المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 467 - بتاريخ: 15 - 06 - 1942 - مجلة الرسالة - جـ ٤٦٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 467

- بتاريخ: 15 - 06 - 1942

ص: -1

‌مساجلات

للأستاذ عباس محمود العقاد

لقيني كاتب معروف يتشيع للبدع الحديثة حتى تقدم فيتركها ويتشيع لغيرها فقال لي:

إنك أنكرت (الوعي) الباطن في التصوير، وأخذت على غلاة المحدثين أنهم يعتمدونه في صورهم، مع أنك ترجع إليه في شعرك وترسم بالقلم نظائر لما يرسمونه بالريشة

قلت: مثل ماذا؟

قال: مثل قولك في وصف قبة الفضاء إحدى الليالي:

كأنها الهاوية المقلوبة

كأنها الجمجمة المنخوبة

تهمس فيها الذكر المحبوبة

وهذا من صور الوعي الباطن وليس من صور العيان

والذي قاله الكاتب المعروف يخالف الواقع ولا يؤيد المدرسة الغالية من المصورين، أو مدرسة (السريالزم) على وجه من الوجوه

فأنا، من جهة، لم أنكر الوعي الباطن ولا موجب لإنكاري إياه، وإنما أنكرت أن يكون وجود الوعي الباطن ملغياً للوعي الظاهر وللمشاهدة الحسية والمرئيات العيانية، وأنكرت أن يكون الوعي الباطن ملغياً لقواعد التصوير قديمها وحديثها، فلا تبقى للمصور مزية على الجاهل بفن التصوير، لأنهما على حد سواء يهملان التلوين والمشابهة وأصول الرسم والتمثيل، وأبيت أن أعتقد كما يعتقد الواهمون أن (الوعي الباطن) شيء جديد في هذه الدنيا، وهو هو تلك الملكة الراسخة في قرارة النفوس قبل ظهور التصوير والمصورين، فلم يكن رسوخها هذا حائلاً بين المصورين الأقدمين وبين رؤية الأشياء كما يمثلها العيان

إن الوعي الباطن ليس من اختراعات هارتمان ولا فرويد، ولا من مصنوعات القرن العشرين، ولكنه ملكة إنسانية وجدت في مصوري روما وهولندة وإسبانيا كما توجد في المصورين المحدثين؛ فلماذا نلغي العيون اليوم ولا نرى الأشياء إلا بالتنجيم والتخمين؟ ومن الذي قال إن حامل الريشة هو المتخصص في تنجيمات الوعي الباطن دون المعلم والمهندس والطبيب والكاتب والشاعر وسائر المثقفين وغير المثقفين؟

ص: 1

هذا كلامي عن (الوعي الباطن) لا يدحضه الشعر الذي ذكره الكاتب المعروف وأراد أن يسلكني به في عدد أولئك المنجمين

على أن الشعر الذي ذكره الكاتب المعروف يعطي العيان حقه ويعتمد على الحس ولا ينسى المشاكلة ولا المشابهة من جانبها الظاهر ولا من جانبها الباطن أقل نسيان

فالتجويف ملحوظ في قبة الفضاء وفي الجمجمة المنخوبة؛ وهمس الذكر يقترن بالرأس ويقترن بالسماء في لياليها المرهوبة، وإذا تسربلت السماء بسربال الرهبة، فالشعور الذي توحيه إلى النفس أقرب شيء إلى شعور الإنسان أمام الرؤى التي أحاط بها عالم الفناء والأبدية

فالمشابهة الحسية والمشابهة المعنوية متوافرتان هنا كل التوافر، وليس في (السريالزم) أثر للمشابهات ولا للتوافق في الرسم والتصوير.

على أننا نذهب مع الكاتب المعروف إلى أقصى مداه ونفرض أن وصفي الفضاء في إحدى الليالي المرهوبة بالجمجمة المنخوبة وعي باطن ليس فيه من الوعي الظاهر كثير ولا قليل

نفرض أنني رجعت إلى (الوعي الباطن) في بيت أو بيتين أو عشرة أبيات من عشرة آلاف بيت. فأين هذا من إلغاء الحس والعيان كل الإلغاء وتطليق العيون والأسماع إلى آخر الزمان؟ إن تسلل الوعي الباطن مرة في كل ألف مرة لهو احتمال جائز موافق لطبيعة السوانح الباطنية. أما الوهم الذي لا يجوز ولا يوافق طبيعة من الطبائع، فهو أن نصبح كلنا وعياً باطناً وأن تصبح الدنيا كلها موعية باطنية لا تستخدم فيها عين ولا أذن كما يستخدمهما خلق الله في المسكن والملبس والطعام والشراب والدرس والتخيل والتفكير

هذا الذي ننكره وينكره كل ذي عينين وكل ذي وعي باطن مستقر في مكانه كما خلقه الله. أما المصورون الذين يقذفون بالألوان والرسوم إلى عرض الطريق ليحدثونا باسم (الوعي الباطن) فأول ما ينبغي أن يسمعوه منا أنكم يا هؤلاء لستم بأصحاب الاختصاص في هذه الأسرار. فإذا فشلتم في حمل الريشة وخلط الألوان فقد فشلتم في وظيفتكم المعترف بها وادعيتم لأنفسكم وظيفة لا يعترف لكم بها إنسان، ولا حاجة بالناس إليها لأنهم جميعاً أصحاب (وعي باطن) مثلكم وزيادة. . . فما حاجتهم إليكم وإلى غيركم من أدعياء هذه الكهانة المعروضة عليهم في ثوب التصوير؟

ص: 2

ومن المساجلات التي نُبهت إليها كلمة لأديب يكتب في (الثقافة) بتوقيع (محمد مندور) قال فيها عني في صدد الكلام على أبي العلاء ورسالة الغفران:

(. . . والعقاد يبدأ فيؤكد - فيما يعلم - أن فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليها أحد غير لوسيان في محاوراته في الأولمب والهاوية. وهذا قول عجيب يدخل في سلسلة تأكيدات الأستاذ العقاد التي لا حصر لها في كل ما كتب، والتي كثيراً ما تدهشنا لجراءتها؛ ففكرة الرحلة إلى العالم الآخر قديمة قدم الإنسانية، عرفها اليونان قبل لوسيان، وعرفها العرب قبل أبي العلاء)

لا يا شيخ!

العالم الأخر قديم قبل لوسيان، والجنة والنار قديمتان قبل أبي العلاء!

سبحان الله! كنا نظن غير هذا. . . كنا نظن أن الجنة والنار خلقتا بعد المعري بثلاث أربع سنوات! وأن لوسيان ظهر على الأرض فظهر معه الجحيم السفلي الذي تحدث به اليونان

أما وصاحبنا المدهوش من جرأتنا يؤكد لنا أن الأمر على غير ذلك فلنرجع إذن عن توكيداتنا الجريئة، ولنعلن التوبة بين يديه لنقول له: صحيح. صحيح والله. . . الجنة والنار كانتا معروفتين قبل أبي العلاء، والعالم السفلي كان معروفاً قبل لوسيان. . . ولندن. . . لندن نعم لأجل خاطرك كانت موجودة قبل رحلات المسافرين إليها، وكذلك والله باريس، وكذلك والله القاهرة، وكذلك والله الهند والصين وبلاد تركب الأفيال، أو بلاد تمشي على الأرض ولا تركب حتى النعال

أفادك الله يا مولانا الذي يتربع على الكرسي العريض لينكر على المساكين من أمثالنا توكيداتهم الجريئة ويعلمهم كيف تكون التوكيدات من آخر طراز

وأي توكيدات؟

توكيداته التي لا جرأة فيها هي أننا نحن المساكين، أو أن أحداً من خلق الله أجمعين، يجهل أن أبا العلاء قد تكلم عن شيء معروف حين تكلم عن الجنة والنار، وأن لوسيان لم يكن أول من سمع بالعالم السفلي بين قدماء اليونان

فنحن بعد الاستئذان في قليل من الجرأة التي يدهش لها صاحبنا نجترئ مرة أخرى فنقول له إننا لم نجهل معرفة الناس بالجنة والنار وهبوط الملائكة وصعود الشياطين قبل أبي

ص: 3

العلاء، وأن أحداً من القارئين لم يجهل هذا، ولا يسحن بأحد أن يرمي أحداً بجْهله. فهذا تحصيل حاصل مفروغ منه، وليس أدعي إلى الدهشة من مجازف يجترئ على توكيده. . . ولكننا إذا تكلمنا عن الآثار الأدبية التي تتخذ من الرحلة بين الجنة والنار موضوعاً لها، فهذا كلام آخر يجمل به أن يصغي إليه؛ وإذا جمعنا بين المعري ولوسيان في هذا الصدد فذلك مبحث يصح النظر فيه والاستفادة منه؛ أما أن يتربع متربع على كرسي الفتاوى ليحدث قراءه بوجود السماء والأرض والملائكة والشياطين قبل الكتابة عنهم والرحلة إليهم، أو بوجود لندن وبرلين قبل كتب السياحة والرحالين، فلا يستغرب أن يجترئ بعض القراء، ويا له من اجتراء، فيزحزح له كرسيه قليلاً إلى الوراء!

بل لا نظن أن القارئ يكتفي بزحزحة الكرسي قليلاً إلى الوراء إذا كان ممن يعلمون أن (العقاد) قد سبق إلى كتابة هذا، فقال قبل عشرين سنة عن رحلة أبي العلاء:(أي شيء من هذه الأشياء لم يكن من قبل ذلك معروفاً موصوفاً؟ وأي خبر من أخبار الجنة المذكورة لم يكن في عصره معهوداً للناس مألوفاً؟ كل أولئك كان عندهم من حقائق الأخبار ووقائع العيان. . .)

ثم قال: (فهي رحلة قديمة كما قلنا ولكنه أعادها علينا كأنه قد خطا خطواتها بقدميه وروى لنا أحاديثها كأنما هو الذي ابتدعها أول مرة. . .)

ومن يدري؟ فقد يكون من اجتراء العقاد أنه اختلس هذه الحقيقة قبل عشرين سنة، ولم ينتظر الإذن قبل اجترائه على الاختلاس والإدعاء!

ولا شك أن (المندورين) في هذا البلد كثيرون مع اختلاف في الأسماء والعناوين. . . فمنهم ذلك الذي تسمي في إحدى المجلات باسم (مصطفى) ليستر ما في مقاله من سوء النية وهو يتكلم عن النبي العربي، ويتميز غيظاً لأننا عرضنا لتعدد زوجات النبي في كتابنا (عبقرية محمد) فرددنا أسبابه إلى مصلحة الدعوة الإسلامية ولم نتخذ منه ذريعة لتلويث السمعة كما فعل المتعصبون من المبشرين والمستشرقين. وليس هذا بالعلم ولا بالمنطق في رأي أذناب الاشتراكية الرعناء. . . إنما العلم والمنطق أن تلوث كل عظيم في تاريخ بني الإنسان، لأن مقاصد الاشتراكية الرعناء لا تستقيم لأصحابها وفي الدنيا عظمة شريفة تستحق التبجيل والولاء. وكفى بحقارة مذهب لا يستقيم إلا بتلويث كل عظيم!

