الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 468
- بتاريخ: 22 - 06 - 1942
مثل المصرية الحديثة
- 1 -
لا تزال السيدة و. . . على العهد بها طاهرة القلب حاضرة اللب
ساحرة الحديث حرة الفكر، لا تختلف وهي عقيلة تدبر البيت وتدير
المزرعة، عنها حين كانت معلمة تسوس الفصل وترأس المدرسة، ولا
يزال بهوها الجميل يستقبل في مساء الخميس من كل أسبوع نفراً من
خليط الخاصة فيهم الأديب والطبيب والمحامي والجندي والفلاح
والواعظ، وكلهم إما قريب أو صديق أو صهر
والسيدة و. . . مثل صادق للمصرية الحديثة حين تراها في ثوبها الأنيق، المحكم على قدها الرشيق، تتخذ من البهو مكان القلب، فترسل الدم بالحياة والنشاط والرغبة والبهجة إلى كل عضو من أعضاء المجلس
جمال السيدة فاتن؛ ولكن جلال الحشمة فيه يكف عنه النظر الشهوان فيقف على حدّ الإعجاب به
وأدب السيدة رائع؛ ولكن روعته آتية من قوة الذكاء لا من سعة الإطلاع؛ فهي ترى الرأي في بعض معاني الأدب فتحسبه من إلتماع الذهن فيه عالي النمط، وهو في حدود الوسط
وعلم السيدة دون الكفاية؛ ولكنها ترفده بقليل من الدعوى المقبولة، فترفعه المبالغة منها والمجاملة منك إلى المستوى اللائق بالمرأة المثقفة
وذوق السيدة رفيع؛ ولكنه ذوق الأنوثة الموهوب لا ذوق الحضارة المكتسب؛ أرهفته بالقراءة، وصقلته بالمران، حتى أوشك أن يكون من خلالها الأصيلة يصدر عنه ما يصدر عن الطبع السليم من حسن الاختيار وجمال التنسيق وصحة المواءمة.
وزوج السيدة طبيب؛ ولكنه يعمل في عيادته عمل المنهوم بالعلم والمال؛ فهو لا ينفك طول يومه بين تفريق (التذاكر) وجمع النقود ثم لا يعلم من دنياه شيئاً بعد ذلك. فهي التي تدبر المنزل وتدير العزبة وتربي الأولاد وتنمي الثروة وتراجع البنك وتعامل الناس، ثم تجعل من بيتها ومكتبتها وحديقتها جنة يسكن إليها زوجها المكدود وولدها المجهود وقريبها
المكتئب وزائرها المتطلع
قد يكون لمزاولتها التعليم في شباب العمر بعض الأثر في تكوينها على هذه الشيمة من حسن الإدارة وحب النظام وبراعة الحيلة ولطف المداخلة؛ ولكن المرأة المصرية على الجملة تبذ الرجل في هذه الخلال متى سلمت فطرة الله فيها من بطر النعمة وزيف التربية وسوء المحاكاة
زرت ندَّيها في يومها المختار فوجدته حافلاً بمن يندون إليه في العادة من الأقارب الأدنين والأصدقاء الخلَّص؛ وكانت هي حين أخذت مجلسي تناقل المحامي حديث السياسة، وزوجها يساجل الواعظ حديث الدين، وكان الضابط البطين والفلاح البدين يلقيان السمع إلى هذين مرة، وإلى ذينك أخرى تبعاً لارتفاع الصوت واشتداد الجدل. وكان محضر السيدة في الصالون، ورشاقتها في الإشارة، ولباقتها في الحديث، وتجلي ذوقها وروحها في طراز الأثاث، وطرافة ألوانه، وانسجام قطعه، وحسن توزيعه، كان كل أولئك قد غمر الجالسين بشعور من السمو لم يألفوه، فرقت الأصوات، واتَّأدت الحركات، واتزنت الكلمات، وسما كل شيء في كل نفس. وللزي الذي ترتديه، وللمكان الذي تجلس فيه، وللرجل الذي تتحدث إليه، أثر في نفسك يصدر عنه الفعل مطابقاً للحال التي أحدثته
قالت لي السيدة وقد ترامى بنا الحديث إلى أثر المرأة في الإصلاح ومكانها في الأدب:
- ما بال فلان وفلان يحبان أن يُذكر بمعاداة المرأة وما أظنها وقعت في حياتهما موقع العائق عن إنتاج أو إصلاح أو سعادة؟
فقلت لها: ذلك في رأيي ضرب من الحب ونمط من الغزل! أما دعوة أحدهما إلى استعبادها فلأنه شقي في الحصول عليها، فهو ينتقم منها انتقام الصائد الأرعن من الطائر المسحور. وأما دعوة الآخر إلى استعبادها فلأنه يئس من الوصول إليها، فهو يزهد فيها زهد الفأر الأبتر في قدرة السن. والمثّلان معروفان!
فقالت: إذن لو كان نصيبهما من المرأة خيراً مما كان، لأصبحت حواء خيراً من آدم، ولكانت المرأة المصرية خيراً من المرأة الأوربية! وهنا ابتدرني الواعظ إلى الكلام فقال:
- لا يجوز في الدين ولا من العقل أن تكون حواء خيراً من آدم. ذلك أنها خلقت من ضلع أعوج، فمن طبيعتها ألا تستقيم. وما لا يستقيم لا يصدر عنه استقامة ولا عدل. ولو أن الله
أراد لها غير ذلك لخلقها من رأس آدم فهيمنت عليه، أو من إحدى جوارحه فسعت معه
فقالت السيدة: ولم لا يكون لخلقها من ضلع آدم حكمة أخرى يا أستاذ؟ أليس في خلقها من أحناء صدره تعيين لوظيفتها وتوجيه لرسالتها؟ إن حنوها على الزوج والولد، كحنو الضلوع على القلب والكبد. والأسرة التي تشبل عليها المرأة هي العضو الرئيسي في جسم الأمة، كما أن الأجزاء التي تشبل عليها الضلوع هي الأعضاء الرئيسية في جسم الإنسان
قال الطبيب: معنى ذلك أن عمل المرأة لا يتعدى المنزل
فقالت السيدة: وهل ذلك يسير؟ إن المنزل عالم أصغر ينطوي فيه العالم الأكبر. وإذا كانت الأمة هي الأسرة مكرَّرة، والوطن هو الدار مكبَّرة، فإن المرأة القائمة على شؤونهما لتحتاج من الثقافة والحصافة ما يحتاجه رجل الدولة. إن في البيت حجرة طعام، وغرفة نوم، وبهو استقبال، وقاعة مكتبة، وحديقة زهر، ولكل مكان من هذه الأمكنة ثقافة خاصة لابد للمرأة الصالحة أن تحذقها جميعاً
ومضت السيدة في حديثها العذب تفصِّل هذا الأجمال، والطبيب والمحامي يصغيان إصغاء الإعجاب، والضابط والفلاح ينظران نظر العجّب؛ أما الشيخ فقد كان همه كله من هذا الحديث، أن يرقب اتفاقه أو اختلافه مع القرآن والحديث
(للحديث بقية)
أحمد حسن الزيات
طلائع هجوم الصيف
رجال الأدب ورجال القضاء
(ما رأي الأستاذ الزيات والأستاذ العقاد في موضوع هذا
الحديث؟)
للدكتور زكي مبارك
أشرت فيما سلف إلى خطأ الأستاذ توفيق الحكيم حين (منَّ) على الأدب بأنه هجر من أجله القضاء، فقد كان (وكيل نيابة)، وكان يستطيع بقليل من الصبر أن يصير من القضاة المحترمين، على حدّ تعبيره الجميل!
ولو أن هذا (المنّ) صدّر عن رجل غير توفيق الحكيم، لكان من السهل أن نضيفه إلى العامية الفكرية، والأفكار كالناس فيها عوام وخواص، فلم يبق إلا أن نحكم بأن ذلك (المنّ) هفوة قلم وقع فيها توفيق الحكيم وهو يحاور طه حسين
وقبل أن أواجه موضوع هذا الحديث، أُسجِّل أن رجال القضاء في مصر أقاموا أُلوف البراهين على أنهم من أرباب الفكر المُشرق، وأن نزاهتهم فوق الأوهام والظنون
ولكني مع هذا لا أقبل القول بأن رجال القضاء أرفع منزلةً من رجال البيان، وما يسيغ ذهني أن يكون في خلق الله من يتفوق في الرفعة والشرف على صاحب القلم البليغ
ثم أواجه الموضوع فأقول، على أي أساس يقوم القولّ بأن رجال القضاء أعلى من رجال البيان؟!
أيكون الأساس هو الفرق بين تكوين القاضي وتكوين الأديب من النواحي العقلية والذوقية والروحية؟
إن كان ذلك هو الأساس، فنقضُه أسهل من السهل، والقضاة أنفسهم يعرفون أن تكوين الأديب من أخطر المعضلات، وأن الله قضى بأن تكون دولة القلم إلى آحاد، ولو كانت تلك الدولة في أمة يعد أفرادها بمئات الملايين
إن من حق كل متخرج في كلية الحقوق أن يكون من رجال القضاء، وليس من حق كل متخرج في كلية الآداب أن يصير من رجال البيان، لأن للأدب شرائط أساسية، ومن تلك
الشرائط أن يكون المرشح للأهلية الأدبية له قلب وذوق وروح، وكلية الآداب هي التي تنطق بهذا الحكم، لأنها تريد أن يكون ميزانها أدق الموازين، ولأنها تعرف أن الأدب غايةٌ عزيزة المنال
ومهمة القاضي أسهل من مهمة الأديب، لأن القاضي يحكم وفقاً لقانون مكتوب، ولا يطالّب في كل يوم بالاجتهاد
هل سمعتم حديث عبد العزيز باشا فهمي؟ إن لم تكونوا سمعتموه فاسمعوه:
حين عُيِّن عبد العزيز باشا فهمي قاضي القضاة حكم على نفسه بالعزلة القاسية، فكان لا يذهب إلى المحكمة إلا في عربة (مقفولة)، وكان يرفض أن يستقبل أحد الزوَّار في البيت، ليسلم من جميع المؤثرات الخارجية
فهل ترون الأديب يملك هذا الحق من اعتزال الناس؟
هيهات، ثم هيهات!
واجب الأديب أن يدرُس جميع الخلائق، وأن يطلَّع على المستور من الطبائع، وأن يشارك العابدين في المساجد، واللاهين في الفنادق، ليعرف دخائل النفوس والقلوب، وليكون على بينة من تطور الأذواق والعقول
الوجود كله كتابٌ مفتوح ينظر فيه الأديب صباحَ مساء والقاضي لا يحس الوجود كما يحسه الأديب، إلا أن يكون قاضياً أدبياً، وفي القضاة أدباء تدل عليهم البوارق الفكرية من حين إلى حين
الأديب يتلقى وحي الحياة في كل وقت، وهدَف الأديب هو استجلاء الغوامض من السرائر، وقد يتسامى فيحاول قراءة المسطور في صحائف الغيوب
وظنُّ الأديب في بعض الأحوال أصدق من اليقين، لأن فطرته تخضع في كل لحظة إلى التقويم والتثقيف، فهو أعظم الناس روحانية بلا نزاع ولا جدال
قد يُصدر القاضي عشرات الأحكام أو مئات الأحكام بقليل من الجهد، حين تتقارب أو تتماثل موضوعات الخصومات، ثم تظل منزلته الرسمية في أمان، لأنه لا يطالّب بالابتكار في القضاء، ولو شئت لقتُ: إن الابتكار قد يحرَّم عليه في بعض الأحيان
فهل يظفر الأديب بمثل هذا الحق فيعالَج الموضوع الواحد بأسلوب واحد بضع مرات؟
وهل يستطيع كاتبٌ مثلي أن ينشر في مجلة (الرسالة) مقالاً نشره من قبل في جردية (البلاغ) مع شيء من التبديل والتعديل؟
حرفه الأدب فظيعة فظيعة، فهي تقضي بأن يكون مصير صحبها مرهوناً بأقرب مثال أو أحدث قصيد، ولكل إنسان أن يكتفي بماضيه إلا الأديب، فهو مسئول أمام قرائه عن يومه الحاضر، وقد يُسأل عن جهاده في المستقبل البعيد!
