرَاكِ فَيَهْتَاجُ اْلأَسَى في سَريرَتِي

كَمَا هَاجَتْ الذِّكْرَى بِنَفْسٍ حَزِينَة

بِعَيْنَيْكِ مَعْنىً لَسْتُ بَالِغَ سِرِّهِ

وَلَوْ قَادَ نُورُ الْغَيْبِ أَسْرَارَ نَظْرَتِي

رَحِيقٌ بِكأْسٍ؟ أم سُكُونٌ بِوَاحَةٍ؟

وَرُؤْيَا بِفَجْرٍ؟ أم صَلَاةٌ بِكَعْبَةِ؟

وَفِي وَجْهِكِ النَّشْوَانِ عِطْرُ صَبَابَةٍ

يُذَكِّرُ أَحْلَامِي بِطُهْرِ النُّبُوَّةِ

وَصَوْتُكِ أم ذِكْرَى حَنِينٍ مُرَجَّعٍ

يُدَنْدِنُ فِي قَلْبٍ غَرِيبٍ مُشَتَّتِ؟

أُحِسُّ بِهِ فِي كُلِّ فَجٍ بِخَاطِرِي

صَدَى قُبْلةٍ حَيْرَى إلَيَّ تَهَادَت

رَفِيفٌ بأَيْكٍ؟ أمْ نَشِيدُ عَلَى فَمٍ

إِلَى الْيَوْمِ لَمْ يَخْفِقْ صَدَاهُ بِنَبْرَةِ؟

سَرَقْتِ حَيَاةَ الْمَوْجِ، طَوْراً وَدِيعَةُ

كَحُلْمٍ حَزِينٍ، أو تَبَسُّمِ طِفْلَةِ

وَطَوْراً هَدِيرُ الْبَحْرِ مِنْكِ ارْتِعَاشُهُ

كأَنَّكِ بَحْرٌ مِنْ شَبَابٍ وَفِتْنَةِ!

وَصَدْرُكِ لَوْ يَدْرِي الْهَوَى وَهْوَ قَاتِلِي

أَمَانٌ لِرُوحِيِ مِنْ رِيَاحِ الْمَنَّيةِ

نَشيدٌ بِهِ لْحَنَانِ مِنْ قَلْبِ مِزْهَرٍ

يَدُ اللهِ كاَنَتْ فِيهِ أَقْدَسَ رِيشَةِ

وَطَيْرَانِ فِي أَيْكٍ زَوَى الْخُلْدُ عِطْرَهُ

فَحُرِّمَ لَا يَسْرِي بِهِ طَيْفُ نَسْمَةِ

وَحُلْمَانِ. . . لَكِنْ مِنْ لَهِيبٍ وَنَشْوَةٍ

غَرِيقَانِ فِي الرُّؤْيَا بِأَطْهَرِ غَفْوَةِ!

وَذَاتُكِ فَجْرٌ فِي لَيَالِيَّ هَائمٌ

يُبَارِك باْلأَنْوَارِ مِحْرَابَ عُزْلَتِي

تنزَّهَ عَنْ قَيْدِ الزَّمَانِ، فَعُمْرُهُ

خُلُودٌ مُضِيءٌ فِي الضُّحَى وَالْعَشِيَّةِ

وَثَغْرُكِ يَا وَحْيَ اْلأَنَاشِيِد رَحْمَتِي

إِذَا ظَمَأُ اْلإلْهَامِ أَشْعَلَ غُلَّتِي

غِنَائي، وَخَمْرِي، وِانْتِعَاشِي، وَسَكْرَتِي

وَسِحْرِي، وَشِعْرِي، وَابِتَهالِي، وَسَجْدَتِي

تَمَنَّعَ حَتَّى كاَدَ لَوْ خَطَرَتْ بِهِ

بَنَانُكِ يِسْقِيهَا عِتَابَ الْقَدَاسَةِ!

كأَنِّي بِهِ نَبْعٌ مِنَ النُّوِر وَالْهَوَى

تَخَّيرَ لِلْحِرْمَانِ أَمْنَعَ ذِرْوَةِ

هَبِيِنِي شُعاَعاً فِي الضُّحَى رَفَّ حَوْلَهُ

وَصَلَّى وَلاقَى اللهُ فِي خَيْرِ بُقْعَةِ. . .