ص: 4

قال ذلك (المصطفى) المزعوم إننا دافعنا عن محمد فقلنا: (إنك لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية لأنه لم يتزوج قط؛ فلا ينبغي أن تصف محمداً بأنه مفرط الجنسية لأنه تزوج بتسع نساء)

ثم قال ذلك المصطفى المزعوم معقباً على كلامنا: (ولكن ما رأي العقاد لو قال الناقد: إني أرى المسيح قاصر الجنسية وما أنفي عنه هذه الصفة)

ورأي العقاد أن الناقد لن يقول ذلك لأنه كان من أساطين المبشرين. فإن أعْدته الاشتراكية الرعناء بسوء أدبها فجوابه إذن أن نرده إلى تاريخ النبي كما فعلنا فنريه بما يفقأ عينه أن الرجل الشهوان يجمع بين تسع زوجات من الأبكار الحسان وهو قادر على ذلك كل القدرة ولا يختار زوجاته كما صنع النبي من المسنات المتأيمات اللائى لم يشتهرن بالجمال، ثم تكون البكر الوحيدة منهن بنت أبي بكر الصديق التي يرجع التزوج بها إلى أسباب المصلحة الإسلامية قبل كل اعتبار

فهل (تنبسط) الاشتراكية بهذا الجواب أو يملأها سم البغضاء وصديده لأن في العالم الإنساني رجلاً باقياً بغير تلويث!

وقال ذلك المصطفى المزعوم: إن العقاد (يقيم الحجة على نبوة محمد باضطراب الأحوال وقت نشوئه في بلاد العرب. . . ترى أين يكون إقناع العقاد لو انبرى مسلم - قبل أن يتصدى من لا يدين بالإسلام - وقال: إن الأحوال الحاضرة أشد قساوة مما مضى في عهود الإنسانية جميعها. . . وإذن فالحال المعاصرة تستلزم نبياً ينشر الخير والعدل. فأين هذا النبي ممن عرفهم العالم حالياً. . .)

والعجيب أن يسألني هذا المصطفى المزعوم عن رأيي وقد بينته صريحاً في الكتاب نفسه حين قلت: إن العالم حائر في طلب العقيدة أو (طلب المسوغ للوجود. لأن الوجود وحده لا يكفي الإنسان إلا أن يكون على طبقته مع الحيوان. فالإيمان للمستقبل، وعسى أن يكون المستقبل للإيمان. . .)

قلت ذلك في ختام الكتاب وجعلته خلاصة الرأي فيه وموضع العبرة منه، ولا أزال أقول كما قلت دائماً إن خلاص العالم مرهون بالإيمان. وإن حياة الناس بغير عقيدة نبيلة هي حياة حشرات

ص: 5

ولكن الإيمان الذي يحتاج إليه العالم لمن يكون إيمان المعدات والأمعاء، لأن الإنسانية لن تحتاج إلى رسل وحكماء ليعلموها عبادة الطعام والشراب، وإن أحقر حصان معلق في مركبة نقل ليعلم من هذه الفلسفة ما يعلمه كارل ماركس ولنين وإخوان هذه لعصبة أجمعين

إنما يحتاج العالم إلى إيمان يليق بأبناء آدم، ولا يحتاج إلى إيمان يزعم أنه يخلصه من ضرورات المعدة بعبادة هذه المعدة في الصباح والمساء، وفي ساعة العمل وساعة الرياضة، وفيما يدير عليه تجارب العلم ومطالب الفن وأشواق النفس وعقائد الضمير.

قبّحت عقيدةٌ كهذه العقيدة إن قضى بها النحس على أمة من الأمم. فهي عقيدة لن تخلص الناس من ضرورات المعدة وخسائسها بل تفرض عليهم عبادتها وتسجل عليهم الخضوع لرهبة الجوع إلى آخر الزمان. وقبّح من رسل أولئك الرسل الذين لا جديد عندهم يعلمونه الناس وراء ما علمته الحشرات قبل ملايين السنين. وأبى الله أن (تنبسط) الاشتراكية الرعناء إن كان تحقير عظماء الإنسانية وتحقير الإنسانية كلها فرضاً لزاماً لمن يسترون شرورهم بأمثال هذه الدعوات.

عباس محمود العقاد

ص: 6

‌الحديث ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

عبد القادر حمزة باشا - موسم الامتحانات في المدارس

المصرية - أحزان (توفيق الحكيم) ونفوذ (طه حسين). . .

عبد القادر حمزة باشا

فاتني في العام الماضي أن أشهد مأتم الأستاذ عبد القادر حمزة - طابتْ تُربتُه، وكَرُمتْ ذكراه - ولم يفتني أن أشهد المأتم الذي أُقيم في هذا المساء بجوار دار (البلاغ)، تحيةً لروح ذلك الشهيد، شهيد القلم الحرّ، والرأي الصريح

وأقول: إني ما شعرت بحزن أو لوعة حين تجددت الصورة لموت ذلك الصديق، فهل خمد أسفي عليه وما قدُم العهد؟

أشهد أني لم أجد في نفسي استعداداً للتحسر والتفجع، كما ينبغي أن يقع في مثل هذا الظرف، وإنما توجهتْ نفسي إلى معنىً آخر هو نقد الأُسلوب المتبع في إقامة الذكريات لهذا الطراز من الرجال

وأشرح هذا المعنى فأقول: إن عبد القادر لم يمت إلا بعد أن أقام ألوف البراهين على أن للقلم دولة في هذه البلاد، وبعد أن أقام أُلوف الشواهد على أن الذاتية السليمة تصل بصاحبها إلى أشرف الغايات، وترقم أسمه في صحيفة الخلود

فما الذي يمنع من أن تكون الحفلة التي تقام لذاكره حفلة فرح وابتهاج؟

كنت أحب أن يتنادى من اشتركوا في تحرير (البلاغ) - وهم يعدُّون بالعشرات - إلى إقامة سهرة طريفة على متن النِّيل في ليلة قمراء، تحيةً للكاتب العظيم الذي أرَّخ مجد النيل أعظم تأريخ

كنت أحب أن نتنادى لإقامة حفلة بهيجة في (معبد الكرنك)، وهو المكان الذي أوحى إلى عبد القادر أن يكون إماماً في تاريخ مصر القديم، ولعله أول مؤرّخ جعل الإيمان بعظمة مصر عقيدة عقلية، وعقيدةُ العقل أَعظم من عقيدة الروح

لو سمحت شواغل الحياة بأن يتنادى أصدقاء (البلاغ) لتكريم صاحب (البلاغ) لكان لهم في

ص: 7

تكريمه أسلوب لا يخطر لأهل هذا العصر في بال

لن نبكي على شيخ الصحافة المصرية، وهل مات حتى نبكي عليه؟

وما البكاء على كاتب لم يفارق دنياه إلا بعد أن ملأ صريرُ قلمه مسامع الزمان؟

الواجب أن نفرح لأن مصر أنجبت كاتباً سياسياً يندُر وجود مثله في الأقطار الأوربية والأمريكية. وأعيذ القارئ أن يتهمني بالمبالغة والتهويل، فالمصاعب التي قهرها عبد القادر لو صادفت أكبر كاتب في أعظم بلد لأضافته إلى المدحورين

الواجب أن نفرح لأن جو مصر سمح بأن يكون أحد أقطاب الصحافة من أكابر المؤلفين، وتلك إحدى الأعاجيب.

الواجب أن نفرح، لأن جو مصر سمح بأن يكتُم كاتبٌ بلاءه بأعدائه نحو ثلاث سنين، ليلقاهم بعد ذلك في ميدان لا يخرجون منه سالمين

كان عبد القادر كما وصفت، وفوق ما وصفت، فكيف تحيي ذاكره بالحزن والانقباض؟

ومتى نفرح إذا تناسينا اعتزاز الأقلام بتاريخ ذلك الشهيد؟

كان عبد القادر يحب جريدته أكثر مما يحب نفسه، ولهذا كان يستكتب رجالاً بينه وبينهم ضغائن وحقود، ليبرئ ذمته من حق جريدته عليه

وكانت البراعة القلمية هي الخصيصة الأساسية فيمن يعرف من الكتّاب، ولو كانوا من خصومه الألدَّاء

وكان لا يسمح بنشر كلمة تؤذي أحد محرري (البلاغ) من قرب أو من بعد، وقد اتفق لي أن أرجوه نشر مقال أرسله المرحوم مصطفى صادق الرافعي في إيذائي، لأقيم الدليل على تشجيع الحرية الفكرية، ولكنه رفض، وكانت حجته أن سماحي بنشر مقال الرافعي لا يعفيه من حقي عليه

عبد القادر!

هل تعرف أن قوماً زعموا أنك مت؟

كذَبوا، فما يموت من تحيا ذكراه على سنان قلمي!

موسم الامتحانات

وزارة المعارف في نظر المنصف أعظم الوزارات حيوية، بدليل ما نشاهد من كثرة

ص: 8

التغيرات والتقلبات، وهل يتغير أو يتقلب غير الأحياء؟

ولكن هذه الوزارة التي تفكر في كل شيء، وتشغل بأخبارها جميع الناس، تنسى شيئاً في غاية من الأهمية، وهو تعديل مواعيد الامتحانات

ما الذي يوجب أن تكون تلك المواعيد في وهج لصيف؟ أيكون ذلك نقلاً عن الأمم الأوربية؟ هو ذلك، ولكن أين جو مصر بالقياس إلى الأجواء الأوربية؟

أعصاب التلاميذ في شهر يونيه لا تحتمل أي جهاد، ولو شئت لقلت إن التلاميذ يعانون التعب قبل يونيه بشهرين، فكيف تجود قواهم بالمحصول الذي يعيِّن منازلهم من الفوز أو الإخفاق! وهل سمعتم حديث المصحِّحين؟

التصحيح نوع من القضاء، ولا يجوز للقاضي أن يحكم إلا وهو سليم الأعصاب، فكيف تكون مصاير التلاميذ بأيدي مصححين لم تبق منهم متاعب العام الدراسي غير أشباح؟

يجب أن تكون الامتحانات في شهر مارس، أو يجب أن تكون أهم مواد الامتحان في شهر مارس، لنجد تلاميذ ومصححين، ولنطمئن إلى العدل في سلامة الحكم على أبناء الجيل الجديد

فإن عزَّ على وزارة المعارف أن تترك خطةً سارت عليها عشرات السنين فلتجعل التصحيح في أيدي رجال خُفِّف عنهم عناء العام الدراسي بعض التخفيف، ليراجعوا الأوراق بعناية والتفات، أو ليكونوا في حال غير الحال التي نعرف، فأكثر من يُدعَون إلى التصحيح يعتذرون، لأنهم لا يلقون الصيف إلا بعد طول العناء بالتدريس والتصحيح

أما بعد فقد أعلنت هذا الرأي مرات في الأعوام الماضية، ولم أجد من يسمع، فهل يكون من حظ هذا الرأي أن يضاف إلى الآراء التي يدرسها وزيرنا الحصيف؟

أحزان توفيق الحكيم

لم أكن أنتظر أن يكون عتْبي على الأستاذ توفيق الحكيم فرصة لمجادلات ومساجلات يجري بها قلمه مع الكاتبين العظيمين عباس العقاد وطه حسين

وعلى قلة ما يجشّم أخونا الزيات نفسَه في مراسلة أصدقاء الرسالة من مهجَره الجميل، فقد كتب إليّ يخبرني أنه خفّف كلمتي في عتب الأستاذ توفيق الحكيم، لأنه لا يقبل أن يفسُد ما بيني وبين توفيق لشبهة نفاها توفيق.