فأين القاضي من هذه المتاعب؟
ومن يَسأل القاضي عن يومه أو غده، وهو عن ماضيه غير مسئول؟
بعد ثلاث دقائق من المدة المقررة لاستئناف الحكم لا يجوز للمظلوم أن يرفع شكواه إلى غير المساء
أما الأديب فيُسأل عن أحكامه بعد الأعوام الطوال، ومن حق كل مخلوق أن يتزيد عليه كما يريد
قولوا الحق، أيها القضاة العادلون
أفيكم من يشقى بحرفته كما يشقى الأديب؟
القانون يحميكم من عبث الجاهلين والسفهاء، فلا تُكتب عنكم كلمة مدخولة، ولا يتطاول عليكم أفّاك، ولا يعترض سبيلكم أبناء السبيل
ومن أجل هذا أقول بعبارة صريحة إن جهادنا في دنيانا أخطر من جهادكم في دنياكم، وإن تأهبنا لفهم معضلات الوجود أقوى من تأهبكم لفهم تلك المعضلات
فاعترفوا - غير مأمورين - بأن تكوين القاضي لا يقاس إلى تكوين الأديب
ثم ماذا؟ ثم يكون أساس المفاضلة أن القاضي يخدم العدالة، وهو الحظ الذي ضاع على الأستاذ توفيق الحكيم حين أغراه الدكتور طه حسين بأن يُحشر في زمرة الأدباء، وتلك أول مرة يحشر فيها (المؤمن) مع من يبغض!
وأقول إن خدمة العدالة من أهم أغراض الأديب، فهو أقدر الناس على وزن المعاني، وهو الفيصل في تقدير المناقب والمثالب، وعن قلم الأديب يأخذ القضاة دقائق المحاسن والعيوب وفي صدر كل قاض حاسة أدبية تهديه حين يوَّفق إلى الأحكام الصِّحاح
القاضي لا يتعرض لأي تعب حين يحكم بالعدل، وإنما يثاب على الحكم بالعدل، أما الأديب
العادل فيقضي دهره في مكاره لا تطاق
إن حكم الأديب بالعدل في قضية الفن فهو ماجن، وإن حكم بالعدل في قضية الفكر فهو زنديق، وإن عادى الزعماء فهو من الخوارج، وإن صادق الزعماء فهو من الوصوليين، ولا تقع محنة في أي انقلاب إلا على رءوس رجال البيان
كل حكم يقابل بالرضا المطبوع أو المصنوع إلا حكم الأديب، لأن الجمهور يعرف أنه مؤزَّر بالقُوى الرسمية، وهل يهاب الناس القاضي إلا لأنهم يعرفون أنه يستطيع (حبس) من يشاء حين يشاء؟
الأديب يملك الحكم ولا يملك التنفيذ، والقاضي يملك الحكم والتنفيذ، فهو في نظر الدهماء أعظم من الأديب، وهو كذلك في نظر توفيق الحكيم!
نحن - رجالَ القلم - خدَّام العدالة في نصابها الحق، ولو خلت الدنيا من أسّنة أقلامنا لأضحت وهي أقفر من الجنة بعد خروج آدم المظلوم
بأقلامنا تصور الغرائب من أوهام العقول وأحلام القلوب، بالعدل والقسطاس. وعنا يأخذ القضاة أصول الحكم السليم من شوائب الأغراض
ومزية الأديب - مزيته الحقيقية - أن الشعوب لا تعرف قدره الصحيح إلا حين ترتفع، ولعل هذا هو السبب في أن قضاة المسلمين لأيام عزهم كانوا من رجال القلم البليغ
ما مجد وما سلطانها في العصر الحديث؟
أكان القضاة هم الذين سَموْا بها إلى تلك المكانة العالية؟
ما ارتفع من قضاة مصر غير الأدباء من أمثال سعد زغلول وقاسم أمين، ومن والاهم من كتَّاب التشريع بأسلوب الأدب الصحيح
العدالة عندنا - رجالَ القلم - وما نبغ نابغٌ إلا بوحي تلقَّاه عن أدبنا الرفيع. عندنا اللهب المقدَّس، عندنا الروح الأمين. فأين من يزعم أنه عرف فكرة العدل قبل أن يأخذ عنا فكرة القسطاس بين الألفاظ والمعاني؟
إن قيل إن لغة القانون أدقّ من لغة الأدب أَجبنا بأن القانون لا تكون له لغة إلا حين يكون المؤلفون فيه من أدباء المشرّعين.
ومن الذي يعلِّم الناس دقائق الفروق في التعابير الفقهية والاقتصادية والديبلوماسية؟
عِلُم ذلك عند أصحاب الأقلام الجياد، وما جاز لمشرّع أن يوازن بين لفظ ولفظ، وبين عبارة وعبارة، إلا وهو مسيَّر بقوة أدبية تدله على ما في الألفاظ والعبارات من أعصاب وأحاسيس، والألفاظ تقتتل وتصطلح كما يفعل الأحياء.
إن رجال القضاء لا ينسون أبداً أن أحد أقطاب الأدب الفرنسي كان يقرأ صفحات من (القانون المدني) قبل أن يشرع في الإنشاء، وهم يذكرون هذه القصة كلما بدا لهم أن يفضّلوا اللغة القضائية على اللغة الأدبية، فكيف غاب عنهم أن القانون المدني أنشأه رجلٌ أديب؛ وكيف فاتهم أن الدقة والوضوح لا يصدُران إلا عمن تمرّس بالإنشاء البليغ عدداً من السنين؟
وما يقال عن (القانون المدني) يقال عن (الفقه الإسلامي) فرجال الفقه في الشريعة الإسلامية كانوا من أقطاب الأدباء، وكان جهادهم في تحرير الألفاظ والمعاني يفوق جهاد أبي تمام والبحتري والرضيّ، وإن تناساهم تاريخ الأدب فلم يذكر لهم ذلك المقام المحمود.
وأرجع مرة ثانية إلى كميّة الإحساس بالوجود عند القاضي وعند الأديب فأقول:
القاضي لا يلتفت إلى إشكال إلا حين يُدعى إليه، فهو في أغلب أحواله من المحايدين، بدليل أنه لا يُفتى إلا من يستفتيه، وقديماً قيل:
(لو أنصف الناس استراح القاضي)
فهل يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى الأديب؟
الأديب لا ينتظر قدوم المستفتين من الشرف أو الغرب، وإنما يمضي فيشرّح آلام الناس قبل أن يحسوا تلك الآلام، أو قبل أن يقهرهم استفحالها على الأنين والصراخ.
والأديب يدرس الوجوه بأعمق مما يدرسها الطبيب.
ومن غرائب الأديب أنه يعرف أعمار الأصوات والملامح والعيون، فإذا حدّثه محدّث عن طريق الهتّاف أدرك عُمر ذلك المحدّث وتبَّين ملامح وجهه ولفتات عينيه، وإن لم يره من قبل
ومن هنا كان الأديب أول من يدل أمته على المخوف من الحوادث والخطوب؛ ومن هنا أيضاً كان الأدب أسبق من الطب ومن القضاء، لأنه فطره وجودية عاصرتْ أقدم عهد من عهود التاريخ.
ولو كان القاضي يحسّ الوجود بمقدار ما يحسه الأديب لانتفع أعظم الانتفاع من الوجهة الأدبية بما يشاهد كل يوم من اصطراع النوازع والأحاسيس في ساحات القضاء، ولكن الواقع يشهد أن محصول القضاة في الأدب قليل قليل، بالقياس إلى الفرص المتاحة لدرس نزعات النفوس وأهواء القلوب.
والإنصاف يوجب أن نقرر أن القاضي منهيٌّ عن تعقّب الناس، فلا يجوز له أن يمرّن قلمه بتصوير ما يُعرض عليه من آثام وذنوب، وقد يحرم عليه أن يحكم قبل استخبار البينات والشهود، وإن كان يعرف كيف يفصِل بأدلة نفسية في بعض الأحايين.
القاضي لا يطالَب بما يطالَب به الأديب، والناس أنفسهم يكرهون أن يعرف القاضي سرائرهم، ولكنهم يحبون أن يُفصح الأديب عما يضمرون، لأن علم القاضي بسرائرهم أخطر عاقبةً من علم الأديب، والإنسان حيوانٌ لئيم!
وإعفاء القاضي من تعقب الناس أراحه من درس مشكلات النحائز والطبائع، إلا في الشؤون القلائل، فهو بين أهل الفكر من السعداء.
أما الأديب فهو كلَّ يوم في حال أو أحوال.
على الأديب أن يحدثك عن نفسك بما تجهل من نفسك، وعليه أن يدخل فيما لا يَعنيه فينشر المطويّ من أخبار بيتك، وإن لم (يتشرف) بزيارة ذلك البيت.
الأديب مسئول عن تقديم صورة صحيحة لكل فضيلة، ولكل رذيلة، ولكل وهم، ولكل وسواس، وهو مع ذلك مطالبٌ بالتصوّن المطلَق، فلا يجوز له أن يعرف من يشاء من طبقات المجتمع، ولا يُقبل منه أن يتعرف إلى أولئك أو هؤلاء، وإلا تعرض للمرذول من إفك السفهاء.
أما القاضي - وما أسعد القاضي! - فهو لا يحكم إلا بعد أن يشتجر في حضرته المحامون والشهود، ليعرف خفايا القضايا بأيسر عناء، ولا مُعقّب لحمه حين يحكم، وهو نفسه لا يملك الرجوع في قضائه حين يريد.