سَلَاماً نَجِىَّ الرُّوحِ يَا طَيْفَ رُوحِها

إذا هِيَ أَشْقَاها هَوَانَا فَمَلَّتِ

تَظَلُّ تُصَافِيني إذا صَدَّ نُورُها

وَتَحْنُو إذا ازْوَرَّتْ دَلالاً وَتَاهَتِ

أُرِيدُ لأِنْسَاها. . . فأَلقَاكَ في دَمِي

نَبِيّاً مِنَ الذِّكْرَى عَتِيَّ الرَّسَالِة

تُشَعْشِعُ بِاْلأَحْلَامِ رُوحِي وَفي الْكَرَي

تُفَجِّرُ مُوسِيقَا الْحَنَانِ الشَّجِيَّةِ. . .

سَلَاماً حَبِيبَ الرُّوحِ. . . يَا طَيْفَ رُوحِها

أَغِثْ شَجَنِي، وَارْحَمْ شَبَابِي وَعَلَّتِي!

ص: 34

أَعِنِّي عَلَى نِسْيَانِهَا. . . وَامْضِ طَائِراً

يَعيِشُ عَلَى ذِكْرَى الْهَوَى في الْخَمِيلَةِ

تَرَكْتُ لَكَ الْماَضي رَبِيعاً مُقَدَّساً

فأَيَّانَ تَطْرِقْ فِيِه تَسمَعْ تَمِيمَتِي

فَفِيِه جَلَالٌ مِثْلماَ فِيكَ خَالِدٌ

وَفيهِ كما فِيهَا عَوَالِمُ هَيْبَةِ

وَفِيِه رُبىً خُضْرُ الظِّلَالِ عَوَارِفٌ

بِسِرِّ هَواناَ في شَذَى كلِّ زَهْرَةِ

فَطُفْ مِثْلمَا طُفْنَا زَماناً بِساَحِهِ

وَذُقْْ فيِهِ طَعْمَ السِّحْرِ مِنْ كلِّ ذَرَّةِ

وَنَاجِ طُيُوراً لَمْ يَزَلْنَ بِأُفْقِهِ

يُرَتِّلْنَ تَوْرَاةَ الْهَوَى كلَّ لَيْلَةِ

وَحَوِّمْ عَلى غُذْرَانِهِ تَلْقَ عِنْدَها

أَمَاسِيَنَا سَكْرَى عَلَى كلِّ ضِفَّةِ

وَعَلِّمْنِيَ السُّلْوَانَ إِنْ كُنْتَ سَالياً

فإِنِّيَ عَنْهُ في عَماءٍ وَضَلْةِ

ظَلَلتُ عَلَى نَارِي أُرَاوِدُ طَيْفَهُ

فَيَخْفَي وَيَرمِيني بِنَارٍ جَدِيدَةِ!

فيَا رَبَّةَ اْلأَحْلَامِ فُكِّي وَثَاقَها

وَلا تَحْسبِيها غَيْرَ رُؤْيَا جَمِيلَةِ

تُريديِنَ أَسْرِى في الْهَوَى، وَأَنَا الَّذِي

تُحَطِّمُ أَغْلَالَ الزَّمَانِ سَكيِنَتِي!

أَلَا أَطْلِقِينِي للسَّماءِ، وَحَلِّقِي

إِذا شِئْتِ في دُنْيَا خَيَالي الرَّهِيَبةِ

غَدَوْتُ رُمَاَداً أَنْتِ سِرُّ انْطفَاِئهِ

وَأَنْتِ به سِرُّ يُخِّلدُ جَذْوَتي. . .

أَلَا مَنْ لِطَيْر في رَوَابيكِ هَائمٍ

وَيَشْتَاقُ لِلْحِرْمَانِ فِي كل لْحَظَةِ!

هَبِيهِ لِصَحْرَاءِ اْلأَسِى، فَلَرُبَّما

يُضِيءُ مِنَ اْلأَحْزَانِ نُورُ الْحَقِيقَةِ!