ص: 9

وأحسنَ أخونا الزيات فيما صنع، فما أدري كيف كنت أثبُت أمام ضميري لو نُشرت كلمتي كاملة ثم ظهر أن أخانا الحكيم يطوي صدره على تلك الأحزان السّود.

لطف الله بي فنجاني من هول هذا الموقف بفضل حكمة (المهاجر الرفيق)، فله الحمد، وعلى المهاجر الثناء.

ولكن يظهر أن أحزان توفيق الحكيم لن تنجيه من (الوقوع في قبضة الأديب الفلاح) فسأسمعه اليوم كلاماً يسرّه في حين ويحزنه في أحايين، وفقاً لحالته النفسية وهو يقرأ ما أقصّه عليه بلا تخويف ولا ترهيب.

دار الأستاذ الحكيم في رده على الأستاذ العقاد حول (نفوذ) الدكتور طه حسين، فماذا يريد أن يقول؟

هل يتوهم أن (نفوذ) الدكتور طه تميمةٌ تعيذه شر أقلامنا إذا رأيناه أنحرف عن المقبول من شريعة الأدب الرفيع؟

وما احتياجُنا إلى (نفوذ) الدكتور طه حسين، ونحن نعرف أن ذلك النفوذ بلاء عليه، لأنه يبعده منا ويقرّبه إلى سوانا، وفردوس الأدب هو النعيم الباقي على الزمان.

يستطيع الدكتور طه بكفايته العلمية أن يكون أكبر موظف في الحكومة المصرية، ولكنه لا يستطيع الزعم بأن سلطان القلم يفوقه أيّ سلطان.

لقد أبيت أن أهنئ الدكتور طه بمنصبه الجديد في وزارة المعارف، لأني كرهت أن يقاس الفوز بمقياس الوظائف، ثم سارعتُ فهنأته بكتاب (الحب الضائع) لأغريه بالمضي في هذه الطريقة من طرائق التأليف، ولأُفهمه أني لا أقيم وزناً لغير محصول الأقلام الجياد.

الدكتور طه رجلٌ ضرَّار نفَّاع، ولكن من العيب على حامل القلم أن يرجوه أو يخشاه، فما هذا الذي تقول يا عمّ توفيق؟!

أترك هذا وأنتقل إلى مشكلة أساسية، وهي مشكلة قد تخرج الأستاذ الحكيم من فردوس الأدب الرفيع

صديقنا توفيق يتألم ويتوجع، لأن شهرته الأدبية أبعدته من الانخراط في سلك رجال القضاء. فما معنى ذلك؟

معناه أن هذا الرجل يعيش بين رجال الأدب عيش الغرباء، وإلا فهل يجوز لكاتب له عقيدة

ص: 10

أدبية أن يتوهم أن في الدنيا حظاً أعظم من حظوظ أرباب الأقلام؟

وصديقنا توفيق يقول بعبارة صريحة إنه لا يجد أسرة تعطف عليه، فتزوِّجه بُنية يسكن إليها وتسكن إليه، لأن الشهرة الأدبية أضافته إلى المشبوهين!

غضبة الأدب عليك، يا توفيق! فما أوذيَ الأدب بأقبح ولا أبشع ولا أفظع مما جرى به قلمك الأهوج

وبمن تثق الأسر الكريمة إذا لم تثق برجال الأدب الرفيع؟

ولأي فارس تخضع المرأة النبيلة إذا فاتها الخضوع لأحد فرسان البيان؟

أتقول هذا الكلام يا توفيق في مجلة مثل الرسالة وهي عنوان الفحولة الأدبية، ثم تنتظر أن نراعي أحزانك فلا ترد عليك؟

وأرجع إلى الموازنة بين حال القاضي وحال الكاتب فأسألك: أتعتقد مؤمناً بأن القاضي يخدم العدالة بأكثر مما يخدمها الكاتب؟

قضاة مصر جديرون بالاحترام والتبجيل، فالشكوى من الفوضى مست أكثر الهيئات ثم استحيت فلم تمس رجال القضاء

ومع هذا فلا يسيغ ذهني أن يكون القاضي العادل أشرف من الكاتب الصادق، إلا أن يتبذل الكاتب فيقترح زواج هتلر من أم كلثوم لتنتهي الحرب!

أيهون الأدب على أهله إلى هذا الحد من الهوان البغيض؟

أيكون اليأس من الاقتران بامرأة لها سيارة وعمارة باعثاً على الضجر من صحبة الكتاب والخطباء والشعراء؟

أيكون (نفوذ) طه حسين شيئاً يُخاف فتُحبر فيه المقالات الطوال العراض؟

آه ثم آه!!

لو كان بيدي شيء من الأمر لقضيت بنفي توفيق الحكيم إلى جزيرة واق الواق، ليغرق أبناؤنا وتلاميذنا أن للأدب سيطرة سماوية تبغض التأدب مع غير صاحب السماء

أنت في جماعتنا دخيل، يا توفيق، لأنك تقدِّم علينا رجال القضاء، ولأنك تتهيّب أصحاب النفوذ، وبين النفوذ والنفوس جناس معلول، إن كنت تذكر المبادئ من علم البديع

مقالك الحزين كاد يبكبني، يا توفيق، ولكني تجلدتُ وتماسكت، فراراً من الرثاء لك والبكاء

ص: 11

عليك.

أبعدَ عشرين سنة خدمت فيها القلم، على حد ما زعمت لنفسك، تعود فتمنّ على الأدب بأنك أضعت من أجله أشياء وأشياء؟!

نفيناك، نفيناك، ولن نلتفت إليك بعد اليوم، إلا أن تُستتاب فتتوب.

الخلوة إلى القلم نعمةٌ لا يدركها من يرى السعادة في الخلوة إلى امرأة.

وسواد المداد في بياض القرطاس أجمل من الخيلان السود في الخدود البيض، وهذا كلامٌ لا يفهمه الأدباء الدخلاء.

لا تؤاخذني، يا توفيق، في القسوة عليكَ فأنا أحاول رجعك إلى فردوس الأدب الرفيع، فهل ترجع؟ وهل تعود؟

عندنا (نفوذ) لا يقاس إليه النفوذ الذي تعرف

عندنا أرواح وقلوب. عندنا نار تصهر روحك حين تريد

فهل ترجع إلى عشك، أيها العصفور من الشرق؟

زكي مبارك

ص: 12

‌مثال.

. .

رأي الأزهريين في لبس القبعة

للأستاذ محمد محمد المدني

كتبت في إحدى (مرسلاتي) كلمة موجزة عن (اختلاف الأزهريين) سجلت فيها ظاهرة غريبة ربما عدت شأناً من شئون الأزهر الخاصة، وعلامة من علاماته المميزة: تلك هي التفاوت البعيد في النظر إلى الأشياء والحكم عليها مع أن القوم يشربون من معين واحد، ويصدرون عن ثقافة ما ترى في أصولها من تفاوت، وقد اختصرت في ذلك بعض الأمثلة، ولم أعرض لذكر الأسباب فكتب إليّ كاتبان فاضلان من قراء (الرسالة) يسألني أحدهما أن أذكر بعض المثل واضحة مفصلة، ويسألني الأخر أن أبين الأسباب التي تفضي بالأزهريين إلى هذا الخلاف في الحين بعد الحين. ولست أحب أن أعرض لذكر الأسباب كما يريدني أحد هذين الكاتبين، فأنه ليعلم أن القول في ذلك مؤلم موجع في بعض نواحيه، وفي الأزهر نفوس لا نحب لها أن تألم، وجنوب عزيز علينا أن تُقض، فحسبنا أن نذكر بعض المثل الواضحة في هذا الشأن تبصره وذكرى لعلهم يرجعون:

المثال الذي اخترته ليس فكرة من الفِكَر التي تشغل الناس اليوم وإنما هو فكرة تاريخية قد تداولتها عهود، ومرت بها أطوار تبتدئ من أواخر القرن الهجري الماضي: ذلك المثال هو (رأي الأزهريين في لبس البرنيطة). وقد اشتغل الأزهريون بهذا الموضوع أربع مرات: اشتغلوا به لأول مرة في عهد الشيخ محمد عليش مفتي السادة المالكية المتوفى سنة 1299هـ، وقد سجلت (الرسالة) رأي هذا الشيخ فيما نشرته (للناقد الأزهري)(بالعدد 416 ص813 من السنة التاسعة)، وقد جاء في ختام هذا الرأي ما نصه:

(إنه تقرر في شريعة المسلمين أن حكم هؤلاء - يقصد لابس البرنيطة - أمرهم بالتوبة والرجوع إلى دينهم، والتزيي بزي المسلمين، وإمهالهم لذلك ثلاثة أيام، فإن فعلوا ذلك قبلت توبتهم، وخلى سبيلهم؛ وإن تمت الأيام الثلاثة ولم يتوبوا قطعت رقابهم بالسيف، ولا يغسلون، ولا يصلى عليهم لموتهم على الكفر. . .)

واشتغل الأزهريون بهذا الموضوع مرة ثانية في عهد الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنه وأرضاه، حينما سأله الحاج مصطفى الترنسفالي في أنه يوجد أفراد في بلاد

ص: 13

الترنسفال تلبس البرانيط لقضاء مصالحهم وعود الفوائد عليهم فهل يجوز ذلك؟ فأجابه بفتواه المختصرة التي أقامت الأزهر يومئذ وأقعدته. وهذا نصها كما جاء في محفوظات دار الإفتاء المصرية (رقم 190 - 6 شعبان 1321هـ): (أما لبس البرنيطة إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره فلا يعد مكفراً. وإذا كان اللبس لحاجة من حجب شمس أو دفع مكروه أو تيسير مصلحة لم يكره كذلك لزوال معنى التشبه بالمرة)

ثم عرض الأزهر لهذا الموضوع مرة ثالثة فقيل إن جماعة كبار العلماء أو لجنة منها بحثته وأصدرت فيه رأيها وهو يقضي بعدم جواز لبس البرنيطة. ولم أطلع على سند هذا الرأي لأنه ليس للجماعة مكتب ولا سجل منظم تقيد فيه بحوثها، وتسجل آراؤها. وقد أردت في العام الماضي أن أطلع على بعض الرسائل العلمية التي تنال بها عضوية الجماعة فتدافعني الموظفون في الإدارة العامة واحداً إلى واحد، ثم لم أهتد إليها ولم يبح لي أحد بسرها!