وفي هذا المأزق تظهر قيمة المسئولية الأخلاقية في حياة القاضي وحياة الأديب
القاضي ينفض يديه من كل مسئولية بعد الحكم المؤَّيد بالبينات والشهود
أما الأديب فيستفتي ضميره فيما قضاه، ولو طال الزمان، وقد يتعرض لأقبح السخرية حين
ينتقل من رأي إلى رأي، وما يعرف مخاصموه أنه لا يرجع عما رآه في الأمس القريب أو البعيد إلا لعرفانه بأنه المسئول الأول عن رعاية العدل
ومن الأسباب التي توجب أن يكون إحساس القاضي بمعضلات الوجود أقل من إحساس الأديب أن التنافس بين رجال القضاء لا يقاس إلى التنافس بين رجال البيان
القاضي في إحدى محاكم الإسكندرية لا يعرف شيئاً عن زميله بإحدى محاكم القاهرة أو المنصورة أو أسيوط، لأن (سِرية القضاء) مبدأ مصون
أما الأديب في القاهرة فأحكامه وأخباره منشورة بين جميع الناطقين بالضاد، وقد تنوشه أقلامٌ أجنبية لا يعرف ما ترمي إليه من خبيث المعاريض
لو تعرضتْ أحكام القضاء لنقد العلانية، كما تتعرض أحكام الأدباء لنقد العلانية، لعرفَ قومٌ أن أعصاب الأدباء الكبار صِيغتْ من الفولاذ، وأن الأديب لا يسيطر على زمانه إلا بعد أن يعجز عن هدمه أبناء الزمان
بقيت مشكلة خطيرة في الفرق بين مكانة القاضي ومكانة الأديب
للقاضي نظامٌ تضع رسومه كلية الحقوق، فما النظام المرسوم للأديب؟
أيكون الأديب من يظفر بدرجة جامعية تمنحها كلية الآداب؟
وكيف وكلية الآداب تنكر هذا الحكم، كما أشرت من قبل؟
إذن يكون من حق كل مخلوق أن يدّعي الأدب حين يشاء، وهذا هو الواقع بالفعل، وهو السبب في أن مِلكية الأدب المدّعاة صارت أعرض من الصحراء، فكيف يحفظ الأديب الموهوب مكانته في الوجود؟ وكيف يرفع العقبات التي يضعها في طريقه (كبار) الأدعياء؟
الجهاد الموصول هو سناد الأديب الحق، وما استطاع أديب أن يظفر بمكانة عالية إلا بعد جهاد يدوم عشرين سنة أو تزيد، وهي مدة كافية لموت الطفيليات
فليس بأديب من يقول: (خذوا بيدي) كما يقول الضعفاء
وليس بأديب من ينتظر العون من هذا الحزب أو ذاك
وليس بأديب من يتشبث بأذيال أحد النوابغ ليضمن له الرزق الحرام أو الحلال، كالرزق الذي يُضْمن للمستأدب المجهول حين يتصل بالأديب المعروف
الأدب الذاتيُّ هو شخصية ذاتية، وما يضيع أديبٌ إلا حين يَقْبل أن يكون من المحاسيب
ألكم خصومٌ أموات كالخصوم الذين نعرف، أيها القضاة المحترمون؟
يخاصمكم من يخاصم وهو مدَّرع بعلوم الشرائع؛ ويخاصمنا من يخاصم وهو (لِبلاب) يعتصم بهذا الجِذع أو ذاك
أما بعد فهذه كلمة أردنا بها وجه الحق في إعزاز الأدب الرفيع، ومن موجبات الفوز أن يكون الطرف الثاني في القضية هم رجال العدل، وعليهم نعوِّل في تأييد ما قدمناه من البينات، ومنهم ننتظر إنصاف الأدب من القضاء
مضت أزمان وأزمان والأدب في محنة بسبب تخلف أهله عن الميادين الرسمية، أو بسبب تودد أهله إلى الميادين الرسمية، فمن واجبنا اليوم أن نرفع راية الأستقلال، وأن نعتزّ بالقلم الذي أقسم به ذو العرش المجيد
تستطيع كل أمة أن تخلق من الطبقات ما تشاء، ولكن الأمم مجتمعةً تعجز عن خلق أديب واحد، لأن الأدب منحة ربانية تفوق هبات الممالك والشعوب
فمن طاب له أن يمنّ علينا بأنه هجر من أجل الأدب هذه الطبقة أو تلك، فليعرف اليوم أننا أصحاب الحق في أن نمنّ على من نمنحه متفضلين لقب الزميل، أو لقب المُريد
الأدب شريعة من الشرائع، ومن واجب كل شريعة أن تنفي من يؤمن بها على حَرف
وصدق الله العظيم حين قال (وما على الرسول إلا البلاغ)
زكي مبارك
الشخصية الهستيرية
للدكتور محمد حسني ولاية
وصف كريبلين الشخصية الهستيرية قال:
1 -
لم يعثر على أي نقص في ذكاء 164 من المرضى بالهستريا إذ لم يكن هناك اضطراب في الإدراك أو قوة التدليل، بل الهستيري كثير التقلب فيما يفكر فيه، وتستحوذ عليه بدوات وأوهام قوية الحيوية، فإن أمانيه غير منظمة وسطحية ولو أنها متسعة النواحي والأرجاء، ومقدرته على تكييف نفسه لأي ظرف فائقةً ولكن ينقصه الثبات وقوة الاحتمال. ويمتاز بانقياده إلى كل شيء جديد، فإذا استعرضنا حوادث التاريخ وجدنا أن أول المناصرين وأكثر المحاربين حماسة لبلوغ الأهداف المعجزة هم الهستيريون
يدس الهستيري أنفه في شؤون الناس لاستنشاق أسرارهم والوقوف على أحوالهم، ويلذ له أن يكون ماثلاً في عيون الجماهير وأذهانهم فلا يفتأ ينقب عن وسائل جديدة للوصول إلى هذه الغاية
2 -
إن الارتباطات العقلية سطحية في الهستيري الذي يمتاز بكونه متسرعاً ومركزاً اهتمامه في نفسه فقط. أما حكمه على أمر من الأمور فرهين أول أثر يتركه هذا الأمر في نفسه بما يتمشى مع نزواته الشخصية. وعلى الرغم من أنه شديد العناد، لا تلين له قناة، فإنه يغير مبادئه بسرعة لأنها لم تكن قط متغلغلة في أعماق نفسه.
وإن الميل إلى حلم اليقظة وثيق العلاقة بالخيالات والبداوات الممتلئة حيوية، فهو يتوهم نفسه في مواقف لا تمت إلى الحقيقة بصلة، ويحيك حول هذه المواقف خيالات متشعبة مترامية، فقد يرى نفسه بطل حوادث نظرية مختلفة أو ضحية هجمات أعداد وهميين. ومما يزيد الطين بلة أنه يترجم أوهامه وبدواته إلى لغة الحقيقة فيتمادى في اختلاق حوادث متصلة بالواقع يدعمها ببراهين تبدو قاطعة
3 -
ذاكرة الهستيري واهية لا يعتد بها لأنها رهينة عوامل انفعالية شتى فهو ينسى الحوادث التي لا تروق له ويعلي من شأن ماضيه ويشوه حقائقه ليكون وفق رغباته الشخصية
4 -
الهستيري ناري الانفعالات لا يستطيع أن يتحكم في أعصابه، متطرف في حبه
وكرهه، يرتجف الناس خوفاً من غضباته وعنف هياجه، فهو شديد التقلب في سلوكه دون مقدمات ولا سابقة إنذار. وهو إما راتع في الفرح أو غارق في الهم
وتقترن بهذه الثروة الكبيرة من الانفعالات صفة الصلابة والعناد وعدم المبالاة التي تدعو الهستيري إلى الاختيال على جثث الموتى، وقد ارتسمت على فمه ابتسامة. أما السبب الذي يفسر هذا السلوك المتناقض المتنافر، فهو عدم التناسب بين الانفعال والتعبير عنه.
5 -
لا يفكر الهستيري إلا في نفسه. وإن تقديره المبالغ فيه لنفسه متعطش دائماً إلى الإقرار والتثبيت، ويسره دائماً أن تتجه أنظار جميع الناس إليه. أما أمانيه فلن تقف عند حد.
ومما يحدوه إلى المجازفات، التنقيب عن كل شيء يمتاز به على الآخرين. وهو يعرف جيداً كيف يتحكم في بيئته ليكون طاغيتها بكل الوسائل الماثلة لديه.
ومن الطرق التي يلجأ إليها الهستيري في كفاحه لنيل تقدير الجماهير إنكار الذات (ظاهراً) والفدائية، واستعذاب العذاب في سبيل تحقيق المبادئ السامية، وهو يتشدق بأنه يضحي بنفسه في سبيل مساعدة الفقراء وخلاص المعوزين، وبأن حياته رهينة كل غاية تفيد الإنسانية، فليعترف له جميع الناس بفضله وتضحيته. وما حب الهستيري للعذاب إلا لكسب أهمية خاصة في أعين الناس. على أنه يلذ له أن يكون غامضاً غير مفهوم.
6 -
يمتاز الهستيري بقوة فائقة على انتحال أعراض المرضى الآخرين وبإطالة مرضه عن طريق الإيحاء الذاتي - ويفيض سيل وحيه على الأشخاص الموالين له أو المقرين إليه.
وإن النفوذ الذي يستمتع به الهستيريون والجاذبية الشخصية التي تقود إليهم الناس أفواجاً مبنية على طبيعة قوة إيحائهم.
7 -
على الرغم من وفرة الانفعالات السطحية تظل الغرائز الطبعية في سبات عميق؛ فالهستيري لا يبالي الجوع والتعب والأرق وحرمان غريزته الجنسية من الاستمتاع؛ فهو إما أن يكبتها أو يدعها تتخذ مظهراً شاذاً. وكثيراً ما يلجأ الهستيري إلى التهديد بالانتحار، وهذا يدل على المستوى الأدبي الدنيء الذي انحطت إليه شخصيته.