محمود حسن إسماعيل

ص: 35

‌البريد الأدبي

صاحب اللحية البيضاء

1 -

سيدي الفاضل رئيس تحرير الرسالة الغراء

صورت لنا في عدد الرسالة الماضي بقلمك الممتاز صورة صادقة حية لمجرم بالطبع الذي نادى بوجود أمثاله العبقري الفذ لمبروزو إذ يقول إن عدداً كبيراً من المجرمين معرضون حتماً لارتكاب الجرائم إذ يولدون وتولد معهم غرائز سيئة تحول بينهم وبين المعيشة الصالحة، وما يستطيعون لنزعات الشر مقاومة. ويتميز هذا المجرم بصفات خَلقية وخُلقية: فهو قصير القامة كذي اللحية البيضاء، صغير الجمجمة؛ ضيق الجبهة، ناتئ عظام الخدين، دقيق الشفتين، غائر العينين، مفرطح الأذنين، كبير الفك الأسفل، بليد الحس الأدبي

ولئن فشلت نظرية هذا الجهبذ فما كان ذلك إلا لأنهم خشوا منها على الأخلاق، فما دام المجرم يعلم أن الجريمة مقدرة عليه كقسمة الأرزاق، مات ضميره واندفع كالتيار العرم يكتسح أمامه كل شيء، ولا يصبح لكلمات العدالة والجزاء والقصاص قيمة ما، ومعنى ذلك الفوضى المطلقة. على أن علماء الوراثة بما قاموا به من دراسات فنية وإحصائية قد أقاموا الدليل على وراثة صفات الإجرام من جيل لجيل تذكيها فساد البيئة وانحطاط الوسط الاجتماعي

فليتك يا سيدي المحترم ترشدنا نحن أعضاء معهد الدراسات الجنائية العليا إلى هذه الشخصية النادرة. فما وجدنا طيلة دراستنا بالسجون المصرية والإصلاحيات إلا إجراماً مكتسباً؛ فلعلنا نجد في ذي اللحية البيضاء ما يؤيد نظرية العالم الإيطالي

عباس فهمي محمد بدر

بالمعهد الجنائي

(الرسالة):

الصفات التي ذكرها الكاتب الفاضل تنطبق على ذي (اللحية البيضاء)، وهو الآن سجين بمركز طلخا، ومن الممكن زيارته فيه

ص: 36

2 -

سيدي الأستاذ الكبير رئيس التحرير

وبعد فأمر صاحب (اللحية البيضاء) موضوع حديثكم الشيق في الرسالة الماضية ليس بخاف على أهل العلم، فهذا الرجل يشكو إغراقاً في تعويض نقص، وهو علة نفسانية تنشأ مع من تجوهلت شخصيته في طفولته بتحكم الوسط الذي نشأ فيه فحد ذلك من التمتع بالقوة في كافة مظاهرها، وهي غرض كل كائن حي، ونتيجة هذا الحد أن القوة النفسية المحرومة من العمل تلجأ إلى الإغراق في إظهار كيانها لإثبات وجودها المنكور عليها. فالإجرام في ضوء علم النفس الحديث هو تعويض نقص تعويضا مغرقاً

وكان رأي لمبروزو في أوائل هذا القرن أن الإجرام استعداد وراثي، ولكن علم النفس الحديث لا يميل للأخذ بهذا الرأي الآن؛ ويرى أن التربية في سني حياة الطفل الست الأولى مصدر كثير من العلل النفسانية والاجتماعية

على أن هناك تعويضاً طبيعياً: فالأصم الذي تقعده أذنه عن إدراك ما يناله غيره تراه ينزع إلى تعويض هذا النقص بالنشاط في ناحية أخرى. وهنا يكون النبوغ عادة

قال أناتول فرانس مرة: إن نابليون كان متهماً في رجولته، فأشعل الحرب في كل أوربا إعلاناً لرجولته. ومثل هذا القول يقال في كل إنسان حدت ظروفه من ممارسته حقه الطبيعي من القوة

كامل يوسف

عضو المعهد البريطاني الفلسفي بلندن

مراكز الثقافة العربية في القاهرة ودمشق وبغداد

تقدمت المباحثات بين وزارة المعارف وبين الهيئات التعليمية المختصة في كل من العراق وسورية وفلسطين ولبنان في سبيل إنشاء مكتب التعاون الثقافي ين هذه البلاد وإيجاد وحدة ثقافية عربية تجمع الشباب العربي تحت علم هذه الثقافة