وأخيراً عرض لهذا الموضوع رجل الفقه والإفتاء الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد سليم، وقد سأله مفتي مدينة كوملجنة بتراقيا الغربية بما خلاصته:(إنني بصفتي الرسمية لا أقر لمن يلبسون القبعة في بلادي ببدعتهم هذه، ولا أوقع على وراثتهم من المسلمين، ولا على زواجهم من المسلمات، فيسخطون عليّ، ويتخذونني شكية عند الناس وعند الحكومة، وفي اعتقادي أني لا أحكم فيهم بغير ما حكم به الشرع الإسلامي، فإن كنت على حق فساعدوني رحمكم الله وأيدوني بكلمتكم الفصل؛ وإلا فدلوني على ما هو الحق الحقيقي بالأتباع)

ولم يكن فضيلة الأستاذ الكبير عضواً بجماعة كبار العلماء حين صدر الرأي الذي أشرنا إليه، وإنما أسند إليه منصب الإفتاء وعين عضواً بالجماعة بعد ذلك، فماذا قال؟ إني أثبت هنا نص فتواه التي هي فصل الخطاب في هذا الباب، لما فيها من فقه جيد، ولما أرشدت إليه من مبدأ عام في الحكم على الناس بالكفر أو الإيمان:

نص الفتوى

(. . . أما بعد فاعلم - هداني الله وإياك إلى الحق ورزقنا اتباعه وجنبنا الزلل في القول والعمل - أن علماءنا قالوا إن الكفر شيء عظيم فلا نجعل المؤمن كافراً متى وجدنا رواية أنه لا يكفر، فلا يكفر مسلم إلا إذا اتفق العلماء على أن ما أتى به يوجب الردة، كما أنه لا يكفر مسلم متى كان لكلامه أو فعله احتمال ولو بعيداً يوجب عدم تكفيره، فقد روى

ص: 14

الطحاوي عن أبي حنيفة رحمه الله وأصحابنا أنه لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، ثم ما يتيقن بأنه ردة يحكم بها له، وما يشك بأنه ردة لا يحكم بها إذ الإسلام الثابت لا يزول بشك مع أن الإسلام يعلو. وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا ألا يبادر بتكفير أهل الإسلام مع أنه يفضي بصحة إسلام المكره، وقد قال صاحب جامع الفصولين بعد نقله هذه العبارة ما نصه:(أقول: قدمت هذه لتصير ميزاناً فيما نقلته في هذا الفصل من المسائل فإنه قد ذكر في بعضها أنه كفر مع أنه لا يكفر على قياس هذه المقدمة) أهـ

وقالوا أيضاً: إن مناط الكفر والاكفار التكذيب أو الاستخفاف بالدين، فقد نقل صاحب نور العين على جامع الفصولين عن ابن الهمام في المسايرة أن مناط الاكفار هو التكذيب أو الاستخفاف بالدين. وقد قال في جامع الفصولين ما نصه:(شد زناراً على وسطه ودخل دار الحرب للتجارة كفر. قيل في لبس السواد وشد الفائزة على الوسط ولبس السراغج ينبغي ألا يكون كفراً، استحسنه مشايخنا في زماننا، وكذا في قلنسوة المغول إذ هذه الأشياء علامة ملكية لا تعلق لها بالدين) أهـ

إذا علمت هذا علمت أن مجرد لبس البرنيطة ليس كفراً لأنه لا يدل قطعاً على الاستخفاف بالدين الإسلامي ولا على التكذيب لشيء مما علم من الدين بالضرورة حتى يكون في ذلك ردة. نعم إذا وجد من لابس القبعة شيء يدل دلالة قطعية على الاستخفاف بالدين أو على تكذيب شيء مما علم من الدين بالضرورة كان ذلك ردة فيكفر. وعلى ذلك يكفر كل من حبذ أو أستحسن ما هو كفر إذا وجد منه ما يدل على ذلك دلالة قطعية، وإذا لبسها قاصداً التشبه بغير المسلمين ولم يوجد منه ما يدل على الاستخفاف بالدين ولا على التكذيب لشيء مما علم من الدين بالضرورة كان آثماً فقط لما روى أبو داود في سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة. حدثنا أبو النضر - يعني هاشم بن القاسم - حدثنا عبد الرحمن ابن ثابت. حدثنا حسّان بن هطية عن أبي جنيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا إسناد جيد، وبين ذلك في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام (فهو منهم) أنه كافر مثلهم إن تشبه بهم فيما هو كفر كأن عظم يوم عيدهم تبجيلاً لدينهم، أو لبس زنادهم، أو ما هو من شعارهم قاصداً بذلك التشبه بهم

ص: 15

استخفافاً بالإسلام كما قيد به أبو السعود والحموي على الأشباه، وإلا فهو مثلهم في الإثم فقط لا في الكفر كما في الفتاوى المهدية. وإنما شرطنا في الإثم قصد التشبه لأن في الحديث ما يدل على ذلك إذ لفظ التشبه يدل على القصد؛ ومن أجل ذلك قال صاحب البحر ما نصه:(ثم اعلم أن التشبه بأهل الكتاب لا يكره في كل شيء، فأنا نأكل ونشرب كما يفعلون، إنما الحرام هو التشبه فيما كان مذموماً وفيما يقصد به التشبه. كذا ذكره قاضيخان في شرح الجامع الصغير)

وكتب ابن عابدين في حاشيته على البحر تعليقاً على هذا ما نصه: (أقول: قال في الذخيرة البرهانية قبيل كتاب التحري. قال هشام: رأيت على أبي يوسف نعلين مخصوفين بمسامير فقلت: أترى بهذا الحديد بأساً؟ قال: لا. فقلت: إن سفيان وثور بن زيد رحمهما الله تعالى كرها ذلك لأن فيه تشبهاً بالرهبان: فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي لها شعر وإنها من لباس الرهبان. فقد أشار إلى أن صورة المشابهة فيما تعلق به صلاح العباد لا تضر، وقد تعلق بهذا النوع من الأحكام صلاح العباد، فإن الأرض مما لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلا بهذا النوع) أهـ

وعلى هذا فهؤلاء الناس الذين لبسوا القبعة آثمون إذا قصدوا من لبسها التشبه بالكفار. أما إذا لبسوها غير قاصدين التشبه بهم كأن، كان لبسهم إياها لدفع برد أو حر أو غير ذلك من المصالح فلا إثم. وهذا كله إذا لم يوجد منهم ما يدل دلالة قطعية على استخفافهم بالدين أو تكذيبهم لشيء مما علم من الدين بالضرورة وإلا كانوا كفاراً مرتدين يحكم عليهم بأحكام المرتدين، من عدم صحة أنكحتهم وعدم توريثهم من الغير إلى غير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم)

أما بعد. فهذا مثال نذكره لينتفع به من يريد الانتفاع، وليعلم الذين يعجلون بالحكم على آراء الناس أن الريث أولى بهم وأجدر أن يهديهم سبيل الرشاد، فإن قوماً منا قد اقترنت بعض الفِكر العلمية في أذهانهم بقداسة تجعلهم ينفرون ممن يعرض لها بوزن أو تمحيص ولو زيف أدلتها، وبين ما فيها من خطأ، فتراهم يجزعون لما يصيب هذه الفِكَر ويضطربون، وتراهم يسفون أحياناً ويتزيدون، وربما أضافوا إلى الباحثين ما لم يقولوا، أو أولوا في كلامهم ما لم يقصدوا؛ ذلك بأنهم لا يرجون علماً، ولا يقصدون حقاً، وإنما يريدون أن

ص: 16

يثيروا كلاماً في مقابلة كلام ليقول العامة الذين لا يفقهون: لقد رد فلان على فلان! وآية ذلك أن كلامهم لا يصبر على البحث، ولا يثبت أمام النقاش العلمي، فتراه يتخاذل ويتهالك ويذوب كما يذوب الثلج تحت حرارة الشمس، ولو شئنا لضربنا في ذلك الأمثال، ولكنا نضن بأنفسنا وبقرائنا أن نشتغل بأكثر من هذا المثال

محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة

ص: 17

‌التفاحة.

. .

للأستاذ راشد رستم

عادل - أحبك يا (سهام)

سهام - تحبني!!

- نعم أحبك. . . وهل في الأمر غرابة؟!

- لا. . .

- ثم إني أحبك لأنك تحبينني

- ألهذا السبب أنت تحبني؟

- طبعاً لا. . . ومع ذلك لماذا لا؟. . .

سهام - ولكن كيف عرفت أنني أحبك؟

عادل - هذا سر. . .

- سر. . . وهل بين المحبين سر؟!

- وأيُّ سر. . . إن بين المحبين سر الأسرار، بل ليس بين غير المحبين سر مثل سر المحبين

- سر الأسرار أم لا أسرار!!

- إذا لم يكن بين المحبين سر، فإنه يجب عليهما أن يخلقا لهما (سرا) سرا. . .

- دعني من فلسفة الأسرار. . . أريد أن أعرف السر!!

- أي سر؟

- السر الذي تدعي الآن أنه سرك

- كيف. . . ألا تعرفينه؟

- إذا كنت أعرفه ما كنت سألتك عنه

- وما دمت لا تعرفينه فلا داعي لذكره

- بالعكس. . . يكون الحال أدعى لمعرفته

- لا أظن ذلك، فإنه شيء يدرك ولا يشرح

- ولكن أنت قلته الآن منذ قليل

ص: 18

- إذن أنت تعرفينه

- وهل في هذا شك. . . بل ومنك عرفته

- إذن لماذا تحاورينني هكذا؟!

- لكي أمتحنك

- تمتحنينني! ولماذا تمتحنيني؟ وفي أي شيء؟ دعينا من هذا الكلام. . . ليس هذا هو سبب المحاورة. . . أفصحي. . . أفصحي

- ماذا تعني؟

- أعني أنه يهمك جداً أن تعرفي كيف. . .

سهام - اسمع يا (عادل)، أنت تحبني ما في هذا شك، ولكن، ألا تدري أنه يسر المرء أن يعرف كيف ولماذا أحبَّه غيره. . . ثم هل في هذا عيب؟!

عادل - كلا. . . ولكن عليه أن يبحث فيتعب فيعرف فيرتاح. . . وليس عليه أن يجلس فيسأل فيجاب فيرتاح. . .

- ألا تحب لي الراحة؟

- ليس في هذا شك. . . ولكن، أليس التعب في سبيل الحب راحة؟

- بالله لا تتعبني واختصر الطريق

- اسمعي يا (سهام)، أنا لا أريد تعبك ولا الإطالة عليك، ولكن الذي أحب هو الذي يعرف كيف أحب

- لا، أنت غلطان، إن الذي أحبَّ لا يعرف كيف أحب، ولكنه يعرف فقط أنه أحب

- إذن، لماذا تتعبينني؟!

- اتق الله، من الذي يتعب الآخر. . . ومع ذلك، فإن التعب في سبيل الحب راحة. أليس كذلك؟ ثم إن الذي أريدك أن تفهمه هو أن المحبوب يفرح ويفرح جداً إذا عرف كيف ولماذا أحبه حبيبه

- ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال

- ولكنك أحببتَ فجربتَ فعرفتَ

- وأنت يا سهام، ألم تحبي قبل هذه المرة؟

ص: 19

سهام - أولاً، ما معنى هذه المرة؟

عادل - أريد أن أقول. . .

- لا تقل شيئاً. . . سأُريحك. . . نعم، كنتُ ظننت أنني أحببتُ قبل هذه المرة!!

- ولكن. . .؟

- ولكن لم أحب. . .

- والآن؟

- والآن. . . والآن. . . وقد أوقعتني. . . فماذا عساي أن أقول!!

- أولاً، لست أنا الذي أوقعك، ثم لا تنسى أن من حفر بئراً لأخيه وقع فيه!!

- وهل الحب يا عادل بئر؟

- بئر. . . وأيّ بئر!! إنه بحرُ. . . بل هو محيط. . .!!