دكتور محمد حسني ولاية
طبيب بصحة بلدية الإسكندرية
من وثبات العبقرية
نظام الزكاة في الإسلام
وهل روعي فيه العدل
للسيد علي حسين الوردي
ذكرت في مقالي السابق أن الضرائب المباشرة لم تكن معروفة لدى الأمم القديمة إلا نادراً، إذ أن النضوج السياسي لم يكن قد وصل بالناس إلى تلك الدرجة التي يستسيغون فيها دفع ذلك النوع من الضرائب
لم يكن الفرد، في الزمن القديم، يعتبر الحكومة تمثله أو تمثل مصلحته العامة؛ إنما كان على العكس يرى فيها عدوه الأكبر الذي لا هم له إلا ابتزاز أمواله وامتصاص دمه من غير منفعة محسوسة تأتيه من وراء ذلك، ولهذا فقد كان الفرد يعتبر الضريبة عبئاً ثقيلاً ينبغي التهرب منه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولم يكن جباة الملك يجرءون إذ ذاك أن يفرضوا الضريبة المباشرة على أموال الناس أو إنتاجهم حيث تجبي منهم حقاً مشروعاً كما هو الحال في هذا العصر، فجل ما كان الجباة يعملونه هو أن يقفوا عند مدخل البلد ليقتطعوا من التجار والفلاحين جزءاً مما يحملون على أنها حصة الملك جزاء حمايته إياهم أو سماحه لهم بتكسبهم في البلاد التي هي تحت سيطرته
هذا ولا ريب في أن في مثل هذه الضريبة غير المباشرة ظلماً لا شك فيه، إذ أن دافع الضريبة يستطيع عادة أن يحول عبئها إلى عاتق غيره، فإذا دفع التاجر مثلاً جزءاً من بضاعته إلى الحكومة أدخل ذلك غالباً في حساب تكليف البضاعة وأضافه إلى سعر البيع ليتحمل المشترون عبء الضريبة. وفي هذا يتمثل الظلم، لأن معظم الضريبة تقع حينئذ على كواهل الفقراء إذ أنهم هم معظم المستهلكين للبضائع ملابس وطعاماً. . . هذا بينما يدفع الأغنياء قسطاً ضئيلاً من الضريبة لا يتناسب مع ثرواتهم الطائلة. ولا مراء في أن ما نراه من تعسف في هذا النوع من الضرائب، لا يوجد إلا قليلاً في الضرائب المباشرة، لأن النسبة فيها تؤخذ ضخمة من الأغنياء، صغيرة من الكادحين، وحيث يعامل فيها كل فرد حسب مقدرته وظروفه الخاصة. وقد يُعفى منها كثير من الناس الذين كانوا يدفعون
الضرائب غير المباشرة وهم لا يشعرون
ولكن الضريبة غير المباشرة، رغم هذه المساوئ، ظلت مستعملة طيلة القرون الماضية، ولا تزال مستعملة إلى اليوم في كثير من الأمم الحديثة، وذلك لسهولة جبايتها وقلة التكاليف فيها، إنما أخذت في الواقع تفقد أهميتها شيئاً فشيئاً، إذ بدأت الضرائب المباشرة تحتل مكانها، وهذا بلا شك سمو من المجتمع في أخلاقه السياسية
هذه نبذة موجزة من تاريخ الضرائب وددت أن أبين بها للقارئ شيئاً من مجرى التطور فيها حيث سار المجتمع في طريقه الطبيعي من غير تنكّب أو طفور. لكنّا إذا رجعنا إلى نظام الضريبة في الإسلام نجد ثم وثبة بذّت مجرى ذلك التطور وسارت في سبيل الكمال خطوات
لقد فرض الشارع الإسلامي أغلب صدقاته بنسبة معينة على ثروة الفرد أو إنتاجه تؤخذ منه مباشرة بعد النظر في ظروفه الخاصة وبعد استثناء حد أدنى من غير زكاة
لسنا ننكر أن من الصعب وضع حد فاصل يميز بين الضريبة المباشرة من غير المباشرة، فكثير من الضرائب التي نحسبها مباشرة لأول وهلة هي في الحقيقة غير مباشرة، لأن دافعها قد يستطيع بعد زمن تحويل عبئها إلى عاتق غيره. ولكنا على كل حال نستطيع أن نقول بأن الإسلام قد شرع في هذا الشأن شرعة جديدة لا شك في صلتها بالعدل والخير، إذ جعل الضريبة حقاً واجباً على الفرد يجب أن يؤديه للدولة بصفته عضواً فيها، وإذ أمر كذلك بأن تختلف نسبة الضريبة بين شخص وآخر نظراً إلى ما عليه الشخص من عسر أو يسر في وضعه الاقتصادي أو في إنتاجه
وهنا نصل بالقارئ إلى نقطة جوهرية من هذا الموضوع ألا وهو التفاوت في فرض الضريبة حسب تفاوت الناس في أرزاقهم وحظوظهم في الحياة. إذن يجب علينا أن نفهم أهمية ذلك في النظام الحديث إذ يعني به كتاب اليوم عناية كبرى لما له من مساس بالعدل الذي هو أحد الأركان الأربعة للضريبة المثالية، وأهم تلك الأركان على الإطلاق
لقد كانت الضريبة في الزمن القديم تجبى على السواء من جميع الناس إلا الذين يستثنيهم الملك من رجال دين أو نبلاء، فلم تكن الحكومات تعني إذ ذاك بما تعني به الحكومة الحديثة - كما ذكرنا - من تفريق في نسبة الضريبة أو إعفاء منها حسب ما يمليه العدل
أو مصلحة الأمة
لقد وضع الكتَّاب المعاصرون لهذا الغرض في مسألة التفريق والإعفاء أربع قواعد فيما يخص دافع الضريبة أو ثروته:
فالقاعدة الأولى: مصدر الثروة - إذ يميز فيها بين الثروة التي تأتي صاحبها نتيجة للعمل والمكابدة، وبين التي تأتي صاحبها وهو في بحبوحة من الراحة والنعيم
هذان فلاحان مثلاً، أحدهما يملك الأرض الخصبة أو يسقي زرعه ديماً أو سيحاً، والآخر لا ينتج إلا في أسوأ الظروف من أرض ضعيفة وماء بعيد. فهل من العدل أن تفرض الضريبة بنسبة واحدة على إنتاج هذا وإنتاج ذلك؟ لابد إذن من تفريق
والقاعدة الثانية: طبيعة الثروة - إذ يميز فيها بين الثروة الصالحة التي تفيد الأمة والتي ينبغي تكثيرها، وبين غيرها من الثروات؛ وقد يفرَّق مثلاً بين إنتاج الخضر والفواكه التي يسرع إليهما الفناء، وبين إنتاج الحبوب التي يمكن خزنها وادخارها
والتفريق في هذا ضروري في العهد الذي تصعب فيه المواصلات وتقل فيه وسائل الخزن المبرَّدة، حيث يجب على زارع الثمار أن يبيع ثماره في أوانها المناسب، وإلا خسر مجهوده وخسر فوق ذلك الضريبة التي دفعها إذا كانت مفروضة عليه
والقاعدة الثالثة: مآل الثروة ومصيرها - هل تصرف في إطعام العائلة والضيوف وفي الإحسان، أم تبذَّر هنا وهنالك على موائد الخمر والميسر، أو تكدس قناطير مقنطرة من غير تنمية أو إنتاج؟
والقاعدة الرابعة: هي أن ينظر إلى حالة الشخص (دافع الضريبة نفسه): أمتزوِّج هو أم أعزب؟ أمدين أم دائن؟. . . الخ
هذه هي الأسس التي وضعها الكتاب المحدثون في تحري العدل والصالح العام عند فرض الضريبة إذ يفرَّق بين إنتاج وإنتاج وبن ثروة وثروة. ولكن يجب ألا يغرب عن بالنا أنه لم تصل اليوم أية دولة على وجه الأرض إلى تطبيق هاتيك الأسس جميعاً تطبيقاً تاماً، إذ أن ذلك يقتضي جهداً هائلاً ويصادف كثيراً من العقبات العملية التي تحول دون النجاح التام فيه أو التي قد تنتج من المساوي ما هو أعظم مما كان يخشى منه
إن التفريق في الضريبة خير لا مرية فيه، ولكن من أين لنا العبقري النزيه الذي يضع لكل
حالة نسبتها العادلة. كذلك ما أعظم الصعوبة التي تعانيها الإدارة إذ ذاك - ارتباكاً وتعقيداً، وهؤلاء الطامعون الماكرون من موظفين في الضريبة أو دافعين سيجدون في هذا الوضع المعقد أعظم الفرصة لغشهم أو تهربهم من دفع بعض الضريبة أو كلها. ويظهر من هذا أن المشرع الحديث أصبح بين نارين بين سوء الظلم في عدم التفريق، وبين الصعوبة والارتباك في إدارة الضرائب عند التفريق إذ يكثر الاختلاس والروغان. وبذا يتضح السبب في قلة اندفاع القوم في هذا السبيل، إذ نجد التفريق مهملاً في الأمم الحديثة أحياناً
هذا مجمل الوضع كما نراه اليوم في العالم المتمدن، أما إذا رجعنا ببصرنا إلى الدولة الإسلامية فقد تأخذنا الدهشة لما نرى فيها من اهتمام جدي بهذه المسألة فقد ميز الإسلام إنتاج الأرض التي تسقى عذباً أو سبحاً من إنتاج الأرض التي تسقى بالدلو والقرب والساقية، حيث جعل العشر على الأولى بينما فرض نصف العشر على الأخرى وذلك لمؤونة القرب والساقية والدلاء
أما التفريق في الضريبة حسب خصوبة الأرض وكلفة الإنتاج فقد ألمح إليه محمد بن الحسن وأبو يوسف وغيرهما إذ قالا: لا يحسب العشر على نفقات البقر، أو أجرة العمال العاملين في الإنتاج
ومن هذا نستنتج أن زارع الأرض الضعيفة يؤدي زكاة أقل من غيره لأنه يخصم من إنتاجه نفقات البقر والعمال، وهي أكثر من نفقات الأرض الخصبة في ذلك طبعاً.
ويقول أبو يوسف: إنه إذا أطعم رب الأرض غيره من مزروعه أو أكل هو فليس على ذلك عشر.
وقد جعل بعض الفقهاء ربع العشر على ما تكثر مئونته من المعادن المستخرجة من باطن الأرض، أما التي تقل فيها المؤونة ففيها الخمس.
وعن علي بن أبي طالب أن الخمس في المعادن المستخرجة من أرض خراج أو عشر. ولا خمس في الفيروزج الذي يوجد في الجبال ولا في اللؤلؤ أو العنبر وكل حلية تخرج من البحر لأنها متعبة كبيرة الكلفة.
وعن أبي حنيفة في رجل مر على العاشر بمال فقال أصبت منذ شهر أو عليّ دين أو قال أديت الزكاة إلى عاشر آخر أو أديت زكاته أنا وحلف على ذلك فهو صادق.
ولا تجب الزكاة عند الشافعي إلاّ فيما زرعه الآدميون قوتاً مدخراً؛ أما البقول والخضر التي ليس لها ثمرة باقية فلا زكاة فيها
أما المواشي فلا زكاة فيها إلا إذا كانت سائمة ترعى الكلأ فتقل مئونتها ويتوفر درها ونسلها، فإن كانت عاملة أو معلوفة لم تجب فيها زكاة. وبعدُ أليس في هذا كله تفريق؟. . .
وقبل أن نختم المقال يجب ألا يفوتنا ذكر النصاب الذي يحتم الفقه الإسلامي الوصول إليه حيث تؤخذ الضريبة متصاعدة بعده، ولا ضريبة على ما دون النصاب في جميع الممتلكات والثروة. وقد جعل الإسلام لكل شيء من ذلك نصابه المعلوم، فنصاب الغنم مثلاً أربعون، والبقر ثلاثون، ومحصول الزرع خمسة أو ست، والذهب عشرون مثقالاً، والفضة مائتان. . . الخ
ولا ريب أن في هذا عدلاً، إذ يستثني به كثير من الفقراء عن دفع الضريبة، ويقع معظم ثقلها على عاتق الموسرين المترفين
لعلي بهذا قد عرضت على القارئ صورة لما كان يراعَى في ضرائب الإسلام من العدل، ولكن تذكر يا سيدي القارئ، ما قلت لك آنفاً، من أن العدل ليس وحده هو ما يلزم للضريبة المثالية من أركان، فثمة، على الأقل، ثلاثة أركان أخرى، كما وضع آدم سميث، لازمة للضريبة المثلى هي:
(1)
الإنتاج (2) والملاءمة (3) ثم اطمئنان الحكومة والدافعين إلى ما يؤخذ أو يعطى. . . ولكن يا ترى هل كان الإسلام معنيّاً بجميع هذا الأركان في صداقاته؟ أجل. . . ولعلي أستطيع أن أفي ذلك بعض حقه في فرصة أخرى
علي حسين الوردي
بالجامعة الأمريكية
ببيروت
على هامش النقد
كتب وشخصيات
للأستاذ سيد قطب
1 -
عبقرية محمد. . . . . . . . . . . . للعقاد
2 -
بيجماليون. . . . . . . . . . . . لتوفيق الحكيم
3 -
دعاء الكروان والحب الضائع. . . لطه حسين
تمهيد:
أردت أن أجمع بين هذه الكتب وهؤلاء الكتاب؛ لا لأنها تتفق في فكرة أو اتجاه، ولا لأن بينهم - في هذه الأيام - مصافاة أو مجافاة!. . . ولكن لأن كلاً منهم يجري في كتابه هذا على منهجه ويستخدم أفضل قواه
خطر لي مرة أن أكتب مقالاً أو مقالات تحت عنوان: (لا يعرفون أنفسهم!) وفي مقدمة من كنت أعنيهم بهذا العنوان ثلاثة من الكتاب: طه حسين، وتوفيق الحكيم، وأحمد أمين!