وقد علمنا أن النية متجهة إلى إنشاء مراكز لهذه الثقافة العربية الموحدة في كل من القاهرة ودمشق وبغداد يمكن من طريقها تبادل الآراء وإلقاء المحاضرات العلمية والأدبية التي يتردد صداها على نطاق واسع في هذا المحيط

ص: 37

والمفهوم أن الأقطار العربية الشقيقة قابلت مشروع التعاون بينها وبين مصر بارتياح كبير

كم ذا. . .

1 -

أشكر للأستاذ الفاضل إبراهيم أبي الخشب دقته وأدبه، ولكني أعجب من إنكاره على سلوك مذهب التخريج والتأويل والإعراب. . . في الحكم على (حافظ وأبي الطيب) حين استعملا هذا التعبير (كم ذا. . .) فقد أراد الأستاذ في كلمته الأولى إقامة هذه العبارة إلى جهة أو التماس شاهد من كلام يحتج به

فأما إقامتها إلى جهة فما أظنها تؤدي معنى غير تخريج العبارة على وجه من وجوه النحو والبلاغة، وهذا ما ذهبت إليه في كلمتي السابقة؛ وكنت ولا أزال أنتظر من الأستاذ أن ينظر في وجوه التخريج التي أخذت بها

وأما المشاهد الذي يتمسك به متابعة للآمدي وأمثاله من علماء أصول اللغة فلا يزال يعوزني، ولعل هذا التعبير من أوليات (أبي الطيب) وعهدنا به مبتدعاً جريئاً. وإني لحسن الظن به وإن غضب (ابن خالويه). والسلام

محمود البشبيشي

2 -

قرأت إجابة أستاذنا الجليل البشبيشي؛ ثم عدم اقتناع الأستاذ (أبو الخشب) بما جاء فيها، فرأيت أن أدلي برأيٍ أعتقد أن فيه شفاء الغلة.

(ا) أرى أن بيت المتنبي (كم ذا بمصر من المضحكات. . .) على هذه الرواية، وعلتي في ذلك أن المتنبي كانت له ألفاظ يكثر استعمالها في شعره، ومن هذه الألفاظ (ذا)(راجع يتيمة الدهر ج1 ص137 طبعة الصاوي) وقد تابع حافظ المتنبي في مثل هذا التعبير.

(ب) لم أجد شاهداً من أشعار العرب، ولا من مأثور كلامهم على مجيء (ذا) بعد كم على طول ما بحثت، وإن كان هذا لا يمنع من جواز وجوده.

(جـ) مثل هذا التعبير لا يتنافى مع قواعد اللغة، ومن السهل تخريجه بأعراب ذا منادى حذف منه حرف النداء. وكم خبرية حذف تمييزها.

(د) قد يعترض على هذا التخريج من يقول إنني ارتكبت من أجله حذف تمييز كم الخبرية وحذف حرف النداء من اسم الإشارة. وردي على مثل هذا المعترض هين

ص: 38

فأما حذف تمييز كم الخبرية فإن النحاة قالوا إنه غير حسن، ولم يمنعوه (راجع ابن يعيش ج4 ص129 المطبعة المنيرية) وإذا راعينا ما أبيح للشعراء من جواز الجري على الآراء غير الحسنة لم نجد في ذلك قبحاً. وإذا نحن احتكمنا إلى معنى البيتين وجدناه رائعاً

وأما حذف حرف النداء من أسم الإشارة فجرى فيه المتنبي على رأي الكوفيين الذي استدلوا على جواز ذلك بقوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم).

ومن المعروف أن المتنبي نشأ في الكوفة، فلا عجب إذا جرى على آرائهم في كثير من شعره مما عده العلماء - جهلاً منهم - خطأ من المتنبي. وهذا هو يقول:

(هذى برزت لنا فهجت رسيسا)

فحذف حرف النداء من اسم الإشارة مصداقاً لما ذهبت إليه.

(منيل الروضة)

راتب خليفة

ص: 39