- أعوذ بالله. . . إنه إذن مخيف!!

- إذا كان مخيفاً، فلماذا أوقعت نفسك فيه؟!

- يا ظالماً! حقَّا إنك مغالط كبير. . . هل أنا وقعت فيه، أم أنك أنت الذي أوقعتني فيه؟!

- أنا أوقعتك. . . أم أنت التي وقعت؟!

- أتريد أن تقول إنني أنا التي أوقعت نفسي وانك، لم تقع معي؟

- لا. . . أنا لا أريد أن أقول هذا. . . ثم كوني وقعت معك أو لم أقع - هذا شيء، وإنك وقعتِ أو لم تقعي - هذا شيء آخر. . . ومع ذلك، هل وقعت أنا معك؟

- هذا سؤال لا يوجه إليَّ. . . أنتَ الذي تجيب عليه!

- أنا لم أر أحداً أوقع غيره

- كيف. . . مع أنك وقعت مع الواقع!!

- هذا اعتراف آخر

- وهل أنت في حاجة إلى اعترافات؟

- لا. . . ولكنك أنتِ تحبين الاعتراف

- أنا. . .!!

- نعم. . . بدليل أنك تصرحين بها. . .

ص: 20

- إنك أنتَ الذي تجعلني أُصرِّح

- الأمر على العكس، أنا لم أطلب منك تصريحاً، فإنني مقتنع بأنك تحبينني. . . كما أنني أحبك. . .!!

- هكذا. . . هكذا. . .!!

عادل - وهل عندك شك في هذا. . . ألم أذكره في أول حديثي في صراحة يعجب لها الكثيرون. . .

سهام - يعجب لها الكثيرون! ولماذا؟

- لأن أغلب الرجال لا يميلون إلى الابتداء بالاعتراف. . .

- وهل تظن أنك بدأت واعترفت!؟

- من غير شك. وقد قلت ذلك في أول كلمة لي معك. . .

- أتحسب هذا اعترافاً؟

- كيف لا؟ وإلا فما هي هذه الصراحة النادرة في مثل هذا الموقف بين رجل وسيدة؟

- عجباً. . . ما هذا التجني على المرأة؟ وهل محرَّم على الرجل أن يبادر ويبوح بحبه؟

- لا. ولكن بالله لا تخرجي عن الموضوع. . .

- إنني أتكلم في صميم الموضوع. . . أليس الحب هو شريعة البشر جميعاً. . . الرجل والمرأة على السواء؟

- نعم

- إذن لماذا هذه التفرقة. . . ألا تعلم أن المرأة والرجل يكمل بعضهما بعضاً؟

- هذا صحيح، ولم ينكره أحد، ولكن ما هي نسبة تكملة الواحد منهما للآخر؟

- سؤال غريب. . . إن الاثنين يتممان وحدة؛ وأما نسبة الواحد إلى الآخر في تكميل الوحدة فهي مسألة ثانوية. . .

- هذا القول يذكرني بأسطورة التفاحة. . .

- أسطورة التفاحة؟!

عادل - نعم. يولد أبن آدم فتقطع له تفاحة، يعطى نصيبه منها، والنصيب الآخر يعطى لمن ستكون شريكته في الحياة، وعندما يتلاقيان ينطبق النصيبان ويلتصق الجنبان

ص: 21

سهام - ولكن هيهات أن يجد المرء الجزء الآخر من التفاحة نفسها بسهولة. . .

- إذ كتب له أن يجدها فإنه واجدها ولو كانت هي القشرة. . . ولو كانت كذلك في الطرف الآخر من العالم. . .

- ألهذا الحد تهزأ بالجزء الآخر من التفاحة؟

- يعلم الله ما أنا بهازيء، ولكني أقرر الحقائق وأنا آسف

- إذن على هذا الأساس يجب أن يفسح للحب المجال، فإنه هو عنصر التعارف والتقارب وهو عامل الانطباق والتوفيق

- هذا صحيح، ولذلك لست أرى حرجاً على الرجل في أن يبدأ فيبوح بحبه، فقط يبوح لمن؟

- لمن؟ وهل في هذا خلاف؟ طبعاً يبوح به إلى من احب

- إذن لماذا تنكرين على ما صرّحتُ به لك في أول الحديث؟

- وهل تظن أن هذا اعتراف منك؟

-!!. . . وإلا فما هو؟

- في الواقع لا أرى فيه إلا أنه خطة منك لتأخذ مني أنا الاعتراف. . .

- وهل تظنين يا سهام أنك اعترفت لي بشيء؟

- أتريد مني بهذه الطريقة اعترافاً آخر؟ ألم يكفك سرورك باعترافي السابق، أو بتعبير أصح بوقعتي التي وقعت فيها!. . .

- الواقع أنني مسرور جداً. . .

- أمر عجب!!

- حقاً، إنني مسرور جداً، لأنها حالة أنت ذاتك مسرورة منها. . .

- عجباً. . . ومن أدراك بأنني مسرورة و. . . جداً؟

- أنت. . .

- أنا. . .!

- نعم أنت. . .

- سبحان الله. . . وكيف. . .؟

ص: 22

- بنظراتك. . .

- نظراتي!!

- أظنك ستقولين إنها خطة أخرى. . .

- ولكن هل تثق أنت بنظراتي؟

- ثقتك أنت بنظراتي

-!!. . .

- انظري في عينيَّ. ألا ترين عينيك فيهما؟!

-!!. . .

- إنها وحدة الوجود. . .

- وهي لذة الوجود

راشد رستم

ص: 23

‌حنين مسلتين

'

للشاعر الفرنسي تيوفيل جوتييه

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

بعد أن تغادر حدائق التويلري المغروسة أمام متحف اللوفر ترى ميدان الكونكورد أجمل ميادين باريس. وفي وسط هذا الميدان الفسيح الحي تنهض إحدى المسلات المصرية، وقد أقيم قريباً منها على الجانبين فوارتان. وإذا وقفت أمام هذه المسلة رأيت عن يمينك المعبد وعن يسارك مجلس نواب فرنسا مطلاً على نهر السين، وأمامك طريقاً يصل إلى غابة بولونيا

منذ زهاء ثلاثة وثلاثين قرناً أنشأ هذه المسلة وأختها إمبراطور مصر رمسيس الثاني، حيث أقامهما عند باب معبد الأقصر، وقد ظلت المسلتان معاً واقفتين أمام هذا المعبد الضخم حتى القرن الماضي حينما أهدى محمد علي الكبير إحداهما إلى ملك فرنسا لويس فيليب، وهي القائمة الآن بميدان الكونكورد، وأما المسلة الثانية فظلت حيث أنشئت وحيدة

أنشأ الشاعر الفرسي تيوفيل جوتييه قصيدتين إحداهما على لسان المسلة الغريبة بباريس، والأخرى على لسان المسلة المقيمة بالأقصر. وتيوفيل جوتييه من أدباء القرن التاسع عشر، ولد في أوائله وبدأ حياته رساماً، ثم ترك ريشة المصور إلى قلم الأديب؛ غير أنه ظل في الأدب رساماً كذلك؛ وهو يرى أن من حق الأدب أن ينافس الفنون الأخرى كالرسم والتصوير والحفر، فيما تتناوله من الموضوعات، وقد حقق فكرته في ديوانه فموضوعاته تصوير لما تراه العين قبل أن تكون تصويراً للإحساس والشعور؛ فتراه يصور لك مثلاً تمثالاً في متحف، أو آنية مزخرفة، أو باريس تغطيها الثلوج، إلى غير ذلك من صور. وهو الذي أذاع نظرية الفن للفنّ؛ فأهم شيء عنده هو الجمال الفني والأسلوب، أما الفكرة والأخلاق ففي المرتبة الثانية. وهو ممن حلّ الشعر من قيود الشخصية، وكان قدوة لغيره في استخدام الأساليب الدقيقة المصورة. ولعلنا نوفق يوماً إلى دراسة مذهبه في

ص: 24

الفن، ونقد هذا المذهب

ولم يقتصر تيوفيل جوتييه على قرض الشعر؛ بل له قصص قصيرة، وروايات مطولة، منها رواية كتبها عن مصر، تسمى قصة المومياء، وصف فيها مصر القديمة، حياتها ومجدها. وقصيدتا المسلتين بديوانه الذي تحدثت عنه، وهأنذا أنقلهما إلى اللغة العربية، محافظاً كل المحافظة على ما قصد إليه الشاعر من صور وأفكار

1 -

مسّلة باريس

في هذا الميدان أتضجر، أنا المسلة المبعدة عن أختها. الجمد والصقيع والرّذاذ والمطر، برّدت جنبي الذي علاه الصَّدأ

وقمتي المدببة العتيقة التي كانت محمرة في أتون سماء ذات لهب ارتدت الشحوب من حنينها إلى الوطن في جو لا يزرق أبداً

لِمَ لا أقف الآن قريبة من أختي ذات اللّون الورديّ، أمام التماثيل الضخمة العابسة، وأعمدة بيبان الأقصر، غامسة في الزّرقة الدّائمة رأسي الهرمي القرمزي، وكاتبة خُطى الشمس بظلي فوق الرمال.

رمسيس! كاد الخلود يوماً ما يتصدع حين تدحرج جسمي الجميل مقتلعاً كعود من عشب، باريس تتخذه لعبته.

الديدبان الصخري حارس الآثار الضخمة، يقف بين معبد كاذب قديم، وبين مجلس النواب.

فوق مقصلة لويس السادس عشر، أقيم صخر نسي مغزاه، وفيه سرّي الذي نسي منذ خمسة آلاف عام.

العصافير الطليقة تدنس رأسي الذي كان يطير مسرعاً حوله اللقلق الوردي، والصقر ذو الريش الأبيض، والمناسر الذهبية.

نهر السين الأسود، مأوى مياه الطرقات، النهر القذر، المكون من صغار الجداول، دنَّس قدمي التي كان يقبلها عند فيضانه النيل أبو الأنهار.

النيل العملاق، ذو اللحية البيضاء، المحفوف بنبات اللوتس والخيزران، والذي يصب منبعه المنحدر تماسيح بدل صفار الأسماك

العجلات الذهبية المطقمة بأصداف كالنجوم، عجلات الفراعنة العظام الأقدمين، كانت تمرّ

ص: 25

بجانبي، أنا المجروحة الكبرياء، برؤية عربة الكراء، مقلة آخر ملوك فرنسا

قديماً أمام حجري العتيق، كان الكهنة الأبرار، وقلانسهم على جباههم، يتمشون في المحراب المقدّس الخفيّ ذي الرّموز المصوّرة المذهبة.

أما اليوم فأنا عمود ليست له قداسة الدين، أقيم بين فوارتين، وتمر بي بنت الهوى صريعة في مركبتها.

أرى طول العام مواكب الموسرين، وأتباع صولون ذاهبين إلى دار النيابة، والفجرة منطلقين إلى غابة بولونيا.

أفّ! في مائة عام أيّ هياكل عظمية قبيحة، سيصير إليها هذا الشعب الماجن المجنون الذي يرقد من غير لفائف، في ناووس يغلقه مسمار!

ليس له تحت الأرض مقابر في مأمن من الفساد، تلك المراقد التي ينام فيها الموتى جيلاً بعد جيل.