من المبادئ الاقتصادية الأولية أن يستخدم الفرد أحسن مواهبه؛ وهؤلاء الكتَاب لا يستخدمون أحسن مواهبهم في كثير من الأحيان، فلو كنت أملك الحجر على الناس في بعض التصرفات، لحجرت على هؤلاء الثلاثة في بعض الاتجاهات! تحقيقاً لهذه القاعدة الاقتصادية، وتحقيقاً لمصلحتهم ومصلحة الأدب على السواء
فأما الدكتور طه حسين، فهو لا يعرف نفسه حقاً حين يحاول أن ينشئ أدباً غير ذلك الاستعراض الحلو لخطرات النفس وخلجات الضمير، وغير ذلك اللمس الخفيف الرفيق للانفعالات والوجدانات. الاستعراض هو فن طه حسين الأصيل الذي يجيده في (الأيام) و (على هامش السيرة) و (مع أبي العلاء في سجنه)، ثم في (دعاء الكروان) وفي (الحب الضائع) في هذه الأيام
فأما حين يسرف في استخدام مواهبه، حين يستخدم مواهب الصف الثاني لديه - إذا استعرنا الاصطلاحات الحربية - في مثل (الأدب الجاهلي) و (مع المتنبي) وفي نقد الكتب
أو كتابة المقدمات. . . فإنما يسرف على نفسه أولاً وعلى مواهبه، ويسرف على الأدب ثانياً وعلى قرائه، أولئك الذين يريدونه في خير حالاته؛ وإن لم يكن في حالاته الأخرى من المتخلفين
وأما توفيق الحكيم فإنه لا يعرف نفسه أصلاً، حين يحاول أن ينشئ أدباً غير القصة، وغير الحوار بشكل خاص. الحوار هو فن توفيق الحكيم الأصيل، فما هي إلا كلمة خاطفة من هنا وجملة عابرة من هناك حتى تستوي الفكرة التي يعالجها حية شاخصة، أشبه شيء بالخطوط السريعة في تحديد ملامح الوجوه
وقد اهتدى إلى أحسن مواهبه في أهل الكهف وشهرزاد وبيجماليون في ناحية. . . وفي نهر الجنون) و (سر المنتحرة) و (الخروج من الجنة) في ناحية أخرى، عل تفاوت في الطاقة والاتجاه. . .
فأما حين تسوّل له نفسه أو يسوّل له بعض الصحفيين أن يكتب أشياء مما يكتب في شتى الصحف والمجلات؛ وحتى حين يكتب قصصاً غير الحوار وغير معالجة مشكلة فكرية في هذا الحوار، فإنه يجني على مواهبه ويجني على قرائه على تفاوت الجناية في هذين الاتجاهين، ويستحق الحجر الذي يضرب على المسرفين في الجهد أو في المال!
وأما أحمد أمين فقد ظهر أول ما ظهر بكتابه (فجر الإسلام) ثم تابع السلسلة في (ضحى الإسلام) بأجزائه الثلاثة، فقلنا: رجل متزن يهتدي إلى خير مواهبه فيستخدمها أحسن استخدام.
ثم صدرت (الثقافة) فاستهوته المقالة، وهنا خانه الاهتداء إلى أفضل ما فيه، واستمرأ هذا الجهد الوقتي المتقطع فكثرت مقالاته، وكثرت إذاعاته، وجمع هذه المقالات فيما أسماه (فيض الخاطر) على ثلاثة أجزاء.
هذا (الفيض الخاطر) هو اللفتة الخاطئة في حياة أحمد أمين الأدبية، وهو الانحراف عن الطريق السوي الذي خلق له، وهو التعطيل للوظيفة الأساسية التي انتدبته لها المكتبة العربية.
ولو أنه سار في الطريق، فوضع لنا - بدل الأجزاء الثلاثة من (فيض الخاطر) - ثلاث حلقات جديدة في سلسلة تاريخ الأدب العربي، ولو أنه تابع هذه السلسلة إلى عصر النهضة
الحالية، لأدى للمكتبة العربية أجل الخدمات.
ولكنه استهواء الصحافة، وتوزيع الجهد، والإسراف على النفس وعلى القراء!
في الكتب الثلاثة أو الأربعة التي اخترت أن أجمع بينها في هذا الحديث يهتدي مؤلفوها إلى أفضل مواهبهم ويستخدمونها على أفضل الوجوه. فكل منهم يجري في ميدانه الأصيل، ويجري على أصول الجري في هذا الميدان؛ وهي - من هنا - تمثل أصحابها خير تمثيل، وترسم مناهجهم في الأداء وفي التفكير.
فأما العقاد فهو أبداً مهتد إلى مواهبه لم يضل في تقديره واحدة منها، وهي مواهب متنوعة ولكنها جميعاً أصيلة وتكاد أن تكون متكافئة، فإذا شئنا الاختيار والمفاضلة، فأفضلها فيما يبدو (دراسة الشخصيات)
وقد انساق العقاد منذ نشأته الأدبية تقريباً في هذا السياق عامداً أو غير عامد، فهو أكثر كتابنا المحدثين دراسة للشخصيات: الأدبية والفكرية والسياسية والإنسانية. كتب عن: المتنبي وابن الرومي وأبي العلاء وجيتي وتوماس هاردي وطاغور، وكثيرين من أمثالهم قدامى ومحدثين. كما كتب عن: كانت ونيتشه وماكس نوردو وشوبنهور، وكثيرين من أمثالهم. وكتب كذلك عن: هتلر ومصطفى كمال وسعد زغلول. وعن: محمد عبده وغاندي.
ثم هاهو ذا يكتب عن (محمد) كتابه الأخير
وليست كثرة الشخصيات التي كتب عنها (العقاد) هي التي تجعله دارس شخصيات، فكثيراً ما يكتب الكاتبون عن عشرات الشخصيات ومئات الأعلام أوصافاً لهم وحوادث في حياتهم، ثم يخرج القارئ من هذا كله بأوصاف ومعلومات لا يتبين منها ملامح شخصية واحدة من هذه الشخصيات
إنما ميزة (العقاد) الفذة أنه مصور ملامح، ومشخص هيئات، وراسم صور حية من اللحم والدم والصفات والسمات والهواجس والأفكار. . . لديه لكل شخصية يدرسها مفتاح يدير به اللولب، فإذا أنت أمام هذه الشخصية، وإذا أنت تملك هذا المفتاح، وإذا أنت تستطيع تفسير الحوادث التي ألمت بحياة هذا الإنسان، كما تملك تفسير استجاباته لهذه الحوادث
كل إنسان كتب عنه (العقاد) تستطيع أن تعرف (من هو)، وإن لم تعرف كل ما وقع له من أحداث
تلك هي الموهبة المتفردة التي تجعل (العقاد) دارس شخصيات، لأنه هو نفسه شخصية واضحة المعالم والسمات
وفي هذا الكتاب الأخير (عبقرية محمد) تتجلى هذه الموهبة على أتمها وأكملها، وينضج نضجها واستواؤها على فصول الكتاب وجمله وفقراته. فهو من هذه الناحية أدل ما يكون على اكمل موهبة من مواهب (العقاد). فأما تفصيل ذلك، فعند الكلام عن الكتاب
وأما (بيجماليون) فيستوي فيه كذلك توفيق الحكيم على نهجه في (أهل الكهف) و (شهر زاد) بعدما بعد بنفسه طويلاً عن هذا النهج: حوار، حول مشكلة من مشاكل الفكر الإنساني. . . كم بلغ في هذا الحوار من الإجادة، كم خطا فيه إلى الأمام أو إلى الوراء؟ هذا ما يتبين في الحديث الخاص عن هذا الكتاب
وأما (دعاء الكروان. وعلى هامش الحب) فجدولان جديدان في إنتاج الدكتور طه حسين، ولكنهما ينبعان من نفس المعين الذي نبعث منه (الأيام). إلا أنهما مقدرة جديدة في هذا الاتجاه. فقد كنت أعجَبُ - ولكن لا أرى عجباً - في أن يكتب الدكتور (الأيام) فيصور خلجات نفسه وهواجس ضميره، ويتلمس وقائع حياته ويلم بحوادث أيامه. أما أن يصور خلجات نفس أخرى وهواجس ضمير آخر، وأما أن تكون تلك النفس نفس امرأة، وهذا الضمير ضمير امرأة - بل امرأتين بل امرءات! - وأما أن يطرد هذا التصوير بنفس القوة والعذوبة والوضاحة التي في (الأيام) فهذه هي المقدرة الجديدة التي سيبين عنها المقال
وأترك القارئ الآن وقد علم لماذا اخترت أن أجمع بين هذه الكتب وبين هؤلاء الأشخاص. وفي الأسبوع القادم سآخذ في الحديث الموضوعي إن شاء الله
سيد قطب
دجلة يطغى
(بمناسبة فيضان دجلة هذا العام)
للأستاذ حامد مصطفى
أرأيت هذا الخلق العجيب الذي لم ينل منه مرّ الدهور ولا تقلب الحدثان. . . تمضي الحوادث وتتصرّم الأجيال ونحن نعتقد أن الإنسان إنما يجري لأجل ويسعى إلى أمد، ولكن كرّ الأيام واعتراض التجارب تكاد تجعلنا نوقن بأن البشر إنسان واحد منذ وجد إلى أن تقوم قيامته. . . وما هو ذلك الفارق بين إنسان اليوم وإنسان الماضي وإنسان المستقبل؟ ألسنا نوعاً واحداً ذا طبيعة واحدة وآمال متماثلة؟ خلق متماسك الحلقات متصل الوجود يسعى بعضه إلى خير باقيه؛ زرع أوله فحصد أخره، وبني ماضيه فتوطن حاضره، وجرب سلفه فأفاد الخلف؟
هذا دجلة يصخب؛ يزخر عبابه، وتزُم أمواجه، ويصمّ هديره، يمر ببغداد اليوم وقد مرّ بها من قبل أيام الرشيد، واخترق دولة بابل وآشور، وجرى قبل ذلك كله في أمم قد خلت لا يعلمهم إلا الله. فهل تغير الناس أم تغير دجلة؟ وهل كانت مياهه في تلك الأحقاب غيرها في أيامنا هذه. . . أم أن الناس اليوم هم غيرهم في تلك الأيام؟ ليس من البعيد أن يكون دجلةُ الماضي دجلةَ الحاضر بمائه وهديره وطغيانه؛ أما إنسان دجلة اليوم فلا يبعد أيضاً أن يكون هو إنسان دجلة الماضي. وما الذي يدرينا أن الحياة على وجه هذه الربوع لم تدُر وتتكرر كما دارت مياهها وتقلبت. ألم تسمع قول الماضين:
كالبحر يمطره السحاب وما له
…
فضل عليه لأنه من مائه
وقولهم:
خفف الوطء ما أظن أديم الأ
…
رض إلا من هذه الأجساد
زُمَّ يا دجلة بمائك واصخب وتهدّد فلن نفهم من لغتك حرفاً كما لم تفهم منها القرون الأولى شيئاً. الناس يحيون على شاطئيك ويمر بهم العيش ألواناً وأطواراً وهم لا يكادون يبدلون ولا يتبدلون: فظالم متمادٍ في ظلمه، وضال متفانٍ في ضلاله، وذو مال لم تشبعه الدنيا فتحيل لها شتى وجوه الحيل يبتغي الرفاه والمزيد، وشعوب رزحت في أطواق الذل والجهل وناءت بأغلال الاستضعاف فلم تتململ في أقفاص الهوان. . . لقد خدع جمال
الحياة ولذة الدنيا وركود النعمة أقواماً لو غالبتهم على المال ما غلبوا، أو جاريتهم على كسب الحطام ما وهنوا
لقد ثار ثائر دجلة اليوم كما ثار ثائه من قبل فأقض على الناس المضاجع وهلعت طوله قلوب أهل الريف؛ أولئك يخشون على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، يخيل إليهم أن ما هم فيه من نعيم مقيم وعيش رغيد وآمال باسمة وحياة حالمة سيكون مآله مآل ثراء قارون ومدينة بابل. وأولاء يرون بين الأمواج القضاء النازل على ما بذروا وزرعوا وما أعدوا لنيل العيش وسد الجوع واتقاء الآفات. هذا شأن الناس على شاطئ دجلة والفرات وروافدها كل عام في مثل هذه الأيام
لقد استطاع سكان العراق القدماء اتقاء هذا البلاء الذي تناهب نفوس المعاصرين، فكانوا ينامون آمنين مطمئنين لا يخافون على نفس ولا مال، حتى لقد هزئوا بطغيان النهر ولم يغلبهم الصِّرْى وكانت القنى تنهب الماء نهباً فتملأ به رحاب العراق فتنقلب صحراؤه جناناً خضراً وحدائق غلباً حتى لقد كان الطير ينتقل بين الرقة والأبَّلة قرب خليج البصرة فلا يجد إلا ظلاً ظليلاً وماء سلسبيلاً، ويجري الأرنب بين الأشجار فيستريح إلى جانب النهر ولا يقف به خببه حتى يدرك غايته لا يشتكي عناء ولا لغوباً، ويجري ساعي البريد بين بغداد والشام لا يرى شمساً ولا زمهريراً. لقد كان (السواد) جنة الدنيا وقلب الأرض تجبى إليه ثمرات كل شيء، وتجتمع في سرته الدنيا؛ كل ذلك بهذا الفضل من الماء الذي يهددنا في هذا الشهر من كل عام، والذي صرنا نخافه ونخشاه ونتقيه ولا نكاد نملك في صده ودرء عاديته سوى جهد ضئيل لا يكاد يوازي جهد البغاث في دفع الطير الكاسر
يقولون إن في الهند والصين أنهاراً يتقرب إليها الناس بالارتماء في مياهها والغيبة بين أمواجها حتى لتتكاثر الجثث على شواطئها فما يزيد ذلك عابديها إلا رغبة في إرضائها وتزاحماً على الموت في أجوافها. وليس ذلك بالعجب الكبير؛ فإن القوم تمثلوا القوة في أعظم شيء في أعينهم فترضوه وخافوه وافتدوا منه الأجيال بعدد يسير من الضحايا ليس مصيرهم في عقيدتهم إلا نعيماً مقيماً؛ إنما العجب من قوم رقت عقائدهم ودقت إفهامهم ونضجت معارفهم ثم هم يرون الخلود لأجسادهم ولا يرونه لأرواحهم، فماتت قلوبهم وذلت نفوسهم. أما مادتهم فهي وارفة وأجسامهم فهي ناضرة يصح فيهم قوله تعالى: (وإذا رأيتهم
تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم). أولئك تقربوا بالدنيا إلى الآخرة وبالأجسام إلى الأرواح، وهؤلاء تقربوا وأضاعوا الدنيا والآخرة، وزهدوا في الخير الدائم ونعيم الأجيال وحرية الأرواح ولم يروا شيئاً أن تكون لهم المادة ولا يكون لهم شيء من المعنى
لقد كان للناس عبرة في مظاهر الطبيعة وتقلبات الحوادث، وكان لهم عظات تتكرر وتقسو في التنبيه والإرشاد، وكان للناس أجمعين في كل ما يتقلبون فيه ويعانون تجارب يكفي أدناها لليقظة والاعتبار. . . ولكن هيهات، فإن الناس لا يفهمون من لغة الطبيعة وتضافر الآيات إلا عوارض لا رأي لها ولا غاية؛ وما الشمس في مجراها والقمر في دورته والأرض في حركتها وانسلاخ النهار من الليل وجري الأنهار وهديل الأطيار إلا ألوان من اختلاف المادة، واتصال الطبيعة لا شأن لها ولا غرض إلا خدمة الإنسان وتعرضها له بالمتعة والانتفاع. . . وكأن الطبيعة أدركت من الإنسان ذلك الهزؤ وتلك المهانة فأخذت تتحداه وتتعرض له بالنكبات تلو النكبات وبالمصائب بعد أمثالها؛ وكلما تقدم في المعرفة والعمران وازداد غروره في تملك ناصية الطبيعة والتمكن منها كانت هذه تجد الفلتات فتتسرب إليه من حيث اطمأن وتنوبه من حيث أمن؛ فتجد المصنع يتفجر، والمنجم يثور، والسفينة لا تنقذها مهارة ربانها، أو البركان يعصف بالأرض ومن عليها، وربما لا تجد يوماً يمر دون أن تفلت الطبيعة من يد الإنسان فتبدد آماله وتبدل خططه.
لقد مرت على دجلة القرون والأحقاب وهو يجري بمائه إلى البحر فيلقي فيه بالكنوز وبالقوة، ولم يحظ أهله منه إلا بالنزر اليسير من الحظ الكبير حين كان الناس جهالاً وحين كانت الطبيعة أقوى من الإنسان. إن في دجلة من الخير والقوة ما لا ينضب معينه ولا تنفد مادته. ولقد قعد ابن دجلة يتمطى على جانبيه عصوراً طوالاً حتى أدركه هذا العصر عصر القوة والابتداع فوجده قاعداً وقد قام الناس، وفقيراً وقد استمتع بالثراء كل ذي نأمة. أفلا تمتد الأيدي إلى مصدر الغنى وينبوع القوة فتجعل من الفقر غنى ومن الضعف قوة؟. . . أفلا يجدر بنا أن نكف من غرب دجلة بالآلة ووسائل الإنتاج الحديثة بدل أن نتعهد شاطئيه كل عام بالأيدي والمساحي و (الهزات) ثم نحن لا نصد من عادية النهر قليلاً ولا كثيراً، ولا يعود علينا ذلك بإصلاح دائم ولا بتقوى شاملة. . .؟ ألم يأنِ للذين يخشون طغيان دجلة
كل عام أن يفكروا بالانتفاع من طغيانه فيكون لهم مورد خيرات ونعمة وجاه بدل أن يهتموا موسم كل فيضان بكفكفة ضفتيه خوف البلاء واتقاء الغرق؟ لقد ملأنا أنفسنا خوفاً من دجلة ورعباً من أمواجه، فقد تواردت علينا السنون ونحن لا نفكر في شيء من أمر الرافدين إلا أن نصد البلاء وندفع النكبة حتى خيل إلينا أن ليس في النهرين إلا الشر، وأنهما لا يحملان بين أمواجهما إلا الرعب، حتى صار لفظ (الطغيان) في إفهامنا مرادفاً للغرق. . . أتعجز ونحن في العصر العشرين عما عجز عنه قدماؤنا قبل الأدهار البعيدة والأزمنة السحيقة؟
تعاقب علينا يا دجلة بالطغيان بعد الطغيان، وخاطب المعاصرين كما خاطبت القدماء؛ فإن الناس لا يفهمون لغة الأمواج ولا يعقلون نداء النُّذُر، ولن تزال شواطئك صحارى يابسة ومنازل خاوية حتى تستبدل بالمسحاة (الحراثة) وبالهزة (الكراكة)، وحتى يكون الطغيان أملاً ورجاء، لا خوفاً وبلاءً.
حامد مصطفى
ليسانس في الآداب وفي القانون
35 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الحادي عشر - (الخرافات)
يستعمل كثير من المصريين - والنساء غالباً - (الميعة المباركة) لإبطال الحسد. والميعة مزيج من عقاقير مختلفة ستذكر فيما بعد، وتجهز وتباع في الأيام العشرة الأولى من شهر محرم فقط. وكثيراً ما نرى حينئذ بائعي الميعة يتجولون في شوارع القاهرة صائحين:(يا بركة عاشورا المبارك، أبرك السنين على المؤمنين يا ميعة مباركة) ويحمل بائع الميعة فوق رأسه صينية مستديرة يغطيها بقصاصات من الورق المختلف الألوان، ويضع عليها المزيج الثمين؛ ويتوسط الصينية كوم كبير من ثُفل مادة قاتمة الحمرة تستعمل للصبغة، وتمزج بقليل من الميعة والكزبرة، والحبة السوداء. ويحيط بالكوم الكبير أكوام أصغر، أولها من الملح الملون الأزرق والنيلج، وثانيها من الملح الملون الأحمر، وثالثها من اللون الأصفر، ورابعها من الشيح، وخامسها من تراب اللبان. وتلك هي مواد الميعة المباركة. ويدعو المشترين عادة البائع داخل المنازل، فيضع الصينية أمامه، ويتناول صحناً أو قطعة ورق حيث يضع من الميعة بقدر رغبة المشتري. فيأخذ من كل صنف قليلاً ويضيف إليه مقداراً آخر المرة بعد المرة منشداً أثناء ذلك دوراً طويلاً يبدأ هكذا:(باسم الله وبالله، ولا غالب إلا الله، رب المشارق والمغارب، كلنا عبيده، يلزمنا توحيده، وتوحيده جلاله) وبعد أن يثني على فضائل الملح يقول: (أرقيك من عين البنت، أحمي من الخشب، ومن عين المره، أحمي من الشرشرة، ومن عين الولد، أحمي من الزرد، ومن عين الراجل، أحد من المناجل. . . الخ) ثم يروي كيف أبطل سليمان حسد العين، ويعدد بعد ذلك الأمتعة التي لا يخلوا منها المنزل على الأرجح فيرقيها جميعاً من الحسد. واكثر عبارات هذه الرقية
مضحكة جداً، إذ هي ألفاظ أدخلت للسجع فقط. ويحتفظ المشتري بالميعة المباركة التي تباع الحفنة منها بخمسة فضة طول العام التالي فيحرق قليلاً منها كلما خشي حسد العين بحيث يتصاعد الدخان إلى المحسود
جرت العادة عند طبقات القاهرة العليا والوسطى أن يعلقوا في احتفالهم بالعرس القناديل في الطريق أمام منزل العريس، وكثيراً ما يحتشد الجمهور حول قنديل كبير جميل لمشاهدته، فالعادة حينئذ أن يُلهوا المشاهدين بكسر جرة كبيرة، أو بحيلة أخرى حتى لا تسبب عين حاسد سقوط القنديل. وكثيراً ما تحدث حوادث تؤيد إيمان المصريين بخرافاتهم المتعلقة بالحسد. ومثل ذلك ما رواه صديق لي: من مدة قصيرة رأى جملاً يحمل جرتي زيت كبيرتين فصاحت امرأة أمام الجمل: يا سلام! يا لهما من جرتين عظيمتين! ولم يقل الجمّال: صلي على النبي؛ فلم يلبث الجمل أن سقط وكسرت رجله وكسرت الجرتان. وقد أخبرني أحد أصدقائي القاهريين بشكوى أسردها هنا توضيحاً لما قررت. قال صديقي: (لما عدل الباشا عن احتكار بيع اللحم منذ أيام أصبح الجزارون يذبحون الحيوانات ويبيعونها في حوانيتهم. ومن المزعج تماماً أن ترى الخروف الجميل معلقاُ أمام عين الجمهور كاملاً بذيله وأعضائها فيشتهيها كل سائل يمر بجانبها فكأنما يتناول المرء سماً) وقد شكا إلي طاهٍ الشكوى نفسها فكان يفضل أن يكلف نفسه مشقة الذهاب إلى دكان جزار لا يعرض اللحم على أنظار المارة ولو كان بعيداً.