أيتها الأرض المقدسة، أرض الهيروغليف، وأرض الأسرار الكهنوتية، حيث آباء الهول تشحذ مخالبها على زوايا قواعد التماثيل

وحيث النواويس ترن تحت الأقدام، وحيث العقبان تبني عشاشها. إنني أبكيك يا مصري القديمة بدموع من جرانيت.

2 -

مسلة الأقصر

هأنذي أسهر حارساً وحيداً لهذا القصر الكبير الخرب في وحدة أبدية وأمام اللانهاية، تنشر الصحراء تحت الشمس المحرقة ملاءتها الصفراء إلى أفق لا يحده شيء، أفق مجدب صامت لا نهاية له

وفوق الأرض العارية تبدو السماء - وهي صحراء أخرى زرقاء - نقية تامة النقاء لا تسبح فيها قطعة واحدة من السحاب

النيل ذو المياه الكدرة التي ينعكس الضوء فوق أديمها، كأنما هو قشرة رصاصية - يلمع تحت أضواء عمودية شاحبة، مكسر الصفحة بفرس النهر

والتماسيح الشرهة إلى الأقتناص، تكاد تنضج في جلودها فوق الرمال الملتهبة، تغرب في الضحك، وتخالها ترسل الزفرات

ص: 26

واللّقلق: منقاره إلى حوصلته، ساكن فوق قدمه النحيلة يقرأ على قاعدة بعض الأعمدة الألقاب المقدسة للمعبود (توت)

والضبع يضحك، وابن آوى يموء، والصقر كأنه فاصلة سوداء في صفحة السماء النقية - جائع يصرصر، راسماً دوائر في الهواء

ولكن ضوضاء هذا القفر يحجبها تثاؤب تماثيل أبي الهول متعبة من احتفاظها السرمدي بالسكون

ضجر خلقته الأشعة البيضاء، تنعكس فوق الرمال، والشمس المتلألئة على الدوام، وأي ضجر يشبه ما يبعثه نور الشرق الحزين!

هنا الهواء لا يجفّف يوماً دمعة في عين السماء الجامدة، والزمن متعباً يتكئ على هذه القصور الصامتة

ليس عندي ما يغيّر وجه السرمدية، فمصر في هذا العالم الذي يتغير فيه كل شيء، تتربَّع فوق عرش الثبوت

عندما يساورني الضجر، أتخذ الفلاحين والموميات التي عاصرت رمسيس رفقاء وأصدقاء

هأنذي أرى عموداً مائلاً، وتمثالاً ضخماً بلا وجه، وزوارق ذات قلاع بيضاء صاعدة هابطة في النيل

كم أتمنى أن لو كنت كأختي، قد نقلت إلى باريس العظيمة وغرست هناك في ميدان، قريبة منها لأتسلى!

إنها ترى هناك شعباً حيّاً واقفاً يتأمل نقوشها وخطوطها المقدسة التي يسبح الفكر لدى قراءتها في عالم الأحلام. . .

الفوَّارتان المقامتان بجانبها تقذفان رذاذهما الملوَّن بألوان قوس قزح على غبار صخرها القرمزي الذي عاد إليه الشباب. . .

لقد نحتت مثلي من الصخور الوردية بأسوان، غير أنني بقيت في مكاني القديم. إنها حية. . . أما أنا. . . فقد مت!!

(حلوان)

أحمد أحمد بدري

ص: 27

‌غزل الملوك

والقصيدة المنسوبة إلى السلطان سليم

للأستاذ عبد الله مخلص

أراني مديناً بالشكر للأديب الموهوب الأستاذ حسن القاياتي عضو مجلس النواب لاهتمامه وعنايته بالصفحة التي ملأتها من غزل الملوك بالرسالة الغراء. وكنت أتمنى لو أن أعمالي الطويلة العريضة تمكنني من النزول على رأي الأستاذ الكبير والغوص في بحار الغزليين من الملوك والأمراء والتقاط دراريهم اللامعة، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله

وأشكر للأستاذين الفاضلين إبراهيم أحمد أدهم ومحمود عزت عرفة ملاحظاتهما القيمة على القصيدة المنسوبة إلى السلطان الدالة على رغبتهما في استكناه الحقائق وخدمة الآداب فأقول:

إن السلطان سليما الأول الملقب بـ (ياوز) هو ابن السلطان بايزيد الثاني وحفيد السلطان محمد الفاتح، وهو تاسع السلاطين العثمانيين وفاتح مصر والشام وبلاد العرب في آسية وأفريقية، وهو الذي نقل الخلافة الإسلامية من بقايا العباسيين في مصر إلى السلطنة العثمانية فجمعت بينهما من أيامه. وقد توفي هذا السلطان العظيم سنة 926 الهجرية الموافقة لسنة 1519 الميلادية

ويقول من ترجم له من المؤرخين إنه كان يقرض الشعر في اللغتين الفارسية والتركية ويأتون على ذلك بشواهد من شعره

إلا أن أحمد بن يوسف بن أحمد الشهير بالقرماني المتوفى سنة 1019هـ 1610م يقول عن السلطان إنه كان يجيد اللغة العربية أيضاً وينظم نظماً بارعاً حسناً

ومن هؤلاء المترجمين نامق كمال المعدود من أعاظم الأدباء والمجددين في الأدب التركي في أوائل القرن الرابع عشر الهجري المتوفى سنة 1305هـ 1887م

فقد قال عن السلطان سليم في صدد إيثاره المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وتفضيله اختيار الضرر الخاص في سبيل النفع العام ما تعريبه:

(إن السلطان ضحى بنديمه يوسف الذي كان أعز عليه من نفسه، والذي أعلن حبه له وافتتانه به بالأشعار الرائقة التي نظمها فيه ومنها:

ص: 29

لولا الإله وحرّ نار جهنم

لعبدته وسجدت بين يديه

ضحى به في سبيل مقاصده بعد ما أحبه حباً يقرب من العبادة، وأظهر من بعده الصبر الجميل

فهذا البيت المفرد من القصيدة هو الدائر على الألسنة إلى الآن، وهو الذي حملني على نسبة القصيدة بتمامها إلى السلطان سليم

أما المخطوط الذي نقلتها منه فهو ينسبها إلى السلطان أحمد، ومن واجب الأمانة أن أنقل هنا عنوانها وهو:(ومما نظمه المرحوم المغفور السلطان بن السلطان السلطان أحمد خان)

أما السلطان احمد الأول بن السلطان محمد الثالث فقد كان من السلاطين الذين دافعوا عن البلاد وذادوا عن حياضها، وقد كان ينظم الشعر في اللغتين العربية والفارسية وقد توفي سنة 1026هـ - 1617م

وإذا اعتبرنا أن المخطوط الذي نقلنا منه القصيدة قد أُلف في سنة 1042هـ أي بعد وفاة السلطان (أحمد) بستة عشر عاماً فيكون مؤلفه أقرب إلى الزمن الذي عاش فيه صاحب القصيدة؛ ويجب علينا أن نقرّه على نقله وأن نقول: إن هذه القصيدة هي للسلطان احمد لا للسلطان سليم ما دمنا لا نجد مستنداً لمدعانا سوى البيت الذي استشهد به نامق كمال. وهذه هي القصيدة التي نسبها محمد المحّبي المتوفى سنة 1111هـ 1699م إلى السلطان أحمد:

ظبي يصول ولا اتصال إليه

جرح الفؤاد بصارميْ لحظيه

ما قام معتدلاً وهزّ قوامه

إلا تهتكت الستور عليه

يسقي المدامة من سلافة ريقه

ويخصّنا بالغنج من جفنيه

عيناه نرجسنا وآس عذاره

ريحاننا والورد من خديه

يا شعر في بصري ولا في خده

إني أغار من النسيم عليه

عجبي لسلطان يعزّ بعدله

ويجور سلطان الغرام عليه

لولا أخاف الله ثم جحيمه

لعبدته وسجدت بين يديه

وأنت ترى أن هذه القصيدة تتألف من سبعة أبيات بينا القصيدة التي نقلناها من المخطوط ونشرت في العدد 462 من الرسالة الغراء هي أحد عشر بيتاً مخمّساً.

أما قصيدة طلائع بن رزيك الملقب بالملك الصالح من وزراء الدولة الفاطمية بمصر

ص: 30

المتوفى سنة 556هـ 1160م فهي:

ومهفهف ثمل القوام سَرَت إلى

أعطافه النشوات من عينيه

ماضي اللحاظ كأنما سلت يدي

سيفي غداة الروع من جفنيه

قد قلت إذ خطّ العذار بمسكةٍ

في خدّه ألفيه لا لاميه

ما الشعر دبّ بعارضيه وإنما

أصداغه نفضت على خديه

الناس طوع يدي وأمري نافذ

فيهم وقلبي الآن طوع يديه

فاعجب لسلطان يعمّ بعدله

ويجور سلطان الغرام عليه

والله لولا اسم الفرار وإنه

مستقبح لفررتُ منه إليه

وسواءً أكانت القصيدة للسلطان سليم كما ظن قبلاً أو للسلطان أحمد كما ترجح معنا الآن، فإن معانيها مقتبسة من قصيدة الملك الصالح، بل إن الرابع والخامس والسادس من أبيات هذه القصيدة قد نقلت بالحرف تقريباً، فلا وجه لاعتبار ذلك من قبيل توارد الخاطر ووقع الحافر على الحافر.

وبإضافة تلك الأبيات الثلاثة مع البيت القائل:

يا طيب ليلتنا ونحن بمجلس

نهض الحبيب لنا على قدميه

إلى القصيدة الأصلية أصبحت أحد عشر بيتاً.