يضع الكثير من تجار العاصمة وغيرها من المدن المصرية على واجهة حوانيتهم ورقة كتب عليها اسم الله أو اسم الرسول أو الاسمان معاً أو الشهادة أو البسملة أو حديث نبوي أو آية قرآنية مثل: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً (سورة الفتح الآية الأولى) نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين) (سورة الصف آية 13) أو ابتهال إلى الله مثل (يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم). وكثيراً ما ينطق التاجر بهذا الابتهال عندما يشرع في فتح حانوته صباحاً، وكذلك الباعة المتجولون كبائعي السلع الصغيرة والخبز والخضر الخ. عندما يخرجون لجولاتهم اليومية. والعادة أيضاً أن يضع الرجل من الطبقة السفلى أول نقد يتناوله على شفته وجبهته ثم في جيبه
وكثيراً ما نرى في القاهرة غير الكتابات التي تعلق على الحوانيت هذا الدعاء (يا الله)
ينقش على أبواب الدور الخاصة والعبارتين: (الخلاق العظيم هو الباقي) أو (هو الخلاق العظيم الباقي) ترسمان بأحرف كبيرة على الباب كحرز وتذكرة لرب الدار أنه بشر يتوفاه الله وكثيراً ما تكتب هذه الكلمات على باب الدار إذا كان صاحبه السابق أو أغلب سكانه السابقين أو جميعهم قد توفوا
إن أفضل الوسائل لإبعاد العلل والأمراض كتابة آيات من القرآن في وعاء من الفخار يصب فيه قليل من الماء. ويرج حتى تزول الكتابة ثم يشرب المريض الماء المنقوع فيه هذا الكلام المقدس وهو ما يلي: ويشف صدور قوم مؤمنين (سورة التوبة آية 14). يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور (سورة يونس آية 57). فيه شفاء للناس (سورة النحل آية 69). وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين (سورة الإسراء آية 82). فإذا مرضت فهو يشفيني (سورة الشعراء آية 80). قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء (سورة فصلت آية 44) ومن هذه الآيات أربع لا تشير إلى أمراض الجسم وإن استعملت لذلك، بل تشير إلى أمراض العقل. وتشير الآية الثالثة إلى فضائل العسل. وقد سألت شيخي أن يبين لي موضع هذه الآيات من القرآن فرجاني عندئذ ألا أترجمها بلغتي لأن ترجمة القرآن بغير ذكر النص الأصلي محرمة، لا لأنه خجل من جريان العادة باستعمال هذا الكلام طلسما فكره أن يعرف مواطني ذلك. وقد أوضح لي اعتقاده التام في تأثير هذه الآيات حتى على المريض الكافر وأظهر ثقته التامة بقوتها. وقال ملاحظاً:(إن الرسول (صلعم) قال: لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً). وقد هدأت وسواسه في ذلك بإخباره أن للقرآن ترجمة إنجليزية
ويعطى للمريض أحياناً لشفاء الأمراض وإزالة أثر السموم جرعة ماء في طاس معدني نقش بداخله آيات قرآنية ورسوم وأشكال طلسمية. وقد أهدى إلي أخيراً في القاهرة طاسة مثل هذه أعجب بها أصدقائي المسلمون كثيراً. وينقش أيضاً خارج الطاسة كتابات تعدد فضائلها، وتشير إلى خواصها من إبطال السموم، والحسد وشفاء الأمراض والعلل والموت. وقد رأيت هنا طاسة أخرى كالسابق وصفها تماماً، غير أن نقوشها زالت قليلاً ويعتقد أن أسرار القرآن كثيرة جداً. وفي ذات يوم رفضت أن أتناول طعاماً خشية الضرر فنصحني بقراءة سورة قريش إلى آخر (الذي أطعمهم من جوع) وأن أردد هذه العبارة الأخيرة ثلاث
مرات. وقد جزم لي أن في هذا وقاية أكيدة من كل سوء أخشاه
عدلي طاهر نور
مرسَلات.
. .
الإصلاح
ما من رئيس أو وزير أو حاكم أو مدير في هذا البلد إلا وهو يتغنى بأُنشودة (الإصلاح)، ويضرب على وتيرته، ويومض للناس ببريقه الخلّب، ويلمهم حواليه باسمه الجذاب. . . ولكن دعوات (الإصلاح) تبدأ عندنا بَدأة سارَّة، ثم تنتهي إلى نهاية محزنة: تبدأ عالية مدوية يرتج لها الوادي من بطاحه ورعانه، ثم لا تلبث أن يأخذها الضعف شيئاً بعد شيء، حتى تعود همسات خافتة لا تكاد تسمعها الآذان، ثم تسكت بعد قليل سكتة الموت!
ولو أن امرأً عني بعرض ما ينشر في الصحف عن الإصلاح منذ النهضة الوطنية إلى اليوم، ولاسيما إبَّان تغيير الوزارات، وتقليد الرياسات، وافتتاح المجالس، وتأليف اللجان؛ لرأى في الخطب الطنانة، والأحاديث الرنانة، والمذكرات المحبرة، وعوداً بالعمل تتلوها وعود، وبشارات بالإصلاح تردفها بشارات. . . ولكن أعمار الرياسات المختلفة تنقضي - طال بها الزمان أو قصر - وشيء من ذلك لم يتحقق، ثم تتبدل الرجال غير الرجال، والعهودُ غير العهود، فيعود الناس كرة أخرى إلى الخطب والوعود!
أين (المصلح) الصادق الذي يخلص لفكرة (الإصلاح) أكثر مما يخلص لشيء سواها؟ إن الرجل ليضع بنفسه خطة النهوض، ويرفع بيمينه شعلة التجديد، حتى إذا اجتذب بها القلوب، ووجه إليها النفوس، ونال منها ما يصبو إليه من عرض هذا الأدنى، تركها في مهب العواصف الجامحة من رغبات أو شهوات، تتولاها شياطين الإفساد، وهو عنها نائم. ولعمري لو مُس هذا (المصلح) في شخصه من قريب أو من بعيد، لثار لنفسه ما لم يثر لفكرته، ثم لثار له عشرات من أوليائه ومن خادميه لا يسألونه: لم ثار؟
محمد محمد المدني
البريد الأدبي
الصفاء بين الأدباء
صديقي الزيات
حتى أنت قد خاب أملي فيك! أنا الذي دعا إلى (الصفاء بين الأدباء) كما رأيت، وبذلت في ذلك ما بذلت، ورددت الحقوق إلى أصحابها، وأديت الواجبات على تمامها، وأزلت من النفس أسباب الكدر، وطهرت القلم من أدران الشر؛ فإذا كل هذا يسفر عن كلمة سمحتَ أنتً بنشرها في العدد الأخير من (الرسالة) كلها إيذاء لشخصي دون مبرر، كلمة لم تدع إليها مساجلة أدبية، ولم ينتفع بها الأدب والفكر؛ لكن دعت إليها شهوة الهجوم والتجريح لمجرد الزهو والخيلاء بالهجوم عليَّ وتجريحي. ولعل السبب الوحيد في ذلك أني رجل هادئ الطبع كما تعرف، نزَّاع إلى الخير، ينزه القلم عن أن يستخدم هراوة للبطش. . . وكنت أحسب الشجاعة الحقيقية هي في احترام أصحاب هذه المبادئ والنزعات؛ ولكن صدّمني حقاً ما رأيت من أن الأدباء في مصر - مع الأسف - لا يحسبون حساباً لغير الكاتب الذي يبرز مخالبه، ويكشر عن أنيابه، ويتهيأ دائماً للوثوب. . . أنا الذي أراد من الأدب أن يكون حديقة غنَّاء سياجها (الصفاء)، إذا بي أراه حرشاً من الأحراش المأهولة بالضواري. . . ما هي في واقع الأمر رسالة الأدب إلى البشر؟ أهي شيء آخر غير ترويض كواسر الناس وإفهامهم أنهم أرقى من الحيوان؟ إن الأدب الرفيع هو الذي يثير المشاعر الرفيعة، بما فيها من حق وحب وخير وجمال. . . وإن الأدب الوضيع هو الذي يهيِّج فينا الغرائز الحيوانية بشهواتها للفتك والبطش والعدوان. . . كنت أظن - يا صديقي الزيات - أن تلك هي رسالتك، وأن عملك في مجلتك هو توجيه الأدب إلى هذه الغاية الفضلى، حتى ينشأ جيل سليم فاضل يرى الأدب على حقيقته: جنة سامية طاهرة، لا مكان فيها لمن يبطش بالقلم، ولكنها مكان من يعلِّم بالقلم، يعلِّم الإنسان ما لم يعلم. . .!
خاب أملي فيك - أيها الصديق - لا لأني متألم من كلمة نابية نشرت، فما أكثر السهام التي يرشقني بها الناس في كل ظرف ومناسبة! فما من أحد مثلي يؤذي كل يوم ويشوه عمله وقصده وفكرة تشويهاً بما يكتب عنه وما يوضع على لسانه وضعاً. ومع ذلك فأنا أمام كل هذا من أكثر الكتاب احتمالاً وأقلهم احتفالاً، ولعلي من أشد الناس رسوخاً في عقيدتي: (لا
ينبغي للأديب الفاضل على أي حال مقابلة القبيح بالقبيح، بل يجب عليه المضي قدماً في سبيل نثر الجميل النبيل من المشاعر في كل القلوب!). . . إنما الذي خيَّب أملي فيك هو أني رأيتك قد حدت قليلاً عن رسالتك في (الرسالة)، وفي هذا خطر على شرف الغاية التي عاهدت نفسك والناس عليها. . . قد أغتفر لك أهدارك حق الصداقة والزمالة؛ أما هذه، فلا. . . هنا ونفترق. . . وليكن اليوم آخر عهدي بك و (بالرسالة) والأدباء. . . لن أكتب شيئاً لك، ولن أذكر بعد اليوم أديباً بخير ولا بشر. . . سأصمت عن أشخاصهم صمت القبر، لأنصرف إلى الإنتاج وحده من حيث هو إنتاج، ماضياً في إصدار كتبي لقرائي الأوفياء. . . فلا حلم في صفاء، ولا أمل في مودة بين أدباء. على أني قبل ذلك أحب أن أنوه بحق لك عندي وفضل لا أود أن أنساه: لست أعني الآن فضل (الرسالة) المعروف في شهرتي الأدبية، بل فضلاً آخر لعلك تجهله أنت حتى الساعة: أتذكر يوم أعلنت إليَّ عزمك على إصدار مجلة (الرواية) واعتمادك عليّ فيها كل الأعتماد؟ لقد كنت أنت الذي اقترح عليّ فكرة تدوين ذكرياتي المنسية عن عهد اشتغالي بالقضاء، فخرج كتاب (يوميات نائب في الأرياف). ربما لولاك ما أتجه ذهني إلى هذا الأمر، ولضاعت إلى الأبد معالم تلك الأيام. . . أسجل لك مع الشكر هذا الصنيع، وليشكرك عليه كل من أحب هذا الأثر، واستودعك الله. . .
توفيق الحكيم
(الرسالة):
جوابنا عن رسالة الصديق العزيز في العدد القادم
التاريخ وشعر الملوك
لم يأت الأستاذ الفاضل عبد الله مخلص بما ينفي الشك فيما يتعلق بشعر السلطان سليم؛ وقد اتضح الآن أن بيتَيْ المعرِّي (المُلك لله من يظفر بنيل غنىً. . . الخ) منسوبان خطأ إلى السلطان سليم في الكتب الأربعة التالية:
1 -
الإعلام لقطب الدين الحنفي
2 -
أخبار الدول للقرماني
3 -
أخبار الأول للاسحاقي
4 -
أوراق بريشان لنامق كمال
فهل لنا أن نثق الآن بهذه المصادر بعد أن وقعت جميعها في هذا الخطأ البيِّن؛ ودلت على أنها تتوارث الأغلاط كما يتوارث الناس المرض الدسيس؟. . .