بقي علينا معرفة الذي خمس القصيدة وزاد فيها تلك الأبيات. وجواب هذا السؤال وارد في المخطوط من أنها للسلطان أحمد فيكون هو نفسه قد خمّسها بعدما زاد عليها تلك الأبيات وبينها أبيات الملك الصالح الثلاثة

أما القول بأن السلطان سليماً لم يؤثر عنه نظم الشعر بالعربية ففيه نظر؛ لأن المؤرخين يذكرون أنه عندما عاج بحماة الشام في طريقه إلى مصر وحل ضيفاً مكرماً في الزاوية القادرية ارتجل بيتين من الشعر في مدح بني الكيلاني من أحفاد عبد القادر وكتبهما في جدارها. ثم إنه عندما سمع خرير مياه نهر العاصي وصرير أخشاب النواعير التي تنتشل ماء النهر كأنها تئن نظم بيتين آخرين البيت الثاني منهما هو:

وإني على نفسي لأجدر بالبكا

إذا كانت الأخشاب تبكي على العاصي

أما البيتان اللذان خطهما بيده على مقياس الروضة، فهما ليسا له، بل هما من قصيدة لأبي

ص: 31

العلاء المعري هي:

الموت ربع فناء لم يضع قدما

فيه امرؤ فثناها نحو ما تركا

(والملك لله من يظفر بنيل غنى

يردده قسراً وتضمن نفسه الدركا)

(لو كان لي أو لغيري قدر أنملة

فوق التراب لكان الأمر مشتركا)

ولو صفا العقل ألقى الثقل حامله

عنه ولم تر في الهيجاء معتركا

إن الأديم الذي أَلقاه صاحبه

يُرضى القبيلة في تقسيمه شُركا

دع القطاة فإن تقدر لفيك تَبِت

إليه تسري ولم تنصب لها شَركا

وللمنايا سعي الساعون مذ خلقوا

فلا تبالي أَنصَّ الركب أم أَركا؟

والحتف أيسر والأرواح ناظرة

طلاقها من حليلٍ طالما فُركا

والشخص مثل نجيب رام عنبرة

من المنون فلمّا سافها بركا

في حين أن قطب الدين الحنفي المتوفى سنة 990هـ - 1582م يقول:

ورأيت بيتين بالعربي بخطه (أي خط السلطان سليم) الشريف كتبهما في علو المقياس في الكوشك الذي أمر ببنائه لما افتتح مصر وسكن الروضة قد انمحى لطول الزمان مداده، ومال إلى لون البياض سواده، وكان هذا الكوشك محترماً مقفلاً لا يصل إليه أحد لعظمة بانيه، ولا يتبذل بالدخول إليه لعظمة راعيه، فدخلت إلى مصر في سنة 943، وكان يوم كسر النيل السعيد ففتحوا هذا الكوشك لبكلر بكى مصر يومئذ خسرو باشا وكنت مصاحباً لمعلم مولانا عبد الكريم العجمي، فطلع وأطلعني معه في صحبة خسرو باشا المذكور، فرأيت على الرخام الأبيض كتابة خفية لا تكاد تظهر إلا بتأمل هذين البيتين:

الملك لله من يظفر بنيل مني

يردده قسراً ويضمن من بعده الدركا

لو كان لي أو لغيري قدر أنملة

فوق التراب لكان الأمر مشتركاً

وكتبه سليم بذلك الخط والقلم. ولعمري إن كان هذان البيتان من نظم المرحوم فهما غاية في البراعة، ونهاية في التمكن من الصناعة، فيدل على تمنكه رحمه الله في اللسان العربي أيضاً، لأنهما من أعلى طبقات الشعر العربي البليغ المنسجم؛ وإن كان قد تمثل بهما وهما لغيره، فهذه أيضاً مرتبة علية في حسن التمثيل وحسن الاستحضار وفهم الأشعار العربية وذوقه لها، وهذا القدر يستكثر على علماء الروم (أي العثمانيين)، وعلماء العجم

ص: 32

المكبين على علوم العربية فضلاً عن سلاطينهم المشغولين بضبط الممالك وفتحها؛ والفائقون في ذوق الشعر العربي وحسن آدابه من العلماء والموالي في غاية القلة معدودين منهم، ولا يُعدّ هذا نقصاً فيهم، لأن فهم الشعر العربي على وجهه كما ينبغي قليل أيضاً في علماء العرب، إلا من توغل منهم في الأدب، وتعب في تحصيله ودأب

ويقول القرماني:

ولما كان (أي السلطان) بمصر كتب على رخام في حائط القصر الذي سكن فيه بخطه فقال: ونقل البيتين السابقين وقال محمد عبد المعطي بن أبي الفتح بن أحمد بن عبد الغني بن علي الاسحاقي المتوفى سنة 1032هـ 1622م ما قاله قطب الدين الحنفي وكأنه نقله عنه.

أما نامق كمال المتقدم ذكره فيقول عن هذين البيتين ما تعريبه:

لما ولي السلطان سليم الملك أنشد القطعة الشعرية التالية وهي من بنات أفكاره، وسجد أمام العظمة الإلهية معلناً عجزه ومسكنته فقال:

الملك لله من يظفر بنيل مني

يرد قهراً ويهوى نفسه الدركا

لو كان لي أو لغيري قدر أنملة

فوق التراب لكان الأمر مشتركا

وقد نقلنا البيتين المذكورين لوجود بعض المباينة في البيت الأول بين قول أبي العلاء المعري وبين ما نقله قطب الدين الحنفي والقرماني ونامق كمال.

هذا ما استطعت الإلمام به من أمر القصيدة المنسوبة إلى السلطان سليم بسطته للقارئ الكريم، وفوق كل ذي علم عليم

عبد الله مخلص

ص: 33

‌أكذبيني

للشاعر الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد

اكذبيني مرة أو فاكذبيني مرتين

ألفُ ألفٍ من أعاجيبك في غش ومين،

لن تُبيد الفارق الخالد يا قرة عيني

والسموات التي بينك في اللب وبيني

اكذبيني واكذبيني

كلما شئت اكذبيني

ما غناء اللب عندي

إنْ أَبَى أن تخدعيني؟

أنا في ثروةِ وفرٍ

منه مهما تسلبيني

أنقصيها. . . أي ضير؟

درهماً أو درهمين!!

عباس محمود العقاد

ص: 34

‌اجتماعيات

الحسن المبتذل. . .

للأستاذ حسن القاياتي

لقد أبدعَ الْحُسنُ حتى مَلكْ

وَرَقَّ لَهُ الطُّهْرُ حتى هلكْ!!

تَسَامَى إلى الغيدِ كلُّ الْعُيون

كأَنَّ الجمال بدا من فلكْ

مَضَى الْجَهْلُ يَقْرِي غَوِىَّ الْجَمَالْ

كضيفِ الجراثيم عند الحلكْ

بَنَاتُ الْهوى ما بناتُ الهوَى

حَلِيٌّ يُبَاعُ وَلَا يَمْتَلَكْ!!

بِمَنْ أَنزل السحرَ سحرَ الجفونِ

بعينيكَ يا بدرُ مَنْ أَنزلكْ؟!

تُبيحُ الغريرةَ بذلَ الضنين

فتحنُو عليك بما ليس لكْ

سَلِ الْغُصْنَ مَالَتْ بِهِ الْمُصْيِبَاُت

أَلمْ تأْسَ للزَّيْغِ إذ مَيَّلَكْ؟!

فَدَيْتُكَ يَا غُصْنُ أَنَّي هَويتَ

وَباللهِ يا زهرُ مَنْ أَذْبلكْ؟!

إذا قمتَ يا وردُ في العابثين

تلهَّى ببذلك مَنْ قَبَّلَكْ. . .

إذا فُجِعت حُرَّةٌ في العفاف

فقيلَ: البغيُّ لطُهْرِ الْمَلَكْ!

هُوَ الْحُسْنُ يُلْثَمُ لَثمَ الْكؤوس

ويؤْكل بالعذل أو يُعْتلَكْ

أعصرُ الْهَوَى مَثُلَتْكََ الْفَتَاةُ

فَمَالُكَ تُزْرِي بِمَنْ مَثُلَكْ؟!

إذا كنتَ يا نبتُ صُنْعَ الزَّمانْ

تَبَنَّاكَ لِلْغَيِّ أو عَدَّلَكْ

يَذُمُّ الغَوِيُّ سَبايا الغواة،

نَبِيَّ الطهارة مَنْ أَرْسَلَكْ؟!

أَتبكي عَلَى الْحُسنِ إذ يَسْتَبِيكَ

وَتُنْحِى عَلَى الْحُسْنَ إِذْنَوَّ لَكْ؟!

بِوُدِّكَ أَنَّ الْهَوَى كالْهَوَاءِ

تَرِفُّ بِهِ الرُّوحَ أَنَّى سَلَكْ!

أَبِيحَ الْهَوَى فاستباحَ الَقلوبَ

تباركْتَ يا حُسْنُ ما أَعْدَلَكْْ؟!

جمالَ الأَبِيَّاتِ كم تَسْتَطِيلُ

تَحنَّنْ رَعَاكَ الذي عَدَّلَكْ!

بنفسِيَ ما أجمل التائهات

وإن قلتُ: يا وَصْلُ ما أجملك!

شكاةُ الخرائد أَسْرُ الحجال

فِدَاؤك يا حُسْنُ مَنْ عَطَّلَكْ!

إذ مُلِكَ الْحُسْنُ هَدَّ الْفؤادَ

مَلالاً ويا طيبه إنْ مَلكْ!!

القاهرة: السكرية

ص: 35

حسن القاياتي

ص: 36

‌العودة إلى مسقط الرأس

(للامرتين)

للأستاذ علي شرف الدين

نعم عدتُ يا دَاريَ الغاليهْ

ومهد طفولتيَ الخاليهْ

أعيشُ بظلِّك ما قد حييتُ

لأقضِيَ أياميَ الباقيهْ

بعيداً عن المدن الصاخبات

فثروتُهَا خُدعةٌ فانيهْ

نشأتُ من المهْدِ بين الرُّعاةِ

أحِنُّ إلى الغنمِ الثَّاغَيِهْ

وأتبع في السهل ضِلَّ الخراف

على هَدْى آثارها الباديه

أُتابِعُهَا خُطْوَةً خُطْوَةً

إلى النجم في القبة الحاليهْ

ولي مِثلهُمْ في رَوَاح القطِيع

أَغانِيُّ هاتفةُ شاديه

وأَغْسِلُ من بيضِ أصوافِهَا

على ضفَّةِ البركة الجاريه

وأَصْبُو إلى هَزَجاتِ المساءِ

تُبدِّدُهَا ريحُهُ السَّارِيَةْ

وأصغي إلى عرباتِ الحقول

فأسمعُ ضجتَهَا النَّائيه

قسا حِمْلها فوق أعطافِها

فناحَتْ بأجمالها القاسيه

أَحبُّ الرَّنينَ الأصمَّ الجميلَ

لأِجْراسِ حُمْلانها الراعيه

تصلُّ هُناكَ بأعْناقها

من الغاب، أو ذِرْوَةِ الرابيه

فيا وطني، لا عَدَتْني بكم

ظِلالٌ مقدَّسةٌ واقيه

وصفصافة كلِّلَتْ بالنَّدى

فتشهد أغْصانَهَا باكيه

بكَتْ تِرْبَهَا حينَ طال الغيابُ

فجادَتْ بأدْمُعِهَا شاكيه

فيا سَرْحَتِي هَوِّني من شجاكِ

وَأَحْنِى مِنً الْغُصُنِ العاليه

على غائبٍ كنتِ تبكينَهُ

فعادَ لأوطانه ثانيه!!

علي شرف الدين

ص: 37

‌البريد الأدبي

عدد الرسالة الخاص بالعراق

تُحسن (الرسالة) غاية الإحسان بما تتهيأ له من إصدار أعداد خاصة عن الأقطار العربية الشقيقة؛ فتلك لعَمري أجل خدمة تؤديها هيئة أو فرد، لنصرة هذه اللغة الشريفة، وإذكاء روح الوحدة والتعاون بين شعوبها التي ناء بها الضعف، وأذهب ريحَها التفرقُ والخذلان.

و (الرسالة) أقدر (هيئة ثقافية) على الاضطلاع بهذا العمل الذي تعرضت له؛ بل لا نغالي في الزعم بأنها تبلغ من هذا أضعافَ ما قد تبلغه (هيئة سياسية) تقيِّدها الرسميات، وتحوط عملها العراقيل الظاهرة والخفية. . . وشتان ما بين القوتين: قوة الأدب في صراحته ونفوذه وسلامة مقصده، وقوة السياسة في التوائها وتنكرها وتستر أغراضها ومراميها. . .