هذا شيء. . . والشيء الآخر أن هذه الأبيات الغزلية تتردَّد في نسبتها بين السلطانين: أحمد وسليم تبعاً لاضطراب الروايات واختلافها؛ ثم هي مسروقة - أو جزءُ منها على الأقل - من أبيات للملك الصالح طلائع بين رزيك، كما يشير إلى ذلك مقال الأستاذ. . . فأي هذه الأقاويل أولى منا بالتصديق؟ بل أيها أبعد عن تهمة الكذب والتلبيس؟
. . . أخيراً يجيبني الأستاذ عن مسألة التخميس بقوله: (جواب هذا السؤال وارد في المخطوط من أنها للسلطان أحمد فيكون هو نفسه قد خمسها بعد ما زاد عليها تلك الأبيات، وبينها أبيات الملك الصالح الثلاثة) وأنا ما علمت قبل اليوم أن شاعراً يخمس لنفسه شعراً!
والأبيات بعد كل هذا ليست مما يستحق طول النقاش أو دقة التحري؛ فلا هي من جيد الشعر ولا من متوسطه، وإنما هي إلى المتكلَّف أقرب وفي باب المصنوع أدخل. وإذا كان لنا أن نخرج بثمرة من كل ذلك، فلتكن هذه الثمرة في اعترافنا بأن كتبَ التاريخ القديمةَ عندنا في حاجة إلى تحليل دقيق وتمحيص وافٍ نتميز بهما غثها من سمينها؛ وإلا فالكفُّ عن قراءتها وتركُ الاعتماد عليها أولى وأحرى. . .
ولنشكر أستاذنا الفاضل عبد الله مخلص الذي أتاح لنا ببحثه القيم، أن نسوق مثلَ هذه الكلمة الصريحة.
(جرجا)
محمود عزت عرفة
1 -
حول لبس القبعة، نصوص نواهض
قرأت الفتوى التي نشرها الأستاذ المدني في العدد 467 من مجلة الرسالة، فرأيت أن أذكر القارئ بما أورده الإمام البيضاوي في تفسير: (وإنما عد ليس الفيار - أي الشعار - وشد الزنار ونحوهما كفراً لأنها تدل على التكذيب، فان من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم
لا يجترئ عليها ظاهراً، لا لأنها كفر في أنفسها) اهـ. وبما قاله العلامة السعد في شرح المقاصد:(لو كان الإيمان هو التصديق لكان كل مصدق بشيء مؤمناً، وعلى تقدير التقييد بالأمور المخصوصة لزم ألا يكون بغض النبي صلى الله عليه وسلم وإلقاء المصحف في القاذورات وسجدة الصنم ونحو ذلك كفراً ما دام تصديق القلب بجميع ما جاء به النبي عليه السلام باقياً، واللازم منتفٍ قطعاً. وأجيب بأن من المعاصي ما جعله الشارع إمارة عدم التصديق تنصيصاً عليه أو على دليله، والأمور المذكورة من هذا القبيل، بخلاف مثل الزنا وشرب الخمر من غير استحلال) أهـ
وحديث (من تشبه بقوم فهو منهم) قال الحافظ بن تيمية من كلامه فيه في كتاب اقتضاء السراط المستقيم: (وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم) اهـ. ووقع خطأ في سنده بتصحيف (أبي منيب) إلى (أبي جنيب)
2 -
أبن بندار
قرأت قطعة من أوائل كتاب المعرب للجواليقي فرأيت مصححه الأستاذ أحمد شاكر يقول في ترجمة المؤلف ص28 - 29: (وقد حدث الجواليقي في المعرب عن شيخين لم أعرفهما: أحدهما ابن بندار. والثاني عبد الرحمن بن أحمد، روى عنه عن الحسن بن علي. . . وشيخه (الحسن بن علي) هو أبو محمد الجوهري الشيرازي مات سنة 454)
أقول: أما ابن بندار فهو أبو المعالي ثابت بن بندار المعروف بابن الحمامي ولد سنة 416 وسمع أبا الحسن بن رزمة وأبا بكر بن البرقاني وأبا علي بن شاذان في خلق كثير. قال ابن الجوزي: حدثنا عنه أشياخنا. توفي سنة 498
وأما الثاني فهو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف، سمع ابن المذهب والبرمكي وغيرهما وكان ثقة. . . قال ابن الجوزي: حدثنا عنه أشياخنا. توفي سنة 511
أحمد صفوان
القصص
مرسى مطروح في شتاء عام 1938
عاصفة. . .
للأستاذ فؤاد البهي السيد
يوم عاصف. . .
وسماه مُربدة سوداء. . .
وريحٌ مجنونة هوجاء، تضج وتصخب في عنف وقوة، فتكاد تجتث الأشجار والأحياء. . .
وبحر ثائر، وأمواج مزبدة غاضبة، كأنما يعول فيها ألف مارد وشيطان.
تباً لهذه الصحراء من حرباء. . .
وبغضاً لهذا البحر من منافق. . .
لطالما كنت أحب هدوءهما، وأنعم بالسكينة في جوارهما، ولم أك أدري أنّ وراء هذا الهدوء كل هذه البراكين التي تقذف بالححم واللهب، ولم أك أعلم أن وراء هذه السكينة كل هذه الزلازل التي تحطم وتخرب. إنها الطبيعة انطلقت سافرة، ونضت عنها قناعها، وبان منها الناب والظفر. . .
أويت إلى داري، وأوصدت عليّ أبوابها ووقفت وراء زجاج النافذة أشهد عراك العناصر وانطلاقها، فإذا السماء ترجمني ببرد كالصخر، وإذا الزجاج يتحطم عن يميني وعن شمالي، وتتناثر شظاياه وتملأ أرض القاعة، وكأنما ساء الطبيعة أن تراني أتأمل وجهها الغاضب والغضب يمسخ الوجوه، ويضفي عليها ألواناً بغيضة، وهي لا تحب للإنسان أن يرى سوأتها وقبحها
صافح سمعي قرع خفيف على باب الدار فقلت لنفسي وأنا أشعل لفافتي، وأتأمل لهب الثقاب حتى لكأنما عزّ عليّ أن تخلوا هذه الثورة كلها من لهب ونار؟!
- ما خطب هذه الرياح التي ما تفتأ ترجمني، فما أنا بإبليس، وما داري بالعقبة وما تلك بشهور الحج. . . وما. . .
وعاد القرع قوياً شديداً، فنهضت لأستقبل طريد العاصفة، فإذا هو زنجي عملاق، ابتلت منه
الثياب، واصطكت منه الأسنان، وامتدت منه اليدان ترجوان مأوى وملجأ، قلت في حيرة:
- تفضل
قال وهو يوصد الباب وراءه:
- شكراً
قلت أحاوره:
- ما دفعك على السير والعاصفة في نشوتها سكرى تحطم وتخرب؟
قال:
- إنما كنت في طريقي إلى دار مولاي السيد السنوسي
السنوسيون
إني أعرفهم وإن لم أكن قد رأيتهم بعد. . .
عرفتهم في مجدهم وإيمانهم وسحرهم الذي بسطوه على هذه الصحراء، فإذا كل ضارب في أرجائها ودروبها، وكل سار في لياليها وأمسياتها صديق لهم أو رفيق أو تابع
عرفتهم من هذه الصورة الحلوة التي رسمها لهم رحالتنا الكبير أحمد باشا حسنين (في صحراء ليبيا)
وعرفتهم مما كتبته عنهم (روزيتا فوربس) في مغامرتها في الصحراء الغربية مع رحالتنا، حينما ضلا طريقهما وظلا بين الحياة والموت أياماً كانا فيها كالمشرق على هاوية، يروعه عمقها وترعبه ظلمتها، وهو على حافتها، يهتز ويتأرجح في فزع مميت، ولقد نجت ونجا صاحبها، وأهدت كتابها إليه
وعرفتهم من أحاديث رفاقي عنهم بعد أن تركوا ديارهم، واحتموا بمرسى مطروح من عذاب الاستعمار وشره
وعرفتهم مما كتبت عنهم الصحف في قتالهم للمغتصب الفاتك
وعرفتهم في احتمالهم الأذى، واصطبارهم عليه وتجملهم له وعرفتهم بعد ذلك، ولقيتهم وصحبتهم طويلا. . .
صاح رفيقي وكأنما هو يقرأ كل ما يدور بخلدي:
- أتعرفهم
فابتسمت له وأنا أقول:
أأنت تعرفهم. أعني أصحبتهم طويلاً؟!
فنظر إلي وهو يقول:
- أأعرفهم؟!
ثم ابتسم الرجل ابتسامة حزينة واستطرد قائلاً:
- لقد ولدتني أمي في دارهم، وعشت صباي وشبابي في واحتهم الكفرة، ثم رحلت عنها فيمن رحل لا ظاعنا لأعود ولكن طريداً فقد الدار والأهل، والله وحده يعلم ماذا حل بالأم والزوجة والأطفال من بعدي. لقد أسرعت إلى بعيري ورمحي، لكن ماذا يجدي البعير والرمح والرفاق من حولي يموتون من حيث أرى ولا أرى، ولقيت ابني الصغير يهيم على وجهه باكياً صارخاً فمددت له يدي وأردفته ورائي وأسرع بي البعير يعدو، وأحسست بالطفل يسقط فأمسكته من رجله وظل معلقاً هكذا ساعة أو بعض ساعة، وأنا أعدو به وهو يبكي، وأنا لا أكاد أسمع صراخه وبكاءه وسط هذا الصخب وتلك الضجة
ثم صمت الرجل ودوى صوت الرعد رهيباً قاسيا، وثارت الطبيعة من حوله ومن حولي، وعلا صوت ارتطام الأبواب والنوافذ ودقات قطرات المطر المتلاحقة السريعة على الزجاج. . .
واستطرد يقول وكأنما هذه الطبيعة الغاضبة لا تعنيه:
- وافقت لنفسي على تأرجح البعير وهو يمشي الهوينا، وقد صمتت الأصوات من حولي، وابتلعت الصحراء صوت كل صارخ فيها وهاتف، ونظرت لطفلي فإذا هو ثابت الإحداق، وأحسست ببرودة بدنه كبرودة البئر في ليالي الشتاء، فاحتضنته وأنا أبكي بكاء لم ابكه من قبل، وسار بي البعير في دروب لا أعلمها وضللت في الصحراء طويلاً، ونفق البعير ودفنته مع الطفل وسرت وحدي كمخلوق معتسف ضال يهيم على وجهه ظامئاً ككلب يلهث. . .
وصمت الرجل ولعله كان يجاهد عبرة تتألق في محجريه، وتنهدت وأنا أقول له:
- ما اسمك؟. . . قال:
- فرحات. . . فرحات يا سيدي، وإن كنت لم أنعم بهذه الفرحة التي وسموني بها قط!. . .
ولعلهم كانوا يتشاءمون من مصيري فسموني بهذا الاسم، كما يسمون اللديغ سليما وهو يعاني نفثة الأفعى أو سم العقرب
وفي الصباح علمت بما فعل السيل ودمر
فلقد صعق رجل وجمل بالجبل!
واجتاحت السيول سيارة براكبها فأغرقته وهو في طريقه من السلوم إلى مرسى مطروح
وبعد أيام زارني فرحات، وتوثقت بيننا الألفة وظل عاماً معي
ولم أك أدري أن هذا العملاق الكبير يحمل بين جنبيه هذا القلب العطوف الحنون. . . لقد كان وديعاً كحمل طاهر بريء!
ما أظن يا فرحات أني سألقاك وقد ناءت بنا الديار
من يدري؟
أتهيم الآن في صحرائك ضالاً معتسفاً؟ أم عدت إلى واحتك؟ أم فاضت روحك. . .؟
الله وحده يعرف أبن ألقت بك العاصفة. . . . . . . . . . . .؟!
فؤاد البهي السيد