على أننا نحب - وعدد العراق بسبيل الإعداد - أن نوجه أنظار أدبائنا الأفاضل ممن سيتاح لهم الاشتراك في تهيئة هذا العدد إلى وجوب الإطناب في تاريخ العراق الحديث حتى يتهيأ لكل عربي طُلَعةٍ أن يعرف عن حياة العراق الاجتماعية والسياسية والأدبية والاقتصادية والعمرانية. . . ما فيه الغَناء. نحب أن نعرف عن بغداد فيصل وغازي مثل ما نعرف عن بغداد أبي جعفر وهرون، إن لم يكن أكثر؛. . . ولتكن محاسن نهضة العراق الحديثة موضعَ كلام كثير؛ ولكن لتذكروا لنا أيضاً بعض المساوئ التي قد تأخذها العين؛ ففي ذلك نفع للعراق وخدمة للعرب جميعاُ.

ولا نحب بذلك أن ترك الماضيَ إلى هذا الحاضر الحافل المتشعب، فماضي العراق وتاريخ دُوَله مما تلذّ لنا قراءته في كل وقت؛ لأنه تاريخنا جميعاُ: تاريخ حضارتنا وديننا ولغتنا وقوميتنا؛ وصورةٌ من مجدنا الذي نصبو إليه مخلصين، ونهفو إلى استعادة ذكرياته والتأسي بعبَرة، حتى تأذن لنا الأيام بأن نستعيد مفقوده ونحيي موءوده.

. . . . فلنقرأ من خير هذا الماضي وشره ما يعيننا على إدراك حقائق الحاضر حتى نعرف فيه طريقنا ونتميز موقفنا. . .

وأخيراً نسأل أدباءنا، ولتكن أجوبتهم على ذلك في العدد الخاص: أين من يعقد لنا مقارنة بين بغداد القديمة والحديثة (مع خريطتين لهما)؟

أين من يحدثنا عن آثار العراق الباقية إلى اليوم، والتي قد تُتاح مشاهدتُها لمن يزوره؟

ص: 38

أين من يذكر لنا مشاهده المأثورة وقبوره المشهورة؟

أين من يذكر لنا لهجاته القديمة والحديثة؟

أين من يصف لنا أزياءه وما مرت به من أطوار وتغيرات؟

أين من يحدثنا عن خصائص شعبه في غير تمويه، وعن أنظمة حكومته في غير تعقيد، وعن جميع مواهبه ومقوماته في غير تحيُّف ولا مغالاة؟

أين من يطوي بنا المكان والزمان إلى حاضر العراق وغابره فنراهما ونعيش فيهما، ونتحدث عنهما حديث الواثقين العارفين؟

أين من يفعل ذلك كله؟

أين؟ أين؟. . . كما يقول الدكتور الجليل زكي مبارك، الذي نقترح عليه أن يحدثنا عن كل شيء في العراق سوى (ليلى المريضة). . . فقد آن لها - وحق أدبه الرفيع - أم تشفى!

(جرجا)

محمد عزت عرفة

رجع إلى ديكارت وابن يعيش

قرأت في العدد 465 من الرسالة كلمة قيمة للأستاذ (محمد خليفة التونسي) استهلها بالرد عليّ فيما قلته في العدد 463 من أن أبن يعيش سبق ديكارت إلى الشعور بالفكرة التي بنى عليها أبو الفلسفة الحديثة منهجه الموصِّل إلى اليقين بعد الشك، ومن أن ديكارت عمل ما لم يعمله ابن يعيش فصاغ هذه الفكرة في منهج فلسفي فكان هذا الفرق بينهما.

استهل الأستاذ كلمته بالرد عليّ فيما قلته؛ فقال إن ابن يعيش لم يكشف مذهباً فلسفياً، لأنه كان يناقش تركيباً عربياً من حيث معناه، ولأنه لم يجُلْ بفكره أن يقف عند هذه القضية قليلاً ولا كثيراً، فليس الفرق أن ديكارت صاغ وابن يعيش لم يصغ

وأنا أشكر للأستاذ عنايته بتمحيص ما قلت، ولكنني أرى أنه فهم كلامي على غير الوجه الذي قصدتُ، ومال به إلى غير الطريق الذي نهجت، فظن أنني أريد أن أقول إن ابن يعيش كشف مذهباً فلسفياً.

ففي الحق أنني ما أردت أن أقول ذلك، وما خطر لي ذلك ببال، فابن يعيش رجل نحوي

ص: 39

قبل كل شيء، وهو في قوله لم يحاول مطلقاً أن يثبت وجود نفسه لأنه ما شك مطلقاً في وجود نفسه، وإنما كان - كما يقول الأستاذ - يناقش تركيباً عربياً من حيث معناه.

إنما أردت أن أقول إن الفكرة التي بني عليها ديكارت مذهبه وهي أن في تفكيره المرء برهاناً على وجوده قد شعر بها ابن يعيش مجرد شعور فقال في عرض كلام له عن تركيب عربي إن في علم المرء برهاناً على وجوده.

ففكرة ديكارت قريبة الشبه من فكرة ابن يعيش وأن لم تكن هي ذاتها. وذكره لها في عرض كلامه النحوي معناه أنه لم يصغ هذه الفكرة في منهج فلسفي. وما كان غرضي مما قلت أن أهزّ مؤرخي الفلسفة هزاً عنيفاً لينتبهوا إلى أن ابن يعيش سبق ديكارت في منهجه الذي انتقل به من الشك إلى اليقين، وإنما قصدت إلى أن أعرض مثالاً طريفاً لتوارد الخواطر بين الشرق والغرب.

فهذا تفصيل ما أجملت، لعله يوضح ما أنبهم ويفسر ما استسر

على أنني لا أود أن أترك القلم قبل أن أنبه الأستاذ إلى أن ابن يعيش - كغيره من النحويين المتأخرين - كان يعيش في بيئة فلسفية كلامية، فتأثر - كما تأثر هؤلاء - بهذه البيئة في منهج تفكيره وفي عرض تفكيره، وهذا يتضح لمن يقرأ في شرحه على المفصل.

وقصدي من هذا الكلام أن أنص على أنني وإن لم أحمل كلامه السابق على أنه كلام فلسفي إلا أنني أشم فيه رائحة فلسفية وألمح فيه مخايل التفلسف.

فهذا ما جوز لي قرن ديكارت بابن يعيش

وللأستاذ مني تحية صادقة.

السيد يعقوب بكر

إلى من يعنيهم الأمر في وزارة المعارف

لفت نظري أثناء مطالعتي ما جاء بالجزء الرابع من كتاب المقرر تدريسه لطلبة السنة الرابعة بالمدارس الابتدائية تأليف ، و ، المطبوع في مصر في 4 أغسطس سنة 1936 بالصفحة رقم 121 أثناء كلامهما عن الإسكندرية) قولهما: إن عمراً (بن العاص) عندما وصل إلى الإسكندرية على رأس جيشه الذي سلمه قيادته الخليفة عمر بن الخطاب

ص: 40

في سنة 642 عمد إلى تخريب كثير من مبانيها كما أحرق مكتبتها في ثلاثة وثمانين ومائة يوم. وهو ما يأتي بنصه:

641 ، ، 183

واتهام عمرو بإحراق مكتبة الإسكندرية لم يكن سوى فرية قررها بعض المؤرخين لم تعدم من المنصفين من يفندها ويظهر زيفها. وإنه ليصعب على المرء أن يصدق هذه الفرية التي افتراها بعضهم على عمرو والعرب مع ما اشتهر عنهم من حبهم للعلوم وترجمتهم لآداب وفنون كثير من الدول الأجنبية عنهم والمخالفة لهم في اللغة والدين والجنس

وما دامت هذه الفرية لا تزال تتأرجح بين الإثبات والنفي والتقرير والتكذيب، فقد كان من الواجب حذفها من الكتاب خشية رسوخها في أذهان صغار الطلبة الذين يأخذون مثل هذا الكلام المرسل على عواهنه قضية مسلمة ويحسبونه من الحقائق الثابتة وهو محض اختلاق؟

هل تراجع مثل هذه الكتب في وزارة المعارف مراجعة دقيقة، أم أن المسئولين في وزارة المعارف لا يرون في مثل هذه الكتب ما يستحق عناء المراجعة والاهتمام؟

(الإسكندرية)

أحمد عبد اللطيف الحضراوي

الأدب بين الشيوخ والشبان

أذكرتني تلك الكلمات الرصينة التي تدبجها براعة الأستاذ الزيات في صدر رسالته، كما أكرتني كذلك ثورة الكاتب الكبير العقاد على الشاب الأديب الذي كتب إليه يقول له:(إنكم لا ترشدوننا، ولا تأخذون بأيدينا). . . بذلك العنوان

والخصومة بين الشيوخ والشبان، أو الشبان والشيوخ، خصومة قديمة يرجع تاريخها إلى عهد بعيد

وكان الظن إذا ثارت خصومة أدبية بين (الشبان والشيوخ) أن تكون على شاكلة تلك الخصومة التي كانت بين (الهمذاني والخوارزمي) والتي انكشف القناع فيها عن أن (الهمذاني) هذا شاب جدير بإكبار الشبان واحترام الشيوخ، إلا أن شبابنا - كما يقول

ص: 41

(شوقي) - قُنَّعَ لا خير فيهم. . .

وأحب أن ألفت الذهن إلى أن الشيوخ كذلك قضت عليهم الزمانه، وقتلهم حب الظهور، فاكتفوا من الأدب بطنين اللقب وناموا إلى ذلك. ولا يعنيهم - حين يكتبون - أصابوا أم خابوا، ما دام لهم شهرة، ولقلمهم رواج

إبراهيم علي أبو الخشب

إلى الأب أنستاس الكرملي

بمناسبة ما سجله العلامة الفاضل الأب أنستاس الكرملي بمجلة (الرسالة) العدد (464) عن كلمة (المطمورة) العربية الخالصة يجدر بنا أن نقول: إن استعمال هذه الكلمة لم يختص به أهل العراق فحسب، وإنما ينطق بها أهل السودان أيضاً

وأهل السودان لا يعنون بها (ما يتخذ لحفظ الطعام إن كان على وجه الأرض أو كان على خارجها)، كما يفعل أهل العراق، وإنما يقصدون بها إلى المعنى الذي نصت عليه قواميس اللغة وهو:(المطمورة: حفرة يطمر فيها الطعام: أي يخبأ (ج) مطامير)

أما ما يتخذ لحفظ الطعام خارج الأرض، أو ما يكاد يعبر عنه قول الأب الفاضل:(أما إذا كان فوق الصعيد، فإن أصحابه يجعلونه جرة عظيمة، ثم يسنمونها على هيئة مخروط ثم يسيفونها ويصمدونها حتى إذا نزلت بها نوائب الجو من مطر وبرد وثلج ورياح قاومتها أحسن مقاومة، ودفعت أضرارها إلى أحسن الوجوه)؛ فإن أهالي السودان يعبرون عنه بكلمة (السِّوَيبهْ)

وعلى ذكر هذه الكلمة (السوبيه)، نتقدم بها إلى الأب الفاضل راجين منه أن يتفضل ويرشدنا: هل لهذه الكلمة أصل في اللغة العربية بما يفيد هذا المعنى الذي يقصد إليه بها أهل السودان، أو ما يقرب منه؟

(الأبيض - سودان)

عبد الرحمن أحمد سعد

ص: 42